نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

بل من عادة الأضياف أنّهم لا يأكلون حتى يأكل معهم مضيّفهم ، كما يشهد بذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب : إنّ سلمان زار أبا الدرداء « فصنع له طعاما فقال : كل فإني صائم. قال : ما أنا بآكل حتى تأكل » ... فلو كان في أبي بكر شيء من الرحمة والرأفة لأكل مع أضيافه بعد انتظارهم له وإن كان صائما ، لا أن يقول بكلّ خشونة : والله لا أطعمه الليلة!!

والخامسة : إنه لا ريب في مرجوحية هذا القسم ، لظهور رجحان الأكل مع الأضياف ولو استلزم الترك هتكهم كان حراما لحرمة هتك المسلم ـ وهذا من آيات جهله وسوء خلقه.

والسادسة : قوله : « ما رأيت في الشر كالليلة قط » كلام خشن يؤذي الأضياف بلا موجب.

والسابعة : قوله لهم : « ويلكم ... » ينافي الأدب والإكرام ...

(٢) ما أخرجه محي السّنة البغوي في ( المصابيح ) والخطيب التبريزي في ( مشكاة المصابيح ) : « عن النعمان بن بشير إنه قال : استاذن أبوبكر رضي‌الله‌عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فسمع صوت عائشة رضي الله عنها عاليا ، فلمّا دخل تناولها ليلطمها وقال : لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فجعل النبي يحجزه ، وخرج أبوبكر مغضبا فقال النبي حين خرج أبوبكر : كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قالت : فمكث أبوبكر أياما ثم استأذن فوجدهما قد اضطجعا فقال لهما : أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : قد فعلنا ، قد فعلنا » (١).

ومن الواضح : أنه كان عليه بادئ بدء أن ينهاها عن ذلك بلسانه ، ثم إذا لم تنته بادر إلى لطمها ، فإنّ ذلك طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أقول : وسبب هذه القضيّة اعتراض عائشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٧٠.

٢٨١

وسلّم في أنّ عليا أحبّ إليه من أبيها ومنها ، حسدا منها وعنادا له عليه الصلاة والسّلام ، ولكن أبا داود ومن حذا حذوه أسقطوا من الحديث هذه الفقرة وقد جاء بتمامه في ( المسند ) حيث قال : « ثنا أبو نعيم ، ثنا يونس ، ثنا العيزار بن حريث قال قال النعمان بن بشير : استأذن أبوبكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول : والله لقد عرفت أن عليّا أحبّ إليك من أبي ومنّي ـ مرتين أو ثلاثا ـ فاستأذن أبوبكر فدخل فأهوى إليها فقال : يا بنت فلانة! لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ».

ورواه النسائي قائلا : « أخبرني عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال : أنبأنا عمر بن محمد قال : أنبأنا يونس بن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حريث عن النعمان بن بشير قال : استأذن أبوبكر على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول : والله لقد علمت أن عليا أحبّ إليك من أبي ، فأهوى لها ليلطمها وقال لها : يا بنت فلانة أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فامسكه رسول الله وخرج أبوبكر مغضبا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل! ثم استأذن أبوبكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعائشة فقال : أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : قد فعلنا » (١).

وقد جاء في هذا اللفظ قوله لعائشة : « يا بنت فلانة » ولا يخفى عليك معناه!!

(٣) ما رواه محي السّنة البغوي في تفسيره قائلا : « أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا ابراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا زهير بن حرب ، أنا روح بن عبادة ،

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٢٧٥ ، خصائص علي : ٨١.

٢٨٢

أنا زكريا بن إسحاق ، أنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبوبكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه ولم يؤذن لأحد منهم. قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا قال : فقال : لأقولنّ شيئا أضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقال : يا رسول الله ما لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؟ فضحك رسول الله وقال : هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبوبكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر الى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده؟! قلن : والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده ... » (١).

وانظر ( لباب التأويل ) عن مسلم ، ( تفسير ابن كثير ) عن أحمد ، ( الدر المنثور ) عن أحمد والنسائي وابن مردويه.

(٤) ما أخرجه أحمد قال : « ثنا عبد الله بن إدريس قال : ثنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : إن أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجاجا ، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله ، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله وجلست إلى جنب أبي ، وكانت زمالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبوبكر ينتظره أن يطلع عليه ، فطلع وليس معه بعير فقال : أين بعيرك؟ قال : قد أضللته البارحة. فقال أبوبكر : بعير واحد تضلّه! فطفق يضربه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم ويقول : أنظروا إلى هذا المحرم وما يصنع » (٢).

وانظر : ( سنن أبي داود ) و ( سنن ابن ماجة ) و ( الدر المنثور ) بتفسير ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) عن الحاكم ـ قال وصححه ـ ... لكن عند ابن

__________________

(١) معالم التنزيل ٤ / ٤٦٠.

(٢) المسند ٦ / ٣٤٤.

٢٨٣

ماجة « وكانت زمالتنا وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر » وعند الحاكم : « وكانت زاملتنا مع غلام أبي بكر ».

(٥) ما أخرجه في ( مشكاة المصابيح ) في باب حفظ اللسان والغيبة والشتم : « وعن عائشة قالت : مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي بكر ـ وهو يلعن بعض رقيقه ـ فالتفت إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : لعّانين وصدّيقين!! كلاّ وربّ الكعبة ، فأعتق أبوبكر يومئذ بعض رقيقه ثم جاء إلى النبي فقال : لا أعود » (١).

أقول : من الواضح أن ذلك البعض من رقيقه لم يكن مستحقا للّعن ، إذ لو كان مستحقا له لما منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن لعنه ، ولما اعتقه أبوبكر يومئذ ، ولما قال للنبي : لا أعود ...

ويستفاد من هذا الحديث أنّ اللّعان لا يكون صدّيقا ، لأن هاتين الصفتين لا يجتمعان ، وقد بلغ امتناع اجتماعهما حدّا أقسم عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « كلاّ وربّ الكعبة » ... وحيث ثبت من هذا الحديث كون أبي بكر لعّانا فهو ليس صدّيقا ، فمن هنا أيضا يثبت بطلان ما نسبوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب تلقيبه أبابكر بالصدّيق ...

هذا ، وفي ( المشكاة ) : « عن أبي هريرة : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانا. رواه مسلم.

وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : إن اللعانين لا يكونون شهداء ، ولا شفعاء يوم القيامة. رواه مسلم » (٢).

وفيه : « وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ليس المؤمن بالطعّان ولا باللّعان ولا الفاحش ولا البذي. رواه الترمذي والبيهقي في

__________________

(١) مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٦٥.

(٢) مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٥٧.

٢٨٤

شعب الإيمان. وفي أخرى له : ولا الفاحش البذي وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا يكون المؤمن لعّانا. وفي رواية : لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعّانا. رواه الترمذي.

وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بجهنّم. وفي رواية : ولا بالنار. رواه الترمذي وأبو داود ... » (١).

(٦) ما رواه الطبري وابن الأثير في تاريخيهما في ذكر جيش أسامة واللفظ للأول : « فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر : إرجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس ، فإنّ معي وجوه الناس وجلّتهم ، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطّفهم المشركون. وقالت الأنصار : فإن أبى إلاّ أن نمضي فأبلغه عنّا ، واطلب إليه أن يولّي أمرنا رجلا أقدم سنّا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة وأتى أبابكر فأخبره بما قال أسامة. فقال أبوبكر : لو خطفتني الكلاب والذياب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال : فإنّ الأنصار أمروني أن أبلغك ، وأنهم يطلبون إليك أن تولّي أمرهم رجلا اقدم سنّا من أسامة.

فوثب أبوبكر ـ وكان جالسا ـ فأخذ بلحية عمر فقال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأمرني أن أنزعه؟!

فخرج عمر إلى الناس فقالوا له : ما صنعت؟ قال : امضوا ثكلتكم أمهاتكم ، ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله! » (٢).

__________________

(١) مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٦٢.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٢٢٦. الكامل لابن الأثير ٢ / ٣٣٤.

٢٨٥

لكنّ ابن الأثير حرّف الرواية وأسقط منها جملة « قال : امضوا ثكلتكم أمّهاتكم ... » لأنّه كلام شديد قاله عمر للأصحاب ، تشفيا من قول أبي بكر له : « ثكلتك أمّك وعدمتك يا ابن الخطاب ».

ولمّا كانت القصّة ـ على كلّ حال ـ تدلّ على غلظة الرجلين وشدّتهما وعدم رأفتهما فقد رواها ابن خلدون محرفة محوّرة فقال : « ووقف أسامة للناس ورغب من عمر التخلّف عن هذا البعث ، والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر. وقالت له الأنصار : فإن أبى إلاّ المضيّ فليولّ علينا أسنّ من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كلّه أبابكر. فقام وقعد وقال : لا أترك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أخرج وأنفذه » (١) فانظر كيف جعل جملة « فقام وقعد وقال ... » مكان : « فوثب أبوبكر وكان جالسا فأخذ بلحية عمر ... »!!

وما أكثر صنائع يد الأمانة!! من نظائر المقام ...

قال أبوبكر : إنّ لي شيطانا يعتريني ...

وما ذكرنا بعض الأدلّة والشواهد على أنّ أبابكر ارحم الأمة بالأمة!!! وسبب وقوع هذه الصّنائع القبيحة منه ـ بالإضافة إلى قساوته الطبيعيّة وجفائه الباطني ـ شيطانه الذي كان يعتريه ويتخبّطه من المسّ ، وهذا أمر قد اعترف به على رءوس الأشهاد في أوّل خطبة خطبها ... قال الحافظ جلال الدين السيوطي : « أخرج ابن سعد عن الحسن البصري قال : لما بويع أبوبكر قام خطيبا فقال : أمّا بعد فإنّي وليّت هذا الأمر وأنا له كاره ، والله لوددت أنّ بعضكم كفانيه ، ألا وإنّكم إن كلّفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم أقم به ، كان رسول الله عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به ، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحدكم فراعوني ، فإذا رأيتموني استقمت فاتّبعوني ، وإذا رأيتموني زغت

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٤ / ٨٥٦.

٢٨٦

فقوّموني. واعلموا أنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم » (١).

وانظر : ( الطبري ) و ( الرياض النضرة ) و ( منهاج السنة ) و ( كنز العمال ) و ( الصّواعق ) وغيرها.

هذا ... ولو سلّمنا كون أبي بكر أرحم الأمة بالأمة ، فإنّ هذا لا يتمّ للعاصمي مرامه ، لأنّ قوله : « ولا تكون الرحمة بالمسلمين إلاّ من أصل العلم » ممنوع ، وإلاّ لزم أن يكون كثير من النسوان والصبيان ذوي الرحمة بالمسلمين علماء ، وهذا ممّا يضحك الثكلى ...

ولو سلّمنا كونه أرحم الأمة وأن الرحمة بالمسلمين لا تكون إلاّ من أصل العلم ... فإنّ هذا يستلزم ثبوت علم له في الجملة ، ومن الواضح أنّ حصول علم في الجملة لأحد لا يكفي لأن يكون باب مدينة العلم ، والاّ للزم أن يكون كلّ من حصل على علم مّا في الجملة بابا لمدينة العلم ، وهذا من البطلان بمكان ، لا يتجاسر عليه أحد من أهل الإيمان.

٥ ـ بطلان دعوى أنّ عمر باب المدينة بعد أبي بكر

قال العاصمي : « وبعد الصديق كان عمر بن الخطاب بابا في الشدة على المنافقين والمخالفين في الدين ، قوله : « صلّى الله عليه : وأشدّهم ـ وروى : وأصلبهم ـ في دين الله عمر بن الخطّاب ».

وهو باطل جدّا ، فإنّ « وأشدّهم ... » فقرة من الحديث الموضوع الذي أوّله : أرحم أمّتي بأمّتي ... وقد تقدّم إثبات وضعه بجميع طرقه وألفاظه. فهذا

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٧١.

٢٨٧

أولا.

من شواهد محاماة عمر للمنافقين والمخالفين

وثانيا : دعوى كونه شديدا على المنافقين والمخالفين كذب صريح ، وتلك قضاياه في المحاماة لهم والمجاملة معهم والثناء عليه مدوّنة في كتب الحديث والتاريخ ، نتعرض لبعضها هنا باختصار :

(١) ما رواه الحافظ السّيوطي في الدر المنثور بتفسير قوله تعالى : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) عن دلائل النبوة للبيهقي في رواية مطوّلة في غزوة بدر :

« ثم سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش ، فقال رسول الله أشيروا علينا في أمرنا ومسيرنا. فقال أبوبكر : يا رسول الله أنا أعلم الناس بمسافة الأرض ، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء أنّ العير كانت بوادي كذا وكذا ، فكأنّا وإيّاهم فرسا رهان إلى بدر.

ثم قال : أشيروا عليّ. فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنها قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ولا آمنت منذ كفرت ، والله لتقاتلنّك ، فتأهّب لذلك أهبته وأعدد له عدّته.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أشيروا عليّ. فقال المقداد بن عمرو : إنّا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم متبعون » (١).

وفي ( السيرة الحلبّية ): « ثم قال : أشيروا عليّ. فقال عمر : يا رسول الله إنها قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ولا آمنت منذ كفرت ، والله لتقاتلنّك ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ / ١٦٤.

٢٨٨

فتأهّب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته » (١).

أقول : لقد آذى عمر بكلامه المذكور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأغضبه حتى احمرّت وجنتاه ، ولقد حاول أهل السنّة إخفاء هذا الأمر ، ولكنّه لا يخفى على المتتبّع للأخبار والآثار ، قال الطبري في ذكر غزوة بدر : « ثنا محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا إسماعيل بن ابراهيم ابو يحيى قال : ثنا المخارق ، عن طارق ، عن عبد الله بن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليّ ممّا في الأرض من شيء ، كان رجلا فارسا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب احمارّت وجنتاه ، فأتاه المقداد على تلك الحال فقال : أبشر يا رسول الله ، فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن والذي بعثك بالحق لنكوننّ من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ، أو يفتح الله لك » (٢).

وقد أسقط بعض مؤرّخيهم كلامي أبي بكر وعمر الدال أحدهما على الجبن والخور والآخر على مدح أهل الكفر والجور ... ففي ( طبقات ابن سعد ) « ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش ، فأخبر به رسول الله « ص » أصحابه واستشارهم ، فقال المقداد بن عمرو البهراني : والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك حتى ننتهي إليه » (٣).

وأسقطهما البعض الآخر ، وجعل في مكان كلّ واحد « قال فأحسن » ثم ذكر كلام المقداد بتمامه ... ففي ( سيرة ابن هشام ) : « وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا غيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش. فقام أبوبكر الصديق فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال :

__________________

(١) السيرة الحلبية ٢ / ٣٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٤.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ / ٤٣٤.

٢٨٩

يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيرا ودعا له به » (١).

ولكنّ صنيع هؤلاء لا ينفع الشّيخين بحال ، فقد رفعت روايتا السيوطي والطبري السّتار عن حقيقة أمرهما ، وكشفتا النقاب عن باطن سرّهما ، وعلم أنه كيف أغضب عمر بكلامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه كيف أزال المقداد كربته بكلامه فدعا له وقال له خيرا ، حتى تمنى ابن مسعود أن يكون صاحب هذا الموقف الكريم والمشهد العظيم ...

(٢) ما أخرجه الحاكم في كتاب قسم الفيء حيث قال :

« أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي الشيباني ، ثنا ابن أبي عزرة ، ثنا محمد بن سعيد الاصبهاني ، ثنا شريك ، عن منصور ، عن ربعي بن خراش ، عن علي قال : لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لحق بك أرقّاؤنا ، ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنهم فرّوا من العمل ، فارددهم.

فشاور أبابكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله.

فقال لعمر : ما ترى؟ فقال قول أبي بكر.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا معشر قريش ، ليبعثنّ الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين.

فقال أبوبكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا.

قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا.

__________________

(١) السيرة لابن هشام ١ / ٦١٤.

٢٩٠

ولكن خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. ثم قال : أما إني سمعته يقول : لا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار.

هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه » (١).

وانظر : ( مسند أحمد ) و ( الخصائص ) و ( كنز العمال ) وغيرها. وقد عدّ القضية شاه ولي الله الدهلوي في ( إزالة الخفا ) من مآثر أمير المؤمنين عليه‌السلام وصرّح بدلالته على خلافته.

أقول : ولمّا كانت هذه القصّة دالة على مجاراة الشيخين للكفّار ومحاماتهما لهم والتصديق لقولهم ، فقد رجّح بعض محدثي القوم تحريفها بإسقاط كلامهما في النقل رأسا ... ففي ( صحيح الترمذي ) ما هذا لفظه : « حدثنا سفيان بن وكيع ، نا أبي عن شريك ، عن منصور عن ربعي بن حراش قال : نا علي بن أبي طالب بالرّحبة فقال : لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين ، فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين فقالوا : يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنّما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا ، فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقهّهم.

فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : يا معشر قريش لتنتهينّ أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسّيف على الدّين ... » (٢).

لكن البعض الآخر منهم رجّح الإبقاء على نصّ الرواية ، لكن جعل كلمة « فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم » بدل اسم الشيخين سترا عليهما ... في ( سنن أبي داود ) ما نصّه : « باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون ـ حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قال : ثنا محمد ـ يعني ابن سلمة ـ عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن منصور بن المعتمر ، عن ربعي

__________________

(١) المستدرك ٣ / ١٢٣

(٢) صحيح الترمذي ٥ / ٥٩٢

٢٩١

ابن خراش عن علي بن أبي طالب قال : خرج عبدان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ يعني يوم الحديبيّة قبل الصلح ـ فكتب إليه مواليهم فقالوا : يا محمد ، والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وانما خرجوا هربا من الرق. فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم. فغضب رسول الله وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبي أن يردّهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل » (١).

وانظر : ( المستدرك ) و ( المصابيح ) و ( المشكاة ) وغيرها.

وهذا التحريف وإن كان لغرض حماية الشيخين ، لكن شاء الله تعالى أن يكون سببا لمزيد هتكهما وظهور كفرهما ووضوح نفاقهما ... وذلك لأنّ شرّاح ( المصابيح ) و ( المشكاة ) ـ حيث شرحوا هذا الحديث المحرّف وغفلوا عن أنّ القائل لهذا القول هما الشيخان ـ ذكروا في تعليل غضب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لأنّهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين ، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه ... فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوان ».

ولنذكر نصوص عباراتهم لتعرف حقيقة أمر الرجلين ومعنى كلامهما في تصديق المشركين :

قال فضل الله بن الحسن التوربشتي في ( شرح المصابيح ) : « وإنما غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لأنهم عارضوا حكم الشّرع فيهم بالظن والتخمين ، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه أنهم خرجوا من الرق لا رغبة في الإسلام ، وكان حكم الشرع فيهم أنّهم صاروا بخروجهم عن دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحرارا ، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوان » (٢).

__________________

(١) سنن أبي داود ١ / ٤٢٣.

(٢) الميسّر في شرح المصابيح ـ مخطوط.

٢٩٢

وقال الخلخالي : « قوله : ردّهم إليهم. أمر مخاطب. فغضب رسول الله عليه‌السلام ، لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظنّ والتخمين ، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه أنهم خرجوا هربا من الرق لا رغبة في الإسلام ، وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحرارا ، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوان.

قوله : ما أراكم تنتهون. النفي وإن دخل على أراكم ظاهرا لكنه بالحقيقة ينفي الانتهاء ، أي أراكم ما تنتهون من تعصب أهل مكة. حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. أي على هذا الحكم. وأبي أن يردهم. أي وأبي النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يردّ العبدان » (١).

وقال الطيبي : « وقوله : ما أراكم تنتهون. فيه تهديد عظيم ... التوربشتي : وإنّما غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم ... » (٢).

وكذا جاء في ( المرقاة في شرح المشكاة ) و ( أشعة اللمعات في شرح المشكاة لعبد الحق الدهلوي ) فراجع.

(٣) ما رواه القوم من امتناعه من قتل ذي الثّدية المنافق ، بالرغم من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله ، فقد قال الحافظ ابن حجر بترجمة ذي الثدية : « وقال أبو يعلى في مسنده ـ رواية ابن المقري عنه ـ ثنا محمد بن الفرج ، ثنا أحمد بن الزبرقان ، حدثني موسى بن عبيدة ، أخبرني هود بن عطا ، عن أنس قال : كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم باسمه فلم يعرفه ، ووصفناه بصفته فلم يعرفه ، فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل فقلنا : هو هذا ، قال : إنكم لتخبروني عن

__________________

(١) المفاتيح في شرح المصابيح ـ مخطوط.

(٢) الكاشف في شرح المشكاة ـ مخطوط.

٢٩٣

رجل إنّ في وجهه سفعة من الشيطان ، فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلّم ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟

قال : أللهم نعم. ثم دخل يصلّي ، فقال رسول الله : من يقتل الرجل؟ قال أبوبكر : أنا ، فدخل عليه فوجده يصلي فقال : سبحان الله أقتل رجلا يصلي وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل المصلّين! فخرج. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما فعلت؟ قال : كرهت أن أقتله وهو يصلي وقد نهيت عن قتل المصلين!

فقال : من يقتل الرجل؟ قال عمر : أنا. فدخل فوجده واضعا جبهته ، قال عمر : أبوبكر أفضل منّي ، فخرج! فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : مه؟ قال : وجدته واضعا جبهته لله فكرهت أن أقتله!

فقال : من يقتل الرجل؟ فقال علي : أنا. فقال : أنت إن أدركته ، قال : فدخل عليه فوجده قد خرج. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له : مه؟ قال : وجدته قد خرج. قال : لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أوّلهم وآخرهم.

قال موسى : فسمعت محمد بن كعب يقول : هو الذي قتله علي ، ذو الثدية » (١).

وانظر : ( نوادر الأصول ) و ( حلية الأولياء ) و ( الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر ) قال السيوطي بعد الحديث : « أخرجه أبو يعلى في مسنده من طرق عن موسى به. وموسى وشيخه فيهما لين. ولكن للحديث طرق متعددة تقتضي ثبوته ... » فذكر تلك الطرق بالتفصيل عن أبي يعلى ، والبزار ، والبيهقي ، والمحاملي من حديث أنس ، وعن ابن أبي شيبة ، وابن منيع ، وأبي يعلى من حديث

__________________

(١) الاصابة ١ / ٤٨٤.

٢٩٤

جابر ، وقال : « هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ».

ورواه السيوطي في ( الخصائص الكبرى ) عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى ، والبزار ، والبيهقي من حديث أنس ...

(٤) ما رووه من امتناعه عن قتل منافق في قضيّة مشابهة للقضيّة السّابقة ، قال أحمد : « ثنا روح ، ثنا عثمان الشحام ، ثنا مسلم بن أبي بكرة عن أبيه : أنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل ساجد وهو ينطلق الى الصلاة ، فقضى الصلاة ورجع عليه وهو ساجد ، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : من يقتل هذا؟ فقام رجل فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزّه ، ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمّي كيف أقتل رجلا ساجدا يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا عبده ورسوله؟! ثم قال : من يقتل هذا؟ فقام رجل فقال : أنا ، فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزّه حتى أرعدت يده ، فقال : يا نبي الله ، كيف أقتل رجلا ساجدا يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا عبده ورسوله؟! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : والذي نفس محمد بيده لو قتلتموه لكان أوّل فتنة وآخرها » (١).

ورواه أبو العباس المبرّد في ( الكامل ) والسيوطي في ( الباهر ) عن المسند ، ثم قال : « هذا الاسناد أيضا صحيح على شرط مسلم ، فإنّ روحا من رجال الصحيحين ، وعثمان الشحام ومسلم بن أبي بكرة كلاهما من رجال مسلم. وسياق هذه القصة فيه مغايرة لسياق حديث أنس وجابر ، فلعلّها قصة أخرى وقعت لرجل آخر ... ».

(٥) ما رووه في قصة أخرى تتعلّق بالخوارج أيضا ... قال أحمد : « ثنا بكر ابن عيسى ، ثنا جامع بن مطر الحبطي ، ثنا أبو روبة شداد بن عمران القيسي ، عن أبي سعيد الخدري ، إن أبابكر جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا ، فإذا رجل متخشّع حسن الهيئة يصلّي.

__________________

(١) المسند ٥ / ٤٢.

٢٩٥

فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : اذهب إليه فاقتله. قال : فذهب إليه أبوبكر ، فلمّا رآه على تلك الحال كره أن يقتله! فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر : اذهب فاقتله. فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبوبكر ، فكره أن يقتله. فرجع فقال : يا رسول الله إنّي رأيته يصلّي متخشّعا فكرهت أن أقتله. قال : يا علي اذهب فاقتله. قال : فذهب علي فلم يره. فرجع علي فقال : يا رسول الله إني لم أره. قال فقال النبي : إنّ هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في قوسه ، فاقتلوهم هم شرّ البرية » (١).

وفي ( فتح الباري ) : « تنبيه : جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج ، فيها ما يخالف هذه الرواية ، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال : جاء أبوبكر ... وله شاهد من حديث جابر. أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات » (٢).

(٦) ما رووه في قصّة الرجل المنافق الأسود الذي اعترض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقسيمه غنائم خيبر ، فأمر الشيخين بقتله فأبيا ولم يطيعاه ... قال المبرّد : « ويروى أنّ رجلا أسود شديد السواد ، شديد بياض الثياب ، وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فيهم يقسّم غنائم خيبر ، ولم تكن إلاّ لمن شهد الحديبيّة ، فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : ما عدلت منذ اليوم. فغضب رسول الله حتى رؤي الغضب في وجهه الشريف. فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال : لا ، إنه يكون لهذا وأصحابه نبأ.

قال أبو العباس : وفي حديث آخر : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له : ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : أقتله.

__________________

(١) المسند ٣ / ١٥.

(٢) فتح الباري ١٢ / ٢٥١.

٢٩٦

فمضى ثم رجع فقال : يا رسول الله رأيته راكعا. ثم قال لعمر : أقتله. فمضى ثم رجع فقال : يا رسول الله رأيته ساجدا. ثم قال لعلي : أقتله فمضى ثم رجع فقال : يا رسول الله لم أره ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله ».

هذا ، وفي بعض الروايات : أنّ عثمان ذهب ليقتله بعد رجوع الشيخين « فوجده في السجود. فقال : إن أبابكر وعمر لم يقتلاه في القيام والركوع ، فكيف أقتله في السجود؟ فرجع » (١).

(٧) ومن المواقف التي أظهر فيها عمر ضعفه في الدّين ورأفته بالمنافقين قضيّة المرتدّين ، قال ابن الأثير في حديث طويل عن عمر : « وأمّا يومه ، فلما قبض رسول الله ارتدت العرب وقالوا : لا نؤدّي زكاة. فقال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليهم. فقلت : يا خليفة رسول الله تألّف الناس وارفق بهم. فقال لي : أجبّار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتمّ الدين ، أينقص وأنا حي؟! » (٢).

وانظر : ( الرياض النّضرة ) و ( المشكاة ) و ( تاريخ الخلفاء ) و ( كنز العمال ) و ( الصواعق ) وغيرها.

أقول : وإنّ لم تؤمن بدلالة كلام عمر وجواب أبي بكر على ضعف عمر ووهنه في أمر الدّين ، ورفقه ورأفته تجاه المنافقين ، فعليك بمراجعة شروح المشكاة ... وهذا نصّ عبارة الطّيبي في ( الكاشف ) نورده ليطمئنّ قلبك : « قوله : خوّار في الإسلام. يه : هو من خار يخور ، إذا ضعفت قوته ووهنت. أقول : أنكر عليه ضعفه ووهنه في أمر الدين ، ولم يرد أن يكون جبّارا ، بل أراد به التصلّب والشدة في الدين ، لكن لما ذكر الجاهلية قرنه بذكر الجبار. ومن العجب أن أبابكر رضي

__________________

(١) الكامل في الأدب ٢ / ١٤١.

(٢) جامع الأصول ٩ / ٤٤٢.

٢٩٧

الله عنه كان منسوبا إلى الرفق والدماثة ، وعمر رضي‌الله‌عنه الى الشدة والصّلابة ، فعكس الأمر في هذه القضيّة ».

اختلاق آخر

ولمّا رأى القوم أنّ ما وضعوه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ « أشدّهم في دين الله عمر » لا يصدق في حق عمر ، وتنّبهوا إلى أنّ الحقائق التاريخيّة تكشف عن ذلك لا محالة ... التجئوا إلى وضع جملة أخرى بدلها ، فنسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « أرحم أمتي بأمتي أبوبكر وأرفق أمّتي لأمتي عمر » أخرجه الطبراني ورواه عنه المحبّ الطبري حيث قال : « ذكر ما جاء في وصف جمع كلا بصفة حميدة. عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأشدّهم في دين الله عمر ... وخرّجه الطبراني فقال : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأرفق أمتي لأمتي عمر ، وأقضى أمتي علي بن أبي طالب. ثم معنى ما بقي » (١).

ولكن قد غفل واضعه عمّا قصده واضع الحديث الأول من « وصف جمع كلا بصفة حميدة » حيث وصف أبابكر « بالرحمة » ووصف عمر « بالشدّة في الدين » أمّا في هذا الاختلاق الجديد فقد وصف أبوبكر « بالرحمة » ووصف عمر « بالرّفق » وكلاهما واحد.

وبعد ، فلو سلّم كون عمر « أشدّهم في دين الله » فإنّ هذا الوصف لا يقتضي لأن يكون عمر بابا لمدينة العلم أعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبطل ما ادّعاه العاصمي والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) الرياض النضرة : ٤٠.

٢٩٨

اختصاص حذيفة بعلم المنافقين

ومن الجدير بالذكر هنا ما جاءت به أحاديث القوم من جهل عمر بالمنافقين واختصاص حذيفة بن اليمان بهذا العلم ، فإنّ عمر كان يسأل حذيفة عنهم وكان هو المعروف بين الصحابة بهذا العلم ، بل في بعض رواياتهم أن عمر خاطبه بقوله : « يا حذيفة ، بالله أنا من المنافقين! » ... وإليك بعض ما جاء في ذلك :

قال ابن عبد البر بترجمة حذيفة : « وكان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم ، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر » (١).

وفي ( إحياء علوم الدين ) : « ولقد كان عمر رضي‌الله‌عنه يبالغ في تفتيش قلبه ، حتى كان يسأل حذيفة رضي‌الله‌عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا ، إذ كان قد خصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلم المنافقين » (٢).

وقال الذهبي : « زيد بن وهب الجهني الكوفي من جلة التابعين وثقاتهم ، متفق على الاحتجاج به ، إلاّ ما كان عن يعقوب الفسوي ، فإنه قال في تاريخه : في حديثه خلل كثيرة ولم يصب الفسوي ، ثم إنه ساق من روايته قول عمر : يا حذيفة بالله أنا من المنافقين! قال : وهذا محال ، أخاف أن يكون كذبا. قال : ومما يستدل به على ضعف حديثه روايته عن حذيفة : إن خرج الدجال تبعه من كان يحبّ عثمان. ومن خلل روايته قوله : ثنا ـ والله ـ أبو ذر ، ثنا بريدة قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبلنا أحدا. الحديث.

__________________

(١) الاستيعاب ١ / ٣٣٥.

(٢) احياء علوم الدين ١ / ٧٨.

٢٩٩

فهذا الذي استنكره الفسوي من حديثه ما سبق إليه ، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا رددنا كثيرا من السنن الثابتة بالوهم الفاسد ، ولا نفتح علينا في زيد بن وهب خاصة باب الاعتزال بردّ حديثه الثابت عن ابن مسعود حديث الصادق المصدوق. وزيد سيد جليل القدر ، هاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبض وزيد في الطريق ، وروى عن : عمر ، وعثمان ، وعلي ، والسابقين ، وحدّث عنه خلق ، ووثّقه ابن معين وغيره ، حتى أن الأعمش قال : إذا حدّثك زيد بن وهب عن أحد فكأنّك سمعته من الذي حدّثك عنه. قلت : مات سنة تسعين أو بعدها » (١).

وفي ( السيرة الحلبية ) في ذكر واقعة عقبة : « وكان يقال لحذيفة رضي‌الله‌عنه : صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... فلما توفي رسول الله كان عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ في خلافته إذا مات الرجل ممن يظنّ به أنه من أولئك ، أخذ بيد حذيفة رضي‌الله‌عنه فناداه إلى الصّلاة عليه ، فإن مشى معه حذيفة صلّى عليه عمر رضي‌الله‌عنه ، وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه » (٢).

أقول : فإذا كان هذا حال عمر في الجهل بالمنافقين ، كيف يعقل أن يصفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه « أشدّهم على المنافقين »! بل لو كان الأشدّ عليهم لكان من المناسب أن يعرّفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنافقين ، لا أن يسرّ بأسمائهم إلى حذيفة دونه! بل لقد عرفت أنّه كان يسأل حذيفة « أنّه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا؟ »! بل جاء في حديث زيد بن وهب ـ المتفق على الاحتجاج به ـ أنه قال لحذيفة : « بالله أنا من المنافقين »! فهل يعقل أن يكون « أشدّهم على المنافقين » والحال هذه؟!

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ١٠٧.

(٢) السّيرة الحلبّية ٣ / ١٢١.

٣٠٠