نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

إنه لا يخلو عن إرسال

ثمّ إنّ هذا الحديث لا يخلو عن إرسال ، فلو سلم رواته عن الطعن لم يجز الحكم بصحته ... قال ابن حجر بشرح قول عمر « أقرؤنا أبيّ » : « كذا أخرجه موقوفا ، وقد أخرجه الترمذي وغيره من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر أبي وفيه ذكر جماعة وأوّله : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر وفيه : أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب. الحديث وصححه. لكن قال غيره : إن الصّواب إرساله » (٤).

وقال السخاوي في حديث أرحم أمتي بأمتي أبوبكر : « والحديث أعلّ بالإرسال ، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح إلاّ أنه قيل : إنه لم يسمع منه هذا. وقد ذكر الدار قطني في العلل الاختلاف فيه على أبي قلابة ، ورجّح هو وغيره كالبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذكر أبي عبيدة ، والباقي مرسل ، ورجّح ابن الموافق وغيره رواية الموصول » (٥).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ١٧٣.

(٢) الكاشف ١ / ٣٧٩.

(٣) المغني ١ / ٢٦٩.

(٤) فتح الباري في شرح البخاري ٨ / ١٣٥.

(٥) المقاصد الحسنة : ١٢٤.

٢٦١

المرسل حديث ضعيف

ومن المعلوم أنّ الحديث المرسل ضعيف والاحتجاج به ساقط ، وقد نصّ على ذلك ابن الصّلاح في ( علوم الحديث ) والسّيوطي في ( تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ) وكذا غيرهما ، وهذه عبارة السيوطي : « ثم المرسل حديث ضعيف لا يحتجّ به عند جماهير المحدثين والشافعي ، كما حكاه عنهم مسلم في صدر صحيحه ، وابن عبد البر في التمهيد ، وحكاه الحاكم عن ابن المسيّب ومالك وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول والنظر ... » (١).

رواية العاصمي واضحة الإرسال

وأمّا العاصمي نفسه فقد روى هذا الحديث بسند مرسل ، حيث رواه بإسناده عن أبي قلابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا وساطة أنس ، فانّه لم يجرأ على دعوى سماعها منه ، ومن المعلوم ان أبا قلابة تابعي لم يدرك صحبة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا نصّ روايته : « أخبرني شيخي محمد بن أحمد رحمه‌الله قال : حدثنا أبو سعيد الرازي قال : حدثنا يوسف بن عاصم الرازي البزار قال : حدثنا إبراهيم بن الحجاج قال : حدثنا حماد عن عاصم الأحول ، عن أبي قلابة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأحدّهم في دين الله عمر ، وأكثرهم حياء عثمان بن عفان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبيّ بن كعب ، ولكلّ أمة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح ».

__________________

(١) تدريب الراوي ١ / ١٦٢.

٢٦٢

رواية قتادة مرسلا

بل يظهر من مراجعة ( المصابيح ) و ( المشكاة ) و ( فتح الباري ) رواية قتادة هذا الحديث مرسلا ، فلم يجرأ على دعوى سماعها من أنس كذلك ، وهذه عبارة [ المصابيح للبغوي ] : « عن أنس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأشدّهم بأمّتي في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل ، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. صح. ورواه بعضهم عن قتادة رضي‌الله‌عنه مرسلا وفيه : وأقضاهم علي ».

حصيلة البحث

إن هذا الحديث عن أنس مرسل ، فضلا عن كونه ضعيفا سندا ، وجعل الترمذي وابن ماجة ـ ومن حذا حذوهما ـ أنسا بين أبي قلابة أو قتادة وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطأ فاحش أو تدليس ظاهر.

الحديث عن ابن عمر

وقد روي هذا الحديث الموضوع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برواية عبد الله بن عمر قال الحاكم : « حدّثنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاّب بهمدان ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرّهاوي ، حدثنا الكوثر ابن حكيم أبو محمد الحلبي ، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ أرأف أمتي بها أبوبكر ، وإنّ أصلبها في أمر الله عمر ، وإنّ أشدّها

٢٦٣

حياء عثمان ، وإنّ أقرأها أبيّ بن كعب ، وإنّ أفرضها زيد بن ثابت ، وإنّ أقضاها علي بن أبي طالب ، وإنّ أعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وإنّ أصدقها لهجة أبو ذر ، وإنّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ، وإنّ حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس » (١).

نظرة في رجاله

وهذا السند ضعيف أيضا ، فأمّا « محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي » فقد صرّحوا بضعفه ، ففي ( الميزان ) : « قال الدار قطني : ضعيف ... وقال النسائي : ليس بالقوي » (٢) وأورده في ( المغني في الضّعفاء ) (٣) وقال ابن حجر : « قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه فقال : ليس بشيء ، هو أشدّ غفلة من أبيه ... وقال البخاري أبو فروة متقارب الحديث إلا ابنه محمدا يروي عنه مناكير. وقال الآجري عن أبي داود : وأبو فروة الجزري ليس بشيء وابنه ليس بشيء. وقال النسائي ليس بالقوي ... قال الترمذي : لا يتابع على روايته وهو ضعيف وقال الدار قطني : ضعيف » (٤) وقال ابن حجر في ( تقريب التهذيب ) : « ليس بالقوي » (٥).

وأمّا « كوثر بن حكيم » ففي ( الضعفاء والمتروكين للبخاري ) : « كوثر بن حكيم عن نافع : منكر الحديث » وفي ( الضّعفاء والمتروكين للنّسائي ) : « متروك الحديث » وقال الذهبي : « قال أبو زرعة : ضعيف ، وقال ابن معين ، ليس بشيء ، وقال أحمد بن حنبل ، أحاديثه بواطيل ليس بشيء ، وقال الدار قطني وغيره :

__________________

(١) المستدرك ٣ / ٥٣٥.

(٢) ميزان الاعتدال ٤ / ٦٩.

(٣) المغني في الضعفاء ٢ / ٦٤٤.

(٤) تهذيب التهذيب ٩ / ٤٦٢.

(٥) تقريب التهذيب ٢ / ٢١٩.

٢٦٤

متروك » (١) وقال الذهبي أيضا « تركوا حديثه ، له عجائب » (٢).

طريق آخر عن ابن عمر

وقد أورد السيوطي هذا الحديث الموضوع عن مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عمر حيث قال : « أرأف أمّتي بأمتي أبوبكر ، وأشدّهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ. ألا وإنّ لكلّ أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح. عن ابن عمر » (٣).

نظرة في سنده

لا حاجة لأن نراجع مسند أبي يعلى للوقوف على رجال هذا السند بالتفصيل ، لأن الحافظ السخاوي والعلامة المنّاوي قد نصّا ـ كما ستسمع ـ على أنّه من طريق ابن البيلماني عن أبيه ، وكلاهما ساقط عن درجة الاعتبار ، فأمّا « محمد بن عبد الرحمن البيلماني » فقد قال البخاري : « محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه. منكر الحديث ، كان الحميدي يتكلّم فيه » وقال النسائي : « منكر الحديث » (٤) وفي ( الموضوعات لابن الجوزي ) بعد حديث في فضل جدّة : « محمد بن عبد الرحمن قال يحيى : ليس بشيء. وقال ابن حبان : حدّث عن أبيه بنسخة شبيها بمائتي

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٤١٦.

(٢) المغني في الضعفاء ٢ / ٥٣٤.

(٣) الجامع الصغير بشرح المناوي ١ / ٤٥٩.

(٤) الضعفاء والمتروكين انظر المجموع : ٢٠٥.

٢٦٥

حديث كلّها موضوعة ، لا يحل الاحتجاج به » (١) وفي ( ميزان الاعتدال ) : « محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه : ضعّفوه. وقال البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث ، وقال الدار قطني وغيره : ضعيف ... قال ابن عدي : كلّما يرويه ابن البيلماني البلاء منه » (٢) وقال في ( المغني في الضعفاء ) : « ضعّفوه. وقال ابن حبان : روى عن أبيه نسخة موضوعة » (٣) وأورده سبط ابن العجمي في ( الكشف الحثيث عمّن رمي بوضع الحديث ) وقال ابن حجر : « ضعيف ، وقد اتّهمه ابن عدي وابن حبان » (٤).

وأمّا أبوه « عبد الرحمن بن البيلماني » ففي ( ميزان الاعتدال ) : « عبد الرحمن ابن البيلماني ، من مشاهير التابعين ، يروي عن ابن عمر ، ليّنه أبو حاتم وقال الدار قطني : ضعيف لا تقوم به حجة » (٥) وذكره في ( المغني في الضعفاء ) (٦) وفي ( تقريب التهذيب ) : « ضعيف » (٧).

حصيلة البحث

فظهر بطلان هذا الحديث عن ابن عمر بكلا طريقيه ، ومن هنا قال الحافظ السخاوي : « وعن ابن عمر عند ابن عدي في ترجمة كوثر بن حكيم ، وهو متروك. وله طريق أخرى في مسند أبي يعلى من طريق ابن البيلماني عن أبيه عنه » (٨) فإنّ في

__________________

(١) الموضوعات ٢ / ٥١.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ٦١٧.

(٣) المغني في الضعفاء ٢ / ٦٠٣.

(٤) تقريب التهذيب ٢ / ١٨٢.

(٥) ميزان الاعتدال ٢ / ٥٥١.

(٦) المغني ٢ / ٣٧٧.

(٧) تقريب التهذيب ١ / ٤٧٤.

(٨) المقاصد الحسنة ١٢٤.

٢٦٦

هذا الكلام فوائد :

١ ـ إن حديث : ارحم أمتي بأمتي ... عن ابن عمر مذكور في كتاب الكامل لابن عدي ، وذلك مما يدلّ على وهنه ، لأنّ كتاب الكامل لابن عدي موضوعه الضّعفاء والمجروحون وأحاديثهم.

٢ ـ إن ابن عدي أورد هذا الحديث في ترجمة كوثر بن حكيم ، ومنه يظهر أنّه يتّهم كوثر بن حكيم بوضع هذا الحديث.

٣ ـ إن راويه كوثر بن حكيم متروك عند الحافظ السخاوي.

٤ ـ إن طريقه الآخر هو من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر.

٥ ـ إن ضعف ابن البيلماني وأبيه ثابت مشهور إلى حدّ أعرض السخاوي عن بيانه ، واكتفى بالقول بأنه من طريق ابن البيلماني عن أبيه.

الحديث عن جابر

وأخرج الطبراني هذا الحديث الموضوع عن جابر حيث قال : « ثنا علي بن جعفر الملحي الاصبهاني ، ثنا محمد بن الوليد العباسي ، ثنا عثمان بن زفر ، ثنا مندل بن علي ، عن ابن جريح ، عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأرفق أمتي لأمّتي عمر بن الخطاب ، وأصدق أمتي حياء عثمان ، وأقضى أمتي علي بن أبي طالب ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل يجيء يوم القيامة أمام العلماء برتوة ، وأقرأ أمتي أبي بن كعب ، وأفرضها زيد بن ثابت. وقد أوتي عويمر عبادة يعني أبا الدرداء رضي الله عنهم أجمعين. لم يروه عن ابن جريح إلاّ مندل » (١).

__________________

(١) المعجم الصغير ١ / ٢٠١.

٢٦٧

نظرة في رجاله

وهذا الحديث أيضا مطروح ، لأن في طريقه « مندل بن علي » ـ وقد تفرّد به عن ابن جريح كما نص عليه الطبراني نفسه ـ قال النسائي ( كتاب الضعفاء والمتروكين ) : « مندل بن علي ضعيف » وقال الذهبي : « قال أبو حاتم : شيخ. وقال أبو زرعة : ليّن. وقال أحمد : ضعيف » (١) وفي ( الضعفاء للذهبي ) : « فيه لين ، ضعّفه أحمد والدار قطني » (٢) وقال ابن حجر : « قال الجوزجاني : ذاهب الحديث ، وقال الحاكم أبو أحمد : ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي : ليس بثقة ، روى مناكير. وقال ابن معين : كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدّث عنه. وقال ابن قانع والدار قطني : ضعيف. وقال ابن حبان : كان ممن يرفع المراسيل والموقوفات من سوء حفظه فاستحق الترك. وقال الطحاوي : ليس من أهل الثبت في الرواية بشيء ولا يحتجّ به » (٣) وفي ( تقريب التهذيب ) : « ضعيف » (٤) وقال صفي الدين الخزرجي : « ضعّفه أحمد وغيره » (٥).

و « ابن جريج » قال ابن حجر العسقلاني « قال الجرمي عن مالك : كان ابن جريح حاطب ليل » قال : « وقال عثمان الدارمي عن ابن معين : ليس بشيء في الزهري » قال : « وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد : كان ابن جريح صدوقا فإذا قال حدثني فهو سماع ، وإذا قال أخبرني فهو قراءة ، وإذا قال : قال فهو شبه الريح » (٦). قلت : وأنت ترى في سند الطبراني أنّه لم يقل : « قال » أيضا.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ١٨٠.

(٢) المغني في الضعفاء ٢ / ٦٧٦.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٦٤.

(٤) تقريب التهذيب ٢ / ٢٧٤.

(٥) خلاصة تذهيب الكمال : ٣٨٧.

(٦) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٥٧.

٢٦٨

وقال الدارقطني بأنّه قبيح التّدليس ، ففي ( تهذيب التهذيب ) : « وقال الدار قطني يتجنّب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس ، لا يدلّس إلاّ ممّا سمعه من مجروح » وفيه عن ابن حبان : « وكان يدلّس » وفيه : « وقال أبوبكر : ورأيت في كتاب علي بن المديني : سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال : ضعيف. قلت ليحيى : انه يقول : أخبرني. قال : لا شيء ، إنه ضعيف ، إنما هو كتاب وقفه عليه » (١). قلت : وسيأتي ذكر بعض المطاعن التي تترتّب على ارتكاب التّدليس ، ولقد بلغت جرأة ابن جريح على التّدليس حدّا كان يرتكب الكذب فيه بصراحة ووضوح ففي ( تهذيب التهذيب ) : « قال ابن سعد : ولد سنة ٨٥ عام الجحاف. أنا محمد بن عمر ـ يعني الواقدي ـ قال ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد قال : شهدت ابن جريح جاء إلى هشام بن عروة فقال : يا أبا المنذر الصحيفة التي أعطيتها فلانا أهي من حديثك؟ قال : نعم. قال محمد بن عمر : فسمعت ابن جريج بعد ذلك يقول : حدثنا هشام الأحصى » (٢).

الحديث عن أبي سعيد الخدري

وروى ابن عبد البر هذا الحديث الموضوع عن أبي سعيد الخدري حيث قال : « وقد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدثنا سلام ، عن زيد العمي عن أبي الصّديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي بها أبوبكر ، وأقواهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٥٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٥٩.

٢٦٩

الجراح ، وأبو هريرة ووعاء للعلم ـ أو قال ووعاء العلم ـ وعند سلمان علم لا يدرك ، وما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر » (١).

نظرة في رجاله

وفي سنده « زيد العمّي » قال النسائي ( كتاب الضعفاء والمتروكين ) : « زيد العمى ضعيف » (٢) وفي ( ميزان الاعتدال ) : « قال ابن معين : صالح ، وقال مرة : لا شيء. وقال مرة : ضعيف يكتب حديثه. وقال أبو حاتم : ضعيف يكتب حديثه. وقال الدار قطني : صالح. وضعّفه النسائي. وقال ابن عدي : لعلّ شعبة لم يرو عن أضعف منه. وقال السعدي : متماسك ... » (٣) وقال في ( الكاشف ): « فيه ضعف » (٤) وقال ابن حجر : « ضعيف » (٥).

وفي هذا السند « سلام » وهو « سلام بن سليم الطويل » قال النسائي « متروك الحديث » (٦) وفي ( الموضوعات لابن الجوزي ) في حديث في فضل المؤذّنين : « وفيه سلام الطويل قال يحيى : ليس بشيء لا يكتب حديثه. وقال البخاري : تركوه. وقال النسائي والدار قطني : متروك وقال ابن حبان : يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المعتمّد لها » (٧) وقد أورد الذهبي هذا الحديث بعد كلمات القدح فيه في ( ميزان الاعتدال ) وذكره في ( المغني في الضعفاء ) (٨) وقال ابن حجر : « قال

__________________

(١) الاستيعاب ١ / ١٧.

(٢) الضعفاء والمتروكين : ١٠٦.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ / ١٠٢.

(٤) الكاشف ١ / ٣٣٧.

(٥) تقريب التهذيب ١ / ٢٧٤.

(٦) الضعفاء والمتروكين. المجموع : ١١٣.

(٧) الموضوعات ٢ / ٨٨.

(٨) ميزان الاعتدال ٢ / ١٧٦ ، المغني في الضعفاء ١ / ٢٧٠.

٢٧٠

أحمد : روى أحاديث منكرة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين : له أحاديث منكرة. وقال الدوري وغيره عن ابن معين : ليس بشيء. وقال ابن المديني : ضعيف. وقال ابن عمار : ليس بحجة. وقال الجوزجاني : ليس بثقة. وقال البخاري : تركوه. وقال مرة : يتكلّمون فيه. وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، تركوه. وقال أبو زرعة : ضعيف. وقال النسائي : متروك وقال مرة : ليس بثقة ولا يكتب حديثه. قال ابن خراش : كذّاب ، وقال مرة : متروك. وقال أبو القاسم البغوي : ضعيف الحديث جدّا. وروى ابن عدي أحاديث وقال : لا يتابع على شيء منها ... وقال ابن حبان : روى عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمّد لها ... وقال العجلي : ضعيف. وقال الساجي : عنده مناكير. وقال الحاكم : روى أحاديث موضوعة. وقال أبو نعيم في الحلية في ترجمة الشعبي : سلام بن سليم الخراساني متروك باتفاق ... » (١).

ومن هنا ترى الحافظ السخاوي يقول في هذا الحديث بهذا الطريق : « وعن أبي سعيد عن قاسم بن أصبغ ، عن ابن أبي خيثمة. وعنه العقيلي في الضعفاء عن علي بن عبد العزيز كلاهما عن أحمد بن يونس عن سلام عن زيد العمي عن أبي الصديق عنه. وزيد وسلام ضعيفان » (٢).

وقال محمد بن معتمد خان في ( تحفة المحبين ) في فصل الأحاديث الضّعيفة : « أرحم أمتي بها أبوبكر ... أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب عن أبي سعيد الخدري. وفي سنده سلام وهو الطويل متروك عن زيد العمي ضعيف » (٣).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٤ / ٢٤٧.

(٢) المقاصد الحسنة : ١٢٤.

(٣) تحفة المحبين ـ مخطوط.

٢٧١

الحديث عن أبي محجن الثقفي

وأخرجه ابن عبد البر عن أبي محجن الثقفي حيث قال : « وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوه أصحابه وخلالهم ليقتدى به فيهم بمثل ذلك ، فيما رواه شيخنا عيسى بن سعيد بن سعدة المقري قال : حدّثنا أبوبكر أحمد بن إبراهيم ابن شاذان قال : حدّثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ، وأنبأنا به أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : حدّثنا أحمد بن دحيم قال : حدّثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال : حدّثنا محمد بن عبيد بن ثعلبة العامري بالكوفة قال : حدّثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني قال : حدّثنا أبو سعد الأعور. يعني البقال وكان مولى لحذيفة ـ قال حدثنا شيخ من الصحابة يقال له أبو محجن أو محجن بن فلان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ أرأف أمتي بأمتي أبوبكر ، وأقواها في دين الله عمر ، وأصدقها حياء عثمان ، وأقضاها علي بن أبي طالب ، وأقرأها أبي بن كعب ، وأفرضها زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح » (١).

نظرة في سنده

وفي سنده « سعيد البقّال » قال النسائي : « ضعيف » (٢) وقال الذهبي : « تركه الفلاّس. وقال ابن معين : لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة : صدوق مدلس.

__________________

(١) الاستيعاب ١ / ١٦.

(٢) الضعفاء والمتروكين. أنظر : المجموع : ١٧٠.

٢٧٢

وقال ح : منكر الحديث ... » (١) وذكره في ( المغني في الضعفاء ) (٢) وقال « ابن حجر : ضعيف مرسل » (٣) وقال صفي الدين الخزرجي : « قال الذهبي مات سنة بضع وأربعين ومائة وما علمت أحدا وثّقه » (٤) وقد نصّ ابن حجر في الاصابة بترجمة أبي محجن على ضعف الرجل وأنه لم يدرك أبا محجن (٥).

وأما « أبو محجن الثقفي » فكان فاسقا فاجرا منهمكا في الشّراب لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حد ولا لوم ، جلده عمر بن الخطاب في الخمر مرارا ـ وقد كان عمر يحاول ان لا يجري الحدّ في شاربي الخمر من أصحابه لأنه كان منهم ـ لانهماكه وتجريه وفعله ذلك علانية وجهارا ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وقد حضر القادسية وهو سكران من الخمر ، فأمر به سعد بن أبي وقاص إلى القيد ... فهذا طرف من قبائح هذا الرجل وفضائحه ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى ترجمته في ( الاستيعاب ) و ( أسد الغابة ) و ( الاصابة ) وغيرها من مصادر تراجم الصحابة.

الحديث عن شدّاد بن أوس في الموضوعات

وقد أخرج أبو جعفر العقيلي هذا الحديث الموضوع عن شداد بن أوس في ( كتاب الضعفاء ) وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) وضعفه ، وأورده ابن الجوزي في ( الموضوعات ) وفي سنده مجروحون ، واتّهم منهم بشير بن زاذان فإمّا وضعه وإمّا دلّسه عن بعض الضعفاء ... قال محمد بن معتمد خان البدخشاني في ( تحفة

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ١٥٨.

(٢) المغني في الضعفاء ١ / ٢٦٦.

(٣) تقريب التهذيب ١ / ٣٠٥.

(٤) خلاصة تذهيب الكمال : ١٤٢.

(٥) الاصابة ٤ / ١٧٤.

٢٧٣

المحبين ) في الفصل الذي عقده للأحاديث الضعيفة : « أبوبكر أرأف أمتي وأرحمها ، وعمر بن الخطاب خير أمتي وأعدلها ، وعثمان بن عفان أحيا أمتي وأكرمها ، وعلي بن أبي طالب ألبّ أمتي وأشجعها. عق عس وضعّفه عن شداد ابن أوس. وفي سنده مجروحون واتّهم منهم بشير فإمّا وضعه وإمّا دلّس عن بعض الضعفاء. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات » (١).

وهذه عبارة ابن الجوزي في ( الموضوعات ) :

« حديث في ذكر جماعة من الصحابة : أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال : أنبأنا محمد بن المظفر قال : أنبأ أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي قال : أخبرنا يوسف بن الدخيل قال : ثنا أبو جعفر العقيلي قال : ثنا بشر بن موسى قال : ثنا عبد الرحيم بن واقد الواقدي قال : ثنا بشير بن زاذان ، عن عمر بن صبيح عن كن عن شدّاد بن أوس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أبوبكر أوزن أمتي وأرجحها ، وعمر بن الخطاب خير أمتي وأكملها ، وعثمان أحيا أمتي وأعدلها ، وعلي بن أبي طالب ولي أمتي وأوسمها ، وعبد الله بن مسعود أمين أمتي وأوصلها ، وأبو ذر أزهد أمتي وأرأفها ، وأبو الدرداء أعدل أمتي وأرحمها ، ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها.

طريق آخر ـ أخبرنا علي بن عبيد الله قال : أنبأ علي بن أحمد البندار قال : أنبأنا أبو عبد الله ابن بطة قال : حدّثني أبو صالح محمد بن أحمد قال : ثنا خلف ابن عمرو العكبري قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم قال : ثنا يزيد الحلال صاحب ابن أبي الشوارب قال : حدّثنا أحمد بن القاسم بن بهرام قال : ثنا محمد بن بشير عن بشير بن زاذان عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أبوبكر خير أمتي وأتقاها ، وعمر أعزّها وأعدلها ، وعثمان أكرمها وأحياها ، وعلي ألبّها وأوسمها ، وابن مسعود آمنها وأعدلها ، وأبو ذر أزهدها وأصدقها ، وأبو

__________________

(١) تحفة المحبّين ـ مخطوط.

٢٧٤

الدرداء أعبدها ، ومعاوية أحلمها وأجودها.

قال المصنف : هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وفي الطريقين جماعة مجروحون ، والمتهم به عندي بشير بن زاذان ، إما أن يكون من فعله أو من تدليسه عن الضعفاء وقد خلط في إسناده. قال ابن عدي : هو ضعيف يحدّث عن الضّعفاء » (١).

و « بشير بن زاذان » ضعّفه الذهبي أيضا ، إذ ذكره في ( المغني في الضعفاء ) وقال : « ضعّفه الدار قطني وغيره » (٢).

الحديث عن ابن عباس لا سند له

وروى الملاّ في سيرته هذا الافك الشنيع والكذب الفظيع عن ابن عباس : قال المحبّ الطبري في : « الفصل الرابع في وصف كلّ واحد من العشرة بصفة حميدة ـ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأقواهم في دين الله عمر ، وأشدّهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، ولكل نبي حواري وحواريّ طلحة والزبير ، وحيثما كان سعد ابن أبي وقاص كان الحق معه ، وسعد بن زيد من أحباء الرحمن ، وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن ، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسوله ، ولكل نبي صاحب وصاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان ، فمن أحبّهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك. خرجه الملاّ في سيرته » (٣).

وهذا الحديث باطل قطعا ، إذ لا سند له أبدا ، وركاكة ألفاظه وسخافة

__________________

(١) الموضوعات ٢ / ٢٩.

(٢) المغني في الضعفاء ١ / ١٠٨.

(٣) الرياض النضرة ١ / ٣٦.

٢٧٥

معانيه تشهد بوضعه ، وممّا ينادى بذلك اشتماله على فضيلة لمعاوية بن أبي سفيان ، وقد نصّ كبار الأئمة كالبخاري ، والنسائي ، والحاكم ، وابن الجوزي ، وابن تيمية ، وابن حجر ، وغيرهم ، على أنّه لم يثبت حديث في فضل معاوية بن أبي سفيان ... كما ستطلع عليه في ما بعد إن شاء الله تعالى.

حصيلة البحث

وقد علم من هذا البحث بوضوح : أن حديث « أرحم أمتي بأمتي ... ». حديث موضوع ومفتعل بجميع طرقه وألفاظه ، على ضوء كلمات كبار أئمة الجرح والتعديل ، ومشاهير حفاظ الحديث والأخبار.

آراء المحققين الآخرين

وقد نصّ جماعة من مشاهير محقّقي أهل السّنة في الحديث والرجال على وضع هذا الحديث أو بطلانه أو ضعفه ولا بأس بذكر بعض كلماتهم في هذا المقام :

قال المناوي بشرح هذا الحديث : « ع من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر بن الخطاب. وابن البيلماني حاله معروف. لكن في الباب أيضا عن أنس وجابر وغيرهما عند الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم وغيرهم. لكن قالوا في روايتهم بدل أرأف : ارحم. وقالت : حسن صحيح. وقال ك‍ : على شرطهما.

وتعقّبهم ابن عبد الهادي في تذكرته بأن في متنه نكارة ، وبأن شيخه ضعّفه ، بل رجح وضعه » (١).

__________________

(١) فيض القدير ١ / ٤٦٠.

٢٧٦

ترجمة ابن عبد الهادي

وابن عبد الهادي ـ الذي تعقّب القوم في تذكرته بأنّ في الحديث نكارة وبأنّ شيخه ابن تيميّة ضعّفه بل رجح وضعه ـ من محققي حفّاظ أهل السّنة المشاهير ، قال الحافظ الذهبي في ذكر مشايخه :

« وسمعت من الامام الأوحد الحافظ ، ذي الفنون ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي. ولد سنة خمس أو ست وسبعمائة ، وسمع من القاضي ولي الدين عبد الدائم والمطعم ، واعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع ، وتصدى للافادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو ، وله توسّع في العلوم وذهن سيّال. توفي في شهر جمادى الأولى سنة ٧٤٤ » (١).

وقال ابن رجب بترجمته : « المقرئ الفقيه المحدّث الحافظ الناقد النحوي المتفنّن ... عني بالحديث وفنونه ومعرفة الرجال والعلل وبرع في ذلك ، وتفقّه في المذهب وأفتى وقرأ الأصلين والعربية وبرع فيها ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيميّة مدة ... وكتب بخطه المتقن الكثير ، وصنف كتبا كثيرة ... » (٢).

وقال الحافظ ابن حجر : « مهر في الحديث والفقه والأصول والعربية وغيرها. قال الصفدي : لو عاش لكان آية ... وقال الذهبي في معجمه المختص : الفقيه البارع المقرئ المجوّد المحدّث الحافظ النحوي الحاذق ذو الفنون ، كتب عني واستفدت منه. وقال ابن كثير : كان حافظا علاّمة ناقدا ، حصّل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار ، وبرع في الفنون ، وكان جبلا في العلل والطرق والرجال ، حسن الفهم جدا صحيح الذهن ... » (٣).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ٤ / ١٥٠٨.

(٢) طبقات ابن رجب ٢ / ٤٣٦.

(٣) الدرر الكامنة ٣ / ٤٢١.

٢٧٧

٤ ـ بطلان دعوى ان أبابكر اوّل باب لأنه باب في الرحمة

وقول العاصمي : « ثم يكون أبوبكر الصديق رضوان الله عليه بابا منها ، وهو أول باب وأفضل باب ، حيث جعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أوّلهم في الحديث الذي ذكر فيه أصحابه ، وخصّ كلّ واحد منهم بخاصّية ، فكان رضوان الله عليه بابا في الرحمة والرأفة بالمسلمين والشفقة عليهم ، كما قال صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي أبوبكر. وفي رواية أخرى : أرأف أمتي بأمتي أبوبكر. ولا يكون الرحمة بالمسلمين إلاّ من أصل العلم ».

واضح البطلان ، لأنّ شواهد جهل أبي بكر متظافرة جدّا ، ومن كان جاهلا بمعنى « الأب » و « الكلالة » و « إرث العمّة والخالة » كيف يجوز أن يكون بابا لمدينة العلم؟! وكيف يكون أوّل باب وأفضل باب؟! وقد عرفت أن الحديث المذكور موضوع ، فبطل الاستدلال به.

نوادر الأثر في شدة أبي بكر

على أن هناك في كتب أهل السّنة ، أحاديث وآثارا تحكي شدّة أبي بكر على المسلمين ، وهذا من وجوه بطلان قوله : « فكان بابا في الرحمة والرأفة بالمسلمين والشفقة عليهم » ... ومن تلك القضايا ما يلي :

(١) ما أخرجه البخاري في كتاب الأدب قائلا : « باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف ـ حدّثنا عيّاش بن الوليد ، حدّثنا عبد الأعلى قال : حدّثنا سعيد الجريري ، عن أبي عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر : إن أبابكر تضيّف رهطا فقال لعبد الرحمن : دونك أضيافك فإني منطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فافرغ من قراهم قبل أن أجىء. فانطلق عبد الرحمن فأتاهم بما عنده

٢٧٨

فقال : اطعموا. فقالوا : اين ربّ منزلنا؟ قال : أطعموا. قالوا : ما نحن بآكلين حتى يجيء رب منزلنا. قال : اقبلوا عنا قراكم فإنه إنّ جاء ولم تطعموا لنلقينّ منه ، فأبوا. فعرفت انه يجد عليّ ، فلما جاء تنحيّت عنه. فقال : ما صنعتم؟ فأخبروه. فقال : يا عبد الرحمن ، فسكتّ. ثم قال : يا عبد الرحمن. فسكتّ. فقال : يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لمّا جئت. فخرجت فقلت : سل أضيافك. فقالوا : صدق ، أتانا به. قال : فإنما انتظرتموني ، والله لا أطعمه الليلة. فقال الآخرون : والله لا نطعمه حتى تطعمه. قال : لم ار في الشر كاللّيلة! ويلكم ما أنتم! لما لا تقبلون عنا قراكم. هات طعامك. فجاء به ، فوضع يده فقال : بسم الله الأولى للشيطان. فأكل وأكلوا » (١).

وأخرجه مسلم في باب إكرام الضّيف وفضل إيثاره : « حدثنا محمد بن مثنى قال : نا سالم بن نوح العطار عن الجريري عن أبي عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : نزل علينا أضياف لنا. قال وكان أبي يتحدّث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل فانطلق وقال : يا عبد الرحمن افرغ من أضيافك. قال : فلما أمسيت جئنا بقراهم قال : فأبوا فقالوا : حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا. قال فقلت لهم : إنه رجل حديد وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى. قال : فأبوا. فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم فقال : أفرغتم من أضيافكم. قال : قالوا : لا والله ما فرغنا. قال : الم آمر عبد الرحمن؟ قال : وتنحّيت عنه. فقال : يا عبد الرحمن! قال : فتنحيّت عنه. قال فقال : يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلاّ جئت. قال : فجئت. قال فقلت : والله ما لي ذنب ، هؤلاء أضيافك فسلهم ، قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا حتى تجيء قال فقال : ما لكم ألاّ تقبلوا عنا قراكم؟ قال فقال أبوبكر : فو الله لا أطعمه الليلة. قال فقالوا والله لا نطعمه حتى تطعمه. قال فقال : ما رأيت في الشر كالليلة قط ، ويلكم مالكم ألاّ تقبلوا

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٣٦٤.

٢٧٩

عنا قراكم! قال : ثم قال : أما الأولى فمن الشيطان هلمّوا قراكم. قال : فجيء بالطعام فسمّى فأكل وأكلوا. قال : فلما أصبح غدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله برّوا وحنثت. قال فأخبره. فقال : بل أنت أبرّهم وأخيرهم. قال : ولم تبلغني كفارة » (١).

أقول : وهذا الحديث يدل على الشدّة والغضب من جهات :

فالأولى : قول عبد الرحمن : « إنه رجل حديد ، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى » فهذا يشهد بأنّ ما رووه من أنه أرحم الامّة بالأمّة ... كذب مختلق.

والثّانية : تنحّي عبد الرحمن عنه.

والثّالثة : نداؤه عبد الرحمن : « يا غنثر » وهو شتم أي : يا لئيم أو نحو ذلك من المعاني القبيحة. وقد اخرج البخاري في باب قول الضيف « لا آكل حتى تأكل » القصّة وفيها : « فغضب أبوبكر فسبّ وجدع » قال القسطلاني في شرحه : « فسبّ أي شتم لظنّه أنّهم فرّطوا في حق ضيفه ، وجدّع بالجيم المفتوحة والدال المهملة المشددة وبعدها عين مهملة : دعا بقطع الأنف أو الاذن أو الشفة » فهذا يدلّ على شدة غضبه وبذاءة لسانه وسوء خلقه ، حيث جعل يدعو عليهم بذلك من غير استعلام منهم هل فرّطوا في حق ضيفه أولا!! بل المستفاد من البخاري أنه فعل ذلك بعد أن سأل أهله : « ما صنعتم؟ فأخبروه » وحينئذ يكون سبّه إيّاهم أشنع وأفظع.

والرّابعة : قوله للأضياف : « فو الله لا أطعمه الليلة » صنيع قبيح منه تجاه إبائهم عن الأكل حتى يجيء ، يكشف عن غضبه معهم وعدم إكرامه لهم ، من دون أن يكون منهم شيء يستحقّون ذلك به!! بل يجب إكرام الضيف عقلا وعرفا وشرعا على كلّ حال ، وهذا أمر يعرفه ويفعله حتى أجلاف العرب ...

__________________

(١) صحيح مسلم ٦ / ١٣١.

٢٨٠