نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

عليه‌السلام وأهل البيت الطاهرين.

٨ ـ كلام الدهلوي في صدر التحفة

ولقد ذكر ( الدهلوي ) نفسه في صدر كتابه ( التحفة ) بأنه قد التزم فيه الاحتجاج مع الشيعة بما ورد في كتبهم المعتبرة ، لأنّ كلا من الطرفين المتخاصمين ينسب الآخر إلى التّعصب والعناد ولا يثق برواياته ... فالعجب منه كيف نسي هذا الإلزام؟! وكيف احتجّ ب « ما صبّ الله ... » وغيره من الخرافات؟! وكيف طالب الشيعة بقبول هذه الخرافات؟! وهل هذا إلاّ تهافت غريب وتناقض عجيب؟!!

٩ ـ كلام والده

وبمثل كلام الرشيد صرّح شاه ولي الله الدهلوي في خاتمة كتابه ( قرة العينين في تفضيل الشيخين ). وقد صرّح بأنّه لا يجوز المناظرة مع الامامية بأحاديث الصحيحين فضلا عن غيرها ... فليراجع.

١٠ ـ بطلان الحديثين المزعومين

لقد ظهر بالتفصيل صحّة حديث مدينة العلم وثبوته سندا ودلالة ، حسب تصريحات كبار أعلام أهل السنة. وظهر بطلان « ما صبّ الله ... » و « لو كان بعدي ... » حسب تصريحات كبار علمائهم كذلك.

فمطالبة أهل الحق باعتبار هذين الحديثين ـ بعد ذلك ـ وعدم الالتزام بمقتضى حديث ( مدينة العلم ) سخيف للغاية.

٢٤١

ومن هنا يظهر انطباق المثل الذي ذكره على نفسه ، والله سبحانه العاصم وهو ولي التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

والحمد لله رب العالمين.

قال الميلاني : هذا آخر الكلام على ما تفّوه به ( الدهلوي ) في الجواب عن حديث « أنا مدينة العلم » ولنتعرّض لما أتى به غيره من علماء أهل السنة في هذا الباب والله المستعان.

٢٤٢

مع العلماء الآخرين

فيما قالوه حول حديث مدينة العلم

٢٤٣
٢٤٤

وإذ فرغنا من نقض كلمات ( الدهلوي ) حول حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » وإبطال هفواته في تضعيفه ، كان من المناسب التعرّض لكلمات غيره من علماء ومحدّثي أهل السّنة بالنّسبة إلى هذا الحديث ، أوحديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » إفحاما للخصام واستيفاء للكلام ، والله وليّ التوفيق :

(١)

مع العاصمي

في كلامه حول حديث أنا مدينة العلم

قال أبو محمد أحمد بن محمد بن علي العاصمي ما نصّه :

« وتكلّموا في تأويل هذا الحديث.

فذهبت الخوارج ومن قال بقولهم إلى أنه أراد بقوله « وعلي بابها » الرفيع الباب من العلوّ ، علي بمعنى العالي لا الاسم العلم الذي كان المرتضى رضوان الله عليه

٢٤٥

مسمّى به ، يقال : شيء عال وعليّ ، وباب عال وعليّ ، مثل سامع وسميع ، وعالم وعليم ، وقادر وقدير.

وإنما أرادوا بذلك الوقيعة في المرتضى رضوان الله عليه والحطّ عن رتبته. وهيهات لا يخفى على البصر النّهار.

وذهب بعض من يخالفهم الى أنّ المرتضى ـ رضوان الله عليه ـ لما كان باب المدينة ، ولا يوصل إلى المدينة إلاّ من جهة بابها ، فكذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم مدينة العلم والنبوة ، ولا يوصل إلى علم النبي إلاّ من جهة علي.

وهذا أيضا غلو وتجاوز عن الحدّ ، نستعيذ بالله مما يوجب سخط الله ، لأنّهم يتطرّقون بذلك إلى إبطال إمامة الشيخين ، ثم إلى إبطال إمامة ذي النورين! وإن كان الأمر على ما قالوا لما كان يوصل إلى العلم والأحكام والحدود وشرائع الإسلام إلاّ من جهته ، ولكان فيه إبطال كلّ حديث لم يكن المرتضى طريقه ، ولكان فيه إبطال كثير من شرائع الدين التي أجمعت عليها الأمة باليقين.

ووجه الحديث عندنا : إنّ المدينة لا تخلو من أربعة أبواب ، لأنّها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب ، ففي كل ركن باب ، وقد كان المرتضى أحد أبوابها ، وكان الخلفاء الثلاثة قبله هم الأبواب الثلاثة ، وهذا وإن كان صحيحا في المعنى والحكم فإنّ تخصيص النبي عليه‌السلام إيّاه بلفظة باب مدينة العلم يدل على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضية ، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفة جليلة » (١).

دلالة الحديث على مذهب الامامية

أقول : لا ريب في أنّ الصحيح هو الوجه الثاني ، لكنّ العاصمي رماه بالغلو والتّجاوز ، لأنّه يقتضي إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلّى

__________________

(١) زين الفتى في تفسير سورة هل أتى. مخطوط.

٢٤٦

الله عليه وآله وسلّم بلا فصل فاستعاذ منه ، والحال أن ما ذكره الامامية هو المعنى الحقيقي لحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » وقوله صلّى الله عليه وسلّم « فمن أراد العلم فليأت الباب » كما رواه الحاكم وغير واحد ، وقوله « فمن أراد العلم فليأت باب المدينة » كما رواه سويد الحدثاني ، وقوله : « فمن أراد المدينة فليأت الباب » كما رواه الحاكم في المستدرك ، وقوله : « فمن أراد المدينة فليأتها من بابها » كما رواه محمد ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار، وقوله : « فمن أراد العلم فليأته من بابه » كما رواه الطبراني في المعجم الكبير، وقوله : « يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها » كما رواه أبو الحسن الحربي في كتاب الأمالي ، وقوله : « ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها » كما رواه ابن المغازلي في المناقب ، وقوله : « كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلاّ من قبل الباب » كما رواه ابن المغازلي أيضا في المناقب ...

كلّ ذلك من الشواهد الواضحة والدلائل الساطعة على هذا المعنى.

بل إنّ كلمات كبار علماء أهل السّنة في شرح حديث « أنا مدينة العلم » صريحة في هذا المعنى ، قال المناوي : « فإنّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة الجامعة لمعانى الديانات كلّها ولا بدّ لها من باب ، فأخبر أنّ بابها هو علي كرم الله وجهه ، فمن أخذ طريقه دخل المدينة ، ومن أخطأه أخطأ طريق المهدي » (١).

وقال أيضا : « قال الحرالي : قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله من القلوب الحجاب ، حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه » (٢).

__________________

(١) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٣ / ٤٦.

(٢) المصدر نفسه ٣ / ٤٧.

٢٤٧

وقال أيضا : « فإنّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المدينة الجامعة لمعانى الديانات كلّها ، ولا بدّ للمدينة من باب يدخل منه ، فأخبر أنّ بابها هو علي ، فمن أخذ طريقه دخل المدينة ، ومن لا فلا » (١).

وقال محمد بن إسماعيل الأمير اليماني ـ بعد كلام له في معنى هذا الحديث ـ : « وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خصّ الله الوصيّ عليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة ونوّه شأنه ، إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم ، وأنّ منه يستمد ذلك من أراده ، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية ، ثم لأجمع خلق الله علما وهو سيد رسله صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف ، ويطأطئ رأسه تعظيما له كلّ من سلف وخلف » (٢).

فإنكار العاصمي هذا المعنى الواضح الذي ينادي به الحديث الشريف بمختلف ألفاظه ، ويعترف به غير واحد من شرّاحه وغيرهم ، عجيب للغاية.

ومن آيات علوّ الحق : أنّ السخاوي والزركشي قد أيّدا في ( المقاصد الحسنة ) و ( الدرر المنتثرة ) حديث مدينة العلم بحديث : « علي مني وأنا من علي لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو علي » الدال بصراحة على انحصار أداء الأحكام وغيرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ عليه الصلاة والسلام ، فيكون معنى حديث مدينة العلم عندهما نفس المعنى الذي ذكرناه ، وهو أنّه لا يمكن الوصول إلى علم رسول الله إلاّ من طريق أمير المؤمنين. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر!

وأمّا قول العاصمي : « وإن كان الأمر على ما قالوا لما كان يوصل إلى العلم والأحكام والحدود وشرائع الإسلام إلاّ من جهته » فكلام عاطل ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّ الطريق الموصل إلى ذلك هو طريق علي عليه‌السلام لا غير ، وأنّ من زعم الوصول إلى ذلك لا عن طريقه فهو مفتر كذّاب ، ويكفى في

__________________

(١) التيسير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢٨٤.

(٢) الروضة الندية : ٧٦.

٢٤٨

إظهار كذبهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها » وأيضا قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلاّ من قبل الباب ».

ولو سلّم وصول بعضهم إلى بعض الأمور لا عن طريقه لم يكن ذلك وصولا على المنهج المعتبر والوجه المأمور به ، بل يكون وصولهم كوصول السّارق والمتسوّر ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (١). ومن هنا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه : « ونحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا » وقد ذكر الشيخ سليمان القندوزي هذا الكلام ضمن شواهد حديث مدينة العلم (٢) كما ورد في كتاب ( نهج البلاغة ) الذي اعترف أكابر علماء أهل السّنة بأنّه من كلام سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد قال عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي بشرحه : (٣)

« ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلاّ من أبوابها. قال الله تعالى : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ثم قال : من أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا ، وهذا حق ظاهرا وباطنا. أما الظاهر فلأن من يتسوّر البيوت من غير أبوابها هو السارق. وأما الباطن فلأن من طلب العلم من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه فهو أشبه شيء بالسارق » (٤).

ثم إنّ هذا المعنى الذي يذكره أهل الحق لا يستلزم إبطال كلّ حديث لم يكن الامام عليه‌السلام في طريقه ، بل ينظر فإن كان من طريق الصحابة العدول

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

(٢) ينابيع المودة ١ / ٧٥.

(٣) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : ٢١٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٥.

٢٤٩

المقبولين ، وكان موافقا لما وصل من طريق باب مدينة العلم ، لم يكن لابطاله وجه ، وإلاّ كان باطلا بلا ريب ، فبطل ما زعمه العاصمي. والحمد لله.

وأيضا : لا يستلزم ذلك إبطال شيء من شرائع الدين التي أجمعت عليها الأمّه ، لأنّ الإجماع على تلك الشرائع إن كان أمير المؤمنين عليه‌السلام داخلا فيه وجب اتباع تلك الشّرائع ـ ولا يجوز إنكار الوصول إليها من طريقه عليه‌السلام ـ وإن لم يكن الامام داخلا فيه لم يجز اتّباعها والعلم بها ، بل لا يجوز دعوى اجماع الأمّة عليها حينئذ ، بل إطلاق « شرائع الدين » عليها بعيد عن الصّواب.

وجوه الجواب عن تأويل العاصمي

وأمّا قوله : « ووجه الحديث عندنا أنّ المدينة لا تخلو من أربعة أبواب ، لأنها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب ، ففي كلّ ركن باب ، وقد كان المرتضى أحد أبوابها ، وكان الخلفاء الثلاثة قبله هم الأبواب الثلاثة » فالجواب عنه من وجوه :

١ ـ إنه دعاوى فارغة

إنّ هذا الوجه ليس إلاّ دعاوى فارغة وتخرّصات عاطلة ، فإنّه يدّعي أولا « أن المدينة لا تخلو من أربعة أبواب » ثم يعلّل هذه الدعوى بقوله « لأنّها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب ... » ويستنتج : « وقد كان المرتضى ... » وكلّ ذلك دعوى بلا دليل ، بل إنّها دعاوى ممنوعة ، لأنّ المدينة قد تخلو من أربعة أبواب ، ولا يشترط أن تكون مبنيّة على أربعة أركان وأسباب ، ولو سلّم ذلك فلا يشترط أن يكون في كلّ ركن باب ، ومع التّسليم فكيف يجوز قياس مدينة العلم بالمدينة المادية الظاهريّة؟

٢٥٠

إنّ أهل الحق ليترفّعون عن التفّوه بمثل هذه الكلمات والتخيّلات ، والتشبث بها في مقام الاستدلال ...

٢ ـ لم يذكر النبي الاّ بابا واحدا

ولو كان الخلفاء الثلاثة الأبواب الثلاثة الأخرى للمدينة لذكر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كما ذكر عليّا عليه‌السلام ، بل كان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكرهم قبله ـ على ما يدّعي العاصمي ـ والاّ لزم ترجيح المرجوح في الذكر وترك ذكر الراجح والأسبق ، وهو غير جائز.

وحيث لم يذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابا للمدينة سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ظهر بطلان ما زعمه العاصمي في معنى الحديث.

وبما ذكرنا يظهر لنقّاد الكلام إن ما تفوّه به العاصمي ـ على أثر حبّ الشيوخ الثّلاثة ـ من الكلام الباطل العاطل في نفسه يستلزم نسبة الظلم إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعياذ بالله.

٣ ـ أمر النبي بإتيان هذا الباب فقط

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ذيل الحديث ـ بإتيان الباب ، وهو لا يريد من « الباب » إلاّ « عليّا عليه‌السلام » ، بل لقد صرّح باسمه في بعض ألفاظ الحديث بقوله : « فمن أراد بابها فليأت عليا » (١).

ومن الواضح جيّدا : أنّه لو كان الخلفاء الثلاثة قد بلغوا هذه المرتبة لذكرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكره ، إذ لو كان ثمّة مصلحة لعدم ذكرهم في صدر

__________________

(١) من ذلك : الحديث في فرائد السمطين ، فراجع.

٢٥١

الحديث فلا أقل من الإرجاع إليهم والأمر بإتيانهم في ذيله!

وإذ لم يشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا الأمر ، واقتصر على ذكر علي عليه‌السلام كيف يجوز أن يقال بأنّهم كانوا الأبواب الثلاثة؟ وهل هذا إلاّ مجرّد الإفك والافتراء؟

٤ ـ عدم ذكره الثلاثة في حديث آخر

ولو فرض وجود مصلحة لترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر كون الثلاثة الأبواب الأخرى لمدينة العلم في هذا الحديث ، كان من اللازم أن يصرّح بهذا المعنى في حديث آخر ، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

ومن هنا أيضا يظهر أنّ دعوى العاصمي ذلك ليس إلاّ من الهواجس النفسانية.

٥ ـ اعترافهم بالجهل في مواضع عديدة

ومما يبطل الوجه الذي ذكره العاصمي جهل المشايخ بالأحكام والقضايا ، واعترافهم بعدم التفقّه في الدين ، في مواضع كثيرة جدا ، فمن لم يكن له حظ من العلم كيف يكون بابا لمدينة العلم؟.

٦ ـ النقض عليه بكلام نفسه

وبالتّالي ، فإنّ هذا الوجه الذي ذكره العاصمي منقوض بما قاله هو في الجواب عمّا يذهب إليه الشيعة من أنه « إن كان الأمر على ما قالوا لما كان يوصل إلى العلم والأحكام والحدود وشرائع الإسلام إلاّ من جهته ، ولكان فيه إبطال كلّ حديث لم

٢٥٢

يكن المرتضى طريقه ، ولكان فيه إبطال كثير من شرائع الدين التي أجمعت عليها الامّة باليقين » فإنّ هذا الكلام بعينه يتوجّه إلى الوجه الذي اختاره ، ولا سيّما وأنّ أهل السّنة يأخذون عن كلّ من دبّ ودرج من أصحابهم ، وأنّ روايات غير الخلفاء في مصادر الحديث عندهم اكثر بكثير من روايات الخلفاء.

٧ ـ بطلانه من ذيل كلامه

ومن الطّريف قول العاصمي بعدئذ : « وهذا وإن كان صحيحا في المعنى والحكم ، فإن تخصيص النبي عليه‌السلام إيّاه بلفظة باب مدينة العلم يدلّ على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضيّة ، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفة جليلة ». فإنه بعد ما حاول تأويل الحديث وتوجيهه بما ذكره لم يجد بدّا من الاعتراف بتخصيص أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الفضيلة ، لعدم وصف أولئك بلفظ « باب مدينة العلم » أو نحوه لا في هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث ، فاعترف بدلالة هذا التخصيص « على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضية ، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفه جليلة » وهذا يفيد أعلمية الامام عليه‌السلام.

فهذا الحديث يدلّ على إمامته من جهة دلالته على الأعلمية. كما يدلّ على الامامة من جهة دلالته على أنّه لا يوصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ من جهته عليه الصلاة والسلام.

فكلام العاصمي هذا يتضمّن وجها آخر لدلالة حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام. والله يحق الحق بكلماته ، ويبطل الباطل بقواهر حججه وبيّناته.

٢٥٣

(٢)

مع العاصمي أيضا

واعلم أنّ للعاصمي في كتابه المذكور كلاما آخر حول حديث مدينة العلم هذا نصّه :

« قلت : ومعنى الحديث أنّ النبي صلّى الله عليه مثل المدينة ، وإذا كانت مدينة مثل النبي صلّى الله عليه فليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة ، لأن مدينة مثلها مثل النّبي عليه‌السلام فليس بعجب أن يكون لها طول وسعة وعرض كأوسع مدينة في الدنيا ، وليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة.

فعلي باب منها في القضاء ، كما خصّه النبي صلّى الله عليه به : أخبرنا الحسين بن محمد البستي قال : حدّثنا عبد الله بن أبي منصور قال : حدّثنا محمد بن بشر قال : حدّثنا محمد بن إدريس قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن المثنى قال : حدّثني حميد عن أنس قال : قضى علي قضاء ، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه فأعجبه فقال : الحمد لله الذي جعل الحكمة فينا أهل البيت. قال : وبعثه رسول الله صلّى الله عليه إلى اليمن بالقضاء فقال : يا رسول الله لا علم لي بالقضاء. فوضع النبي صلّى الله عليه يده على صدره ثم قال : أللهم اهد قلبه وسدّد لسانه. قال : فما شككت في قضاء بين اثنين حتى جلست مجلسي هذا.

ثم يكون أبوبكر الصديق رضوان الله عليه بابا منها ، وهو أوّل باب وأفضل باب ، حيث جعله النبي صلّى الله عليه أوّلهم في الحديث الذي ذكر فيه أصحابه وخصّ كلّ واحد منهم بخاصيّة ، فكان رضوان الله عليه بابا في الرحمة والرأفة

٢٥٤

بالمسلمين والشفقة عليهم كما قال صلّى الله عليه : أرحم أمتي أبوبكر. وفي رواية أخرى : أرأف أمتي بأمتي أبوبكر. ولا يكون الرحمة بالمسلمين إلاّ من أصل العلم.

وبعد الصّديق كان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بابا في الشدّة على المنافقين والمخالفين في الدين ، قوله صلّى الله عليه : وأشدّهم ـ وروي : وأصلبهم ـ في دين الله عمر بن الخطاب.

ثم عثمان بن عفان الباب الثالث منها في صدق الحياء ، قوله صلّى الله عليه : وأصدق أمتي حياء عثمان بن عفان.

وباب منها : أبيّ بن كعب حيث فضّله النبي صلّى الله عليه بعلم القرآن وقراءته ،

قوله عليه‌السلام : وأقرؤهم أبيّ بن كعب ، وروي : وأقرؤهم لكتاب الله.

ومنها : معاذ بن جبل ، لما فضّله النبي صلّى الله عليه في العلم خاصة دون غيره ،

قوله عليه‌السلام : وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل.

وباب منها : زيد بن ثابت ، لما فضّله النبي صلّى الله عليه بعلم الفرائض خاصة دون غيره ، قوله عليه‌السلام : وأفرض أمتي زيد بن ثابت.

وباب منها : أبو عبيدة بن الجراح في الأمانة في الإسلام ، حيث خصّه النبي عليه‌السلام بالأمانة في الإسلام ، والأمانة لا تؤدّى إلاّ بالعلم ، قوله عليه‌السلام : ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح.

ثمّ قال لأبي ذر في غير هذا الحديث : من أراد أن ينظر إلى بعض زهد عيسى فلينظر إليه. فينبغي أن يكون له باب في الزهد من تلك المدينة. وجعل له أيضا باب الصّدق ، قوله صلّى الله عليه : ما حملت الأرض ولا أظلّت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر ، فجعل له بابين : باب الصدق وباب الزهد. والزهد في الدنيا جامع للعلم كلّه ، وقد ذكرنا ـ في فضل مشابه أبينا آدم عليه‌السلام ـ في معنى هذا الحديث ما اغنى عن إعادته هاهنا ».

٢٥٥

وجوه الجواب عن هذا الكلام

وفي هذا الكلام وجوه من النّظر ، منها ما نذكره فيما يلي باختصار :

١ ـ التناقض في كلماته

إن هذا الكلام يناقض كلامه المردود المتقدّم ، لأنّه زعم هناك « إنّ المدينة لا تخلو من أربعة أبواب ، لأنّها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب ... » فجعل الخلفاء الأربعة الأبواب المؤدية الى المدينة ، وهنا يقول : « فليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة ... » ثم ذكر تسعة أشخاص جعلهم الأبواب الموصلة إليها ، مستندا إلى روايات موضوعة سيأتي بيان حالها.

٢ ـ بطلان دعوى اختصاص علي بالقضاء

وإن قوله : « فعلي باب منها في القضاء » تخصيص بلا مخصّص إلاّ التعصّب والعناد ، وأمّا الحديثان اللذان ذكرهما في باب قضائه عليه‌السلام فلا يقتضيان تخصيص حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » بكونه بابها في القضاء ، بل إنّهما يدلاّن على علوّ مقامه في القضاء وأعلميته من سائر الأصحاب ، وذلك يستلزم إمامته وخلافته من تلك الجهة ، كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

على أنّه لو سلّم هذا التخصيص في حديث « أنا مدينة العلم » فإنّه سيأتي أن تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بهذه الفضيلة تصريح منه بأنّه قد جمع له جميع العلوم وسائر أنواعها وأقسامها ، فلو فرض أن يكون معنى حديث أنا مدينة العلم كون علي عليه‌السلام بابا لها في القضاء ، ثبت كونه بابا إليها في جميع

٢٥٦

العلوم ، ومن هنا قال ابن حجر المكي : « تنبيه ـ ممّا يدلّ على أنّ الله سبحانه اختص عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات : قوله صلّى الله عليه وسلّم : أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، وقوله : أنا دار الحكمة ـ وفي رواية ـ مدينة العلم وعلي بابها » (١) حيث جعل كلا من حديث « مدينة العلم » وحديث « أقضاكم علي » دالا على أنّ الله سبحانه اختص عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات ...

٣ ـ حديث : أرحم أمتي ... موضوع

واستند العاصمي في هذا الكلام إلى حديث : أرحم أمتي أبوبكر ... وهو من الأكاذيب الموضوعة والأباطيل المصنوعة ، حسب اعتراف كبار حفّاظ أهل السّنة ومشاهير علمائهم ، كما سنوضّح ذلك عن قريب.

ولمّا كان هذا الحديث مما وضعته ألسنة المفترين وصنعته أيدي الوضّاعين والكذّابين ، نجد الاختلاف الفاحش في ألفاظه ، فهو في بعضها كذب من أوّله إلى آخره ، وفي بعضها يشتمل على بعض الجمل الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق علي عليه‌السلام وبعض خواص أصحابه ، وهي فضائل واردة في أحاديث صحيحة خلطتها أيدي الخيانة مع هذا الحديث الموضوع لغرض التغطية. ولنرفع السّتار عن ذلك بالإجمال فنقول :

الحديث عن أنس بن مالك

لقد رووا هذا الحديث عن أنس بن مالك ، وأخرجه الترمذي وابن ماجة من أصحاب الصحاح ... قال الترمذي : « مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت

__________________

(١) المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية : ١٢٠.

٢٥٧

وأبي وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم :

حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن داود بن العطار ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، واشدّهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ابن عفان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلاّ من هذا الوجه.

وقد رواه أبو قلابة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحوه : ـ حدثنا محمد بن بشار ، نا عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأشدّهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل. ألا وإنّ لكلّ أمّة أمينا وإنّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. هذا حديث حسن صحيح » (١).

وقال ابن ماجة : « حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، ثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، وأشدّهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، ألا وإنّ لكلّ أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح. حدثنا علي بن محمد ثنا وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة مثله » (٢).

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ / ٦٢٣.

(٢) سنن ابن ماجة ١ / ٥٥.

٢٥٨

نظرة في رجاله

أمّا « أنس بن مالك » فهو من كبار أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام. وحديث قصّة الطائر المشوي من أصدق الشواهد على ذلك ، بل يدلّ على ذلك هذا الحديث نفسه ـ على فرض ثبوته ـ حيث مدح فيه الثلاثة وجماعة من أشياعهم ، ولم يذكر فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا « أبو قلابة » الذي عليه مدار حديثي ابن ماجة وطريقه الثاني عند الترمذي ، فهو أيضا مقدوح ومجروح كما سيأتي.

وأمّا « خالد الحذاء » ـ وهو من رجال ابن ماجة في طريقيه والترمذي في الطريق الثاني ـ فقد طعن فيه وجرحه أعلام القوم : كشعبة بن الحجاج ، وابن علّية وحمّاد بن زيد ، وسليمان التيمي ، وأبي حاتم ، والعقيلي صاحب الضعفاء ... كما لا يخفى على ناظر كتب القوم ، وستسمع بعض ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأمّا « عبد الوهاب بن عبد المجيد » ـ الثقفي الواقع في الطريق الثاني عند الترمذي ، والأول عند ابن ماجة ـ فقد قال ابن حجر العسقلاني : « عدّه ابن مهدي فيمن كان يحدّث عن كتب الناس ولا يحفظ ذلك الحفظ » قال : « وقال الدوري عن ابن معين : اختلط بآخره. وقال عقبة بن مكرم : اختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع سنين » وفيه : « وقال عمرو بن علي : اختلط حتى كان لا يعقل ، وسمعته وهو مختلط يقول : حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان باختلاط شديد » (١) وقال سبط ابن العجمي الحلبي : « عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت قال عقبة بن مكرم : كان قد اختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع. قال أبو داود : تغيّر ، وذكره العقيلي فقال : تغيّر في آخر عمره ، وذكره ابن الصلاح أيضا

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٩٧.

٢٥٩

فيهم » (١).

وأمّا « محمد بن بشار » ـ راويه عن « عبد الوهاب » في الطريق الثاني عند الترمذي ـ فسيأتي القدح فيه إن شاء الله تعالى.

وأمّا « سفيان الثوري » ـ راويه عن « خالد » عند ابن ماجة في الطريق الثاني ـ فسيأتي بيان القدح فيه كذلك.

وأمّا « وكيع » ـ راويه عن « سفيان » عند ابن ماجة في الطريق الثاني ـ فقد طعن فيه أحمد وابن المديني كما في ( تهذيب التهذيب ) (٢) وذكره الذهبي في ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) (٣).

وأمّا « قتادة » ـ راويه عن « أنس » في الطريق الأول عند الترمذي ـ فله قوادح عظيمة ومثالب جسيمة ، لا تخفى على من راجع ترجمته في ( تهذيب التهذيب ) (٤) وغيره.

وأمّا « داود بن العطار » ـ راويه عن « معمر » في أول طريقي الترمذي ـ ففي ( ميزان الاعتدال ) : « قال الحاكم : قال يحيى بن معين : ضعيف الحديث. وقال الأزدي : يتكلّمون فيه » (٥).

وأمّا « سفيان بن وكيع » ـ في طريق الترمذي ـ فمقدوح كذلك ، قال الذهبي : « قال البخاري : يتكلّمون فيه لأشياء لقّنوه إيّاها ، وقال أبو زرعة : يتّهم بالكذب ، وقال ابن أبي حاتم : أشار أبي عليه أن يغيّر ورّاقه فإنّه أفسد حديثه ... » (١) وفي ( الكاشف ) : « ضعيف » (٢) وذكره الذهبي أيضا في ( المغني في الضعفاء ) قائلا : « ضعّف. وقال أبو زرعة : كان يتّهم بالكذب » (٣).

__________________

(١) الاغتباط بمن رمي بالاختلاط.

(٢) تهذيب التهذيب ١١ / ١٠٩.

(٣) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٣٦.

(٤) تهذيب التهذيب ٨ / ٣١٥.

(٥) ميزان الاعتدال ٢ / ١٢.

٢٦٠