نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

دحض المعارضة

بـ « ما صبّ الله شيئا في صدري

إلاّ وصببته في صدر أبي بكر »

٢٠١
٢٠٢

قوله :

« مثل : ما صبّ الله شيئا في صدري إلاّ وصببته في صدر أبي بكر ».

أقول :

هذه المعارضة مردودة باطلة لوجوه :

١ ـ الحديث مختلق

إنّ آثار الاختلاق على هذا الحديث ظاهرة ، والعقل السّليم يحكم ببطلانه ، وذلك لأنّ مفاده المساواة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر في جميع العلوم ، وهذا مما يقطع ببطلانه كلّ مسلم.

٢٠٣

٢ ـ مصادمته للواقع

وأيضا ، يفيد هذا الكلام أنّ أبابكر كان حاملا لجملة علوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو باطل من هذا الحيث كذلك ، لأنّ جهل أبي بكر بالأحكام وغيرها لا يكاد يخفى على أحد ، وقد فصّل الكلام على موارد من ذلك في كتاب ( تشييد المطاعن ) ، حيث يظهر بمراجعته جهل أبي بكر بكثير من الأحكام والمعارف اليقينيّة والآيات القرآنيّة ومسائل الشّريعة ... حتى لقد اعترف بالجهل في مواضع ورجع إلى غيره يستفتيه في الحوادث الواقعة ... وهذا ما يدلّ على أنّ « ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ وصببته في صدر أبي بكر » كذب موضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ رأي ابن الجوزي

وقال ابن الجوزي بعد إيراد نبذة من الموضوعات في شأن أبي بكر : « قال المصنف : وقد تركت أحاديث كثيرة يروونها في فضل أبي بكر ، منها صحيح المعنى لكنه لا يثبت منقولا ، ومنها ما ليس بشيء ، وما أزال أسمع العوام يقولون عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنه قال : ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ وصببته في صدر أبي بكر. وإذا اشتقت إلى الجنة قبّلت شيبة أبي بكر. وكنت أنا وأبوبكر كفرسي رهان سبقته فاتّبعني ولو سبقني لاتّبعته في أشياء ما رأينا لها أثرا لا في الصحيح ولا في الموضوع ، ولا فائدة في الإطالة بمثل هذه الأشياء » (١).

وفي هذا الكلام فوائد :

__________________

(١) الموضوعات : ١ / ٣١٩.

٢٠٤

الأولى : لقد بلغ هذا الحديث المزعوم من البطلان حدّا حتّى لم يفرده ابن الجوزي بالذكر والقدح فيه ، بل تركه مع الأحاديث الواضحة الهوان والبيّنة البطلان ...

الثانية : إن هذا الكلام ممّا افتراه العوام وتناقلوه ، وأنّ العلماء لم يتطرّقوا إلى ذكره مطلقا ...

الثالثة : إنّه من المفتريات التي لا أثر لها لا في الصحيح ولا في الموضوع ، وهذا غاية السّقوط ...

الرابعة : إنّه لا فائدة في الاطالة بمثله.

ومن عجيب صنع ( الدهلوي ) أنه عند ما يحاول عبثا الطعن في حديث ( مدينة العلم ) يستند إلى كلام ( ابن الجوزي ) ، ولكنّه يعرض عن طعنه في : « ما صبّ الله في صدري ... » المزعوم ...!! وهذا ممّا لا يكاد يقضى منه العجب إلى آخر الأبد ، وكم مثله ( للدهلوي ) المتعوّد للأود واللد ...

٤ ـ رأي الطّيبي

ونصّ على وضعه الحسين بن عبد الله الطّيبي في كتابه ( الخلاصة في أصول الحديث ) كما سيعلم من عبارتي الفتني والشوكاني ...

ترجمة الطّيبي

والطيبي ـ هذا ـ من مشاهير محققي أهل السّنة في الحديث :

قال الخطيب التبريزي في خاتمة ( الإكمال في أسماء الرجال ) : « وفرغت من هذه تصنيفا يوم الجمعة عشرين رجب الحرام الفرد ، سنة أربعين وسبعمائة من جمعه وتهذيبه وتشذيبه ، وأنا أضعف العباد الراجي عفو الله تعالى وغفرانه محمد بن

٢٠٥

عبد الله الخطيب ابن محمّد ، بمعاونة شيخي ومولاي سلطان المفسّرين وإمام المحققين ، شرف الملة والدين ، حجة الله على المسلمين ، الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي ، متعهّم الله بطول بقائه ، ثم عرضته عليه كما عرضت المشكاة ، فاستحسنه كما استحسنها ، واستجاده كما استجادها ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه أجمعين ».

وقال ابن حجر : « الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي ، الامام المشهور ، صاحب شرح المشكاة وغيره ... كان كريما متواضعا حسن المعتقد ... مقبلا على نشر العلم ، آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن ... » (١).

وقال السيوطي : « ... الامام المشهور العلاّمة في المعقول والعربية والمعاني والبيان » ثم نقل كلام ابن حجر العسقلاني (٢).

٥ ـ رأي ابن القيّم

وهذا الكلام في رأي ابن قيم الجوزية « مما وضعه جهلة المنتسبين إلى السّنة » وسيأتي كلامه بعينه عن القاري قريبا.

ترجمة ابن القيّم

ونكتفي لترجمة ابن القيّم بما ذكره السيوطي وهذا نصّه « محمد بن أبي بكر ابن أيوب بن سعيد بن جرير ، الشمس ابن قيم الجوزية الحنبلي العلامة ، ولد في سابع صفر سنة ٦٩١ ، وقرأ العربية على المجد التونسي ، وابن أبي الفتح البعلي ،

__________________

(١) الدرر الكامنة : ٢ / ٦٨.

(٢) بغية الوعاة : ٢٢٨.

٢٠٦

والفقه والفرائض على ابن تيمية ، والأصلين عليه وعلى الصفي الهندي ، وسمع الحديث من التقي سليمان ، وأبي بكر بن عبد الدائم ، وأبي نصر ابن الشيرازي ، وعيسى المطعم ، وغيرهم.

وصنّف وناظر واجتهد ، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين العربية ، وله من التصانيف : زاد المعاد ، ومفتاح دار السعادة ، مهذّب سنن أبي داود ، سفر النجدين بين رفع اليدين في الصلاة ، معالم الموقعين عن ربّ العالمين ، ... » (١).

٦ ـ رأي الفيروزابادي

وقال مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزآبادي في خاتمة كتابه ( سفر السعادة ) : « ومن أشهر الموضوعات في باب فضائل أبي بكر رضي‌الله‌عنه حديث : إنّ الله يتجلّى يوم القيامة للناس عامة ولأبي بكر خاصة، وحديث : ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ وصببته في صدر أبي بكر، وحديث : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اشتاق الجنة قبّل شيبة [ أبي بكر ] وحديث : أنا وأبوبكر كفرسي رهان وحديث : إن الله تعالى لمّا اختار الأرواح اختار روح اختار روح أبي بكر. وأمثالها من المفتريات المعلوم بطلانها ببداهة العقل ».

فهل يجوز الاستناد إلى مثل هذا الكلام والاعتماد عليه لاثبات علم لأبي بكر؟ إنّ هذا لعمري من أفظع الفظائع وأشنع الشنائع وأفجر الصنائع!!

__________________

(١) بغية الوعاة : ٢٥. وله ترجمة في الدرر الكامنة ٣ / ٤٠٠ ، والوافي بالوفيات ٢ / ٢٧٠ ، والبدر الطالع : ٢ / ١٤٣.

٢٠٧

٧ ـ رأي الفتني

وصرّح محمد طاهر الكجراتي الفتني بوضعه حيث قال : « في الخلاصة : ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ صببته في صدر أبي بكر ، موضوع ». (١).

٨ ـ رأي القاري

وقال القاري في ( الموضوعات الكبرى ) نقلا عن ابن القيّم : « وممّا وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضل الصّديق حديث : إن الله يتجلى للناس عامة يوم القيامة ولأبي بكر خاصة. وحديث : ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ صببته في صدر أبي بكر. وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبّل شيبة أبي بكر وحديث : أنا وأبكر كفرسي رهان وحديث : إنّ الله لمّا اختار الأرواح اختار روح أبي بكر وحديث عمر : كان رسول الله عليه‌السلام وأبي [ أبو ] بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما وحديث : لو حدّثتكم بفضائل عمر عمر نوح في قومه ما فنيت وإنّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر ، وحديث : ما سبقكم أبي [ أبو ] بكر بكثرة صوم ولا صلاة وإنّما سبقكم بشيء وقر في صدره ، وهذا من كلام أبي بكر ابن عيّاش ».

ومن هنا يعلم أنّ احتجاج ( الدهلوي ) بهذا الإفك المبين ـ مع ما يدّعيه لنفسه من الفضل والعلم ـ ليس إلاّ مكابرة ومعاندة للحق وأهله ...

٩ ـ رأى عبد الحق الدّهلوي

ولقد أيّد الشيخ عبد الحق الدهلوي رأي الفيروزآبادي في ( شرح سفر

__________________

(١) تذكرة الموضوعات : ٩٣.

٢٠٨

السعادة ) بقوله : « قال المصنف : إن أمثال هذه الأحاديث ـ لاستلزامها الأفضلية من جميع الخلائق من الأنبياء وغيرهم ، أو إفادتها المساواة لسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم في رتبته ، أو خروجها عن دائرة حكم العقل والعادة ـ كلّها موضوعات ».

١٠ ـ رأي الإله آبادي

واعترف محمد فاخر الإله آبادي بوضع هذا الفرية الشّنيعة وأثبت ذلك بما لا مزيد عليه ... وبيان ذلك :

إنّ النيسابوري قال بتفسير آية الغار : « استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر ، وغاية إنجاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره ، وإلاّ لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة ، وأنه كان ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار ، وفي العلم لقوله : ما صبّ شيء في صدري إلاّ وصببته في صدر أبي بكر ... » (١).

فردّ عليه العلاّمة نور الله التستري في ( كشف العوار في تفسير آية الغار ) بقوله : « وأما ما ذكره من انضمام كون ثاني اثنين في العلم ، ثم الاستدلال عليه بقول : ما صبّ في صدري إلاّ صببته في صدر أبي بكر ، فمن فضول الكلام ولا تعلّق له بالاستدلال من الآية على أفضلية أبي بكر ، على أنّ الشيخ الفاضل خاتم محدثي الشافعية مجد الدين الفيروزآبادي ـ صاحب القاموس في اللغة ـ قد ذكر في خاتمة كتابه المشهور الموسوم بسفر السعادة : إنّ هذا الحديث وغيره مما روي في شأن أبي بكر من أشهر الموضوعات والمفتريات المعلوم بطلانها ببداهة العقل إلخ ».

فقال محمد فاخر الإله آبادي في كتابه ( درّة التحقيق في نصرة الصدّيق ) في ردّه على القاضي التستري مع الإشارة إلى كلام النيسابوري.

__________________

(١) تفسير النيسابوري ١٠ / ٩٠.

٢٠٩

« وأمّا خامسا : فلأن الحديث الذي أتى به دليلا على الثانويّة في العلم فنحن أيضا بحمد الله تعالى نعرفه من الموضوعات ، صرّح به غير واحد من الجهابذة الثقات ، وددت أنّ العلامة المستدل به لم يحتج به ، وأسقط هذه الثانوية من نضد الكلام ، لضعف الاحتجاج وإيهامه سوء الأدب ، هل يكون أحد ثانيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العلم نبيّا كان أو وليّا؟ هذا دأب من لا خلاق له من الدين ، ولا يعرف مقام سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم ، كما يذكره الشيعة في فضائل أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ، عفا الله تعالى عنا وعن العلامة وعن سائر من اجترأ مثل جرأته ، فالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والصدّيق والأئمة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ برآء عن أمثال هذه الإطراءات ، ولله در الامام الهمام ـ رحمه الله تعالى ـ حيث لم يذكر هذه الثانوية ، كما يظهر من عبارة التفسير الكبير ، ومرّ سابقا ».

أقول : وهذا الكلام يدل على بطلان الحديث المزعوم من جهات عديدة لا تخفى ، وأمّا ما شنّع به بزعمه على الشّيعة فهو منبعث من عدم معرفته بمراتب أئمة أهل البيت ومنازلهم السّامية من جهة ، ومن عدم وقوفه على الأحاديث الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقهم في هذا الباب من جهة أخرى ، وقد تقدّم منا ذكر شطر منها في مؤيّدات حديث مدينة العلم فليراجع.

ترجمة الإله آبادي

والإله آبادي من كبار محدّثي أهل السّنة ، في الهند. ترجم له وبالغ في الثناء عليه : الصديق حسن خان في ( إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء والمحدثين ).

٢١٠

١١ ـ رأي الشوكاني

وقال قاضي القضاة الشوكاني في ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) : « حديث : ما صبّ الله في صدري شيئا إلاّ وصببته في صدر أبي بكر ، ذكره صاحب الخلاصة وقال : موضوع ».

١٢ ـ بطلانه من كلام الدهلوي

ويثبت بطلان هذا الكلام المنسوب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبا وافتراء من كلام ( الدهلوي ) نفسه. فقد ذكر في ( التحفة ) أنّ كلّ حديث لا سند له لا يصغى إليه ، وقد تقدّم نصّ ابن الجوزي على أنّه من الأحاديث التي لا أثر لها لا في الصحيح ولا في الموضوع ، فمن العجيب ـ اذن ـ احتجاج ( الدهلوي ) بهذا الكلام المزعوم.

خلاصة ونقاط

فتلخّص ممّا تقدّم أمور :

الأوّل : إنّه ليس لأهل السّنة دليل يحتجّون به على اتّصاف أبي بكر بالعلم ، لا من الصحاح ولا من الموضوعات ، وإلاّ لم يحتجّوا بمثل هذا الكلام من خرافات العوام وهفوات الجهّال ...

الثاني : لقد علم من كلام ابن الجوزي أنّ هذا الكلام من أخسّ الموضوعات وأرذل المفتريات ، ولم نجد أحدا من جهابذة الحديث خالفه في هذا الحكم ، فكيف أعرض ( الدهلوي ) عن كلامه المقبول لدى الجميع فاستند إلى تجاسره في القدح في حديث مدينة العلم مع ردّ كبار الحفاظ عليه؟ إن هذا

٢١١

عجيب!! ومن هنا يظهر مجانية ( الدهلوي ) للانصاف وسلوكه طريق الغيّ والاعتساف ...

الثالث : لقد علم من كلام الفيروزابادي أنّه من الموضوعات والمفتريات المعلوم بطلانها ببداهة العقل ... فما ظنّك ب ( الدهلوي ) الّذي يحتجّ به؟!! ...

الرّابع : لقد علم من كلام ابن القيّم أنّ هذا الكلام ممّا وضعه جهلة المنتسبين إلى السّنة ... ومنه يعلم أنّ ( الدهلوي ) قد اقتفى أثر الجهلة باحتجاجه بهذا الكلام ، فعدّه حينئذ في زمرة العلماء ونظمه في سلك المحدثين ظلم قبيح.

الخامس : لقد علم من كلام ابن الجوزي أنّ هذا الكلام ممّا صدر من العوام وسمع منهم ، وأنّه لا أثر له لا في الصحيح ولا في الموضوع ... وبذلك يعرف شأن ( الدهلوي ) ...

٢١٢

دحض المعارضة

بـ « لو كان بعدي نبي لكان عمر »

٢١٣
٢١٤

قوله :

« ومثل : لو كان بعدي نبي لكان عمر ».

أقول :

إن هذا باطل ، والمعارضة به ساقطة لوجوه :

١ ـ كفر عمر سابقا

لا خلاف بين المسلمين في أنّ عمر بن الخطاب كان قد أمضى شطرا كبيرا من عمره في الشرك وعبادة الأوثان ، وهذا الأمر ثبت بالتواتر ولا يحتاج إلى الاستدلال والبرهان ، ولا يسع أحدا ـ ولو كان في غاية العصبيّة والعناد ـ جحده ، فمن المستحيل صدور هذا الكلام ـ الدال على استحقاق عمر للنبوّة ـ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه يخالف الإجماع القائم بين المسلمين على أنّ الكفر

٢١٥

مانع عن النّبوة ، والمسبوق بالكفر لا يكون نبيا.

وأمّا دلالته على استحقاقه النبوّة فواضحة جدا ، وظاهرة من كلمات القوم ويشهد بذلك :

أوّلا : أنّهم أوردوا هذا الكلام في باب فضائل عمر بن الخطّاب ...

وثانيا : أن الطيبيّ زعم بلوغ عمر درجة الأنبياء في الإلهام ، ثمّ ذكر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنّه تردّد في أنه هل هو نبي أم لا!! ثم ذكر هذا الحديث المزعوم تأييدا لكلامه ، وهذا نصّه كما جاء في ( المرقاة ) بشرح حديث أبي هريرة : « لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون فإن يك من أمتي أحد فإنّه عمر ». قال :

« قال الطيبي : هذا الشرط من باب قول الأجير : إن كنت عملت لك فوفّني حقّي ، وهو عالم بذلك ، ولكنّه يخيّل من كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه ، والمراد بالمحدّث : الملهم المبالغ فيه الذي انتهى إلى درجة الأنبياء في الإلهام ، فالمعنى : لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء يلهمون من قبل الملأ الأعلى ، فإن يك في أمتي أحد هذا شأنه فهو عمر ، جعله لانقطاع قرينه وتفوّقه على أقرانه في هذا ، كأنّه تردّد في أنه هل هو نبي أم لا ، فاستعمل إن ، ويؤيّده ما ورد في الفصل الثاني : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطّاب ، ف « لو » في الحديث بمنزلة « إن » على سبيل الفرض والتقدير ، كما في قول عمر رضي‌الله‌عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » (١).

وثالثا : لقد ذكر الشيخ أحمد السرهندي المجدّد في مكاتيبه (٢) : انّ الشيخين

__________________

(١) المرقاة في شرح المشكاة : ٥ / ٥٣١ ـ ٥٣٢.

(٢) المكتوب رقم : ٢٥١.

٢١٦

يعدّان في الأنبياء ، وهما محفوفان بفضائل الأنبياء. ثمّ احتجّ لذلك بهذا الكلام الباطل.

ورابعا : قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في ( اللمعات في شرح المشكاة ) بشرحه : « قوله : لكان عمر بن الخطاب. لعلّه صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك لأجل كون عمر ملهما محدّثا ، يلقي الملك في روعه الحق ، وله مناسبة بعالم الوحي والنبوة. والله أعلم ».

وخامسا : قال الشيخ ولي الله الدهلوي : « النوع التاسع والثلاثون : لو كان بعده صلّى الله عليه وسلّم نبي لكان عمر ، فقد روي عن عقبة بن عامر أنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب. أخرجه الترمذي » (١).

٢ ـ عمر غير معصوم

اتفق المسلمون على أنّ عمر لم يكن معصوما. والشواهد على هذا من كلامه هو وغيره كثيرة جدا ، ومن لم يكن معصوما فلا يجوز أن يكون نبيّا البتّة ، فالكلام المحتجّ به ـ الدالّ على جواز نبوّة عمر لو كان بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ ـ باطل.

٣ ـ استلزامه أفضليّة عمر من أبي بكر

ثمّ إنّ هذا الكلام يستلزم أن يكون عمر أفضل من أبي بكر ، ولكنهم أجمعوا على أنّ الأفضل منهما هو أبوبكر ، فهذا دليل آخر على بطلان هذا الحديث

__________________

(١) قرة العينين : ١٨.

٢١٧

المزعوم.

ومن الغريب ذكر بعضهم إيّاه في الأدلّة الدالّة على أنّ الأفضلية بترتيب الخلافة ، قال التفتازاني في ( تهذيب الكلام ) : « والأفضلية بترتيب الخلافة ، أما إجمالا : فلأنّ اتّفاق أكثر العلماء على ذلك يشعر بوجود دليل لهم عليه. وأمّا تفصيلا فلقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ) وهو أبوبكر. ولقوله عليه‌السلام : والله ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيّين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر. وقوله : خير أمّتي أبوبكر ثم عمر.

وقال : لو كان بعدي نبي لكان عمر. وقال : عثمان أخي ورفيقي في الجنة ».

لكنّ الملاّ يعقوب اللاّهوري ـ نبّه إلى خطأ هذا الاستدلال فقال في ( شرح التهذيب ) : « ولقوله صلّى الله عليه وسلّم : خير أمتي أبوبكر ثم عمر. وقال عليه‌السلام : لو كان بعدي نبي لكان عمر.

لا شكّ أنّ هذا وما بعده يدل على فضل من ورد في فضله ، وأما على الوجه الذي يدّعيه أهل الحق ففي ثباته له نوع تردّد ، ولو قرّرنا هذا الدليل بأنّه لو كان بعده عليه‌السلام نبي لكان هو خيرا من غيره وأنّ عمر وحده صالح لنيل النبوة على تقدير عدم ختمها ، يلزم أن يكون عمر أفضل من أبي بكر ، والتخصيص يخلّ بالتنصيص ».

٤ ـ بطلانه ببداهة العقل

إنّ هذا الحديث المزعوم من الموضوعات المعلوم بطلانها ببداهة العقل ، كسائر ما روي في شأن أبي بكر وعمر ، وقد أورد الفيروزآبادي بعضها ـ وقد تقدّم نصّ كلامه ـ. بل إنّه أعظم وأطمّ من تلك كما هو واضح.

٢١٨

٥ ـ ضعف أسانيده

وهو ـ بالإضافة الى ما تقدّم ـ ضعيف سندا ، ولنوضّح ذلك فيما يلي : إنهم يروونه ـ في الأكثر ـ من حديث « عقبة بن عامر » ومداره على « مشرح ابن هاعان ».

قال الترمذي : « حدثنا سلمة بن شبيب ، نا المقري ، عن حياة بن شريح ، عن بكر بن عمرو ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطّاب. هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديث مشرح بن هاعان » (١).

ضعف مشرح بن هاعان

فنقول : إنّ « مشرح بن هاعان » من ضعفاء المحدّثين ، ذكره ابن الجوزي في ( الضعفاء والمتروكين ) قائلا : « مشرح بن هاعان المغافري المصري لا يحتج به ». وقال بعد القدح. فيه وهو الحديث الثاني من فضائل عمر : « قال ابن حبان : انقلبت على مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به » (٢).

وقال الذهبي : « د ت ق : مشرح بن هاعان المصري ، عن عقبة بن عامر ، صدوق ، ليّنه ابن حبان ، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين ثقة ، وقال ابن حبان : يكنى أبا مصعب ، يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها. روى عنه الليث وابن لهيعة.

__________________

(١) صحيح الترمذي : ٥ / ٦١٩.

(٢) الموضوعات : ١ / ٣٢١.

٢١٩

فالصواب ترك ما انفرد به. وذكره العقيلي فما زاد في ترجمته من أن : قيل : إنه جاء مع الحجاج إلى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة » (١).

وفي ( حسن المحاضرة ) بترجمته : « قال ابن حبان : يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها » (٢).

فظهر ضعف الرجل وسقوط حديثه فقد أورده ابن الجوزي في ( الضعفاء والمتروكين ) والعقيلي في ( الضعفاء ) وقال ابن الجوزي : « لا يحتج به » ، وقال ابن حبّان : « انقلبت عليه صحائفه فبطل الاحتجاج به ».

ولأنّه جاء مع الحجاج إلى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة ، وأيّ قدح أعلى من هذا؟ وهل يجوز الاحتجاج بحديث من هذا حاله وفعله؟

ومن هنا يظهر أيضا سقوط توثيق ابن معين ـ على فرض ثبوته ـ له ، على أنّ الجرح المفسّر سببه مقدّم على التعديل كما تقرّر في محلّه ، وكأنّ الذهبي استصغر هذه الطامّة من الرّجل فقال : صدوق!! ...

ويزيد سقوط الحديث وضوحا قول ابن حبان : « يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها ». وقد علمت أنّ هذا الحديث منها ، وقوله أيضا : « فالصواب ترك ما انفرد به » وقد علمت من كلام الترمذي انفراده به ...

ضعف بكر بن عمرو

ثم إن راويه عن مشرح هو : « بكر بن عمرو المغافري » وهو أيضا مطعون فيه ، قال ابن حجر : « قال الحاكم : سألت الدار قطني عنه فقال : ينظر في أمره » (٣)

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٤ / ١١٧.

(٢) حسن المحاضرة : ١ / ٢٧٠.

(٣) تهذيب التهذيب : ١ / ٤٨٦.

٢٢٠