نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق ، لأنّ حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة ، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة ، فإنّهم تعلّموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات ، وآدم لمّا جاء ما كان عالما لأنّه ما تعلّم وما رأى معلّما ، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبّروا وتكبّروا وقالوا : ( نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ونعلم حقائق الأشياء ، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الربّ تعالى ، ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ : أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فصغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم ، فغرقوا في العجز فقالوا : ( لا عِلْمَ لَنا ) ، فقال تعالى : ( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر.

فتقرّر الأمر عند العقلاء : أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة ، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل ، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين ، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم ، وكان يقول : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ، وقال لقومه : أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله ، وإنّما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى لأنّه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلّم والتعليم الانساني ، فقال تعالى : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) ».

وقال القاضي عياض :

« فصل : ومن معجزاته الباهرة : ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم ، وخصّه به من الاطّلاع على جميع مصالح الدنيا والدين ، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أمته ، وما كان في الأمم قبله ، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه ، وحفظ شرائعهم وكتبهم ، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيّام الله فيهم ، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم ، والمعرفة بمددهم وأعمارهم ، وحكم حكمائهم ، ومحاجّة كلّ أمّة من الكفرة ،

١٦١

ومعارضة كلّ فرقة من الكتابيين بما في كتبهم ، وإعلامهم بأسرارها ومخبّآت علومها ، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيره.

إلى الاحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإحاطة بضروب فصاحتها ، والحفظ لأيّامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها ، والتخصيص بجوامع كلمها ، إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة والحكم البيّنة ، لتقريب التفهيم للغامض والتبيين للمشكل.

إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل ، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكلّ شيء مستحسن مفضّل لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئا إلاّ من جهة الخذلان ، بل كلّ جاحد له وكافر به من الجاهلية إذا سمع ما يدعو إليه صوّبه واستحسنه ، دون طلب إقامة برهان عليه ، ثمّ ما أحلّ لهم من الطّيبات وحرّم عليهم من الخبائث ، وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدود عاجلا والتخويف بالنار آجلا.

إلى الاحتواء على ضروب العلوم وفنون المعارف كالطب والعبادة والفرائض والحساب والنسب وغير ذلك من العلم ، ممّا اتّخذ أهل هذه المعارف كلامه عليه‌السلام فيها قدوة وأصولا في علمهم ...

هذا ، مع أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يكتب ، ولكنّه أوتي علم كلّ شيء ... ولا سبيل إلى جحد الملحد بشيء ممّا ذكرناه ، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه ، إلاّ قولهم : أساطير الأوّلين ، وإنّما يعلّمه بشر ، فردّ الله قولهم بقوله : ( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ... » (١).

وقال الرازي في بيان الحجج على أفضليّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سائر الأنبياء عليهم‌السلام :

« الحجة السادسة عشرة : قال محمّد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير

__________________

(١) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى : ٤١٢ ـ بشرح القاري.

١٦٢

هذا المعنى : إنّ كلّ أمير فإنّه مزيّته على قدر رعيّته ، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون إمارته ومزيّته بقدر تلك القرية ، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال تلك القرية ، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرّسالة ، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنّما يعطى من هذه الكنوز الروحانيّة بقدر ذلك الموضع ، والمرسل إلى كلّ أهل الشرق والغرب ـ إنسهم وجنّهم ـ لا بدّ وأن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب.

وإذا كان كذلك كان نسبة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ، ولو كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله ، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحدّ الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقّه : ( فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ) وفي الفصاحة إلى أن قال : أوتيت جوامع الكلم ، وصار كتابه مهيمنا على الكتب وصارت امّته خير الأمم » (١).

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكيّة ) بشرح قول البوصيري :

« لك ذات العلوم من عالم

الغيب ومنها لآدم الأسماء ».

قال « ... واحتاج الناظم إلى هذا التفصيل مع العلم به ممّا قبله ، لأنّ آدم ميّزه الله تعالى على الملائكة بالعلوم التي علّمها له ، وكانت سببا لأمرهم بالسجود والخضوع له ، بعد استعلائهم عليه بذمّه ومدحهم أنفسهم بقولهم ( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ ) إلخ ، فربما يتوهم أنّ هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ، إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل ، فردّ ذلك التوهّم ببيان أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له من العلوم إلاّ مجرّد العلم بأسمائها ، وأن الحاصل لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم هو العلم بحقائقها ومسمّياتها ، ولا ريب أن

__________________

(١) تفسير الرازي.

١٦٣

العلم بهذا أعلى وأجلّ من العلم بمجرّد أسمائها ، لأنّها إنّما يؤتى بها لتبيين المسمّيات فهي المقصودة بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما.

ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم صلّى الله عليه وسلّم انّما هو خلق نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من صلبه ، فهو المقصود بطريق الذّات وآدم بطريق الوسيلة ، ومن ثمّ قال بعض المحققين : إنّما سجد الملائكة لأجل نور محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي في جبينه ... ».

وقال الشيخ خالد الأزهري شارحا قول البوصيري :

« فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم

وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفا من البحر أو رشفا من الديم

وواقفون لديه عند حدّهم

من نقطة العلم أو من شكلة الحكم »

قال الأزهري : « ومعنى الأبيات الثلاثة : إنّه صلّى الله عليه وسلّم علا جميع النبيين في الخلقة والسجيّة ، ولم يقاربوه في العلم ولا في الكرم ، كما سيأتي بيانه في قوله : يا أكرم الرسل ، وفي قوله : ومن علومك علم اللوح والقلم. وكلّ النبيّين أخذ من علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدار غرفة من البحر أو مصّة من المطر الغزير ، وكلّهم واقفون عند غايتهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم ، وخصّ الشكلة بالحكم لزيادة التفهيم بها على النقطة » (١).

وكذا قال العصام بشرح الأبيات المذكورة في ( شرح البردة ) فقال في شرح الأول : « قال : لم يدانوه ـ ولم يقل : لم يدانه كلّ واحد منهم ، لأنّ ذلك أبلغ ، إذ معناه أنهم لو جمعوا وقوبلوا بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام وحده لم يدانوه ، فكيف لو قوبل واحد بواحد ... وفي قوله : في كرم ـ دلالة على أنهم لا يدانوه في علم وحده ولا في كرم وحده ، لا أنهم لا يدانوه في العلم والكرم من حيث المجموع »

__________________

(١) شرح البردة الأزهري : ٦٣.

١٦٤

انتهى ملخصا.

وقال في شرح الثاني : « فإن قلت : هم عليهم الصّلاة والسّلام سابقون على النّبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يلتمسون غرفا من بحره؟ قلت : هم سألوا منه مسائل مشكلة في علم التوحيد والصفات ، فأجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحلّ مشكلاتهم ، وبين يديه جرت المحاجّة بين آدم صفي الله وبين موسى كليم الله ليلة المعراج ، وإليه أشار بقوله : حاج موسى آدم فحج آدم موسى. أو تقول : « الاعتبار بتقدّم الروح العلوي لا القالب السفلي ، وروح نبيّنا مقدم على سائر الأنبياء ، وإليه أشار بقوله : كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. والحاصل : كلّ الأنبياء من نبينا لا من غيره استفادوا العلم وطلبوا الشفقة إذ هو البحر من العلم والسّحاب من الجود وهم كالأنهار والأشجار ». انتهى ملخصا.

فظهر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة ، وكلّهم ملتمس منه غرفا من البحر أو رشفا من الديم ، وهذه المراتب بعض مراتب علم « مدينة العلم » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمير المؤمنين علي عليه‌السلام أعلم منهم جميعا ، لأنّه « باب مدينة العلم » ولأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على أنّ من أراد « المدينة » فليأتها من « بابها ».

اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلميّة

ولقد بلغت دلالة حديث مدينة العلم على أعلمية الإمام علي عليه‌السلام حدّا من الظهور والوضوح حتّى صرّح بذلك جماعة من علماء أهل السّنة ولنذكر كلمات بعضهم :

قال شهاب الدين أحمد في ( توضيح الدلائل ) : « الباب الخامس عشر ـ في أنّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم دار حكمة ومدينة علم وعلي لهما باب ، وأنّه أعلم الناس بالله تعالى وأحكامه وآياته وكلامه بلا ارتياب :

١٦٥

عن مولانا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : يا علي إنّ الله أمرني أن أدنيك فأعلّمك لتعي وأنزلت هذه الآية : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأنت أذن واعية لعلمي. رواه الحافظ الامام أبو نعيم في الحلية ، ورواه سلطان الطريقة وبرهان الحقيقة الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي في الشوارق بإسناده إلى عبد الله بن الحسن رضي الله تعالى عنهما ولفظه قال : حين نزلت هذه الآية ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم لعلي رضي الله تعالى عنه : سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ، قال علي كرم الله تعالى وجهه : فما نسيت شيئا بعده ، وما كان لي أن أنسى. قال شيخ المشايخ في زمانه وواحد الأقران في علومه وعرفانه الشيخ زين الدين أبوبكر محمد بن علي الخوافي قدس الله تعالى سرّه : فلذا اختص علي كرم الله وجهه بمزيد العلم والحكمة ، حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقال عمر : لو لا علي لهلك عمر ».

وقال ابن روزبهان بجواب قول العلامة الحلي : « التاسع عشر ـ في مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم قال : لم يكن احد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : سلوني إلاّ علي بن أبي طالب ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

قال : « هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع ، واطّلاعه على أشتات العلوم والمعارف ، وكلّ هذه الأمور مسلّمة ولا دليل على النصّ ، حيث أنه لا يجب أن يكون الأعلم خليفة ، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمّة ، ولو لم يكن أبوبكر أصلح للامامة لما اختاروه كما مرّ ».

وقال المناوي بشرح حديث مدينة العلم ما نصه : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. فإنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم المدينة الجامعة لمعالي الديانات كلّها ، ولا بدّ للمدينة من باب ، فأخبر أنّ بابها هو علي كرم الله وجهه ، فمن أخذ طريقه دخل المدينة ، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.

١٦٦

وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف : أخرج الكلاباذي أنّ رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عليا هو أعلم مني ، فقال : أريد جوابك ، قال : ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغره بالعلم غرا. وكان أكابر الصحب يعترفون له بذلك ، وكان عمر يسأله عمّا أشكل عليه : جاءه رجل فسأله فقال : هاهنا علي فاسأله ، فقال : أريد أن أسمع منك يا أمير المؤمنين ، قال : قم لا أقام الله رجليك ، ومحا اسمه من الديوان. وصحّ عنه من طرق أنه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم ، حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئا من البعوث لمشاورته في المشكل.

وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال : ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال : لا والله.

وقال الحرالي : قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه » (١).

وفيه : « أنا دار الحكمة ـ وفي رواية : أنا مدينة الحكمة ـ وعلي بابها ، أي علي ابن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها ، ومن زعم ان المراد بقوله : وعلي بابها ـ أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تمحّل لغرضه الفاسد ، لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه.

أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعا : ما أنزل الله عز وجل يا أيّها الذين آمنوا إلاّ وعلي رأسها وأميرها. وأخرج عن ابن مسعود قال : كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم : فسئل عن علي كرّم الله وجهه فقال : قسّمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحدا. وعنه أيضا : أنزل القرآن

__________________

(١) فيض القدير : ١ / ٤٦ ـ ٤٧.

١٦٧

على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وأمّا علي فعنده منه علم الظاهر والباطن. وأخرج أيضا : علي سيد المسلمين وإمام المتقين. وأخرج أيضا : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. وأخرج أيضا : علي راية الهدى. وأخرج أيضا : يا علي إنّ الله أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي ، وأنزلت عليّ هذه الآية ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأخرج أيضا عن ابن عباس : كنّا نتحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى علي كرّم الله وجهه سبعين عهدا لم يعهد إلى غيره.

والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى » (١).

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكّية ) : « تنبيه : ممّا يدلّ على أنّ الله سبحانه اختص عليا من لعلم بما تقصر عنه العبارات قوله صلّى الله عليه وسلّم : أقضاكم علي ، وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، وقوله : أنا دار الحكمة ـ وفي رواية أنا مدينة العلم ـ وعلي بابها ».

وقال ابن حجر أيضا في ( تطهير الجنان ) في الدفاع عن معاوية : « السادس : خروجه على علي كرّم الله وجهه ومحاربته له ، مع أنّه الامام الحق بإجماع أهل الحل والعقد ، والأفضل الأعدل الأعلم بنصّ الحديث الحسن ـ لكثرة طرقه ـ خلافا لمن زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن اطلق حسنه : أنا مدينة العلم وعلي بابها ... ».

واما استلزام الأعلمية للأفضلية فهو موضع وفاق بين العلماء والعقلاء. لأنّ العلم أشرف الفضائل وأعلى المناقب وأسنى المراتب ، وإن من فاق الناس علما كان أفضلهم وأشرفهم مقاما وأعلاهم درجة ...

وبالرّغم من تقرّر هذا المعنى وثبوته ، ولكن من المناسب إيراد عبارات بعض كبار العلماء لمزيد الوضوح والتّبيين :

قال الحكيم الترمذي : « الأصل الخامس والثلاثون والمائة ـ حدثنا إسماعيل ابن نصر بن راشد قال : حدّثنا مسدّد قال : حدّثنا بشر بن المفضل قال : حدّثنا

__________________

(١) فيض القدير : ١ / ٤٦.

١٦٨

عمر مولى عقدة قال : سمعت أيوب بن صفوان يذكر عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : أيّها الناس من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه ، وإن لله سرايا من الملائكة تحلّ وتقف على مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله ، ألا فارتعوا في رياض الجنة. قالوا : وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال : مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكّروه بأنفسكم.

فمنزلة الله عند العبد إنّما هو على قلبه على قدر معرفته إيّاه وعلمه وهيبته منه وإجلاله له ، وتعظيمه والحياء منه والخشية منه والخوف من عقابه والوجل عند ذكره وإقامة الحرمة لأمره ونهيه ، وقبول منته وروية تدبيره ، والوقوف عند احكامه وطيب النفس بها ، والتسليم له بدنا وروحا وقلبا ، ومراقبة تدبيره في أموره ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه ، وترك مشيّاته لمشيّاته ، وحسن الظن به في كلّ ما نابه.

والناس في هذه الأشياء على درجات يتفاضلون ، فمنازلهم عند ربهم على قدر حظوظهم من هذه الأشياء ، وإنّ الله تبارك اسمه أكرم المؤمنين بمعرفته ، فأوفرهم حظا من المعرفة أعلمهم به ، وأعلمهم بهم أوفرهم حظا من هذه الأشياء ، وأوفرهم حظا منها أعظمهم منزلة عنده ، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة ، وعلى قدر نقصانه من هذه الأشياء ينتقص حظّه وينحط درجته وتبعد وسيلته ويقل علمه به وتضعف معرفته إيّاه ويسقم إيمانه ويملكه نفسه. قال الله تبارك اسمه ( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) فإنّما فضّل الخلق بالمعرفة له والعلم به لا بالأعمال ، واليهود والنصارى وسائر أهل الملل قد علموا أعمال الشريعة فصارت هنا هباء منثورا ، فبالمعرفة تزكو الأعمال ، وبها تقبل منهم ، وبها تطهر الأبدان ، فمن فضّل بالمعرفة فقد أوتي حظّا من العلم به ، ومن فضل بالعلم به يكون هذه الأشياء التي وصفنا موجودة عنده » (١).

__________________

(١) نوادر الأصول ـ الأصل : ١٣٥.

١٦٩

وقال الغزالي في ( الرّسالة اللّدنية ) : « اعلم أنّ العلم هو تصوّر النفس الناطقة المطمئنّة حقائق الأشياء وصورها المجرّدة عن المواد بأعيانها وكيفيّاتها وكمّياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة وان كانت مركبة ، فالعالم هو المحيط المدرك المتصوّر ، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس ، وشرف العلم بقدر شرف معلومه ورتبة العالم بحسب رتبة العلم.

ولا شك أنّ أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله تعالى الصانع المبدع الحق الواحد ، فعلمه ـ وهو علم التوحيد ـ أفضل العلوم وأجلّها وأكملها ، وهذا العلم الضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء ، كما قال صاحب الشّرع عليه الصلاة والسلام : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، وأمر بالسّفر في طلب العلم فقال : اطلبوا العلم ولو بالصين.

وعالم هذا العلم أفضل العلماء ، وبهذا السبب خصّهم الله تعالى بالذكر في أجلّ المراتب ، فقال : ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ) فعلماء التوحيد لا بإطلاق هم الأنبياء ، وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وهذا العلم وإن كان شريفا في ذاته كاملا بنفسه لا ينفي سائر العلوم ، بل لا يحصل إلاّ بمقدمات كثيرة ، وتلك المقدمات لا تنتظم إلاّ عن علوم شتى ، مثل علم السماوات والأفلاك وجميع علوم المصنوعات ، ويتولّد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكرها بأقسامها في مواضعها » وقد ذكر الغزالي في الباب الأوّل من كتاب العلم من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فضل العلم والتّعليم والتعلّم وشواهده من النقل والعقل ... وبحث حول ذلك بالتّفصيل (١).

وقال الفخر الرازي في تفسيره :

« واعلم أنه يدل على فضيلة العلم : الكتاب والسّنة والمعقول ، أمّا الكتاب فوجوه :

__________________

(١) احياء علوم الدين : ١ / ٥ ـ ٩.

١٧٠

الأول : إنّ الله تعالى سمّى العلم بالحكمة ، ثم أنّه تعالى عظّم أمر الحكمة ، وذلك يدل على عظم شأن العلم.

الثاني : قوله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ).

الثالث : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) المراد بأولي الأمر العلماء في أصحّ الأقوال ، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس.

ثم انظر إلى هذه المرتبة ، فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال : ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) وقال : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ثم إنّه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) وقال تعالى : ( كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ).

الرابع : ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ).

واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف ، أوّلها : للمؤمنين من أهل بدر قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) إلى قوله : ( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) والثانية : للمجاهدين قوله : ( وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ) والثالثة : للصالحين : ( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ) والرابعة : للعلماء( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ).

فالله تعالى فضّل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات ، وفضّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ، وفضّل الصالحين على هؤلاء بدرجات ، ثم فضّل العلماء على جميع الأصناف بدرجات.

فوجب كون العلماء أفضل الناس.

الخامس : قوله : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) وإن الله تعالى وصف

١٧١

العلماء في كتابه بخمس مناقب :

أحدها : الايمان : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا ).

وثانيها : التوحيد والشهادة : ( شَهِدَ اللهُ ) إلى قوله ( وَأُولُوا الْعِلْمِ ).

وثالثها : البكاء : ( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ).

ورابعها : الخشوع : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ).

وخامسها : الخشية : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ).

وأمّا الأخبار فوجوه ... » (١).

وقال النيسابوري في تفسيره : « البحث الثالث في فضل العلم : لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء ، وممّا يدل على فضله الكتاب والسّنة والمعقول .. » فذكر الآيات التي ذكرها الرازي ، ثم الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في فضل العلم والعلماء ... » (٢).

كما خصّ السمهودي الباب الأول من كتاب ( جواهر العقدين ) للكلام « في إيراد الدلائل الدالة على فضل العلم والعلماء ، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بعضهم والأذى لبعضهم ، وقد تظاهرت الآيات وصحيح الأخبار والآثار وتواترت ، وتطابقت الدلائل العقلية والنقليّة وتوافقت على هذا الغرض الذي أشرنا إليه ، وعوّلنا في هذا الباب عليه ... ».

وقال المولوي عبد العلي في ( شرح مسلم ) في الكلام على مقامات الأولياء والتفاضل بينهم ، قال بعد كلام له : « لأنّ التفاضل ليس إلاّ بالعلم ، والفضل بما عداه غير معتد به ».

__________________

(١) تفسير الرازي : ١ / ١٧٨.

(٢) تفسير النيسابوري ١ / ٢٤١.

١٧٢

قصّة استخلاف آدم عليه‌السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ).

قال الرازي :

« اعلم أنّ الملائكة لمّا سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذرّيته ، وإسكانه تعالى إيّاهم في الأرض ، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى : ( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصّل لهم ذلك المجمل ، فبيّن تعالى لهم من فضل آدم عليه‌السلام ما لم يكن ذلك معلوما لهم ، وذلك بأن علّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم عليهم ، ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم ، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي » (١).

قال : « المسألة السادسة : هذه الآية دالّة على فضل العلم ، فإنه سبحانه ما اظهر كمال حكمته في خلقة آدم عليه‌السلام إلاّ بأن أظهر علمه ، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم » (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١ / ١٧٥.

(٢) المصدر : ١ / ١٧٨.

١٧٣

قال : « ثم خذ من أوّل الأمر ، فإنه سبحانه لمّا قال ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فلما قالت الملائكة ( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) قال سبحانه ( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) فأجابهم سبحانه بكونه عالما ، فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جوابا لهم وموجبا لسكوتهم ، وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم ، وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وان كانت بأسرها في نهاية الشرف إلاّ أنّ صفة العلم أشرف من غيرها.

ثم إنّه سبحانه إنّما أظهر فضل آدم عليه‌السلام بالعلم ، وذلك يدل أيضا على أنّ العلم أشرف من غيره.

ثم إنّه سبحانه لمّا أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلي ، وذلك يدل على أنّ تلك المنقبة إنّما استحقّها آدم عليه‌السلام بالعلم.

ثم إنّ الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس ، والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم ، فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقا ، والنفاق أخسّ المراتب ، قال تعالى : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أو تقليدا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبا للافتخار ببركة العلم » (١).

وقال بتفسير ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... ).

« اعلم أنّ هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر ، وهو أنّه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة ، وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أوّلا ، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيا ، ثمّ بلوغه في العلوم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم ، وذكر الآن كونه مسجودا للملائكة » (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١ / ١٩٩.

(٢) تفسير الرازي : ١ / ٢١١.

١٧٤

وهكذا قال بتفسير الآيات المذكورة كلّ من النيسابوري في تفسيره ( غرائب القرآن ) والبيضاوي في ( تفسير : ١٤٠ ) والخطيب الشربيني في ( السراج المنير ١ / ٤٨ ) وغيرهم من مشاهير المفسّرين.

المشابهة بين علي وآدم عليهما‌السلام

ومن لطائف المقام أنّ العاصمي ذكر ـ لإثبات المشابهة بين أمير المؤمنين وآدم عليهما‌السلام في العلم والحكمة أنه كما أنّ آدم فضّل على جميع الملائكة بالعلم ـ وهو أفضل الخصال ـ فكذلك سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام فضّل على جميع الأمّة بالعلم والحكمة ـ ما خلا الخلفاء الماضين ـ.

إلاّ أنّه باستدلاله على هذا المطلب بحديث : « يا علي ملئت علما وحكمة » ، وبحديث : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » قد أبطل ـ من حيث لا يشعر ـ استثنائه الخلفاء الثلاثة ، وأيّد استدلال أهل الحق بحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » على أفضليّة الامام عليه‌السلام ـ عن طريق الأعلمية ـ عن جميع الخلائق سوى أخيه وصنوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا نصّ كلامه في ( زين الفتى ) : « وأمّا العلم والحكمة ، فإنّ الله تعالى قال لآدم عليه‌السلام ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) ففضّل بالعلم العباد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون واستحق بذلك منهم السجود له ، فكما لا يصير العلم جهلا والعالم جاهلا فكذلك لم يصر آدم المفضّل بالعلم مفضولا ، وكذلك حال من فضّل بالعلم فأمّا من فضل بالعبادة فربّما يصير مفضولا ، لأنّ العابد ربّما يسقط عن درجة العبادة إن تركها معرضا عنها ، أو يتوانى فيها تغافلا عنها فيسقط فضله ، ولذلك قيل : بالعلم يعلو ولا يعلى ، والعالم يزار ولا يزور ومن ذلك وجوب وصف الله سبحانه بالعلم والعالم ، وفساد الوصف له بالعبادة والعابد ، ولذلك منّ على نبيّه عليه‌السلام بقوله : ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ )

١٧٥

( فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) فعظّم الفضل عليه بالعلم دون سائر ما أكرمه به من الخصال والأخلاق ، وما فتح عليه من البلاد والآفاق.

وكذلك المرتضى ـ رضوان الله عليه ـ فضّل بالعلم والحكمة ففاق بهما جميع الأمة ما خلا الخلفاء الماضين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ولذلك وصفه الرسول عليه‌السلام بهما حيث قال : يا علي ملئت علما وحكمة ، وذكر في الحديث عن المرتضى رضوان الله عليه أنّ النبي صلّى الله عليه كان ذات ليلة في بيت أمّ سلمة فبكرت إليه بالغداة ، فإذا عبد الله بن عباس بالباب ، فخرج النبي صلّى الله عليه إلى المسجد وعلي عن يمينه وابن عباس عن يساره ، فقال النبي عليه‌السلام : يا علي ما أوّل نعم الله عليك؟ قال : أن خلقني فأحسن خلقي ، قال : ثم ما ذا؟ قال : أن عرّفني نفسه ، قال : ثم ما ذا؟ قال قلت : وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. قال : فضرب النبي صلّى الله عليه يده على كتفي وقال : يا علي ملئت علما وحكمة ولذلك قال النبي صلّى الله عليه : أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي بعض الروايات : أنا دار الحكمة وعلي بابها ».

٢ ـ دلالته على العصمة

إنّ حديث مدينة العلم يدلّ على عصمة سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام ، ولا ريب حينئذ في خلافته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ...

وأمّا دلالته على العصمة فقد أفصح عنها المحقّقون من أهل السّنة ، قال إسماعيل بن سليمان الكردي في ( جلاء النظر في دفع شبهات ابن حجر ) بعد كلام له : « وإيّاك والاغترار بظواهر الآثار والأحوال من التزيّي بزيّ آثار الفقر ، كلبس المرقّعات ، وحمل العكاز وغير ذلك ، لأنها ليست نافعة لمن اتصف بها وهو ليس على شيء من المعرفة بالله ، بل قد يكون المتصف بها صاحب انتقاد على المشايخ

١٧٦

بنظره إلى نفسه ، حيث أنه يرى حقيقة الأمر عنده دون غيره ، وكثير من اهل هذا الشأن هلكوا في أودية الحيرة ، لأنّهم اغتراهم الجهل المركب ، فلا يدرون ولا يدرون أنّهم لا يدرون ، كابن تيميّة وابن المقري والسّعد التفتازاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم ، فإنّ اعتراضهم على معاصريهم وعلى من سبق من الموتى دال على حصرهم طريق الحق عندهم لا غير.

وقد زاد ابن تيميّة بأشياء ومن جملتها : ما ذكره الفقيه ابن حجر الهيتمي ـ رحمه‌الله ـ في فتاواه الحديثية ، عن بعض أجلاّء عصره أنّه سمعه يقول ـ وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية ـ : إنّ سيدنا عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ له غلطات وأيّ غلطات ، وإن سيّدنا علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان!! فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عمر وعلي رضي الله عنهما بزعمك؟ أما سمعت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حقّ سيدنا علي : أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ ... ».

فإنّ ظاهر عبارته واستدلاله بحديث مدينة العلم في الردّ على ذاك المتعصّب العنيد دلالة هذا الحديث الشريف على عصمة الامام عليه‌السلام ...

وقال المولوي نظام الدين السهالوي الأنصاري في ( الصبح الصادق ) ما نصّه : « إفاضة ـ قال الشيخ ابن همام في فتح القدير ـ بعد ما أثبت عتق أمّ الولد وانعدام جواز بيعها عن عدّة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وبالأحاديث المرفوعة ، واستنتج ثبوت الإجماع على بطلان البيع ـ ممّا يدلّ على ثبوت ذلك الإجماع ما أسنده عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال : سمعت عليا يقول : اجتمع رأيي ورأي عمر في أمّهات الأولاد أن لا يبعن ، ثمّ رأيت بعد أن يبعن ، فقلت له : فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة ، فضحك علي رضي الله تعالى عنه.

واعلم أن رجوع علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقتضي أنّه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرّر الإجماع ، والمرجّح خلافه ، وليس يعجبني أنّ لأمير المؤمنين

١٧٧

شأنا يبعد اتباعه أن يميلوا إلى دليل مرجوح ورأي مغسول ومذهب مرذول ، فلو كان عدم الاشتراط أوضح لا كوضوح شمس النهار كيف يميل هو إليه ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ، رواه الصحيحان ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الترمذي ، فالانقراض هو الحق.

لا يقال : إن الخلفاء الثلاثة أيضا أبواب العلم ، وقد حكم عمر بامتناع البيع. لأنّ غاية ما في الباب أنهما تعارضا ، ثم المذهب أن أمير المؤمنين عمر أفضل ، وهو لا يقتضي أن يكون الأفضليّة في العلم أيضا ، وقد ثبت أنه باب دار الحكمة ، والحكمة حكمه ».

ومفاد هذا الكلام دلالة حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » على عصمة الامام عليه‌السلام ، وحينئذ تكون دلالة حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ثابتة عليها بالأولويّة ، لما سيأتي عن ابن طلحة قوله : « لكنّه صلّى الله عليه وسلّم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فتونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعمّ نفعا من الحكمة ، خصص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر ».

٣ ـ دلالته على أنّ الامام واسطة العلوم

ويدل حديث مدينة العلم على أنّ الأمّة يجب أن تستمدّ العلوم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا شرف يتضاءل عنه كلّ شرف ، وفضيلة ليس فوقها فضيلة ، ومرتبة تثبت الأفضليّة فضلا عن غيرها من الأدلّة ... ومن هنا أيضا تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بلا كلام :

قال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني في ( الروضة الندية ) بعد تصحيح الحديث : « نعم ، ولعلّك تقول : كيف حقيقة هذا التركيب النبوي ،

١٧٨

أعني قوله : أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ فأقول : الكلام فيه استعارة تخييليّة ومكنيّة وترشيح ، وذلك أنّه شبّه العلم بمحسوس من الأموال يحاز ويحرز ، لأنّ بين العلم والمال تقارن في الأذهان ، ولذلك يقرن بينهما كثيرا ، مثل ما في كلام الوصي عليه‌السلام : العلم خير من المال ، في كلامه المشهور الثابت لكميل بن زياد ، وفي الحديث النبوي : منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا ، فشبّه العلم بالمال بجامع النفاسة في كلّ منهما ، والحرص على طلبهما والفخر بحيازتهما ، ولذلك قال الشافعي رحمه‌الله :

قيمة المرء علمه عند ذي العلم

وما في يديه عند الرّعاع

وإذا ما جمعت علما ومالا

كنت عين الوجود بالإجماع

ولمّا شبّه العلم بالمال أثبت له ما هو من لوازم المال ، وهو ما يجمعه ويحفظ فيه من المكان ، وجعل المكان المدينة ، لأنّه لم يرد نوعا من العلم مشبّها بنوع من المال ، بل علوم جمة واسعة من فنون مختلفة كالأموال المتعددة الأنواع التي لا يحفظها إلاّ مدينة ، ثم طوى ذكر المشبّه به أعني المال كما هو شأن المكنيّة ، ورمز إليه بلازمه وهو المدينة استعارة تخييلّية ، ثم أثبت لها الباب ترشيحا ، مثل قولهم : أظفار المنيّة نشبت بفلان ، ثم حمل ضمير قوله : مدينة العلم على ضمير نفسه صلّى الله عليه وسلّم فأخبر عنه بها ، وأخبر عن علي عليه‌السلام بأنه بابها ، فلمّا كان الباب للمدينة من شأنه أن يجلب منه إليها منافعهما ويستخرج منه إلى غيرها مصالحها كان فيه إيهام أنه صلّى الله عليه وسلّم يستمدّ من غيره بواسطة الباب الذي هو علي عليه‌السلام ، دفع صلّى الله عليه وسلّم هذا الإيهام بقوله : « فمن أراد العلم فليأت من الباب » ، إخبارا بأنّ هذا باب تستخرج منه العلوم وتستمد بواسطته ، ليس له من شأن الباب إلاّ هذا ، لا كسائر الأبواب في المدن ، فإنّها للجلب إليها والإخراج عنها ، فلله درّ شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه ، ويحتمل وجوها من التخريج أخر ، إلاّ أنّ هذا أنفسها.

١٧٩

وإذا عرفت هذا عرفت أنّه قد خصّ الله الوصيّ عليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة ، وتوّه شأنه ، إذ جعله باب أشر فما في الكون وهو العلم ، وأن منه يستمد ذلك منه أراده ، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية ، ثم لأجمع خلف الله علما وهو سيّد رسله صلّى الله عليه وسلّم ، وإنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف ، ويطأطئ رأسه تعظيما له كلّ من سلف وخلف ، وكما خصّه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من دلائل ذلك قريبا ».

٤ ـ دلالته على أنّ الامام حافظ العلم

ويدلّ حديث مدينة العلم على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام حافظ علوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا المعنى بوحده دليل على أفضليّته عليه‌السلام من سائر الأصحاب ، وهو المطلوب في هذا الباب.

ولقد صرّح بما ذكرنا كمال الدين ابن طلحة حيث قال في ذكر شواهد علم الامام وفضله :

« ومن ذلك ما رواه الامام الترمذي في صحيحه بسنده ، وقد تقدّم ذكره في الاستشهاد في صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ونقل الامام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في كتابه الموسوم بالمصابيح : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها ، لكنّه صلّى الله عليه وسلّم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة ، لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعمّ نفعا من الحكمة خصّص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر.

وفي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك إشارة إلى كون علي عليه‌السلام نازلا من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة والباب من الدار ، لكون الباب حافظا لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرّق الضّياع واعتداء يد الذهاب

١٨٠