نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وفي طبقات الحفاظ للسيوطي وطبقات المفسّرين للداودي بترجمة ابن الجوزي « قال الذهبي في التاريخ الكبير : لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة ، بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه » (١).

من كلمات العلماء في الموضوعات لابن الجوزي

قال ابن الصلاح : « ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلّدين ، فأودع فيها كثيرا ممّا لا دليل على وضعه ، وإنما حقّه أن يذكر في مطلق الأحاديث الضعيفة » (٢).

وقال محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني في المنهل الروي في علم أصول حديث النبيّ : « وصنّف الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي كتابه في الموضوعات ، فذكر كثيرا من الضعيف الذي لا دليل على وضعه ».

وقال ابن كثير « وقد صنّف الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي كتابا حافلا في الموضوعات ، غير أنّه أدخل فيه ما ليس منه ، وأخرج عنه ما كان يلزمه ذكره ، فسقط عليه ولم يهتد إليه » (٣).

وقال الزين العراقي بشرح قوله :

« وأكثر الجامع فيه إذ خرج

لمطلق الضعف عنى أبا الفرج ».

قال : « قال ابن الصلاح : ولقد أكثر الذي جمع ... وأراد ابن الصلاح بالجامع المذكور أبا الفرج ابن الجوزي ، وأشرت إلى ذلك بقولي عنى أبا الفرج » (٤).

__________________

(١) طبقات الحفاظ : ٤٧٨ ، طبقات المفسرين : ١ / ٢٧٤.

(٢) علوم الحديث : ٢١٢.

(٣) الباعث الحثيث : ٧٥.

(٤) شرح الألفيّة : ١ / ٢٦١.

١٢١

وقال ابن حجر العسقلاني بعد إثبات حديث سدّ الأبواب إلاّ باب علي عليه‌السلام : « وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم ، وأعلّه ببعض من تكلّم فيه من رواته ، وليس بقادح ، لما ذكرت من كثرة الطرق ، وأعلّه أيضا بأنّه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر ، وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. انتهى ، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فإنه سلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة ، مع أنّ الجمع بين القصتين ممكن ».

وقال ابن حجر أيضا في بحثه حول الحديث المذكور : « قول ابن الجوزي في هذا الحديث إنه باطل وإنه موضوع ، دعوى لم يستدل عليها إلاّ بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين ، وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم ، ولا ينبغي الإقدام على الحكم بالوضع إلاّ عند عدم إمكان الجمع ، ولا يلزم من تعذّر الجمع في الحال أنه لا يمكن بعد ذلك ، لأن فوق كلّ ذي علم عليم ، وطريق الورع في مثل هذا أن لا يحكم على الحديث بالبطلان ، بل يتوقّف فيه إلى أن يظهر لغيره ما لم يظهر له ، وهذا الحديث من هذا الباب ، هو حديث مشهور له طرق متعددة ، كلّ طريق منها على انفراده لا تقصر عن رتبة الحسن ، ومجموعها ممّا يقطع بصحّته على طريقه كثير من أهل الحديث » (١).

وقال السخاوي : « ويوجد الموضوع كثيرا في الكتب المصنفة في الضعفاء وكذا في العلل ، ولقد أكثر الجامع فيه مصنفا نحو مجلّدين ، إذ خرج عن موضوع كتابه لمطلق الضعف ، حيث أخرج فيه كثيرا من الأحاديث الضعيفة التي لا دليل معه على وضعها ، وعنى ابن الصلاح بهذا الجامع الحافظ الشهير أبا الفرج ابن الجوزي ، بل ربما أدرج فيها الحسن والصحيح مما هو في أحد الصحيحين فضلا

__________________

(١) القول المسدّد في الذب عن مسند أحمد : ١٩.

١٢٢

عن غيرهما ، وهو ـ مع إصابته في أكثر ما عنده ـ توسع منكر ينشأ عنه غاية الضرر ، من ظن ما ليس بموضوع بل هو صحيح موضوعا ، مما قد يقلّده فيه العارف تحسينا للظن به ، حيث لم يبحث فضلا عن غيره ، ولذا انتقد العلماء صنيعه إجمالا ، والموقع له استناده في غالبه بضعف راويه الذي رمي بالكذب مثلا ، غافلا عن مجيئه من وجه آخر ... » (١).

وفيه : « ثم إنّ من العجب إيراد ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية في الأحاديث الواهية كثيرا ممّا أورده في الموضوعات ، كما أن في الموضوعات كثيرا من الأحاديث الواهية ، بل قد أكثر في تصانيفه الوعظية وما أشبهها من إيراد الموضوع وشبهه. قال شيخنا : وفاته من نوعي الموضوع والواهي في الكتابين قدر ما كتب ، قال : ولو انتدب شخص لتهذيب الكتاب ثم لإلحاق ما فاته لكان حسنا ، وإلاّ فيما تقرر عدم الانتفاع به إلاّ للناقد ، إذ ما من حديث إلاّ ويمكن أن لا يكون موضوعا » (٢).

وقال السّيوطي : « وقد جمع في ذلك الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي كتابا ، فأكثر فيه من إخراج الضعيف الذي لم ينحط إلى رتبة الوضع بل ومن الحسن ومن الصحيح ، كما نبّه على ذلك الأئمة الحفاظ ومنهم ابن الصّلاح في علوم الحديث وأتباعه » (٣).

وفيه : « واعلم أنه جرت عادة الحفّاظ كالحاكم وابن حبّان والعقيلي وغيرهم أنهم يحكمون على حديث بالبطلان من حيثيّة سند مخصوص ، لكون راويه اختلق ذلك السند لذلك المتن ، ويكون ذلك المتن معروفا من وجه آخر ، ويذكرون ذلك في ترجمة ذلك الراوي يجرحونه به ، فيغتّر ابن الجوزي بذلك ويحكم على المتن

__________________

(١) فتح المغيث ـ شرح ألفية الحديث ١ / ٢٣٦.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٣٧.

(٣) اللآلي المصنوعة : ١ / ٢.

١٢٣

بالوضع مطلقا ويورده في كتاب الموضوعات ، وليس هذا بلائق ، وقد عاب عليه الناس ذلك ، آخرهم الحافظ ابن حجر ... ».

وفيه في تحقيق حديث « من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة ... » قال : « وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث المشكاة : غفل ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في الموضوعات ، وهو أسمج ما وقع له.

وقال الحافظ شرف الدين الدمياطي في جزء جمعه في تقوية هذا الحديث : محمد بن حمير القضاعي الشبلنجي الحمصي كنيته ابو عبد الحميد ، احتج به البخاري في صحيحه ، وكذلك محمد بن زيد الألهاني أبو سفيان الحمصي ، احتج به البخاري أيضا ، وقد تابع أبا أمامة علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو بن العاصي ، والمغيرة بن شعبة ، وجابر ، وأنس ، فرووه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأورد حديث علي من الطريقين السابقين ، وحديث ابن عمرو ، والمغيرة ، وجابر ، وأنس ، من الطرق التي سأزيدها ، ثم قال : وإذا انضمّت هذه الأحاديث بعضها إلى بعض أخذت قوة.

وقال الذهبي في تاريخه : نقلت من خط السيف أحمد بن أبي المجد الحافظ قال : صنّف ابن الجوزي كتاب الموضوعات فأصاب في ذكره أحاديث مخالفة للنقل والعقل ، ومما لم يصب فيه إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها ، كقوله فلان ضعيف ، أو ليس بالقوي ، أوليّن ، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه ، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا اجماع ، ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل في راويه ، وهذا عدوان ومجازفة. قال : فمن ذلك أنه أورد حديث أبي أمامة في قراءة آية الكرسي بعد الصّلاة ، لقول يعقوب بن سفيان في راويه محمد بن حمير : ليس بالقوي ، ومحمد هذا روى له البخاري في صحيحه ، ووثّقه أحمد وابن معين » (١).

__________________

(١) اللآلي المصنوعة : ١ / ٢٣٠.

١٢٤

وفيه في الكلام حول حديث « أوّلكم ورودا عليّ الحوض أوّلكم إسلاما علي ابن أبي طالب » : « والعجب من المصنف أنه قال في العلل باب فضل علي بن أبي طالب : قد وضعوا أحاديث خارجة عن الحدّ ذكرت جمهورها في كتاب الموضوعات ، وإنّما أذكر هاهنا ما دون ذلك ، ثمّ أورد هذا الحديث ، وهذا يدل على أن متنه عنده ليس بموضوع فكيف يورده في الموضوعات؟ وقد عاب عليه الحفاظ هذا الأمر بعينه فقالوا : إنّه يورد حديثا في كتاب الموضوعات ويحكم بوضعه ، ثم يورده في العلل وموضوعه الأحاديث الواهية التي لم تنته إلى أن يحكم عليها بالوضع ، وهذا تناقض » (١).

وفيه بعد حديث « إن طالت بك مدة أو شك أن ترى قوما يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر » وذكر قدح ابن الجوزي : « قلت : لا والله ما هو بباطل ، بل صحيح في نهاية الصحة ، أخرجه مسلم في صحيحه ، قال شيخ الإسلام ابن حجر في القول المسدد : هذا حديث صحيح خرجه مسلم عن جماعة من مشايخه ... وقد أخطأ ابن الجوزي في تقليده لابن حبان في هذا الموضع خطأ شديدا ، وغلط ابن حبان في أفلح فضعّفه بهذا الحديث ... ولقد أساء ابن الجوزي لذكره في الموضوعات حديثا في صحيح مسلم ، وهذا من عجائبه ».

وفيه بعد حديث « إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه » « قلت : بل وا عجبا من المؤلّف كيف يحتم على رد الأحاديث الثابتة من غير تثبت ولا تتبع ، فإن حديث إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ورد من رواية أكثر من عشرة من الصحابة ، فهو متواتر على رأي من يكتفي في التواتر بعشرة ... ».

وقال السّيوطي في صدر النكت البديعات على الموضوعات « وبعد ، فإنّ كتاب الموضوعات جمع الامام أبي الفرج ابن الجوزي قد نبّه الحفاظ قديما وحديثا

__________________

(١) اللآلي المصنوعة : ١ / ٣٢٦.

١٢٥

على أنّ فيه تساهلا كثيرا ، وأحاديث ليست بموضوعة ، بل هي من وادي الضعيف ، وفيه أحاديث حسان وأخرى صحاح ، بل وفيه حديث من صحيح مسلم نبّه عليه الحافظ أبو الفضل ابن حجر ، ووجدت فيه حديثا من صحيح البخاري رواية حماد بن شاكر ، وآخر متنه في البخاري من رواية صحابي غير الذي أورده عنه ... ».

وقال في خاتمته : « هذا آخر ما أوردته في هذا الكتاب من الأحاديث المتعقّبة ، التي لا سبيل إلى إدراجها في سلك الموضوعات ، وعدّتها نحو ثلاثمائة حديث ، منها في صحيح مسلم حديث ، وفي صحيح البخاري رواية حماد بن شاكر حديث ، وفي مسند أحمد ثمانية وثلاثون حديثا ، وفي سنن أبي داود تسعة أحاديث ، وفي جامع الترمذي ثلاثون حديثا ، وفي سنن النسائي عشرة أحاديث ، وفي سنن ابن ماجة ثلاثون حديثا ، وفي مستدرك الحاكم ستون حديثا ، على تداخل في العدة ، فجميع ما فيه من الكتب الستة والمسند والمستدرك مائة حديث وثلاثون حديثا ، وفيه من مؤلفات البيهقي : السنن ، والشعب ، والبعث ، والدلائل ، وغيرها ، ومن صحيح ابن خزيمة والتوحيد له ، وصحيح ابن حبان ، ومسند الدارمي ، وتاريخ الطبري ، وخلق أفعال العباد ، وجزء القراءة له ، وسنن الدار قطني جملة وافرة ».

وقال السّيوطي : « وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلّدين أعني أبا الفرج ابن الجوزي ، فذكر في كتابه كثيرا مما لا دليل على وضعه ، بل هو ضعيف بل وفيه الحسن بل والصحيح ... » (١).

وقال الشامي في سبل الهدى والرشاد : « وقد نص ابن الصّلاح في علوم الحديث وسائر من تبعه على أن ابن الجوزي تسامح في كتابه الموضوعات ، فأورد فيه أحاديث وحكم بوضعها وليست بموضوعة ، بل هي ضعيف فقط وربما تكون

__________________

(١) تدريب الراوي ١ / ٢٣٥.

١٢٦

حسنة أو صحيحة ، قال زين الدين العراقي في ألفيّته :

و أكثر الجامع فيه إذ خرج

لمطلق الضعف عنى أبا الفرج.

وألّف شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ كتابا سمّاه : القول المسدّد ... ».

وإن شئت المزيد من كلماتهم فراجع : صدر ( مختصر تنزيه الشريعة ) وصدر ( تذكرة الموضوعات ) و ( أسماء رجال المشكاة لعبد الحق ) و ( كشف الظنون ) و ( المسلك الوسط الداني إلى الدر الملتقط للصغاني ) و ( شرح المواهب اللدنيّة ) و ( نيل الأوطار ) و ( القول المستحسن في فخر الحسن ) و ( الفوائد المجموعة ).

١٢٧

ردّ العلماء على قدح ابن الجوزي

وبالاضافة إلى ما تقدّم : فإن كبار الحفاظ والعلماء أبطلوا بالأدّلة القاطعة دعوى ابن الجوزي ، وانتقدوا إيداعه حديث أنا مدينة العلم في الموضوعات ، وقد تقدّمت نصوص عباراتهم في ذلك في مواضعها من الكتاب ، ونكتفي هنا بذكر أسمائهم :

١ ـ الحافظ صلاح الدين العلائي.

٢ ـ الحافظ بدر الدين الزركشي.

٣ ـ شيخ الإسلام الحافظ العسقلاني.

٤ ـ الحافظ السخاوي.

٥ ـ الحافظ السيوطي.

٦ ـ الحافظ السمهودي.

٧ ـ الحافظ ابن عرّاق.

٨ ـ الحافظ ابن حجر المكّي.

٩ ـ العلاّمة مجد الدين الفيروزآبادي.

١٠ ـ العلاّمة المتقي الهندي.

١١ ـ العلاّمة القاري.

١٢ ـ العلاّمة المنّاوي.

١٣ ـ العلاّمة الشيخ عبد الحق الدهلوي.

١٤ ـ العلاّمة الزرقاني.

١٥ ـ العلاّمة البدخشاني.

١٦ ـ العلاّمة محمد صدر العالم.

١٧ ـ العلاّمة الأمير الصنعاني.

١٢٨

١٨ ـ العلاّمة الصبان المصري.

١٩ ـ العلاّمة القاضي ثناء الله الهندي.

٢٠ ـ قاضي القضاة الشوكاني.

٢١ ـ العلاّمة الميرزا حسن علي المحدّث.

٢٢ ـ العلاّمة ولي الله اللكهنوي.

٢٣ ـ العلاّمة المولوي حسن الزمان.

٢٤ ـ العلاّمة الدمنتي الشّاذلي.

١٢٩

ردّ قدح ابن دقيق العيد

قوله :

« وقال الشّيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد : هذا الحديث لم يثبتوه ».

أقول :

إنّ هذا الكلام بعيد عن الصدق والصّواب غاية البعد ، فقد علمت فيما تقدّم إثبات كبار المحدّثين وأعاظم المسندين ومشاهير الحفاظ المعتمدين هذا الحديث الشريف ، في كتبهم المعتبرة وأسفارهم المعتمدة ، مصرّحين بصحته أو حسنه أو ثبوته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ جماعة كبيرة منهم وصفوا سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ب « باب مدينة العلم » و « باب مدينة الحكم والعلوم » وأمثال ذلك ، كما نظم آخرون منهم هذه المأثرة في أشعارهم ...

فهل يبقى مع هذا كلّه وزن لقول هذا الرّجل « هذا الحديث لم يثبتوه »؟! وهل يجوز لأحد أن يحتجّ بمثل هذا الكلام؟!

ومن هنا ترى إعراض جماعة من محققيهم عن هذا الكلام مع ذكرهم له ،

١٣٠

كالزركشي في ( اللآلى المنثورة ) والسخاوي في ( المقاصد الحسنة ) والسيوطي في ( الدرر المنتثرة ) والقاري في ( المرقاة ) ...

١٣١

الكلام على رأي النووي والذهبي والجزري

قوله :

« وقال الشيخ محي الدين النواوي والحافظ شمس الدين الذهبي والشيخ شمس الدين الجزري : إنه موضوع ».

أقول :

لا بدّ من تحقيق الحال وبيان الحقيقة في مقامات :

(١) رأي الشّيخ محيي الدّين النواوي

أمّا محيي الدين النواوي ، فالواقع أنّه قد قدح في حديث « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » ، وهذا نصّ كلامه « وأمّا الحديث المروي عن الصنابحي عن علي قال

١٣٢

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار الحكمة وعلي بابها. وفي رواية : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فحديث باطل ، رواه الترمذي وقال : هو حديث منكر ، وفي بعض النسخ : غريب ، قال : ولم يروه من الثقات غير شريك ، وروى مرسلا » (١).

فظهر أنّ قدحه متوجّه في الأصل إلى حديث « أنا دار الحكمة » ، غير أنّه توهّم أنّ حديث « أنا مدينة العلم » رواية من روايات ذاك الحديث ، ولا يخفى سقوط هذا التوهّم على من لاحظ روايات المحدثين وطرق الحديثين المذكورين في مختلف الكتب والأسفار ، لأنّ كلاّ منهما قد روي وأخرج فيها بطرق وأسانيد كثيرة خاصة به ، بحيث لا يلزم من القدح في أحدهما القدح في الآخر ... فهذا وهم من ( الدهلوي ) إن لم يكن كذب وتدليس.

ثبوت حديث : « أنا دار الحكمة وعلىّ بابها »

على أنّ حديث « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » حديث ثابت ، قد أخرجه جهابذة الحديث وأعلام الحفاظ والعلماء ، فدعوى بطلانه ساقطة ، ومن المناسب أن نعيد ذكر بعض من أخرجه من مشاهير محدثي أهل السّنة ... فنقول :

١ ـ رواية أحمد :

لقد روى أحمد حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » عن الصنابحي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ... ذكر ذلك المولوي حسن علي في ( تفريح الأحباب ) ، وقد تقدّم سابقا عن جماعة قولهم : إذا روى أحمد حديثا وجب المصير إليه ...

٢ ـ رواية الترمذي وتحسينه :

ولقد أخرجه الترمذي في صحيحه وحكم بحسنه كما في ذخائر العقبى حيث

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات : ١ / ٣٤٨.

١٣٣

قال : « ذكر أنه ـ رضي‌الله‌عنه ـ باب دار الحكمة : عن علي رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار الحكمة وعلي بابها ، أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن » (١).

وقوله « حديث حسن » دليل على اعتباره ، لأنّه قال « وما ذكرنا في هذا الكتاب في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن ».

٣ ـ رواية الطبري وتصحيحه :

وعلم فيما تقدّم رواية أبي جعفر محمد بن جرير الطبري هذا الحديث في ( تهذيب الآثار ) وحكمه بصحّته ...

٤ ـ رواية الحاكم وتصحيحه :

وأخرجه الحاكم في ( المستدرك على الصحيحين ) وصحّحه ، قاله محمد بن يوسف الشامي في سبل الهدى والرشاد ، والشبراملسي في تيسير المطالب السنية والزرقاني في شرح المواهب اللدنية.

٥ ـ رواية جماعة آخرين :

كما علم ممّا تقدّم رواية جماعة آخرين لحديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » وهم بين من يثبته ، ومن يصحّحه ، ومن يقول إنه حسن ومنهم : الكنجي ، والمحبّ الطبري ، والعلائي ، والفيروزآبادي ، والجزري ، والعسقلاني ، والسيوطي ، والعلقمي ، والشامي ، والمناوي ، والدهلوي ، والعزيزي ، والزرقاني ، والبدخشاني ، وشاه وليّ الله ، ...

فظهر بطلان قول النواوي : « فحديث باطل ».

__________________

(١) ذخائر العقبى : ٧٧.

١٣٤

ردّ نسبة القدح في الحديث المذكور للترمذي

وأمّا قوله « رواه الترمذي وقال : هو حديث منكر ، وفي بعض النسخ : غريب » فمن المنكرات الفاضحة ، بل الحق الثابت أنّه رواه وقال « حسن غريب » كما تقدّم عن المحبّ الطبري في ( ذخائره ) وسيأتي عن ( رياضه ) أيضا.

تحريف عبارة الترمذي

غير أنّ الأيدي الأثيمة قد غيّرت وحرّفت عبارة التّرمذي ، وقد عمد النواوي إلى اعتماد هذه العبارة المحرّفة ، جحدا لفضيلة من فضائل سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ...

لقد قال الترمذي في هذا الحديث إنه « حسن غريب » كما علمت من رواية محبّ الدين الطبري عنه في ( ذخائر العقبى ). وقال في الرياض النضرة : « عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار الحكمة وعلي بابها. أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب » (١).

هذا ما نقله المحبّ الطبري عن الترمذي ، وهو من أقدم وأوثق نقلة هذا الحديث عن صحيح الترمذي ...

لكنّ بعض المعاندين أسقطوا كلمة « حسن » وتركوا كلمة « غريب » من كلام الترمذي من بعض نسخ صحيحه ، ومن هنا نسب غير واحد ممّن تأخّر عن المحبّ الطبري إلى الترمذي قوله في هذا الحديث « غريب » من دون كلمة « حسن »!! كالخطيب التبريزي في ( المشكاة ) ، والعلائي في ( أجوبته ) ، وابن كثير في

__________________

(١) الرياض النضرة : ٢ / ٢٥٥.

١٣٥

( تأريخه ) ، والفيروزابادي في ( نقد الصحيح ) ، والسّيوطي في ( القول الجلي ) ، والوصّابي في ( الاكتفاء ) ، والمناوي في ( التيسير ) و ( فيض القدير ) ، والعزيزي في ( السّراج المنير ) ...

وجاء آخرون ... فلم يتركوا كلمة « غريب » بعد حذف « حسن » على حالها ، بل أبدلوها بلفظ « منكر » ، وكأنّ النواوي قد قدّم هذه النسخة على تلك ، إذ نسب إلى الترمذي أنّه « حديث منكر » ، ثم قال : « وفي بعض النسخ : غريب »!! كما اغتر بهذا التحريف السخاوي في ( المقاصد الحسنة ).

وقد ترقّى آخرون حتى جمعوا في بعض نسخ صحيح الترمذي ـ بعد حذف لفظ « حسن » ـ بين « منكر » و « غريب » ، وقد نسب ذلك بعضهم إلى الترمذي غفلة أو تغافلا ، كما فعله ولي الله الدهلوي في ( قرة العينين )!!

فتنبّه ، ولا تكن من المغترين الغافلين ، والمنخدعين الذاهلين ، واستعذ بالله من تبديل المدغلين وتحريف المبطلين ...

وكم له من نظير!!

ولا تستبعد هذا الذي حقّقناه ، فكم له من نظير عندهم ، ولا بأس بذكر أحد موارد تحريفاتهم :

لقد التزم البغوي في ( مصابيحه ) الإعراض عن ذكر الحديث المنكر ، فإنّه قال في صدر كتابه ما نصه « وتجد أحاديث كلّ باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان ، وأعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ـ رحمهما الله ـ في جامعيهما ، وأعني بالحسان ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم ـ رحمهم‌الله ـ ، وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل ، غير أنّها لم

١٣٦

تبلغ غاية شرط الشيخين في علوّ الدرجة من صحة الإسناد ، إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن.

وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه ، وأعرضت عن ذكر ما كان منكرا أو موضوعا ، والله المستعان وعليه التكلان ».

ولكنّك تجد كلمة « منكر » بعد حديث في مدح قبيلة « حمير » ، وهذا نصّ عبارته في « باب في مناقب قريش وذكر القبائل » :

« عن أبي هريرة قال : كنّا عند النّبي عليه‌السلام ، فجاءه رجل أحسبه من قريش فقال : يا رسول الله العن حميرا! فقال النبي عليه‌السلام : رحم الله حميرا ، أفواههم سلام ، وأيديهم طعام ، وهم أهل أمن وإيمان. منكر » (١).

ولقد صرّح شارحه الخلخالي بإلحاق بعضهم لفظ « منكر » حيث قال : « قوله : منكر ، أي هذا الحديث منكر ، يحتمل أنّ إلحاق لفظ المنكر هاهنا من غير المؤلّف من بعض أهل المعرفة بالحديث ، لأنه لو كان يعلم أنه منكر لم يتعرّض له ، لأنّه قد التزم الإعراض عن ذكر المنكر في عنوان الكتاب » (٢).

وفي المرقاة في شرح الحديث : « وقال شارح المصابيح قوله منكر ، هذا إلحاق من بعض أهل المعرفة بالحديث ... » (٣).

تصرّف النووي في كلام الترمذي

ثمّ إنّ النووي ذكر عن الترمذي أنّه « قال : ولم يروه من الثقات غير شريك » وهذا لا يطابق عبارة التّرمذي في صحيحه ، وهذا لفظه « ولا نعرف هذا الحديث

__________________

(١) مصابيح السنة : ٢ / ١٩٢.

(٢) المفاتيح في شرح المصابيح ـ مخطوط.

(٣) المرقاة في شرح المشكاة : ٥ / ٥١٢ ـ ٥١٣.

١٣٧

عن أحد من الثقات غير شريك » ولا يخفى الفرق بين الكلامين على ذوي الفضل والنظر الدقيق.

وعلى كلّ حال ... فإنّ هذا الكلام لا يقتضي قدحا في حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » ، إذ لو سلّم ذلك كان هذا الحديث من أفراد شريك ، وهذا لا يمنع صحته أو حسنه ، ولهذا قال الترمذي نفسه ـ فيما نقله عنه المحبّ الطبري ـ حديث حسن ... وقال العلائي : « وشريك هو ابن عبد الله النخعي القاضي ، احتج به مسلم وعلّق له البخاري ، ووثّقه يحيى بن معين ، وقال العجلي : ثقة حسن الحديث ، وقال عيسى بن يونس : ما رأيت أحدا قط أورع في علمه من شريك ، فعلى هذا يكون بمفرده حسنا » وقال الفيروزابادي : « وشريك هذا احتج به مسلم ، وعلّق له البخاري ، ووثّقه ابن معين والعجلي وزاد : حسن الحديث ، وقال عيسى بن يونس : ما رأيت أحدا قط أورع في علمه من شريك ، فعلى هذا يكون بمفرده حسنا ».

على أنّه قد علمت سابقا أنه قد رواه غير شريك من الثقات.

تحريف آخر لكلام الترمذي

ومن عجائب الأمور تحريف بعض الزائغين لهذه العبارة أيضا من كلام الترمذي ، فإنّهم لما رأوا أنّ هذه العبارة تدلّ على ثبوت هذا الحديث واعتباره ، بدّلوا كلمة « غير شريك » إلى « عن شريك » ... جاء ذلك في المرقاة بشرح كلام الترمذي هذا حول حديث أنا مدينة العلم : « ولا نعرف » أي نحن « هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك » بالنصب على الاستثناء ، وفي نسخة بالجر على أنه بدل من أحد. قيل : وفي بعض نسخ الترمذي : عن شريك بدل غير شريك ، والله أعلم » (١).

__________________

(١) المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥١٢.

١٣٨

ولا يخفى غرضهم من هذا التحريف وما يؤول إليه معنى العبارة على النّبيه ... ولكنّ هذا التحريف لم يلق رواجا بل جاءت عبارة الترمذي على أصلها وواقعها لدى المحدثين ، كما في ( المشكاة ) و ( نقد الصحيح ) و ( أسنى المطالب ) و ( جمع الجوامع ) و ( كنز العمّال ) و ( معارج العلى ) وغيرها ...

توهّم النووي

ونقل النووي عن التّرمذي في ذيل كلامه أنّه قال « وروي مرسلا » وهذا أيضا وهم صريح ، فقد قال الترمذي ـ بعد أن أخرج حديث : أنا دار الحكمة بسنده عن شريك عن سلمة عن سويد عن الصنابحي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ « روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي » (١) فتوهّم النووي من قوله « ولم يذكروا فيه عن الصنابحي » كونه مرسلا ، والحال أن هذا لا يوجب الإرسال ، لأن « سويد بن غفلة » تابعي مخضرم ، أدرك الخلفاء الأربعة وسمع منهم الحديث ، فحديثه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بلا واسطة متصل لا منقطع ، فذكر الترمذي أو غيره « الصنابحي » فيه من المزيد في متصّل الأسانيد ، وكأنّ النووي قد غفل عن هذا فزعم إرساله ، لكن صرّح به الحافظ العلائي ـ كما دريت سابقا ـ حيث قال « ولا يرد عليه رواية من أسقط منه الصنابحي ، لأنّ سويد بن غفلة تابعي مخضرم أدرك الخلفاء الأربعة وسمع منهم ، فذكر الصنابحي ، فيه من المزيد في متّصل الأسانيد » ... وكذا صرّح به الفيروزآبادي أيضا في ( نقد الصحيح ) ...

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ / ٥٩٦.

١٣٩

رواة حديث أنا دار الحكمة من الصّحابة والتابعين

ولا يخفى عدم انفراد الصنابحي ، وسويد بن غفلة ، في رواية حديث « أنا دار الحكمة » عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل رواه عنه جماعة من التابعين كذلك أيضا وهم :

١ ـ أبو عمرو عامر بن شراحيل الشّعبي ، وقد أخرج حديثه ابن مردويه.

٢ ـ أبو القاسم أصبغ بن نباته التميمي الحنظلي الكوفي ، وقد أخرج حديثه أبو نعيم في ( الحلية ) والجزري في ( أسنى المطالب ).

٣ ـ أبو زهير الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي ، كما في ( الحلية ) و ( أسنى المطالب ).

كما قد تابع عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام في روايته من الصحابة :

١ ـ عبد الله بن عباس ، ففي حلية الأولياء : « حدّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني ، نا الحسن بن سفيان ، نا عبد المجيد بن بحر ، نا شريك ، عن سلمة ابن كهيل ، عن الصنابحي ، عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الأصبغ بن نباتة والحارث عن علي نحوه ، ومجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله » (١).

٢ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري ، ففي زين الفتى : ـ « أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن نصر رحمه‌الله قال : أخبرنا الشيخ إبراهيم بن أحمد الحلوائي رحمه‌الله ، عن محمود بن محمد بن رجا ، عن المأمون بن أحمد وعمار بن عبد المجيد وسليمان بن خميرويه ، عن الامام محمد بن كرام رحمه‌الله ، عن أحمد ، عن محمد بن فضيل ، عن زياد بن زياد ، عن عبيد بن أبي جعد ، عن جابر بن

__________________

(١) حلية الأولياء : ١ / ٦٤.

١٤٠