نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

بطريق أبي الصلت الهروي ـ : « وأبو الصّلت ثقة مأمون ، فإنّي سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول : سمعت العباس بن محمد الدوري يقول : سألت يحيى بن معين عن أبي الصّلت الهروي ، فقال : ثقة ، فقلت : أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش : أنا مدينة العلم؟ فقال : قد حدّث به محمد ابن جعفر الفيدي وهو ثقة مأمون » (١).

وقال الخطيب في ( تاريخ بغداد ) ـ على ما نقل عنه السّيوطي : « قال عباس الدّوري : سمعت يحيى بن معين يوثّق أبا الصّلت عبد السّلام بن صالح فقلت له : إنّه حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش : أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال : ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمّد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية » (٢).

وقال عبد الغني المقدسي بترجمة أبي الصّلت : « قال عباس بن محمد : سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت ، فقيل له : إنه حدّث عن أبي معاوية : أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال : ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمد الفيدي عن أبي معاوية؟ » (٣).

وقال المزي بترجمته : « قال عباس بن محمد الدوري : سمعت يحيى بن معين يوثّق أبا الصّلت عبد السلام بن صالح ، فقلت : إنه حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش : أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال : ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية فقال نحوه » (٤).

وقال ابن حجر : « وقال الدوري : سمعت ابن معين يوثق أبا الصلت وقال

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) اللآلي المصنوعة : ١ / ٣٣٢.

(٣) الكمال في اسماء الرجال ـ مخطوط.

(٤) تهذيب الكمال ـ ١٨ / ٧٩.

١٠١

في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها : قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية » (١).

وقد استشهد بهذا الكلام العلائي والفيروزآبادي في دفاعهما عن هذا الحديث كما مرّ فيما مضى.

٣ ـ إنّه أثبته في جواب ابن المحرز

وأثبته يحيى بن معين في جواب سؤال أحمد بن محمد بن القاسم بن المحرز عن أبي الصلت عبد السّلام الهروي ، فقد ذكر الخطيب في ( تاريخه ) ـ على ما نقل عنه السيوطي ما نصّه : « وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن المحرز : سألت يحيى ابن معين عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي فقال : ليس ممّن يكذب ، فقيل له في حديث أبي معاوية أنا مدينة العلم ، فقال : هو من حديث أبي معاوية ، أخبرني ابن نمير قال : حدّث به أبو معاوية قديما ، ثمّ كفّ عنه ، وكان أبو الصّلت رجلا موسرا يطلب هذه الأحاديث ويلزم المشايخ ، فكانوا يحدّثونه بها » (٢).

وفي تهذيب الكمال : « وقال أحمد بن محمد القاسم بن محرز : سألت يحيى ابن معين عن أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس : أنا مدينة العلم وعلي بابها. فقال : هو من حديث أبي معاوية وفي حديث أبي معاوية ، أخبرني ابن نمير قال : حدّث به أبو معاوية قديما ثمّ كفّ عنه ، وكان ابو الصلت رجلا موسرا يطلب هذه الأحاديث ويلزم المشايخ ، وكانوا يحدّثونه بها » (٣).

وفي قوت المغتذي عن الحافظ العلائي : « وقال أحمد بن محمّد بن محرز : سألت يحيى بن معين عن أبي الصّلت فقال : ليس ممّن يكذب ، فقيل له في حديث

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٦ / ٣٢١.

(٢) اللآلي المصنوعة : ١ / ٣٣٣.

(٣) تهذيب الكمال ـ ١٨ / ٧٩.

١٠٢

أبي معاوية أنا مدينة العلم ، فقال : هو من حديث أبي معاوية ، أخبرني ابن نمير قال : حدّث به أبو معاوية قديما ثم كفّ عنه ، وكان أبو الصّلت رجلا موسرا يطلب هذه الأحاديث ويلزم المشايخ » (١).

وتجده كذلك في نقد الصّحيح كما تقدّم ، وفي تهذيب التهذيب.

٤ ـ إنّه أثبته في جواب صالح جزرة

وكذلك أثبت ابن معين هذا الحديث في جواب سؤال صالح بن محمد جزرة عن أبي الصّلت الهروي ، قال الحاكم : « سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول : سمعت صالح بن محمد بن حبيب الحافظ يقول : وسئل عن أبي الصلت الهروي فقال : دخل يحيى بن معين ـ ونحن معه ـ على أبي الصّلت فسلّم عليه ، فلما خرج تبعته ، فقلت له : ما تقول ـ رحمك الله ـ في أبي الصّلت؟ فقال : هو صدوق ، فقلت له : إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأتها من بابها فقال : قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش ، كما رواه أبو الصّلت » (٢).

وفي اللآلى المصنوعة عن الخطيب البغدادي : « وقال عبد المؤمن بن خلف النسفي : سألت أبا علي صالح بن محمد عن أبي الصلت الهروي فقال : رأيت يحيى بن معين يحسن القول فيه ، ورأيته سئل عن الحديث الذي روى عن أبي معاوية : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فقال : رواه أيضا الفيدي. قلت : ما اسمه؟ قال : محمد بن جعفر » (٣).

__________________

(١) قوت المغتذي ـ كتاب المناقب ، مناقب علي.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٢٧.

(٣) اللآلي المصنوعة : ١ / ٣٣٢.

١٠٣

وفي قوت المغتذي عن الحافظ العلائي ـ بعد نقل رواية الدوري السالفة الذكر ـ « وكذلك روى صالح جزرة أيضا عن ابن معين » (١).

وفي نقد الصحيح كذلك : « وكذلك روى صالح بن محمد الحافظ وأحمد ابن محمد بن محرز عن يحيى بن معين أيضا » (٢).

أقول :

فظهر أنّ « يحيى بن معين » ممّن يصحّح حديث مدينة العلم ويثبته ، وقد علم من الوجوه المذكورة أنه قد سعى ـ السّعي الجميل ـ في سبيل إثبات هذا الحديث وردّ الشّبهات عنه ، فكيف يجوز نسبة كلمة « لا أصل له » إليه؟

اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ هذه الكلمات قد صدرت منه قبل وقوفه على حقيقة أمر الحديث ، ثم صرّح بما هو الحق الثابت والحقيقة الراهنة ، وهذا هو الذي اختاره المولوي حسن الزمان حيث قال : « تنبيه : من أحسن بيّنة على معنى ختم الأولياء الحديث المشهور الصحيح الذي صحّحه جماعات من الأئمة ، منهم أشدّ الناس مقالا في الرّجال ، سند المحدثين ابن معين ، كما أسنده عنه ووافقه الخطيب في تاريخه ، وقد كان قال أوّلا : لا أصل له ... » (٣).

لكنّ المستفاد من كلام السّخاوي أن هذه الكلمة لم تصدر من ابن معين بالنسبة إلى حديث مدينة العلم في حين من الأحيان ، بل إن ذلك ـ على فرض ثبوته ـ كان منه بالنسبة إلى حديث : أنا دار الحكمة ... قال السخاوي : « حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. الحاكم في المناقب من مستدركه ، والطبراني في معجمه الكبير ، وابو الشيخ ابن حيان في السّنة له ، وغيرهم ، كلّهم من حديث أبي معاوية

__________________

(١) قوت المغتذي ـ كتاب المناقب ، مناقب علي.

(٢) نقد الصحيح لمجد الدين الفيروزآبادي.

(٣) القول المستحسن : ٤٥٢.

١٠٤

الضرير ، عن الأعمش ، عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة : فمن أراد العلم فليأت الباب.

ورواه الترمذي في المناقب من جامعه ، وأبو نعيم في الحلية ، وغيرهما ، من حديث علي : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها.

قال الدار قطني في العلل عقيب ثانيهما : إنّه حديث مضطرب غير ثابت ، وقال الترمذي : إنه منكر ، وكذا قال شيخه البخاري وقال : إنه ليس له وجه صحيح ، وقال يحيى بن معين ـ فيما حكاه الخطيب في تاريخ بغداد ـ إنه كذب لا أصل له.

وقال الحاكم عقيب أوّلهما : إنّه صحيح الإسناد » (١).

أقول :

لكنّ صدوره بالنّسبة إلى هذا الحديث أيضا مستبعد عندي ، لأنّه ـ كحديث مدينة العلم ـ حديث صحيح ، وقد نصّ على صحته ابن جرير الطبري ، والعلائي ، والفيروزآبادي ، وغيرهم.

فالعجب من ( الدهلوي ) كيف غفل عن هذا كلّه؟! وكأنّه لم يحفظ من كلمات أعلام طائفته شيئا ، واقتصر على استراق هفوات الكابلي العنيد في صواقعه!!

ولقد بلغ دفاع ابن معين عن حديث مدينة العلم من المتانة والقوّة حدّا لم يتمكّن أحد من القادحين فيه من الإتيان بجواب عنه ، ومن هنا قال العلائي ـ فيما نقل عنه السّيوطي في ( قوت المغتذي )ـ : « ولم يأت كلّ من تكلّم على حديث أنا مدينة العلم بجواب عن هذه الروايات الثابتة عن يحيى بن معين ». وقال ابن حجر المكي في المنح المكيّة نقلا عن العلائي : « ولم يأت أحد ممن تكلّم في هذا

__________________

(١) المقاصد الحسنة : ٩٧.

١٠٥

الحديث بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن يحيى بن معين ».

ومن شواهد ما ذكره العلائي والفيروزآبادي ما جاء في سير أعلام النبلاء بترجمة أبي الصّلت الهروي ، حيث حكى توثيق يحيى بن معين إيّاه وإثباته حديث مدينة العلم بقوله : « وقال عباس : سمعت ابن معين يوثّق أبا الصّلت ، فذكر له حديث أنا مدينة العلم فقال : قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية » (١).

وقد أقرّ الذّهبي ما رواه عباس الدّوري عن يحيى بن معين ، غير أنّه اعترض عليه من ناحية أخرى ، فعقبّه بقوله : « قلت : جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها ، وكان هذا بارّا بيحيى ، ونحن نسمع من يحيى دائما ونحتجّ بقوله في الرجال ، ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوّة من وهّاه ».

وهذا الكلام يضرّ بمذهب أهل السّنة ، بل يمكن القول بأنّه يهدم أساس مذهبهم ، إذ لا يخفى علوّ قدر ابن معين وجلالة منزلته في علوم الحديث ـ ولا سيّما. فن الجرح والتعديل ـ على من راجع تراجمه في تهذيب التهذيب ١١ / ٢٨٠ وتهذيب الأسماء واللغات ٢ / ١٥٦ ووفيات الأعيان ٦ / ١٣٩ وتذكرة الحفاظ ٢ / ٤٢٩ ومرآة الجنان حوادث : ٢٠٣ وغيرها.

بل ذكر ابن الرّومي ـ فيما نقل عنه ابن خلكان ـ : « ما سمعت أحدا قط يقول الحق غير ابن معين ، وغيره كان يتحامل بالقول ».

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٤٦.

١٠٦

ردّ قدح البخاري

قوله :

« وقال البخاري : انه منكر وليس له وجه صحيح ».

أقول :

أوّلا : صدور هذا الكلام من البخاري بالنّسبة إلى حديث « أنا مدينة العلم » ممنوع ، بل إنّه قد تفوّه به بالنّسبة إلى حديث « أنا دار الحكمة » كما علمت بذلك من عبارة السّخاوي المتقدّمة ، فذكر ( الدّهلوي ) إيّاه بصدد ردّ حديث « أنا مدينة العلم »

باطل.

وثانيا : لو سلّمنا صدوره بالنّسبة إلى حديث « أنا مدينة العلم » فإنه مردود بوجوه :

١ ـ البخاري مجروح

إنّ البخاري مقدوح ومجروح ، حسب إفادات أكابر علماء أهل السّنة ،

١٠٧

فلاحظ نبذا من مثالبه وقوادحه في كتاب ( استقصاء الإفحام ) ومجلّد حديث الغدير من هذا الكتاب ، فلا وزن لكلامه لدى أهل النظر والتحقيق ولا سيّما في خصوص هذا الحديث العظيم.

٢ ـ البخاري منحرف

وإن البخاري من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام والمنحرفين عن أمير المؤمنين ، والشواهد الصحيحة على هذا كثيرة ، وهو أمر قد اعترف به أعاظم علمائهم ، كما لا يخفى على من طالع كتاب ( استقصاء الافحام ) ومجلّد حديث الولاية من هذا الكتاب ، فلا يلتفت إلى طعنه في هذه الفضيلة العظيمة والمنقبة الباهرة الثابتة لسيّدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام.

٣ ـ رواية عبد الرّزاق الحديث

ولقد روى عبد الرزاق بن همام الصنعاني حديث مدينة العلم بطريقين صحيحين كما دريت سابقا ، وعبد الرزاق ـ هذا ـ من كبار مشايخ البخاري ، وقد أكثر من الرواية عنه في صحيحه كما لا يخفى على المتتبّع ، ومع هذا لا يبقى ريب في سقوط قدح البخاري.

٤ ـ رواية أحمد

ولقد أخرج أحمد بن حنبل حديث مدينة العلم ، وأحمد أحد الأئمّة الأربعة ، ومن مشايخ البخاري أيضا ، أخرجه ـ كما علمت سابقا ـ بطرق متعددة ، وقد نصّ سبط ابن الجوزي وغيره على أنّ أحمد متى روى حديثا وجب المصير إلى روايته ، فلا يعبأ حينئذ بقدح البخاري أو غيره في هذا الحديث

١٠٨

الشريف.

٥ ـ رواية ابن معين

وقد رواه يحيى بن معين أيضا ، وهو من أركان ثقات علمائهم ، ومن أعاظم مشايخ البخاري كذلك ، وقد أثبته وصرّح بصحته مرة بعد أخرى كما سبق آنفا ، فلا قيمة لقدح البخاري بعد تصحيح ابن معين إيّاه.

٦ ـ رواية الطبري

ولقد حكم محمد بن جرير الطبري بصحّة حديث « أنا دار الحكمة » في كتابه ( تهذيب الآثار ) كما علمت سابقا ، واختار اتّحاده مع حديث « أنا مدينة العلم ». ومع تصحيح هذا الامام العظيم لا يصغي منصف إلى قدح البخاري في هذا الحديث.

٧ ـ رواية الحاكم

وأخرج الحاكم النيسابوري حديث « أنا مدينة العلم » في ( المستدرك على الصحيحين ) وصحّحه على شرط الشيخين ، وهذا من أوضح الشواهد على أنّ قدح البخاري ليس إلاّ من تعصّبه وعناده مع الحق وأهله ، وهو يكفي دليلا على سقوط هذا القدح.

٨ ـ رواية الترمذي

وأخرج الترمذي حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها في صحيحه ، على ما نقل

١٠٩

عنه ابن طلحة الشافعي في ( مطالب السئول ) كما تقدّم ، وهذا أيضا يسقط قدح البخاري فيه عن درجة الاعتبار.

٩ ـ جزم جماعة من الحفاظ بصحّته

كما جزم وحكم جماعة من أعيان حفّاظ أهل السّنة بصحّة حديث مدينة العلم ، غير مبالين بقدح البخاري فيه ، ومنهم : سبط ابن الجوزي ، وأبو عبد الله الكنجي ، وجلال الدين السيوطي ، والمتقي الهندي ، ومحمد صدر العالم ، ومحمد البدخشاني ، والأمير الصنعاني ، والمولوي حسن زمان.

وإعراض هؤلاء عن قدح البخاري دليل آخر على وهنه ...

١٠ ـ تحسين جماعة

وحكم بحسن حديث أنا مدينة العلم جماعة آخرون من الحفاظ والعلماء ، وصرّحوا ببطلان قدح القادحين فيه ، ومنهم : العلائي ، والفيروزآبادي ، وابن حجر العسقلاني ، والسخاوي ، ومحمد بن يوسف الشامي ، وابن حجر المكي ، ومحمد طاهر الفتني ، ومحمد حجازي ، وعبد الحق الدهلوي ، والعزيزي ، والشبراملسي ، والزرقاني ، والصبّان ، والشوكاني ، والميرزا حسن علي المحدّث ...

فقدح البخاري باطل لدى كلّ هؤلاء المحقّقين ...

١١ ـ كلام الزركشي

وحكم بدر الدين الزركشي الشّافعي بأنّ حديث أنا مدينة العلم ينتهي إلى درجة الحسن المحتجّ به ، ولا يكون ضعيفا فضلا عن كونه موضوعا ، فهو ـ إذن ـ يرى بطلان دعوى البخاري كما هو واضح.

١١٠

١٢ ـ فتوى ابن حجر المكي

وأفتى ابن حجر المكّي في ( فتاواه الحديثية ) بحسن حديث أنا مدينة العلم ، بل صرّح بصحته تبعا للحاكم ، ثم اعترض على قدح البخاري وغيره فيه ، وهذا نصّ كلامه : « وأمّا حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فهو حديث حسن ، بل قال الحاكم صحيح ، وقول البخاري : ليس له وجه صحيح ، والترمذي : منكر ، وابن معين : كذب ـ معترض ، وإن ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وتبعه الذهبي على ذلك ».

١٣ ـ إعراض جماعة عن قدح البخاري

ولقد نقل جماعة من أعيان علماء أهل السنة كلمة البخاري في حديث أنا مدينة العلم ثم أعرضوا عنها ولم يعبئوا بها ، وذهبوا إلى اعتبار الحديث وتحسينه والاحتجاج به ، ومنهم : السّيوطي ـ في ( الدرر المنتثرة ) ـ والسمهودي ، والقاري ، والمنّاوي ، وثناء الله باني بتي ـ وهو بيهقي عصره في رأي ( الدهلوي )ـ.

فاستناد ( الدّهلوي ) إلى كلام البخاري مع رواية مشايخ البخاري الحديث وتصحيحهم له ، وتصحيح جماعة من الحفاظ وتحسين آخرين له ، وهكذا إعراض كبار العلماء عن قدح البخاري ـ عجيب جدا.

١١١

ردّ نسبة القدح إلى الترمذي

قوله :

« وقال الترمذي : إنّه منكر غريب ».

أقول :

إنّ نسبة القدح في حديث أنا مدينة العلم إلى الترمذي كذب محض لوجوه :

(١) نقل جماعة الحديث عن صحيح الترمذي

١ ـ ابن طلحة الشافعي

قال ابن طلحة الشافعي في مطالب السئول في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ولم يزل بملازمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزيده الله تعالى علما ، حتى قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما نقله الترمذي في صحيحه بسنده عنه : أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

١١٢

٢ ـ ابن تيميّة

فقد أورده عن صحيح الترمذي واستدل به ، ولو كان ثمة قدح من الترمذي لما تمّ استدلاله.

قال ابن تيميّة في منهاجه : « وحديث أنا مدينة العلم أضعف وأوهى ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أنّ سائر طرقه موضوعة ».

ولو كان للترمذي قدح في حديث مدينة العلم لذكره هذا الناصب العنيد ، إذ هو بصدد ردّ هذا الحديث ، كما هو واضح!!

٣ ـ ابن روزبهان

لقد اعترف الفضل ابن روزبهان برواية الترمذي هذا الحديث في صحيحه ، اعترف به في ردّه على كلام العلاّمة الحلّي قدس‌سره ، ولو كان الترمذي قد قال فيه « إنه منكر غريب » لذكر كلامه البتّة ، وهذا من الظهور بمكان ...

٤ ـ الميبدي

ونقل الحسين الميبدي حديث أنا مدينة العلم في ( الفواتح ) عن صحيح الترمذي واحتجّ به لمرامه ، كما وقفت فيما سبق على نصّ كلامه ، ...

٥ ـ محمد بن يوسف الشامي

وتقدّم نصّ كلام محمد بن يوسف الشامي في سيرته حيث قال « روى الترمذي وغيره مرفوعا : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، والصواب إنه حديث

١١٣

حسن ... » ولو كان الترمذي قد قدح فيه لما جاز له السّكوت عن نقل قدحه.

٦ ـ ابن حجر المكي

وذكر ابن حجر المكي في صواعقه رواية الترمذي هذا الحديث الشريف ، ولم ينسب إليه أيّ قدح فيه ، ولو كان لذكره قطعا.

٧ ـ الميرزا مخدوم

ونقل الميرزا مخدوم حديث مدينة العلم في نواقضه عن الترمذي ، وأورده في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، أخرجه الترمذي ».

ولو كان ما نسب ( الدهلوي ) إلى الترمذي صحيحا لما أثبت الميرزا مخدوم هذا الحديث في فضائل علي عليه‌السلام ، ولذكر ـ على الأقل ـ قدح التّرمذي فيه.

٨ ـ العيدروس اليمني

وذكر العيدروس اليمني في العقد النّبوي حديث مدينة العلم برواية الترمذي في فضائل سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا يدل على عدم صدور القدح فيه من التّرمذي.

٩ ـ الشيخاني القادري

وكذلك الشيخاني القادري في الصراط السّوي ، رواه عن الترمذي وهو بصدد ذكر رواته ، فلو كان ثمة قدح منه لذكره أو نوّه به في الأقل.

١١٤

١٠ ـ عبد الحق الدهلوي

والشيخ عبد الحق الدهلوي ذكر إخراج الترمذي حديث مدينة العلم في رجال المشكاة.

١١ ـ الشبراملسي

وتقدّم في محلّه قول نور الدين الشبراملسي في تيسير المطالب :

« قوله مدينة العلم : روى الترمذي وغيره مرفوعا : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، والصواب إنه حديث حسن كما قاله الحافظ العلائي وابن حجر » وهذا أيضا يبطل دعوى قدح الترمذي في هذا الحديث الشريف.

١٢ ـ الكردي

وقال إبراهيم الكردي الكوراني في نبراسه كما سمعت فيما مضى : « وأمّا أنه باب مدينة علمه ففي قوله صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، رواه البزار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله ، والترمذي والحاكم عن علي ». وهذا أيضا ممّا يدفع نسبة صدور القدح في هذا الحديث عن الترمذي.

١٣ ـ الزرقاني

وهكذا رواه محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرح المواهب اللدنية وقد مضت عبارته ...

١١٥

١٤ ـ الصبّان

وذكر الصبّان المصري في إسعاف الراغبين رواية الترمذي حديث مدينة العلم وهو بصدد إثباته كما دريت في مضى ، وهذا دليل آخر على كذب ما نسب إلى الترمذي ...

١٥ ـ العجيلي

وتقدم أيضا قول العجيلي في ذخيرة المآل : « وأخرج الترمذي أنّه قال صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ، ولهذا كانت الطرق والسلسلات راجعة إليه ».

فالعجيلي رواه عن الترمذي وهو بصدد إثباته وبيان أعلمية أمير المؤمنين عليه‌السلام من غيره على ضوء الحديث ، ولو كان الترمذي قادحا فيه لما استند إليه ، وذلك ظاهر كلّ الظهور.

(٢) تحسين الترمذي الحديث

بل إنّ الترمذي قد حسّن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فضلا عن روايته له ، جاء ذلك في اللّمعات في شرح المشكاة وهذه عبارته ـ كما سمعت سابقا ـ « واعلم أن المشهور من لفظ الحديث في هذا المعنى : أنا مدينة العلم وعلى بابها. وقد تكلّم النقّاد فيه ، وأصله من أبي الصّلت عبد السلام وكان شيعيّا وقد تكلّم فيه ، وصحّح هذا الحديث الحاكم وحسّنه الترمذي ... ».

فهل يبقى شك في كذب دعوى ( الدهلوي )؟!

١١٦

(٣) اعتراض السّيوطي على ابن الجوزي

لقد ذكر السّيوطي إخراج الترمذي حديث مدينة العلم في النكت البديعات على الموضوعات ، معترضا به على قدح ابن الجوزي في الحديث وإيراده إيّاه في الموضوعات ، وهذا نصّ كلامه : « حديث ـ ق ك‍ ـ أنا مدينة العلم وعلي بابها. أورده من حديث علي وابن عباس وجابر.

قلت : حديث علي أخرجه الترمذي والحاكم ، وحديث ابن عباس أخرجه الحاكم والطبراني ، وحديث جابر أخرجه الحاكم ... ».

وقال السّيوطي في اللآلي المصنوعة بعد ذكر قدح ابن الجوزي : « قلت : حديث علي أخرجه الترمذي ... ».

فكأنّه يقول لابن الجوزي : كيف تورد حديث مدينة العلم من حديث علي في الموضوعات وتقدح فيه وقد أخرجه الترمذي ...؟!

(٤) كلام الشوكاني

وقد نقل الشوكاني في الفوائد المجموعة القدح في هذا الحديث عن بعض المتعنّتين ثمّ قال : « وأجيب عن ذلك بأنّ محمد بن جعفر البغدادي الفيدي قد وثّقه يحيى بن معين ، وأن أبا الصلت الهروي قد وثّقه ابن معين والحاكم ، وقد سئل عن هذا الحديث فقال : صحيح ، وأخرجه الترمذي عن علي مرفوعا ، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس مرفوعا وقال : صحيح الإسناد ... ».

١١٧

ردّ قدح ابن الجوزي

قوله :

« وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ».

أقول :

احتجاج ( الدهلوي ) بذكر « ابن الجوزي » حديث مدينة العلم في « الموضوعات » غريب جدّا ، وذلك لسقوط ابن الجوزي وكتابه المذكور عن درجة الاعتبار ، لدى أكابر العلماء الأعلام ، ولنذكر شطرا من كلماتهم في هذا المضمار :

من كلمات العلماء في ابن الجوزي

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٥٩٧ من الكامل : ـ « وفي هذه السّنة في شهر رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد ، وتصانيفه مشهورة ، وكان كثير الوقيعة في الناس ، لا سيّما في العلماء المخالفين

١١٨

لمذهبه والموافقين له ، وكان مولده سنة ٥١٠ ».

وكذا في الخميس في حوادث السنة المذكورة.

وفي المختصر في أخبار البشر : « وكان كثير الوقيعة في العلماء ».

وفي الكامل بترجمة عبد الكريم السمعاني : « وقد جمع مشيخته فزادت عدّتهم على أربعة آلاف شيخ ، وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي فقطّعه ، فمن جملة قوله فيه : إنه كان يأخذ الشيخ ببغداد ويعبر به إلى فوق نهر عيسى فيقول : حدثني فلان بما وراء النهر. وهذا بارد جدا ، فإنّ الرجل سافر إلى ما وراء النهر حقّا ، وسمع في عامة بلاده من عامة شيوخه ، فأيّ حاجة به إلى هدا التدليس البارد ، وإنّما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي ، وله أسوة بغيره ، فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلاّ مكثري الحنابلة » (١).

وذكره ابن الوردي (٢).

وقال اليافعي في مرآة الجنان حوادث ٥٩٥ « وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقّاه الناس ، وبقي في المطمورة خمس سنين ، كذا ذكره الذهبي ، ولم يتبيّن لأيّ سبب سجن ، وكنت قد سمعت فيما مضى أنه حبس بسبب الشيخ عبد القادر بأنّه كان ينكر عليه ، وكان بينه وبين أبيه عداوة بسبب الإنكار المذكور ، وأخبرني من وقف على كتاب له أنّه ينكر فيه على قطب الأولياء تاج المفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر الشيخ محي الدين عبد القادر قدس الله روحه ونوّر ضريحه ، وإنكار ابن الجوزي عليه وعلى غيره من الشيوخ أهل المعارف والنور من جملة الخذلان وتلبيس الشيطان والغرور ، والعجب منه في إنكاره عليهم وبمحاسنهم يطرز كلامه فقد ملأت ـ والحمد لله ـ محاسنهم الوجود ، فلا مبالاة بذم كلّ مغرور وحسود ».

__________________

(١) الكامل ـ حوادث : ٥٩٧.

(٢) تتمة المختصر ـ حوادث : ٥٩٧.

١١٩

وقال الذهبي بترجمة أبان بن يزيد العطّار : « ثم قال ابن عدي : هو حسن الحديث متماسك ، يكتب حديثه ، وعامّتها مستقيمة ، وأرجو أنّه من أهل الصدق.

قلت : بل هو ثقة حجة ، ناهيك بأن أحمد بن حنبل ذكره فقال : كان ثبتا في كلّ المشايخ ، وقال ابن معين والنسائي : ثقة. وقد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في الضعفاء ولم يذكر فيه اقوال من وثّقه ، وهذا من عيوب كتابه ، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق ، ولو لا أنّ ابن عدي وابن الجوزي ذكرا أبان بن يزيد لما ذكرته أصلا » (١).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : « قرأت بخطّ الموقاني أن ابن الجوزي شرب البلاذر فسقطت لحيته فكانت قصيرة جدّا ، وكان يخضبها بالسواد ، وكان كثير الغلط فيما يصنّفه ، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره. قلت : له وهم كثير في تواليفه ، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحول إلى مصنف آخر ، ومن أن جلّ علمه من كتب وصحف ما مارس فيه أرباب العلم كما ينبغي » (٢).

وقال ابن حجر بترجمة ثمامة بن الأشرس البصري : « وذكر أبو منصور بن طاهر التميمي في كتاب الفرق بين الفرق ، أنّ الواثق لما قتل أحمد بن نصر الخزاعي ـ وكان ثمامة ممّن سعى في قتله ـ فاتفق أنه حجّ فقتله ناس من خزاعة بين الصّفا والمروة. وأورد ابن الجوزي هذه القصّة في حوادث سنة ثلاث عشرة ، وترجم لثمامة فيمن مات فيها وفيها تناقض ، لأن قتل أحمد بن نصر تأخّر بعد ذلك بدهر طويل ، فإنه قتل في خلافة الواثق سنة بضع وعشرون ، فكيف يقتل قاتله سنة ثلاث عشرة ، والصّواب أنه مات في سنة ثلاث عشرة ، ودلّت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينتقد ما يحدّث به » (٣).

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ١٦.

(٢) تذكرة الحفاظ : ٤ / ١٣٤٢.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ٨٤.

١٢٠