تراثنا ـ العدد [ 135 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 135 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣١٨

٨ ـ الحجاج في القران الكريم (من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبية) : عبدالله صولة ، ط٢ ، دار الفارابي ، بيروت ، لبنان ٢٠٠٧ م.

٩ ـ الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة ـ دراسة تداولية ، (أطروحة دكتوراه) : إبتسام بن خراف كلّية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة الحاج لخضر ، باتنة ، الجزائر ٢٠١٠ م

١٠ ـ خلاصة الأقوال : العلاّمة الحلّي (ت ٧٢٦ هـ) تحقيق : الشيخ جواد القيّومي ، ط١ ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، قم ١٤١٧ هـ.

١١ ـ دلائل الإعجاز : عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق : محمود محمّد شاكر ، ط١ ، دار المدني ، السعودية ١٩٩١ م.

١٢ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : آغا بزرك الطهراني (ت ١٣٨٩ هـ) ، دار الأضواء ، ط٣ ، بيروت ، لبنان ١٩٨٣ م.

١٣ ـ رجال الطوسي : الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) تحقيق : الشيخ جواد القيّومي ، ط١ ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، قم ١٤١٥ هـ.

١٤ ـ رجال النجاشي : النجاشي (ت ٤٥٠ هـ) مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، ط٥ ، قم ١٤١٦ هـ.

١٥ ـ رسائل الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة (دراسة حجاجية) : رائد مجيد جبّار الزبيدي ، (أطروحة دكتوراه) كلّية الآداب ، جامعة البصرة ١٤٣٤ هـ ـ ٢٠١٣ م.

١٦ ـ سير أعلام النبلاء : الذهبي (ت ٧٤٨ هـ) تحقيق : شعيب الأرنؤوط ومحمّد نعيم العرقسوسي ، مؤسّسة الرسالة ، ط٩ ، بيروت ، لبنان ١٤١٣ هـ ـ ١٩٩٣ م.

١٧ ـ العامل الحجاجي والموضع ضمن كتاب الحجاج مفهومه ومجالاته : حافظ إسماعيل علوي وآخرون ، عالم الكتب الحديث ، ط١ ، أربد ، الأردن ٢٠١٠ م.

١٦١

١٨ ـ الفهرست : الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) تحقيق : الشيخ جواد القيّومي ، مؤسّسة النشر الإسلامي ،ط١ ، قم ١٤١٧ هـ.

١٩ ـ الفهرست : ابن النديم البغدادي (ت ٤٣٨ هـ) تحقيق : رضا تجدد ، (د.ط) (د.م) (د.ت).

٢٠ ـ قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية ـ البنية التحتية أو التمثيل الدلالي التداولي : أحمد المتوكّل ، دار الأمان ، المغرب ١٩٩٥ م.

٢١ ـ لسان الميزان : ابن حجر(ت ٨٥٢ هـ) ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، ط٢ ، بيروت ، لبنان ١٣٩٠ هـ ـ ١٩٧١ م.

٢٢ ـ معترك الأقران في إعجاز القرآن : السيوطي ، تحقيق : علي محمّد البجاوي ، القاهرة ١٩٧٣ م.

٢٣ ـ منتهى المقال في أحوال الرجال : الشيخ محمّد بن إسماعيل المازندراني (ت ١٢١٦ هـ) مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لاحياء التراث ، مطبعة ستارة ، ط١ ، قم ١٤١٦ هـ.

٢٤ ـ نقد الرجال : التفرشي (ت القرن الحادي عشر للهجرة) ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلاملإحياء التراث ، مطبعة ستارة ، ط١ ، قم (د.ت).

٢٥ ـ الوظائف التداولية في اللغة العربية : أحمد المتوكّل ، دار الثقافة ، ط١ ، الدار البيضاء ١٩٨٥ م.

١٦٢

وسائل الاختصاص في اللغة

شواهد من كلام الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام انموذجاً

د. هاشم جعفر حسين الموسوي

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدّمة :

لقد تطرّقنا في مقالنا هذا إلى دراسة أدبية للدّواعي البلاغية الواردة في لغة العرب وبيانهم من فصاحة وبلاغة ، وكان جلّ اهتمامنا في الاختصاصات البلاغية الواردة في كلامهم ، وبما أنّ الدراسات اللغوية والنحوية وما شاكلها من فنون بيان العرب بحاجة إلى شواهد عليها فكان كلام الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام خير شاهد في هذا المضمار حيث أنّ كلام آل البيت عليهم‌السلام مدوّنة معرفية متكاملة ، وموسوعة لغوية في أعلى درجات البيان والفصاحة ، ولو أنّ أيدي اللغويّين ـ قديماً وحديثاً ـ امتدّت لاستقراء شواهدها اللغوية لأصبنا من ذلك بسهم وافر من الثروة اللغوية.

١٦٣

والاختصاص وسيلة من وسائل المعنى ، حظيت بعناية العلماء على تنوُّع مشاربهم اللغوية والأدبية ، فاستقروا شواهدها من كلام العرب ، واستنبطوا بموجب تلك الشواهد وسائل الاختصاص وأضربها وأحكامها التفصيلية. ومفاد الاختصاص إنّما هو عناية المتكلّم بمعنى يُرتِّب عليه أجزاء الكلام على نمط معيَّن وأدوات لغوية معلومة ، ليُنبِّه أذهان المتلقّين على أنّ هذا المعنى له حظوة عنده.

ومن المفترض أنّ كلام آل البيت عليهم‌السلام هو موضعٌ للعناية والاختصاص بأجزائه كلّها وبمعانيه أجمعها ، ذلك أنّهم يستقون معاني كلامهم من معدن الفيض الإلهي ، ويُعربون عن تلك المعاني القدسية بأبهى حلّة لغوية ، وبأعلى درجة من درجات البيان ، فهم الذين أحصى الله سبحانه كلَّ شيء فيهم ، وهم عِدْلُ القرآن الكريم وتراجمة وحيه.

على أنّ الباحث ارتأى أن يجاري اللغة في أحكامها ـ استناداً إلى أنّهم عليهم‌السلام كلّموا الناس على وفق سنن لغتهم ، وأمروهم أن يُعربوا كلامهم ، لأنّهم قومٌ فصحاء ـ فاختار دراسة وسائل الاختصاص في كلام الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام.

ولمّا كان الإحصاء قد أحاط بجملة صالحة من هذه الوسائل تناسب مقام البحث وما يتّسع له من صفحات ، اختار الباحث أن يقسّم المادّة المدروسة تمهيداً مختصراً لمعنى الاختصاص في اللغة والاختصاص ، ثمّ خمسة مطالب رُتّبت على النحو الآتي :

١٦٤

المطلب الأوّل : الاختصاص بالتقديم والتأخير.

المطلب الثاني : الاختصاص بالقصر.

المطلب الثالث : الاختصاص بالمفاعيل.

المطلب الرابع : الاختصاص بالنداء.

المطلب الخامس : الاختصاص بوسائل أخرى.

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينال رضا سيّدي ومولاي كريم آل البيت الحسن المجتبى ، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

التمهيد : معنى الاختصاص في اللُّغة والاصطلاح :

الاختصاص مصدر قياسيّ للفعل الخماسي (اختصَّ) ، ومجرّده من الثلاثي(خصَّ) الدَّالّ عَلى الْفُرْجَةِ وَالثُّلْمَةِ ، ومنه يقال : خَصَصْتُ فُلاَناً بِشَيء خَصُوصِيَّةً ، فاِذَا أُفْرِدَ وَاحِدٌ ، فَقَدْ أَوْقَعَ فُرْجَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ(١) ، و «اختصّ بِهِ ، إِذا انْفَرد بِهِ ، وخَصَّ غيرَه واختصّه ببرِّه»(٢) ، والاختصاص هو الانفراد بالشيء ، والاصطفاء ، والاختيار ، وهو قصر شيء على شيء على وَجْهِ التفرُّد ، والعرب تَعْمَدْ في كلامها إلى أنَّها تُعَمِّم ، ثمّ تُفرِد للاختصاص

__________________

(١) ينظر : مقاييس اللغة ٢ / ١٥٣ ، (خ ص).

(٢) تهذيب اللغة : ٦ / ٢٩٢ ، (خ ص).

١٦٥

والتفضيل(١) ، وقد أوضح العسكري(ت ٣٩٥ هـ) معنى الاختصاص ، وفرّقه عن الانفراد ، فقال : «إنَّ الاختصاصَ انفرادُ بعض الأَشياء بمعنى دون غيره ، كالانفراد بالعلم والمُلك ، والانفراد تصحيحُ النفس وغير النَّفس ، وليس كذلك الاختصاص ؛ لأنَّهُ نقيض الاشتراك ، والانفراد نقيض الازدواج ، والخاصَّة تحتمل الإِضافة وغير الإضافة ؛ لأنَّها نقيض العامَّة ، فلا يكون الاختصاص إلاَّ على الإِضافة ؛ لأنَّه اختصاص بكذا دون كذا»(٢) ، فالمختصُّ مُنْفَرِدٌ بِحُكْم من دونِ غيره ، وتكون له بذلك الأفضليَّة على غيره ، وعُرِفَ الاختصاص في النَّحو على وجه العموم بأَنَّهُ «قصر الحُكْمِ على بعضِ أَفرادِ المذكور»(٣) ، فمن نَخُصُّهُ بشيء ، ونقصر عليه أمراً ، فهو مفضَّل على غيره ، مُمَيَّز بأوصاف التخصيص.

وعدّ الدكتور تمّام حسَّان الاختصاص علاقة سياقيَّة كُبرى ، أو قرينة معنوية كبرى ، تتفرّع عنها قرائن معنوية أخَصّ منها ، وأنَّ هذه القرائن الخاصّة كلّها تجتمع في قرينة معنوية كبرى أعمّ منها تشملها جميعاً ، وتسمَّى قَرينة الاختصاص(٤).

وقد اشتمل كلام الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام على وسائل للاختصاص

__________________

(١) ينظر : فقه اللغة وسرّ العربية : ٢٢٣.

(٢) الفروق اللغوية : ١٤٠.

(٣) حاشية الصبّان ٣ / ٢٧٤ ، ومعجم المصطلحات النحوية والصرفية ، محمّد سمير نجيب ٧٤.

(٤) ينظر : اللغة العربية معناها ومبناها ١٩٤ ـ ١٩٥.

١٦٦

متنوّعة ، اعتنى البحث بدراسة جملة منها وتحليلها ضمن مطالب سترد في الصفحات اللاحقة على النحو الآتي :

المطلب الأوّل : التخصيص بالتَّقديمِ والتَّأخيرِ :

إنّ الكلامَ يصدُر عن المتكلّم وهو يحمل فكرةً ما يراد توصيلها للمخاطب ، ويكون ذلك الكلام تحتَ تأثير مناسبات القول ومقتضيات الأحوال والعلاقة بين المتكلّم والمتلقّي ، فلا يتمّ التفاهم ، ولا يقع ذلك الكلام في نفس المتلقّي موقعَ القَبُول والاكتفاء حتّى تُراعَى تلك المناسبات(١) ، فلمناسبة أو لغرض ، تتقدّم أجزاء الكلام بحسب ما تقتضيه المناسبة ، لكن ذلك التقديم ليس مطلقاً ؛ لأنَّ في الكلام ما يجوز التقديم والتأخير ، وفيه ما لا يجوز ذلك ، أي إنَّ هناك ما يُسمَّى بالرُّتَبِ المحفوظة التي لا يجوز تقديم شيء عليها ، وهناك الرُّتَب غير المحفوظة ، التي يمكن تقديم شيء عليها(٢) ؛ لذا فإنَّ أجزاءَ الكلام ولبناته الأساسية مرتّبة ترتيباً متناسقاً ، وقد تطرأ عليها أحياناً تغيّرات تحوّلها عن نَسَقِهَا القديم ، فيشهد الكلام بذلك ولادة لصورة الكلام الأصليَّة ، وهذا الأمر ليس بالجديد في كلام العرب ، بل كان ذلك من سُنَنِ لغتهم ، فهم كانوا يعمدون إلى ذلك الأمر في مخاطباتهم ، فتقديم

__________________

(١) ينظر : في النحو العربي نقد وتوجيه : ٢٢٥.

(٢) ينظر : الأصول في النحو٢ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، والخصائص ٢ / ٣٨٧ ، والأشباه والنظائر في النحو ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، واللغة العربية معناها ومبناها : ٢٠٧.

١٦٧

الكلام ، وهو في المعنى مُؤخّر ، وتُأخّرُهُ ، وهو في المعنى مُقَدَّم سنّة جارية(١) ، وهو دليلٌ على عدم جمود اللغة واحتباسها تحت قيد الرتابة ، بل إنَّ التقديم والتأخير علامة على حيويَّة اللُّغة وسعتها في طرائق التعبير ، حتّى عَدَّ ابن جنّي (٣٩٢ هـ) ذلك من شجاعة العربية(٢) ، ويراه عبد القاهر الجرجاني (ت٤٧١ هـ) ذا فوائدَ كثيرة ، ومحاسن جمَّة ، فيه سَعَةُ التصرُّف ، وأنَّ سَبَبَ ما رَاقَ في الكلام من مَسْمَع ، وَلَطُفَ من موقع ، هو ما قُدِّم فيه شيءٌ ، وحَلَّ فيه لفظٌ من مكان إلى مكان آخر(٣) ، وهو دليلُ الفصاحة ، ومَلَكَة البيان ، وهو ـ بعدُ ـ «أَحَد أَسَالِيبِ الْبَلاَغَةِ ، فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلاَلَةً على تَمَكُّنِهِمْ في الْفَصَاحَةِ وَمَلَكَتِهِمْ في الْكَلاَمِ وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِع وَأَعْذَبُ مَذَاق»(٤).

ومازال موضوع التقديم والتأخير محطّ عناية العلماء كلّ بحسب اختصاصه ؛ لذلك نرى أنَّ النحويّين قد وضعوا لكلّ جزء من الكلام رتبة خاصّة به ، فالأصل في الجملة الاسمية أنْ تُقدَّم رتبة المبتدأ ، وتؤخَّر رتبة الخبر ، أمَّا الجملة الفعلية ، فرُتْبَةُ الفعل فيها يجب أنْ تكون أوّلاً ، ثمّ تليها رتبةُ الفاعل ، ورتبةُ المفعول يجب أن تكون آخراً ، ومن غنى العربية امتلاكها وسائل حفظها التي تضمن لها سلامتها ، وإنْ حدث ما يطرأ على نظامها ،

__________________

(١) ينظر : فهم القرآن ومعانيه : ٢٥٩ ، والصاحبي في فقه اللغة : ١٨٩.

(٢) ينظر : الخصائص ٢ / ٣٦٢.

(٣) ينظر : دلائل الإعجاز ١ / ١٠٦.

(٤) البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٣٣.

١٦٨

بالتقديم والتأخير ، أو بغير ذلك ، حافظت القرائن اللفظية والمعنوية على سلامة التركيب فيه وانتظام معناه.

إنّ الثابت في الأحكام النحوية أنّ العدول بالتراكيب عن الترتيب الأصلي يوجب تغيّراً في الأحكام وفي المعنى ، وإنّ مثل هذا التغيير يُوجب عدم تفويت الفائدة من التقديم ، وإلاَّ لَذَهَبَ رونق الكلام ، وفاتت قيمته الجمالية والتأثيرية في المقابل ، ولَخَاَلَفَتْ مقتضى الحال الذي سِيقَ من أجله ، فإباحة تحرُّك بعض أجزاء الكلام لا بدَّ له من مسوغ يشفع له ؛ لذلك قيل إنّ الأصل الجاري في التقديم والتأخير يكون لسبب العناية والاهتمام بالمُقدَّم.

وأوّل من أشار إلى عادة العرب في التقديم والتأخير مع بيان السبب سيبويه (ت١٨٠ هـ) ، بقوله :) (كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمُّ لهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم»(١) ، فهو يرى تساوي أجزاء الكلام في الأهمّية ، لكن ما يهمّهم بيانه يقومون بتقديمه ، ولكن ليس على حساب اللفظ المؤخَّر ؛ لأنَّه هو الآخر موضع عنايتهم واهتمامهم ، ولكن إنْ أُريد زيادة الاهتمام بجزء من دون آخر ، يقدَّم في الكلام على غيره ؛ لذا قال الجرجاني : «اعلم أَنَّا لم نَجدْهُم اعْتَمدوا فيه شيئاً يَجري مَجرى الأَصْل ، غيرَ العنايةِ والاهتمامِ»(٢) ، فالعناية بالمقدّم من أبرز غايات التقديم ، وتتحصَّل من سياقات عدَّة.

__________________

(١) كتاب سيبويه ١ / ٣٤.

(٢) دلائل الإعجاز ١ / ١٠٧٠.

١٦٩

إنّ التقديم والتأخير يضفي دلالة الاخْتِصَاص(١) ، ولكثرته في الكلام العربي قيل : «كَادَ أَهْلُ الْبَيَانِ يُطْبِقُونَ على أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ سَوَاءٌ كَانَ مَفْعُولاً أَوْ ظَرْفاً أَوْ مَجْرُوراً»(٢).

وقد استقرى البحث مواضع كثيرة للتقديم والتأخير في نصوص كلام الإمام المجتبى عليه‌السلام ، واستنتج من ذلك أنّ الذي طغى عليها هو تقديم شبه الجملة من الظرف والجار والمجرور ، لذا سأعرض لأمثلة من ذلك التقديم الذي يُراد به الاختصاص ، فمنه تقديم الظرف على متعلقه في قول الإمام عليه‌السلام : «وعندنا ما نزلت به رسله»(٣) ، بتقديمِ الظرفِ (عندنا) دلالة على تخصيصِ وجود ذاك الشيء الذي نزلتْ به الرسل(٤) ، أي إنّهم مستودع خزائن الأنبياء عليهم‌السلام ، فجَمَعَ ـ تعالى ـ لهم كلّ ما خَصَّ به أنبياءه السابقين ، فشرَّفَهم وَحْدَهم بجميعِ فضائلِ النبيّين المُقرَّبينَ من الصُحُفِ الإِلهيَّة ، والكتب السماويَّة ، والعلوم الرَّبَانيَّة ، والمواريث القُدْسِيَّة ، فالتقديم هنا لتوجيه الأذهان اِلى مكان وجود هذه الكرامات ـ التي عندهم ـ لا إِلى هذه الكرامات بعينها ، فلم يعدِّدها ؛ بل عبَّر عنها بـ : (ما نزلت) ؛ لأنّ سياقَ الكلامِ ليسَ معقوداً عليها بالدرجة الأولى ، بل على مكانِ وجودها.

وفي هذا المعنى نفسه الذي يراد به بيان فضائل آل البيت عليهم‌السلام ، يرد

__________________

(١) ينظر : البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : الإتقان في علوم القرآن ٣ / ١٧٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٩٠.

(٤) ينظر : اللمع في العربية : ٥٦.

١٧٠

قول الإمام المجتبى أيضاً : «وقد خَلَتْ لهم من الله سُنّةٌ ، ومضى فيهم من الله حُكْم»(١) ، إذ تقدّم الجارّان والمجروران (لهم ، وفيهم) ، على فاعلي الجملة المتأخّرين (سنةٌ ، وحكم) ، لغرض الاختصاص ، وآية ذلك أيضاً استعمال لام الاختصاص المضافة إلى ضمير جماعتهم عليهم‌السلام ، واستعمال (في) للظرفية المستحكمة في ذواتهم ، المُبيَّن اقتضاؤها من الله عزّ وجلّ بـ : (من) البيانية ، المصرَّح بأنّها قد مضت لهم بحكمه تعالى.

ومن أمثلة تقديم الجارِّ والمجرور ما في قول الإمام المجتبى : «التَّقْوى بابُ كُلِّ تَوْبَة ، وَرَأْسُ كُلِّ حِكْمَة ، وَشَرَفُ كُلِّ عَمَل ، بِالتَّقْوى فازَ مَنْ فازَ مِنَ الْمُتَّقينَ»(٢) ، فبعد أن بيّن الإمام أهمّية التقوى وعظم خطرها وجلالة قدرها ، خصّ فوز المتّقين بامتلاكهم لناصيتها واتّخاذها وسيلة الفوز الرئيسة.

ومن إرشاداته عليه‌السلام : «هلاكُ الناس في ثلاث : الكِبْرُ ، والحِرصُ ، والحَسَدُ ، فالكبرُ به هلاكُ الدين وبه لُعِن إبليس ، والحرصُ عدوّ النفس وبه أُخرج آدم من الجنّة ، والحسدُ رائدُ السوء وبه قتلَ قابيلُ هابيل»(٣). ففي الكلام اختصّ هلاك الدين بالكبر ، وكذلك الحال في سبب لعنة إبليس وطرده من مقام القرب ، وبيان إنّ خروج آدم إنّما كان سببه الحرص ، وأنّ جريمة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥ / ١٠٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٨٨.

(٣) بحار الأنوار ٧٥ / ١١١.

١٧١

قتل الأخ أخاه مردّها إلى الحسد.

ومن التقديم والتأخير لشبه الجملة بنوعيها في نصّ واحد ، ما ورد في قوله عليه‌السلام لرجل : «اِيّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْكَ ، أَوْتُكَذِّبَنِي فَإِنَّهُ لا رَأْيَ لِمَكْذُوب ، أَوْتَغْتابَ عِنْدِي أَحَداً»(١) ، ففي النصّ تقديم للجار والمجرور (بنفسي) على معمول اسم التفضيل (وهو منك) ، وتقديم الظرف (عندي) مفعول الفعل المتعدّي (وهو أحداً) ، وإنّما كان غرض تغيير النمط الأصلي لتركيب الكلام منوطاً بغاية الاختصاص ، كاشفاً عن أهمّية التقديم والتأخير عند المتكلّم ، فمَنْ أقرب معرفة لنفس الإمام منه ، فكانت مخالفة الترتيب ، وإنْ كان الحكم النحوي يقتضيه في الأصل ، لأنّ المعنى حاكم على التركيب يسوقه إلى ما تقتضيه حكمة الكلام ولطائف التعبير. ونلحظ أيضاً في التركيب الآخر (تغتاب عندي أحد) شدّة كراهة الإمام للاغتياب ، فكان الفصل بين الفعل ومعموله أمارة على تلك الكراهية.

ومن التخصيص بالتقديم والتأخير في غير شبه الجملة ما ورد في أجزاء جملة الشرط في قول الإمام عليه‌السلام : «ونحن واللهِ ثمرةُ تلك الشجرة ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى ، ومن تخلّف عنها ، فإلى النار هوى»(٢) ، فقد تقدّم الجارُّ والمجرور (إلى النار) على متعلّقه الفعل الماضي الواقع جواباً للشرط (هوى) ، إمعاناً في التخصيص ، إذ من المعلوم أنّ جواب الشرط هو نتيجة

__________________

(١) المصدر نفسه ٧٥ / ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٣٥٨.

١٧٢

لفعل الشرط ، فهما علّة ومعلول ، فإنّ تقدّم جزء من الجواب على بعضه دلّ ذلك على العدول بالتركيب عن الترتيب الأصلي ممّا يوجب تغيّراً في المعنى ، مفاده شدّة الاختصاص وغرضه التنبيه على العاقبة السيّئة لمَن تخلّف عن ولاية آل البيت ولم يلتزم بمنهجهم. على حين نجد قبالة ذلك أنّ الترتيب في الفقرة الأولى (فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى) ورد على النمط الأصلي لجملة الشرط ، ليناسب ذلك استقامة السبب والنتيجة لمَنْ تمسّك بولايتهم عليهم‌السلام.

المطلب الثاني : الاختصاص بالمَفَاعِيل :

ذكر الدكتور تمّام حسّان علل التخصيص بالمفاعيل وغاياته في الاستعمالات اللغوية(١) ، وسنحاول هنا أن ننتفع من جانب التنظير عنده لتوظيف في التطبيق على نصوص مختارة من كلام الإمام الحسن عليه‌السلام :

١ ـ التخصيص بالمَفْعُول لَهُ :

هو «العلّة التي لأجلها صدر الفعل عن فاعله ، سواء كان سجيّة كـ : (قعدَ عن الحرب جبناً ، أو عَرَضاً ، كـ : (ضَنِيَ فلانٌ حُبّاً)»(٢) ، فالعلّة موجودة وهي دافع الفاعل إلى الفعل ، وهي حاصلة ولا يراد تحصيلها ، فالجبن دافع إلى حدث القعود ، والجبن حاصل ولا يراد تحصيله ، ومنه يتّضح إفادة اختصاص

__________________

(١) ينظر : اللغة العربية معناها ومبناها ١٩٥ ـ ١٩٨.

(٢) إرشاد السالك إلى ألفية ابن مالك ١ / ٣٦٤.

١٧٣

ذلك الحدث بتلك العلّة المذكورة(١) ، فعندما تقول مثلاً : (أتيتُ رغبةً في لقائك) ، فإنَّك بذلك تكون قد أَسْنَدتَ الإتيان إلى نفسك مُقَيّداً بسبب خاصّ ، وهو قيدُ الغائيَّة ، والتي تكون قرينة معنوية دالَّةً على المفعول لأجله ، ومقيّدة للإسناد الذي لولاها لكان أَعمّ ، فهو من دونِ سبب أعمّ منه وهو مُسَبِّبٌ ، وتكون دالَّة على جهة فَهْمِ الحَدَثِ الذي يشير إليه الفعل(٢) ، ومثال الاختصاص بالمفعول له في كلام الإمام الحسن عليه‌السلام : «اِنَّ اللهَ لَمْ يُطَعْ مَكْرُوهاً ، ولَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً ولَمْ يُهْمِلِ الْعِبادَ سُدىً مِنَ الْمَمْلَكَةِ ، بَلْ هُوَ الْمالِكُ لِما مَلَّكَهُمْ ، والقادِرُ على ما عَلَيْهِ أَقْدَرَهُمْ ، بَلْ أَمَرَهُمْ تَخْييراً ، ونَهاهُمْ تَحْذيراً»(٣) ، إذ قال : (تخييراً ، تحذيراً) مُقيِّداً بها الإسناد الذي لولاها لأصبحَ عامّاً لا تقييد فيه ، فقيَّدَ التخيير بالأمر والنهي بالتحذير.

ومنه أيضاً قول الإمام عليه‌السلام : «مَنْ أَدامَ الاْخْتِلافَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَصابَ إِحْدى ثَمان : آيَةً مُحْكَمَةً ، وأَخاً مُسْتَفاداً ، وَعِلْماً مُسْتَطْرَفاً ، وَرَحْمَةً مُنْتَظِرَةً ، وَكَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى الهُدى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدىً ، وَتَرْكَ الذُّنُوبِ حَياءً أَوْ خَشْيَةً»(٤) ، فقيّد الحياء أو الخشية بترك الذنوب ، فلولا هذا التخصيص لكان إعمام ترك

__________________

(١) ينظر : إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ١ / ٣٨٢ ، وحاشية ياسين على التصريح ١ / ٣٣٥ ، ومعاني النحو ٢ / ٢٢٩.

(٢) ينظر : اللغة العربية معناها ومبناها ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٨٨.

(٤) بحار الأنوار ٧٥ / ١٠٨.

١٧٤

الذنوب وارداً لا محالة ، إذ إنّ أسباب ترك الذنب متعدّدة ، وكلام الإمام في مقام إرصاد حالة ترك الذنب في مورد مخصّص وهو إدامة الاختلاف إلى المسجد.

وقال رجل للإمام الحسن عليه‌السلام بعد اعتزاله الخلافة الدنيوية : «إنّ الناس يزعمون أنّك تريد الخلافة؟» ، فأجابه الإمام : «كانت جماجمُ العرب بيدي ، يسالمون ما سالمتُ ويحاربون مَن حاربتُ ، فتركتُها ابتغاءَ وجهِ الله تعالى»(١) ، فقد خَصَّصت العلّةُ (ابتغاء وجه الله تعالى) ، وقَيّدتْ حدثَ الترك ، ولم تترك لمفتر أن يتأوّل لترك الإمام الخلافةَ أسباباً يختلقها ، أو ظنوناً مردّها إلى قصور الأذهان عن إدراك الأحكام الواقعية لما يصدر عن الأئمّة عليهم‌السلام. ذلك مع أنّ الإمام المجتبى أوضح أنّ من أعلى مصاديق ابتغاء وجه الله في تركه الخلافة ، طاعته لما أخبر به أبوه عن جدّه عن الله عزّ وجلّ ، إذ يقول المجتبى لرجل من شيعته : «سمعت أبي يقول : قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) : لن تذهبَ الأيّامُ والليالي حتّى يَلِيَ على أُمّتي رجلٌ ، واسعُ البُلعُوم ، رَحِبُ الصدر ، يأكل ولا يشبع ، وهو معاوية ، فلذلك فعلتُ ما جاء بك»(٢).

٢ ـ المَفْعُول المُطْلَق :

هو «كلُّ اسْم دلّ على حدث وزمان مَجْهُول ، وَهُوَ وَفعله من لفظ

__________________

(١) المصدر نفسه ٤٤ / ٢٥.

(٢) المصدر نفسه : ١٠ / ١٠٥.

١٧٥

وَاحِد ، وَالْفِعْل مُشْتَقّ من الْمصدر ، فَإِذا ذكرت الْمصدر مَعَ فعله فضلَةً ، فَهُوَ مَنْصُوب ، تَقول : قُمْت قيَاماً ، وَقَعَدت قُعُوداً»(١) ، والقرينة الدّالَّة عليه قرينة معنوية ، تسمَّى (التَّحديدُ والتَّوكِيد) ، «والمقصود بالتحديد والتوكيد : تعزيزُ المعنى الذي يفيده الحدث في الفعل ، وذلك بإيراد المصدر المشترك مع الفعل في مادَّته ؛ لأنَّ المصدر هو اسم الحدث ، ففي إيراده بعد الفعل تعزيز لعنصر الحدث ومعنى الفعل ، وتكون التقوية بواسطة ذكره مفرداً منوّناً على سبيل التأكيد ، أو مضافاً لمُعَيَّن لإفادة النوع ، أو موصوفاً لإفادة النوع أيضاً ، أو مُمَيِّزاً لعدد ، فيكون العدد نفسُه مفعولاً مطلقاً»(٢).

وورد التخصيص في كلام الإمام الحسن المجتبى بالمفعول المُطلَق المؤكِّد لفعله في قوله عليه‌السلام : «واعلموا علماً يقيناً أنّكم لن تعرفوا التقى حتّى تعرفوا صفة الهدى ، ولن تُمسكوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حقَّ تِلاوتِه حتّى تعرفوا الذي حرّفه»(٣) ، فقال : (اعلموا علماً يقيناً) ، فـ :(علماً) مصدر جِيءَ به لتوكيد الحدث المُطلَقِ المُجَرَّدِ ، ثمَّ وُصِفَ المصدر بـ : (يقيناً) ، لفائدة بيان نوع ذلك التسليم ، وتحديده بذلك النوع ، فقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ عن صفةِ ذلك العلم في حال لم يُذكر في الكلام ، و (يقيناً) قد بيَّن ذلك ، فجاء المصدر لتأكيد ما سيعلمه الإمام للأمّة

__________________

(١) ينظر : اللمع في العربية : ٤٨.

(٢) اللغة العربية معناها ومبناها : ١٩٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٨٧.

١٧٦

وأهمّيته لكونه غائباً عن الذهن غير قارّ في العقل والوجدان ، وخُصِّصَ وقُيِّدَ بـ : (يقيناً) لتثبيت أنّ علم الإمام علم يقيني لدنّي لا يرقى إليه الظنّ والشكّ والاحتمال وغير ذلك من منازل الأخبار غير اليقينية.

وورد في النصّ أيضاً ما ينوب عن المفعول المطلق في قوله عليه‌السلام : (ولن تتلوا الكتاب حقَّ تلاوته) ، فـ : (حقَّ) صفة للمصدر (تلاوته) ، وقد أضيفت إليه ونابت عنه في المصدرية ، على قاعدة أنّ المضاف والمضاف إليه بحكم الكلمة الواحدة ، وشأن هذه النيابة عن المصدر كشأن قولنا : «ضَرَبْتُ زَيْداً حَقَّ ضَرْبِهِ ، وَأَصْلُهُ تِلاوَةً حَقّاً. ثُمَّ قُدِّمَ الْوَصْفُ ، وَأُضِيفَ إِلَى الْمَصْدَرِ ، وَصَارَ نَظِيرَ : ضَرَبْتُه شَدِيدَ الضَّرْبِ ، إِذْ أَصْلُهُ : ضَرْباً شَدِيداً»(١).

وإنّما خرج التعبير عن نمطه الأصلي ، فقدِّمت الصفة على الموصوف وأضيفت إلى المصدر المؤكّد لفعله ، لغرض المبالغة في توكيد هذه التلاوة الحقّة ، وقد ورد عن الأئمّة الهداة في تفسير هذه التلاوة ما نصّه عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «يرتّلون آياته ، ويتفقّهون به ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعدَه ، ويخافون وعيدَه ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه»(٢) ، وعنه عليه‌السلام في معنى حقّ التلاوة أيضاً : «الوقوف عند

__________________

(١) البحر المحيط ١ / ٥٩٢.

(٢) مجموعة ورام ٢ / ٢٥٢.

١٧٧

الجنّة والنار»(١) ، والمقصود به : «الوقوف عند ذكر الجنّة والنار ، يسأل في الأولى ، ويستعيذ في الأخرى»(٢).

وهذه المعاني كلّها ترجع إلى التدبّر في قراءة القرآن الكريم ، وبذل الوسع في استيضاح مقاصد النصوص القرآنية والعمل بها ، ما استطاع المؤمن إلى ذلك سبيلاً.

وقد أكّد الإمام الحسن هذه المعاني في ذيل النصّ المتقدّم فقال عن القرآن الكريم : «واعقلوه إذا سمعتموه عقلَ رعاية ، ولا تعقلوه عقلَ رواية ، فإنّ رواةَ الكتاب كثيرٌ ورعاتَه قليلٌ ، والله المستعان»(٣) ، وفي النصّ ورد المفعول المطلق (عقل دراية ، وعقل رواية) مبيّناً لنوع الحدث عن طريق الإضافة ، فخصّصت الدراية بالعقل ، لأنّها المقصودة ، ونُفي النوع الآخر ، لأنّه لا يحقّق الغرض المنشود.

والذي يعضد ذلك الاختصاص أنّ الفعل الذي اشتقّ منه المصدر (اعقلوه) ، تقدّم على أداة الشرط وفعل الشرط ، وإنّما تغيّر ترتيب جملة الشرط هنا مع أنّها من الرتب المحفوظة غالباً ، لبيان مقدار العناية والاختصاص بعقل الدراية ، ذلك أنّ الجواب المتقدّم له من الحظوة في هذا السياق ما لا يخفى ، ولا يُعتدُّ بما ذكره نحويّو البصرة من حجج لمنع تقدّم

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٩ / ٢١٤.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٥٧.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ / ٣٧٠.

١٧٨

الجواب ، كضعف أداة الشرط للعمل في ما قبلها ، وحفظ المراتب ، والسببية ، وغير ذلك(١) ، إذ إنّ الصدارة في الكلام ، والرتبة ، والسببية ، والنتيجة تصطدم كلّها بالتقدّم من أجل العناية بالمتقدِّم ، ولأنّ ضعف العامل وقوّته مسألة عقلية لا ترتبط بالاستعمال اللغوي ، فالمتكلّمُ له أن يُعنى بالجواب أو ما يُشعِرُ به فيقدِّمه ، عنايةً به ، وإغراءً للسامع ، إن كانت النتيجة هي المطلوبة.

وورد العدد نائباً عن المفعول المطلق في قوله عليه‌السلام في توبيخ الوليد بن عقبة : «وأمّا أنتَ يا وليد بن عقبة ، فواللهِ ما ألومُكَ أن تَبغضَ عليّاً ، وقد جلدكَ في الخمر ثمانين جلدةً»(٢) ، فـ : (ثمانين) عدد نائب عن المصدر (جلدة) مضاف إليه ، وإنّما ناب عنه لغرض تخصيص مقدار الحدّ الواجب ، ولولا ذكره لوقع الإبهام في الحدِّ ، ولكان الإعمام في الكلام سيّد المقام ، فانجلت بالعدد المضاف إلى المصدر عقدة الإبهام.

٣ ـ المفعول فيه :

هو «ما نصب من اسم زمان ، أو مكان مقارن لمعنى (في) دون لفظها»(٣)والمقارنة هنا بمعنى التضمين ، أي : إنّ المفعول له لا يُنصب إلا أن تكون (في) مقدّرة فيه ، فإذا لُفظت امتنع نصبه ووجب خفضه ، نحو : (سرتُ في

__________________

(١) ينظر : كتاب سيبويه ٣ / ٦٦ ، والمقتضب ٢ / ٦٨ ، والخصائص ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ٨١.

(٣) شرح الكافية الشافية ٢/٦٧٥.

١٧٩

يومِ الجمعة ، وجلستُ في الدارِ) ، ولو لم تكن مُتضمَّنَة ، كان اسماً صريحاً ولم يكن مفعولاً فيه ، فيُعرب بحسب موقعه نحو : (يومُ الجمعةِ يومٌ مباركٌ ، ، والدارُ لزيد)(١). فبالظرف يتحقّق اختصاص زمان الحدث ومكانه على جهة التعيين والاختصاص ، إذ إنّ للظرف تعلُّقاً بالفعل ؛ لأنّه يفيد تقييد إسناد الفعل بجهة معيّنة.

ومن استعمال الظرف للاختصاص في كلام الإمام الحسن المجتبى ، قوله عليه‌السلام : «والتمسوا ذلك عندَ أهله ، فإنّهم خاصّةُ نور يستضاءُ بهم وأئمةٌ يُقتدى بهم ، بهم عيشُ العلم وموتُ الجهل ، وهم الذين يخبرُكم حكمُهم عن علمهم ، وظاهرُهم عن باطنهم ، لا يخالفون الحقَّ ولا يختلفون فيه ، وقد خلتْ لهم من الله سُنّةٌ ، ومضى فيهم من الله حُكْمٌ ، إنّ في ذلك لذكرى للذاكرين»(٢) فـ : (عند) ظرف مكان عند النحويّين وقد تستعمل للزمان قليلاً ، لكن المتمعّن في دلالتها يجدها دالّة على حضور ما تتعلّق به حسّاً ، نحو : (الكتاب عندك) ، أو معنىً ، كما في قول الإمام آنفاً ، الدالّ عليه الظرف المضاف (عند أهله) ، وقد خصّص معرفة التقى ، والتمسّك بميثاق الكتاب ، وتلاوة الكتاب حقّ تلاوته عند آل البيت عليهم‌السلام ، فلا علم إلاّ علمهم ، لأنّهم عِدلُ الكتاب وتراجمةُ وحي الله.

__________________

(١) ينظر : الكناش في فني النحو والصرف ١ / ١٧٧.

(٢) بحار الأنوار ٧٥ / ١٠٥.

١٨٠