نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

قوسه بطرف قوس صاحبه (١) . فجعل سبحانه نفسه ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة أميرين كبيرين اجتمعا للتعاهد والتصافي والتعاضد.

في ( الامالي ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « لمّا عرج بي إلى السماء دنوت من ربي عزوجل حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى ، فقال : يا محمد ، من تحبّ من الخلق ؟ قلت : يا ربّ ، عليا. قال : فالتفت يا محمد. فالتفت عن يساري ، فاذا علي بن أبي طالب » (٢) .

وعن السجاد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا بن من علا فاستعلا ، فجاز سدرة المنتهى ، فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى » (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة ، حتى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى ، فدنا له من الجنّة رفرف أخضر ، وغشي النور بصره ، فرأى عظمة الله بفؤاده ، ولم يرها بعينه ، فكان قاب قوسين بينهما وبينه أو أدنى » (٤) .

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « وكان كما قال الله ﴿قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾ » قيل : ما قاب قوسين ؟ قال : « ما بين سيتها إلى رأسها » قال : « فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق - ولا أعلمه إلّا وقد قال : زبرجد - فنظر في مثل سمّ الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة ، فقال الله تعالى : يا محمد ، قال : لبيك ربّي. قال : من لامّتك من بعدك ؟ قال : الله تعالى أعلم. قال : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين » .

ثمّ قال الصادق عليه‌السلام : « ما جاءت ولاية عليّ عليه‌السلام من الأرض ، ولكن جاءت من السماء مشافهة » (٥) .

أقول : الظاهر أنّ أول حضوره في الحضرة كان قربه قاب قوسين ، ثمّ صار أقرب ، ولذا أضرب سبحانه عن الحدّ الأول بقوله تعالى : ﴿أَوْ أَدْنى﴾ وأقرب. عن الصادق عليه‌السلام في رواية : « وكان من الله عزوجل كما قال : ﴿قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾ أي بل أدنى » (٦) .

وقيل : كلمة ( او ) للترديد ، والمعنى : أو أقرب على تقديركم أيّها المخاطبون ، كما في قوله تعالى : ﴿أَوْ يَزِيدُونَ(٧) فالترديد والشكّ من جهة العباد ، لا من الله ، لامتناع الشكّ (٨) .

وقيل : إنّ المعنى فدنا من جبرئيل فتدلّى واسترسل جبرئيل نفسه من الافق الأعلى ، وهو مطلع

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٦.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٥٢ / ٧٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٦.

(٣) الاحتجاج : ٣١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٦.

(٤) الاحتجاج : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٧.

(٥) الكافي ١ : ٣٦٨ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٧.

(٦) تفسير الصافي ٥ : ٨٦.

(٧) الصافات : ٣٧ / ١٤٧.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٨.

٨١

الشمس ، كما أنّ افق المغرب الأدنى ، فدنا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وقيل : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحبّ أن ، يرى جبرئيل في صورته التي خلق عليها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله بجبل حراء ، المسمى بجبل النور في قرب مكة ، فقال جبرئيل : إنّ الارض لا تسعني ، ولكن انظر إلى السماء ، فطلع له جبرئيل من المشرق ، فسدّ الأرض من المغرب ، وملأ الافق ، فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما خرّ موسى في الطور ، فنزل جبرئيل في صور الأدميين ، فضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه (٢) .

وقيل : إنّ الله تعالى نزّل جبرئيل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في لقائهما منزلة كبيرين من الناس ، إذا قربا للتعاهد والتعاضد ، ثمّ لمّا كان جبرئيل بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة الرعية إذا أراد أن يبايع السلطان ، فانّه يقرب منه ويمدّ يده ليضعها في كفّ السلطان ، فانّه يقرب منه بقدر الباع ، وهو أقصر من القوسين (٣) .

وقيل : إنّ البعد المقدّر بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجبرئيل هو بعد البشرية عن حقيقة الملكية ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن تنزّه عن نقائص البشرية [ وزال عن الصفات التي تخالف صفات الملك ] من الشهوة والغضب والجهل والبعد عن الله وغيرها من الرذائل [ لكن بشريته باقية ] ، وجبرئيل [ وان ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب ، لكن لم يخرج عن كونه ملكا ، فارتفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بلغ الافق الأعلى من البشرية وجبرئيل ] تدلّى إلى الافق الأدنى من الملكية ، فتقاربا ولم يبق بينهما إلّا [ اختلاف ] حقيقتهما (٤) .

قيل : إنّ معنى الآيات : علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل الذي هو كامل القوى للتعليم ، وذو حصافة (٥) في العقل ، فاستوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكامل للرسالة ، أو استقام جبرئيل على صورته الأصلية في حال كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الافق الأعلى من مراتب كمال الانسانية ، وهو مرتبة النبوة ، ثم دنا من جبرئيل وتخلّع بخلعة الرسالة ، ثمّ تدلى إلى امتّه بالرفق واللين (٦) .

عن السجاد عليه‌السلام - في رواية - « فتدلّى فنظر في تحته ملكوت الأرض حتى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى » (٧) .

﴿فَأَوْحى﴾ الله بلا واسطة جبرئيل ﴿إِلى عَبْدِهِ﴾ محمد ، أو جبرئيل إلى رسول الله وعبده ﴿ما أَوْحى﴾ من عظائم الأمور التي لا تسعها العبائر على الأوّل ، أو ما أوحى الله إلى جبرئيل على الثاني. قيل : إنّ ما أوحى هو الصلاة (٨) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢١٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٦ و٢٨٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٧.

(٥) الحصافة : استحكام العقل وجودة الرأي.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٦.

(٧) علل الشرائع : ١٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٦.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٧.

٨٢

وعن ( الاحتجاج ) : هو آية ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾ ... الآية (١) .

وقيل : كلّما جاء به جبرئيل (٢) .

ويحتمل أنّه الولاية ، عن القمي : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك الوحي ، فقال : « أوحى الله إلي أنّ عليا سيد المؤمنين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجلين ، وأول خليفة يخلفه خاتم النبيين » (٣) .

﴿ما كَذَبَ﴾ وما أخطأ الفؤاد الذي لمحمد ﴿ما رَأى﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من نور عظمة الله في العرش ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ، أو جبرئيل في الأرض على صورته الأصلية (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام : ما رأت عيناه [ ثمّ أخبر بما رأى ] فقال : ﴿لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى﴾ فآيات الله غير الله (٦) .

وقيل : ما رأى فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقيقة الايمان هو ربّه (٧) ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لم أعبد ربّا لم أره » (٨) .

عن الكاظم عليه‌السلام أنّه سئل : هل رأى رسول الله ربّه عزوجل ؟ فقال « نعم ، بقلبه رآه ، أما سمعت الله يقول : ﴿ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ؟﴾ ما رآه بالبصر ، ولكن رآه بفؤاده » (٩) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ربّه بفؤاده » (١٠) .

﴿أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٢) و (١٤)

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على مجادلتهم رسوله فيما أخبر به من رؤيته جبرئيل بقوله : ﴿أَفَتُمارُونَهُ﴾ وتجادلونه أيّها المشركون ﴿عَلى ما يَرى﴾ من جبرئيل على صورته.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخبر برؤيته جبرئيل تعجّبوا منه وأنكروا (١١) .

وعن القمي : بعد الإخبار بما قال الله في عليّ عليه‌السلام دخل القوم في الكلام ، فقالوا : أمن الله ، أو من رسوله ؟ فقال جلّ ذكره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل لهم : ﴿ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى﴾ ثمّ ردّ عليهم فقال:

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٨ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٦٦.

(٦) الكافي ١ : ٧٥ / ٢ ، التوحيد : ١١١ / ٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(٧) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٩٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٢.

(٨) التوحيد : ٣٠٥ / ١ ، و: ٣٠٨ / ٢ ، أمالي الصدوق : ٤٢٣ / ٥٦٠.

(٩) التوحيد : ١١٦ / ١٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(١٠) مجمع البيان ٩ : ٢٦٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(١١) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٨.

٨٣

﴿أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى(١) .

وقيل : إنّ المعنى : كيف توردون الشكّ على ما يراه بعين اليقين ، ولا شكّ بعد الرؤية ، وأنتم تقولون أصابه الجنّ (٢) .

ثمّ أكّد سبحانه رؤية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه بقوله : ﴿وَلَقَدْ رَآهُ﴾ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿نَزْلَةً﴾ ومرّة ﴿أُخْرى﴾ حين رجوعه من العرش ، فانّ له نزولات وعروجات لسؤال التخفيف على ما قيل (٣) . وعن كعب : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ربّه مرّتين (٤) ﴿عِنْدَ﴾ شجرة ﴿سِدْرَةِ﴾ كانت في السماء السادسة أو السابعة ﴿الْمُنْتَهى﴾ إليها صعود الملائكة وأعمال العباد ، وهو مقام جبرئيل بحيث لا يمكنه التجاوز ، ولذا تخلّف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين عروجه إلى العرش ، وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « فلمّا انتهى إلى سدرة المنتهى تخلّف عنه جبرئيل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل ، في مثل هذا الموضع تخذلني ؟ فقال : تقدّم أمامك ، فو الله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق [ الله ] قبلك ، فرأيت من نور ربّي ، وحال بيني وبينه السّبحة ، قيل : وما السّبحة ؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض ، وبيده إلى السماء ، وهو يقول : جلال ربّي ، جلال ربّي ، ثلاث مرات » (٥) .

وعنه عليه‌السلام ، قال : « ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى﴾ يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد إلى السماء ، فلمّا انتهى إلى محلّ السّدرة وقف جبرئيل دونها ، وقال : يا محمد ، إنّ هذا موقفي الذي وضعني الله عزوجل فيه ، ولم أقدر على أن أتقدّسه ، ولكن أمض أنت أمامك إلى السّدرة ، فوقف عندها » قال : « فتقدّم رسول الله إلى السّدرة ، وتخلّف جبرئيل » .

قال : « إنّما سمّيت سدرة المنتهى ؛ لأنّ أعمال أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محلّ السدرة ، والحفظة الكرام البررة دون السّدرة يكتبون ما يرفع إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض » . قال : « فينتهون بها إلى محلّ السّدرة » .

قال : « فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرأى أغصانها تحت العرش وحوله ، فتجلّى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نور الجبّار عزوجل ، فلمّا غشي النور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شخص بصره ، وارتعدت فرائصه » قال : « فشدّ الله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قلبه ، وقوّى له بصره حتى رأى من آيات ربّه ما رأى ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى﴾ » .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٩٠.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٤.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥ ، ولم ينسبه إلى أحد.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٠.

٨٤

إلى أن قال : « وإنّ غلظ السدرة لمسيرة مائة عام من أيام الدنيا ، وإنّ الورقة منها تغطّى أهل الدنيا »(١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « رأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح الله » (٢) .

وقيل : إنّها شجرة طوبى (٣) ، وقيل : إنّها في منتهى الجنه (٤) . وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها من الأحكام ، ويصعد من تحتها من الآثار (٥) .

وعن أبي هريرة : لمّا اسرى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى إلى السّدرة ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذه السّدرة ينتهي إليها كلّ أحد من أمّتك مات على سنّتك (٦) .

وعن كعب الأحبار : أنّها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش ، وإليها ينتهي الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلّا الله (٧) .

وقيل : إنّه منتهى العلوم (٨) .

وقيل : إنّ ضمير ( رآه ) راجع إلى جبرئيل والمعنى : والله لقد رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآلهجبرئيل بصورته الأصلية مرة اخرى من نزوله (٩) .

نقل عن عائشة أنّها قالت : أنا سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ، فقال : « رأيت جبرئيل نازلا في الافق على خلقته وصورته » (١٠) .

﴿عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى

 * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٥) و (١٨)

ثمّ عظّم سبحانه السّدرة بقوله : ﴿عِنْدَها جَنَّةُ﴾ هي ﴿الْمَأْوى﴾ والمرجع والمقرّ للمتّقين والشهداء والصالحين : أو مأوى آدم وحوّاء.

ثم بالغ سبحانه في تعظيم السّدرة ببيان وقت رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رأى من نور عظمة الله ، أو جبرئيل ، بقوله : ﴿إِذْ يَغْشَى﴾ قيل : معناه لقد رآه حين يغطّي ويستر (١١)﴿السِّدْرَةَ ما يَغْشى﴾ ويغطّيها ما لا يفي البيان كيفا ولا كمّا من نور عظمة الله. قيل : لمّا وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها تجلّى ربّه لها ، كما تجلّى للجبل ، ولمّا كانت أقوى من الجبل ، وقلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أربط من قلب موسى عليه‌السلام لم تندكّ السّدرة ، ولم

__________________

(١) علل الشرايع : ٢٧٧ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٠.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٠.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥.

(٤) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٤.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٤.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٤.

(١٠) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٥.

(١١) تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٧.

٨٥

يتزلزل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما اندكّ الجبل ، وخرّ موسى صعقا (١) .

وعن القمي رحمه‌الله ، لمّا رفع الحجاب بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غشي نوره السّدرة (٢) .

وقيل : غشّتها الملائكة (٣) .

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رأيت السّدرة يغشّيها فراش من ذهب ، ورأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح الله » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يغشيّها رفرف من طيور خضر » (٥) .

وقيل : يغشّيها جبرئيل (٦) .

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله ما شاهد هناك من الامور المحيّرة ﴿ما زاغَ﴾ وما مال منه ﴿الْبَصَرُ﴾ أدنى ميل عمّا رآه من العجائب ، وما التفت إلى يمين وشمال لعظمة الهيبة ﴿وَما طَغى﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاوز عن حدّ الاستقامة والثبات ، ولم يتوجّه إلى شيء سواه ، بل استغرق في التوجّه إلى الحقّ واسمائه وصفاته وتجلّياته ، أو إلى عجائب مبدعاته بالله ﴿لَقَدْ رَأى﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عروجه إلى السماء ﴿مِنْ آياتِ رَبِّهِ﴾ الآية ﴿الْكُبْرى﴾ أو آيات هنّ أكبر الآيات. عن الباقر عليه‌السلام : « يعني أكبر الآيات » (٧) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال بعد ذكر الآية : « رأى جبرئيل في صورته مرّتين ، هذه المرة ، ومرة اخرى ، وذلك أنّ خلق جبرئيل عظيم ، وهو من الرّوحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلّا الله ربّ العالمين » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « رأى جبرئيل على ساقة الدّرّ ، مثل القطر على البقل ، له ستمائة جناح ، قد ملأ ما بين السماء والأرض » (٩) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما لله آية أكبر منّي » (١٠) .

عن القمي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لعلي : « يا علي ، إنّ الله أشهدك معي في سبعة مواطن ، أمّا أوّل ذلك فليلة اسري بي إلى السماء ، قال لي جبرئيل : أين أخوك ؟ فقلت : خلّفته ورائي. قال : أدع الله فليأتك به. فدعوت الله ، فاذا مثالك معي ، وإذ الملائكة وقوف صفوف ، فقلت : يا جبرئيل ، من هؤلاء ؟ قال : هم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٩٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩١.

(٣) الرازي ٢٨ : ٢٩٣ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٣٩ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٧.

(٤) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٧.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٢٧.

(٦) مجمع البيان ٩ : ٢٦٦.

(٧) علل الشرائع : ٢٧٨ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٠.

(٨) التوحيد : ٢٦٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٩١.

(٩) التوحيد : ١١٦ / ١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩١.

(١٠) الكافي ١ : ١٦١ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٢.

٨٦

الذين يباهيهم الله بك يوم القيامة فدنوت فنطقت بما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، والثاني حين اسر بي في المرّة الثانية ، فقال لي جبرئيل : أين أخوك ؟ قلت : خلّفته ورائي. قال : ادع الله فليأتك به. فدعوت الله ، فاذا مثالك معي ، فكشط لي عن سبع سماوات حتى رأيت سكّانّها وعمّارها وموضع كّل ملك منها » الخبر (١) .

﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى *

 تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ

 بِها مِنْ سُلْطانٍ (١٩) و (٢٣)

ثمّ لمّا قرّر سبحانه النبوّة ، ذكر بطلان الشّرك الذي هو أهم ما يكون الرسول مأمورا بتبليغه ، بإظهار سفه القائلين بألوهية الأصنام المعروفة بقوله تعالى : ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ﴾ وهي صنم ثقيف في الطائف ﴿وَالْعُزَّى﴾ وهي صنم ، أو سمرة عبدتها قبيلة غطفان ﴿وَمَناةَ﴾ وهي صخرة يعبدها هذيل وخزاعة ، أو صنم للأوس والخزرج ، وهي تكون ﴿الثَّالِثَةَ﴾ للأوّلين ﴿الْأُخْرى﴾ والأدون والأذلّ منهما بنات الله وأهلات للعبادة ، أو إنّكم رأيتم حقارتها ، فكيف تشركون بها مع الله تعالى مع كمال عظمته ؟

عن القمي رحمه‌الله : اللات رجل ، والعزّى امرأته ، ومناة صنم بالمسلك الخارج عن الحرم على ستة أميال (٢) .

قيل : إنّ كون مناة أذلّ من الأولين ؛ لأنّ اللات على صورة الآدمي ، والعزّى على صورة نبات ، ومناة على صورة صخرة ، والجماد أدون وأذل من الآدمي والنبات ، ومتأخّر رتبة منهما (٣) .

وقيل : إنّ المعنى أفرايتم اللات والعزّى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الاخرى (٤) .

ثمّ لمّا كان محال أن يقول المشركون : نحن نعترف بأنّ الله تعالى أعظم من كلّ شيء ، ولكن لمّا كانت الملائكة بنات الله صوّرنا لهنّ صورا نعبدها تعظيما لهنّ ، فوبخّهم الله على ذلك القول الشنيع بقوله: ﴿أَلَكُمُ﴾ أيّها الجهّال الولد ﴿الذَّكَرُ﴾ الذي هو أشرف الاولاد وأكملهم وأنفعهم مع كونكم مخلوق الله وعبيده ﴿وَلَهُ﴾ تعالى مع كمال عظمته وقدرته الولد ﴿الْأُنْثى﴾ الذي هو أخسّ الأولاد وأنقصهم (٥) بحيث إذا بشّر أحدكم به ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ﴿تِلْكَ﴾ القسمة أو نسبة البنات إلى الله مع اعتقادكم أنّهنّ ناقصات ، واختياركم البنين مع أعتقادكم أنّهم كاملون ﴿إِذاً﴾ وفي حال كونكم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٩١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٩٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٩٦.

(٥) في النسخة : وأنقصه.

٨٧

في غاية النقص والحقارة ، وكون الله تعالى في نهاية الكمال والعظمة ﴿قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ وجائرة ، حيث إنّ العقل حاكم بأنّ الله لا يلد ، وعلى فرض الولادة لا يختار لنفسه إلّا الولد الكامل ﴿إِنْ﴾ الالفاظ التي تديرونها على ألسنتكم من قولكم : إنّ الملائكة بنات الله وشفعاؤكم ، وإنّ الأصنام آلهة ، وما ﴿هِيَ﴾ في الواقع والحقيقة ﴿إِلَّا أَسْماءٌ﴾ لا مسمّيات لها ، والألفاظ لا معنى تحتها ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾ ووضعتموها ﴿أَنْتُمْ﴾ تقليدا لآبائكم ، ﴿وَ﴾ وضعها ﴿آباؤُكُمْ﴾ تبعا لكبرائهم ، والحال أنّه ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ﴾ وحجة وبرهان تتمسكون به وتعتمدون عليه.

﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى * أَمْ

 لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا

 تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٣) و (٢٦)

ثمّ أعرض سبحانه عنهم إيذانا بسقوطهم عن قابلية الخطاب بسفههم ، ووجّه الخطاب إلى العقلاء بقوله : ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ هؤلاء السّفهاء في تسمية الملائكة الذين هم عباد الله المكرمون بنات الله ، واللات والعزّى ومناة اللاتي كلّهن عجزة وغير شاعرات بالآلهة ﴿إِلَّا الظَّنَ﴾ السيء والحسبان الباطل ﴿وَما تَهْوَى﴾ وتشتهي ﴿الْأَنْفُسُ﴾ الأمّارة بالسوء ﴿وَ﴾ الحال أنّه بالله ﴿لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ﴾ جانب ﴿رَبِّهِمُ﴾ اللطيف بهم ﴿الْهُدى﴾ وأسباب الرّشاد إلى الحقّ من رسول عليم كريم وكتاب حكيم ، وهم لكثرة جهلهم وعنادهم كذبوهما واستهزءوا بهما.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اتّباع الهوى واشتهاء الأنفس بقوله : ﴿أَمْ لِلْإِنْسانِ﴾ وهل له ﴿ما تَمَنَّى﴾ وتشتهيه من القول بأنّ الملائكة بنات الله والشفعاء عنده ، وأنّ الاصنام آلهة ، لا والله لا يحصل لهم ما يشتهونه.

ويحتمل أن لا تكون كلمة ( أم ) منقطعة ، بل متّصلة ، والمعنى : الله القادر على كلّ شيء ما أراد ، أم للانسان العاجز عن كلّ ما يشتهيه ، فاذا كانوا متّبعين لهواهم وظنونهم ﴿فَلِلَّهِ﴾ وحده الدار ﴿الْآخِرَةُ وَالْأُولى﴾ يعاقبهم فيهما على مخالفتهم لله.

قيل : إنّ الآية بيان العلّة لانتفاء أن يكون للانسان ما تمنّاه (١) ، والمعنى : ليس للانسان ما تمنّاه ، لاختصاص امور العالمين به ، فيعطي من أيّهما ما يريد لمن يريد ، وليس لأحد أن يحكم عليه في شيء منهما.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٩ ، تفسير الصافي ٩ : ٢٣٦.

٨٨

ثمّ أقنطهم سبحانه عن الطمع في شفاعة الملائكة فضلا عن الأصنام بقوله تعالى : ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ﴾ وكثير من الروحانيين الساكنين ﴿فِي السَّماواتِ﴾ السبع ﴿لا تُغْنِي﴾ ولا تنفع ﴿شَفاعَتُهُمْ﴾ عند الله لأحد ﴿شَيْئاً﴾ من الإغناء والنفع ، وفي وقت من الأوقات ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ﴾ لهم في الشفاعة ﴿لِمَنْ يَشاءُ﴾ أن يشفعوا له ﴿وَيَرْضى﴾ عنه بتديّنه بالدين المرضي عنده ، وهو الاسلام.

وقيل : يعني من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة ، ولا يؤذن لهم إلّا في الشفاعة لأهل الايمان بالتوحيد (١) ورسالة خاتم النبيين ، فانّهم آهلين للشفاعة دون الكفّار والمشركين ، هذا حال أعظم المخلوقات عند الله ، فكيف حال الأصنام اللّاتي هنّ أخسّها ؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ

 مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً * فَأَعْرِضْ عَنْ

 مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا * ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ

 رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٢٧)و (٣٠)

ثمّ ذمّ سبحانه القائلين بانوثة الملائكة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ عن صميم القلب وخلوص النية ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ ودار الجزاء ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ﴾ الذين هم عباد الرحمن تسمية تشبه ﴿تَسْمِيَةَ الْأُنْثى﴾ ويقولون لهم بنات الله.

قيل : إن القائلين بأنّ الملائكة بنات الله ، لم يكونوا معتقدين بالمعاد ودار الجزاء ، بل كانوا يقولون لا حشر ولا بعث (٢) ، ولو فرض تحقيقه كانت الملائكة والأصنام شفعائنا ، ولذا اجترءوا على هذا القول ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما لَهُمْ بِهِ﴾ شيء ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ وأقلّ مرتبة من اليقين ، بل ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ ولا يوافقون في قولهم هذا ﴿إِلَّا الظَّنَ﴾ والحسبان ، كما لم يتّبعوا في القول بألوهية الأصنام إلّا ذلك ﴿وَإِنَّ الظَّنَ﴾ مطلقا ، أيّ ظنّ كان ﴿لا يُغْنِي﴾ ولا يكفي ﴿مِنْ﴾ الوصول إلى ﴿الْحَقِ﴾ والواقع في العقائد ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الاغناء والكفاية. قيل : إنّ المعنى : لا يغني الظنّ شيئا من الحقّ ، فانّ الحقائق لا تدرك إلّا بالعلم (٣) .

فلمّا رأيتهم لا يصغون إلى البرهان ، ولا يعتنون بالقرآن ، ولا ينصرفون عن اتّباع الظنّ والحسبان ﴿فَأَعْرِضْ﴾ يا محمد ﴿عَنْ﴾ دعوتهم إلى الحقّ بالحكمة والموعظة الحسنة ، لعدم التأثير في

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٣٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٧.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٨.

٨٩

قلوبهم ، فانّهم (١)﴿مَنْ تَوَلَّى﴾ وأعرض بقلبه ﴿عَنْ ذِكْرِنا﴾ والمنبّهات النازلة منّا من القرآن الذي فيه تبيان كلّ شىء ، والبراهين المتقنة المثبتة للحقّ ﴿وَ﴾ ذلك لأنّه ﴿لَمْ يُرِدْ﴾ ولم يطلب ﴿إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ ومشتهياتها ، فأغفلته شدّة طلبها والانهماك في لذّاتها عن التفكّر في مآلها وتبعاتها ، والاعتقاد بعالم الآخرة ودار الجزاء ، ومن غفل عن الآخرة وترك التفكّر فيها ، لا يخاف العقوبة على سيئاته ، ولا يرجع عمّا هو عليه من الباطل ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من حياة الدنيا وشهواتها المحسوسة ﴿مَبْلَغُهُمْ﴾ وحدّ ما وصلوا إليه ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ والادراك ، لا يكاد يجاوزونه إلى المعقولات حتى ينفعهم التعليم والارشاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ﴾ خبثت طينته ، وقلّ عقله ، وساءت أخلاقه من كلّ عالم لو فرض وجوده ، ولذا ﴿ضَلَ﴾ وانحراف ﴿عَنْ﴾ دين الله الذي هو ﴿سَبِيلِهِ﴾ المؤدّي إلى قربه ورحمته ضلالا أبديا بحيث لا يرجى أن يرجع إليه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ﴾ طابت طينته ، وتنوّر قلبه ، وانشرح صدره ، وحسنت اخلاقه ، ولذا ﴿اهْتَدى﴾ إلى دين الحقّ ، وسلك سبيلة ، ونال خير الدنيا والآخرة ، وفي تكرير قوله : ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ﴾ زيادة التقرير والايذان بتباين المعلومين.

قيل : إنّ معنى ( أعلم ) هنا العالم الذي لا عالم مثله (٢) ، وإنّما قدّم سبحانه بيان علمه بضلال الضالين ؛ لأنّ المقصود تهديدهم وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا

 وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ

 وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ (٣١) و (٣٢)

ثمّ لمّا لم يكن العلم بالضلال مرعبا إلّا مع القدرة على العقوبة ، بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله : ﴿وَلِلَّهِ﴾ تعالى وحده ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ إيجادا وإعداما وتصرّفا ، ومن الواضح أنّه لم يكن خلقهما عبثا ، بل إنّما خلق جميع ذلك ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا﴾ السوء ﴿بِما عَمِلُوا﴾ في الدنيا. وقيل : إنّ التقدير بعقوبة ما عملوا (٣)﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ وأطاعوا ربّهم ﴿بِالْحُسْنَى﴾ والمثوبة العظيمة ، وهي الجنّة والنّعم الدائمة. وقيل : يعني بالأعمال الحسنى (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه المحسنين بقوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ الأفعال التي تكون ﴿كَبائِرَ الْإِثْمِ﴾ وعظائم المعاصي من حين بلوغهم أو اسلامهم إلى الموت سواء كانت ترك الواجبات أو إتيان

__________________

(١) في النسخة : فان هم.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦١.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٦.

٩٠

المحرّمات. ويحتمل أن تكون الجملة لبيان اشتراط قبول الحسنات بالاجتناب عن المعاصي الكبيرة.

وقيل : إنّه لمّا بيّن سبحانه حال المسيئين وحال المحسنين ، بيّن حال من لم يأت بالحسنات ولم يرتكب المحرّمات الكبيرة (١)﴿وَالْفَواحِشَ﴾ والقبائح الشديدة القبح ، كالشرك والزنا واللواط وقتل النفس المحترمة وسبّ النبي أو أحد من المعصومين ، فانّها أكبر الكبائر ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ وما يفعله مرّة واتّفاقا من غير عادة ولا استمرار عليه.

عن ابن عباس ، قال : معناه إلّا أن يلمّ بالفاحشة مرّة ثمّ يتوب ، ولم يثبت عليه ، فانّ الله يقبل توبته (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام. قال : « الفواحش : الزنا والسرقة ، واللّمم : الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه » (٣) .

أقول : يلمّ بالذنب. أي يقربه ويرتكبه ولا يقيم عليه.

وعنه عليه‌السلام : « ما من ذنب إلّا وقد طبع عليه المؤمن ، يهجره الزمان ثمّ يلمّ به وهو قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾ » قال : « اللّمّام : العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب ، ليس بسليقته » أي من طبعه (٤) .

أقول : « وقد طبع عليه المؤمن » أي يرغب إليه بطبعه وقوله : « ثمّ يلمّ به » أي يرتكبه ويقع فيه اتفاقا ، وقوله « يلمّ بالذنب بعد الذنب » أي يقربه مرة بعد مرة من باب الاتفاق لا للعادة كما عن بعض ، قال : اللّمم والإلمام : ما يعمله الانسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له عادة ولا إقامة عليه (٥) .

أقول : على ذلك يكون الاستثناء متّصلا ، وقيل : إنّ كلمة ( إلّا ) بمعنى غير ، والمعنى والفواحش غير اللّمم (٦) . وقيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمراد باللّمم المعاصي الصغيرة (٧) .

وروي أنّ نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر ، فقال لها : ادخلي الحانوت ، فعانقها وقبّلها ، فقالت المرأة : خنت أخاك ولم تصب حاجتك ، فندم وذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت (٨) .

أقول : نزول الآية في مورد الصغيرة الواقعة من باب الاتفاق ، لا ينافي شمولها لكبيرة الاتفاقية ، ودلالة الآية على قبول التوبة من جميعها ، بل مغفرته بلا توبة ﴿إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ لا تضيق مغفرته عن ذنوب جميع الخلق ، إلّا أنّه تعالى أوجب التوبة ووعد بقبولها.

﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٦.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٢.

(٣) الكافي ٢ : ٢١٢ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.

(٤) الكافي ٢ : ٣٢٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٢.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٨.

(٧و٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٢.

٩١

تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)

ثمّ قرر سبحانه علمه بأعمال عباده وأحوالهم بقوله : ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِكُمْ﴾ أيّها الناس وبأحوالكم ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ﴾ وحين خلقكم في ضمن خلق أبيكم آدم ﴿مِنَ﴾ تراب ﴿الْأَرْضِ﴾ ثمّ من نطفة ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ ووقت كونكم أولادا مستوزين ومتمكّنين ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ وظلمات أرحامهنّ على أطوار مختلفة ، فاذا كان الأمر كذلك ﴿فَلا تُزَكُّوا﴾ ولا تنزّهوا ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ من الضلالة والمعصية وذمائم الأخلاق ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِمَنِ اتَّقى﴾ وأحترز من الضلالة والشرك والمعاصي قبل أن يخرجه من صلب آدم. قيل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ، ثمّ يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت الآية (١) .

عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : « لا يفخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه ؛ لأنّ الله يقول : ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ﴾ » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عنها فقال : « قول الانسان : صليت البارحة ، وصمت أمس ، ونحو هذا » ثمّ قال : « إنّ قوما يصبحون فيقولون : صلينا البارحة ، وصمنا أمس ، فقال عليّ : لكنّي أنام الليل والنهار ، ولو أجد بينهما شيئا لنمته » (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، وتمجّها آذان السامعين » (٤) .

قيل : لمّا نزل ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى﴾ قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد علم الله كونك ومن معك على الحقّ ، وكون المشركين على الباطل ، فأعرضوا (٥) عنهم ، ولا تقولوا : نحن على الحقّ وأنتم على الضلال ؛ لأنّهم يقابلونكم بمثل ذلك ، وفوّض الأمر إلى الله فانّه أعلم بمن اتقى ومن طغى (٦) .

﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٣) و (٣٤)

ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتولّي عن المتولّين عن ذكره ، أظهر العجب من غاية شقاء بعض المتولّين عن ذكره بقوله : ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ يا محمد ، الكافر ﴿الَّذِي تَوَلَّى﴾ وأعرض عن ذكرنا حتى تتعجّب من أنّه كيف تولّى توليا فظيعا ، وأعرض إعراضا شنيعا ﴿وَأَعْطى﴾ شيئا ﴿قَلِيلاً﴾ من ماله

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٤.

(٢) علل الشرائع : ٦١٠ / ٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.

(٣) معاني الأخبار : ٢٤٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.

(٤) الاحتجاج : ١٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٥.

(٥) في تفسير الرازي : فأعرض.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ١٠.

٩٢

لغيره ، ليتحمّل عنه وزره وعذاب الآخرة ﴿وَأَكْدى﴾ وبخل بإعطاء باقي ما شرط إعطاءه فخالف حكم العقل ؛ لأنّه أعطى ليحمل الوزر ، وهو لا يحصل له ، وخالف العرف لأنّه خالف عهده.

ذكر طعن في عثمان وردّ الفخر الرازي

حكى الفخر الرازي عن بعض المفسرين : أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة ، قالوا : إنّه جلس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمع وعظة ، فأثّرت الحكمة فيه تأثيرا قويا ، فقال له رجل : لم تترك دين آبائك ؟ ثمّ قال له : لا تخف أعطني كذا وأنا أتحمّل أوزارك ، فأعطاه بعض ما التزمه ، وتولّى عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال الفخر : وقال بعض المفسرين : نزلت في عثمان ، كان يعطي من ماله عطاء كثيرا ، فقال له أخوه من امّه عبد الله بن سعد بن أبي سرح : يوشك أن يفنى مالك ، فأمسك. فقال عثمان : إنّ لي ذنوبا أرجو أن تغفر لي بسبب العطاء فقال له أخوه : أنا اتحمّل عنك ذنوبك على أن تعطيني ناقتك مع كذا. فأعطاه ما طلب ، وأمسك يده عن العطاء ، فنزلت.

ثمّ قال الفخر : وهذا قول باطل ؛ لأنّه لم يتواتر ذلك ، ولا اشتهر ، وظاهر حال عثمان يأبى ذلك (١) .

أقول : ظاهر حال عثمان من شدّة حماقته مؤيد لصدق الرواية ، لوضوح أنّ عثمان كان أشدّ حمقا من الوليد بن المغيرة الذي كان عند قريش مشهورا بالعقل والرّزانة والفطنة ، فكيف يقبل هذا العمل من الوليد ، ولا يقبل من عثمان مع صدور ما هو أقبح منه ، حيث إنّ السّدّي الذي كان من قدماء المفسرين وعظمائهم روى في تفسير قوله تعالى : ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ إلى آخر الآيات أنّه نزلت في عثمان بن عفان ، قال : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني النّضير ، فقسّم أموالهم ، فقال عثمان لعلي : إئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واسأله أرض كذا وكذا ، فانّ أعطاكها فأشركني فيها ، وأنا آتيه وأساله ، فأنت شريكي فيها ، فسأله عثمان أولا فأعطاه إياها ، فقال علي عليه‌السلام : « أشركني » فأبى عثمان ، فقال : بيني وبينك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأبى أن يخاصمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيل له : لم لا تنطلق معه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : هو ابن عمّه ، فاخاف أن يقضي له ، فنزلت ﴿وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ إلى قوله ﴿أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الخبر (٢) .

﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ

 الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ

 سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٣٥) و (٤٢)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ١١.

(٢) والآيتان من سورة النور : ٢٤ / ٤٧ و٤٨.

٩٣

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اعتقادهم ، بتحمّل الغير وزرهم بقوله : ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ﴾ من أنّه يحمل الغير وزره يوم القيامة مع أنّه غائب عنهم ﴿فَهُوَ يَرى﴾ بقلبه ويعتقد بجنانه أنّه يتخلّص من العقوبة على سيّئاته بتحمّلها غيره ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ﴾ ولم يخبر بتوسّط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو غيره من أهل الكتاب ﴿بِما فِي صُحُفِ مُوسى﴾ وأسفار التوراة أو ألواحها ﴿وَ﴾ بما في صحف ﴿إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ بما عاهد الله ، وبالغ في العمل بأوامره. وقيل : يعني وفّى وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل ما عنى بقوله : ﴿وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ؟﴾ قال : « كلمات بالغ فيهنّ » قيل : وما هنّ ؟ قال : « كان إذا أصبح قال : أصبحت وربّي محمود ، أصبحت لا اشرك بالله شيئا ، ولا ادعو مع الله إلها ، ولا أجد من دونه وليا - ثلاثا - وإذا أمسى قال ثلاثا » (٢) .

وروى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ألا اخبركم لم سمّى الله الخليل الذي وفىّ ؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى : ﴿فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾»(٣) .

ثمّ بيّن سبحانه ما في صحفهما بقوله : ﴿أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ ولا يعاقب أحد بذنب غيره ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ﴾ ثواب وأجر ﴿إِلَّا﴾ ثواب ﴿ما سَعى﴾ وله جدّ في تحصيله ، فلا يثاب أحد على عمل غيره ، وأما إثابتهم على عمل من ناب عنهم ، فان كانت النيابة باستدعاء المناب عنه فهو ثواب على عملهم ، وإن كان عمل النائب تبرعا وبغير الاستدعاء فهو من آثار إيمانهم المكتسبة بسعيهم.

وعن ابن عباس وعكرمة : أنّه منسوخ في شريعة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ المؤمنين يثابون بصدقات إخوانهم المؤمنين وعباداتهم عنهم في هذه الشريعة (٤) .

وقيل : إنّ الاثابة في المورد وأمثاله بالتفضل (٥) ، فلا نسخ على هذا وعلى الأول.

﴿وَ﴾ فيها ﴿أَنَّ سَعْيَهُ﴾ وعين ما عمله محفوظ عند ربّه و﴿سَوْفَ يُرى﴾ ويعاين ذلك العمل بصورته الواقعية في القيامة ﴿ثُمَّ يُجْزاهُ﴾ ويثاب عليه في ذلك اليوم ﴿الْجَزاءَ الْأَوْفى﴾ والثواب الأكمل الأوفر الذي لا يمكن أكمل ولا أوفر منه ﴿وَ﴾ فيها ﴿أَنَّ إِلى رَبِّكَ﴾ يا محمد ، أو أيها العاقل ، لا إلى غيره ﴿الْمُنْتَهى﴾ أو المصير لجميع الخلائق بعد الموت وحين البعث ، فيجازي كلا منهم على

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٦.

(٢) الكافي ٢ : ٣٨٨ / ٣٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٥.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٦ ، والآيتان من سورة الروم : ٣٠ / ١٧ و١٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٧.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٨.

٩٤

حسب أعمالهم ، إنّ خيرا فخير ، وإنّ شرا فشرّا.

وقيل : إنّ المراد أنّ منتهى جميع الممكنات في الوجود إلى الواجب ، ولو بالوسائط ، لوضوح أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات (١) .

وعن ابي بن كعب : أنّه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ﴿ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾ لا فكرة في الربّ » (٢).

وعن أنس ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : « إذا ذكر الربّ فانتهوا » أي اقطعوا التكلّم فيه (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله يقول : ﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾ فاذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : قيل له : إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة ، فما تقول ؟ قال : « مكروه ، أما تسمع الله عزوجل يقول : ﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾ تكلّموا دون ذلك » (٥) .

أقول : يعني النظر في ذاته وصفاته ، فانّه لا تزيد إلّا تحيّرا لقصور العقول بالغة ما بلغت عن إدراكها بكنهها ، فاذا انتهى النظر إليها فقفوا.

﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ

 الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى * وَأَنَّهُ هُوَ

 أَغْنى وَأَقْنى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما

 أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى

 * فَغَشَّاها ما غَشَّى (٤٣) و (٥٤)

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته الموجبة لأرعاب القلوب بقوله : ﴿وَأَنَّهُ هُوَ﴾ تعالى بقدرته الكاملة ﴿أَضْحَكَ﴾ الانسان ﴿وَأَبْكى﴾ روي عن عائشة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ على قوم يضحكون ، فقال : « لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ، ولضحكتم قليلا » فنزل جبرئيل فقال : إنّ الله يقول : ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى﴾ فرجع صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبرئيل فقال : إئت هؤلاء القوم ، فقل لهم : إنّ الله يقول : ﴿هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى(٦) .

قيل : أي أضحك الأرض بالنبات والأشجار والأنوار ، وأبكى السماء بالأمطار ، كما عن القمي (٧) . فمن قدر على إيجاد الضدّين ، لا نهاية لقدرته ؟

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٩ : ١٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ١٧.

(٤) الكافي ١ : ٧٢ / ٢ ، التوحيد : ٤٥٦ / ٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٦.

(٥) التوحيد : ٤٥٧ / ١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٦.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٤.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٣٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٦.

٩٥

﴿وَأَنَّهُ﴾ تعالى وحده ﴿هُوَ أَماتَ﴾ الأحياء ﴿وَأَحْيا﴾ الموتى ، ولا يقدر عليهما غيره ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ﴾ والصنفين من كلّ حيوان ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثى﴾ مع كونهما متضادّين ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وماء متكوّن في الصّلب ﴿إِذا تُمْنى﴾ وتدفق في الرّحم ، أو تتحوّل من الدم مع اتخاذ صورتها. وقيل : معنى ( إذا تمنى ) إذا قدّر منها الولد (١) .

﴿وَأَنَ﴾ الله يجب ﴿عَلَيْهِ﴾ بحكم العقل وبمقتضى الحكمة أن يوجد ﴿النَّشْأَةَ الْأُخْرى﴾ ويعيد الخلق فيها تارة اخرى ، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى.

وقيل : إنّ المراد من النشأة الاخرى نفخ الروح الانساني في الجسد (٢) بعد خلقه وتكميل أجزائه وصورته ، كما قال سبحانه : ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ(٣) .

﴿وَأَنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ أَغْنى﴾ الانسان ، وأعطاه جميع ما يحتاج إليه في تعيّشه ﴿وَأَقْنى﴾ وأعطاه القنية والأموال المدّخرة الباقية كالإبل والبقر والغنم والمرعى الطيّب والرياض النّضرة.

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في هذه الآية. قال : « أغنى كلّ إنسان بمعيشته ، وأرضاه بكسب يده » (٤) .

﴿وَأَنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿رَبُ﴾ الكوكب ﴿الشِّعْرى﴾ قيل : إنّه كوكب يطلع خلف الجوزاء ، تعبده خزاعة (٥) .

وعن القمي رحمه‌الله ، قال : نجم في السماء يسمّى الشّعرى ، وكانت قريش وقوم من العرب يعبدونه ، وهو نجم يطلع في آخر الليل (٦) . والمعنى : أعبدوا الربّ دون المربوب.

وقيل : في النجوم شعريان : أحديهما شامية ، والاخرى يمانية ، وكان العرب يعبدون اليمانية (٧).

﴿وَأَنَّهُ﴾ تعالى ﴿أَهْلَكَ﴾ بالعذاب ﴿عاداً الْأُولى﴾ وهم قوم هود ، قدّم ذكرهم ووصفهم بالاولى ؛ لأنّهم أولى الامم هلاكا بعد قوم نوح. وقيل : إنّ عادا الاخرى من نسلهم ، وهي التي قاتلها موسى بأريحا (٨) .

﴿وَ﴾ أهلك ﴿ثَمُودَ﴾ بالصيحة ﴿فَما أَبْقى﴾ على وجه الأرض منهم ، أو من الفريقين أحدا ، لكفرانهم نعم ربّهم ، وطغيانهم عليه بعد إغنائهم وإقنائهم ﴿وَ﴾ إنّه أهلك ﴿قَوْمَ نُوحٍ﴾ بالطّوفان والغرق ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي العصر السابق على أعصار سائر الامم المهلكة ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ على نبيّهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١.

(٣) المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٣٩ ، معاني الأخبار : ٢١٤ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٧.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٧.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٣٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٧.

(٧) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٧.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٧.

٩٦

نوح ﴿هُمْ أَظْلَمَ﴾ من الفريقين ، حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يبقى له حراك ﴿وَأَطْغى﴾ عليه ، أو على ربّهم منهم. قيل : كانوا ينفرّون الناس عنه ، ويحذّرون صبيانهم من أن يقربوا منه ويستمعوا وعظه(١) .

﴿وَ﴾ أهلك القرى ﴿الْمُؤْتَفِكَةَ﴾ والمنقلبة بأهلها بحيث جعل عاليها سافلها ، وهي قرى قوم لوط ، فانّ الله ﴿أَهْوى﴾ وأسقطها إلى الأرض بعد رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل. وقيل : يعني ألقاها في الهاوية (٢) . وقيل : كانت بيوتهم مرتفعة ، فأهواها الله بالزّلزلة ، وجعل عاليها سافلها (٣) .

وقيل : إنّ المراد من المؤتفكة كلّ قوم انقلبت مساكنهم ، وخربت منازلهم (٤) ، وهو خلاف الظاهر ، بل الظاهر أنّ المراد القرى المعهودة لقوم لوط.

﴿فَغَشَّاها﴾ واحاط بها ﴿ما غَشَّى﴾ ها ، وأحاط بها من أنواع العذاب ، وفي إبهام عذابهم ما لا نهاية له من التهويل.

﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى * هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ *

 لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٥) و (٥٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد نعمه على الانسان من خلق الذكر والانثى ، وإغنائه وإقنائه ، وإهلاك الظّلمة والطّغاة ، ونصرة انبيائه ورسله ، نبّه على أنّه لا مجال للشكّ في نعمه بقوله تعالى : ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ﴾ ونعمه أيّها الانسان ﴿تَتَمارى﴾ وتشكّ أو تجادل إنكارا له.

وقيل : إنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب التعريض بالغير (٥) على طريقة : إياك أعني واسمعي يا جارة.

قيل : إنّ الله عدّ النّقم التي ذكرها قبل الآلاء نعما من أجل أنّها عبر للمعتبرين ، ونصرة للأنبياء والمرسلين والمؤمنين (٦) .

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إهلاك الامم المكذّبة لرسلهم أشار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿هذا﴾ الشخص الشريف الذي يدعوكم أيّها الناس إلى التوحيد ودين الحقّ ، ويرشدكم إلى سعادة الدارين ﴿نَذِيرٌ﴾ لكم من الله تعالى ، ورسول مبعوث من قبله ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿النُّذُرِ الْأُولى﴾ ومن قبيل الرسل السابقة ، فلا تكذّبوه فانّه يصيبكم ما اصاب الامم المكذّبة لرسلهم.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٨.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٨.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٤٣ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٨.

٩٧

عن الصادق عليه‌السلام - في رواية - : أنّه سئل عن الآية ، فقال : « يعني محمدا » (١) .

وقيل : إنّ كلمة ( هذا ) إشارة إلى القرآن ، والمعنى أنّ هذا القرآن الذي تشاهدونه وتسمعونه إنذار من قبيل الانذارات المتقدّمة التي سمعتم عاقبتها (٢) ، فان اتّعظتم به فهو خير لكم وسعادتكم ، وإلّا فلو فرض أنّا لا نعذبّكم في الدنيا نعذّبكم بالعذاب الشديد في القيامة ، فانّه قد ﴿أَزِفَتِ﴾ وقربت تلك القيامة التي هي ﴿الْآزِفَةُ﴾ والقريبة منكم كل يوم وكلّ ساعة بحيث تتضيق عليكم وقت التدارك لها و ﴿لَيْسَ﴾ في عالم الوجود ﴿لَها مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومن قبل غيره نفس ﴿كاشِفَةٌ﴾ ومخبرة عنها كما هي ومتى يكون وقتها ، أو المعنى : ليس لها نفس قادرة على ردّها وإزالتها عند وقوعها في الوقت المقدّر لها إلّا الله.

﴿أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سامِدُونَ

 * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٥٩) و (٦٢)

ثمّ أنكر سبحانه على المشركين المستهزئين بالقرآن ، أو بالأخبار بقرب القيامة بقوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَمِنْ هذَا﴾ القرآن الذي هو أحسن ﴿الْحَدِيثِ﴾ أو من حديث قرب القيامة ، أو ممّا تقدّم من الأخبار ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٣) .

أنتم ﴿تَعْجَبُونَ﴾ إنكارا ﴿وَتَضْحَكُونَ﴾ سخرية واستهزاء ﴿وَلا تَبْكُونَ﴾ على سوء حالكم ووخامة عاقبتكم وقرب ابتلائكم بالعذاب والشدائد ﴿وَأَنْتُمْ سامِدُونَ﴾ وغافلون عن نتائج أعمالكم القبيحة ، أو مستكبرون عن الايمان بالرسول والقرآن والحشر ، مع أن الحقّ أن تبكوا كثيرا ، وتضحكوا قليلا ، وتؤمنوا به سريعا ، وتخشع له قلوبكم ، وتخضع له جوارحكم.

روى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير ضاحكا بعد نزول هذه الآية (٤) .

عن أبي هريرة : لمّا نزلت الآية بكى أهل الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حنينهم بكى معهم ، وبكينا لبكائه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يلج النار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنّة مصرّ على معصية الله » .. الخبر (٥) .

سجدة واجبة

ثمّ لمّا وبّخ سبحانه المشركين على التعجّب من كون القرآن من جانب الله تعالى ، وعلى استهزائهم به ، أمر المؤمنين بأداء شكر نعمة نزوله عليهم بقوله : ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ أيّها المؤمنون

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٤٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٥٩.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٢٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٦٠.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٦٠.

٩٨

شكرا عى هدايتكم بالقرآن ﴿وَاعْبُدُوا﴾ الله خالصا مخلصا له الدين ، ولا تعبدوا غيره.

قد حكى كثير من الأصحاب وجوب السجود على من تلاها ، أو استمع تلاوتها ، ودلت عليه الأخبار المعتبرة.

عن الصادق عليه‌السلام : « من كان يدمن قراءة سورة النجم في كلّ يوم ، أو في كلّ ليلة ، عاش محمودا بين الناس ، وكان مغفورا له (١) ومحبوبا بين الناس ، أو عند الله تعالى » (٢) .

__________________

(١) في ثواب الاعمال : موفورا له.

(٢) ثواب الاعمال : ١١٦ ، مجمع البيان ٩ : ٢٥٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٨ ، في ثواب الاعمال إلى كلمة : الناس ، وفي تفسير الصافي : الناس إن شاء الله.

٩٩
١٠٠