نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

حقّ أنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم ﴿ذَنُوباً﴾ ونصيبا وافرا من العذاب ﴿مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ﴾ وأنصباء نظرائهم من الامم المهلكة ، أو المراد أنّ لهم تبعات من العذاب مثل تبعات أضرابهم من الطّغاة الذين أستأصلهم العذاب ﴿فَلا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ ولا يسألون سرعة مجيئه بقولهم : ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا(١) أو ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ(٢) فانّه نازل بهم في الوقت المعيّن عندنا.

ثمّ عظّم سبحانه ذلك العذاب الموعود تهويلا لهم بقوله : ﴿فَوَيْلٌ﴾ أي ويل ﴿لِلَّذِينَ﴾ استحقّوا أشدّ العذاب ، لأنّهم ﴿كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ بعد خروجهم من الدنيا من يوم القيامة ، أو زمان الرجعة ، فوافق أوّل السورة آخرها ، حيث قال في أولها : ﴿إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ(٣) وفي آخرها : ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة والذاريات في يومه أو ليلته ، أصلح الله له معيشته ، وآتاه برزق واسع ، ونوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة » (٤) .

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٧٠.

(٢) الأنبياء : ٢١ / ٣٨.

(٣) الذاريات : ٥١ / ٥.

(٤) ثواب الأعمال : ١١٥ ، مجمع البيان ٩ : ٢٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٦.

٦١
٦٢

في تفسير سورة الطور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالطُّورِ * وَكِتابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ

 الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة والذاريات المبتدئة بأربعة أيمان على أنّ وعد الله بالعذاب والحشر صادق ، وبيان كون يوم القيامة يوم يفتنون على النار ، المتضمّنة بسوء عاقبة الكفار ، وحسن عاقبة المتّقين ، المختتمة بذكر الويل للكافرين ، اردفت بسورة الطور المبتدئة بخمسة أيمان على أنّ العذاب في القيامة واقع لا محالة ، وبيان كون القيامة فيه أهوال عظيمة ، وذكر الويل للمكذّبين بيوم الدين ، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة ، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ .

ثمّ لمّا كان العرب يتحرّزون عن الأيمان الكاذبة ، وأنّ الشخص العظيم لا يحلف إلّا على الأمر العظيم الذي لا يرتدع (١) المنكر بالبرهان لنسبته إلى الجدل ، أكّد سبحانه البرهان على الحشر بالأيمان بقوله : ﴿وَالطُّورِ﴾ وهو على ما قيل : الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران ، أو طور سينين ، أو مطلق الجبل (٢) . وعن ابن عباس : الطور كلّ جبل ينبت (٣) . ﴿وَكِتابٍ﴾ كريم ﴿مَسْطُورٍ﴾ ومكتوب على وجه الانتظام. قيل : هو التوراة المكتوب في الألواح (٤) . وقيل : هو القرآن (٥) المكتوب ﴿فِي رَقٍ﴾ وجلد رقيق ﴿مَنْشُورٍ﴾ ومبسوط وقيل : هو اللّوح المحفوظ (٦) . وقيل : هو صحائف الأعمال (٧) المبسوطة للناس يوم القيامة ، أو مفتوحة له لا ختم عليها (٨) .

﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾ الذي يكون تحت العرش ، أو في السماء السابعة ، أو الرابعة بحيال الكعبة ، وعمرانه بطواف الملائكة ، يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك ، ويصلّون فيه ، ولا يعودون إليه أبدا ،

__________________

(١) كذا ، والظاهر لا يردع.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٣٩.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٤.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٥.

(٦و٧) جوامع الجامع : ٤٦٦.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٥.

٦٣

وحرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض.

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله وضع تحت العرش أربع أساطين ، وسمّاهن الضّراح ، وهو البيت المعمور ، وقال للملائكة : طوفوا به ، ثم بعث ملائكة ، وقال : ابنوا في الارض بيتا بمثاله وقدره ، وأمر [ من ] في الأرض أن يطوفوا بالبيت » (١) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث المعراج : « أنّه في السماء السابعة » (٢) . وعن القمي : أنّه في السماء الرابعة (٣) . وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية : « أنّه في السماء » (٤) . وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه في السماء الدنيا » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « البيت الذي في السماء يقال له الضّراح ، وهو بفناء البيت الحرام ، لو سقط لسقط عليه ، يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون فيه أبدا » (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « ويدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، ثمّ لا يعودون اليه أبدا » (٧) . وقيل : إنّ المراد منه بيت الله الحرام (٨) .

﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ عن الأرض ، وهو السماء ، أو العرش ، وفي إرداف السقف بالبيت ما لا يخفى من الحسن ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ والمملوء من الماء. قيل : هو البحر المحيط الذي هو مادة سائر البحار(٩).

وروى بعض العامة ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هو بحر تحت العرش ، عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين ، فيه ماء غليظ ، يقال له بحر الحيوان ، وهو بحر مكفوف ، يمطر منه على الموتى ماء كالمنيّ بعد النّفحة الاولى أربعين صباحا ، فينبتون في قبورهم » (١٠) .

وقيل : هو بحر في السماء الدنيا ، لولاه لأحرقت الشمس الدنيا (١١) . وقيل : المسجور بمعنى الموقد ، لما روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا ، يسجرّ بها نار جهنّم (١٢) .

﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٣٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧.

(٤) الجامع للقرطبي ١٧ : ٥٩ ، مجمع البيان ٩ : ٢٤٧.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٤٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧.

(٦) مجمع البيان ٩ : ٢٤٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧ ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٢٤٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٧.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٣٩.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٦.

(١٠) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٦.

(١١) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٦.

(١٢) تفسير الصافي ٥ : ٧٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٨٦.

٦٤

الْجِبالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ

 يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (٧) و (١٣)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ ونازل لا محالة ، وفي لفظ ( ربّك ) تأمين للرسول منه.

قيل : إنّ الحلف بالطّور والبيت المعمور الذي هو ملاذ الملائكة ، وبالسماء والبحر ، مع أن وجود كلّ منها وبقائه بقدرة الله ، مشعر بأن لا مهرب من ذلك العذاب (١) ، كما صرح به سبحانه بقوله: ﴿ما لَهُ مِنْ دافِعٍ﴾ حيث إنّ التحصّن منه إما بالذّهاب إلى شاهق الجبل ، أو بالتحصين في البيت ، أو بالصعود إلى السماء ، أو بالغوص في البحر ، ومن المعلوم أنّ كلّها تحت قدرة الله وإحاطته ، حيث وصف زمان وقوع ذلك العذاب بقوله : ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ﴾ وتضطرب ، وتجيء وتذهب ﴿مَوْراً﴾ واضطرابا شديدا عجيبا. قيل : تدور السماء كما تدور الرّحى ، وتتكفّأ بأهلها تكفّؤ السفينة (٢) ﴿وَتَسِيرُ الْجِبالُ﴾ كالريح كما عن القمي (٣) ، أو كالسّحاب كما عن بعض العامة (٤)﴿سَيْراً﴾ سريعا ، ثمّ تصير كالعهن ، وذلك لانقضاء الدنيا ، وعدم انتفاع بني آدم بها ، وعدم عودهم إليها ، فاذا كان الأمر كذلك ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بتوحيد الله ورسله.

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله : ﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ مستقرّون ﴿فِي خَوْضٍ﴾ واندفاع عجيب عظيم ، وانغماس في الأباطيل والأكاذيب ، كما يغاص في الماء و﴿يَلْعَبُونَ﴾ ويلهون بالدنيا ويتشاغلون بما يصرفهم عمّا فيه خيرهم وسعادتهم الأبدية ، ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم الذي فيه الويل للمكذبين بقوله: ﴿يَوْمَ﴾ كأنّه قال ذلك اليوم يكون يوم ﴿يُدَعُّونَ﴾ ويدفع المكذّبون بالعنف والشّدّة ﴿إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ ودفعا شديدا حتى يصلون فيها على وجوههم وأقفيتهم. وقيل : إنّ اليوم بدل عن قوله : ﴿يَوْمَ تَمُورُ﴾ أو ظرف للقول المقدّر فيما بعد (٥) .

﴿هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْها

 فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ

 الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٤٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٨٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٣٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٨٩.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٨٩.

٦٥

الْجَحِيمِ (١٨)

ثمّ يقول لهم خازن النار تقريعا وتوبيخا : ﴿هذِهِ النَّارُ﴾ التي تصلونها هي النار ﴿الَّتِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا بالنبي الذي كان يهدّدكم ﴿بِها تُكَذِّبُونَ﴾ وتستهزؤن ، وكنتم تنسبون القرآن الناطق به إلى السّحر ﴿أَفَسِحْرٌ هذا﴾ الذي ترون ﴿أَمْ أَنْتُمْ﴾ عمي ﴿لا تُبْصِرُونَ﴾ النار التي وعدتم بها ، كما كنتم في الدنيا عميا عن معجزات الرسول وآيات التوحيد والمعاد. فلمّا ثبت أنها نار في الواقع ولا خلل في أبصاركم ، ذوقوا حرّها وألمها ﴿اصْلَوْها فَاصْبِرُوا﴾ أيّها المكذّبون على النار وشدائدها ﴿أَوْ لا تَصْبِرُوا﴾ لا خلاص لكم منها أبدا ﴿سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ الأمران الصبر والجزع ، لا الصبر ينجيكم منها ، ولا الجزع يدفعها عنكم.

واعلموا أنّ تعذيبكم بها ليس ظلما عليكم ، بل هو ما اخترتم لأنفسكم بأعمالكم ﴿إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وترتكبون من الكفر والعصيان ، بلا زيادة ولا نقصان.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار المكذّبين للآيات في الآخرة ، بيّن حسن حال [ المتقين بقوله : ﴿إِنَ ] الْمُتَّقِينَ﴾ من الكفر والعصيان ، والمصدّقين بالرسول والمعاد ، يومئذ طوبى لهم ، فانّهم حين ابتلاء الكفّار بعذاب النار في جهنّم ، متمكّنون ﴿فِي جَنَّاتٍ وَ﴾ بساتين عديدة ، ومستغرقون في ﴿نَعِيمٍ﴾ دائم لا نهاية له حال كونهم ﴿فاكِهِينَ﴾ ومتلذّذين ﴿بِما آتاهُمْ﴾ وأعطاهم ﴿رَبُّهُمْ﴾ اللطيف بهم من خزائن رحمته ، ومسرورين به ، ﴿وَ﴾ بأنّه ﴿وَقاهُمْ﴾ وحفظهم ﴿رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ﴾ والاحتراق بالنار الجاحمة (١).

﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ

 وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (١٩) و (٢٠)

ثمّ يقول له خازن الجنة أو خالقها إذنا واباحة وإكراما لهم : ﴿كُلُوا﴾ أيّها المؤمنون المتّقون من أيّ مأكول اشتهيتم ﴿وَاشْرَبُوا﴾ من أيّ مشروب أحببتم ، أكلا وشربا ﴿هَنِيئاً﴾ سائغا لا تكدير فيه من التّخم والسّقم والمرض والنّكب وخوف الانقطاع ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الايمان والأعمال الصالحة وترك المشتهيات المحرّمة ، فان الله لا يضيع أجر المحسنين ، ويكون أكلهم وشربهم حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ ومستندين كالسلاطين على نمارق ووسائد موضوعة ﴿عَلى سُرُرٍ﴾ وعروش متعدّدة ﴿مَصْفُوفَةٍ﴾ ومصطفّة متصلة بعضها ببعض. قيل : طول كلّ سرير في السماء

__________________

(١) النار الجاحمة : الشديدة الحرّ ، وفي النسخة : الماحجة.

٦٦

مائة ذراع ، إذا أراد المؤمن الصعود عليه اتّضع له ، فاذا قعد عليه ارتفع إلى أصل حاله (١) . وقيل : إنّ المصفوفة بمعنى المزيّنة بالذهب والفضة والجواهر (٢) .

﴿وَزَوَّجْناهُمْ﴾ وقرنّاهم ﴿بِحُورٍ﴾ ونساء يحار الناظر في حسنهنّ ﴿عِينٍ﴾ واسعات الأحداق ، وفيه إظهار غاية اللطف بهم ، حيث نسب تزويجهم إلى نفسه ، وبيّن أنّه المتصدّي له ، ثمّ وصف أزواجهم بغاية الحسن ، فانّ أحسن الأعضاء الوجه ، وأحسن ما في الوجه العين ، وأحسن العيون العين الواسعة. قيل : إنّ سعة العين سبب كثرة الروح المصوّبة (٣) إليها (٤) .

فبيّن سبحانه إتمام النّعم على المتّقين ، فانّ أول ما يحتاج إليه المسكن ، ثمّ المأكول والمشروب ، ثمّ الفرش والبسط ، ثمّ الأزواج ، فذكر سبحانه جميعها على الترتيب ، ووصف كلّا منها بغاية الكمال.

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ

 عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)

ثمّ لمّا كان شفقة المؤمنين في الآخرة على الأولاد كشفقتهم في الدنيا عليهم ، طيّب سبحانه قلوب المؤمنين بأنّه يجمع بينهم في الجنّ بقوله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بل إنّه عطف على قوله : ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ وقيل : على قوله : ﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ والمعنى : وقرنّاهم بحور عين وبالذين آمنوا (٥)﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ﴾ ووافقتهم ﴿ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ وأولادهم ﴿بِإِيمانٍ﴾ حكمي كما في غير المميز ، أو حقيقي كما في المميّز ، ولو كان قليلا وضعيفا ﴿أَلْحَقْنا بِهِمْ﴾ وجعلنا في درجتهم ﴿ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ يتنعّمون بما يتنعمون به آباؤهم ﴿وَما أَلَتْناهُمْ﴾ وما أنقصنا بالحاق أولادهم بهم ﴿مِنْ﴾ ثواب ﴿عَمَلِهِمْ﴾ في الدنيا ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ قليل ، بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم ، بل لا يكون رفعهم إلى درجة آبائهم إلّا بالاحسان والتفضّل عليهم ، لكون فطرتهم فطرة الاسلام ، والتفضّل عليهم تفضيل على والديهم.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه ، لتقرّ بهم عينه » ثمّ تلا هذه الآية (٦) .

وروي أنّه سألت خديجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هما في النار » فكرهت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو رأيت مكانهما لأبغضتهما » قالت : فالذي منك ؟ قال : « في الجنة ، إن

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٩١.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٩١.

(٣) في النسخة : المصبوبة.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٤٩.

(٥) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٥١.

(٦) تفسير الصافي ٥ : ٧٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٩٢.

٦٧

المؤمنين وأولادهم في الجنّة ، وإنّ المشركين وأولادهم في النار » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة » (٢) .

وعنه عليه‌السلام :« قصرت الأبناء عن عمل الآباء ، فألحقوا (٣) الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم»(٤).

وعنه عليه‌السلام قال : « إنّ الله تبارك وتعال كفّل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين ، يغذونهم بشجرة في الجنّة ، لها أخلاف كأخلاف البقر ، في قصر من درّة ، فاذا كان يوم القيامة البسوا وطيّبوا واهدوا إلى آبائهم ، فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم ، وهذا قول الله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ﴾ » الآية(٥) .

أقول : الظاهر أنّ الوعد لا يختصّ بالآباء المؤمنين ، بل إذا كانت الامّ مسلمة ، ولحق بها الولد في الدنيا ، لحق بها في الآخرة أيضا.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لحقوق الأولاد بآبائهم في درجة الجنة ، وإن لم يكن لهم إيمان حقيقي وعمل صالح ، بل إيمان تبعيّ وحكميّ ، بيّن سبحانه أنّ الايمان الحقيقي والعمل الصالح لا يطلب إلّا ممّن بلغ مبلغ الرجال بقوله تعالى : ﴿كُلُّ امْرِئٍ﴾ ورجل بالغ ﴿بِما كَسَبَ﴾ من الايمان والعمل الصالح ﴿رَهِينٌ﴾ ومحتبس عند الله ، فان أدّى ما عليه من الاحسان وصالح الأعمال فك وخلّص من الرهانة والحبس ودخل الجنة ، وكذا المرأة ، دون الصبي والصبية ، فانّهما يدخلان الجنّة بعمل الآباء والامّهات.

﴿وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا

 تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى

 بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ * قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا

 عَذابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٢) و (٢٨)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه عدم تنقيص ثواب أعمال المؤمنين بالحاق أولادهم بهم ، بيّن أنّه لا يقتصر على إعطاء ثواب أعمالهم ، بل يزيدهم آنا فآنا من فضله بقوله : ﴿وَأَمْدَدْناهُمْ﴾ وزدناهم على ما ذكر من النّعم بأن نتفضّل عليهم ﴿بِفاكِهَةٍ﴾ كثيرة طيبة دائمة من ثمار الجنة ﴿وَلَحْمٍ﴾ كثير طيب ، وهما أرفع

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٩٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣٢ ، مجمع البيان ٩ : ٢٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٩.

(٣) في التوحيد ومن لا يحضره الفقيه : فألحق الله عزوجل.

(٤) التوحيد : ٣٩٤ / ٧ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣١٦ / ١٥٣٧ ، الكافي ٣ : ٢٤٩ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٩.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣١٦ / ١٥٣٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٩.

٦٨

أنواع المأكولات للمتنعّمين ، ولا يقتصر على نوع خاص ، بل يعطون ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ ويرغبون إليه من أنواع الفواكه واللحوم. روي أنّ المؤمن إذا اشتهى الطير يخرّ بين يديه مشويا (١) ﴿يَتَنازَعُونَ﴾ ويتعاطون ﴿فِيها﴾ بنحو التجاذب والتلاعب ﴿كَأْساً﴾ مملوءة من خمر الجنة ، لكن ﴿لا لَغْوٌ﴾ وكلام باطل وواه ﴿فِيها﴾ كما يكون في شرب خمر الدنيا ﴿وَلا﴾ يكون فيها ﴿تَأْثِيمٌ﴾ وفعل قبيح من السبّ والفحش ، كما هو لازم السّكر في الدنيا ، بل لا يتكلّمون إلّا بأحاسن الكلام ، ولا يفعلون إلّا ما يفعله الكرام ، لعدم حصول نقص في عقولهم ، فضلا من زوالها. وقيل : لا يكون في شربها إثم وعصيان (٢) .

﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ ويدور حولهم لخدمتهم ، أو بكؤوسهم ﴿غِلْمانٌ﴾ وخدم حسان الوجوه ، مخلوقون ﴿لَهُمْ﴾ في الجنّة ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في البياض والصفاء ﴿لُؤْلُؤٌ﴾ رطب ﴿مَكْنُونٌ﴾ ومصون في الصّدف عن الغبار ومسّ الأيدي ، أو مخزون فانّه لا يخزن إلّا الثمين الغالي القيمة.

روي أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا لخادم ، فكيف المخدوم ! فقال : « والذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » (٣) .

وروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إن أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه ، فيجيبه ألف ببابه : لبيك لبيك » (٤) .

﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ آخر ، وتوجّه إليه ، وهم يتحادثون و﴿يَتَساءَلُونَ﴾ تلذّذا وتفكّها واستئناسا ، ويتذاكرون أحوالهم وأعمالهم في الدنيا ، وبأنّه نالوا الكرامة في الآخرة ﴿قالُوا﴾ جوابا للسائلين عن أحوالهم : يا إخواننا ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في زمان حياتنا ﴿قَبْلُ﴾ وفي دار الدنيا ﴿فِي أَهْلِنا﴾ وأقاربنا ﴿مُشْفِقِينَ﴾ وخائفين من مخالفة أحكام الله وسوء عاقبتنا وأهوال الآخرة ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا﴾ بالتوفيق لطاعته ﴿وَوَقانا﴾ بذلك وحفظنا به من ﴿عَذابَ السَّمُومِ﴾ والاحتراق بالنار الحارة النافذة في منافذ الجسد ، كالريح الحارة النافذة فيها ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ﴾ وفي دار الدنيا نعبد الله و﴿نَدْعُوهُ﴾ أن يقينا من العذاب ، فوقانا واستجاب داعاءنا ، وأدخلنا في جنته ورحمته ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ الْبَرُّ﴾ والمحسن بعباده ﴿الرَّحِيمُ﴾ بمن آمن به وأطاعه ، الكثير الرحمة على من أقبل إليه.

﴿فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٩٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٥١.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٢٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٠.

(٤) تفسير أبي السعوذ ٨ : ١٤٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٩٦.

٦٩

رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ

 أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٢٩) و (٣٢)

ثمّ لمّا أمر سبحانه في آخر السورة السابقة بتذكير الخائفين من الوعيد ، وذكر هنا حال الخائفين من عذابه ، أمره بوعظهم وتذكيرهم بقوله تعالى : ﴿فَذَكِّرْ﴾ يا محمد وعظ الخائفين من الله بآيات الكتاب الكريم ، ولا تعتن بما يقوله الكفار من أنّ محمدا كاهن أو مجنون ﴿فَما أَنْتَ﴾ بحمد الله و﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ التي أنعمها عليك من كمال العقل ومنصب الرسالة ﴿بِكاهِنٍ﴾ ومخبر بالغيب بتوسّط الجنّ ﴿وَلا مَجْنُونٍ﴾ وفاسد العقل.

ثمّ وبّخهم سبحانه على بعض أقاويلهم الشنيعة تعبجّبا منها بقوله : ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ اولئك الطّغاة إذا سمعوا القرآن : إنّ محمدا ﴿شاعِرٌ﴾ وملفّق الكلمات الموزونة المزينة المموّهة (١) لطلب المال ، ولا نعارضه خوفا من أن يغلبنا بقوة شعره ، أو يهجونا ، بل ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ وننتظر ﴿بِهِ﴾ في خلاصنا من شرّه ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ وحوادث الدهر ، أو موته وهلاكه ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، لهؤلاء المعاندين : ﴿تَرَبَّصُوا﴾ وانتظروا هلاكي بحوادث الدهر ﴿فَإِنِّي مَعَكُمْ﴾ أيضا متربص ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ لهلاككم بالعذاب النازل عليكم من الله أو بأيدينا.

ثمّ وبّخهم سبحانه على ضعف عقولهم بقوله : ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ﴾ وتبعثهم ﴿أَحْلامُهُمْ﴾ وعقولهم ﴿بِهذا﴾ القول الشنيع ، وإلى التكلّم بالمتناقضات ، حيث إنّ لازم الكهانة الفطنة والعقل والدقّة في الامور ، ولازم الجنون عدم الفهم واختلال الفكر ، ولازم الشاعر القدرة على الكلام الموزون المتّسق المخيّل بقوة الفكر ، ولا يمكن اجتماع الثلاثة في شخص واحد ، لا والله لا يجوّز العقل التكلّم بها ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ﴾ وهل هم إلّا طائفة معاندون لله ولكلّ حقّ وصواب ، يبعثهم عنادهم إلى التكلّم بالخرافات التي لا تصدر من ذي شعور ، والمكابرة بالتفوّه بكلّ كلام باطل لإطفاء الحقّ مع ظهوره.

﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ * أَمْ

 خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ *أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا

 يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ

 يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٣) و (٣٨)

__________________

(١) في النسخة : المموّهمة.

٧٠

ثمّ وبّخهم سبحانه على الطعن على القرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز بقوله : ﴿أَمْ يَقُولُونَ :﴾ إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل مما ﴿تَقَوَّلَهُ﴾ محمد ، واختلقه من قبل نفسه ، وينسبه كذبا إلى الله ؟ لا والله ليس كذلك ، ولا يعتقدون ذلك ﴿بَلْ﴾ هم قوم ختم الله على قلوبهم ، فهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بآية من الآيات ، ولا يصدّقون معجزة من المعجزات ، فان كان القرآن ممّا تقوّله محمد كما يقولون الكفّار ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ﴾ وكلام مركّب ﴿مِثْلِهِ﴾ في الفصاحة والبلاغة وحسن الاسلوب ، والاشتمال على العلوم والمعارف ، من عند أنفسهم ﴿إِنْ كانُوا صادِقِينَ﴾ في ما يقولون من أنّه كلام البشر ، مع أنّهم مهرة الكلام وفرسان ميدان الفصاحة والبلاغة ، وطول ممارستهم الخطب والأشعار ، وكثرة مزاولتهم لأساليب النّظم والنثر ، وشدّة اهتمامهم بحفظ الوقائع والأيام ولا يمكنهم الإتيان بسورة منه فضلا عن جميعه.

ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخ المشركين على الطعن على رسوله وكتابه ، وبّخهم على إنكار الله تعالى بقوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا﴾ قيل : إنّ التقدير أما خلقوا أصلا (١) ، أم خلقوا وقدّروا ووجدوا ﴿مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ يكون خالقهم ومقدّرا وموجدا لهم ﴿أَمْ﴾ لهم موجد وخالق ، ولكن ﴿هُمُ﴾ أنفسهم ﴿الْخالِقُونَ﴾ لأنفسهم ؟ وكل الصور الثلاث باطل بالبداهة ، لتحقّق خلقهم ، وامتناع وجود المخلوق بغير خالق ، وامتناع كون أنفسهم خالقا لهم.

وقيل : إنّ المراد من قوله : ﴿خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ من غير حكمة ، وعبثا لا لشيء (٢) . وقيل : يعني خلقوا من غير أب وأمّ (٣) .

وقيل : في وجه ارتباط الآية : إنّه لمّا كذّبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر ، ذكر الدليل على صدقه (٤) ، حيث إنّه يدّعي التوحيد والرسالة والحشر ، ودليل كلّ منها ظاهر في أنفسهم ، أمّا دلالة وجودهم على التوحيد فظاهر ، وأما دلالته على الحشر فلأنّ الخلق الأوّل دليل على الخلق الثاني ، والمراد : أما خلقوا أصلا ، فينكرون التوحيد لانتفاء الايجاد ، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول ، أم يقولون : إنّهم ما خلقوا لشيء فلا إعادة ، أو ما خلقوا من تراب وماء أو من نطفة حتى يخفى عليهم أنّ لهم خالقا ويقولون : إنّ خلقنا كان اتّفاقيا ، أم هم الخالقون للموجودات ، فيعجزون بكثرة العمل عن الخلق الثاني مرّة ، كما أن الإعياء (٥) دأب الانسان ؟

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٦٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٦٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٥٩.

(٥) في النسخة الأعباء.

٧١

﴿أَمْ﴾ هم ﴿خَلَقُوا﴾ بقدرتهم ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ فلا يستدلّون بهما على وجود الصانع القادر الحكيم ؟ لا والله لا يقولون بأنّهم خالقهما ﴿بَلْ﴾ يشكّون في خالقهما و﴿لا يُوقِنُونَ﴾ بالنظر إلى الآيات الآفاقية والأنفسية المذكورة بأنّ الله خالقهما وخالق كلّ شيء ، وإلّا لما أعرضوا عن عبادته ، وما أنكروا قدرته على البعث ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ﴾ وتحت تصرّفهم ﴿خَزائِنُ﴾ رحمة ﴿رَبِّكَ﴾ حتى يعطوا النبوة من شاءوا ويمنعوها عمّن شاءوا ؟ ﴿أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ والغالبون على من له الخزائن حتى يجبروه على الاعطاء والمنع على وفق إرادتهم وهوى أنفسهم ؟ ﴿أَمْ﴾ لا يحتاجون إلى الرسول ، بل ﴿لَهُمْ سُلَّمٌ﴾ يصعدون فيه إلى السماء ، و﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ من الملائكة ما يحتاجون إلى العلم به من الأحكام وسائر الأمور حال كونهم صاعدين ﴿فِيهِ ؟﴾ فان كانوا يدّعون ذلك ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ﴾ من الملائكة بصعوده إلى السماء ﴿بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وبرهان واضح على استماعه وصدقه في دعواه.

﴿أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ

 عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ *

 أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣٩) و (٤٣)

ثمّ وبّخ جماعة من قريش على قولهم : إنّ الملائكة بنات الله ، وعبادتهم إياهم لكونهم أولاده بقوله: ﴿أَمْ لَهُ الْبَناتُ﴾ اللاتي هنّ أخسّ الأولاد عندكم ﴿وَلَكُمُ﴾ أيّها السّفهاء ﴿الْبَنُونَ﴾ الذين هم أشرف الأولاد ؟ قيل : إنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد والتوبيخ (١) . قيل : فيه إيذان بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا من أن يرقى إلى السماء ويطلّع على الأسرار الغيبية (٢) .

ثمّ لمّا كان ظهور نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ والانكار ، أعرض سبحانه عن المشركين ، ووجّه خطابه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ﴾ وتطلب منهم على تبليغ الرسالة ﴿أَجْراً﴾ وجعلا من المال ﴿فَهُمْ﴾ لأجل ذلك ﴿مِنْ مَغْرَمٍ﴾ ومال ألزمتهم بأدائه إليك ﴿مُثْقَلُونَ﴾ ومتقاعدون عن الايمان بك واتّباعك ، الثقل أجرك عليهم ؟ وفيه تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإظهار عدم تقصيره في أداء وظيفته ﴿أَمْ﴾ لا يحتاجون إلى الرسول ؛ لأنّ ﴿عِنْدَهُمُ﴾ اللوح المحفوظ الذي فيه ﴿الْغَيْبُ﴾ وما لا يعلم به إلّا بإعلام الله ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ما فيه ليبقى في حفظهم ، ويراجعون إليه عند نسيانهم شيئا منه ، ولذا لا يتّبعونك ؟ أيكتف المشركون بتلك التّرّهات ولا أقاويل الباطلة ﴿أَمْ يُرِيدُونَ﴾ مع ذلك

__________________

(١و٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥١.

٧٢

﴿كَيْداً﴾ وإساءة إليك في الخفاء منك ، كالقتل والحبس والاخراج من البلد ، أو حيلة وتدبير سوء في إطفاء نورك والاخلال في أمر رسالتك ؟

﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأنكروا رسالتك ﴿هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ ومستحقّون لما ينزل بهم من العذاب غفلة وبغتة ، أو هم الذين يعود إليهم وبال مكرهم وكيدهم من القتل والعذاب بعلّة كفرهم ، لا من يريدون أن يكيدوه ، فانّه المنصور من الله قولا وفعلا وحجّة وسيفا ، أو هم المغلوبون في الكيد ، ألهم صبر على ما ينزل عليهم من العذاب ﴿أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ﴾ يحرسهم منه ؟ ﴿سُبْحانَ اللهِ﴾ وننزّهه ( عن ) شركة ما ﴿يُشْرِكُونَ﴾ به ، أو عن إشراكهم.

﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا

 يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ

 * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٥) و (٤٧)

ثمّ بيّن كيفية نزول العذاب عليهم غفلة وبغتة بقوله تعالى : ﴿وَإِنْ يَرَوْا﴾ حين انقضاء مدّة إمهالهم ﴿كِسْفاً﴾ وقطعة من العذاب ، نازلا عليهم ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ أو قطعة منها ، ﴿ساقِطاً﴾ عليهم ﴿يَقُولُوا﴾ من فرط الغفلة : هذا الذي نرى ﴿سَحابٌ﴾ غليظ ﴿مَرْكُومٌ﴾ ومنضم بعضه ببعض ، أو ملقى بعضه فوق بعض يمطرنا الساعة.

وقيل : إنّه بيان لغاية لجاجهم وعنادهم ، والمراد أنّهم في اللّجاج والعناد بحيث لو أسقطنا عليهم قطعة من السماء حسبما قالوا : ( أو تسقط علينا كسفا من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم ) ولم يصدّقوا أنّه كسف من السماء ساقط عليهم لتعذيبهم (١) . فاذا كان لجاجهم وعنادهم إلى هذا الحدّ ﴿فَذَرْهُمْ﴾ واتركهم على حالهم ، ولا تتعب نفسك بالاصرار على دعوتهم ﴿حَتَّى يُلاقُوا﴾ ويعاينوا ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ ويهلكون بالعذاب ، أعني ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي﴾ ولا يكفي في دفع العذاب ﴿عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ﴾ ومكرهم وتدبيرهم ﴿شَيْئاً﴾ من الإغناء ﴿وَلا هُمْ﴾ من جهة الغير ﴿يُنْصَرُونَ﴾ ويحفظون من العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يقتصر في حقّ المصرّين على العناد واللّجاج على عذاب الآخرة ، بل لهم في الدنيا عذاب أخف من عذاب الآخرة بقوله : ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم بالإصرار على الكفر والعناد ، وعلى الله تعالى بتضييع حقّ ربوبيته ونعمته ، وعلى الرسول بتكذيبه وكفران نعمة هدايته.

__________________

(١) تفسير الصافي ٥ : ٨٢ ، تفسير الكشاف ٤ : ٤١٥.

٧٣

القمي : ظلموا آل محمد (١)﴿عَذاباً﴾ أليما في الدنيا ﴿دُونَ ذلِكَ﴾ العذاب الموعود في الآخرة وقبله ، أو أخفّ منه. عن القمي : عذاب الرجعة بالسيف (٢) . وقيل : يعني عذابا أخفّ قيل العذاب بالقتل ، وهو العذاب بالقحط (٣) . وقيل : يعني وراء عذاب الدنيا ، وهو عذاب الآخرة (٤) .

﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ لفرط جهلهم وعنادهم ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك ، وإنّما يعلمه أقلّهم ، وهم الذين آمنوا. وقيل : يعني أنّهم في أكثر أحوالهم - وهو حال اشتغالهم بالدنيا - لا يعلمون ، وفي أقلها - وهو حال احتضارهم - يعلمون. وقيل : إنّ أكثر هنا بمعنى الكلّ (٥) .

﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ

 فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٨) و (٤٩)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد القوم وكيدهم في شأن رسوله ، سلّاه بقوله : ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمد ، على عناد القوم وأذاهم ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ بإمهالهم إلى اليوم الموعود ، ولا يضيق صدرك بما يقولون ، ولا تخف من كيدهم ﴿فَإِنَّكَ﴾ محفوظ من الآفات جميعها ﴿بِأَعْيُنِنا﴾ وفي مرآنا ، أو بحفظنا وفي حمايتنا.

وجمع العين لجمع الضمير ، وللإيذان بغاية الاعتناء بحفظه وبكثرة أسبابه.

ولا تدع على أعدائك ، ولا تشغل قلبك بالتفكّر في سوء فعالهم وأقوالهم ، بل فرّغه للعبادة ﴿وَسَبِّحْ﴾ الله ونزّهه عن النقائص الإمكانية ، واقرن تسبيحك ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ على نعمه عليك ﴿حِينَ تَقُومُ﴾ من النوم لصلاة الليل ، كما عن القمي (٦) . أو تقوم من النوم في أيّ وقت ، كما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسبّح بعد الانتباه (٧) . أو تقوم من مجلسك ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أنّ لا إله إلّا أنت ، استغفرك وأتوب إليك ، كان كفارة لما بينهما » (٨) . أو تقوم إلى الصلاة ، لمّا روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا قمت إلى الصلاة ، فقل : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » (٩) .

أقول : أو في جميع تلك الأوقات المذكورة في الروايات.

﴿وَ﴾ بعضا ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ أوله ، أو آخره ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ فانّه أفضل أوقات العبادة. وقيل : القدر الذي

__________________

(١و٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٣ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٠٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٤.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٣٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٣.

(٧) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٥.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٧.

(٩) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٥.

٧٤

يكون فيه يقظان (١) . وعن القمي : صلاة الليل (٢) . ﴿وَ﴾ كذا ﴿إِدْبارَ النُّجُومِ﴾ وحين يخفى ضياؤها وهو وقت الصبح. وقيل : إنّ المراد من التسبيح في الليل صلاة العشاءين ، ومن التسبيح إدبار النجوم صلاة الفجر (٣) . وقيل : إنّه ركعتان قبل الفجر (٤) .

وعنهما عليهما‌السلام : « ﴿ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ﴾ يعني الرّكعتين قبل صلاة الفجر » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة » (٦) .

الحمد لله الذي وفقني لتفسيرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٥٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٨.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٥٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٣.

(٦) ثواب الأعمال : ١١٦ ، عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، مجمع البيان ٩ : ٢٤٥ ، عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٥ : ٨٣.

٧٥
٧٦

في تفسير سورة النجم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ

 هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختمت سورة الطّور المتضمنّة لبيان إنعام الله على النبي بنعمة الرسالة ، وردّ من قال إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كاهن أو مجنون أو شاعر ، ومن قال بأنّ القرآن اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوبيخ المشركين على إنكارهم توحيد الله ، وقولهم بأنّ له البنات ولهم البنون ، وردّ قولهم بعدم حاجتهم إلى الرسول بأنّهم لا يعلمون الغيب حتى لا يحتاجوا إلى المبلّغ عن الله ، وأمر الرسول بالاعراض عن المصرّين على الكفر بقوله : ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا(١) نظمت سورة النجم المتضمّنة لإثبات نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونفي الضلالة والغواية عنه ، وأنّ ما يقوله ليس إلّا ما يوحى إليه ، وأنّ ما يعلمه ليس إلّا ما علّمه الله بتوسّط جبرئيل لا بالكهانة ، وإثبات التوحيد ونفي الوهية اللات والعزى وسائر الأصنام ، وتوبيخ المشركين على قولهم بأنّ لهم الذكر وله الانثى ، وإنكار كونهم عالمين بالغيب حتى لا يحتاجون إلى الرسول بقوله : ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ(٢) ، وأمر الرسول بالإعراض عن المعرضين عن ذكر الله ، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة ، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ .

ثمّ افتتحها بالحلف على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرسالة بقوله : ﴿وَالنَّجْمِ﴾ قيل : هو الثّريا ، والحلف به لكونه أحسن النجوم عند قريش وأظهرها للرائي ، لأنّه له علامة لا يلتبس بغيره (٣) ، وتخصيص الحلف بحال هويه بقوله : ﴿إِذا هَوى﴾ وسقط ومال إلى الغروب ؛ لأنّه يهتدي الساري به حين الزوال ، كما يهتدى بالنبي بخفض جناحه ولين جانبه.

قيل : لمّا كان بعض المشركين يعبدونه ، فقرن سبحانه تعظيمه بالحلف به بما يدلّ على عدم قابليته

__________________

(١) الطور : ٥٢ / ٤٥.

(٢) النجم : ٥٣ / ٣٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٩.

٧٧

للعبادة ، لكونه هاويا آفلا ، كما قال إبراهيم : ﴿لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(١) .

وقيل : إنّ المراد بالنجم جنسه الثابت في السماء للاهتداء (٢) .

وقيل : جنس النجوم المنقضّة التي هي رجوم للشياطين (٣) ، كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منجي المؤمنين من همزات الشياطين.

وقيل : إنّ الحلف بربّ النجم ، والتقدير : وربّ النجم (٤) وعن ابن عباس : قال : يقول : وخالق النجم (٥) .

وقيل : إنّ المراد بالنجم النباتات التي لا ساق لها (٦) ، وهواه سقوطه على الأرض (٧) ، وهو سجوده.

وقيل : إنّه نجوم القرآن (٨) ، والحلف به استدلال بأعظم معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على صدقه.

ثمّ ذكر سبحانه المحلوف عليه بقوله : ﴿ما ضَلَ﴾ وما عدل عن الصراط المستقيم الموصل إلى كلّ خير ، وما انحرف عن طريق القرب إلى الله والنيل بنعم الآخرة لنقص عقله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو ﴿صاحِبُكُمْ﴾ ومعاشركم من أول عمره إلى الآن ، وما رأيتم منه كذبا ولا خيانة. وقيل : يعني سيدكم (٩) ومالك اموركم ﴿وَما غَوى﴾ وما وقع في أمر باطل وفاسد باغواء الشياطين ﴿وَما يَنْطِقُ﴾ بشيء ولا يتكلم بكلمة صادرة ﴿عَنِ الْهَوى﴾ وميل نفسه وشهوته.

وقيل : إنّه دليل على عدم ضلالته ، والمراد أنّه كيف يضلّ ويغوي وهو لا ينطق عن الهوى ؟ وإنّما يضلّ من اتّبع الهوى ، كما قال الله سبحانه وتعالى : ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ(١٠) .

وقيل : إنّ كلمة ( عن ) بمعنى باء ، والمعنى لا ينطق بسبب الهوى (١١) .

﴿إِنْ﴾ الذي ينطق به ، وما ﴿هُوَ﴾ شيء ﴿إِلَّا وَحْيٌ﴾ من الله تعالى ﴿يُوحى﴾ إليه حقيقة بواسطة جبرئيل لا مجازا ، وما هو بكاهن ولا شاعر ولا مجنون.

ذكر فضيلة لعلي عليه‌السلام ونصّ الامامة

وقال العلامة رحمه‌الله في ( نهج البلاغة ) : روى الجمهور عن ابن عباس ، قال : كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ انقض كوكب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي » فقام فتية من بني هاشم فنظروا ، فإذا الكواكب انقضّ في منزل علي بن أبي طالب عليه‌السلام. فقالوا : يا رسول الله ، غويت في حبّ علي.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٠ ، والآية من سورة الأنعام : ٦ / ٧٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٩. (٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٩.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٠٩. (٥) أمالي الصدوق : ٦٦٠ / ٨٩٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٤.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٢١١. (٧) تفسير روح البيان ٩ : ٢١١.

(٨) جوامع الجامع : ٤٦٨ ، تفسير الرازي ٢٨ : ٢٧٩. (٩) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٠.

(١٠) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٨٠ ، والآية من سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(١١) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٣.

٧٨

فأنزل الله تعالى : ﴿وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى(١) .

وعن ( المجالس ) عن ابن عباس ، قال : صلّينا العشاء الآخرة مع رسول الله ، فلمّا سلّم أقبل علينا بوجهه ثمّ قال : « سينقضّ كوكب من السماء مع طلوع الفجر ، فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي وخليفتي والامام بعدي » فلمّا قرب الفجر ، جلس كلّ أحد منا في داره ، وكان أطمع القوم في ذلك أبي العباس بن عبد المطلب ، فلمّا طلع الفجر انقضّ الكوكب من الهواء ، فسقط في دار علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي : « يا علي ، والذي بعثني بالنبوة ، لقد وجبت لك الوصية والخلافة والامامة بعدي » . فقال المنافقون عبد الله بن ابي وأصحابه : لقد ضلّ محمد في محبّة ابن عمّه وغوى ، وما ينطق في شأنه إلّا بالهوى. فأنزل الله تبارك وتعالى : ﴿وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ﴾ في محبّة علي بن أبي طالب ﴿وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى﴾ في شأنه ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى(٢) . وروى ما يقرب منه عن الصادق عليه‌السلام (٣) .

وروي عن الباقر عليه‌السلام قال : « ما ضلّ في عليّ وما غوى ، وما ينطق فيه عن الهوى ، وما كان ما قاله فيه إلّا بالوحي الذي اوحي إليه » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّ رضى الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، وكيف يسلمون ممّا لا يسلم منه أنبياء الله ورسله وحجج الله ... ألم ينسبوا نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ عليه‌السلام حتى كذّبهم الله فقال تعالى : ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ﴾ » (٥).

وعن الرضا عليه‌السلام في تأويل الآية : « النجم رسول الله » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أقسم الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) إذا قبض ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ﴾ لتفضيله أهل بيته ﴿وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى﴾ يقول : ما يتكلّم بفضل أهل بيته بهواه ، وهو قول الله : ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ﴾ » (٨) .

﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى

 * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ

__________________

(١) نهج الحق : ١٩٣.

(٢) أمالي الصدوق : ٦٥٩ / ٨٩٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٤.

(٣) أمالي الصدوق : ٦٦٠ / ٨٩٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٥) أمالي الصدوق : ١٦٤ / ١٦٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٣٣ ، ولم ينسبه إلى أحد ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٧) في الكافي : أقسم بقبض محمد ، في تفسير الصافي : أقسم بقبر محمد.

(٨) الكافي ٨ : ٣٨٠ / ٥٧٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

٧٩

ما رَأى (٥) و (١١)

ثمّ لمّا كان بعض المشركين يقولون : إنّما علّم محمدا ما ينطق وما يقول من العلوم بعض أهل الكتاب في أسفاره إلى الشام ، ردّهم الله سبحانه بقوله : ﴿عَلَّمَهُ﴾ جبرئيل الذي هو ﴿شَدِيدُ الْقُوى﴾ في العلوم والأعمال ، لا البشر الذي هو ضعيف القوة وقليل العلم ، وذلك الملك ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ وكمال في الجسم والعقل والدين وحسن الأخلاق واستحكام الأركان ﴿فَاسْتَوى﴾ ذلك الملك واستقام متوجّها إلى تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستقر على صورته الأصلية التي خلق عليها ، أو استقرّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على التعلّم منه ، كما عن القمي (١) .

وقيل : إنّ فاعل ( علّمه ) الله ، والمعنى علّمه الله الذي هو شديد القوى في العلوم ، وما بعده أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعنى : أنّ الرسول ذو مرّة ، فاستوى : وأستقام للتعلّم من الله (٢) .

عن الرضا عليه‌السلام : « ما بعث الله نبيا إلّا صاحب مرّة سوداء صافية » (٣) .

﴿وَهُوَ﴾ متمكّن ﴿بِالْأُفُقِ الْأَعْلى﴾ أو المقام الأرفع من الكمالات الانسانية ، والمرتبة الأسنى من الفضائل الجسمانية والروحانية بحيث لا يدانيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ﴿ثُمَّ دَنا﴾ رسول الله وقرب من الله بالعلم والكمال الصفاتي ﴿فَتَدَلَّى﴾ الله وقرب منه.

عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : « هذه لغة قريش ، إذا أراد الرجل أن يقول : سمعت ، يقول : تدلّيت ، وإنّما التدلّي : الفهم » (٤) .

أقول : وعليه يكون المعنى : ثمّ دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمع وفهم من الله.

﴿فَكانَ﴾ مقدار المسافة بين الله وبين رسوله ﴿قابَ قَوْسَيْنِ﴾ وقدر ما بين سية (٥) القوس إلى رأسها ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٦) . وقيل : مقدار ما بين الوتر والقوس (٧) . وهو حدّ الفصل في مجالسة الأحبّاء المتأدّبين (٨) .

قيل : مثل لغاية القرب ، وأصله أنّ الحليفين كانا إذا أراد عقد الصفاء أخرجا قوسيهما ، فألصقا بينهما ، وهو إشارة إلى كونهما متظاهرين يحامي كلّ منهما عن صاحبه (٩) .

وقيل : إن الكبيرين من العرب إذا اصطلحا وتعاهدا ، أخرجا قوسيهما ، ووتر كلّ واحد منهما طرف

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٣٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٥.

(٤) الاحتجاج : ٣٨٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٧.

(٥) سية القوس : ما عطف من طرفيها.

(٦) الكافي ١ : ٣٦٨ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٨٧.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٧.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٨.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٧.

٨٠