نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة النصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة الجحد المتضمّنة لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخطاب أهل مكّة بأشنع الخطاب ، والإعلان بالتبري من عبادة أصنامهم المؤذن جميع ذلك بعدم مبالاته إياهم ، وكونه محروسا منهم ومنصورا عليهم ، نظمت سورة النصر المبشّرة بنصرته على الكفّار ، ودخول الناس في دينه ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بتبشير نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر والغلبة على الكفّار ، وفتح مكّة الذي كان من أهمّ مطالبه بقوله : ﴿إِذا جاءَ﴾ ك يا محمد ﴿نَصْرُ اللهِ﴾ والغلبة التامة على أعداء الدين من قريش وسائر العرب ﴿وَالْفَتْحُ﴾ الذي تأمله وتنتظره بسبب نصر الله وإعانته إياك عليه ، وهو فتح مكّة التي هي مولدك ومسكن آبائك.

قيل : لمّا قال : ﴿يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ﴾ خاف من قريش وسائر العرب بعض الخوف ، فقلّل في الخشونة وقال : ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ فآمنه تعالى وقال : لا تخف فإنّي لا أذهب بك إلى النصر ، بل أجيء بالنصر إليك (١) .

عن ابن عباس : الفتح هو فتح مكّة ، وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح (٢) .

روي أنّه لمّا كان صلح الحديبية ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أغار بعض من كان على عهد قريش على خزاعة ، وكانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعظم ذلك عليه ، ثمّ قال : أما إنّ هذا العارض يخبرني أنّ الظّفر يجيء من الله ، ثمّ قال لأصحابه : انظروا. فانّ أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدّد العهد ، فلم تمض إلّا ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك ، فلم يجبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أكابر الصحابة ، فالتجأ ، إلى فاطمة ، فلم ينفعه ذلك ، فرجع إلى مكّة آيسا ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٠.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٣.

٦٠١

وتجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المسير لمكّة.

ثمّ روي أنّ سارة مولاة بني هاشم أتت المدينة ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : جئت مسلمة ؟ » قالت : لا ، لكن كنتم الموالي ولي حاجة. فحثّ عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطّلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلعتة بعشرة دنانير ، واستحملها كتابا إلى مكّة نسخته : اعلموا أنّ رسول الله يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، فنزل جبرئيل بالخبر ، فبعث رسول الله عليا عليه‌السلام وعمارا في جماعة أمرهم أن يأخذوا الكتاب ، وإلّا فاضربوا عنقها. فلمّا أدركوها جحدت وحلفت ، فسلّ عليّ سيفه ، وقال : والله ما كذّبنا ، فأخرجته من عقيصة شعرها ، واستحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حاطبا ، وقال : « وما حملك عليه ؟ » فقال : والله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن كنت غريبا في قريش ، وكلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا.

فقال عمر : دعني - يا رسول الله - أضرب عنق هذا المنافق. فقال : « وما يدريك - يا عمر - لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » فغاضت عينا عمر.

أقول : لا يخفى ما فيه من الطعن على عمر.

ثمّ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ نزل بمرّ الظّهران ، وقدم العباس عمّ النبي مع أبي سفيان إليه فاستأذناه ، فأذن لعمّه خاصّة ، فقال أبو سفيان : إمّا أن تأذن لي ، وإلّا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا وعطشا ؛ فرقّ قلبه الشريف ، فأذن له ، وقال له : « ألم يأن أن تسلم وتوحّد ؟ » فقال : أظنّ أنّه واحد ، ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا. فقال له : « ألم يأن أن تعرف أنّي رسول الله ؟ » فقال : إنّ لي شكّا في ذلك. فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر ، فقال : وما أصنع بالعزّ ؟ فقال عمر : لو لا أنّك بين يدي رسول الله لضربت عنقك.

فقال : يا محمد ، أ ليس الاولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك ، فسكّان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرّضهم للشنّ والغارة ؟

فقال رسول الله : « هؤلاء نصروني وأعانوني وذبّوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني ، فان اسروا فبسوء صنيعهم » .

وأمر العباس بأن يذهب به ، ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، فكانت الكتيبة تمرّ عليه فيقول : من هذا ؟ فيقول العباس : هو فلان من امراء الجند والعسكر ، إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلّا الحدق قال من هم ؟ فقال العباس ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : لقد اوتي ابن أخيك ملكا

٦٠٢

عظيما ! فقال العباس : هو النبوة. فقال : هيهات النبوة.

ثمّ تقدّم رجل ودخل مكة وقال : إنّ محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد ، فصاحت هند وقالت : اقتلوا هذا المبشّر ، وأخذت بلحيته ، فصاح الرجل فدفعها عن نفسه ، فلمّا سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر ، وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا ، وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة على راحلته ، ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا وشكرا ، ثمّ التمس أبو سفيان الأمان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن » فقال أبو سفيان : ومن تسع داري ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من دخل المسجد فهو آمن » فقال أبو سفيان : ومن يسع المسجد. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن » .

ثمّ وقف رسول الله على باب المسجد ، وقال : لا إله إلّا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب جنده ، أو وحده » ثمّ قال : « يا أهل مكّة ، فما ترون أنّي فاعل بكم ؟ » فقالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال : « اذهبوا فأنتم الطّلقاء » (١) .

ثمّ إن القوم بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاسلام ، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجا.

ثمّ اعلم أنّ فتح مكة كان في سنة ثمان من الهجرة ، وقال بعض مفسّري العامة : إنّ السورة نزلت قبل الفتح (٢) ، فيكون ما فيها إخبارا بالغيب ، ودليلا على صحّة النبوة ، وقال بعض : إنّها نزلت في سنة عشرة (٣) .

ورووا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « لمّا نزلت هذه السورة مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ، ثمّ دخل المنزل فتوفّي بعد أيام » (٤) .

وروي أنّه دعا فاطمة عليها‌السلام فقال : يا بنتاه إنّي نعيت إليّ نفسي » فبكت فقال : « لا تبكي ، فانّك أول أهلي لحوقا بي » فضحكت (٥) .

وعن ابن مسعود : أنّ هذه السورة تسمّى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا (٦) .

وقيل : إنّ المراد بالفتح فتح خيبر (٧) وقيل : إنّه فتح الطائف (٨) . وقيل : إنّه فتح بلاد الشرك على الاطلاق (٩) ، ويدلّ على كون المراد فتح مكّة تعريفه بلام العهد ، فانّ المعهود عندهم هو ذلك الفتح ، وإنّ الناس قبل فتح مكة كانوا يدخلون في الاسلام واحدا بعد واحد واثنين اثنين ، والله سبحانه قرن

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٣.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٥ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٢٠٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٥.

( ٤ - ٦ ) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣١.

( ٧ - ٩ ) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٥.

٦٠٣

بذكر الفتح قوله : ﴿وَرَأَيْتَ﴾ وأبصرت ﴿النَّاسَ﴾ وعامّة العرب ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بالطوع والرغبة ﴿فِي دِينِ اللهِ﴾ وملّة الإسلام حال كونهم ﴿أَفْواجاً﴾ وجماعات كثيرة كأهل مكّة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فتح مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : إذا ظفر بأهل مكّة وأهل الحرم ، فلن يقاومه أحد ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كلّ من أرادهم من الجبابرة ، فكانوا يدخلون في دين الاسلام أفواجا من غير قتال (١) .

وقيل : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكلّ في الاسلام بعد حنين ، منهم من قدم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنهم من قدم وافده (٢) .

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه بكى ذات يوم فقيل له في ذلك ، فقال : سنعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « دخل الناس في دين الله أفواجا ، وسيخرجون منه أفواجا » (٣) .

﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)

ثمّ لمّا بشّر سبحانه حبيبه بالنصر على الأعداء الدالّ على كمال قدرته ، أمره بتسبيحه وتنزيهه عن الشرك والعجز بقوله : ﴿فَسَبِّحْ﴾ ونزّه إليك - يا محمد - عن العجز والنقائص الامكانية ، ولمّا بشّره بنعمة الفتح أمره أن يقرن تسبيحه (٤) بحمده على نعمة التي منها الفتح ، وكأنّه تعالى قال : فسبّح حال كونك متلبسا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ المنعم عليك.

ثمّ أومأ إلى كمال دينه وتمام أمر دعوته وقرب أجله بقوله : ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ لما فرط منك من ترك الأولى والأفضل ، ولذنوب الداخلين في دينك ، أو هضما لنفسك ، واستصغارا لعملك ، واستعظاما لحقوقه ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ﴾ بذاته وبلطفه ﴿تَوَّاباً﴾ ومبالغا في قبول التوبة بحيث يعامل مع التائب معاملة من لم يذنب.

قيل : إنّ علّة الأمر بالاستغفار كونه تعالى غفّارا ، وأمّا التعليل بكونه توابا للدلالة على أنّ المقدّر ، وتب إنّه كان توابا ، والامر بالتوبة بعد الاستغفار للدلالة على أنّ طلب المغفرة لا ينفع إلّا إذا قرن بالندم على المعاصي ، والعزم على عدم العود (٥) .

روت عائشة أنّه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول : « سبحانك اللهمّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٢٩.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٢٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٠.

(٤) في النسخة : بتسبيحه.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٢.

٦٠٤

وبحمدك ، استغفرك وأتوب إليك » (١) .

وعنها أيضا : كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلّا قال : « سبحان الله وبحمده » . فقلت يا رسول الله انك تكثر من قول سبحان الله وبحمده ، قال : إني أمرت بها وقرأ ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ(٢) . وروي ذلك عن امّ سلمة أيضا (٣) .

وقالت أيضا : كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول كثيرا في ركوعه : سبحانك اللهم وبحمدك اللهمّ اغفر لي(٤).

وعن ابن مسعود : لمّا نزلت هذه السورة كان يكثر من أن يقول : « سحانك اللهمّ وبحمك ، اللهمّ اغفر لي ، إنّك أنت التواب الغفور » (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ أول ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وآخره ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ﴾ » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « من قرا ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ﴾ في نافلة أو فريضة ، نصره الله على جميع أعدائه ، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد أخرجه الله من جوف قبره ، فيه أمان من جسر جهنّم ، ومن النار ، ومن زفير جهنّم ، فلا يمرّ بشيء يوم القيامة إلّا بشّره وأخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنة ، ويفتح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ ولم يخطر على قلبه » (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣١.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٠.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٨٧.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٠.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٠.

(٦) الكافي ٢ : ٤٦٠ / ٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٨٧.

(٧) ثواب الأعمال : ١٢٧ ، مجمع البيان ١٠ : ٨٤٣ ، وفيه إلى قوله : يدخل الجنة.

٦٠٥
٦٠٦

في تفسير سورة المسد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة النصر المتضمّنة لبيان تمامية دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونفوذ كلمته ، ودخول الناس في دينه ، ونصرته على أعدائه ، نظمت سورة أبي لهب المتضمّنة لبيان خبث (١) أبي لهب وذمّ زوجته أمّ جميل (٢) الساعيين في الإخلال بأمر رسالته وإطفاء نوره ، وغاية خسرانها [ في ] معاندته ، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ افتتحها بذكر خسران أبي لهب في معاندته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿تَبَّتْ﴾ وخسرت ، أو خابت ﴿يَدا أَبِي لَهَبٍ﴾ روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صعد على الصفا ذات يوم ، وقال : « يا صباحاه » فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك ؟ قال : « أرايتم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدّقوني ؟ » قالوا : بلى. قال : « فانّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك ، ألهذا دعوتنا ! فنزلت السورة » (٣) .

وروي أيضا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع أعمامه ، وقدّم إليهم طعاما في صحفة ، فاستحقروه. وقالوا : إنّ أحدنا يأكل كلّ الشاة ، فقال : « كلوا » فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلّا اليسير ، ثمّ قالوا : فما عندك ؟ فدعاهم إلى الاسلام. فقال أبو لهب : تبا لك ، ألهذا دعوتنا ! (٤)

وروي أنّه قال أبو لهب : فما لي إن أسلمت ؟ فقال : « ما للمسلمين » فقال : أ فلا افضّل عليهم ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بماذا تفضّل ؟ » فقال : تبا لك ولهذا الدين ، يستوى [ فيه ] أنا وغيري (٥) . وفي رواية : كان إذا وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفد سألوا عمّه عنه ، وقالوا : أنت أعلم به. فيقول لهم : إنّه ساحر ، فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتّى نراه. فقال : إنّا لم نزل نعالجه من

__________________

(١) في النسخة : خبيثة.

(٢) في النسخة : جميلة.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٨٩ ، تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٥.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٥.

٦٠٧

الجنون ، فتبا له وتعسا ، فاخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فحزن ، فنزلت السورة (١) .

وفي رواية ابن عباس : اجتمعت عنده قريش فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون ، اعلموا أنّي لا أملك لكم من الدنيا حظا ، ولا من الآخرة نصيبا ، إلّا أن تقولوا : لا إله إلّا الله ، فأشهد بها لكم عند ربّكم » . فقال أبو لهب ذلك : تبا لك ، ألهذا دعوتنا ! فنزلت السورة (٢) .

وعنه قال : ﴿تَبَّتْ﴾ أي خابت ، لأنّه كان يدفع القوم عنه بقوله : إنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه. لأنّه كان شيخ القبيلة ، وكان له صلى‌الله‌عليه‌وآله كالأب ، فكان لا يتّهم ، فلمّا نزلت السورة غضب وأظهر العداوة الشديدة ، فصار متّهما ، فلم يقبل قوله في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك ، فكأنّه خاب سعيه وبطل غرضه (٣) .

قيل : إنّما ذكر سبحانه اليد ، لأنّه كان يضرب يديه على كتف الوافد عليه لدفعه ، ويقول : انصرف راشدا فانّه مجنون (٤) . وقيل : يعني صفرت يداه عن كلّ خير (٥) ، وعليه يكون المراد باليد حقيقتها ، فانّه كان يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده.

روي عن طارق المحاربي أنّه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السوق يقول : « أيّها الناس ، قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا » ورجل خلقه يرميه بالحجارة. وقد أدمى عقبيه ، وقال : لا تطيعوه فانّه كذّاب ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : محمّد ، وعمّه أبو لهب (٦) .

وقيل : إنّما اسند الخسران أو الخيبة إلى يديه ، لما روي أنّه كان يقول : يعدنيى محمد أشياء لا أرى أنّها كائنة ، يزعم أنّها بعد الموت ، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا ، ثمّ ينفخ في يديه ، ويقول : تبا لكما ، ما أرى فيكما شيئا ، فنزلت السورة (٧) .

أو لما روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا دعاه نهارا فأبى ، فلمّا جنّ الليل ذهب إلى داره مستنّا بسنّه نوح عليه‌السلام ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا ، فلمّا دخل عليه قال له : جئتني معتذرا ، فجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمامه كالمحتاج ، وجعل يدعوه إلى الاسلام ، وقال : « إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت وأسكت » فقال : لا اؤمن بك حتّى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله للجدي : من أنا ؟ فقال : رسول الله ، واطلق لسانه فأثنى عليه ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، فأخذ يدي الجدي فمزّقه وقال : تبا لك أثّر فيك السحر ! فقال الجدي : بل تبا لك ، فنزلت السورة على وفق ذلك ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ﴾ لتمزيقه يدي الجدي (٨)﴿وَتَبَ﴾ وحصلت الخيبة والخسران : أو الهلاك له ، فيكون إخبارا بعد إخبار ، ولكن أراد بالأول هلاك

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٦.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٥.

( ٣ - ٦ ) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٦.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٧.

(٨) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٧.

٦٠٨

عمله ، وبالثاني هلاك نفسه ، وقيل : إنّ اليد كناية عن ماله (١) ، والمعنى : هلك ماله ، واهلكت نفسه ، وقيل : إنّها كناية عن نفسه (٢) والمعنى : هلك أو خسر أو خاب نفسه ﴿وَتَبَ﴾ ولده عتبة ، روي أنّه خرج إلى الشام مع اناس من قريش ، فلمّا همّوا أن يرجعوا قال عتبة : أبلغوا محمدا عنّي أنّي كفرت بالنجم إذا هوى (٣) .

وفي رواية : أنّ عتبة لمّا أراد الخروج إلى الشام قال : لآتين محمدا ولأؤذينّه ، وكانت تحته بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه وقال : يا محمد ، أنا كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلّى ، ثمّ تفل في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وردّ عليه ابنته وطلّقها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك » فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثمّ خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا ، فأشرف عليهم راهب من الدّير ، فقال : إنّ هذه أرض مسبعة (٤) ، فقال أبو لهب : أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة ، فانّي أخاف على ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتخلّلهم ويشتمّم وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله ، وهلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال ، والعدسة على ما قيل : بثرة تشبه العدسة ، وهي من جنس الطاعون (٥) .

وقيل : إنّ اليد هنا كناية عن الاحسان والمنّة ، روي أنّه كان كثير الاحسان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يقول : إن كان الأمر لمحمد فيكون لى عنده يد ، وإن كان لقريش فلي عندها يد ، فافخبر أنّه خسرت يده التي كانت عند محمد بعناده له ، ويده التي كانت عند قريش أيضا لخسران قريش وهلاكهم في يد محمد (٦) .

وقيل : إنّ يداه كناية عن دينه ودنياه ، وعقباه واولاه (٧) .

وقيل : إنّ الجملتين دعاء عليه (٨) . وقيل : إنّ الاولى دعاء ، والثانية إخبار (٩) ، أي كان ذلك وحصل.

قيل : كان اسمه عبد العزّى ، أو عبد مناف ، وكنّى بأبي لهب لتلهّب وجنتيه وإشراقهما (١٠) . وإنّما ذكره سبحانه بالكنيه لكونه معروفا بها ، فصارت بمنزلة اسمه ، ولأنّه وصف سبحانه نار جهنم بكونها ذات لهب ، فذكر بهذه الكنية للاشعار بموافقة مال أمره كنيته ، فمعنى كنيته أبو النار ، كما يقال : أبو الشرّ للشرير ، وأبو الخير للخيّر.

ثمّ إنّه كان يقول : إن كان ما يقوله ابن أخي حقّا ، فأنا افتدي منه نفسي بما لي وأولادي ، فردّ الله تعالى عليه بقوله : ﴿ما أَغْنى عَنْهُ﴾ ولم ينفعه حينما حلّ به التّباب ﴿مالُهُ﴾ الذي جمعه ﴿وَما كَسَبَ

__________________

( ١- ٣ ) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٧.

(٤) أي كثيرة السباع.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٣.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٧.

(٨) تفسير أبي السعود ٩ : ٢١٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٣.

(٩) تفسير أبي السعود ٩ : ٢١٠.

(١٠) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٢ ، تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٨ ، ولم يذكرا : عبد مناف.

٦٠٩

من أولاده ، كما عن ابن عباس (١) .

وروي أنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأنّ ولده من كسبه (٢) .

وقيل : إنّ ﴿ما كَسَبَ﴾ عمله الشنيع من كيده في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإقدامه في قتله (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالمال هو الماشية ، ومن كسبه نتاجها ، فانّه كان صاحب ماشية ونعم ونتاج (٤) ، أو المراد ماله الذي ورثه من أبيه ، وممّا كسب ما كسبه بنفسه (٥) .

وقيل : إنّ كلمة ﴿ما﴾ استفهامية للإنكار (٦) ، والمعنى : أي شيء أغنى عنه في دفع التّباب ، أو في عداوة الرسول ، أو في دفع النار.

﴿سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣)

ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بخيبته وخسرانه في الدنيا ، أخبر من سوء حاله في الآخرة وبعد الموت بقوله : ﴿سَيَصْلى﴾ وعن قريب يدخل بعنف ﴿ناراً﴾ عظيمة ﴿ذاتَ لَهَبٍ﴾ واشتعال وتوقّد ، هي نار جهنم.

ثمّ اعلم أنّ الآيات متضمّنة لأخبار ثلاثة عن الغيب : الإخبار عنه بالتّباب والخسارة ، والإخبار بعدم انتفاعه بماله وولده ، والإخبار بأنّه يموت على الكفر ويدخل النار ، وقد وقع جميع ذلك.

روى أبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كنت غلاما للعباس بن عبد المطّلب ، وكان الاسلام قد دخل [ بيتنا ] فأسلم العباس ، وأسلمت امّ الفضل ، وأسلمت أنا ، وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه ، وكان أبو لهب تخلّف عن بدر ، فبعث مكانه العاص بن هشام ، ولم يتخلّف رجل منهم إلّا بعث مكانه رجلا آخر ، فلمّا جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوّة ، وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أعمل القداح ألحيها (٧) في حجرة زمزم ، فكنت جالسا هناك ، وعندي امّ الفضل جالسة ، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه ، فجلس على طنب (٨) الحجرة ، وكان ظهري إلى ظهره ، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، فقال له أبو لهب: كيف الخبر يابن أخي ؟ فقال : لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا ، يقتلوننا كيف أرادوا ، وايم [ الله ] مع ذلك تأمّلت الناس ، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة ، ثمّ قلت : اولئك والله الملائكة ، فأخذني أبو لهب وضربني على الأرض ، ثمّ برك عليّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٩.

(٣) جوامع الجامع : ٥٥٥ ، تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦٩.

(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ٢١٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٣.

(٧) لحى القدح : قشره.

(٨) الطنب : حبل يشدّ به الخبار والسّرادق ونحوهما ، أو الطرف والناحية.

٦١٠

فضربني ، وكنت رجلا ضعيفا ، فقامت امّ الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجّته ، وقالت : تستضعفه أن غاب سيده ، والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة ، وقد صدق فيما قال. فانصرف ذليلا ، فو الله ما عاش إلّا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ، ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما دفناه حتى أنتن في بيته ، وكانت قريش تتّقي العدسه وعدواها كما يتّقى الطاعون ، وقالوا : نخشى هذه القرحة ، ثمّ دفنوه وتركوه ، فهذا معنى ﴿ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ(١) . وقيل : ثمّ استأجروا بعض السودان واحتملوه ودفنوه (٢) . وقيل : لم يحفروا له حفيرة ، ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتّى واروه (٣) . وفي رواية حضروا له ثمّ دفعوه بعود في حفرته ، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه (٤) .

﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)

ثمّ هدد سبحانه زوجته الكافرة بقوله : ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ وزوجته المسمّاه أم جميل (٥) ستصلى أيضا مع زوجها نار جهنم. وقيل : إنّ اسمها العوراء ، وكنيتها امّ جميل ، وهي اخت أبي سفيان بن حرب (٦) ، وكانت ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ قيل : كانت تحمل الشوك والحسك والسّعدان (٧) بالليل وتنشرها في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى صار هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في شدّة وعناء (٨) .

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يطأها كما يطأ الحرير (٩) .

وقيل : إنّها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها ، فذمّها سبحانه بالبخل ، ولقب حمّالة على الذمّ ، يعني أذمّ حمالة الحطب (١٠) .

وقيل : ذمّها سبحانه بكونها نمّامة ، وحمل الحطب كناية عن مشيها بالنميمة ، فانّها كانت تمشي بالنميمة وتفسد بين الناس ، كأنّها تحمل الحطب وتوقده ، أي (١١) توري بينهم نائرة الشرّ (١٢) .

وقيل : كناية عن حمل الآثام (١٣) والمعاصي ، تحمل الحطب لإحراق نفسها (١٤) .

﴿فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٠.

( ٢ - ٤ ) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(٥) في النسخة : جميلة.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(٧) السّعدان : نبت ذو شوك.

(٨و٩) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٤.

(١٠) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٥.

(١١) في النسخة : وتوقدها وتوري.

(١٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣٥.

(١٣) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٢.

(١٤) في النسخة : نفسه.

٦١١

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّها بقوله : ﴿فِي جِيدِها﴾ وعنقها ، أو موضع قلادتها ، كالحطّابين ﴿حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ جيّد الفتل من أي شيء كان من جلد الإبل أو من اللّيف أو الخوص ، وإنّما ذمّها بذلك لأنّها كانت تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يحمل (١) الحطّابون لخساستها.

وقيل : إنّه بيان لسوء حالها في جهنّم ، والمقصود أنّها كما كانت في الدنيا تحمل الحطب والشوك لخساستها ، أو لايذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، لا تزال تحمل على ظهرها في جهنّم حزمة من حطب النار من شجرة الزقّوم والضّريع ، وفي جيدها حبل من سلاسل النار ، ولا يبعد بقاء الحبل من مسد في النار أبدا ، كما يبقى الجلد واللحم والعظم من الانسان أبدا في النار (٢) .

روي عن أسماء بنت عميس لمّا نزلت السورة جاءت امّ جميل ، ولها ولولة وبيدها حجر ، فدخلت المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس ومعه أبو بكر ، وهي تقول :

ذمّما قلينا

و دينه أبينا

و حكمة عصينا

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قد أقبلت إليك وأنا أخاف أن تراك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّها لا تراني ، وقرأ ﴿وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً(٣) فقالت لأبي بكر : قد ذكر لي أنّ صاحبك هجاني. فقال أبو بكر : لا وربّ هذا البيت ، ما هجاك. فولّت وهي تقول : قد علمت قريش أنّي بنت سيّدها (٤) .

وعن الكاظم عليه‌السلام في حديث يذكر فيه معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن ذلك أنّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبّت ، ومع النبي أبو بكر بن أبي قحافة فقال : يا رسول الله ، هذه امّ جميل تريدك ومعها حجر تريد أن ترميك به ؟ فقال : « إنّها لا تراني » فقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ قال : حيث شاء الله. قالت : لقد جئته ، ولو رأيته لرميته ، فانّه هجاني ، واللات والعزّى إنّي لشاعرة. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنّها لم ترك ؟ قال : « لا ، ضرب الله بيني وبينها حجابا » (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا قرأتم ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ﴾ فادعوا (٦) على أبي لهب ، فانّه كان من المكذّبين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما جاء به من عند الله » (٧) لعن الله أبي لهب.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : يعمل أو يفعل.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٣.

(٣) الإسراء : ١٧ / ٤٥.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٢.

(٥) قرب الإسناد : ٣٢٩ / ١٢٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٨٩.

(٦) في النسخة : فالعنوا.

(٧) ثواب الأعمال : ١٢٧ ، مجمع البيان ١٠ : ٨٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٨٩.

٦١٢

في تفسير سورة الإخلاص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً

 أَحَدٌ (١) و (٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد إذلال رأس الضلال ومجسّمة الشرك ، ذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ أمر رسوله بالاعلان بالتوحيد الخالص بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، لعموم الناس : إنّ ربكم وخالقكم ومعبودكم ﴿هُوَ اللهُ﴾ المستجمع لجميع صفات الكمال المبرّأ والمنزّه من جميع النقائص ، فهو ﴿أَحَدٌ﴾ لا مثل له ولا نظير ، ولا جزء ولا تركيب.

قيل : إنّ الواحد والأحد بمعنى (١) . وقيل : إنّ الأحد من أسمائه الخاصة التي لا تطلق على غيره تعالى (٢) . وقيل : ﴿هُوَ﴾ ضمير الشأن ، والمعنى أنّ الشأن والحديث هو أنّ الله أحد (٣) . وفيه تفخيم لمعنى الجملة. وقيل : إنّ المعنى ما اوحى إليّ ممّا سألتموه هو أنّ الله أحد (٤) .

روي أنّها نزلت حين أرسل المشركون عامر بن الطفيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : قل له شققت عصانا ، وسببت آلهتنا ، وخالفت دين آبائك ، فان كنت فقيرا أغنيناك ، وإن كنت مجنونا داويناك ، وإن هويت امرأة زوّجناكها. فقال : « لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة ، أنا رسول الله ، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته » فأرسلوه ثانيا وقالوا : قل له بيّن لنا جنس معبودك ، أمن ذهب أو فضّة ؟ [ ، فأنزل الله هذه السورة (٥) .

عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران ، فقالوا : صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت ، أو ذهب ، أو فضة ؟ ] فقال : « إنّ ربّي ليس من شيء ، لأنّه خالق الأشياء » فنزلت ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ قالوا : هو واحد وأنت واحد ؟ قال : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(٦) . قالوا : زدنا من الصّفة فقال : ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ فقالوا : وما

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٨.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٨.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩ ، جوامع الجامع : ٥٥٦.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٥.

(٦) الشورى : ٤٢ / ١١.

٦١٣

الصمد ؟ فقال : « الذي يصمد إليه في الحوائج » (١) .

وعن القمي رحمه‌الله قال : سبب نزولها أنّ اليهود جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : ما نسبة ربّك ؟ فأنزل الله السورة (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : انسب لنا ربّك ، فلبث ثلاثا لا يجيبهم ، ثمّ نزلت ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إلى آخرها » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في تفسيرها - قال : ﴿قُلْ﴾ يعني أظهر ما أوحينا إليك ونبّأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك ، ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد ، و﴿هُوَ﴾ اسم مكنّى مشار (٤) إلى غائب ، فالماء تنبيه على مكّنى ثابت ، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ : كما أنّ ( هذا ) اشارة إلى الحاضر ، أو المشاهد عند الحواسّ ، وذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار ، فاشر أنت - يا محمد - إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا ناله فيه. فأنزل الله تبارك وتعالى : ﴿قُلْ هُوَ﴾ فالهاء تثبيت للثابت ، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواسّ ، وإنّه تعالى عن ذلك ، بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواسّ » (٥) .

ثمّ قال : «﴿ اللهُ﴾ وهو المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته ، يقول العرب : أله الرجل ، إذا تحيّر في الشيء ولم يحط به علما ، ووله إذا فرغ من شيء يحذره ويخافه ، والإله هو المستور عن الخلق.

ثمّ قال : ﴿أَحَدٌ﴾ وهو الفرد المتفرّد ، والأحد والواحد بمعنى ، وهو المتفرّد الذي لا نظير له ، والتوحيد الاقرار بالوحدة ، وهو الانفراد ، والواحد : المتبائن الذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء ، ومن ثمّ قالوا : إنّ بناء العدد من واحد ، وليس الواحد من العدد ، لأنّ العدد لا يقع على واحد ، بل يقع على اثنين ، فمعنى قوله : ﴿اللهُ أَحَدٌ﴾ أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيته ، فرد بالهيته ، متعال عن صفات خلقه » (٦) .

قال عليه‌السلام : وحدثني أبي زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن علي عليه‌السلام قال : « الصمد الذي لا جوف له ، والصمد الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد الذي لا ينام ، والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال » .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٠.

(٣) الكافي ١ : ٧١ / ١ ، التوحيد : ٩٣ / ٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٠.

(٤) في النسخة : مكنّى بها يشار بها.

(٥) التوحيد : ٨٨ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٠.

(٦) التوحيد : ٨٩ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩١.

٦١٤

قال عليه‌السلام : « كان محمد ابن الحنفية يقول : الصمد القائم بنفسه ، الغنيّ عن غيره ، الصمد المتعالي عن الكون والفساد ، والصمد الذي لا يوصف بالتغيير والتغاير » .

وقال عليه‌السلام : « الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه أمر وناه » .

قال عليه‌السلام : وسئل علي بن الحسين عليهما‌السلام عن الصمد فقال : « الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء » (١) .

قال الراوي : قال زيد بن على عليه‌السلام : الصمد الذي إذا أراد شيئا قال : كن فيكون ، والصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا ، وتفرّد بالوحدة بلا ضدّ ولا شكل ولا مثل ولا ندّ(٢) .

قال : وحدّثني الصادق عن أبيه : أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليه‌السلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، وقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد فقال : ﴿اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ﴾ ثمّ فسّره وقال : ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾.

﴿لَمْ يَلِدْ﴾ لم يخرج منه شيء كثيف ، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا تنشعب منه البدوات كالسّنة والنوم ، والخطر والهمّ ، والحزن والبهجة ، والضّحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسأمة ، والجوع والشّبع ، تعالى من أن يخرج منه شيء وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف.

﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ ولم يتولّد من شيء ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابّة من الدابّة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار [ ولا ] كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسمع من الاذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ، لا بل هو الله الصمد ، الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، ولم يكن له كفوا أحد » (٣) .

ثمّ اعلم أنّ مفسّري العامة قد ذكروا في معنى الصمد أقوالا :

__________________

(١) التوحيد : ٩٠ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩١.

(٢) التوحيد : ٩٠ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩١.

(٣) التوحيد : ٩٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٢.

٦١٥

الأول : السيد الذي يرجع إليه في الحوائج.

الثاني : هو الذي لا جوف له.

الثالث : هو العالم بجميع المعلومات.

الرابع : هو السيد الحليم.

الخامس : هو السيد الذي انتهى سؤدده.

السادس : هو الخالق للأشياء.

السابع : هو المقصود في الرغائب ، المستغاث به عند المصائب.

الثامن : هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه.

التاسع : هو السيد المعظّم.

العاشر : هو الفرد الماجد لا يقضى في أمر دونه.

الحادي عشر : هو الغني.

الثاني عشر : هو الذي ليس فوقه أحد.

الثالث عشر : هو الذي لا يأكل ولا يشرب ، ويطعم ولا يطعم.

الرابع عشر : هو الباقي بعد فناء كلّ شيء.

الخامس عشر : هو الذي لم يزل ولا يزال.

السادس عشر : هو الذي لا ينام ولا يسهو.

السابع عشر : هو الذي لا يوصف بصفة أحد.

الثامن عشر : هو الذي لا عيب فيه.

التاسع عشر : هو الذي لا تعتريه الآفات.

العشرون : هو الكامل في جميع أفعاله.

الحادي والعشرون : نسبوا إلى الصادق عليه‌السلام أنه قال : « هو الذي يغلب ولا يغلب » .

الثاني والعشرون : هو المستغنى عن كلّ أحد.

الثالث والعشرون : هو الذي ايس الخلائق من الاطّلاع على كيفيته.

الرابع والعشرون : هو الذي لم يلد ولم يولد ، لأنّه لا شيء يلد إلّا سيورث ، ولا شيء يولد إلا سيموت.

السادس والعشرون : هو المنزّه عن قبول النقصانات والزيادات ، وعن أن يكون مورد التغييرات

٦١٦

والتبديلات ، وعن إحاطة الأمكنة والأزمنة والآنات والجهات (١) .

وقيل : إنّ معناه الواجب الوجود (٢) ، ولازمه تنزّهه من النقائص ووجدانه جميع الكمالات الإلهية.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : قدم وفد من فلسطين على الباقر عليه‌السلام ، فسألوه عن مسائل فأجابهم ، ثمّ سألوه عن الصمد ، فقال : في تفسيره : الصمد خمسة أحرف ، فالألف دليل على إنّيته ، وهو قوله : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ(٣) وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس.

واللام دليل على إلهيته ، وأنّه هو الله ، والألف واللام يدغمان ولا يظهران على اللسان ويقعان في السمع ، ويظهران في الكتابه ، وهما دليلان [ على ] أنّ إلهيته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ ، ولا تقع في لسان واصف ، ولا في اذن سامع ، لأنّ تفسير الإله هو الذي أله الخلق عن درك ماهيّته وكيفيته بحسّ أو بوهم ، لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواسّ ، وانما يظهر ذلك عند الكتابة ، وهو دليل على أنّ الله تعالى أظهر ربوبيته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة ، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه ، كما أنّ لام الصمد لا تتبيّن ، فلا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس ، فاذا نظر في الكتابة ظهر له ما خفي ولطف ، فمتى تفكّر العبد في ماهية الباري وكيفيته أله فيه وتحيّر ، ولم تحط فكرته بشيء يتصوّر له ، لأنّه عزوجل خالق التصوّر ، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزوجل خالقهم ومركّب أرواحهم وأجسادهم.

وأمّا الصاد فدليل على أنّه صادق ، وقوله صدق ، وكلامه صدق ، ودعا عباده إلى اتّباع الصدق ، ووعد بالصدق دار الصدق.

وأمّا الميم فدليل على ملكه ، وأنّه الملك الحقّ ، لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه.

وأمّا الدالّ فدليل على دوام ملكه ، وأنه عزوجل متعال ق عن الكون والزوال ، بل هو عزوجل مكوّن الكائنات ، الذي كان بتكوينه كلّ كائن.

ثمّ قال : لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله حملة لنشرت التوحيد والاسلام والايمان والدين والشرائع من الصمد.

إلى أن قال الباقر : « الحمد لله الذي منّ علينا ووفّقنا لعباده ، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وجنّبنا عن عبادة الأوثان ، حمدا سرمدا ، وشكرا واصبا » .

ثمّ قال : « قوله عزوجل : ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ يقول : لم يلد فيكون له ولد يرثه ملكه ، ولم يولد

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٨١ و١٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٨١.

(٣) آل عمران : ٣ / ١٨.

٦١٧

فيكون له والد يشركه في ربوبيته وملكه ، ولم يكن له كفوا أحد فيعارضه في سلطانه » (١) .

أقول : ما ذكره عليه‌السلام في تفسير الصمد ، فهو من البطون التي للقرآن ، وليس من التفسير المصطلح.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سأله رجل عن تفسير هذه السورة فقال : « هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد تبعيض بدد ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون إلها مشاركا ، ولم يكن من خلقه كفوا أحد ... » الخبر (٢) .

ثمّ اعلم أنّ تكرار اسم الجلالة قبل ﴿أَحَدٌ﴾ وقبل ﴿الصَّمَدُ﴾ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الوصفين من لوازم الالوهية وخصائصها ، ونكتة تقديم جملة ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ على جملة ﴿لَمْ يُولَدْ﴾ هي شيوع اعتقاد أنّ له ولد في اليهود والنصارى في ذلك الزمان ، وأن الملائكة بنات الله في العرب ، فاقتضى ذلك تقديمها ردّا عليهم.

عن السجاد عليه‌السلام أنّه سئل عن التوحيد فقال : « إنّ الله عزوجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل الله ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ والآيات من أول سورة الحديد إلى قوله : ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ(٣) فمن رام وراء ذلك فقد هلك » (٤) .

أقول : الظاهر أنّ المراد أنه يجيء أقوام يتفكّرون في ذات الله ، فردعهم الله عنه بذكر صفاته ، فمن تفكّر في الذات فقد هلك.

وعن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن التوحيد فقال : « كلّ من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وآمن بها ، فقد عرف التوحيد » .

قيل : كيف يقرأها ؟ قال : « كما يقرأ الناس ، وزاد فيها : كذلك الله ربّي مرتين » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلث القرآن » (٦) .

وروى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مرّة ، فكأنّما قرأ ثلث القرآن [ ومن قرأها مرتين فكأنّما قرأ ثلثي القرآن ، ومن قرأها ثلاث مرات فكأنّما قرأ القرآن كله » (٧) .

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فكأنّما قرأ ثلث القرآن ] ، واعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك بالله وآمن بالله » (٨) .

أقول : لعلّ وجه كون هذه السورة بمنزلة قراءة ثلث القرآن أنّ عمدة مطالب القرآن كلّه التوحيد والرساله والمعاد ، وتمام السورة المباركة بيان التوحيد الكامل.

__________________

(١) التوحيد : ٩٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٦٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٣.

(٣) الحديد : ٥٧ / ٦.

(٤) الكافي ١ : ٧٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٣.

(٥) الكافي ١ : ٧٢ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٣.

(٦) الكافي ٢ : ٤٥٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٤.

(٧) كمال الدين : ٥٤٢ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٤.

(٨) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٤.

٦١٨

وروي بطريق عامي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال « من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مرّة واحدة اعطى من الأجر كمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واعطي من الأجر مثل مائة شهيد » (١) .

وروي أيضا أنّه كان جبرئيل مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل أبو ذرّ الغفاري فقال جبرئيل : هذا أبو ذرّ قد أقبل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله: « أو تعرفونه » قال : هو أشهر عندنا منه عندكم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بماذا. نال : هذه الفضيلة. قال : لصغره في نفسه ، وكثرة قراءته ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ(٢) .

وعن أنس قال : كنّا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع ولا ضياء ، وما رأيناها على تلك الحالة قطّ قبل ذلك ، فعجب كلّنا. فنزل جبرئيل وقال : إنّ الله أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك ويصلّون على معاوية بن معاوية ، فهل لك أن تصلّي عليه ؟ ثمّ ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال ، وصار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه مشرف عليه فصلّى هو واصحابه عليه. ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بماذا بلغ ما بلغ ؟ » فقال جبرئيل : كان يحبّ سورة الإخلاص (٣) .

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد ، فسمع رجلا يدعو ويقول : أسألك يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : غفر لك. غفر لك » ثلاث مرات (٤) .

وعن سهل بن سعد ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشكا إليه الفقر فقال : « إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد ، وإن لم يكن فيه أحد فسلّم على نفسك ، واقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مرّة واحدة ، ففعل الرجل ، فأدرّ الله عليه رزقا (٥) حتّى أفاض على جيرانه » (٦) .

وعن أنس : أنّ رجلا كان يقرأ في جميع صلواته ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فسأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، إنّي احبّها. فقال : « حبّك إياها يدخلك الجنّة » (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام: « من مضى به يوم واحد فصلّى فيه خمس صلوات ولم يقرأ فيه : ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ قيل له : يا عبد الله ، لست من المصلّين » (٨) .

وعنه عليه‌السلام : « من مضت جمعة ولم يقرا فيها ب ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثمّ مات ، مات على دين أبي لهب » (٩) .

أقول : لعلّه محمول على تركه استخفافا.

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٤.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٤.

(٥) في النسخة : فقدّر الله عليه رزقه.

(٦و٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧٤.

(٨) ثواب الأعمال : ١٢٧ ، مجمع البيان ١٠ : ٨٥٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٤.

(٩) ثواب الأعمال : ١٢٨ ، مجمع البيان ١٠ : ٨٥٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩٤.

٦١٩
٦٢٠