نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة القارعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الْقارِعَةُ * مَا الْقارِعَةُ * وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ

 الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (١) و (٥)

ثمّ لمّا ختمت سورة ﴿وَالْعادِياتِ﴾ المتضمّنة لبيان خروج الناس من القبور ، نظمت سورة القارعة المنبئة بكيفية البعث والمخبرة بحساب الأعمال وحسن حال المؤمنين ، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع فيها ببيان بعض أهوال القيامة بقوله : ﴿الْقارِعَةُ﴾ والحادثة العظيمة التي تقرع القلوب والأسماع.

ثمّ بالغ سبحانه في تهويلها بقوله : ﴿مَا الْقارِعَةُ﴾ وأيّ يوم عجيب هي في الفخامة والفظاعة والشدّة ، وكرّر سبحانه ذكر القارعة لازدياد التهويل والتأكيد.

ثمّ لمّا استفهم عن شئونها تعجيبا له ، بيّن أنّ شأنها وعظم خطرها ممّا لا تناله البشر إلّا بالوحي السماوي بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ يا محمد ، وأي شيء أعجب ﴿مَا الْقارِعَةُ﴾ وما مقدار عظمتها ؟ فانّ عظم شأنها فوق إدراك البشر.

قيل : إنّما سمّيت القيامة بالقارعة لأنّ الفزع هو الضرر ، وفي القيامة تصطك (١) الأجرام العلوية والسفلية اصطكاكا شديدا عند تخريب عالم الدنيا ، أو لأنّ القيامة تفزع الناس بالأهوال الاقراع حيث إنّ السماوات تنشقّ وتنفطر ، والشمس والقمر تتكوران ، والكواكب تنتثر ، والجبال تندكّ ، والأرض تزلزل وتبدّل ، أو لأنها تفزع أعداء الله بالعذاب والخزي والنّكال (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوالها بقوله : ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ﴾ بعد إحيائهم وبعثهم من القبور ﴿كَالْفَراشِ﴾ والحيوانات التي تطير وتتهافت على السّراج فتحترق ﴿الْمَبْثُوثِ﴾ والمفرّق في الهواء والأرض ، لا تتوجّه إلى جهة واحدة. قيل : وجه الشّبه الكثرة والانتشار والضّعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار (٣) .

__________________

(١) في النسخة : اصطك.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٩٩.

٥٦١

وقيل : وجه الشبه في الآية اختلافهم إلى جهات مختلفة ، وتشبيههم في الآية الاخرى بالجراد المنتشر في الكثرة (١) .

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تفرّق الناس في وجه الأرض ، بيّن سبحانه سعة وجه الأرض بقوله : ﴿وَتَكُونُ﴾ في ذلك اليوم ﴿الْجِبالُ﴾ التي على وجه الأرض ﴿كَالْعِهْنِ﴾ والصّوف المتلوّن بالألوان المختلفة ﴿الْمَنْفُوشِ﴾ والمتفرّقة (٢) أجزاؤه بالنّدف ، والمنشور بالإصبع أو آلة اخرى ، وفيه تنبيه على أنّ حال الجبال الرواسي إذا كان كذلك عند القارعة ، فكيف يكون حال الانسان الضعيف !

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ *

 فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ * وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ * نارٌ حامِيَةٌ (٦) و (١١)

ثمّ بيّن سبحانه اختلاف الناس في مقدار الأعمال الحسنة حيث إنّها توزن في ذلك اليوم بالميزان بقوله : ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ وأعماله الموزونة ، أو كفّة ميزان أعماله الحسنة حين توضع فيها بعد تجسّمها ، أو توضع صحيفتها فيها ﴿فَهُوَ﴾ سبب رجحان أعماله الحسنة على أعماله السيئة مستقرّ ﴿فِي عِيشَةٍ﴾ وحياة ﴿راضِيَةٍ﴾ محبوبة. قيل : يعني ذات رضا ، يرضى بها صاحبها (٣) . ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ﴾ في ذلك اليوم ﴿مَوازِينُهُ﴾ لقلّة حسناته وكثرة سيئاته ﴿فَأُمُّهُ﴾ التي يأوي إليها كالولد هي ﴿هاوِيَةٌ﴾ وجهنّم يهوى فيها. وقيل : يعني امّ رأسه هاوية في النار ، فانّ أهل النار يهوون فيها على رؤوسهم (٤) . وقيل : إنّ امه هاوية كناية عن الهلاكة ، فانّ العرب إذا دعوا على رجل بالهلاك قالوا : هوت أمّه ، لأنّ الهالك تهوي امّه حزنا وثكلا (٥) .

ثمّ عظّم سبحانه الهاوية أو الداهية التي دلّ عليها قوله : ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ يا محمد ﴿ما هِيَهْ﴾ وما حقيقتها ؟ ثمّ أعلمه بقوله : ﴿نارٌ حامِيَةٌ﴾ أشدّ الحرارة بحيث تكون سائر النيران بالنسبة إليها باردة ، نعوذ الله منها.

عن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ وأكثر من قراءة القارعة ، آمنه الله من فتنة الدجّال أن يؤمن به ومن قيح (٦) جهنّم يوم القيامة » (٧) قد تم تفسيرها بتوفيق الله تعالى ومنه.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٩٩.

(٢) في النسخة : والمتفرق.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٠.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٠.

(٦) في ثواب الأعمال ، وتفسير الصافي : فيح ، والفيح : سطوح الحرّ وفورانه.

(٧) ثواب الأعمال : ١٢٥ ، مجمع البيان ١٠ : ٨٠٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٧.

٥٦٢

في تفسير سورة التكاثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة القارعة المتضمّنة لتهويل يوم القيامة وبيان بعض أهواله ، وتهديد العصاة بالهاوية ، نظمت سورة التكاثر المتضمّنة لتوبيخ الناس على الغفلة عن التفكّر في الآخرة ، وعدم الاشتغال بما ينجيهم من الأهوال والعذاب فيها من طاعة الله ورسوله ، وتهديدهم برؤية الجحيم ، والسؤال عن النّعم الدنيوية ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه بتوبيخ الناس على الغفلة عن الآخرة بالاشتغال بالدنيا بقوله : ﴿أَلْهاكُمُ﴾ وصرفكم أيّها الناس عن ذكر الله وطاعته وعبوديته ، والتفكّر في آيات توحيده ، والتدبّر في أمر الآخرة ، وتحصيل موجبات السعادة الأبدية ﴿التَّكاثُرُ﴾ والتفاخر والتباهي بكثرة العدد والأقرباء ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ﴾ وتوجّهتم إلى الأموات ، واستوعبتم عددهم ، وتفاخرتم بكثرة أقربائكم منهم.

روي أنّ بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيّهم أكثر ، فكان بنو عبد مناف أكثر ، فقال بنو سهم : عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا [ مع ] مجموع أحيائكم وأمواتكم ، ففعلوا فزاد بنو سهم ، فنزلت (١).

وإنّما عبّر سبحانه عن انتقالهم إلى ذكر الأموات بزيارتهم للتهكّم بهم ، فانّ زيارة القبور التي حقّها أن تكون مذكّرة للموت مرغّبة إلى الزّهد في الدنيا والإعراض عنها وترك التباهي والتفاخر ، جعلوها سببا للقسوة وحبّ الدنيا.

وقيل : إنّ المعنى الهاكم التكاثر بالأموال والأولاد ، إلى أن متمّ وأقبرتم مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا ، معرضين عمّا يهمّكم من السعي لآخرتكم ، فتكون زيارة القبور كناية عن الموت (٢) .

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع أنّه يقرا هذه الآية ويقول بعدها : « يقول ابن آدم ، مالي مالي ، وهى لك إلّا ما

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٦ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٩٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ١٩٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٢.

٥٦٣

أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ؟ » (١) .

وفي التعبير عن ورود القبر بالزيارة إشعار بالخروج منه إلى الحشر وموقف الحساب ، حيث إنّ الزائر منصرف ومفارق لا مقيم ، وإنّما لم يذكر سبحانه الملهى عنه ليذهب ذهن السامع كلّ مذهب ، فيحتمل جميع ما فيه السعادة الأبدية والخيرات الاخروية وما فضّل به [ من ] المقامات العالية والدرجات الرفيعة.

﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *

 لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٣) و (٦)

ثمّ ردّ سبحانه المتكاثرين عمّا هم فيه من التكاثر بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّ السعادة بكثرة العدد أو المال والأولاد ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ خطأكم ، وعن قريب تطّلعون على ضلالتكم ، وذلك العلم والاطّلاع حين خروج روحكم من أبدانكم ، حيث إنّكم حينئذ ترون وحدتكم وعدم نفع الأقرباء والأموال لكم وشدائد الأهوال قدّامكم ، أو حين دخولكم في القبور ، حيث إنّكم تعذّبون فيها ولا ناصر لكم.

في الحديث : يسلّط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنّينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ، لو أن تنّينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لو دخلتم قبوركم » (٣) .

ثمّ أكّد سبحانه التهديد بقوله : ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وفي لفظ ﴿ثُمَ﴾ دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأول ، لأنّ فيه تنزيلا لبعد المرتبة منزلة بعد الزمان.

وقيل : إنّ التهديد الأول بعذاب القبر ، والثاني بأهوال القيامة ، كما روي عن ذرّ أنه قال : ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى سمعت عليا عليه‌السلام يقول : «﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي سوف تعلمون في القبر ، ثمّ في القيامة » (٤) .

وقيل : إنّ الأول عند الموت حين يقال له : لا بشرى ، والثاني في سؤال القبر ، من ربّك ، ومن نبيك ، وما دينك ؟ (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٨ ، تفسير الرازي ٣٢ : ٧٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٢.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٣.

(٣) روضة الواعظين : ٤٩٣ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩ ، لم ينسبه إلى أحد.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٣.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٣.

٥٦٤

عن الصادق عليه‌السلام : « لو خرجتم من قبوركم إلى محشركم » .

وقوله : ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(١) عند النشور حين ينادي المنادي : فلان شقيّ شقاوة لا سعادة بعدها أبدا أو حين يقال : ﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « ذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين جسري جهنّم » (٣) .

وتوصيف العلم باليقين وإضافته إليه ، للدلالة على قوّة العلم.

وعن الصادق عليه‌السلام في الآية قال : « المعاينة » (٤) .

وقيل : إنّ المراد باليقين الموت والبعث والقيامة ، لأنّهما إذا وقعا جاء اليقين وزال الشكّ ، فالمعنى: لو تعلمون علم الموت وما يلقى الانسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله وعن الاستعداد للآخرة (٥) .

وقيل : إنّ المعنى لو تعلمون ما يجب عليكم لتمسّكتم به ، أو لو تعلمون لأيّ أمر خلقتم لاشتغلتم به (٦) .

وقيل : يعني لو تعلمون ما بين أيديكم على الأمر اليقين ، أي ما تستيقنونه ، لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه ، ولكنّكم ضلّال جهلة (٧) .

ثمّ أوضح سبحانه ما أبهمه من الإنذار والوعيد بقوله : ﴿لَتَرَوُنَ﴾ رؤية العين ﴿الْجَحِيمَ﴾ يوم القيامة ، وهو جواب قسم مقدّر ، والمعنى : والله لترونّها.

وقيل : إنّه جواب ﴿لَوْ(٨) والمعنى : لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترونّ رؤية بالقلب الجحيم ، وتكون دائما في نظركم ، لا تغيب عنكم أصلا.

﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٧) و (٨)

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله : ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها﴾ رؤية تكون هي ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ ونفسه ، وفي جعل الرؤية التي هي سبب اليقين من المبالغة ما لا يخفى.

وقيل : إنّ الرؤية أولا من البعيد ، والثانية إذا صاروا إلى شفير جهنّم (٩) . وقيل : تكرارها للدلالة على دوامها (١٠) .

__________________

(١) روضة الواعظين : ٤٩٣ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩ ، لم ينسبه إلى أحد.

(٢) يس : ٣٦ / ٥٩.

(٣) روضة الواعظين : ٤٩٣ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩ ، لم ينسبه إلى أحد.

(٤) المحاسن : ٢٤٧ / ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٩.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٩.

(٨) تفسير الرازي ٣٢ : ٧٨.

(٩) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٠.

(١٠) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٠.

٥٦٥

﴿ثُمَ﴾ والله أيّها المتكاثرون ﴿لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ﴾ وفي وقت رؤية الجحيم ﴿عَنِ النَّعِيمِ﴾ الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين والعمل به ، فتعذّبون على كفرانه وترك شكره.

قيل : إنّ النعمة المسؤول (١) عنها الصحّة والفراغ (٢) ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « نعمتان معنون فيهما كثير من الناس الصحّة والفراغ » (٣) . وقيل : هي الماء البارد ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أوّل ما يسأل العبد [ عنه ] من النعيم فيقال له : ألم نصح جسمك ، ونروك من الماء البارد » (٤) .

وقيل : إنّها النّعم الخمس شبع البطن ، وبرد الشراب ، ولذّة النوم ، وظلال المساكن ، واعتزال الخلق (٥) ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٦) .

وقيل : ما سوى كنّ يؤويه ، وثوب يواريه ، وكسرة تقوّيه يسأل عنه (٧) .

وقيل : هو نعمة وجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه حيث قال تعالى : ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها(٨) .

وعنهما عليهما‌السلام : « هو الأمن والصّحة » (٩) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « الرّطب والماء البارد » (١٠) .

وفي ( الفقيه ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ نعيم مسؤول عنه صاحبه إلّا ما كان في غزو أو حجّ » (١١) وعن الصادق عليه‌السلام قال : « تسأل هذه الامّة عمّا أنعم الله عليهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ بأهل بيته عليهم‌السلام » (١٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : « أنّ النعيم الذي يسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن حلّ محلّه من أصفياء الله ، فانّ الله أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم » (١٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سأل أبا حنيفة عن هذه الآية فقال : « ما النعيم عندك ، يا نعمان ؟ » قال : القوت من الطعام والماء البارد. فقال : « لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه » .

قال : فما النعيم ، جعلت فداك ؟ قال : « نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا

__________________

(١) في النسخة : المسئولة.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٤.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٤.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٨١ و٨٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٤.

(٦) روضة الواعظين : ٤٩٣ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٤.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٤ ، والآية من سورة النحل : ١٦ / ٨٣.

(٩) مجمع البيان ١٠ : ٨١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(١٠) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٣٨ / ١١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(١١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٤٢ / ٦٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(١٢) تفسير القمى ٢ : ٤٤٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(١٣) الاحتجاج : ٢٥٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٠.

٥٦٦

بعد أن كانوا مختلفين ، وبنا ألّف الله بين قلوبهم ، وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وبنا هداهم الله إلى الاسلام ، وهو النعمة التي لا تنقطع ، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته عليهم‌السلام » (١) .

وفي رواية اخرى أنّه عليه‌السلام قال : « بلغني أنّك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام الطيب والماء البارد في اليوم الصائف ؟ » قال : نعم. قال : « لو دعاك رجل واطعمك طعاما طيبا وسقاك ماء باردا ثم امتن عليك به إلى ما كنت تنصبه ؟ » قال : إلى البخل. قال : « افتبخّل الله تعالى ؟ ! » قال : فما هو ؟ قال : « حبّنا أهل البيت » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام قال : « ليس في الدنيا نعيم حقيقي » فقال له بعض الفقهاء ممّن حضر : يقول الله تعالى : ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ أما هذا النعيم في الدنيا هو الماء البارد ؟ فقال له الرضا عليه‌السلام وعلا صوته : « كذا فسّرتموه أنتم ، وجعلتموه على ضروب ، فقالت طائفة : هو الماء البارد ، وقال غيرهم : هو الطعام الطيب ، وقال آخرون : هو طيب النوم ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه أبى عبد الله عليه‌السلام أنّ أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول الله عزوجل ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ فغضب وقال : إنّ الله عزوجل لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به ، ولا يمنّ بذلك عليهم ، والامتنان بالانعام مستقبح من المخلوقين ، فكيف يضاف إلى الخالق عزوجل ما لا يرضى المخلوقون به ؟ ! ولكن النعيم حبّنا أهل البيت ومولاتنا ، يسال الله عنه بعد التوحيد والنبوة ، لأنّ العبد إذا وفى بذلك أدّاه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول»(٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « إنّ الله أكرم وأجلّ أن يطعمكم طعاما فسوّغكموه ثمّ يسالكم عنه ، ولكن يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمد وبآل محمد » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام « إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ثلاثة لا يحاسب العبد المؤمن عليهم : طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه » (٦) .

وفي رواية قال : « إنّ الله أكرم من أن يسال مؤمنا عن أكله وشربه » (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٠.

(٢) تفسير الصافي ٥ : ٣٧٠ ، بحار الأنوار ١٠ : ٢٢٠.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٩ / ٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٠.

(٤) الكافي ٦ : ٢٨٠ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧١.

(٥) الكافي ٦ : ٢٨٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧١.

(٦) المحاسن ٣٩٩ / ٨٠ ، الكافي ٦ : ٢٨٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧١.

(٧) المحاسن : ٣٩٩ / ٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧١.

٥٦٧

عن الصادق عليه‌السلام : « من ذكر اسم الله على الطعام ، لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام » (١) .

أقول : الظاهر وجه الجمع بين الأخبار أنّ النعيم (٢) الذي يسأل عنه جميع الناس ، نعمة رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وولاية أهل بيته عليهم‌السلام أنّهم هل أدّوا شكرها بقبولها والعمل بلوازمها ؟ فاذا تبيّن شكرهم لها لم يسألوا عن صرف ما يحتاجون إليه من النّعم في حوائجهم ، بل يسألون عن صرف ما زاد عليه من الطيبات ، وإذا لم يكونوا مؤمنين بالرسالة مسلّمين (٣) للولاية يسألون عن جميع النّعم التي صرفت (٤) في غير طاعة الله زائدا على الضروريات ، والله أعلم.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ﴾ في فريضة كتب له أجر مائة شهيد ، ومن قرأها في نافلة كتب له أجر خمسين شهيد ، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة إن شاء الله تعالى » (٥) .

__________________

(١) المحاسن : ٤٣٤ / ٢٦٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٦٩.

(٢) في النسخة : النّعم.

(٣) في النسخة : والمسلمين.

(٤) في النسخة : الذي صرف.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٥ ، مجمع البيان ١٠ : ٨١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧١.

٥٦٨

في تفسير سورة العصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْعَصْرِ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة التكاثر المتضمّنة لذمّ الانسان على التكاثر بالعدد والمال ، وتهديده برؤية الجحيم والسؤال عن النعيم ، نظمت سورة ﴿وَالْعَصْرِ﴾ المتضمّنة لبيان كون الانسان بسبب رغبته في النّعم الدنيوية في خسران وضرر عظيم ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالعصر بقوله : ﴿وَالْعَصْرِ﴾ قيل : إنّ الله أراد به الدهر ومطلق الزمان ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه تعالى أقسم بالدهر (١) ، الدهر (٢) مشتمل على السراء والضراء ، والصحّة والسقم ، والغنى والفقر (٣) وغيرها من آثار قدرة الله تعالى ، ولأنّه من أصول النّعم الذي لو ضيعه يسأل عنه.

وقيل : إنّه تعالى أراد به وقت العصر ، والعشي الذي هو بعد مضيّ قليل من الزوال إلى الغروب ، وأقسم به كما أقسم بالضّحى لظهور آثار قدرة الله فيهما ، ولأنّ لوقت العصر بسبب خلق آدم فيه شرفا زائدا على سائر الأوقات (٤) ، ولأنّ في القسم به تنبيها على أنّه وقت إذا لم يحصّل الانسان فيه ربحا كان من الخاسرين.

وقيل : أراد به سبحانه عصر النبوة (٥) ، فانّه أشرف الأزمنة فاقسم سبحانه بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أقسم بمكانه بقوله : ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ(٦) وأقسم بعمره بقوله : ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(٧) .

وقيل : إنّ المراد به صلاة العصر ، لظهور كثير من الأخبار في كمال فضيلتها (٨) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٤.

(٢) في النسخة : ولا الدهر.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٤.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٦.

(٥) تفسير أبي السعود ٩ : ١٩٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٦.

(٦) البلد : ٩٠ / ١ و٢.

(٧) الحجر : ١٥ / ٧٢.

(٨) تفسير أبي السعود ٩ : ١٩٧ ، تفسير الرازي ٣٢ : ٨٥.

٥٦٩

أقول : ويحتمل كون المراد عصر ظهور القائم عليه‌السلام [ وسيأتي ] ، عن الصادق عليه‌السلام (١) .

﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ

 وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٢) و (٣)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ﴾ بجميع أفراده ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ عظيم ونقصان وضرر لا نهاية له من حيث تضييع عمره وإتلاف ماله وإهلاك نفسه باتّباع الشهوات والإنهماك واللذّات والاستغراق في حبّ الدنيا والاشتياق إليها ، مع كونه قادرا في مدّة عمره على تحصيل السعادة الأبدية والراحة السرمدية والنّعم الدائمة بطاعة ربّه واتّباع رضوانه.

وعن الصادق عليه‌السلام : « ﴿ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ إلى آخر الدهر » (٢) .

وعن ابن عباس : اريد من الانسان هنا جماعة المشركين ، كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطّلب (٣) . وقيل : اريد أبو لهب (٤) . وروي أنّه اريد به أبو جهل (٥) . وروي أنّ هؤلاء كانوا يقولون : إنّ محمدا لفي خسر ، فأقسم الله تعالى إنّ الأمر بالضدّ ممّا توهّموه (٦) .

أقول : لا منافاة بين إرادة العموم من الآية ، ونزولها في بعضهم ، كإرادة العموم من قوله ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ(٧) ونزوله في حقّ الوليد ، ويشهد لإرادة العموم الاستثناء بقوله : ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله واليوم الآخر ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ واكتسبوا بأعمارهم وأموالهم الفضائل والخيرات لأنفسهم المستتبعة للدرجات الرفيعة والمقامات العالية في الآخرة ، فانّهم في تجارة لن تبور ، حيث باعوا الدنيا الدنيّة الخسيسة ، واشتروا الآخرة الباقية النفيسة ، فيالها من صفقة ما أربحها !

وهم مضافا إلى تكميل نفوسهم بالايمان والعمل ، يسعون في تكميل نفوس غيرهم بأن ردعوهم عن الشرك ﴿وَتَواصَوْا﴾ وتعاهدوهم على الايمان ﴿بِالْحَقِ﴾ وهو التوحيد ، ورسالة الرسول ، وتصديق كتابه والعمل به وباحكامه ﴿وَتَواصَوْا﴾ وتعاهدوا على طاعة الله ﴿بِالصَّبْرِ﴾ عليها وتحمّل مشاقّها ، وكفّ النفس عن المعاصي التي تشتاق إليها.

ثمّ إنّه بناء على كون الحقّ أعمّ من الايمان والعمل (٨) [ فانّ تخصيص هذا التواصي بالذكر مع

__________________

(١) إكمال الدين : ٦٥٦ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٢.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٤١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٢.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٦.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٦ و٨٧.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٨٧.

(٧) الحجرات : ٤٩ / ٦.

(٨) جواب هذه العبارة سقط من النسخة ، وقد أكملناه من تفسير أبي السعود ٩ : ١٩٧ ، وتفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٧ ، وكذا سقط أول الحديث الآتي عن الصادق عليه‌السلام وأثبتناه من إكمال الدين.

٥٧٠

اندراجه تحت التواصي بالحقّ ، لإبراز كمال الاعتناء به ، أو لأنّ الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به الله تعالى ، والثاني عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى ، فان المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل وترك ، بل هو تلقّي ما ورد منه تعالى بالجميل ، والرضا به ظاهرا وباطنا.

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « العصر عصر خروج ] القائم عليه‌السلام. ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ يعني أعداءنا ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني بآياتنا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ يعني بمواساة الاخوان ﴿وَتَواصَوْا بِالْحَقِ﴾ يعني الامامة ﴿وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ يعني بالعترة » (١) .

والقمي عنه عليه‌السلام ، قال : « استثنى أهل صفوته من خلقه حيث قال : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بولاية أمير المؤمنين ﴿وَتَواصَوْا بِالْحَقِ﴾ ذرّياتهم ومن خلقوا بالولاية تواصوا بها وصبروا عليها » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « من قرأ ﴿وَالْعَصْرِ﴾ في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه ، ضاحكا سنّه ، قريرة عينه (٣) حتّى يدخل الجنّة » (٤) .

الحمد لله على التوفيق لتفسيرها.

__________________

(١) اكمال الدين : ٦٥٦ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٢.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٤١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٢.

(٣) في النسخة : قريرا عينيه.

(٤) ثواب الأعمال : ١٢٥ ، مجمع البيان ١٠ : ٨١٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٣.

٥٧١
٥٧٢

في تفسير سورة الهمزة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة ﴿وَالْعَصْرِ﴾ المتضمّنة لبيان أنّ جميع الناس غائرون في الخسران لحبّهم الدنيا وتفخارهم بالأموال والأقارب ، نظمت بعدها سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ من جمع الأموال وافتخر بها ورأى لنفسه فضلا وفخرا على غيره ، وتهديده بالخلود في جهنّم في الآخرة ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ من يبالي بنفسه ويتعرّض لأعراض الناس وتعييبهم بقوله : ﴿وَيْلٌ﴾ وهلاك ، أو شرّ وقباحة ، أو جبل نار في جهنّم ، على ما روي (١)﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ ومغتاب للناس و﴿لُمَزَةٍ﴾ وعيّاب لهم ، كما عن ابن عباس (٢) . وفي رواية اخرى عنه : الهمزة : هم المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة. واللّمزة : الناعتون للناس بالعيب (٣) .

وقيل : الهمزة : هو العيّاب باليد والرأس والعين بالاشارة ، واللمزة هو العيّاب باللّسان (٤) .

وقيل : الهمزة : العيّاب بالمواجهة أو بالجهرء واللّمزة : العيّاب بظهر الغيب أو سرّا (٥) .

قيل : إنّ السورة نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله(٦) . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه (٧) وقيل : نزلت في امية بن خلف (٨) ، وعلى أي تقدير لا يخصّص مورد النزول العام.

﴿الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي

 الْحُطَمَةِ (٢) و (٤)

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٩١.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٢.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٩١ و٩٢.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٢.

(٦ - ٨) تفسير الرازي ٣٢ : ٩١.

٥٧٣

ثمّ وصف سبحانه المذموم بالويل بقوله : ﴿الَّذِي جَمَعَ مالاً﴾ كثيرا لنفسه ، أو حقيرا غير قابل لأن يفتخر به ﴿وَعَدَّدَهُ﴾ وذخره لحوادث الدهر ، أو أحصاه مرّة بعد اخرى لالتذاذ نفسه بعدّه ، أو كثرته وافتخر به. وقيل : يعني جمع مالا وعدّد قومه الذين ينصرونه (١) ، وإنّما ذكر صفة جمعه المال لكونه سبب همزه ولمزه ، وهو من جهله وجمعه ﴿يَحْسَبُ﴾ ويظنّ ﴿أَنَّ مالَهُ﴾ الذي جمعه ﴿أَخْلَدَهُ﴾ في الدنيا ، وآمنه من الموت.

وقيل : إنّ المعنى : اعتقد أنّه إن انتقص ماله يموت ، فيحفظه من التلف والنّقصان ليبقى حيّا (٢) . وقيل : فيه تعريض بالعمل الصالح ، فانّه هو الذي يخلّد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل ، وفي الآخرة في النعيم المقيم (٣) .

﴿كَلَّا﴾ ليس الآخرة كما يظنّ ، ولا ينبغي له هذا الحسبان ، أو المعنى : حقّا والله ﴿لَيُنْبَذَنَ﴾ ذلك الذي جمع المال ، وليطرحنّ ذلك الظانّ للخلود ﴿فِي الْحُطَمَةِ﴾ كالحصا الذي يطرح في البئر.

﴿وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ * نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّها

 عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٥) و (٩)

ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الحطمة بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ يا محمد ، وأيّ شيء أعلمك ﴿مَا الْحُطَمَةُ﴾ وأيّ شيء هي ؟ هي ﴿نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ﴾ والمشتعلة بأمره وقدرته وغضبه ، لا يطفئها شيء.

ولا يشبهها شيء من نيران الدنيا.

في الحديث : « أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت ، ثمّ ألف سنة حتّى ابيضّت ، ثمّ ألف سنة حتى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة » (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « عجبا ممّن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته ! » (٥).

﴿الَّتِي تَطَّلِعُ﴾ وتعلو ﴿عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ وأوساط القلوب وتغشاها.

حاصل الآية والله أعلم أنّ نار جهنّم تحطم وتكسر العظام ، وتأكل اللحوم ، وتدخل في أجواف العصاة وأهل الشهوات ، وتقبل إلى صدورهم ، وتستولى على أفئدتهم ، وتخصيص الأفئدة بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد ، وأشدّ تألّما بأدنى الأذى ، أو لأنّه محلّ العقائد الفاسدة والضمائر الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة.

__________________

(١ - ٣ ) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٣.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٩.

(٥) تفسير الرازي ٣ : ٩٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٩.

٥٧٤

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّ النار تأكل أهلها حتّى إذا اطّلعت على افئدتهم انتهت ، ثمّ إنّ الله تعالى يعيد لحومهم وعظامهم مرة اخرى » (١) .

ثمّ بيّن سبحانه يأس الظانّين الخلود في الدنيا من خروجهم من الجحيم ، وتيقّنهم بالخلود في النار بقوله : ﴿إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ ومغلقة الأبواب حال كونهم موثقين ﴿فِي عَمَدٍ﴾ وأعمدة ﴿مُمَدَّدَةٍ﴾ ومطوّلة التي هي أثبت من القصيرة ، مثل المقاطر والخشبات التي تجعل فيها أرجل اللصوص كيلا يهربوا.

وقيل : يعني تطبق عليهم أبواب النيران ، ويجعل على الأبواب العمد الطويلة استيثاقا في استيثاق ، لئلا يخرجوا منها ، ولا يدخل عليهم روح (٢) ، والمعنى أنّ النار عليهم طبقة الأبواب بأعمدة مدّت عليها ، وإنّما لم يقل ( بعمد ) للإشعار بكثرتها بحيث صارت كأنّ الأبواب فيها.

القمّي رحمه‌الله قال : إذا مدّت العمد كان والله الخلود (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ في فريضة من فرائضه ، أبعد الله عنه الفقر ، وجلب عليه الرزق ، ويدفع عنه مينة السوء » (٤) .

قد تمّ تفسيرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٤.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٠ ، وزاد المؤلف هنا ثلاث كلمات غير مقروءة في النسخة ، والذي في تفسير روح البيان : لا يدخلها روح ولا يخرج منها غمّ.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٤٢ ، وفيه : العمد أكلت والله الجلود ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٤.

(٤) ثواب الأعمال : ١٢٦ ، مجمع البيان ١٠ : ٨١٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧٥.

٥٧٥
٥٧٦

في تفسير سورة الفيل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ العيّابين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاعنين فيه لإطفاء نوره وإخلالا بأمر رسالته ، نظمت سورة الفيل المتضمّنة لبيان حفظ الله بيته من الخراب وتعذيب قاصديه ، مبشرا له صلى‌الله‌عليه‌وآله بإهلاك أعداء بيته الحرام ، وتسلية لقلبه الشريف المتألّم بمكايد أعدائه في الإخلال بأمر رسالته ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه في تسلية قلب حبيبه ببيان قصة إهلاك أعداء بيته بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد ، حين كنت في عالم الأشباح محيطا بقضايا هذا العالم ، أو المراد ألم تعلم بالتواتر علما نازلا منزلة الرؤية ﴿كَيْفَ فَعَلَ﴾ وعامل ﴿رَبُّكَ﴾ اللطيف بك ﴿بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾ وجند أبرهة القاصدين تخريب الكعبة ، إبقاء لها ، لتكن قبلة صلاتك ، وإعظاما لك ، وتشريفأ لمقدمك الشريف. روي أنّ أبرهة بن الصباح الملقّب بالأشرم لمّا ملك اليمن من قبل أصحمة بن بحر النجاشي ، ورأى توجّه الناس في أيام الموسم إلى حجّ البيت الحرام ، حسد اهل الحجاز على الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبه ، فأراد صرف الناس عن الكعبة إلى بلده ، فبنى كنيسة بصنعاء من رخام ملوّن ، واجتهد في زخرفتها ، ونقل إليها أحجارا منقوشة بالذهب من قصر بلقيس صاحبة سليمان النبي عليه‌السلام ، وجعل فيها صلبانا من الذهب والفضّة ومنابر من عاج والأبنوس ، وسمّاها القليس ، لارتفاع بناهائها وعلوّها ، ودعا الناس إليها ، ووعد زائريها بالهدايا والتّحف والجوائز ، فتوجّه الناس إليها بطمع أخذ الدراهم والدنانير ، فلم يزرها أحد إلّا وإنّه يرجع بالتّحف والهدايا ، وكان رئيس مكّة في ذلك الوقت عبد المطّلب ، فجاء إليه رجل من بني كنانة يقال له زهير بن بدر ، فاستأذن عبد المطّلب أن يذهب إلى تلك الكنيسة ويفعل فيها ما يصرف الناس عنها ، فذهب إليها ، واشتغل بالعبادة فيها أياما ، فاستأذن من خدّامها أن يبيت فيها

٥٧٧

ليلة ليتعبّد فيها فأذنوا له (١) في ذلك ، فأقام فيها الليل وحده ، فتغوّط فيها ، وطلى به جدرآنها وإيوانها ومحرابها ، ثمّ خرج منها وهرب ، فانتشر الخبر في الآفاق ، فتنفّر الناس منها ، فلمّا سمع ذلك أبرهة غضب وحلف أن يخرب الكعبة. وقيل : بلغ الخبر إلى النجاشي ، فاغتم لذلك وأغراه (٢) أبرهة وقال : لا تحزن ، إنّ لهم كعبة هي فخرهم فنخرب بنيانها ونبيح دماءها ، فخرج أبرهة بجند كثيف ، ومعه فيل أبيض اللون لم ير مثله في عظم الجثّة وشدّة القوّة ، يقال له : محمود ، فلمّا قرب من الحرم نزل ، وبعث رجلا حبشي (٣) يقال له الأسود ، حتّى انتهى إلى مكّة ، فساق إليه أموال تهامة ومواشيها (٤) .

قيل : لمّا بلغ أبرهة المغمّس - وهو منزل في طريق الطائف - خرج إليه عبد المطّلب ، وعرض إليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى (٥) .

وقيل : لمّا نزل المغمّس بعث حناطة الحميري إلى مكّة ، وقال له : سل من سيّد هذا البلد وشريفهم ، وقل له : إنّ الملك يقول : إنّي لم آت لحربكم ، وإنّما جئت لهدم هذا البيت ، فان لم تتعرّضوا دونه لحرب فلا حاجة لي في دمائكم ، فإن لم يرد حربي فأتنى به ، فجاء عبد المطّلب ومعه جماعة من بني هاشم ، فسبقهم الرسول إلى أبرهة ، وقال له : جاءك رئيس مكة (٦) .

وقيل : استأذن لعبد المطّلب بعض وزراء أبرهة ، يقال له أنيس سائس الفيل ، وقال : جاءك سيد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل ، والوحوش في روؤس الجبال ، فأحسن أبرهه رأيه ، وجلس على السرير ، فأجاز لعبد المطلب في الدخول ، فلمّا ورد قال أبرهة ، ونزل عن السرير [ كيلا تجلسه معه ] ، لأنّه كره أن تراه الحبشة على سرير ملكه ، وجلس مع عبد المطلب على الأرض ، وأكرمه وعظّمه ، وأعجبه حسن كلامه ، وقال في نفسه : لو شفع في انصرافه من البيت لأجابه ، فقال له : فاسأل منّي كلّما تريد. فقال له عبد المطّلب : اريد منك أن تامر بردّ إبلي التي كانت ترعى بذي المجاز ، فساقها بعض جيشك. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لم لم تشفع في البيت الذي يكون شرفا وعزّا لك ولقومك من قديم الدهر ، وأنا اريد أن اخربه ، وما قدر الإبل التي تريدها ؟ !

وقيل : إنّه قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك ، فالهاك عنه ذود اخذلك (٧) .

قال عبد المطّلب : أنا ربّ الابل ، وللبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع وسيف بن ذي يزن

__________________

(١) في النسخة : فأذنوه.

(٢) في النسخة : وغراه.

(٣) في النسخة : حبشية.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١١.

(٥و٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣. ٥

(٧) الذود : القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر ، راجع تفسير الرازي ٣٢ : ٩٦.

٥٧٨

وكسرى ، فغضب أبرهه ، وأمر بردّ إبله ، وقال : ننظر من يحفظ البيت منّي ؟

فرجع عبد المطّلب ، وأمر أهل مكّة أن يجمعوا أموالهم وأمتعتهم ويصعدوا على الجبل ، فلم يبق في مكّة أحد تخوّفا من معرّة الجيش ، فجهّز أبرهة جيشه ، وقدّم الفيل الأعظم (١) . قيل : سقوه الخمر ليذهب تمييزه ، فكانوا كلّما وجّهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجّهوه إلى اليمن أو إلى سائر الجهات هرول ، وجاء عبد المطّلب وأخذ بحلقة البيت ، وقال :

لا همّ إنّ المرءيح

مي رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

و محالهم عدوا محالك

فالتفتت وهو يدعوا ، فاذا بطير فقال : والله إنّها لطير غريبة لا نجدية ولا تهامية ولا حجازية ، وإنّ لها لشأنا ؛ وكان مع كلّ طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمّصة(٢).

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ

 مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٢) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه كيفية فعله بهم بقوله : ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾ ربّك ﴿كَيْدَهُمْ﴾ وتدبيرهم وتخريب الكعبة وتعطيلها من الزوّار ﴿فِي تَضْلِيلٍ﴾ وتضييع وإبطال بأن أهلكهم أشنع إهلاك.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية إهلاكهم بقوله : ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ﴾ لاهلاكهم ﴿طَيْراً﴾ لم ير مثلها حال كونها ﴿أَبابِيلَ﴾ وجماعات. قيل : كانت أفواجا متتابعة بعضها على أثر بعض ، أو من هاهنا وهاهنا ، جمع إبالة ، وهي الحزمة الكبيرة ، شبّهت بها جماعة الطير في تضامّها (٣) .

قيل : كان عبد المطّلب وأبو مسعود الثقفي يشاهدان من فوق الجبل عسكر أبرهة ، فأرسل الله طيرا أسود صفر المناقير خضر الأعناق طوالها ، وخضراء أو بيضاء أو بلقاء (٤) .

عن عائشة : أنّها أشباه الخطاطيف والوطاويط ، ولها خراطيم الطير ، وأكفّ الكلاب وأنيابها (٥) .

وعن ابن جبير ، لم ير مثلها ما قبلها ولا بعدها (٦) . وقال [ عكرمة ] : هي عنقاء مغرب (٧) وفي الخبر : أنّها طير بين السماء والأرض تعيش وتفرخ (٨) .

وقيل : من طير السماء ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ من فوقهم ﴿بِحِجارَةٍ ،﴾ فيها مكتوب اسم من قتل بها مخطّطة بالحمرة كالجزع (٩) الظفاري ، كما عن ابن عباس (١٠) ، كائنة ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ وطين متحجّر ، معرّب سنك

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٣.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٤ ، و٥١٥.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٧.

( ٤- ٨ ) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٥.

(٩) الجزع : ضرب من العقيق.

(١٠) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٥.

٥٧٩

وگل ، كما عن ابن عباس (١) . وقيل : هو علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار ، كأنّه قال : بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن (٢) . وقيل : السجّيل : اسم السماء الدنيا (٣) . وقيل : إنّه اسم جهنّم ، وكان سجّين فابدلت نون آخره لاما (٤) .

وقد مرّ أنّ كلّ طائر كان يحمل ثلاثة أحجار ، حجر بمنقاره ، وحجران برجليه ، تقتل بكلّ واحد رجلا ، ما وقع منها في موضع إلّا خرج من الجانب الآخر ، وإن وقع على رأسه خرج من دبره (٥) .

وفي رواية عن ابن عباس : لم يقع حجر على أحد إلّا نفط (٦) جلده وثار به الجدريّ (٧) .

﴿فَجَعَلَهُمْ﴾ الله ﴿كَعَصْفٍ﴾ وورق زرع ﴿مَأْكُولٍ﴾ أكلته الديدان ، وإنّما سمّى ورق الزرع عصفا ؛ لأنّه يعصف به الرياح من مكان إلى مكان ، وتوصيفه بالمأكول لأنّه حدث بهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كورق أكله الدود.

وقيل : يعني كزرع اكل حبّه وبقي صفرا منه ، شبّههم به في ذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم (٨) .

وعن ابن عباس : يعني كزرع وتبن أكلته الدوابّ ثمّ ألقته روثا ، ثمّ يجفّ وتتفرق أجزاؤه ، شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث (٩) .

وعلى أيّ تقدير هلك جيش أبرهة وفيلاته ، واخذ أبرهه داء أسقط أنامله وأعضاءه ، ووصل إلى صنعاء كذلك ، وهو مثل فرخ الطير ، ومات فملك ابنه يكسوم بن أبرهة اليمن ، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يتحلّق فوق رأسه حتّى بلغ النجاشي فقصّى عليه القصّة ، فلمّا أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتا بين يديه (١٠) .

وقيل : هلك كلّهم إلّا أبرهة ، فخرج من مكّة ، وجاء إلى الحبشة ، وكان على رأسه طير ولم يعلم به حتّى وقف بين يدي النجاشي ، فلمّا قصّ عليه القصة تعجّب النجاشي ، وقال : كيف يهلك الطير الجند الكثير ! فنظر أبرهه إلى الطير الذي كان على رأسه ، فقال : هذا واحد من تلك الطيور ، فألقى ذلك الطير حجرا على رأسه ، فهلك عند النجاشي (١١) .

روي أنّ عبد المطّلب وأبو مسعود الثقفي كانا يشاهدان هلاك عسكر أبرهة من فوق الجبل حين

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠١.

( ٢ - ٤ ) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠١.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠٠.

(٦) نفط جلده : أصابه الجدري.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠٠.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٨.

(٩) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٨ ، ولم ينسبه إلى أحد.

(١٠) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٥ و٥١٦.

(١١) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١٦.

٥٨٠