نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

﴿فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٧) و (٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد تعديد نعمه الجليلة أمره بالشكر والاجتهاد في العبادة بقوله : ﴿فَإِذا فَرَغْتَ﴾ من تبليغ الرسالة ، أو من تنظيم ما هو من ضروريات معاشك ، أو من المهام الدنيوية ، أو من الجهاد ﴿فَانْصَبْ﴾ وأتعب نفسك في العبادة.

وقال جمع من المفسرين : يعني إذا فرغت من الصلاة المكتوبة ، فانصب نفسك في الدعاء (١) ﴿وَإِلى﴾ مسألة ﴿رَبِّكَ﴾ وحده ﴿فَارْغَبْ﴾ وبقلبك إليه فتوجّه.

عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : « فاذا فرغت من الصلاة المكتوبة ، فانصب إلى ربّك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس » (٣) .

وقيل : يعني إذا فرغت من عبادة عقبها باخرى وأوصل بعضها ببعض ، ولا تخلّ وقتا من أوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة (٤)

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « فاذا فرغت من نبوّتك ، فانصب عليا عليه‌السلام ، وإلى ربّك فارغب في ذلك » (٥) .

وعنه عليه‌السلام في حديث قال : « يقول الله : ﴿فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ علمك وأعلن وصيّك ، وأعلمهم فضله علانية ، فقال : من كنت مولاه ... » قال : « وذلك حين أعلم بموته نعيت إليه نفسه»(٦) .

أقول : يحتمل أن تكون هذه الأخبار بيان مصداق العبادة التي وجب إتعاب النفس فيها بعد الفراغ من العبادة ، والمراد إذا فرغت من تبليغ الرسالة فأتعب نفسك فيما هو الأهمّ بعده ، وهو تعيين الخليفة ، فظهر أنّ صحّة مضمون الأخبار ليست موقوفة على قرابة ، فانصب بكسر الصاد من النّصب بالسكون فنسبة الزمخشري المتعصّب قراءة ( فانصب ) بالكسر وتفسيره بالأمر بنصب عليّ عليه‌السلام للإمامة إلى بدع الشّيعة من الأغلاط.

ثمّ اعلم أنّ قوله - : بأنّه لو صحّ هذا للرافضي لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا ، ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض عليّ وعداوته (٧) - ممّا تضحك به الثكلى ؛ لأنّ جواز بغض عليّ عليه‌السلام مخالف لضرورة الاسلام والأخبار المتواترة الدالة على وجوب حبّه وولايته ، نعوذ بالله من خبث الطينة ، وعمى القلب ، وسوء السريرة ، والضلال عن الحقّ.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٧ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٣ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٦٠٧.

(٢و٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٧٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٤.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٧.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٢٩ ، وتفسير الصافي ٥ : ٣٤٤ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٦) الكافي ١ : ٢٣٣ / ٣ ، وتفسير الصافي ٥ : ٣٤٤ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٧) الكشاف ٤ : ٧٧٢.

٥٢١

عن الصادق عليه‌السلام : « ولا يجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى وألم نشرح ، وأ لم تر كيف ولإيلاف قريش » (١) .

وقد سبق ثواب قراءتها في سورة ( والشمس ) وفي رواية : « من قرأها فكأنّما جاءني وأنا مغتمّ ففرّج عنّي » (٢) .

قد تمّ تفسير السورة المباركة.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٣.

٥٢٢

في تفسير سورة التين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)

ثمّ لمّا ختمت السورتان المتضمّنتان لمنن الله على أشرف الخلق وأفضل البشر ، نظمت سورة التين ، المتضمّنة لبيان منّته على عموم البشر بتحسين خلقهم ، وعلى مؤمنيهم بالأجر العظيم ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالقسم بخير الفواكه وأحمدها بقوله : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ المشهورين ، كما عن ابن عباس أنّه قال : هو تينكم وزيتونكم هذا (١) ، أمّا القسم بالتين فلفضله وخواصّه ، حيث إنّه غذاء وفاكهة ودواء. قيل : إنّ الأطباء قائلون بأنّه طعام لطيف سريع الهضم ، يلين الطبع ، ويسمن البدن ، ويقلل البلغم ، ويطهّر الكليتين ، ويزيل الرمل المتكون في المثانة ويفتح مسامّ الكبد والطّحال (٢) .

وروي : أنّه اهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طبق من تين ، [ فاكل منه ] ثمّ قال للصحابة : « كلوا. فلو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم ، فكلوها فانّها تقطع البواسير ، وتنفع من النّقرس » (٣) .

وعن الرضا عليه‌السلام بطريق عامّي : « التين يزيد نكهة الفم ، ويطوّل الشعر ، وهو أمان من الفالج»(٤) .

وأمّا الزيتون فهي ثمرة الشجرة المباركة المذكورة في القرآن ، هو أيضا غذاء ودواء وفاكهة ، ودهنه كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهن فيها كالجبال ، قيل : تعمّر شجرته ثلاثة آلاف سنّة ، وتصبر عن الماء مدّة طويلة ، ورماد ورقها ينفع العين كحلا ويقوم مقام التّوتيا (٥) .

وفي الحديث العامي : « عليكم بالزيت ، فانّه يكشف المرّة ، ويذهب البلغم ، ويشدّ العصب ، ويمنع

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٨.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٨.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٨ ، والنقرس : مرض مؤلم يحدث في مفاصل القدم وفي إبهامها أكثر ، ويسمّى داء الملوك.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٨.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٦٦ ، والتّوتياء : حجر يكتحل بمسحوقه.

٥٢٣

الغشي ، ويحسن الخلق ، ويطيّب النفس ، ويذهب الهمّ » (١) .

وعن ابن عباس : أنّ التين والزيتون جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية : طور تينا وطور زيتا لأنّهما منبتا للتين والزيتون ، وشرّفا لأنّ الأول محلّ عيسى بن مريم ، والثاني هو الشام ، وهو مبعث أكثر الأنبياء من بني إسرائيل (٢) .

وقيل : إن التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس (٣) .

وقيل : إنّ الاول مسجد أصحاب الكهف ، والثاني مسجد إيليا (٤) .

وعن ابن عباس : التين مسجد نوح النبي على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس (٥) ، وإنّما سمّيت تلك المساجد بهذين الاسمين لكثرة الشجرين في مكانها (٦) .

وقيل : إنّ التين اسم دمشق (٧) . وقيل : اسم الكوفة ، والزيتون اسم بيت المقدس (٨) . وقيل : اسم الشام (٩) .

قيل : إنّما أقسم سبحانه بهذين البلدين لكثرة نعم الدنيا فيهما (١٠) .

﴿وَطُورِ سِينِينَ * وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٢) و (٣)

ثمّ أقسم سبحانه بالطّور ، وهو جبل كلّم الله موسى عليه بقوله : ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ قيل : إنّ ﴿سِينِينَ﴾ و﴿سَيْناءَ﴾ اسمان للوادي الذي فيه ذلك الجبل (١١) .

وعن ابن عباس : أنّ ﴿سِينِينَ﴾ بمعنى الحسن بلغة الحبشة (١٢) . وقيل : بمعنى المبارك (١٣) . وقيل : بمعني ذي شجر ، والمراد القسم بجبل واقع بأرض حسنة ومباركة (١٤) .

ثمّ إنّه تعالى بعد القسم بالأماكن التي يعظّمها اليهود والنصارى أقسم بالمكان الذي يعظّمه المشركون والمسلمون بقوله : ﴿وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ وتلك القرية الآمنة من الغوائل ، وهي بالاتفاق مكّة المعظّمة ، وإنّما أقسم سبحانه بهذين المكانين لغاية شرفهما ، بكون الأول مبعث موسى ، والثاني مبعث خاتم الأنبياء ، ولكثرة النّعم الدينية فيهما.

عن الكاظم عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة ، فقال : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ فالتين المدينة ، والزيتون بيت المقدس ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٦٧.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٩.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٩ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٤.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٩.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٤.

( ٨ - ١٠ ) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠.

(١١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٦٧.

(١٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠.

(١٣و١٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠.

٥٢٤

وطور سنين الكوفة ، وهذا البلد الأمين مكة » (١) .

وعنه عليه‌السلام في تأويل الكلمات قال : « التين والزيتون الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وطور سينين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا البلد الأمين محمد » (٢) .

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٤) و (٥)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا﴾ وأوجدنا ﴿الْإِنْسانَ﴾ كائنا ﴿فِي أَحْسَنِ﴾ ما يكون من ﴿تَقْوِيمٍ﴾ وتعديل صورة (٣) ومعنى ، حيث سواه مستوي القامة ، متناسب الأعضاء ، حسن الشكل ، مدبّرا في الامور ، متصرّفا في الموجودات ، جامعا لانموذج ما في عالم الوجود ، قابلا (٤) للكمالات الظاهرية والباطنية ﴿ثُمَ﴾ بعد استجماعه لجميع ما يتوقّف عليه صعوده إلى أعلى علّيين ﴿رَدَدْناهُ﴾ بالخذلان وسوء الأخلاق والأعمال من أحسن تقويم وجعلناه ﴿أَسْفَلَ سافِلِينَ﴾ وأقبح (٥) المخلوقين وأنزل الموجودين ، وصيرناه إلى النار.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « وضع أبواب جهنّم بعضها أسفل من بعض ، فيبدأ بالأسفل فيملا وهو أسفل سافلين » (٦) .

وعن ابن عباس : يريد أرذل العمر (٧) ، والمعنى ثمّ جعلناه أضعف الضعفاء ، وهم الزمنى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يجدون سبيلا.

﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ

 بِالدِّينِ (٦) و (٧)

ثمّ اعلم أنّه على التفسير الأول يصحّ الاستثناء المتّصل بقوله : ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَجْرٌ﴾ وثواب ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ومنقطع ولا منقوص ، أو المراد ثواب لا منّة فيه.

وعلى التفسير الثاني يكون الاستثناء منقطعا ، والمعنى : ولكن الضّعفاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر دائم على إيمانهم وأعمالهم وصبرهم على الابتلاء بالضّعف والهرم على مقاساة المشاقّ وتحمّل كلفة العبادة.

وعن الكاظم عليه‌السلام في تأويل الآيات قال : « الانسان : الأوّل ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ﴾ ببغضه أمير

__________________

(١) الخصال : ٢٢٥ / ٥٨ ، معاني الأخبار : ٣٦٤ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٦.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٩٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٦.

(٣) في النسخة : صورتنا.

(٤) في النسخة : قائلا.

(٥) في النسخة : وافتح.

(٦و٧) تفسير الرازي ٣٢ : ١١.

٥٢٥

المؤمنين عليه‌السلام ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...﴾ الى آخره ، قال : علي بن أبى طالب عليه‌السلام » (١) .

﴿فَما يُكَذِّبُكَ﴾ أيّها الانسان ، وأيّ شيء يلجئك ويحملك ﴿بَعْدُ﴾ ووراء الآيات البينات والمعجزات الباهرات على التكذيب ﴿بِالدِّينِ﴾ ودار الجزاء ؟ أو المراد : فما يجعلك أيّها الانسان كاذبا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ؟ وهو خلق الانسان من نطفة من ماء مهين في أحسن تقويم ، فانّ القادر على ذلك قادر على البعث والجزاء ، أو المراد : فأيّ ، يكذّبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.

﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات قدرته ببيان خلقة الانسان في احسن الصور وردّه إلى أقبحها ، أو إلى أرذل العمر ، أنكر على من أنكر حكمته بإنكار البعث للجزاء بقوله : ﴿أَلَيْسَ اللهُ﴾ الذي فعل ما فعل ﴿بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ﴾ وأتقن من جميع المتقنين للامور صنعا وتدبيرا ؟ فاذا قالوا : بلى ، لعدم إمكان إنكاره ، كان عليهم الاقرار بالإعادة والجزاء ؛ لأنّ إنكارهما لا يمكن إلّا لقولهم بعجزه عن الإعادة ، أو لقولهم بكونه عابثا ، وكلاهما مناف للاقرار بكونه تامّ القدرة (٢) والحكمة.

وقيل : إنّ المعنى : أ ليس الله بأقضى القاضين ؟ فهو يحكم ويقضي بينك وبين من يكذّبك في الرسالة والإخبار بالبعث ، فهو وعيد للمكذّبين (٣) .

روي عن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا قرأها يقول : « بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين » (٤) .

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر أصحابه أن يقولوا إذا قرأوها ذلك (٥) .

وروي عن أمير المؤمنين وعن الرضا عليه‌السلام أنّهما لمّا قرآها قالا : « بلى ، وإنّا على ذلك من الشاهدين » (٦) .

روى عن بعض العامة : أنّ من قرأ هذه السورة أعطاه الله خصلتين : العافية ، واليقين ، مادام في الدنيا [ فاذا مات أعطاه الله ] من الأجر (٧) بعدد من قرأها » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ ( والتين ) في فرائضه ونوافله ، أعطى من الجنّة حيث يرضى»(٩).

الحمد لله على التوفيق لتفسيرها.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٩٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٧.

(٢) في النسخة : القدر.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٠.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٧٧ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٠.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٠.

(٦) الخصال : ٦٢٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٧.

(٧) في النسخة : ويعطى من الأجرة.

(٨) تفسير البيضاوي ٢ : ٦٠٨ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٦.

(٩) ثواب الأعمال : ١٢٣ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٧٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٧.

٥٢٦

في تفسير سورة العلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان نعم الله على الانسان بخلقه في أحسن تقويم وأنّه مع ذلك يردّ إلى أسفل سافلين ، نظمت سورة العلق المتضمّنة لبيان خلقه من أخسّ الأشياء ، وترقّيه إلى أعلى الدرجات من العلم بالكتاب وتعليمه العلوم ، وطغيانه مع ذلك على الله العظيم ، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ولمّا ذكر سبحانه في السورتين السابقتين منّته على رسوله ، ابتدأ السورة بذكر أعلى منّته عليه ، وهو رسالته وإنزال الوحى إليه بقوله : ﴿اقْرَأْ﴾ يا محمد ، ما يوحى إليك من كتاب ربّك ، روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كيف اقرأ ، وما أنا بقارئ ؟ » فكأنّه تعالى قال : اقرأ القرآن مفتتحا أو مستعينا (١)﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وإنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية وأضافها إليه ليزول الفزع عنه ؛ لأنّه أول ما أنزل إليه. عن الباقر عليه‌السلام قال : « إنّها أوّل سورة نزلت » (٢) .

وليرغّبه في طاعته ، فكأنّه تعالى قال : هو الذي ربّاك حين كنت علقا ، فكيف يضيّعك بعد ما صرت أشرف الموجودات.

ثمّ قيل : لمّا كانت العرب يطلقون الربّ على الصنم ، ويسمّون الأصنام أربابا (٣) ، وصف ذاته المقدّسة بما يخرجه عن توهّم الشركة ، وبما لا يمكنهم إنكاره وإثباته للأصنام بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ كلّ شيء بقدرته ، لاعترافهم بأنّ الخلق مختض بالله وحده. وعن الباقر عليه‌السلام : « الذي خلق نورك القديم قبل الأشياء » (٤) .

ثمّ خصّ سبحانه الانسان بالذكر لاستقلاله ببديع الصنع والتدبير ، أو بيّن ما أبهم في قوله : ﴿الَّذِي

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٨.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٣٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٨.

٥٢٧

خَلَقَ﴾ بقوله : ﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ﴾ الذي هو أعجب المخلوقات وأشرفها ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ وقطعات دم متكوّنة من نطف قذرة ، وإنّما قال : ﴿عَلَقٍ﴾ بصيغة الجمع باعتبار معنى الانسان وكثرته ، أو لمراعاة الفواصل ، فنبّه سبحانه على أنّ من خلق الانسان الحي القادر القابل للكمالات العلمية والعملية من مادة خسيسة بعيدة من الحياة ، قادر على أن يعلّمك القراءة وأنت حيّ متكلّم قابل للعلوم.

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ *  كَلاَّ إِنَّ

 الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٣) و (٧)

ثمّ أكّد سبحانه وجوب القراءة بقوله ثانيا : ﴿اقْرَأْ﴾ وقيل : إنّ الأول أمر بقراءته لنفسه ، والثاني أمر بقراءته للتبليغ والتعليم (١) .

ثمّ استانف سبحانه ذكر أوصافه ومننه بقوله : ﴿وَرَبُّكَ﴾ هو ﴿الْأَكْرَمُ﴾ المبالغ في الإحسان والجود حيث إنّه يحسن بعبيده بعد العصيان والتقصير كما يحسن قبله ، وإنّ كلّ كريم ينال بكرمه خيرا لنفسه ، وربّك لا يكون كرمه إلّا لمحض حسنه. وقيل : يعني أنت كريم ، وربّك أكرم منك (٢) ، ومن كرمه أنّه ﴿الَّذِي عَلَّمَ﴾ الانسان الكتابة ﴿بِالْقَلَمِ﴾ وفيه تنبيه على فضيلة الكتابة والخطّ.

روي عن سليمان عليه‌السلام أنّه سأل عفريتا عن الكلام فقال : ريح لا يبقى. قال : فما قيده ؟ قال : الكتابة (٣) .

قيل : إنّ القلم لا ينطق ، ومع ذلك يسمع الشرق والغرب (٤) ولو لا الخطّ ما استقامت امور الدين والدنيا (٥) .

وقيل : إنّ المراد علّم الانسان بسبب الكتابة وقراءة الكتب ، فالقلم كناية عن الكتابة (٦) .

ثمّ بيّنه بقوله : ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ﴾ بسبب مطالعة الكتب ﴿ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ وأمّا على التفسير الأول يكون تعليمه علوما كثيرة نعمة فوق نعمة تعليم الخطّ ، فذكر سبحانه في السورة مبدأ الانسان ومنتهاه ، وامتنّ عليه بنقله من أدنى المراتب وهي المرتبة العلقية الخسيسة النجسة إلى أعلاها ، وهي مرتبة العلم ، وهو أشرف الكمالات الانسانية ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يكون إلّا بقدرة قادر حكيم ، فيدلّ على ربوبيته وأكرميته واستحقاقه للطاعة والعبودية.

﴿كَلَّا﴾ لا يعلم الانسان أنّ الله هو الذي خلقه من العلقة وعلّمه بعد جهله ، ثمّ بيّن سبحانه علّة غفلته بقوله : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى﴾ ويتكبّر ويصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا لأجل ﴿أَنْ رَآهُ﴾ وعلم

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٣.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧.

٥٢٨

شخصه أنّه ﴿اسْتَغْنى﴾ وصار ذا مال وجاه وقدرة فلا يتفكّر في أطوار خلقته وترقّيه من أخسّ الأحوال إلى أعلاها ، وأنّه من أول وجوده تحت قدرة قادر قاهر حكيم.

وقيل : إنّ كلمه ﴿كَلَّا﴾ ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه (١) .

روي أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتزعم أنّ من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكّة فضّة وذهبا ، لعلّنا نأخذ منها فنطغى ، فندع ديننا ونتّبع دينك. فنزل جبرئيل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الدعاء إبقاء عليهم ورحمة لهم(٢) .

﴿إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى (٨) و (١٠)

ثمّ هدّد سبحانه الانسان الطاغي عليه بقوله : ﴿إِنَّ إِلى رَبِّكَ﴾ ومالك أمرك وحده أيّها الانسان ﴿الرُّجْعى﴾ والمصير بالموت ، أو بالبعث ، فترى سوء عاقبة طغيانك.

وقيل : إنّ المعنى أنّ مرجع الانسان إلى الله ، فكما أنّه ردّه من النقصان إلى الكمال ، يردّه ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت (٣) .

ثمّ بيّن سبحانه غاية طغيان الانسان مظهرا للتعجّب منه بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ﴾ وهل عاينت يا محمد ، أو أيّها الرائي ، الطاغي ﴿الَّذِي﴾ بلغ بطغيانه إلى أنّه ﴿يَنْهى﴾ ويمنع عن الصلاة والقيام بوظيفة العبودية لربّ الأرباب ﴿عَبْداً﴾ ممحضا في العبودية له ﴿إِذا صَلَّى﴾ وقام بخدمة مولاه ؟

روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم. قال : فو الذي نحلف به لئن رأيته يصلّي لأطئنّ عنقه ، ثمّ إنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة - قيل : هي صلاه الظهر - فجاءه (٤) ، وقيل : همّ أن يلقى على رأسه حجرا فنكص على عقبيه ، فقالوا : مالك ؟ فقال : إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا أجنحة (٥) . وقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا » فنزلت (٦) .

قال الفخر الرازي في وجه إظهار الله تعالى العجب من طغيان أبي جهل ومنعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.

(٥) في النسخة : واضحة ، والمراد أجنحة الملائكة ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٩ ، تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.

٥٢٩

الصلاة : إنّه يروى أنّ يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيّام خلافته ، فقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر : اطلبه من بلال ، فهو أعلم به منّي. ثمّ إنّ بلالا دلّه على فاطمة ، ثمّ فاطمة دلّته على عليّ عليه‌السلام ، فلمّا سأل عليا عنه قال : « صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه » فقال الرجل : هذا لا يتيسّر لي. فقال علي عليه‌السلام : « عجزت عن وصف متاع الدنيا ، وقد شهد الله على قلّته حيث قال : ﴿مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ(١) فكيف أصف أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد شهد الله تعالى بأنّه عظيم حيث قال : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ » (٢) . فكأنّه قال : ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبودية ، وذلك عين الجهل والحمق (٣) .

وقيل : إنّ امية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة (٤) .

وعن القمي : كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة وأن يطاع الله ورسوله (٥) .

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *

 أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى * كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١١) و (١٥)

ثمّ بيّن سبحانه غاية سفاهة هذا الطاغي بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ﴾ يا محمد ﴿إِنْ كانَ﴾ هذا الطاغي ثابتا ﴿عَلَى الْهُدى﴾ ودين الحقّ ، كما أنت عليه ﴿أَوْ أَمَرَ﴾ الناس ﴿بِالتَّقْوى﴾ والاحتراز عن الشرك كما تأمر ، أما كان خيرا له من الكفر بالله والنهي عن طاعته.

وقيل : إنّ الخطاب مع الكافر ، فانّه تعالى بعد خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى﴾ التفت إلى الكافر ، وقال : أ رأيت يا كافر إن كان النبيّ في صلاته على الهدى ، ودعاءه إلى الله أو أمر بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك ؟ فجعل سبحانه نفسه كالحاكم الذي حضر عنده المدّعي والمدّعى عليه ، فخاطب هذا مرّة وهذا اخرى (٦) .

ثمّ خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ﴾ يا محمد ، وأخبرني ﴿إِنْ﴾ كان الكافر ﴿كَذَّبَ﴾ الدلائل التي ذكرنا مع كونها ظاهرة جلية عند كلّ عاقل ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض عن الصلاة التي هي أهم خدمات مولاه ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ﴾ بعقله ﴿بِأَنَّ اللهَ يَرى﴾ منه هذه القبائح ويجازيه عليها في الآخرة فيزجره علمه ذلك عن ارتكابها ؟

وقيل : إنّه خطاب مع الكافر ، والمراد : أ رأيت أيّها الكافر إن كان محمد كذب بآيات الله وتولّى عن

__________________

(١) النساء : ٤ / ٧٧.

(٢) القلم : ٦٨ / ٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢١.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٠ ..

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٣٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٩.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٢١.

٥٣٠

خدمة مولاه ، ألم يعلم بأنّ الله يراه ويعاقبه عليه حتّى ينتهي بعلمه ذلك (١) .

ثمّ ذمّ سبحانه الكافر بقوله : ﴿كَلَّا﴾ لا يعلم بأنّ الله يرى وو الله ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ ولم يرتدع عمّا هو فيه من الطغيان ﴿لَنَسْفَعاً﴾ ولنأخذنّ البتة يوم القيامة ﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾ وشعر مقدّم رأس هذا الكافر الطاغي بشدّة ونسحبنه بها إلى النار.

﴿ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٦) و (١٨)

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّه بالكذب في إنكار الآيات والرسالة والبعث ، وخطئه في إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوصيف ناصيته بالكذب والخطأ ، بقوله : ﴿ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ﴾ فإنّ اللعين بإصراره على الكذب والخطأ صار بحيث يظهر الكذب والخطأ من ناصيته وشعر مقدّم رأسه ، وفي الجرّ بالناصية غاية الإذلال والإهانة.

قيل : إنّ المراد من قبض ناصيته قبضها في الدنيا إن عاد إلى النهي عن الصلاة ، فعاد إلى النهي(٢) .

روي أنّه لعنه الله مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلّي فقال : ألم أنهك ، فأغلظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه ، فقال : أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ؟ ! يريد كثرة من يعينه ، فنزلت (٣) ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ وأهل مجلسه ليعينوه ﴿سَنَدْعُ﴾ في مقابل أعوانه ﴿الزَّبانِيَةَ﴾ وملائكة العذاب ، فلمّا عاد إلى النهي مكّن الله المسلمين من ناصيته يوم بدر فجرّوه على وجهه.

روي أنّه لمّا نزلت سورة الرحمن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من يقرأها على رؤساء قريش ؟ » فتثاقلوا ، فقام ابن مسعود رضى الله عنه فقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه ، ثمّ قال ثانيا : « من يقرأها عليهم ؟ » فلم يقم إلّا ابن مسعود ، ثمّ قال ثالثا فقال ابن مسعود : أنا ، فأذن له ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يتّقي عليه ، لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثّته ، ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه وأدماها ، فانصرف وعينه تدمع ، فلمّا رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله رقّ قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فاذا جبرئيل جاء ضاحكا مستبشرا ، فقال : « يا جبرئيل تضحك ويبكي ابن مسعود ! » فقال : سيعلم. فلمّا ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : « خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان له رمق فاقتله ، فانّك تنال ثواب المجاهدين » فأخذ يطالع القتلى ، فاذا أبو جهل مصروع يخور ، فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه ، فوضع الرمح في منحره من بعيد فطعنه. ولعلّ هذا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٢.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٦.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٥ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٠.

٥٣١

[ معنى ] قوله : ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(١) على رواية ابن عباس أنّه نزل فيه ، ثمّ لمّا عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه ، فارتقى عليه بحيلة ، فلمّا رآه أبو جهل قال له : يا رويعي الغنم ، لقد ارتقيت مرتقا صعبا. فقال ابن مسعود : الاسلام يعلو ولا يعلى عليه فقال له أبو جهل : أبلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سمع ذلك قال : فرعوني أشدّ من فرعون موسى ، فانّه قال حين موته ﴿آمَنْتُ(٢) وهو قد زاد عتوا.

ثمّ قال اللعين يابن مسعود ، اقطع رأسي بسيفي هذا ، فانّه أحد وأقطع. فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله ، فشقّ اذنه ، وجعل الخيط فيها ، وجعل يجرّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجبرئيل بين يديه يضحك ، ويقول : يا محمد ، اذن باذن [ لكن ] الرأس هنا مع الاذن مقطوع (٣) .

قيل : إن الناصية كناية عن الوجه (٤) ، ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ أي لنلطمنّ وجهه (٥) . وقيل : يعني لنسودنّ وجهه (٦) .

﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)

ثمّ لمّا قابل سبحانه دعوة الطاغي ناديه بدعوة الزبانية ، ردع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الخوف من الطاغي بقوله : ﴿كَلَّا﴾ لا يجترئ على أن يدعو ناديه ، ولئن دعاهم لن ينفعوه ، فهو أذلّ وأحقر من أن يقاومك ، ولذا ﴿لا تُطِعْهُ﴾ ولا تعتن بنهيه إياك عن الصلاة والسّجود لربّك ﴿وَاسْجُدْ﴾ وواضب على صلاتك وخضوعك لله ، ولا تكترث بالطاغي وأمثاله ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ إلى ربّك بالسجود والصلاة له ، وتقرّب إليه بعبادته.

في الحديث العامي : « أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد » (٧) فأكثروا من الدعاء في السجود.

وعن الرضا عليه‌السلام : « أقرب ما يكون العبد من الله عزوجل وهو ساجد ، وذلك قوله تعالى : ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ » (٨) .

وقيل : إنّ خطاب ﴿اسْجُدْ﴾ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطاب ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ مع أبي جهل ، والمعنى : اسجد أيّها النبي ، ولا تعتن بنهي من ينهاك ، ليزداد غيظا ، واقترب أيّها الكافر وادن منه حتّى تبصر ما ينالك من

__________________

(١) القلم : ٦٨ / ١٦.

(٢) يونس : ١٠ / ٩٠.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٦.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٧.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٣.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٦ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٨١.

(٨) الكافي ٣ : ٢٦٤ / ٣ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧ / ١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٠.

٥٣٢

أخذ الزبانية إيّاك (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ العزائم أربع : ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ والنجم ، وتنزيل السجدة ، و[ حم ] السجدة » (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ في يومه أو ليلته ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ثمّ مات شيدا وبعثه الله شهيدا ، وأحياه شهيدا ، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٦.

(٢) الخصال : ٢٥٢ / ١٢٤ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٨٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٠.

(٣) ثواب الأعمال : ١٢٤ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٧٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٠.

٥٣٣
٥٣٤

في تفسير سورة القدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت السورة العلق المبدوءة بالأمر بقراءة القرآن العظيم ، نظمت بعدها سورة القدر المبدوءة بتعظيم القرآن الكريم ، وبيان زمان نزوله ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة القرآن بقوله : ﴿إِنَّا﴾ أثبتنا القرآن الحكيم في اللوح المحفوظ ثم ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ منه جملة ودفعة في البيت المعمور الذي هو أشرف بقاع السماوات ، كما في بعض رواياتنا (١) ، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا ، كما في بعض روايات العامة (٢) ، وبعض روايات الخاصة (٣)﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾. قيل : إنّ الله سبحانه بيّن أولا أنّه نزل في شهر رمضان بقوله : ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ(٤) ولم يبين أنّه نزل في الليل أو النهار. ثمّ بين أنّه نزل بالليل بقوله : ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ(٥) ولم يبيّن أيّها أىّ ليل ، ثمّ بيّن في هذه السورة أنّها ليلة القدر (٦) .

فلا شبهة أنّها تكون في شهر رمضان ، وإنّما الختلاف في أنّها كانت في ليلة واحدة ، لأنّ فضل نزول القرآن كان في ليلة واحدة ، وجلّ العلماء قائلون بانّها باقية في كلّ سنة ، ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة.

قيل : إنّ الله تعالى أخفاها ولم يعيّنها ليرغب المؤمنون في إحياء جميع ليالى رمضان طلبا لدرك ثواب إحيائها (٧) ، والمشهور قائلون بتعيينها ، والأكثر على أنّها في أوتار العشر الاخر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « التمسوها في العشر الاخر (٨) من شهر رمضان ، فاطلبوها في كلّ وتر » (٩) .

وأكثر العامّة على أنّها الليلة السابعة والعشرون ، ونسبوه إلى ابن عباس (١٠) ، وأسندوه إلى اعتبارات

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٦٠ / ٦.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٩.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٨٦.

(٤) البقرة : ٢ / ١٨٥.

(٥) الدخان : ٤٤ / ٣.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٠.

(٧) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨١.

(٨) في تفسير روح البيان : الاواخر.

(٩) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨١.

(١٠) تفسير الرازي ٣٢ : ٣٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨١.

٥٣٥

لا اعتبار بها.

وقال بعضهم : إنّها آخر ليلة من الشهر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار يعتق ألف ألف عتيق من النار كلّهم استوجبوا العذاب ، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في تلك الليلة بعدد من أعتق من أول الشهر إلى آخره » (١) .

وعن بعض الصحابة : أنّها الليلة التاسعة والعشرون (٢) ، ورووا عن أبي ذرّ : أنّها الخامسة والعشرون (٣) ، وعن ابن مسعود : أنّها الرابعة والعشرون (٤) ، وعن ابن عباس : أنّه الثالثة والعشرون (٥) ، وعن محمد بن إسحاق : أنّها الحادية والعشرون (٦) ، وعن أنس : أنّها التاسعة عشرة (٧) ، وعن الحسن البصري : أنّها السابعة عشرة (٨) ، وعن ابن رزين أنّها الليلة الاولى منه (٩) .

وعن ( الكافي ) عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ(١٠) قال : « نعم ، ليلة القدر ، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر » (١١) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن ليلة القدر قال : « التمسها ليلة إحدى وعشرين ، أو ليلة ثلاث وعشرين » (١٢) .

وفي رواية « ليلة تسع وعشرة ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين » (١٣) .

قيل : فان أخذت إنسانا الفترة أو علّة ، ما المعتمد عليه من ذلك ؟ فقال : « ثلاث وعشرون»(١٤) .

أقول : يريد رواية الجهني المعروفة (١٥) وإنّما سمّيت تلك الليلة ليلة القدر ، لتقدير امور السنة فيها ، كما قال سبحانه : ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(١٦) .

وعن ابن عباس : أنّ الله قدّر فيها كلّما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإمانة وغيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية (١٧) ، فيسلّمه إلى مدبّرات الامور من الملائكة.

وفي ( المعاني ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا علي ، أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ قلت : لا ، يا رسول الله. قال : إنّ الله قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكان فيما قدّر ولايتك وولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة » (١٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨١.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٩.

( ٤- ٩) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٩.

(١٠) الدخان : ٤٤ / ٣.

(١١) الكافي ٤ : ١٥٧ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٢.

(١٢) الكافي ٤ : ١٥٦ / ١ ، وتفسير الصافي ٥ : ٣٥٢ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(١٣) الكافي ٤ : ١٥٨ / ٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٢.

(١٤) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٠٣ / ٤٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٢.

(١٥) الكافي ٤ : ١٥٦ / ٢ ، من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٠٣ / ٤٦١.

(١٦) الدخان : ٤٤ / ٤.

(١٧) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٨.

(١٨) معاني الأخبار : ٣١٥ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥١.

٥٣٦

أقول : ظاهر الرواية وقوع جميع التقديرات الكائنة في العالم إلى يوم القيامة في أول ليلة من ليالي القدر ، وهذا غير المعني المروي عن ابن عباس ، ولا منافاة بينهما.

وقيل : إنّ القدر هنا بمعنى الشرف ، ومعنى ليلة القدر أنّها ليلة يحصل لمن أحياها وقصد فيها الشرف والمنزلة عند الله (١) .

وقيل : لأنّه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، لأنّه لها قدر (٢) .

وعن الخليل : القدر هنا بمعنى الضيق ، وإنّما سمّيت الليلة ليلة القدر لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة (٣) .

وأمّا دلالة الآية على عظمة القرآن ، فلاسناد إنزاله إلى ذاته المعبّر عنها بنون العظمة المستلزم لعظمة ما أنزله ، ولارجاع الضمير إليه من غير سبق ذكره الدالّ على غاية اشتهاره وتميّزه من الكتب المنزلة ، ولتعظيم وقت نزوله وهو ليلة القدر بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأيّ شيء أعلمك يا محمد ﴿ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ في علوّ القدر والشرف ، فانّ العلم بها خارج عن طرق البشر إلّا بالوحي من الله العالم بكنه الأشياء وحقائقها.

﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة العبادة فيها بقوله : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ والعبادة فيها ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مِنْ﴾ العبادة في ﴿أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ليس فيها ليلة القدر في الحديث العامي : « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر » (٤) .

قيل : إنّ لفظ ألف كناية عن الكثير ، ولم يرد حقيقتها (٥) .

وقيل : إنّ في الامم السابقة لا يقال لرجل : إنّه عابد ، حتّى يعبد الله ألف شهر ، فأعطى الله هذه الامّة ليلة من أحياها من المؤمنين كان أعبد من اولئك العبّاد (٦) .

وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة خير من ملكهما (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٢.

(٣) تفسير الرازي ٢ : ٢٨ ، ولم ينسبه إلى أحد ، تفسير الرازي ١٠ : ٤٨٢.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٠.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

(٧) تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

٥٣٧

وقيل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى أعمال الامم فاستقصر أعمار امّته ، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فاعطاه الله ليلة القدر ، وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الامم (١) .

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر رجلا من بني إسرائيل اسمه شمسون أو شمعون ، لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فتعجّب المؤمنون منه ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة جهاد ذلك الرجل (٢) .

وعن ابن عباس : أنّه ذكر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من بني إسرائيل أنّه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب من ذلك عجبا شديدا ، وتمنّى أن يكون ذلك في امّته ، فقال : « يا ربّ ، جعلت امّتي أقصر الامم أعمارا ، وأقلّها أعمالا ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله [ لك ] ولامّتك من بعدك إلى يوم القيامة في كلّ رمضان » (٣) .

وروي بعض العامّه أنّه لمّا عوتب الحسن بن علي عليه‌السلام في تسليمه الأمر لمعاوية قال : « إنّ الله أرى نبيه في المنام بني امية ينزون على منبره نزو القردة ، فاغتمّ لذلك ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وهي خير له ولذريّته وأهل بيته من ألف شهر ، وهي مدّة ملك بني اميّة ، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان » (٤) .

وعن القمي ، قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نومه : كأنّ قرودا (٥) تصعد منبره ، فغمّه ذلك ، فأنزل الله سورة القدر ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ﴾ إلى قوله : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ تملكه بنو امية ليس فيها ليلة القدر (٦) .

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام قال : « اري رسول الله في منامه أنّ بني امية يصعدون منبره من بعده ، ويضلّون الناس عن الصراط القهقرى ، فأصبح كئيبا حزينا ، فهبط عليه جبرئيل ، فقال : يا رسول الله ، مالي أراك كئيبا حزينا. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله: إني رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي ، يضلّون الناس عن الصراط القهقرى. فقال : والذي بعثك بالحقّ نبيا ، إنّي ما اطّلعت عليه ، فعرج إلى السماء ، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال : ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٣١ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٣٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٢.

(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٣١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.

(٥) في النسخة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كأن قردا.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٢.

٥٣٨

كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ(١) وأنزل عليه ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ جعل الله ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله خيرا من ألف شهر ملك بني امية»(٢) .

ذكر اشكال بعض العامة وردّه

ثمّ اعلم أنّه طعن بعض العامة في تلك الروايات بأنّ أيام ملك بني امية كانت مذمومة ، فكيف يبيّن الله تعالى فضل تلك الليلة بكونها خيرا من الشهور المذمومة (٣) ؟

وردّه بعضهم بأنّ أيام ملكهم كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية ، فيكون المراد أنّ ليلة القدر بحسب السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية ، كقوله : ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(٤) . الكفار من الأموال والزخارف الدنيوية (٥) .

والأولى في دفعه أن نقول : إنّ الله صلّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ببشارة تزول غمّه ، فانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله اغتمّ بسلطنة بني امية وإضلالهم الناس عن الصراط ، فسرّ الله قلبه الشريف بالبشارة بأفضلية عبادة تلك الليلة لامّته من عبادة تلك المدّة ، كما يسلّى من تلفت أمواله ببشارته برجوع ولده من سفر خطير سالما غانما.

﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان علوّ قدر تلك الليلة ذاتا ، بيّن ما استتبع ذلك الشرف وعلوّ القدر من الفضل بقوله : ﴿تَنَزَّلُ﴾ وتهبط ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ المقرّبون كلّهم فوجا إلى الأرض ، أو إلى السماء الدنيا ، ليروا عبادة أهل الأرض واجتهادهم فيها ، ويسلّموا عليهم ويزوروهم ويصافحوا معهم.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّهم ينزلون ليسلّموا علينا ، وليشفعوا لنا ، فمن أصابته التسليمه غفر له ذنبه » (٦) أو ليزيد فضل عباده المؤمنين بحضورهم.

﴿وَ﴾ ينزل ﴿الرُّوحُ﴾ القدس ، وهو جبرئيل ، وإفراده بالذكر مع كونه من الملائكة لتعظيمه.

عن كعب : أنّ في سورة المنتهى ملائكة لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى ، يعبدون الله ، ومقام جبرئيل في وسطها ، ليس فيها ملك إلّا وقد اعطى الرّأفة والرحمة للمؤمنين ، ينزلون مع جبرئيل ليلة القدر ، فلا تبقى بقعة من الأرض إلّا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، أحدا إلا صافحه ، وعلامة ذلك من اقشعرّ جلده ورقّ قلبه ودمعت عيناه ، فانّ ذلك من مصافحة جبرئيل.

__________________

(١) الشعراء : ٢٦ / ٢٠٥ - ٢٠٧.

(٢) الكافي ٤ : ١٥٩ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥١.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٣١.

(٤) آل عمران : ٣ / ١٥٧.

(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٣١.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ٣٣.

٥٣٩

إلى أن قال : وأول من يصعد جبرئيل حتى يصير أمام الشمس ، فيبسط جناحين أخضرين ، لا ينشرهما إلّا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ، ثمّ يدعوه ملكا ملكا ، فيصعد الكلّ ، ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرئيل ، فيقيم جبرئيل ومن معه من الملائكة بين الشمس والسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ولمن صام شهر رمضان احتسابا ... الخبر (١) .

وقيل : إنّ الرّوح ملك عظيم لو التقم السماوات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة (٢) .

وقيل : هو ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وله ألف رأس ، كلّ رأس أعظم من الدنيا ، وفي كلّ رأس ألف وجه ، وفي كلّ وجه ألف فم ، وفي كلّ فم ألف لسان ، يسبّح الله بكلّ لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد ، لكلّ لسان لغة لا تشبه الاخرى ، فاذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّ كلّ ملائكة السماوات سجّدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه ، وإنّما يسبّح الله غدوة وعشية ، فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين والصائمات من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الأفواه إلى طلوع الفجر (٣) .

أقول : على تقدير صحّة النقل لا بدّ من تأويل نزوله بغير المعنى المتبادر منه.

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الرّوح أعظم من جبرئيل ، وأنّ جبرئيل من الملائكة ، وأنّ الروح خلق أعظم من الملائكة ، أ ليس يقول الله تبارك وتعالى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ﴾ »(٤) .

وعلى أي تقدير تتنزّل جميع الملائكة مع الرّوح لشرف تلك الليلة ﴿فِيها﴾ إلى الأرض بعد استئذانهم شوقا إلى لقاء المؤمنين ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ في النزول ﴿مِنْ﴾ أجل ﴿كُلِّ أَمْرٍ﴾ قدّر في تلك السنة من خير أو شرّ.

عن الصادق عليه‌السلام : « إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والرّوح والكتبة إلى السماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء في تلك السنة » (٥) .

وعن القمي رحمه‌الله ، قال : تنزّل الملائكة والرّوح القدس على إمام الزمان ، ويدفعون إليه ما كتبوه [ من هذه الامور ](٦) .

وعنه ، عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل : أتعرفون ليلة القدر ؟ فقال : « فكيف لا نعرف والملائكة يطوفون بنا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٣٣.

(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٣٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٤.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٤.

(٤) الكافي ١ : ٣١٧ / ١ ، وتفسير الصافي ٥ : ٣٥٣ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) تفسير القمي ١ : ٣٦٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٥٣.

٥٤٠