نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

يَخافُ عُقْباها (١٥)

ثمّ هدّد سبحانه المكذبين للرسول ببيان تكذيب ثمود رسولهم وابتلائهم بالعذاب بقوله : ﴿كَذَّبَتْ﴾ قبيلة يقال لها ﴿ثَمُودُ﴾ رسولهم صالح ﴿بِطَغْواها﴾ وبسبب عتوّها على الله ، أو المعنى كذّبت بما أوعدهم الرسول من عذاب ذي طغيان كما قال الله تعالى : ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾.

﴿إِذِ انْبَعَثَ﴾ وحين أسرع في طاعة رؤسائها قدار الذي هو ﴿أَشْقاها﴾ وأخبثها وأطغاها في عقر الناقة ﴿فَقالَ لَهُمْ﴾ صالح ﴿رَسُولُ اللهِعليه‌السلام : يا قوم احذروا أن تؤذوا ﴿ناقَةَ اللهِ﴾ التي هي من آياته ، واحذروا أن تمنعوها ﴿وَسُقْياها﴾ ومشربها ، فإن مسستموها بسوء يأخذكم عذاب قريب ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ فيما أوعدهم به من العذاب ﴿فَعَقَرُوها﴾ وضربوا رجلها بالسيف وقتلوها.

روى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لعلي : « يا على أتدري من أشقى الأولين ؟ » قال : الله ورسوله أعلم ، قال : « عاقر الناقة » قال : « أتدري من أشقى الآخرين » ، قال : « الله ورسوله أعلم » قال : « قاتلك » (١) .

﴿فَدَمْدَمَ﴾ واطبق ﴿عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ العذاب ، وأهلك جميعهم بالصيحة الهائلة ، أو الزلزلة ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾ وبسبب عصيانهم بتكذيب الرسول وعقر الناقة ﴿فَسَوَّاها﴾ قيل : إنّ الضمير راجع إلى الدمدمة ، والمعنى : فعمّتهم الدمدمة (٢) . وقيل : راجع إلى الأرض ، والمعنى : فسوّى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التّراب (٣) ﴿وَلا يَخافُ﴾ الله بالدمدمة عليهم ﴿عُقْباها﴾ وتبعتها لأنّها كانت باستحقاقهم والعمل بالحكمة.

وقيل : هذا الكلام لبيان تحقير إهلاكهم ، والمعنى أنّه أهون من أن تخشى فيه عاقبة الأمر (٤) .

وقيل : إنّ المعنى لا يخاف قدار الأشقى فيما أقدم من عقر الناقة عقبها وتبعة سوئها ، بل كان آمنا من الهلاك ففعل مع الخوف الشديد فعل من لا خوف له ، وفيه دلالة على غاية حمقه ، وعلى هذا التفسير تكون الآية في حكم المتقدّم ، كأنّه قال : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها (٥) .

روي أنّ صالحا لمّا وعدهم بالعذاب بعد ثلاث ، قال الذين عقروا الناقة : هلمّوا فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجّلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا ألحقناه بتاقته (٦) فأتوه ليقتلوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلمّا أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح ، فوجدوهم قد رضحوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثمّ همّوا به ، فقامت عشيرته دونه (٧) ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه ، قد وعدكم أنّ العذاب

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٤٦.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٥ و١٩٦.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٦.

(٦) في النسخة : بناقة.

(٧) في النسخة : دونها.

٥٠١

نازل بكم في ثلاث ، فان كان صادقا زدتم ربّكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون ، فانصرفوا عنه تلك الليلة ، فأصبحوا ووجوههم مصفرّة ، فايقنوا بالعذاب ، فطلبوا صالحا ليقتلوه ، فهرب صالح والتجأ إلى سيد بعض بطون ثمود ، وكان مشركا ، فغيّبه عنهم فلم يقدروا عليه ، ثمّ شغلهم عنه نزول العذاب (١) . فهذا هو قوله : ﴿وَلا يَخافُ عُقْباها﴾.

عن الصادق عليه‌السلام : « من أكثر قراءة والشمس والليل والضحى وألم نشرح ، في يوم وليلة ، لم يبق بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه وجميع ما أقلّت الأرض منه ، ويقول الرب تبارك وتعالى : قبلت شهادتكم لعبدي ، وأجزتها له ، انطلقوا به إلى جناتي حتّى ، يتخير منها حيث أحبّ ، فأعطوه من غير منّ ، ولكن رحمة منّي وفضلا [ عليه فهنيئا لعبدي] »(٢).

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٦.

(٢) ثواب الأعمال : ١٢٣ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٥٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٥.

٥٠٢

في تفسير سورة الليل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى * وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ

 لَشَتَّى (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختمت سورة ﴿وَالشَّمْسِ﴾ المتضمّنة لذكر الصنفين من الناس : صنف زكّى نفسه من الشرك والعصيان والاخلاق الرذيلة ، وصنف دسّ نفسه فيها ، وذكر أنّ الله ألهم فجورها وتقواها ، أردفها بسورة ﴿وَاللَّيْلِ﴾ المتضمّنة لذكر صنفين من الناس : صنف من الناس بذل ماله في طاعة الله واتّقى المعاصى وصدّق بتوحيد الله والدار الآخرة ، وصنف بخل بماله واشتغل بالمعاصي والشهوات وكذّب بتوحيد الله واليوم الآخر ، وما لكلّ منهما من الدرجات والدركات ، وإنّ الله هو الهادي إلى كلّ خير وسعادة ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالحلف بعجائب خلقه وبدائع صفنعه بقوله : ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى﴾ ويغطّي الشمس ، أو يستر النهار ، أو سائر الموجودات غير المضيئة بظلمته ﴿وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى﴾ وحين انكشف بطلوع الشمس وظهر بزوال ظلمة الليل ، ومن المعلوم أنّ في الإقسام بهما دلالة على شرفهما وكثرة نفعهما وقيام نظام العالم بهما وبتعاقبهما.

وعن الباقر عليه‌السلام في تأويل الآيتين قال : « الليل في هذا الموضع الثاني ، غشي أمير المؤمنين عليه‌السلام في دولته التي جرت له عليه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام يصبر في دولتهم حتى تنقضي » ﴿وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى﴾ قال : « النهار هو القائم منّا أهل البيت ، إذا قام غلب دولة الباطل » قال : « والقرآن ضرب به الأمثال للناس ، وخاطب نبيّه به ونحن ، فليس يعلمه غيرنا » (١) .

﴿وَما خَلَقَ﴾ قيل : يعني والقادر العظيم الذي خلق بقدرته ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثى﴾ من ماء واحد (٢) . وقيل : كلمة ﴿ما﴾ مصدرية ، والمعنى : وخلقه الذكر والانثى من جميع أصناف الحيوانات.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٦.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٧.

٥٠٣

وعن الباقر عليه‌السلام في تأويله « الذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والانثى فاطمة » (١) .

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ﴾ وأعمالكم أيّها الناس في الدنيا ﴿لَشَتَّى﴾ ومتفرّقات في الحسن والقبح ، والخير والشّر ، والعقاب والثواب.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ

 بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى * وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ

 إِذا تَرَدَّى (٥) و (١١)

ثمّ بين سبحانه ما هو المقصود من اختلاف الأعمال وفضله بقوله : ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى﴾ المال وأنفقه في سبيل الله ووجوه البرّ ، أو أعطى حقوق الله من الأعمال الواجبة ﴿وَاتَّقى﴾ الله بترك المحرمات واحتراز الشهوات ﴿وَصَدَّقَ﴾ عن صميم القلب ﴿بِالْحُسْنى﴾ والكلمة المرضية عند الله من الإقرار بالتوحيد والرسالة والمعاد ، أو بالملّة والشريعة الحسنة ، وهو دين الاسلام.

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « بالولاية » (٢) .

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ ونوفّقه ﴿لِلْيُسْرى﴾ والأعمال المؤدّية إلى الجنة والراحة الأبدية ، ونسهّلها عليه حتى يكون أيسر الأمور عليه وقيل : إن المراد باليسرى الجنة والراحة (٣) ، والمعنى : نهيئه لدخول الجنة بسهولة.

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ بماله وامتنع من صرفه في سبيل الله ، أو امتنع من أداء حقوق الله وصرف قواه في طاعته ، ﴿وَاسْتَغْنى﴾ بالشهوات الدنيوية عن النعم الاخروية ولم يرغب في ثواب الله ، كأنّه مستغن عنه ، ولم يتّق من المعاصي ﴿وَكَذَّبَ﴾ قولا وعملا ﴿بِالْحُسْنى﴾ بأحد المعاني السابقة ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ ونهيئه ﴿لِلْعُسْرى﴾ والخصلة المؤدّية إلى ما فيه المشقة والشدة من النار والهوان والعذاب بتثقيل الطاعة عليه وإيكاله إلى نفسه الأمّارة بكلّ سوء وشرّ ﴿وَما يُغْنِي عَنْهُ﴾ ولا يكفي في نجاته من العذاب ﴿مالُهُ﴾ الذي جمعه في الدنيا وبخل به عن صرفه في سبيل الله ﴿إِذا تَرَدَّى﴾ وهلك هلاكا أبديا ، أو سقط في قعر جهنّم ، أو في حفيرة وقبره.

وقيل : إن كلمة ﴿ما﴾ في قوله : ﴿ما يُغْنِي﴾ للاستفهام الانكاري ، والمعنى : أي شيء يغني عنه ماله مع أنّه يبقى لوارثه ، ولم يصحب منه شيئا في الآخرة (٤) .

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٤٨.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠١.

٥٠٤

في ( الكافي ) في تفسير الآيات عن الباقر عليه‌السلام : « ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى﴾ ممّا آتاه الله ﴿وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى﴾ أي بأنّ الله يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف فما زاد ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ لا يريد شيئا من الخير إلّا يسّره الله ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ بما آتاه الله ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى﴾ بأنّ الله يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ لا يريد شيئا من الشرّ إلّا يسّره له ﴿وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى﴾ قال : والله ما تردّى من جبل ، ولا من حائط ، ولا في بئر ، ولكن تردّى في نار جهنّم » (١) .

وعنه عليه‌السلام في تأويله : ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى﴾ وآثر بقوته ، وصام حتّى وفى بنذره ، وتصدّق بخاتمه وهو راكع ، وآثر المقداد بالدينار على نفسه ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى﴾ وهي الجنّة والثواب من الله ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ لذلك ، بأن جعله إماما في الخير وقدوة وأبا للائمّة ، يسّره الله ﴿لِلْيُسْرى(٢) .

وعن ( المجمع ) عن ابن عباس : أنّ رجلا كانت له نخلة ، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال ، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وسعد النخلة ليأخذ منها التمر ، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير ، فنزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمر من أيديهم ، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يخرج التمر من فيه ، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لصاحب النخلة : « بعني نخلتك هذه بنخلة في الجنّة » فقال : لا أفعل ، وانصرف ، فمضى إليه أبو الدّحداح واشتراها منه (٤) . وفي رواية : اشتراها منه بحائطه (٥) . وفي رواية : بأربعين نخلة (٦) .

وأتى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، خذها وأجعل لي في الجنّة الحديقة التي قلت لهذا ولم يقبلها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لك في الجنة حدائق وحدائق » (٧) .

وفي رواية ابن عباس : فذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا رسول الله ، إنّ النخلة قد صارت لى ، فهي لك فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صاحب الدار فقال له : « النخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ...﴾ السورة » (٨) .

وفي رواية القمي رحمه‌الله قال : ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى﴾ يعني النخلة ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى﴾ يعني بوعد رسول الله (٩) .

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٦ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٥) قرب الاسناد : ٣٥٦ / ١٢٧٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٧٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧.

(٨) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٩) قرب الاسناد : ٣٥٦ / ١٢٧٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٧ ، ولم نعثر عليها في تفسير القمي.

٥٠٥

أقول : على الروايتين السورة مدنية ، لأنّ أبا الدّحداح كان من الأنصار ومن أهل المدينة.

﴿إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى * وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٢) و (١٣)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه فائدة الإعطاء والتقوى والايمان وضرر البخل والكفر ، بيّن أنّ الهداية إلى ما فيه الخير والشرّ من شأن الربوبية بقوله : ﴿إِنَ﴾ الواجب ﴿عَلَيْنا﴾ بمقتضى الحكمة البالغة واللّطف ﴿لَلْهُدى﴾ وبيان الطريق المؤدّي إلى كلّ خير وسعادة ، وإلى الشرور والضلالة ، وقد فعلنا بما لا نزيد عليه ، حيث بيّنا حال من سلك كلا من الطريقين ترغيبا وترهيبا. عن القمي : أنّ علينا أن نبيّن لهم (١) .

وعن ابن عباس : يريد ارشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي (٢).

أقول : معنى حيلولته خذلانه ، وإيكالهم إلى أنفسهم عقوبة على كفرهم وطغيانهم.

ثمّ بيّن سبحانه غناه عن عبادة الناس ، وإنّما تكون هدايتهم للنفع العائد إليهم بقوله : ﴿وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى﴾ وتلك العقبى والاولى ، لا يزيد في ملكنا اهتداؤكم ، ولا يضرّنا ضلالكم ، فمن طلب سعادة الدارين فليطلبها منّي ، وليعمل بطاعتي.

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى * لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *

 وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٤) و (١٨)

ثمّ هدّد سبحانه الذين لا يهتدون بهداه بقوله : ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ﴾ أيّها الناس فيما أنزلت إليكم من القرآن ﴿ناراً تَلَظَّى﴾ وتتلهّب وتتوقّد بغضبي ، وخوّفتكم بها لترتدعوا عن عصياني ومخالفتي ، واعلموا أنّه

﴿لا يَصْلاها﴾ ولا يدخلها ﴿إِلَّا﴾ الكافر ﴿الْأَشْقَى﴾ من جميع العصاة والأبعد من كلّ خير وسعادة ، وهو ﴿الَّذِي كَذَّبَ﴾ بآيات ربّه ورسالة رسله ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض عن قبول الحق ، واستنكف عن طاعة ربّه.

وعن ابن عباس في رواية اخرى : أنّها نزلت في امية بن خلف وامثاله الذين كذّبوا محمدا والأنبياء قبله (٣) .

أقول : وهو جار في حقّ كلّ كافر إلى يوم القيامة ، إذ لا يكون الكفر إلا بالتكذيب ولو بإنكار ضروري من ضروريات الدين ، ومقتضى الحصر أن لا يدخل النار من كان مؤمنا عاصيا ولا يبعد ذلك ، نعم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٢.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٢.

٥٠٦

بعض المعاصي يوجب ذهاب الايمان عن قلب المؤمن ، كترك الصلاة والزكاة والحجّ ، فيحشر في صفّ الكفار.

وقيل : إنّ المراد بالأشقى هو الشقيّ ، وبالصلي الدخول مع الخلود (١) . وعن ( المجمع ) : الأشقى هو صاحب النخلة (٢) . وعن القمي : يعني هذا الذي بخل على رسول الله (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « في جهنم واد فيه نار لا يصلاها إلّا الأشقى ، يعني فلان الذي كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام وتولّى عن ولايته » ثمّ قال : « النيران بعضها دون بعض ، فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب » (٤) .

﴿وَسَيُجَنَّبُهَا﴾ ويبعد عنها بحيث لا يسمع حسيسها المؤمن ﴿الْأَتْقَى﴾ والأحرز من الشرك والعصيان ، وهو ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ﴾ ويعطيه الفقراء ويصرفه في سبيل الله حال كونه ﴿يَتَزَكَّى﴾ ويقصد ببذله الطهارة من رجس الذنوب ودنس البخل ، وهو أبو الدّحداح ، كما عن ( المجمع ) (٥) والقمي (٦) .

﴿وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (١٩) و (٢٠)

ثمّ بيّن سبحانه خلوص نيّته في البذل لوجه الله بقوله : ﴿وَما لِأَحَدٍ﴾ ممّن يعطيه المال ﴿عِنْدَهُ﴾ شيء ﴿مِنْ نِعْمَةٍ﴾ ومنّة يكون من شأنها أن ﴿تُجْزى﴾ وتكافأ فيقصد باعطائه مجازاتها ، فما يكون إعطاؤه وبذله لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ بغرض واحد وهو ﴿ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ الذي هو ﴿الْأَعْلى﴾ والأرفع من كلّ موجود ذاتا وصفاتا.

في ردّ بعض العامة

ثمّ لمّا كان طلب ذات الله تعالى محالا ، كان التقدير : ابتغاء رضا ذات الربّ أو ثوابه ، وإمكان حبّ ذات الربّ ، لا يوجب صحّة طلب الذات ، كما ادّعاها بعض العامة (٧) .

نعم لا يحتاج في قوله : ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ إلى تقدير شيء في الآية ، لأنّ الأطعام لوجه الله معناه الإطعام لأنّه مستحقّ للطاعة ، كما عن أمير المؤمنين : « عبدتك لا خوفا من نارك ، ولا طمعا في ثوابك ، بل لأنّك مستحق للعبادة » (٨) .

فظهر الفرق بين قوله : أطعت الله ابتغاء لوجهه ، وبين القول : بانّي أطعت الله لوجهه ، وأنّ الخلوص

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٠.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٩.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٩.

(٧) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٦ ، و٣١ : ٢٠٦.

(٨) بحار الأنوار ٤١ : ١٤ و٧٢ : ٢٧٨ « نحوه » .

٥٠٧

في الثاني أكمل من الأول ، ولا ينافي هذه الدرجة من الخلوص وجود الخوف من العقاب ، أو الرجاء للثواب ، فانّهما في المرتبة المتأخّرة ، كما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع المراتب من الخلوص.

ومن المعلوم أنّ من كان له جميع المراتب أفضل وأكمل ممّن كان له مرتبة الرجاء للثواب ، فما ذكرنا ظهر فساد ما حكاه الفخر الرازي عن أبي بكر الباقلاني في هذه الآية من قوله : إنّ الآية الواردة في شأن علي عليه‌السلام ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً(١) وهذه الآية الواردة في حقّ أبي بكر ﴿إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى * وَلَسَوْفَ يَرْضى﴾ فدلّت الآيتان على أنّ كلّ واحد منهما فعل ما فعل لوجه الله ، إلّا أنّ آية عليّ يدلّ على أنّه فعل ما فعل لوجه الله وللخوف من يوم القيامة على ما قال : ﴿إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ وأمّا آية أبي بكر فانّها دلّت على أنّه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبته في ثواب أو رهبته من عقاب ، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجلّ (٢) . مع أنّ نزول الآية في حقّ أبي بكر غير ثابت ، وإنّما حكاه الفخر الرازي عن القفّال الذي هو أحد مفسّري العامة ، فانّه قال : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين ، وفي اميّة بن خلف وبخله وكفره بالله (٣) .

ولا يقاوم قول هذا الناصب قول ابن عباس الذي هو حبر هذه الامة واستاذ المفسّرين من أنّها نزلت في حقّ أبي الدّحداح والبخيل الذي كان يدخل إصبعه في فم صغار الفقير ليخرج ثمر نخلته من فيهم ، كما مرّ عن ( المجمع ) (٤) .

وروى الفخر الرازي عنه أنّه نزلت في امية بن خلف وأمثاله الذين كذّبوا محمّدا والأنبياء قبله (٥) ، ولم يحك عنه القول بأنّ المراد بالأتقى أبو بكر.

نعم روى بعض العامة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ ببلال بن رباح (٦) الحبشي وهو يقول : أحد فقال عليه‌السلام : « أحد يعني الله الأحد ينجيك » ثمّ قال ، أبي بكر : إنّ بلالا يعذّب في الله فعرف مراده ، فانصرف إلى منزله ، فأخذ رطلا من ذهب ، ومضى به إلى اميّة بن خلف ، فقال له : أتبيعي بلالا ؟ فقال : نعم ، فاشتراه وأعتقه ، فقال المشركون : ما أعتقه ابو بكر إلّا ليد كانت له عنده ، فنزلت (٧) .

أقول : الظاهر من الآية مدح الأتقى الذي يؤتي ماله في سبيل الله ، وهو موافق لإعطاء أبي الدّحداح ،

__________________

(١) الإنسان : ٧٦ / ٩ و١٠.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٥.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٧.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٥٩.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٢.

(٦) في النسخة : رياح.

(٧) تفسير أبي السعود ٩ : ١٦٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥١.

٥٠٨

لا لاعتاق أبي بكر ، فانّ الاعتاق ليس بدلا وإعطاء للغير ، بل هو تحرير وفكّ ملك.

﴿وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)

ثمّ وعد سبحانه الأتقى الباذل ماله في سبيل الله بالثواب المرضي مقرونا باليمين بقوله : ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضى﴾ ذلك الاتقى بما يؤتيه الله من الثواب في الآخرة.

قيل : إنّ المعنى إلّا ابتغاء رضا ربّه ، وو الله لسوف يرضى الربّ عنه (١) . وفيه : أنّ رضا الله لا تأخير فيه ، وإنّما التأخير في الثواب الاخروي ، وهو وعد بنيل جميع ما يبتغيه ويطلبه من الثواب على أكمل الوجوه وأجملها.

قال بعض العامة : لم ينزل هذا الوعد إلّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى(٢) ولأبي بكر هاهنا (٣) . وفيه : أنّ الآيات الدالة على وعد المؤمنين عموما بثواب فيه رضاهم كثيرة ، وليس في خصوصية التعبير دلالة على فضيلة من وعده الله بأن يرضيه بثوابه إذا أدخله الجنّة بهذا التعبير على غيره من المؤمنين الذين قال في حقّهم ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ(٤) بل في هذا التعبير وفي قوله : ﴿ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً(٥) احتمال فضيلة خاصة ، لاحتمال كون المراد راضية ومسرورة بلقاء الله والوصول إلى مقام الرضوان ، والآية المذكورة كالنصّ في إرادته رضاءه بالثواب ودخوله في الجنّة ، مع أن ادّعاء كون نزول الآية في حقّ أبي بكر ممنوع أشدّ المنع ، حشرهم الله معه بتكلّفهم في إثبات فضيلة له مع أنّه خرط القتاد ، بل تمسّكهم بأمثاله كتمسّك الغريق المتشبّث بكلّ حشيش.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٢) الضحى : ٩٣ / ٥.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٤) المائدة : ٥ / ١١٩.

(٥) الفجر : ٨٩ / ٢٨.

٥٠٩
٥١٠

في تفسير سورة الضحى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة والليل المتضمّنة لبيان كون الدنيا والآخرة لله ، وفضيلة المؤمنين المنفقين في سبيل الله خالصا لوجهه ، وأنّ الله يرضيهم في الآخرة بثوابه ، نظمت سورة الأضحى المتصدّرة بالأيمان المناسبة لما صدر ما قبلها من الايمان المتضمّنة لبيان كون الآخرة خيرا من الدنيا ، ولمنّته على رسوله ، وفيه (١) على الانفاق على الفقير ، ووعده بإعطائه ما يرضى به من الدرجات العالية التي يغبطه بها الأولون والآخرون ، والشفاعة التي هي المقام المحمود ، وغيرها من النّعم التي لا تدركها العقول ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالأيمان البالغة بقوله : ﴿وَالضُّحى﴾ وبوقت ارتفاع الشمس وتجلّي النهار ﴿وَاللَّيْلِ إِذا سَجى﴾ وسكن ظلامه ولا يزيد ولا ينقص إلى طلوع الفجر ، وقيل : يعني إذا سكن أهله (٢) ، وقيل : إذا أظلم (٣) . وعن ابن عباس : إذا غطّى الدنيا بالظّلمة (٤) .

قال الفخر الرازي : سورة ﴿وَاللَّيْلِ﴾ سورة أبي بكر ، وسورة ﴿وَالضُّحى﴾ سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما قدّم الله الليل على النهار في سورة أبي بكر ، لأنّ أبا بكر سبقه كفر ، وفي هذه السورة قدّم الضحى لأنّ الرسول ما سبقه كفر ، والإشارة إلى أنّه [ إذا ] ذكرت الليل أولا وهو أبو بكر ، وجدت بعده النهار وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن ذكرت أولا الضحى وهو محمد ، وجدت بعده الليل وهو أبو بكر (٥) .

أقول : على تقدير تسليم كون سورة ﴿وَاللَّيْلِ﴾ سورة أبي بكر ، يحتمل كون النّكتة في تقديم الليل فيها على النهار الإشعار بظهور الظّلمة الظلماء بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الظلمة ينجلي نور ولاية أوصيائه في آخر الزمان ، والنّكتة في تقديم الضحى في هذه السورة على الليل الإشارة إلى ظهور نور

__________________

(١) كذا ، والظاهر : وحثه.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ١٦٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٣.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٧.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٨.

٥١١

محمّد ودينه أولا وظهور الطّحية العمياء بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي التكنية عن أبي بكر بالليل ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنهار والضحى ، على اعترافه ، إشارة إلى أنّ أبا بكر باطنه ضدّ باطن الرسول ، فانّه ظلمة محضة ، كما أنّ الرسول نور محض ، وكما أنّ الرسول أضاء الدنيا بنور علمه وهدايته ، كذلك أظلم أبو بكر الدنيا بظلمة جهله وغوايته.

وقيل : إنّ نكتة تقديم الليل في سورة وتقديم الضحى في سورة الاشارة إلى أنّ لكلّ منهما شرف وفضيلة ، وأنّ بهما ينتظم أمر العالم (١) ، فانّ المراد بالضّحى جميع النهار ، وبالليل جميعه.

وروى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ المراد بالضحى هو الضحى الذي كلّم الله فيه موسى وبالليل (٢) ليلة المعراج » (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالضحى الضحى الذي ألقى فيه السّحرة سجّدا ، حيث قال تعالى : ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(٤) .

﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ

 رَبُّكَ فَتَرْضى (٣) و (٥)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ وما بالغ في تركك بالحطّة عن درجة القرب والكرامة والوحي ﴿وَما قَلى﴾ وما أبغضك (٥) بتركك وروى بعض العامّة ، بل نسب إلى مفسّريهم : أنّه أبطاء [ الوحي ] عليه أربعين ليلة ، فشكا ذلك إلى خديجة ، فقالت : لعلّ ربّك نسيك أو قلاك (٦) .

وروى بعضهم : أنّ مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة وسألوهم عن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت لهم اليهود : سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن قصّة ذي القرنين ، وعن الرّوح ، فان أخبركم عن قصّة أهل الكهف ، وقصّة ذي القرنين ، ولم يخبركم عن أمر الروح ، فاعلموا أنّه صادق. فجاءه المشركون سألوه عنها ، فقال : إرجعوا سأخبركم غدا » ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس الوحي عنه ، فقال المشركون : إنّ محمدا ودّعه ربّه وقلاه (٧) ، فنزلت السورة.

وروى بعضهم ، أنّ جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير ومات ، فمكث نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أياما لا ينزل عليه الوحي ، فقال لخادمته : « يا خولة ، ما حدث في بيتي ، إنّ جبرئيل لا يأتيني » قالت خولة : فكشفت

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٧.

(٢) في النسخة : وبالليلة.

(٣) تفسير أبي السعود ٩ : ١٦٩.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٢ ، والآية من سورة طه : ٢٠ / ٥٩.

(٥) زاد في النسخة : كي.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠٩.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٤.

٥١٢

البيت ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فاذا جرو ميت ، فأخذته والقيته خلف الجدار ، فجاء نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرتعد ، وكان إذا انزل الوحي استقبلته الرّعدة ، فقال : « يا خولة ، دثّريني ، فأنزل الله هذه السورة ، فلمّا نزل جبرئيل سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبب تأخيره ، فقال : أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كذب ولا صورة » (١) .

وعن القمي ، عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ جبرئيل أبطأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت أول سورة نزلت ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(٢) ثمّ أبطأ عليه فقالت خديجة : لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ﴾» (٣) فليس الأمر كما قالوه ، بل الوحي يأتيك مدّة عمرك ، وتدوم محبّتي لك في الدنيا والآخرة.

﴿وَلَلْآخِرَةُ﴾ الباقية الصافية عن شوائب المضارّ والهموم والآلام ، وما أعددته لك فيها من النّعم والشّرف والكرامات ﴿خَيْرٌ لَكَ﴾ وأفضل ﴿مِنَ الْأُولى﴾ والدنيا الفانية الزائلة. وعن الصادق قال : « يعني الكرّة » (٤) .

﴿وَ﴾ والله ﴿لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ وعن قريب يتمّ نعمه الجسمانية والروحانية والظاهرية والباطنية والدنيوية والاخروية عليك ﴿فَتَرْضى﴾ غاية الرضا بعطاء ربّك وإفضاله.

قيل : لمّا قال سبحانه ﴿لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى﴾ كأنّه قيل : ما جهة خيريّتها ؟ قال سبحانه : إنّ الله يعطيه في الآخرة كلّ ما يريده ممّا لا تتّسع الدنيا له (٥) .

عن ابن عباس ، أنّه قال : ألف قصر في الجنّة من لؤلؤ أبيض ، ترابه المسك ، وفيها ما يليق [ بها](٦) .

عن الصادق عليه‌السلام : « يعطيك من الجنّة ما ترضى » (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على فاطمة عليها‌السلام وعليها كساء من ثلّة (٨) الإبل وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله لمّا أبصرها ، فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل الله عليّ ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ﴾» (٩) .

وفي رواية : قالت : « يا رسول الله ، الحمد لله على نعمائه ، والشكر على آلائه ، فأنزل الله ﴿وَلَسَوْفَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٤.

(٢) العلق : ٩٦ / ١.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٠.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٢.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٢.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٠.

(٨) الثّلّة : الصوف.

(٩) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٠.

٥١٣

يُعْطِيكَ ﴾ » (١) الآية.

وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ هذا هو الشفاعة في الامة » (٢) وروي أيضا عن ابن عباس (٣) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزلت هذه الآية قال : « إذا لا أرضى وواحد من امّتي في النار » (٤) .

وروى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « رضا جدي أن لا يدخل في النار موحّد » (٥).

ورووا عن الباقر عليه‌السلام : « أهل القرآن يقولون : أرجى آية في كتاب الله ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ(٦) وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ والله إنّها الشفاعة ، ليعطاها في أهل لا إله إلّا الله حتّى يقول : رضيت » (٧) .

وعن محمد بن الحنفية أنّه قال : يا أهل العراق ، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب الله ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ وإنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ...

الآية ، هي والله الشفاعة ، ليعطينّها في أهل لا إله إلّا الله حتى يقول : رضيت » (٨) .

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٦ و) (٨)

ثمّ قرّر سبحانه حبّه إياه بتعداد نعمه السابقة عليه بقوله : ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ﴾ ربّك يا محمد ، ولم يعلمك في بدو ولادتك من امّك ﴿يَتِيماً﴾ وصغيرا منقطعا عن أبيك بموته ﴿فَآوى﴾ وكفلك عبد المطلب وأبا طالب في الأثر ، إنّ عبد الله بن عبد المطلب توفّي بالمدينة وامّ رسول الله حامل به ، ثمّ ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان مع جدّه عبد المطلب وامّه آمنه ستّ سنين ، ثمّ ماتت امّه فكان عند جدّه سنتين ، فلمّا قربت وفاة جدّه عبد المطلب أوصى به أبا طالب وهو ابن ثمان سنين ، وإنّما أوصاه به لأنّ أبا طالب وعبد الله كانا من امّ واحدة ، فكان أبو طالب يكفل رسول الله بعد جدّه إلى أن بعثه الله فقام بنصرته إلى حين وفاته ، فلم يظهر على رسول الله يتم ، فكان هذا نعمة عظيمة من الله عليه (٩) .

روي انه قال أبو طالب يوما لأخيه العبا : ألا اخبرك بما رأيت من محمد ؟ فقال : بلى. فقال : إنّي ضممته إليّ ، فكنت لا افارقه ساعة من ليل أو نهار ، ولا ائتمن عليه أحد حتى أنّي كنت انوّمه في فراشي ، فأمرته أن يخلع ثيابه وينام معي ، فرأيت الكراهة في وجهه ، لاكنّه كره أن يخالفني ، فقال : « يا عمّاه ، اصرف وجهك عنّي حتّى أخلع ثيابي ، إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي » فتعجّبت من

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٤٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١.

(٢- ٥) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٢.

(٦) الزمر : ٣٩ / ٥٣.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٢.

(٨) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٥ ، جوامع الجامع : ٥٤٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١.

(٩) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٤.

٥١٤

قوله ، وصرفت بصري حتى دخل الفراش ، فلمّا دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب ، والله ما أدخلته فراشي ، فاذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة ، كأنّه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده ، فما كنت أرى شيئا ، وكثيرا ما كنت افتقده من فراشي ، فاذا قمت لطلبه ناداني : « [ ها ] أنا يا عمّ » فأرجع ، ولقد كنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني ، وذلك عند مضيّ بعض الليل ، وكنّا لا نسمّي على الطعام والشراب ، ولا نحمد بعده ، وكان يقول في أوّل الطعام : بسم الله الأحد ، فاذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله ، فتعجّبت منه ، ثمّ لم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ، ولا وقف مع صبيان يلعبون(١) .

سئل الصادق عليه‌السلام : لم أوتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أبويه ؟ فقال : « لأن لا يكون لمخلوق عليه حقّ » (٢) .

أقول : يعني الحقّ العظيم الذي يكون تالي حقّ الله.

وقيل : إنّ المراد باليتيم الفريد في الفضل والعزّ عديم النظير في قريش ، أو في البشر ، فآواك وجعل لك من تأوى إليه وهو أبو طالب.

وفي ( الكشاف ) : ومن بدائع التفسير أنّه من قوله : درّة يتيمة ، والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير ، أي في العزّ والشرف ، فآواك في دار أعدائك ، فكنت بين القوم معصوما محروسا(٣).

وعن العياشي عن الرضا عليه‌السلام : « ﴿ يَتِيماً﴾ فردا لا مثل لك في المخلوقين ﴿فَآوى﴾ الناس إليك » (٤) .

وفي ( العيون ) عنه ما يقرب منه (٥) .

﴿وَوَجَدَكَ﴾ ورأك ﴿ضَالًّا﴾ عن معالم النبوة وأحكام الشريعة ، غافلا عنها ﴿فَهَدى﴾ إليها ، كما عن ابن عباس (٦) .

وقيل : يعني ضالا عن النبوة ، يعني ما كنت تطمعها فهداك الله إليها (٧) .

وقيل : يعني وجدك خاليا عن العلم والمعارف في بدو خلقتك ، فهداك بأن أعطاك العقل الكامل والمعرفة الكاملة (٨) .

وقيل : يعني وجدك راغبا إلى فعال الجاهلية فهداك وحال بينك وبينها (٩) .

روي عن علي عليه‌السلام أنّه قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما هممت بشيء ممّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٤.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.

(٣) الكشاف ٤ : ٧٦٧ « نحوه » ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٧.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٩ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٥ و٢١٦.

(٧و٨) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٥ و٢١٦.

(٩) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٧.

٥١٥

مرتين ، كلّ ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك ، ثمّ ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته » (١) .

أقول : المذهب الذي عليه أهل الحقّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم من الهمّ بالمعصية من أوّل عمره إلّا أن يحمل السوء في الرواية على ترك الاولى.

وقيل : إنّ العرب تسمّي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة ، والمعني وجدك في تلك البلاد كشجرة في مفازة الجهل ، لا يحمل ثمرة الايمان إلا أنت ، فهديت بك الخلق (٢) .

وقيل : يعني وجدك ضالا ومنفردا عن الضالين مجانبا لدينهم ، فهديك إلى معاشرتهم ، ودعوتهم إلى الدين المبين (٣) .

وقيل : وجدك ضالا عن مرضعتك حليمة حين أرادت أن تردّك إلى جدّك ، فدخلت على هبل فشكت إليه فتساقطت الأصنام ، وسمعت صوتا يقول : إنّما هلاكنا بيد هذا الصبي (٤) .

وروي أنّه عليه‌السلام قال : « ضللت عن جدّي عبد المطلب وأنا صبيّ ضائع ، كاد الجوع يقتلني ، فتعلّق باستار الكعبة وهو يقول :

يا ربّ ، ردّ ولدي محمدا

[ اردده ربي واصطنع عندي يدا ]

فما زال يردّد هذا عند البيت حتّى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمّد بين يديه ، وهو يقول : لا تدري ما ذا ترى من ابنك ؟ فقال عبد المطلب : ولم ؟ قال : إنّي أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلمّا أركبته أمامي قامت الناقة » (٥) .

وعن ابن عباس أنّه قال : ردّه الله إلى جدّه بيد عدوّه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه(٦) .

وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج مع غلام خديجة ، فأخذ كافر بزمام بعيره حتى ضلّ ، فأنزل الله تعالى جبرئيل في صورة آدمي فهداه إلى القافلة (٧) .

وقيل : إنّ أبا طالب خرج به إلى الشام ، فضلّ عن الطريق ، فهداه الله إليه (٨) .

وقيل : يعني وجدك ضالا ومغمورا في الكفّار ، فقواك الله حتّى أظهرت دينك (٩) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « ووجدك ضالا في قوم لا يعرفون فضل نبوتك فهداهم الله بك » (١٠) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يعني عند قومك ﴿فَهَدى﴾ أي هداهم إلى معرفتك » (١١) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٧.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٦.

(٤-٩) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٦.

(١٠) تفسير القمي ٢ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١ ، ولم ينسباه إلى الإمام الرضا عليه‌السلام.

(١١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٠ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤١.

٥١٦

﴿وَوَجَدَكَ﴾ ورآك ﴿عائِلاً﴾ وفقيرا وعديما لا مال لك ﴿فَأَغْنى﴾ ك بتربية أبي طالب ، ثمّ بمال خديجة ، ثمّ باعانة الأنصار ، ثمّ بالغنائم.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل على خديجة وهو مضموم ، فقالت له : مالك ؟ فقال : « الزمان زمان قحط ، فان أنا بذلت المال ينفد مالك فأستحي منك ، وإن لم أبذل أخاف الله تعالى » فدعت خديجة قريشا وفيهم أبو بكر ، قال أبو بكر : فأخرجت خديجة دنانير وصبّتها حتّى بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدّامي لكثرة المال ، ثمّ قالت : اشهدوا أنّ هذا المال مال محمد ، إن شاء فرّقه ، وإن شاء أمسكه (١) .

وقيل : يعني أغني قلبه بالقناعة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الغني غنى النفس » (٢) . وعن الرضا عليه‌السلام : ﴿وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى﴾ يقول بأن جعل دعاءك مستجابا » (٣) .

وعن القمي : يعني فأغناك بالوحي ، فلا تسأل عن شيء أحدا (٤) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم ، فأغناهم الله بك » (٥) .

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

 فَحَدِّثْ (٩) و (١١)

ثمّ لمّا منّ سبحانه على رسوله بإيوائه ورعاية حاله في اليتم ، أمره بشكر تلك النعمة بقوله : ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ ولا تضجره بكلام تكسر قلبه ، وعامل معه كما عاملت معك.

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ﴾ سواء سأل المال أو العلم أو غيرهما ﴿فَلا تَنْهَرْ﴾ ولا تستقبله بكلام يضجره.

وعن القمي رحمه‌الله قال : فلا تطرده (٦) ، قيل : المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعنى للناس (٧) .

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ من الغنى والنبوة والهداية أو الكتاب ﴿فَحَدِّثْ﴾ وأظهرها بين الناس.

عن الصادق عليه‌السلام : « معناه فحدّث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك » (٨).

وعن الحسين بن علي عليهما‌السلام : « أمره أن يحدّث بما أنعم الله عليه من دينه » (٩) .

وقيل : يعني إذا وفّقك الله لرعاية حقّ اليتيم والسائل ، فحدّث بذلك التوفيق الذي هو نعمة الله عليك ليقتدي الناس بك (١٠) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢١٨.  (٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٥٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٠ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.  (٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.   (٦) في المصدر وتفسير الصافي : أي لا تظلم.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.   (٨) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.

(٩) المحاسن : ٢١٨ / ١١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.  (١٠) تفسير الرازي ٣١ : ٢٢٠.

٥١٧

روى بعض العامة عن الحسين بن علي عليهما‌السلام أنّه قال : « إذا عملت خيرا فحدّث إخوانك ليقتدوا بك » (١) .

ورووا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن الصحابة ، فأثنى عليهم وذكر خصاله ، فقالوا له : فحدّثنا عن نفسك. فقال : « مهلا ، فقد نهى الله عن التزكية » فقيل له : أ ليس الله تعالى يقول : ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ؟﴾ فقال : « فإني احدّث : كنت إذا سألت اعطيت ، وإذا سكتّ ابتدئت ، وبين الجوانح علم جمّ فاسألوني » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا أنعم الله على عبده بنعمة وظهرت عليه سمّي حبيب الله محدثا بنعمة الله ، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض الله مكذبا بنعمة الله » (٣) .

قيل : إنّما قدّم الله حقّ اليتيم والفقير على حقّ نفسه للإشعار بأنّه غنيّ ، واليتيم والفقير محتاجان ، فإذا كان كذلك فتقديم المحتاج اولى ، وإنّما قال : ﴿فَحَدِّثْ﴾ ولم يقل : فأخبر ، لدلالة الحديث على الإعادة مرّة بعد اخرى لئلا ينساه (٤) .

قد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة ، والحمد لله على التوفيق لتفسيرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢٢٠.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٢٢٠.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٢.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ٢٢٠.

٥١٨

في تفسير سورة الشرح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة ﴿وَالضُّحى﴾ المتضمّنة لبيان منّته تعالى على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظمت سورة الانشراح المتضمّنة أيضا لبيان بعض منّته الاخرى ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه في تعديد بعض نعمه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ ولم نوسّع ﴿لَكَ﴾ يا محمد ﴿صَدْرَكَ﴾ ولم نفسح قلبك للعلم والحكمة وتلقّي الوحي ؟ بلى وسّعناه بحيث صار خزانة علمي ، ومحيطا بعوالم الملك والملكوت ، ومطّلعا على أسرار السماوات والأرض.

روي أن جبرئيل أتاه وشقّ صدره ، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه ، ثمّ ملأه علما وإيمانا ووضعه في صدره (١) .

أقول : لعلّ غسل قلبه وإنقاءه كناية عن تقويته لتحمّل ما فوق طاقة البشر من العلوم والأسرار والمعارف ، وتطهيره عن الميل إلى غير الله ، والتوجه إلى الراحة واللذائذ الدنيوية وقبول الأهواء الرائعة النفسانية. وقد أشار سبحانه إلى مرتبة منه بقوله : ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً(٢) .

وقد سبق في تفسير الآية وأنّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قيل له : أينشرح الصدر ؟ قال : « نعم » قالوا : يا رسول الله ، وهل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال : « نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإعداد للموت قبل نزوله » (٣) .

أقول : فمن كان قلبه متوجّها إلى الله معرضا عن غيره لعلمه بحقارة الممكنات وعظمة خالقها ، صار منزّها عن كلّ دنس مطهّرا عن كلّ رجس ، منوّرا بأنوار المعارف ، ومملوءا بالعلم والحكمة.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٢.

(٢) الأنعام : ٦ / ١٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٣.

٥١٩

﴿وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٢) و (٤)

ثمّ منّ سبحانه عليه بتخفيف أعباء الرسالة بقوله : ﴿وَوَضَعْنا﴾ وحططنا ﴿عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ وثقلك ﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ قيل : إنّ الحمل إذا كان في غاية الثقل سمع للظهر صوت خفيّ يقال له النقيض (١) . فوصف الثّقل بكونه منقضا ، كناية عن كونه في غاية الثّقل ، وليس هو إلّا ثقل أعباء الرسالة ، وقد خفّفه الله عليه بتقوية قلبه ، وإمدادا بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام والملائكة المسوّمين.

وقيل : إنّ المراد بالوزر وذنوب امّته ، والمراد بوضعها وعده بقبول شفاعته فيهم حتّى يرضى (٢) .

قيل : إنّ عطف ﴿وَوَضَعْنا﴾ على معنى ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ والمعنى : إنّا شرحنا لك صدرك ، وإنّا وضعنا عنك وزرك (٣) .

﴿وَ﴾ إنا ﴿رَفَعْنا﴾ وعلونا ﴿لَكَ ذِكْرَكَ﴾ بحيث تذكر إذا ذكرت ، كما عن القمّي (٤) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « قال : لي جبرئيل : قال الله عزوجل : إذا ذكرت ذكرت معي » (٥) .

وقيل : إنّه تعالى رفع ذكره (٦) بالنبوة ، وشهر اسمه في السماوات والأرضين ، وكتبه على العرش ، وفي الكتب السماوية المتقدّمة ، وقرن ذكره بذكره في القرآن حيث قال : ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(٧) وقال : ﴿وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ(٨) إلى غير ذلك (٩) .

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) و (٦)

ثمّ لمّا كان المشركون يعيرّونه بالفقر حتّى وقع في قلبه أنّ فقره مانع عن إسلام المتكبّرين ، سلبه سبحانه بقوله : ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ﴾ والضيق الذي أنت فيه ﴿يُسْراً﴾ وسعة كاملة في الدنيا ، فلا تحزن بالفقر الذي يطعنك به الكفره ، كذا قيل (١٠) .

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته بتكرار القضية تأكيدا بقوله : ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ قال الفرّاء والزجاج : إنّ العسر المعرف بأل منصرف إلى الجنس لعدم العهد وهو حقيقة واحدة ، وأمّا كلمة ﴿يُسْراً﴾ لمّا كان منكرا قابلة لإرادة نوعين منه ، كما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « لن يغلب عسر يسرين » (١١).

وعن ابن عباس أنّه قال : يقول الله ، خلقت عسرا واحدا بين يسرين ، فلن يغلب عسر يسرين(١٢) .

قيل : إنّ تنكير اليسر دالّ على عظمته ، كأنّه قال : [ إنّ ] مع العسر يسرا عظيما (١٣) ، والمراد بالمعية مع كونهما ضدّين التعاقب بغير فصل ، أو مع الفصل بزمان قليل.

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٤.

(٣) تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٣.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٧١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٣.

(٦) في النسخة : ذكرنا.

(٧) النساء : ٤ / ٥٩.

(٨) التوبة : ٩ / ٦٢.

(٩) تفسير الرازي ٣٢ : ٥.

(١٠- ١٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٦.

٥٢٠