نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

﴿لاغِيَةً﴾ لا فائدة فيها ولا اعتداد بها ، إذ هي ما تؤذي السمع ﴿فِيها عَيْنٌ﴾ كثيرة مياهها ﴿جارِيَةٌ﴾ دائما. قيل : هي أشدّ بياضا من الّبن ، وأحلى من العسل ، من شرب منها لا يظما بعدها أبدا (١) ﴿فِيها سُرُرٌ﴾ ألواحها - كما عن ابن عباس - من ذهب مكلّلة بالدرّ والياقوت والزّبرجد (٢)﴿مَرْفُوعَةٌ﴾ السّمك عالية في الهواء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام (٣) .

قيل : إذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطامنت له ، فاذا استوى عليها ارتفعت (٤) ، فيرى جميع ما أعطاه ربّه في الجنّة من النّعم الكثيرة والملك العظيم.

﴿وَ﴾ فيها ﴿أَكْوابٌ﴾ وأواني لا عرى لها ﴿مَوْضُوعَةٌ﴾ بين أيدي المؤمنين يشربون منها ، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها ، ولا ينافي أن يكون بعض أواني الشّرب بيد الغلمان ﴿وَ﴾ فيها ﴿نَمارِقُ﴾ ووسائد ﴿مَصْفُوفَةٌ﴾ بعضها إلى جنب بعض ، كما تشاهد في بيوت الأكابر ، يستندون إليها للاستراحة ﴿وَ﴾ فيها ﴿زَرابِيُ﴾ وبسط فاخرة ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾ ومبسوطة على السّرر زينة وتمتّعا أو مفرّقة في المجالس.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « [ لو لا ] أنّ الله قدّرها لا لتمعت (٥) أبصارهم بما يرون » (٦) .

﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى

 الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (١٧) و (٢٠)

ثمّ لمّا كان حسن حال المؤمنين موقوفا على معرفة الله والايمان بالمعاد ، أمر الناس بالتفكّر في صنائعه العجيبة ، ليستدلّو بها على كمال قدرته وحكمته المستلزمين لتوحيده وإعادة الخلق للجزاء على الأعمال بقوله : ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ﴾ ولا يتفكّرون أنّها ﴿كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ قيل : إنّ التقدير : أينكرون ما ذكر من البعث ويستبعدون وقوعه عن قدرة الله ؟ ! أفلا ينظرون نظر الاعتبار إلى الإبل التي نصب أعينهم ، يستعملونها كلّ حين ، أنّها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق سائر الحيوانات في عظم جثّتها ، وشدّة قوّتها ، وعجيب هيئتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقّة ، كالنهوض من الأرض بالأوقار الثقيلة ، وجرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة ، وفي صبرها على الجوع والعطش ، حتى أن ظمأها يبلغ العشر فصاعدا ، واكتعائها باليسير ، ورعيها لكلّ ما يتيسر من شوك وشجر ، وغير ذلك ممّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم ، وفي انقيادها مع ذلك للانسان في الحركة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٥.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٥.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٥.

(٥) في النسخة : لتمتعت.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٧٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٢.

٤٨١

والسكون والبروك والنهوض ، حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كلّ صغير وكبير ، كما قال أبو السعود (١) .

وتبول من خلفها ، لأنّ قائدها أمامها ، فلا يترشّش عليه بولها ، وعنقها سلّم إليها ، وتتأثر من المودّة والغرام وتسكر منهما إلى حيث تنقطع من الأكل والشرب زمانا ممتدّا ، وتتأثّر من الأصوات الحسنة والحداء ، وتصير من كمال التأثّر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري ، ويجري الدمع من عينها عشقا وغراما ، هذا مع مالها من المنافع من جهة وبرها ولحمها ولبنها وبولها وروثها ، والجمال الذي يكون فيها ، ولمّا كان العرب أعرف من سائر الناس بها ، أمرهم بالتفكّر فيها ، والاستدلال بعجيب خلقتها على صانعها وحكمته الموجبة للبعث.

قيل : لمّا كانت مسافرة الأعراب على الإبل منفردين (٢) وكان مجال التفكّر في الخلوة التي لا شاغل فيها ، وهي لهم على ظهر الإبل ، وهم حينئذ لا يرون إلّا الإبل والسماء والأرض والجبال ، أمرهم أولا بالتفكّر في خلق الإبل (٣) ، ثمّ في السماء بقوله : ﴿وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ مع عظمها رفعا بعيدا بلا عمد ﴿وَإِلَى الْجِبالِ﴾ العظام ﴿كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ على الأرض نصبا ثابتا لا تسيل ولا تزول أوتادا لها ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ﴾ البسيطة ﴿كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ وبسطت كالأديم للضرب فيها والتقلّب عليها ، فمن تفكّر في هذه الأشياء علم بكمال قدرة خالقها وحكمته وتوحيده ، وتيقّن بوقوع ما وعده من البعث الذي هو موافق للحكمة البالغة.

﴿فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ

 اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢١) و (٢٦)

فلمّا شرحنا الدلائل القاطعة على التوحيد والبعث ﴿فَذَكِّرْ﴾ يا محمد قومك ، وأمرهم بالنظر والتفكّر والايمان ، وحذّرهم عن تركها ، وليس عليك أن يتذكّروا أو لا يتفكّروا ﴿إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ ومبعوث إلى الناس للتبليغ والتذكير ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من قبل ربّك ﴿بِمُصَيْطِرٍ﴾ ومسلّط حتى تقتلهم أو تكرههم على النظر والايمان ﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى﴾ وأعرض عنك وعن تذكارك ﴿وَكَفَرَ﴾ وأصرّ على عنادك.

قيل : إنّ التقدير فذكّر قومك إلّا من تولّى وكفر منهم فانّه ليس عليك تذكيره لعدم الفائدة فيه(٤).

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٩ : ١٥٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٦.

(٢) في النسخة : منفردا.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٧.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٨.

٤٨٢

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع (١) ، والمعنى : ولكن من تولّى وكفر (٢) ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللهُ﴾ يوم القيامة ﴿الْعَذابَ الْأَكْبَرَ﴾ في نار جهنّم التي حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، ومقامعها حديد ، فانّه تعالى قاهر ومسيطر عليهم. واعلم أنّهم لا يفوتوننا ولا يخرجون من ملكنا ومن تحت قدرتنا ﴿إِنَّ إِلَيْنا﴾ بعد الموت ﴿إِيابَهُمْ﴾ ورجوعهم من الدنيا لا إلى غيرنا. ﴿ثُمَ﴾ بعد رجوعهم إلينا ﴿إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ في المحشر نحاسبهم على النّقير والقطمير من عقائدهم وأعمالهم ، وفيه تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن الباقر عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين لفصل القضاء ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيكسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب ، ويكسى عليّ مثلها ، ويكسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلّة وردية يضيء لها ما بين المشرق والمغرب ، ويكسى عليّ عليه‌السلام مثلها ، ثمّ يصعدان عندها ، ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس ، فنحن والله ندخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام قال : « إلينا إياب الخلق ، وعلينا حسابهم ، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله حتمنا على الله في تركه لنا فأجابنا إلى ذلك ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم وأجابوا إلى ذلك وعوّضهم الله عزوجل » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا كان يوم القيامة وكّلنا الله بحساب شيعتنا ، فما كان لله سألنا الله أن يهبه لنا فهو لهم ، وما كان لنا فهو لهم » (٥) .

عن الصادق : « من أدمن قراءة ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ﴾ في فريضة أو نافلة ، غشّاه الله برحمته في الدنيا ، آتاه الأمن من عذاب النار » (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٨.

(٣) الكافي ٩ : ١٥٩ / ١٥٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٣.

(٤) الكافي ٨ : ١٦٢ / ١٦٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٣.

(٥) أمالى الطوسي : ٤٠٦ / ٩١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٣.

(٦) ثواب الأعمال : ١٢٢ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٣.

٤٨٣
٤٨٤

في تفسير سورة الفجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ فِي ذلِكَ

 قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (١) و (٥)

ثمّ لمّا ختمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة وشدّة عذاب الكفّار فيه ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتذكير الناس وعدم تذكّر المصرّين على الكفر ، ووعيدهم بالعذاب الأكبر ، وإيابهم في القيامة إليه نظمت سورة الفجر المتضمّنة لوعيد الكفّار بما نزل على الامم السابقة من العذاب الدنيوي ، وتذكّرهم في يوم لا ينفعهم التذكّر فيه ، وإرعاب قلوبهم ببيان بعض أهوال القيامة ، وبيان إياب النفوس المطمئنّة إليه ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالقسم بما فيه كمال الشرف لدلالته على كمال قدرته جريا على عادة العرب على ما قيل من إكثار القسم على مقاصدهم (١) بقوله : ﴿وَالْفَجْرِ﴾ وطلوع نور الشمس من افق المشرق المسمّى بالصبح الصادق ، كما عن ابن عباس (٢) ، قبالا للكاذب ، وهو ظهور بياض مستطيل بالافق كذنب السّرحان ، فانّ بطلوع الصبح الصادق انقضاء الليل ، وظهور الضوء ، وانتشار الناس والحيوانات في طلب الرزق ، كنشور الموتى في القيامة للحساب وجزاء الأعمال.

وقيل : إن المراد جميع النهار (٣) . وقيل : إنّ المراد صلاة الفجر ؛ لأنّها في أوّل النهار ، وفي مشهد ملائكة الليل والنهار (٤) . وقيل : فجر يوم النّحر (٥) الذي هو يوم عظيم عند الله وعند العرب. وقيل : إنّ المراد به فجر أول المحرّم الذي قيل إنّه أعظم الشهور عند الله ، وعن ابن عباس ، قال : فجر السّنة هو محرّم (٦) .

وقيل : عنى به العيون التي ينفجر منها المياه ، وفيها حياة الخلق (٧) . وقيل : إنّه فجر ذي الحجّة لقوله تعالى بعده : ﴿وَلَيالٍ عَشْرٍ(٨) من ذي الحجّة ، فإنّها ليال مخصوصة بفضائل لا تكون في غيرها ، كما دلّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٠.

(٢- ٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٦١.

(٦- ٨) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢.

٤٨٥

عليه تنكيرها.

وفي الخبر : ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر (١) .

وفي الحديث : « ما من أيّام أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير عمل في عشر الأضحى » قيل : يا رسول الله ، ولا المجاهد في سبيل الله ؟ [ قال : « لا ولا المجاهد في سبيل الله ] إلّا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء » (٢) .

وقيل : إنّها العشر الأول من المحرّم (٣) ، وقيل : إنّها العشر الاخر من شهر رمضان (٤) . روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل العشر الاخر من رمضان شدّ المئزر وأيقظ أهله (٥) .

﴿وَالشَّفْعِ﴾ والزوج من الصلوات ﴿وَالْوَتْرِ﴾ والفرد منها. عن عمران بن الحصين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « هي الصلوات ، منها شفع ، ومنها وتر » قيل : لأنّ الصلاة تالية القرآن » (٦) .

وعن القمّي قال : الشفع ركعتان ، والوتر ركعة (٧) . أقول : الظاهر أنّ المراد ثلاث ركعات بعد نوافل الليل.

وقيل : الشّفع : سجدتان ، والوتر : الركوع (٨) .

وقيل : الشفع : يوم النحر ، والوتر : يوم عرفة (٩) . وقيل : الشفع : يومان بعد يوم النحر ، والوتر : اليوم الثالث (١٠) . وعنهما عليهما‌السلام : « الشفع [ يوم التروية ، والوتر ] يوم عرفة » (١١) .

وقيل : الشّفع : جميع الممكنات لأنّها زوج تركيبي ، والوتر : الواجب الوجود (١٢) .

وقيل : الشّفع : آدم وحوّاء ، والوتر : هو الله تعالى (١٣) .

وقيل : إن شيئا من المخلوقات لا ينفكّ عن كونه زوجا أو فردا ، فأقسم سبحانه بجميع الموجودات (١٤) .

وقيل : الشّفع : أبواب الجنّة أو درجاتها ، وهي ثمانية ، والوتر : أبواب النار ودركاتها ، وهي سبعة(١٥) .

وعن مقاتل الشّفع : هو الأيام التي لها ليال ، والوتر : اليوم الذي لا ليل له ، وهو يوم القيامة (١٦) . وقيل وجوه اخر كلّها على الظاهر من التفسير بالرأي.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢.     (٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٠.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢.     (٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٠.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢ ، وفي النسخة : والقيظ.      (٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٣ ، وفيه : تالية للايمان.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤١٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٤.    (٨) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٤.

(٩ و١٠) .تفسير الرازي ٣١ : ١٦٢.

(١١) مجمع البيان ١٠ : ٧٣٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٤.

(١٢- ١٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٣.

(١٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٤.

(١٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٣.

٤٨٦

﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ﴾ ويمضي وينقضي. وقيل : يعني إذا جاء وأقبل (١) ، وعن القمي : هو ليلة جمع (٢) .

ثمّ أظهر سبحانه فخامة هذه الأشياء التي أقسم بها بقوله : ﴿هَلْ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من الأشياء الجليلة الحقيقة بالإعظام ﴿قَسَمٌ﴾ معتدّ به موجب للاعتماد عليه ﴿لِذِي حِجْرٍ﴾ وصاحب عقل منوّر وفكر صائب وإدراك قويّ ، والمقسم عليه مقدّر معلوم وهو : ليعذّبن الكفّار.

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي

 الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (٦) و (١٠)

ثمّ استشهد سبحانه بما فعل بالامم المكذّبة بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد حينما كنت في عالم الأشباح مطّلعا على الوقائع في العالم ، أو المعنى : ألم تعلم بالوحي ﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ﴾ قوم هود ، وبأيّ عذاب شديد عذّبهم ؟ أعني من عاد ؟ ﴿إِرَمَ﴾ قيل : إنّه اسم لعاد الاولى ، سمّوا باسم جدّهم ، وهو إرم بن سام بن نوح (٣) . والتقدير : سبط إرم ، أو أهل إرم ، على ما قيل (٤) ، من أنّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا يسكنونها ، وهي على ما قيل بين عمان وحضر موت (٥) ، وعلى أي تقدير كانوا قبيلة.

﴿ذاتِ الْعِمادِ﴾ وقدود طوال تشبيها لقاماتهم بالأعمدة والأساطين ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ﴾ نظير تلك القبيلة و﴿مِثْلُها﴾ في القوّة وعظم الجسم وطول القامة ﴿فِي الْبِلادِ﴾ التي على وجه الأرض.

وقيل : إنّ الوصفين لمدينتهم التي بناها شدّاد بن عاد (٦) ، وقد وصفوها بأوصاف تقرع الأسماع. روي أنّ لعاد ابنين : شديد ، وشدّاد ، فملكا وقهرا ، ثمّ مات شديد ، وخلص الأمر لشدّاد ، فملك جميع الدنيا ، ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنّة فقال : أبني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة ، قصورها من الذهب والفضّة ، وأساطينها من الزّبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، فلمّا ثمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا (٧) ، ثمّ غاب البلد عن أعين الناس جميعا.

﴿وَثَمُودَ﴾ وهم قوم صالح ﴿الَّذِينَ جابُوا﴾ وقطعوا ﴿الصَّخْرَ﴾ والحجر الشديد الصلابة بقوتهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤١٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٤ ، وجمع : هو المزدلفة ، سمّي جمعا لاجتماع الناس فيه.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٢ و٤٢٣.

(٤- ٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٣.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٧ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٥٤.

٤٨٧

﴿بِالْوادِ﴾ والمنفرج بين الجبلين. قيل : هو وادي القرى بالقرب من المدينة من جهة الشام (١) .

عن ابن عباس : أنّهم كانوا يجعلون من الصخور بيوتا وأحواضا وما أرادوا من الأبنية (٢) .

قيل : أول من تحت الجبال والصخور والرّخام ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلّها من الحجارة(٣) .

﴿وَ﴾ ألم تر كيف عذّب الله ﴿فِرْعَوْنَ﴾ ملك مصر ، وكان ملقّبا بلقب ﴿ذِي الْأَوْتادِ﴾ وقيل : لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم ويربطونها بالأوتاد (٤) .

وعن ابن عباس : أنّ فرعون إنّما سمّي ذي الأوتاد لأنّ امرأة خازنة كانت ماشطة بنت فرعون ، إذ سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله تعالى : فقالت ابنة فرعون : وهل لك إله غير أبي ؟ فقالت : إلهي وإله أبيك واله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال : ما يبكيك ؟ قالت : إنّ الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت. فقال لها : ويحك اكفري بإلهك. قالت : لا أفعل ، فمدّها بين أربعة أوتاد ، ثمّ أرسل إليها الحيات والعقارب ، وقال : اكفري بالله وإلّا عذّبتك بهذا العذاب شهرين. فقالت : لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت به. وكانت لها بنتان ، فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها ، وقال لها : اكفري بإلهك وإلّا ذبحت الصغرى على فيك أيضا ، وكانت رضيعة ، فقالت : لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله. فأتى بابنتها ، فلمّا اضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت ، وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا ، وقالت : يا امّاه لا تجزعي ، فانّ الله قد بنى لك بيتا في الجنة ، اصبري فانّك تفيضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته. فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله في جوار رحمته (٥) .

﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ

 عَذابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١١) و (١٤)

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب بقوله : اولئك الطوائف والامم ﴿الَّذِينَ طَغَوْا﴾ على الله ﴿فِي الْبِلادِ﴾ فانّ عاد طغوا في بلاد اليمن ، وثمود في بلاد الشام ، وفرعون في بلاد مصر ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ﴾ بالكفر والعصيان والظلم على العباد ﴿فَصَبَ﴾ الله وأراق ﴿عَلَيْهِمْ﴾ من فوقهم ﴿رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ﴾ شديد ، وإنّما عبّر عن عذابهم بالسوط تنبيها على أنّ نسبته إلى عذاب الآخرة كنسبة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٥.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٧.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٦٧.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٥.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٥.

٤٨٨

السوط إلى السيف.

وقيل : لمّا كان الضرب بالسوط عند العرب أشدّ العذاب عبّروا عن العذاب بالسوط ، والتعبير عن إنزاله بالصبّ للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره (١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مراقب لأعمال عباده بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَبِالْمِرْصادِ﴾ وفي المكان الذي تترقّب فيه السائلة ليظفر بالجائي ولأخذ المقصّر بحيث لا يفوته أحد ، فيعاقب قومك على طغيانهم وعصيانهم كما عاقب غيرهم من الامم المكذّبة للرسل.

﴿فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذا مَا

 ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ * كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا

 تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٥) و (١٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كونه مراقبا لأعمال العباد ومجازاتهم ، بيّن عدم اعتناء الانسان بذلك ، لانهماكه بلذائذ الدنيا بقوله : ﴿فَأَمَّا الْإِنْسانُ﴾ فهو غافل عن ذلك ولذا ﴿إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ وامتحنه ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾ بالجاه والثروة ﴿وَنَعَّمَهُ﴾ ووسّع عليه في رزقه ، ليظهر أنّه شاكر أو كافر ﴿فَيَقُولُ﴾ مفتخرا : ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ وفضّلني على غيري بالمال والجاه ، ويغترّ بذلك ، ولا يخطر بباله أنّه امتحان وابتلاء ﴿وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ﴾ بالفقر ﴿فَقَدَرَ﴾ وضيق ﴿عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ ليظهر أنّه صابر أو جزوع ﴿فَيَقُولُ﴾ تضجّرا : ﴿رَبِّي أَهانَنِ﴾ وأذلني بالفقر ، ولا يخطر بباله أنّه امتحان.

وعلى أيّ تقدير ليس له توجّه إلى الآخرة ، ولا يلتفت إلى أنّ إقبال الدنيا ليس إكراما من الله ، وإدبارها ليس إهانة من الله ، لذا ردع الانسان عن توهّماته بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس ما يقول في الحالين حقّا وصوابا.

ثمّ التفت سبحانه إلى خطاب الكفّار تشديدا لتقريعهم ببيان سوء أفعالهم بعد بيان سوء أقوالهم بقوله : ﴿بَلْ لا تُكْرِمُونَ﴾ أيّها الأشقياء ﴿الْيَتِيمَ﴾ الذي يجب إكرامه بالرعاية وإعطاء النفقة ﴿وَلا تَحَاضُّونَ﴾ ولا تحرّضون غيركم ﴿عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾ لشدّة بخلكم فضلا عن أنّ تطعموه من أموالكم.

قيل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر امية بن خلف ، فكان يدفعه عن حقّه ، فنزلت الآيات (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٦.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٧١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢٩.

٤٨٩

وعن ابن عباس : أنّها نزلت في عتبة بن ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة (١) .

﴿وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا * كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ

 دَكًّا دَكًّا * وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ

 الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ

 عَذابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (١٩ و) (٢٦)

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله : ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ﴾ وتتصرّفون في الميراث ، الذي لليتامى ، أو في ميراث مورثكم ﴿أَكْلاً﴾ وتصرّفا ﴿لَمًّا﴾ وجامعا بين الحلال من إرثكم والحرام الذي هو حقّ اليتامى ، أو بين الحلال والحرام ﴿وَتُحِبُّونَ الْمالَ﴾ والأمتعة الدنيوية ﴿حُبًّا جَمًّا﴾ وكثيرا ، وتحرصون على جمعه وحفظه حرصا شديدا ، وتغفلون عن الموت والآخرة.

﴿كَلَّا﴾ لا ينبغي أن تكونوا بهذه الدرجة من الغفلة عن الآخرة ، واذكروا أهوال يوم القيامة ﴿إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ﴾ ودقّت بالزلازل ﴿دَكًّا﴾ هائلا و﴿دَكًّا﴾ متتابعا حتى تكون هباء منبعثا ، فلا يبقى عليها جبل ولا تلّ فضلا عن الأبنية والعمارات ﴿وَجاءَ رَبُّكَ﴾ وظهر قهره ، أو صدر أمره بالمحاسبة والمجازاة ، أو ظهرت آثار قدرته ومهابة سلطانه. ﴿وَ﴾ جاء ﴿الْمَلَكُ﴾ في العرصات من كلّ سماء ، ويقومون حول المحشر حال كونهم ﴿صَفًّا﴾ طويلا و﴿صَفًّا﴾ آخر بعد ذلك الصفّ. قيل : تكون صفوفهم سبعة على عدد السماوات (٢) ﴿وَجِيءَ﴾ بتوسّط الملائكة الغلاظ الشداد ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وحين ظهور سلطان الله وقهره ﴿بِجَهَنَّمَ﴾ في مرأى الخلق.

عن ابن مسعود ، قال : تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام ، معه سبعون ألف ملك ، يجرّونها حتى تنصب عن يسار العرش ، لها تغيّظ وزفير ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ويجثو كلّ نبي ووليّ من الهول والهيبة على ركيبته ، ويقول : نفسي ، حتّى يعترض لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : « امّتي امّتي » فتقول النار : مالي ولك يا محمد ، لقد حرّم الله لحمك عليّ (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « لمّا نزلت هذه الآية ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ سئل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أخبرني الرّوح الأمين أن (٤) الله لا إله غيره إذا برز الخلائق وجمع الأولين والآخرين ، أتى بجهنّم تقاد بألف زمام ، أخذ بكلّ زمام مائة ألف تقودها من الغلاظ الشّداد ، لها هدّة وغضب وزفير وشهيق ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٧٠.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٠.

(٤) في النسخة : قال.

٤٩٠

وإنّها لتزفر زفرة ، فلو لا أنّ الله أخّرهم للحساب لأهلكت الجمع ، ثمّ يخرج منها عنق فتحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر ، ما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيا إلّا ينادي : نفسي نفسي ، وأنت يا نبي الله تنادي : امّتي امّتي ، ثمّ يوضع عليها الصّراط أدقّ من الشّعر ، وأحد من حدّ السيف ، عليه ثلاث قناطر ، فأمّا واحدة فعليها الأمانة والرّحم ، والثانية فعليها الصلاة ، والثالثة فعليها ربّ العالمين لا إليه غيره ، فيكلّفون الممرّ عليها ، فيحبسهم الرّحم والأمانة فان نجوا منهما حبستهم الصلاة ، فان نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين ، وهو قوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾ والناس على الصّراط ، فمتعلّق بيد وتزلّ قدم ويستمسك بقدم ، والملائكة حولها ينادون : يا حليم اعف وصفح وعد بفضلك وسلّم ، والناس يتهافتون في النار كالفراش فيها ، فاذا نجا ناج فبرحمة الله مرّ بها فقال : الحمد لله وبنعمته تتمّ الصالحات وتزكو الحسنات ، والحمد لله الذي أنجاني منك بعد إياس بمنّة وفضله ، إنّ ربي لغفور شكور»(١) .

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ﴾ ويتّعظ ويندم ﴿الْإِنْسانُ﴾ على ما فرّط في جنب الله ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى﴾ وأي نفع له في الاتّعاظ والنّدم بعد فوات أوانه ؟ و ﴿يَقُولُ﴾ تندّما وتحسّرا ﴿يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ﴾ وأتيت بطاعة الله ورسله ، وعملت بما كلّفت به من قبلهم ﴿لِحَياتِي﴾ هذه ويوم بعثي هذا أو في وقت حياتي في الدنيا أعمالا تنجيني اليوم من العذاب.

﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ وحين انتقام الله من العصاة ﴿لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ﴾ فان شدّة عذابه فوق ما يتصوّر ﴿وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ﴾ ولا يشدّ بالعمل والأغلال مثل شدّة ﴿أَحَدٌ﴾ فانّ شدّه بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي

 عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي (٢٧) و (٣٠)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال النفوس الشقيّة الأمّارة بالسوء ، ذكر حال النفوس الطيّبة الزكيّة وسعادتها بقوله : ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ بذكر الله الساكنة في جوار رحمة الله ﴿ارْجِعِي إِلى﴾ ما أعدّ لك من كرامة ﴿رَبِّكِ﴾ الكريم وثوابه العظيم حال كونك ﴿راضِيَةً﴾ بما أعدّ الله لك من الجنّة والقصور العالية والنّعم الباقية ﴿مَرْضِيَّةً﴾ عند الله ﴿فَادْخُلِي فِي﴾ زمرة ﴿عِبادِي﴾ الصالحين المخلصين ﴿وَادْخُلِي﴾ معهم في ﴿جَنَّتِي﴾.

قيل : إذا أراد الله قبضها اطمأنّت إلى الله ، ورضيت عن الله ، ورضي الله عنها (٢) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٦.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٢.

٤٩١

وعن ابن عمر قال : إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله ملكين ، وأرسل إليه تحفة من الجنة فيقال لها: اخرجي أيّتها النفس المطمئنة إلى روح وريحان وربّ عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه ، والملك على أرجاء السماء يقولون : قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة ، فلا تمرّ بباب إلّا فتح لها ، ولا بملك إلّا صلّى عليها ، حتّى يؤتى بها إلى الرحمن ، ثمّ يقال لميكائيل : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين.

ثمّ يؤمر فيوسّع عليه قبره سبعون ذراعا [ عرضه ، سبعون ذراعا ] طوله ، وينبذ له فيه الريحان ، فان كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن جعل له نور مثل نور الشمس في قبره ، فيكون مثله مثل العروس ينام ولا يوقظه إلّا أحبّ أهله (١) .

وعن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف ، فشهدت جنازته ، فجاء طائر لم ير مثله وعلى خلقته ، فدخل نعشه ، ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير قبره لا يرى من تلاها : ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(٢) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : هل يكره المؤمن على قبض روحه ؟ قال : « لا والله ، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع لذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليّ الله لا تجزع ، فو الذي بعث محمدا لأنا أبرّ بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، فيمثّل [ له ] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم‌السلام رفقاؤك ، فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد وأهل بيته ، ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضية بالثواب ، فادخلي في عبادي يعني محمدا وأهل بيته - وادخلي جنّتي. فما من شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللّحوق بالمنادي » (٣) .

وعنه عليه‌السلام في هذه الآية : « يعني الحسين بن على عليهما‌السلام » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « اقرءوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فانّها سورة الحسين بن على عليهما‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين عليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنة » (٥) .

ومنّ الله علينا بالتوفيق لتلاوتها ، كما منّ لاتمام تفسيرها.

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٢.

(٣) الكافي ٣ : ١٢٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٢٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٨.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٣ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٣٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٨.

٤٩٢

في تفسير سورة البلد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ * وَوالِدٍ وَما وَلَدَ(١) و (٥)

ثمّ لمّا ختمت سورة الفجر المتضمّنة للّوم على الحرص على من جمع مال الدنيا وترك الاحسان إلى اليتيم والمسكين ، اردفت سورة البلد المتضمّنة للّوم عليهما ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأ بالحلف بمكّة المشرّفة بقوله : ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ﴾ الحرام. قيل : إنّ حرف لا زائدة جيء بها لتأكيد القسم ، فانّ العرب تقول : لا والله ما فعلت ، أو لا والله لأفعلن (١) . ويحتمل أن تكون ناهية ، والمعنى : لا تتوهّموا أن يكون الواقع خلاف ما أقول ، اقسم بهذا البلد المعظّم ﴿وَأَنْتَ﴾ يا محمد ﴿حِلٌ﴾ ومقيم ﴿بِهذَا الْبَلَدِ﴾ ونازل فيه ، فزيد بهذا شرفه.

وقيل : يعني وأنت مع نهاية حرمتك حلال الدم والعرض عند المشركين بهذا البلد ولا يحلّ عندهم قتل شيء من الطيور والوحوش والحشرات (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « كانت قريش تعظّم البلد وتستحلّ محمدا فيه ، فقال الله : ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ﴾ يريد أنّهم استحلّوك فيه ، فكذّبوك وشتموك ، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه ، ويتقلّدون لحاء شجرة الحرم فيأمنون بتقليدهم إيّاه ، فاستحلوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يستحلّوا من غيره ، فعاب الله عليهم » (٣) .

﴿وَوالِدٍ﴾ عظيم الشأن ، قيل : إنّ المراد إبراهيم (٤)﴿وَما وَلَدَ﴾ من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريّتهما. وقيل : محمد وذريّته (٥) ، وإيثار كلمة ( ما ) على ( من ) لمعنى التعجّب ممّا أعطاهم الله من الكمال ، كذا قيل (٦) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٣.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٧٩.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٤٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٩.

(٤) تفسير أبي السعود ٩ : ١٦٠.

(٥) جوامع الجامع : ٥٤٢.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٤.

٤٩٣

وعن الصادق عليه‌السلام : « يعني آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم » (١) . [ وفي الكافي مرفوعا قال ](٢) : « أمير المؤمنين ومن ولد من الأئمة عليهم‌السلام » (٣) .

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ﴾ حال كونه من أوّل خلقه مستغرقا ﴿فِي كَبَدٍ﴾ وتعب ومشقّة. وقيل : يعني في الشدّة ، وهي شدائد الدنيا من صعوبة ولادته ، وقطع سرّته ، وحبسه في القماط ، وإيذاء المربّي والمعلّم ، وزحمة التكسّب والتزوّج والأولاد والخدم وجمع الأموال ، وتهاجم الأوجاع والهموم والغموم ، كالابتلاء بالتكاليف الإلهية إلى غير ذلك من الشدائد (٤) .

وقيل : إنّ المراد في شدّة الخلق والقوة (٥) . وقيل : يعني في الاستواء والاستقامة (٦) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قيل له : إنّا نرى الدوابّ في بطون أيديها الرقعتين مثل (٧) الكيّ ، فمن أيّ شيء ذلك ؟ فقال : « ذلك موضع منخريه في بطن امّه ، وأمّا ابن آدم فرأسه منتصب في بطن امّه ، وذلك قول الله تعالى : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾ وما سوى بن آدم فرأسه في دبره ، ويداه بين يديه»(٨).

وعن ابن عباس ، قال : ﴿فِي كَبَدٍ﴾ أي قائما منتصبا ، والحيوانات الاخر تمشي منكسة ، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة (٩) .

ثمّ لا يخفى أنّ في الآية بناء على التفسير الأول تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكابدة الأعداء من كفّار قريش.

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ

 يَرَهُ أَحَدٌ (٥) و (٧)

ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله : ﴿أَيَحْسَبُ﴾ ويتوهّم من ضعفه وابتلائه بالشدائد على التفسير الأول ، أو بالنظر إلى شدّة خلقه وقوّته على الثاني ﴿أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ بأن يجازيه على سيئاته ، أو بأن يغيّر أحواله ويمنعه عن مراداته ؟ ! بلى إنّ الله القادر على كلّ شيء قادر على تعذيبه والانتقام منه ، أو على تعجيزه ومنعه عن مراداته.

ثمّ إنّ هذا الكافر المدّعي لكمال القدرة والقوة ﴿يَقُولُ﴾ مفتخرا : إني ﴿أَهْلَكْتُ﴾ وصرفت في

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٤٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٩.

(٢) في النسخة : وعن.

(٣) الكافي ١ : ٣٤٢ / ١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٩.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٤.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٨١.

(٧) في النسخة : قبل.

(٨) علل الشرائع : ٤٩٥ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٠.

(٩) تفسير الرازي ٣١ : ١٨٢.

٤٩٤

عداوة محمد ﴿مالاً لُبَداً﴾ وكثيرا.

عن الصادق عليه‌السلام : « قال عمرو بن عبدودّ حين عرض عليه علي بن أبي طالب عليه‌السلام الإسلام يوم الخندق : فأين ما أنفقت فيكم من مال لبد ؟ وكان أنفق مالا في الصدّ عن سبيل الله ، فقتله علي عليه‌السلام » (١) .

ثمّ وبّخه سبحانه على إنفاقه وهدّده بقوله : ﴿أَيَحْسَبُ﴾ هذا الكافر المباهي بإنفاقه ﴿أَنْ لَمْ يَرَهُ﴾ حين إنفاقه الشنيع ﴿أَحَدٌ﴾ بلى إنّ الله رآه وساءله يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه. وقيل : إنّه كان كاذبا لم ينفق شيئا ، فقال الله تعالى : أيظنّ هذا الكافر أنّ الله ما رأى ذلك منه ، فعل أو لم يفعل ، أنفق أم لم ينفق. بلى رآه وعلم منه خلاف ما قال (٢) .

﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ

 الْعَقَبَةَ * وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ *

 يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (٨) و (١٦)

ثمّ لمّا حكى سبحانه إنكار الكافر قدرة الله عليه ورؤيته إياه ، أقام الدليل عليها بقوله : ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ﴾ بقدرتنا ﴿عَيْنَيْنِ﴾ يبصر بهما ويرى ، فكيف يمكن أن يكون معطي الرؤية فاقدا لها ولا يراه؟ ﴿وَ﴾ ألم نجعل له ﴿لِساناً وَشَفَتَيْنِ﴾ ينطق بها ، فكيف ينبغي أن يتكلّم بها الكلمات الشنيعة غير المرضية لمعطيها ؟ ﴿وَهَدَيْناهُ﴾ بعد اتمام النعمة عليه بتكميل خلقه وقواه ﴿النَّجْدَيْنِ﴾ والطريقين الواضحين إلى خيره وشرّه.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سبل الخير ، وسبل الشرّ » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نجد الخير والشّر » (٤) .

﴿فَلَا اقْتَحَمَ﴾ وما دخل شكرا لتلك النّعم الجليلة ﴿الْعَقَبَةَ﴾ والأعمال الصالحة التي هي الطريق إلى كلّ خير ، وإنّما أطلق عليها العقبة - التي هي الطريق الصعب السلوك في الجبل - لصعوبة سلوكها.

ثمّ عظّم العقبة بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأي شيء أعلمك يا محمد ﴿ما﴾ تلك ﴿الْعَقَبَةُ ؟﴾ فانّ المراد بها ليس العقبة المعروفة ، إنّما هي ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وإعتاق المملوك ، والدخول فيها الاقدام عليه ﴿أَوْ إِطْعامٌ﴾ وإشباع من المأكول ﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ وفي زمان غلاء وقحط ، فانّ الصرف في هذا الزمان أثقل على النفس وأوجب للأجر ﴿يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ﴾ وصاحب رحم فاقد إطعامه أفضل

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢٢ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٠.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٨٣.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣١.

(٤) الكافي ١ : ١٢٤ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣١.

٤٩٥

لاشتماله على الصدقة وصلة الرّحم ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ﴾ وفاقة. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : ﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ « الذي مأواه المزابل » (١) وعن ابن عباس : يعني البعيد التربة ، يعني الغريب (٢) . وفي الحديث: « الساعي على الأرملة والمساكين كالساعي في سبيل الله ، وكالقائم لا يفتر ، والصائم لا يفطر » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من أطعم مؤمنا حتى يشبعه ، لم يدر أحد من خلق الله ماله من الأجر في الآخرة لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا الله ربّ العالمين » ثمّ قال : « من موجبات المغفرة إطعام المسلم السّغبان » ثمّ تلا هذه الآية (٤) .

وعن الرضا عليه‌السلام : أنّه إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام بما يؤتى به فيأخذ من كلّ شيء فيضع في تلك الصّحفة ، ثمّ يأمر بها للمساكين ، ثمّ يتلو هذه الآية ، ثمّ يقول : « علم الله أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة ، فجعل لهم السبيل إلى الجنّة » (٥) .

وعن الصادق أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « من أكرمه الله بولايتنا فقد جاز العقبة ، ونحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا » ثمّ قال : « الناس كلّهم عبيد النار غيرك وأصحابك فانّ الله فكّ رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « بنا تفكّ الرقاب وبمعرفتنا ، ونحن المطعمون في يوم الجوع وهو المسغبة » (٧) .

﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولئِكَ

 أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نارٌ

 مُؤْصَدَةٌ (١٧) و (٢٠)

ثمّ بيّن سبحانه شرط قبول تلك الأعمال بقوله : ﴿ثُمَّ كانَ﴾ ذلك الذي يفكّ الرقبة ويطعم اليتيم والمسكين ﴿مِنَ﴾ زمرة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله واليوم الآخر ﴿وَتَواصَوْا﴾ وأمروا أقرباءهم وأصدقاءهم ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على طاعة الله ﴿وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ والعطوفة بعباد الله ، أو بموجبات رحمة الله من الخيرات والصالحات. وذكر كلمة ﴿ثُمَ﴾ للدلالة على تراخي رتبة الايمان على تلك الأعمال ، ورفعة محلّه بالنسبة إليها.

﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بالصفات المذكورة هم يوم القيامة ﴿أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ يعطون كتبهم بأيمانهم ، أو نسلك بهم من الطريق الأيمن إلى الجنة ، أو هم أهل اليمن والخير والسعادة ، أو القائمون

__________________

(١- ٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٨.

(٤) الكافي ٢ : ١٦١ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣١.

(٥) الكافي ٤ : ٥٢ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣١.

(٦) الكافي ١ : ٣٥٧ / ٨٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣١.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٢.

٤٩٦

عن يمين المحشر ، أو يمين العرش.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا﴾ ودلائل توحيدنا ورسالة رسولنا ﴿هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ وأهل الشؤم والشرّ والشقاوة ، أو هم الذين يعطون كتابهم بشمائلهم ، أو وراء ظهورهم ﴿عَلَيْهِمْ﴾ يوم القيامة ﴿نارٌ﴾ أبوابها ﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ ومطبقة لا يفتح لهم باب ، فلا يخرج منها غمّ ، ولا يدخل فيها روح أبدا ، أو المراد نار محيطة بهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « من كان قراءته في فريضة ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ﴾ كان في الدنيا معروفا [ أنه من الصالحين ، وكان في الآخرة معروفا ] أنّ له من الله مكانا ، وكان يوم القيامة من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين » (١) .

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١٢٣ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٢.

٤٩٧
٤٩٨

في تفسير سورة الشمس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحاها *وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها * وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها * وَاللَّيْلِ إِذا

 يَغْشاها * وَالسَّماءِ وَما بَناها * وَالْأَرْضِ وَما طَحاها * وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها *

 فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (١) و (٨)

ثمّ لمّا ختمت سورة البلد المتضمّنة لمنّته سبحانه على الانسان بخلقه في كبد واستقامة ، وبهدايته إلى الخير والشرّ ، وترغيبه إلى الايمان والأمر بالمعروف ، وتهديد الكفّار المكذّبين بعذاب الآخرة ، نظمت سورة الشمس المتضمّنة لمنته على الانسان بتعديل خلقه وإلهامه فجوره وتقواه وترغيبه إلى تزكية نفسه المتوقفة على الايمان والعمل ، وتهديد الكفار ، فافتتحها بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالقسم بقوله : ﴿وَالشَّمْسِ﴾ التي فيها فضل عظيم ومنافع عظيمة لموجودات عالم الملك ﴿وَضُحاها﴾ وارتفاع نورها واشتداد ضوؤها ، وهو قريب من نصف النهار ﴿وَالْقَمَرِ﴾ الذي هو بعد الشمس أنفع الكواكب ﴿إِذا﴾ تبع الشمس وحين ﴿تَلاها﴾ ويطلع بعد غروبها.

عن ابن عباس : هو في النصف الأول من الشهر (١) بعد ما سمّي قمرا. وقيل : يعني إذا تبعها وصار مثلها في الاستداره وكمال النور ، وهي في الليالي البيض (٢) .

﴿وَالنَّهارِ إِذا﴾ ظهر الشمس وحين ﴿جَلَّاها﴾ قيل : إن الضمير راجع إلى الظّلمة (٣) وتجليتها إذهابها. وقيل : إلى الدنيا ، أو إلى الأرض ، وإن لم يسبق لهما ذكر (٤) لمعلوميتها ، وتجليتهما إنارتهما (٥).

﴿وَاللَّيْلِ إِذا﴾ يغطّي الشمس و﴿يَغْشاها﴾ ويذهب نورها ، فكأنّ الليل بظلمته (٦) صار سببا لغروب الشمس وزوال ضوئها ، ولذا حسن القول بأنّ النهار يجلّيها ﴿وَالسَّماءِ﴾ المظلّ على الأرض ﴿وَما

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٨٩.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٩٠.

(٥) في النسخة : لمعلوميتها ، وتجليتها إنارتها.

(٦) في النسخة : تظلمته.

٤٩٩

بَناها﴾ على غاية العظمة ونهاية الوقعة.

قيل : ذكر كلمة ﴿ما﴾ للاشارة إلى الوصفية ، والمعنى : والشيء العظيم الذي بناها (١) ، ويحتمل كون كلمة ﴿ما﴾ مصدريه ، فحلف أولا بذاتها ، وثانيا بكيفية بنائها.

﴿وَالْأَرْضِ وَما طَحاها﴾ ومن بسطها على السماء من كلّ جانب ﴿وَنَفْسٍ﴾ ناطقة متميزة من نفوس الحيوانات ﴿وَما سَوَّاها﴾ ومن عدلها بإعطائها القوى الظاهرة والباطنة ، ويحتمل كون ﴿ما﴾ مصدرية في كلتا الجملتين. وقيل : إنّ المراد بالنفس الشخص ، وتسويتها تعديلها بتكميل أعضائها (٢).

﴿فَأَلْهَمَها﴾ وعرّفها بتكميل عقلها وإرسال الرسل ﴿فُجُورَها﴾ وشرورها لتجتنبها ﴿وَتَقْواها﴾ ومحاسن أعمالها لتعمل بها.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « بيّن لها ما تأتي وما تترك » (٣) .

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (٩) و (١٠)

ثمّ بيّن سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وظفر بأعلى المقاصد والمطالب ﴿مَنْ زَكَّاها﴾ وطهّرها من دنس الكفر والأخلاق الرذيلة ومن رجس الذنوب والقبائح ، أو المراد أنماها بالخيرات والبركات.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه كان إذا قرأ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾ وقف وقال : « اللهمّ آت نفس تقواها ، أنت وليها وأنت مولاها ، وزكّها أنت خير من زكّاها » (٤) .

﴿وَقَدْ خابَ﴾ وحرم من جميع الخيرات أو خسر ﴿مَنْ دَسَّاها﴾ وأدخلها في المعاصي حتّى انغمس فيها ، أو دسّ في نفسه الفجور بسبب مواظبته عليها.

عن الصادق عليه‌السلام : « قد أفلح من أطاع ، وقد خاب من عصى » (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من زكّاه ربّه » (٦) .

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها * فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ

 وَسُقْياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها * وَلا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٩١.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٩١.

(٣) الكافي ١ : ١٢٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٣.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٥٥ ، تفسير الرازي ٣١ : ١٩٣.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٥٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٤ ، وفيهما : عنهما عليهما‌السلام.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٢٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣٤.

٥٠٠