نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

السفينة ، فبعث إليه صاحب الروم من عمل له السفن ، فركبوا فيها ، فخرجوا إلى ساحل اليمن ، فخرج إليهم أهل اليمن ، فلقوهم بتهامة ، واقتتلوا ، فلم ير ملك حمير له بهم طاقة ، وخاف أن يأخذوه ، فضرب فرسه حتى وقع في البحر فمات فيه ، فاستولى الحبشة على حمير وما حولها وتملّكوا ، وبقي الملك لهم إلى وقت الإسلام (١) .

وفي الحديث : « كان ملك فيمن كان قبلكم » كان له ساحر ، فلمّا كبر قال للملك : إني كبرت فابعث إليّ غلاما اعلّمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلّمه ، فكان في طريقه راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه ، فاذا أتى الساحر ضرب لمكثه ، فكشا إلى الراهب ، فقال له : إذا خشيت الساحر فقل له : حبسني أهلي.

ثمّ إنّ الغلام رأى يوما في طريقه حيّة فقال : اليوم أعلم أنّ الساحر أفضل أم الراهب ، فأخذ حجرا وقال : اللهمّ إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فقوّني على قتلها ، فرماها فقتلها ، ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال الراهب : أي بني ، أنت اليوم أفضل منّي ، قد بلغ من أمرك ما أدري ، وإنّك ستبتلى ، فان ابتليت فلا تدلّ عليّ.

وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، ويشفى المريض. فسمع ذلك جليس الملك ، وكان أعمى ، فأتاه بهدايا ، فقال : ما هاهنا لك أجمع إن شفيتني. قال الغلام : إنّي لا أشفي أحدا ، إنّما يشفي الله ، فان آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله.

فأتى الملك فجلس إليه ، كما كان يجلس ، فقال الملك : من ردّ بصرك ؟ قال : ربّي. قال : أولك ربّ غيري ؟ قال : ربّي وربّك الله. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك. أي بني ، قد بلغت من سحرك أنّك تبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل !

فقال : أنا لا اشفي أحدا ، إنما يشفي الله ، فاخذه ولم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب. فقال له : ارجع عن دينك فأبى ، فدعا بالمنشار فوضعه في مفرق رأسه فشقّه به حتّى وقع شقّاه ، ثمّ جيء بجليس الملك فقال له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه ، ثمّ جيء بالغلام فقال له : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه. فقال لهم : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فاذا بلغتم ذروته فان رجع عن دينه وإلّا فاطرحوه.

فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال الغلام : اللهمّ أكفينهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا،

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٦.

٤٦١

فجاء الغلام يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله.

فدفعه إلى نفر آخر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور (١) ، فتوسّطوا به البحر ، فان رجع عن دينه وإلّا فاقذفوه في البحر ، فذهبوا به ، فقال الغلام : اللهمّ أكفينهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء الغلام يمشي إلى الملك ، فقال الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله.

فقال للملك : إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به. قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثمّ خذ سهما من كنانتي ، ثمّ ضع السهم في كبد القوس ، ثمّ قل : بسم الله ربّ الغلام ، ففعل كما قال الغلام ، ثمّ رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس : آمنّا بربّ الغلام.

فاتي الملك فقيل له : أ رأيت قد وقع ما كنت تحذر منه ، والله قد نزل بك حذرك ؛ أي قد آمن الناس ، فأمر بالاخدود في افواه السكك ، فخددت واضرم النار فيها ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ رضيع لها. قيل في بعض الروايات : كان لها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلّا ألقيتك وأولادك في النار فأبت ، فأخذ ابنها الأكبر وألقاه في النار ، ثمّ قال لها : ارجعي عن دينك فأبت ، فالقى ابنها الأوسط في النار ، ثمّ قال لها : ارجعي عن دينك فأبت ، فأخذوا الصبيّ ليلقوه فيها فهمّت بالرجوع ، فقال الصبي : يا امّاه ، لا ترجعي عن الاسلام ، فانّك على الحقّ ولا بأس عليك » (٢) .

وقيل : إنّه قال : فانّ بين يديك نارا لا تطفأ ، فألقى الصبيّ في النار ، وامّه على أثره.

قيل : كان ذلك الملك ذو نؤاس الحميري ، وكانت القصّة قبل مولد النبي بتسعين سنة (٣) .

قال بعض العامة : روي أن ضربة احتفرت في زمن خلافة عمر بن الخطاب ، فوجد الغلام الذي قتله الملك وإصبعه على صدغه (٤) .

وفي بعض التفاسير : فوجدوا عبد الله بن الثامر - ولعلّه اسم ذلك الغلام - واضعا يده على صدغه ، إذ اميطت يده عنها سال دمه ، وإذا تركت على حالها انقطع ، وفي يده خاتم من حديد فيه : ربّي الله ، فكتبوا إلى عمر ، فكتب بأن يواروه يعيدوا التراب عليه ، وكتب إليهم ، إن ذلك الغلام صاحب الاخدود فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله يوم القيامة على حاله (٥) .

وروي في ( المجمع ) جميع ما ذكر بأدنى تفاوت (٦) .

__________________

(١) أي السفينة الطويلة العظيمة.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٧.

(٣- ٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٨.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٧٠٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٠.

٤٦٢

وعن القمي قال : كان سببهم أن الذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نؤاس ، وهو آخر من ملك حمير ، تهوّد واجتمعت معه حمير على اليهوديه ، وسمّى نفسه يوسف ، وأقام على ذلك حينا من الدهر ، ثمّ اخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية والمسيحية وعلى حكم الإنجيل ، ورأس ذلك الدين عبد الله بن رياس (١) ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، يدخلهم فيها ، فسار حتّى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص (٢) كلّه ، فأبوا عليه ، وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل ، فاتّخذ لهم اخدودا ، وجمع فيه (٣) الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من احرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة ، فبلغ عدد قتل وأحرق بالنار عشرين ألفا ، وأفلت رجل منهم يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له وركضه (٤) ، واتبعوه حتى أعجزهم في الرمل ، ورجع ذو نؤاس إلى ضيعة (٥) في جنوده (٦) .

وروى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : « هم أهل الكتاب ، وكانوا متمسّكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد احلّت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم ، فسكر فوقع على اخته ، فلمّا صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : إنّ الله تعالى قد أحلّ نكاح الأخوات ، ثمّ تخطّبهم بعد ذلك فتقول : إنّ الله حرّمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له : ابسط فيهم السوط ، فلم يقبلوا ، فقالت : ابسط فيهم السيف ، فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران ، وطرح من أبى فيها ، فهم الذين أراد الله بقوله : ﴿قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ﴾ » (٧).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « ارسل عليّ عليه‌السلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود ، فأخبره بشيء. فقال : ليس كما ذكرت ، ولكن ساخبرك عنهم ، إنّ الله بعث رجلا حبشيا نبيا ، وهم حبشة فكذّبوه ، فقاتلهم فقتلوا أصحابه ، وأسروه وأسروا أصحابه ، ثمّ بنوا له حيرا (٨) ، ثمّ ملأوه نارا ، ثمّ جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار معه ، فجعل أصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ، فلمّا قربت هابت ورقّت على ابنها ، فناداها الصبيّ ، لا تهابي وارميني ونفسك في النار ، فانّ هذا والله في الله قليل. فرمت بنفسها

__________________

(١) في المصدر : عبد الله بن بريا ، وفي تفسير الصافي : عبد الله بن برياس ، وفي تاريخ الطبري ٢ : ١٢٢ ، والكامل في التاريخ ١ : ٤٢٩ ، عبد الله بن الثامر.

(٢) في النسخة : بينهم وحرض الحرض.

(٣) في النسخة : فيها من.

(٤) ركض الفرس برجله : استحثّه للعدو.

(٥) في المصدر : ضيعته.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٩.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ١١٧.

(٨) الحير : شبه الحظيرة أو الحمى.

٤٦٣

في النار وصبيها ، وكان ممّن تكلّم في المهد » (١) .

أقول : قد ظهر أنّ الروايات في القصة مختلفة ، وجمعها وإن كان ممكنا إلّا أنه لا يهمّنا ، لعدم حجّيتها في المقام ، وإنّما المعلوم من جميعها أنّ ملكا من الكفّار ، أو قوما منهم ، حفروا اخدودا وأحرقوا جمعا من المؤمنين بالنار لإيمانهم ، ولا يبعد أنّ القصة كانت مشهورة في العرب ، ذكرها سبحانه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين المبتلين بإيذاء المشركين.

﴿النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ

 شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥) و (٩)

ثمّ فسّر سبحانه الاخدود بقوله : ﴿النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ﴾ والتقدير : أعني بالاخدود النار التي اوقدت بالحطب في الاخدود ، فارتفع لهبها وأحرق اولئك القوم ﴿إِذْ هُمْ﴾ بعد إيقاد النار وإلقاء المؤمنين فيها كانوا ﴿عَلَيْها قُعُودٌ﴾ على سرر وكراسي على ما قيل (٢) ، ينظرون إلى احتراق المؤمنين فيها ﴿وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ من الإحراق والتعذيب ﴿شُهُودٌ﴾ عند الملك ، يشهدون أنّ أحدا من المأمورين لم يقصّر فيما أمرته لرحم وإشفاق.

وقيل : إنّهم شهود على عملهم الشنيع يوم القيامة ، حيث إنّه تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (٣) .

﴿وَما نَقَمُوا﴾ اولئك الجبارون من المؤمنين ، وما أنكروا ﴿مِنْهُمْ﴾ عملا ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ اولئك المؤمنون ﴿بِاللهِ﴾ الذي يجب بحكم العقل الايمان به ، لأنّه تعالى هو ﴿الْعَزِيزِ﴾ والقاهر على كلّ شيء ، وهو ﴿الْحَمِيدِ﴾ والمستحقّ للحمد ، لكونه منعما على جميع الموجودات ، فعلى العاقل أن يخاف من سطوته وقهّاريته إن لم يؤمن به ، ويرجو نعمه وإحسانه إن آمن به ، وهو ﴿الَّذِي لَهُ﴾ وحده ﴿مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسلطنة المطلقة في عوالم الملك والملكوت ، يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء ﴿وَ﴾ هو ﴿اللهُ﴾ والإله المستجمع لجميع الكمالات والخالق لكلّ شيء ، وهو ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أفعال الكفّار والمؤمنين وغيرها من الموجودات الحقيرة والجليلة الظاهرة والخفية حتى الخواطر والضمائر ﴿شَهِيدٌ﴾ ومطّلع إطّلاع الحاضر المشاهد ، فيعذّب الكفّار والعصاة

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٠٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٩.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٠٦.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٩.

٤٦٤

على ظلمهم وعصيانهم ، ويثيب المؤمنين المطيعين على صبرهم وطاعتهم ، وكيف ينكرون الإيمان على المؤمنين ويغضبون عليهم مع أنّهم مستحقّون لغاية التكريم والتجليل !

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ

 عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكفّار المؤذين للمؤمنين والمؤمنات بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ أو محّنوهم بتعذيبهم وإيذائهم. وعن ابن عباس : أحرقوهم بالنار (١)﴿ثُمَ﴾ بعد ذلك لم يؤمنوا و﴿لَمْ يَتُوبُوا﴾ من كفرهم وعصيانهم إلى الله ﴿فَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ جزاء على كفرهم وعصيانهم ﴿وَلَهُمْ﴾ مضافا إلى ذلك ﴿عَذابُ الْحَرِيقِ﴾ والشديد على إيذائهم للمؤمنين ، أو زائدا على تعذيب غيرهم.

وقيل : إنّ المراد من عذاب الحريق تعذيبهم في الدنيا بالنار (٢) .

روي أنّ الجبّارون لمّا ألقوا المؤمنين في النار وقعدوا حولها ارتفعت النار فوقهم أربعين ذراعا ، فوقعت عليهم وأحرقتهم ، ونجا المؤمنون سالمين (٣) .

وقيل : إنّ الله قبض أرواح المؤمنين قبل أن تمسّهم النار (٤) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ

 الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ

 الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١١) و (١٦)

ثمّ أردف سبحانه تهديد الكفّار بوعد المؤمنين عموما بالثواب العظيم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ سواء كانوا من المفتونين أو غيرهم ﴿لَهُمْ﴾ جزاء على إيمانهم وأعمالهم ﴿جَنَّاتٌ﴾ ذات أشجار كثيرة وقصور عالية ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة و﴿ذلِكَ﴾ الثواب العظيم هو ﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ والنّيل بأعلى المقاصد الذي تصغر عندها الدنيا وما فيها.

ثمّ أكّد سبحانه وعيده الكفّار بقوله مخاطبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ﴾ يا محمد ، وأخذه بالقوّة ﴿لَشَدِيدٌ﴾ لا يطيقه (٥) أحد ، وإنّما أمهلهم للحكمة البالغة لا للإهمال ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ﴾ الخلق في الدنيا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٢١.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧١٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٩.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٩.

(٥) في النسخة : لا يطيق له.

٤٦٥

﴿وَيُعِيدُ﴾ هم ، ويخلقهم ثانيا في الآخرة ، ليجازيهم على أعمالهم. وعن ابن عباس : أنّ أهل جهنّم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثمّ يعيدهم خلقا جديدا ، وذلك هو المراد من قوله : ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ(١) .

ثمّ أكّد سبحانه وعده للمؤمنين بقوله : ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ للذنوب ﴿الْوَدُودُ﴾ بالمؤمنين ، والمحبّ لهم ، وهو ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ وصاحب سرير الملك والسلطنة ، أو خالقه ﴿الْمَجِيدُ﴾ والعظيم في ذاته ، والشريف في أفعاله ، وهو ﴿فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ﴾ لا يزاحمه شيء في إنفاذ إرادته ، ولا يمنعه مانع من إتمام مراده ، يفعل ما يشاء كيف يشاء ، وذكر صيغة المبالغة لكثرة أفعاله من الإحياء والإماتة والإغناء والافقار والإعزاز والإذلال وغيرها.

﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ

 * وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (١٧ و) (٢٢)

ثمّ استشهد سبحانه على شدّة بطشه بقصة أخذه الامم المكذّبة للرسل بقوله : ﴿هَلْ أَتاكَ﴾ يا محمد ، وهل سمعت منّا ﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ الكافرة وخبر الجماعات المكذّبة للرسل ؟ أعني ﴿فِرْعَوْنَ وَ﴾ قومه ﴿ثَمُودَ﴾ قوم صالح ، كيف فعلوا ، وكيف فعلنا بهم وأهلكناهم بعذاب شديد ؟ فذكّر قومك بما نزل عليهم من العذاب لعلّهم يتذكّرون ، وأنّى لهم الذكرى ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك وأصرّوا على العناد والطّغيان ليسوا مثل الامم السابقة ، بل هم أشدّ كفرا وعنادا ، لأنّهم مستقرون ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ عظيم لرسالتك وكتابك بحيث لا ينصرفون عنه مع دلالة الأدلّة الباهرة على صحّتهما.

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تكذيب قومه بقوله : ﴿وَاللهُ﴾ القادر القاهر ﴿مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ بهم لا يقدرون على الفرار من أخذه وعذابه ، فلا تتألّم من تكذيبهم إيّاك ، فإنّي انتقم منهم أشدّ الانتقام ، وليس تكذيبهم لكتابك موهنا له ، ولا نسبته إلى الشعر والسحر والكهانة مسقطا له عن الأنظار ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ وكتاب شريف عالي القدر في الكتب السماوية الإلهية ، مثبوت ومضبوط ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ عند الله مصون من مساس الشياطين وتحريف المبطلين.

عن ابن عباس : أنّ الله خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء ، دفّتاه ياقوتة حمراء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، ينظر الله فيه كلّ يوم ثلاثمائة وستين مرة ، يحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويفعل ما يشاء ، وفي صدر اللّوح : لا إله إلّا الله وحده ، ودينه الاسلام ، ومحمد

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٢٢.

٤٦٦

عبده ورسوله ، فمن آمن به وصدّق وعده واتّبع رسله أدخله الجنة (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس وعنده جبرئيل ، إذ حانت من جبرئيل نظرة قبل السماء إلى أن قال : قال جبرئيل : إنّ هذا إسرافيل حاجب الربّ ، وأقرب خلق الله منه ، واللّوح بين عينيه من ياقوتة حمراء ، فاذا تكلّم الربّ تبارك وتعالى بالوحي ضرب اللّوح جبينه فنظر فيه ، ثمّ ألقاه إلينا نسعى به في السماوات والأرض » (٢) .

وعن القمي رحمه‌الله ، قال : اللّوح [ المحفوظ ] له طرفان ، طرف على يمين العرش ، وطرف على جبهة إسرافيل ، فاذا تكلّم الربّ جلّ جلاله بالوحي ضرب اللّوح جبين إسرافيل ، فنظر في اللّوح ، فيوحي بما في اللّوح إلى جبرئيل (٣) .

أقول : هذه الأخبار ممّا لا تدركه (٤) عقولنا ، وإنّما تذكر لاحتمال أن ينظر إليها من نور الله قلبه للايمان ، فيفهم منها معاني غير ظاهرها.

عن الصادق : « من قرأ سورة ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ﴾ في فريضة ، فانّها سورة النبيين ، كان محشره وموقفه مع النبيّين والمرسلين والصالحين » (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٩٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٧ ، عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤١٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٢.

(٤) في النسخة : يدرك.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٢ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٠٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٢.

٤٦٧
٤٦٨

في تفسير سورة الطارق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ * وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة البروج المبدؤة بالحلف بالسماء ذات البروج ، المتضمّنة لبيان كونه تعالى مبدأ الخلق ومعيدهم للجزاء ، وكونه محيطا بالكفّار ، وبيان عظمة القرآن ، وتكذيب الكفّار إياه ، نظمت سورة الطارق المبدؤة بالحلف بالسماء والنجم الثاقب ، المتضمّنة لبيان كونه تعالى حافظا لجميع النفوس ، وبيان بدء خلقه الانسان وإرجاعه بعد الموت إلى الحياة لجزاء الأعمال ، وبيان كون القرآن فاصلا بين الحقّ والباطل ، وأنّ الكفّار يكيدون في إبطاله ، وتهديدهم بالعذاب ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالحلف بما فيه ظهور كمال قدرته بقوله : ﴿وَالسَّماءِ﴾ التي فيها من العجائب والآيات ما فيه دلالة ظاهرة على كمال قدرته وحكمته ، ﴿وَ﴾ الشيء ﴿الطَّارِقِ﴾ والظاهر بالليل ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأي شيء أعلمك ﴿مَا الطَّارِقُ﴾ وأيّ شيء هو.

ثمّ كأنّه قيل : ما هو ؟ فقال سبحانه : ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ والكواكب المضيء الذي ينفذ نوره في الأفلاك ، وهو زحل ، حيث إنّه في السماء السابعة.

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه قال لرجل من أهل اليمن : « ما زحل عندكم في النجوم ؟ » قال اليماني : نجم نحس. فقال : « لا تقولوا هذا ، فانّه نجم أمير المؤمنين ، وهو نجم الأوصياء ، وهو النجم الثاقب الذي قال الله في كتابه » .

فقال اليماني : فما يعني بالثاقب ؟ قال : « لأنّ مطلعه السماء السابعة ، وإنّه يثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا ، فمن ثمّ سمّاه الله النجم الثاقب » (١) .

روى بعض العامة : أنّ أبا طالب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطّ

__________________

(١) الخصال : ٤٨٩ / ٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٣.

٤٦٩

نجم ، فامتلأ ماء ثمّ نارا ، ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا ؟ فقال عليه‌السلام : « هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله » فعجب أبو طالب ، فنزلت السورة (١) .

﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ

 * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ * إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى

 السَّرائِرُ * فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (٤) و (١٠)

ثمّ ذكر الله سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ وما من أحد ﴿لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ وقيب عالم بأحواله وأفعاله ومصالحه ومنافعه ، وهو الله الخالق له.

وقيل : إنّه الملائكة الحافظون لأعماله الكاتبون لها دقيقها وجليها (٢) ، أو المراد الحافظون لها بحفظ رزقها وأجلها ، الصائنون لها من المهالك ، فإذا استوفت أجلها ورزقها قبضها إلى ربّها وسلّمها إلى المقابر (٣) .

ثمّ لمّا بيّن إحاطته بالنفوس ، بيّن قدرته على إعادة خلقه للمجازاة ، واستدلّ عليها بقدرته على خلقه في الدنيا بقوله : ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ﴾ ويتفكّر العاقل المنكر للبعث أنّه ﴿مِمَّ خُلِقَ﴾ ومن أيّ شيء تكوّن في هذا العالم ؟

ثمّ كأنّه قيل : ممّ خلق يا ربّ ؟ فأجاب سبحانه : ﴿خُلِقَ﴾ وتكوّن ﴿مِنْ ماءٍ﴾ لزج قذر ﴿دافِقٍ﴾ ومنصبّ في الرّحم ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ والنّخاع الذي في ظهر الرجل ﴿وَ﴾ من بين ﴿التَّرائِبِ﴾ والعظام التي في صدر المرأة.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس : من بين الثديين (٤) .

قيل : إذا تولّد شيء من بين شيئين متباينين يقال إنّه خرج من بينهما (٥) . والدّفق وإن كان صفته ماء الرجل ، ولكن إذا اجتمع مع غيره يصحّ أن يوصف الكلّ بصفة الجزء ، ويقال للمجموع دافق ، فدلّت الآية على أنّ الولد يخلق من ماء الرجل والمراة ، كما دلّ عليه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : « إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكرا ، ويعود شبهه إليه وإلى أقاربه ، وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه » (٦) .

قيل : تتكوّن النّطفة من جميع أجزاء البدن ، ثمّ تجتمع نطفة الرجل في فقار ظهره ، ونطفة المرأة في

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٢٧.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٢٨.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٩٨.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٢٩.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٢٩.

٤٧٠

ترائبها (١) .

فإذا ظهر أنّ القادر الحكيم خلق الانسان الذي هو أنموذج العالم الكبير من النّطفة ، ظهر عنده كالشمس في رائعة النهار ﴿إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ﴾ وإعادة خلقه بعد موته وصيرورته ترابا ﴿لَقادِرٌ﴾ فيخلقه بقدرته ﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ وتخبر ﴿السَّرائِرُ﴾ والضمائر من العقائد والنيات وغيرها من المخفيات لجميع الناس ، فيتباهى المؤمن الخالص الحسن السريرة ، ويفتضح المنافق المرائي السيء السريرة.

عن ( المجمع ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل : ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة ؟ فقال : سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة ، وكلّ مفروض ، لأن الأعمال كلّها سرائر خفية ، فان شاء الرجل قال : صلّيت ولم يصل ، إن شاء قال : توضّأت ولم يتوضّأ ، فذلك قوله : ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ(٢) . ﴿فَما﴾ للانسان ، وليس ﴿لَهُ﴾ في ذلك اليوم ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ في نفسه يدفع بها العذاب الذي حلّ به ﴿وَلا ناصِرٍ﴾ ينتصر به فيحفظه من العذاب بالقوة والحيلة والشّفاعة.

﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ

 بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ

 رُوَيْداً (١١) و (١٧)

ثمّ بيّن سبحانه عظمة القرآن بقوله : ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ وصاحبة المطر ، كما عن ابن عباس (٣) ، إنّما سمّى المطر رجعا لظنّ العرب أنّ السّحاب يحمل الماء من الأرض ، ثمّ يرجعه إليها ، ويحتمل كون المراد بتوصيف السماء بالرجوع كونها ذات حركة دورية. وقيل : إنّه باعتبار أنّ شمسها وقمرها ونجومها تغيب وتطلع (٤) . ﴿وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ والانشقاق لنبعان العيون وخروج النباتات.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه ، وهو عظمة القرآن بقوله : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ﴾ وكلام ﴿فَصْلٌ﴾ وقاطع للمراء والجدال ، وفاصل بين الحقّ والباطل ، ومميّز كلّ منهما عن الآخر ، لظهور الاعجاز فيه وكونه كلام الله ﴿وَما هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ بل كلّه جدّ مطابق للواقع ، فحقّه أن يهتدى به ويطرح ما خالفه.

ثمّ ذمّ كفّار مكّة بقوله : ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ﴾ ويحتالون في إبطاله وإطفاء نوره بإلقاء الشّبهات نسبته إلى الشعر والسحر والكهانة والاختلاق ﴿كَيْداً﴾ بليغا ﴿وَأَكِيدُ﴾ أنا أيضا ، وادبّر في ترويجه وإبطال

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٩٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٤.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٤.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٠٠.

٤٧١

مساعيهم (١)﴿كَيْداً﴾ وتدبيرا متينا لا يمكنهم ردّه ، وهو نصرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإعلاء دينه ، وإذلال أعدائه ﴿فَمَهِّلِ﴾ أنت يا محمد ﴿الْكافِرِينَ﴾ المعاندين للحقّ ، ولا تستعجل في إهلاكهم والانتقام منهم.

ثمّ كرّر سبحانه الأمر بإمهالهم مع اختلاف اللفظين لزيادة التسكين من الرسول بقوله : ﴿أَمْهِلْهُمْ﴾ إمهالا ﴿رُوَيْداً﴾ وقليلا وعلى رفق وتؤدة ، أمهلهم حال كونك غير مستعجل في الانتقام إلى يوم القيامة ، أو إلى موتهم ، أو إلى أن يبلغ في الدنيا وقت الانتقام منهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « من كانت قرأته في الفرائض ﴿وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ﴾ كان له عند الله يوم القيامة جاه ومنزلة ، وكان من رفقاء النبيّين وأصحابهم في الجنّة » (٢) .

__________________

(١) في النسخة : مساعهم.

(٢) ثواب الاعمال : ١٢٢ ، مجمع البيان ١٠ : ٧١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٥.

٤٧٢

في تفسير سورة الأعلى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الطارق المتضمّنة لبيان مبدأ خلق الانسان والمنّة عليه بنعمة إيجاده وبيان عظمة القرآن وكونه فاصلا بين الحقّ والباطل ، المقتضي لتسبيحه وتعظيمه ، نظمت سورة الأعلى المبتدئة بأمر النبيّ بتسبيحه وتنزيهه ، وبيان خلق الانسان ، والمنّة عليه بنعمه هذه تعالى ، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسبيحه بقوله : ﴿سَبِّحِ﴾ يا محمد نزّه عن العيوب والنقائص ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ وما يطلق على ذاته ﴿الْأَعْلَى﴾ والأرفع من جميع الموجودات شأنا ومقاما وسلطانا ، أو أعلى من أن يصفه الواصفون ويذكره الذاكرون.

وقيل : إنّ المراد بالاسم علمه تعالى ، والمقصود تنزيه ذاته ببيان أبلغ وآكد ، حيث إن من كان اسمه واجب التنزيه والتقديس ، كان تنزيه ذاته أوجب وألزم (١) .

وقيل : إن تنزيه اسمه عدم تسمية غيره تعالى به (٢) ، ومثل صونه عن الابتذال ، والذكر على وجه التعظيم والخشوع (٣) .

وقيل : إنّ المراد من الاسم ذاته (٤) ، وقيل : صفته (٥) ، والمعنى : نزّه صفته المنبئة عن ذاته المقدسة عن النقائص الإمكانية.

وقيل : إنّ لفظ اسم زائد ، والمراد : سبّح ربّك الأعلى (٦) .

عن الباقر عليه‌السلام قال : « إذا قرأت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ فقل : سبحان ربّي الأعلى ، وإن كنت في الصلاة فقل فيما بينك وبين نفسك » (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧١٩.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٣٥.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٠٣.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٣٥.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٣٦.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٧١٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٦.

٤٧٣

وعن ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ سورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قال : « سبحان ربّي الأعلى » (١) .

وروى بعض العامة عن عقبة بن عامر : أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قال [ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] : اجعلوها في سجودكم (٢) .

وقالوا : روي أنّه عليه‌السلام كان يقول في سجوده : « سبحان ربّي الأعلى » (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالتسبيح الصلاة ، والمعنى : صلّ باسم ربّك (٤) ، والظاهر هو الوجه الأول الذي ذكرنا.

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى * فَجَعَلَهُ

 غُثاءً أَحْوى (٢) و (٥)

ثمّ وصف سبحانه ذاته المقدّسة بصفات دالّة على كمال قدرته وحكمته المقتضي لاستحقاق التسبيح بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ الانسان أولا من تراب ، ثمّ من نطفة ﴿فَسَوَّى﴾ خلقه بأن عدل قامته ، أو جعله بحيث يمكنه أن يأتى بجميع الأفعال التي لا يقدر عليها غيره من الموجودات ، ومنها العبادات.

وقيل : يعني خلق الميزان فسوّى خلقه بأن جعل له أعضاء أو حواسا يتوقّف تعيّشه عليها (٥) ، أو خلق كلّ شيء فسوّى خلقه بأن أحكمه وأتقنه (٦) .

﴿وَالَّذِي قَدَّرَ﴾ كلّ إنسان ، أو كلّ شيء بقدر مخصوص يناسبه من الجثّة والعظم والصغر واللّون والشّكل وغيرها من الصفات ومدّة البقاء والسعادة والشقاوة ﴿فَهَدى﴾ الانسان بإعطائه العقل وإرسال الرسل إلى خيره وشرّه ، أو الحيوان إلى ما به من التناسل وتدبير التعيّش ، وجلب ما فيه صلاحه ودفع ما فيه ضرره ، أو جميع الموجودات إلى ما به تكامله بجعل القوى المصلحة فيه ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ﴾ وأنبت من الأرض ﴿الْمَرْعى﴾ والكلأ الاخضر ، كما عن ابن عباس (٧) ﴿فَجَعَلَهُ﴾ بعد طراوته وخضرته ﴿غُثاءً أَحْوى﴾ ويابسا أسود بسبب برودة الهواء ولصوق المكدّرات كالغبار أو ما يحمله السيل من الأجزاء الكدرة.

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى * وَنُيَسِّرُكَ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧١٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٦.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٣٧.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٣٥.

(٥) تفسير الصافي ٥ : ٣١٦ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٥٨٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٠٤.

(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ١٤٣ ، جوامع الجامع : ٥٣٨.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٠.

٤٧٤

لِلْيُسْرى (٦) و (٨)

ثمّ حثّ سبحانه خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر أكمل نعمه بقوله : ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ يا محمد ، ونتلو عليك القرآن الذي فيه علوم الأولين والآخرين ، وما يكون وما هو كائن ، وجميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ﴿فَلا تَنْسى﴾ شيئا منه أبدا ، بل هو باق في حفظك ، فلا تخف من نسيانه ﴿إِلَّا ما شاءَ اللهُ﴾ أن تنساه ، ولا يشاء ذلك أبدا ، وإنّما الفرض من الاستثناء إظهار أنّ بقاءه في حفظه لا يكون إلّا بمشيئته وفضله عليه لا بقدرة نفسه.

عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه الوحي يقرأه مخافة أن ينساه ، فكان لا يفرغ جبرئيل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوله ، فلمّا نزلت هذه الآية لم يئس بعد ذلك شيئا (١) .

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه مخيّر بين الجبر في القراءة وإخفاته بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ﴾ إن جهرت بالقراءة ﴿وَ﴾ يعلم ﴿ما يَخْفى﴾ من قراءتك.

وقيل : إنّ المعنى أنّه عالم بجهرك في القراءة مع جبرائيل ، وعالم بالسرّ الذي في قلبك (٢) .

﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾ ونوفّقك ﴿لِلْيُسْرى﴾ والطريقة الأسهل في حفظ القرآن ، أو للشريعة التي هي أسهل الشرائع. وعن ابن مسعود : اليسرى الجنّة ، والمعنى نيسّرك للعمل المؤدّي إليها (٣) .

﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي

 يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٩) و (١٣)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه لطفه بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنزول القرآن ، أمره بدعوة الخلق إليه بقوله : ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى﴾ والعظة فيهم ، والنّكتة في ذكر هذا الشرط مع وجوب العظة عليه نفعت أو لا تنفع ، حثّ الناس على الاتّعاظ ، وإن كان فيه فائدة إتمام الحجّة.

وقيل : إنّ فائدته تنبيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الذكر لا ينفعهم ، كأنّه قال : ذكّرهم إن نفعت الذكرى ، ولا أرى أن تنفعهم (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه المنتفعين بالعظة بقوله : ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ وينتفع البتة بذكرك وعظتك ﴿مَنْ يَخْشى﴾ الله والرجوع إليه بعد الموت ، وهو الذي لا يقطع بعدم البعث ، ولمّا كان القاطع غير معين يجب تعميم العظة.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٧.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٢.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٣.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٤.

٤٧٥

قيل : إنّ الآية نزلت في ابن امّ مكتوم. وقيل : في عثمان (١) .

ثمّ بيّن غير المنتفع بقوله : ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا﴾ ويحترز منها ولا يسمعها سماع القبول ﴿الْأَشْقَى﴾ وأقسى الناس قلبا وأعداهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كأبي جهل والوليد وأضرابهما ﴿الَّذِي يَصْلَى﴾ ويدخل ﴿النَّارَ الْكُبْرى﴾ والطبقة الأسفل في جهنّم ﴿ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها﴾ فيتخلّص من العذاب ﴿وَلا يَحْيى﴾ حياة ينتفع بها.

قيل : إنّ نفس كلّ منهم [ تصير ] في حلقه ، فلا تخرج فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها فيحيى(٢) .

قيل : إنّ ذكر كلمة ﴿ثُمَ﴾ للدلالة على أنّ هذه الحالة أشدّ وأفظع من الصلي ، فهو متراخ في مراتب الشدّة (٣) .

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا *

 وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى * إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ

 وَمُوسى (١٤) و (١٩)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حال الأشقى ، ذكر حسن حال المتّقي عن الكفر بقوله : ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وفاز بأعلى المقاصد ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾ وتطهّر من دنس الكفر عن ابن عباس : معنى ﴿تَزَكَّى﴾ أن يقول : لا إله إلّا الله (٤) ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ وعرفه بقلبه. وعن ابن عباس : ذكر معاده ، ووقوفه بين يدي ربّه (٥)﴿فَصَلَّى﴾ قيل : مراتب أعمال الانسان ثلاثة : إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وهي التزكية ، وإنارة القلب بنور معرفة الله وهي ذكر الربّ ، ثمّ الاشتغال بالعبادة وهو الصلاة (٦) .

وعن ابن عمر : إن المراد بالتزكّي إخراج صدقة الفطرة (٧) . وقيل : المراد بالتزكّي المضيّ إلى المصلّى ، وبالذكر أن يكبّر في الطريق حين خروجه إلى المصلّى ، وبالصلاة [ أن يصلّي صلاة ] العيد بعد ذلك مع الامام (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله عزوجل : ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ قال : « من أخرج الفطرة » قيل له : ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ؟﴾ قال : خرج إلى الجبّانة فصلّى(٩) .

وعنه عليه‌السلام : قال لرجل : ما معنى قوله : ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ؟﴾ قال : كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٥.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٦.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٧.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٤٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٠٩.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٠.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٠.

(٩) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٢٣ / ١٣٧٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٧.

٤٧٦

قال : « لقد كلّف الله هذا شططا » قال : فكيف هو ؟ فقال : « كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد وآله » (١) .

ثمّ كأنّه قيل : لا تفعلون أيّها الكفار ذلك ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ وتختارون ﴿الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ ولذّاتها ﴿وَ﴾ الحال أنّ ﴿الْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ وأفضل من الدنيا ؛ لأن نعمها ولذّاتها أعلى وأخلص من شائبة الآلام والغوائل ﴿وَأَبْقى﴾ وأدوم ، بل لا انقطاع لها ولا انصرام ﴿إِنَّ هذا﴾ المذكور من الفلاح بالتزكية ، وأن الآخرة خير وأبقى ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى﴾ والكتب السابقة المنزلة من السماء ، أعني ﴿صُحُفِ إِبْراهِيمَ﴾ الخليل ﴿وَ﴾ صحف ﴿مُوسى﴾ بن عمران الكليم.

روي أنّ جميع ما أنزل الله من كتاب مائة وأربعة كتب ، أنزل على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والانجيل والزبور والفرقان ، فصحف موسى هي الألواح التي كتبت فيها التوراة (٢) . وقيل صحفه كانت قبل التوراة ، وهي عشر (٣) .

وعن ( الخصال ) عن أبي ذرّ رضوان الله عليه : أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: كم أنزل الله من كتاب ؟ قال : « مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والإنجيل والزّبور والفرقان » .

قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : « كانت أمثالا كلّها ، وكان فيها : أيّها الملك المبتلى ، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ، ولكنّي بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم ، فانّي لا اردّها وإن كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا أن يكون له أربعة ساعات : ساعة يناجي فيها ربّه وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة فيها يتفكّر فيما صنع الله عزوجل إليه ، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال ، فانّ هذه الساعة عون لتلك الساعات » .

إلى أن قال : « وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، فانّ من حسب كلامه من علمه قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : مرمّة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذّذ في غير محرّم » .

قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى ؟ قال : « كانت عبرا كلّها ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلّبها كيف يطمئنّ إليها ، ولمن يؤمن بالقدر كيف ينصب ، ولمن يؤمن بالحساب ثمّ لا يعمل » هكذا النسخة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٥٩ / ١٨ ، وتفسير الصافي ٥ : ٣١٨ ، عن الامام الرضا عليه‌السلام.

(٢و٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١١.

٤٧٧

قال : قلت : فهل في أيدينا ممّا أنزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم وموسى ؟ قال : يا أبا ذر ، اقرأ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ إلى آخر السورة (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما أعطى الأنبياء شيئا إلّا وقد أعطاه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله » . قال : وقد أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما أعطى الأنبياء ، وعندنا الصّحف التي قال الله عزوجل : ﴿صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ﴾. قيل : هي الألواح ؟ قال : « نعم » (٢) .

عن الصادق : « من قرأ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ في فريضة ونافلة قيل له يوم القيامة : ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنّة شئت إن شاء الله » (٣) .

وعنه : « الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ » (٤) .

__________________

(١) الخصال : ٥٢٤ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٨.

(٢) الكافي ١ : ١٧٦ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٩.

(٣) ثواب الأعمال : ١٢٢ ، مجمع البيان ١٠ : ٧١٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٩.

(٤) ثواب الأعمال : ١١٨ ، مجمع البيان ١٠ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٩.

٤٧٨

في تفسير سورة الغاشية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ * عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى

 ناراً حامِيَةً * تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ

 وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (١) و (٧)

ثمّ لمّا ختمت سورة الأعلى المختتمة بذمّ الكفّار بإيثار الدنيا على الآخرة مع كون الآخرة خير وأبقى من الدنيا ، نظمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان أحوال الآخرة ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بذكر أهوال القيامة بقوله : ﴿هَلْ أَتاكَ﴾ يا محمد ﴿حَدِيثُ الْغاشِيَةِ﴾ وخبر القيامة التي تكون داهية تغشي الناس بشدائدها وتغطّيهم وتحيط بهم أهوالها ، فانّه من عجائب الأخبار وبدائع الآثار التي حقّها أن يبادر إلى سماعها العقلاء ، ويشتاق إلى تلقيّها الأزكياء (١) وفي رواية : « الذين يخشون الإمام » (٢) .

ثمّ كأنه قيل : ما خبرها وكيف هي ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت أصحابها ﴿خاشِعَةٌ﴾ ذليلة قد عراهم الخزي والهوان ؛ لأنّهم تكبّروا عن طاعة الله ورسوله ﴿عامِلَةٌ﴾ ومتحمّلة للمشاقّ ، كالعبور على الصراط ، وجرّ السلاسل والأغلال ﴿ناصِبَةٌ﴾ وتعبة لطول الوقوف عراة حفاة جياعا عطاشا ، أو لثقل السلاسل التي ذرعها سبعون ذراعا.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كلّ ناصب - وإن تعبّد واجتهد - منسوب إلى هذه الآية ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لا يبالى الناصب صلّى أم زنا ، وهذه الآية نزلت فيهم : ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ » (٤) .

أقول : هذه الروايات تأويل لا تنزيل.

__________________

(١) في النسخة : سماعة العقلاء ، ويشتاق إلى تلقيّة الأزكياء.

(٢) الكافي ٨ : ١٧٩ / ٢٠١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢١.

(٣) الكافي ٨ : ٢١٣ / ٢٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢١.

(٤) الكافي ٨ : ١٦٠ / ١٦٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢١.

٤٧٩

ثمّ بعد ذلك ﴿تَصْلى﴾ وتدخل ﴿ناراً حامِيَةً﴾ وبالغة أعلى درجة الشدّة في الحرارة ﴿تُسْقى﴾ تلك الوجوه وأصحابها بعد استغاثتهم في مدّة طويلة من شدّة العطش ﴿مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ ومتناهية في الحرارة.

قيل : لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت ، وإذا ادنيت من وجوههم تناثرت لحومها ، وإذا شربوا قطعت أمعاءهم (١) .

﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ وشوك يابس فيه سمّ قاتل ، كما قيل (٢) .

وعن ابن عباس : الضريع شيء في النار يشبه الشوك ، أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشدّ حرّا من النار (٣) .

أقول : الظاهر أن المراد نار الدنيا.

قيل : هذا طعام بعض أهل النار ، والزقّوم والغسلين طعام آخرين (٤) .

عن الصادق عليه‌السلام في تأويل الآيات ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ﴾ قال : « يغشاهم القائم عليه‌السلام بالسيف ﴿خاشِعَةٌ﴾ لا تطيق الامتناع ﴿عامِلَةٌ﴾ قال : عملت بغير ما أنزل الله ﴿ناصِبَةٌ﴾ قال نصبت غير ولاة أمر الله ﴿تَصْلى ناراً﴾ الحرب في الدنيا على عهد القائم ، وفي الآخرة نار جهنم»(٥) .

ثمّ روي أنّ كفار قريش قالوا استهزاء : إنّ الضريع ليسمن إبلنا (٦) ، فنزلت ﴿لا يُسْمِنُ﴾ الضريع آكله ، لأنّه يصير جزء بدنه ﴿وَلا يُغْنِي﴾ ولا يكفي ﴿مِنْ جُوعٍ﴾ لأنّه ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ، إذ ليس فيه منافع الغذاء ، بل أكله عذاب فوق العذاب.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً *

 فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ * فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ

 * وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (٨) و (١٦)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال الكفّار في الآخرة ، بيّن حسن حال المؤمنين فيها بقوله : ﴿وُجُوهٌ﴾ اخر ﴿يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ﴾ ومبتهجة وحسنة مضيئة ، أو متنعّمة بالنّعم الجسمانية والروحانية ﴿لِسَعْيِها﴾ وعملها في الدنيا ﴿راضِيَةٌ﴾ لرضائها بثمراتها وثوابها متمكّنة ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ ومرتفعة فوق السماوات ، أو عالية المقدار لكمال شرفها وما فيها من النّعم ﴿لا تَسْمَعُ﴾ تلك الوجوه ﴿فِيها﴾ كلمة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٣.

(٢و٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٣.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٣.

(٥) الكافي ٨ : ٥٠ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢١.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٣.

٤٨٠