نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

كتب السيئات رجاء أن يتوبوا ، أو يتداركوها بالحسنات ، أو يصعدون بأعمالهم إلى الله ، فان كانت حسنة شهدوا بها ، وإن كانت سيئة سكتوا ، وقالوا : ربّنا أنت الستّار ﴿كاتِبِينَ﴾ للأعمال ﴿يَعْلَمُونَ﴾ لحضورهم عندكم في جميع الأوقات والأحوال ﴿ما تَفْعَلُونَ﴾ من الأفعال قليلها وكثيرها خفيّها وجليها.

في الحديث : « أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى الحالتين : الجنابة والغائط » (١) .

وعن القمي [﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ قال ] : بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وأمير المؤمنين عليه‌السلام : ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ﴾ قال : الملكان الموكلان بالانسان (٣)﴿كِراماً كاتِبِينَ﴾ يبادرون بكتابة الحسنات لكم ، ويتوانون بكتابة السيئات عليكم ، لعلّكم تتوبون وتستغفرون (٤) .

وعن الكاظم عليه‌السلام قال : « إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : قف فانّه قد همّ بالحسنة ، فاذا هو عملها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له ، فاذا همّ بالسيئة خرج نفسه نتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فانّه قد همّ بالسيئة ، فاذا هو فعلها كان ريقه مداده ولسانه قلمه فأثبتها عليه » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : ما علّة الموكلين بعباده يكتبون ما عليهم ولهم ، والله عالم السرّ وما هو أخفى ؟ قال : « استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّهم على طاعة الله مواظبة ، ومن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهمّ بمعصيته فذكر مكانهم فارعوى وكفّ ، فيقول : ربّي يراني ، وحفظتي علي بذلك تشهد » (٦) .

﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ * وَما

 هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ * وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ *

 يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٣) و (١٩)

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في ذلك اليوم وسوء حال الكفّار والعصاة بقوله : ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ﴾ والصّلحاء من المؤمنين ومطيعيهم لربّهم ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ عظيم دائم لا انقطاع له ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾ والعتاة والعصاة ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾ ونار سجّرها القهّار بغضبه ﴿يَصْلَوْنَها﴾ ويقاسون حرّها

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٠.

(٢) في النسخة : القمي عن النبي.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٠٩.

(٤) تفسير الصافي ٥ : ٢٩٦.

(٥) الكافي ٢ : ٣١٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٦.

(٦) الاحتجاج : ٣٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٦.

٤٤١

ويباشرونها بجميع أعضائهم ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ ووقت الجزاء على الأعمال ﴿وَما هُمْ عَنْها﴾ في آن من زمان حياتهم الأبدية ﴿بِغائِبِينَ﴾ ومخرجين.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه يوم الدين عظّم شأنه تهويلا للناس بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأي شيء أعلمك ﴿ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ وأيّ حدّ له في الشدّة والفظاعة ؟

ثمّ كرّر سبحانه الجملة مبالغة في التهويل معطوفة بثمّ للدلالة على الترقّي في التأكيد بقوله : ﴿ثُمَّ ما أَدْراكَ﴾ أيّها الانسان الدراك ﴿ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ وأيّ شيء صفته ؟ فانّ إدراكه خارج عن طوق البشر في هذا العالم.

ثمّ بيّن سبحانه فظاعة ذلك اليوم بطريق الإجمال بقوله : ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ﴾ من النفوس ﴿لِنَفْسٍ﴾ اخرى ﴿شَيْئاً﴾ من النفع والضرر ، ولا قدرة لأحد في حقّ غيره قريبا كان أو صديقا أو غيرهما على أمر من الامور ﴿وَالْأَمْرُ﴾ والسلطنة المطلقة الكاملة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت الهائل ﴿لِلَّهِ﴾ وحده لا يزاحمه ولا يشاركه أحد فيما أراد.

في الحديث : « من قرأ ﴿إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة ، وبعدد كلّ قطر ماء حسنة ، وأصلح الله شأنه يوم القيامة » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ هاتين السورتين ، وجعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة والنافلة ﴿إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ و﴿إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ لم يحجبه الله من حاجة ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر إلى الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس » (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٣.

(٢) ثواب الأعمال : ١٢١ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٧٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٧.

٤٤٢

في تفسير سورة المطففين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ

 وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ

 النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة الانفطار المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة وظهور السلطنة المطلقة الإلهية ، وأن لكلّ نفس ملائكة يكتبون أعمالها ، وأن الأبرار في نعيم ، وأن الفجّار في جحيم ، نظمت سورة التطفيف المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة ، وقيام الناس فيه لربّ العالمين ، وأنّ كتاب الأبرار في علّيين ، وكتاب الفجّار في سجّين ، أنّ الأبرار في نعيم : فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه العصاة في آخر السورة السابقة ، وكان التطفيف من أعظم المعاصي ابتدأ هذه السورة بتهديد المطفّفين بقوله : ﴿وَيْلٌ﴾ وشرّ شديد ، أو هلاك فظيع ، أو عذاب أليم - وعن الباقر عليه‌السلام في حديث « بلغنا - والله أعلم - أنّها بئر في جهنّم » (١) - ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ والباخسين حقوق الناس خفية بالمكيال والميزان. عن الباقر عليه‌السلام : « أنزل في الكيل والوزن ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ولم يجعل الويل لأحد حتى يسمّيه كافرا ، قال الله : ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا*﴾ إلى آخره » (٢) .

وهم : ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا﴾ وأخذوا بالكيل مالهم ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ أو إضرارا عليهم ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ ويأخذونه كاملا وافيا ، أو وافرا وزائدا على حقّهم بالحيل والسرقة من أفواه المكاييل أو ألسنة الموازين : ﴿وَإِذا كالُوهُمْ﴾ وأعطوا حقّهم بالكيل ﴿أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ وأعطو حقّهم بالوزن ﴿يُخْسِرُونَ﴾ وينقصونه ، مع أنّ الكيل والوزن جعلا لتسوية الحقوق وتعديلها.

عن ابن عباس : لمّا قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا ، فأنزل الله هذه الآية ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.

(٢) الكافي ٢ : ٢٧ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.

٤٤٣

فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل : كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون ، وكانت بيوعهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأها عليهم ، وقال : « خمس بخمس » قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهر فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات واخذوا بالسّنين ، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم المطر(١) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « نزلت على نبيّ الله حين قدم المدينة ، وهم يومئذ أسوأ الناس كيلا ، فأحسنوا بعد عمل الكيل » (٢) .

ثمّ وبّخ سبحانه المطفّفين بقوله : ﴿أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ﴾ المطفّفون ولا يحسبون ﴿أَنَّهُمْ﴾ من هذا العمل القبيح الشنيع ﴿مَبْعُوثُونَ﴾ من قبورهم : ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لا يقادر قدر عظمته لعظم أهواله وشدائده ، لوضوح أنّ الظنّ بإتيان هذا اليوم كاف في التحرّز من القبائح التي يظنّ الابتلاء بتبعاتها.

وقيل : إنّ المراد من الظنّ العلم (٣) ، لكون النظر في الآية إلى أهل المدينة ، وهم كانوا مصدّقين بالبعث في زمان نزولها. عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أليس يوقنون ﴿أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(٤)﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أعني : ﴿يَوْمَ﴾ القيامة الذي ﴿يَقُومُ﴾ فيه ﴿النَّاسُ﴾ من قبورهم ﴿لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وللمحاسبة عنده ، وحينئذ تظهر لهم عظمة شناعة العمل القبيح وعقابه ، وإن كانوا يرونه في الدنيا حقيرا ، أو يحتمل أنّ المراد من القيام الحضور عنده تعالى.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر»(٥).

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف اذنيه » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في القراب ، ليس له من الأرض إلّا موضع قدمه » (٧) .

أقول : في الآية غاية التهديد حيث أثبت الويل للمطففين ، ثمّ وبّخهم ثانيا بأشدّ التوبيخ ، ثمّ وصف يومهم بالعظمة وما عظّمه الله تعالى كان في غاية العظمة ، ثمّ ذكّرهم القيامة مع غاية الخشوع والذلّة لربّ العالمين الذي هو في غاية العظمة والهيبة والقدرة ، وفيه دلالة على كمال حكمته وعدالته

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٨٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ٨٩.

(٤) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣١ : ٩٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٥.

(٧) الكافي ٨ : ١٤٣ / ١١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩.

٤٤٤

المقتضية لأن لا يرضى بأقلّ قليل من الظّلم ، فكيف بالكثير.

قيل : إنّ أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان : قد سمعت ما قال الله في المطفّفين - أراد أنّه تعالى بالغ في تهديد المطفّف في أخذ القليل بالكيل والوزن - فكيف حالك وأنت تأخذ الكثير من أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن (١) .

﴿كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ * كِتابٌ مَرْقُومٌ *

 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ

 مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٧) و (١٣)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المطفّفين والردع عنه بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس أمر التطفيف بهذه الحقارة التي تظنّونها. وقيل : إنّ ﴿كَلَّا﴾ هنا بمعنى حقّا (٢)﴿إِنَّ كِتابَ﴾ أعمال ﴿الفُجَّارِ﴾ الذين منهم المطفّفون ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ والأرض السابعة السّفلى ، كما عن الباقر عليه‌السلام وابن عباس (٣) ، لغاية بشاعته وحقارته ، أو في أسفل منها في مكان مظلم هو مسكن إبليس وذريّته ، كما عن بعض المفسّرين (٤) . أو في صخرة تحت الأرض السّفلى ، كما عن بعض آخر (٥) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « سجّين جبّ في جهنّم » (٦) .

أقول : الظاهر أنّه علم مأخوذ من السجن.

عن الباقر عليه‌السلام - في رواية - « وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتّى إذا بلغ في السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين ، وهو واد بحضر موت يقال له : برهوت » (٧) .

أقول : يحتمل أن يكون لسجّين معنيان.

وعن الكاظم عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله تعالى : ﴿إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ قال : « هم الذين فجروا في حقّ الأئمة واعتدوا عليهم » (٨) .

أقول : الظاهر أنّهم أظهر مصاديق الفجّار ، كما أنّ قول الصادق عليه‌السلام قال : «هو فلان وفلان» كذلك (٩) .

ثمّ عظّم سبحانه السجّين إرعابا للقلوب بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ أيّها الإنسان ﴿ما سِجِّينٌ﴾ ثمّ قيل : إنّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٦.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٩٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩ ، ولم ترد فيهما كلمة : السفلى ، تفسير الرازي ٣١ : ٩٢.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ٩٢ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٢٦.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٩٢.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٦٨٨ ، تفسير الرازي ٣١ : ٩٢.

(٧) مجمع البيان ٤ : ٦٤٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩.

(٨) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٤١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩.

٤٤٥

الله تعالى ذمّ كتاب الفجّار (١) بقوله : ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ ومكتوب فيه أعمال الكفّار والفجّار والفسقة من الجنّ والإنس ، تشهده الشياطين. وقيل : مرقوم بمعنى مختوم (٢) . وقيل : يعني كتاب معلّم ( بعلامة ) دالة على شقاوة صاحبه وكونه من أصحاب النار (٣) ﴿وَيْلٌ﴾ عظيم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي وقت قيام الناس لربّهم ، أو وقت تطائر الكتب ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أعني ﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ وأعرضوا عن الآيات البينات الناطقة به.

﴿وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ﴾ ومتجاوز عن حدود العقل ، ومقتصر على التقليد غال فيه ﴿أَثِيمٍ﴾ ومصرّ على عصيان الله ، منهمك في الشهوات الفانية ، غافل عمّا وراءها من اللذات الباقية ، من خبث ذاته وإصراره على الكفر : ﴿إِذا تُتْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِ﴾ لإنذاره وهدايته ﴿آياتُنا﴾ المنزلة في القرآن الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوى رسالته وصحّة البعث. ﴿قالَ﴾ عنادا ولجاجا : إنّها ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وهي من أكاذيب الأنبياء السابقين ، أو الأخبار المسطورة في دفاتر الامم السالفين ، وتعلّمها محمد ونسبها إلى الله.

قيل : إنّ القائل الوليد بن المغيرة (٤) . وقيل : النضر بن الحارث (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام في تأويله : « هو الأول والثاني ، كانا يكذّبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٦) .

﴿كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)

ثمّ ردعهم الله سبحانه عن التكذيب بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس الأمر كما يقولون ﴿بَلْ رانَ﴾ وغلب ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ أو غطّى عليها أو طبع عليها ﴿ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ويرتكبون من الكفر والفجور والعصيان حتّى صار كالصدأ على مرآة.

عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فاذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء ، فان تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض ، [ فإذا غطّي البياض ] لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا ، وهو قوله تعالى : ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٦.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٩٣.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٦.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣١ : ٩٤.

(٦) تتفسير القمي ٢ : ٤١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٠.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٩٤ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٢٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٧.

٤٤٦

يَكْسِبُونَ ﴾ » (١) .

أقول : لعلّ المراد بالبياض لين القلب ونورانيته ، وبالسواد قسوته وظلمته ، وبعده عن التأثّر بالمواعظ الإلهية والآيات القرآنية ، وجرأته على الله إلى أن ينتهى أمره إلى الكفر ، كما قال تعالى : ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ(٢) .

﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ

 يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٥) و (١٧)

ثمّ ردعهم سبحانه عن توهّم أنه ليس عليهم تبعة في تكذيبهم بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس الأمر كما يتوهّمون من أنهم لا يؤاخذون بما يقولون ، بل ﴿إِنَّهُمْ عَنْ﴾ ثواب ﴿رَبِّهِمْ﴾ وكرامته ، كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣)﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي وقت قيامهم من القبور ، أو في محضر العدل والحساب ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ ومحرومون ، فلا تشملهم الرحمة الواسعة الإلهية أبدا لعدم قابليتهم لنيلها.

: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ﴾ مع حرمانهم من الرحمة والكرامة ﴿لَصالُوا الْجَحِيمِ﴾ وملقون فيها بعنف وقهر ، ومباشرون حرّها من غير حاجز وحائل أصلا : ﴿ثُمَ﴾ يضاف على عذابهم الجسماني العذاب الروحاني إذ ﴿يُقالُ﴾ لهم توبيخا وتقريعا والقائل الزبانية والملائكة الغلاظ الشداد حين إشرافهم على النار ، أو بعد إلقائهم فيها : أيّها الكفرة المنكرون للبعث والحساب وجزاء الأعمال ﴿هذَا﴾ العذاب ﴿الَّذِي﴾ ترونه بأعينكم وابتليتم به اليوم ، هو العذاب الذي أخبركم به الأنبياء والمؤمنون في الدنيا و﴿كُنْتُمْ بِهِ﴾ عنادا ولجاجا ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ وتستهزئون.

﴿كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ *

 يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (١٨) و (٢١)

ثمّ ردعهم الله سبحانه عن توهّم أنّهم في الآخرة مساوون للمؤمنين ، بل هم أحسن حالا منهم بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّكم في الآخرة على تقدير تحقّقها ووقوعها كالمؤمنين في حسن الحال ، وأنّهم مثلكم فيها ، بل ﴿إِنَّ كِتابَ﴾ أعمال المؤمنين ﴿الْأَبْرارِ﴾ والصلحاء الأخيار ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ وأعالي الأمكنة ، أو أعالى الجنّة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٠٩ / ٢٠ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٠.

(٢) الروم : ٣٠ / ١٠.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٦٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٠.

٤٤٧

عن ابن عباس : أنّ علّيين السماء الرابعة (١) . وفي رواية اخرى عنه : أنّه السماء السابعة (٢) . وقيل : هي سدرة المنتهى (٣) . وقيل : هي قائمة العرش اليمنى (٤) . وقيل : هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة والاكرام قد عظّمها الله وأعلى شأنها (٥) . وقيل : هي عند ديوان أعمال الملائكة (٦) ، إن كان لهم أيضا ديوان كما للانسان.

وعلى أي تقدير قد عظّمه الله تعالى بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ أيّها العاقل الدراك ﴿ما عِلِّيُّونَ﴾ وأي مكان هو في عظمة الشأن ورفعة المنزلة عند الله وعند أوليائه ؟ فانّ إدراككم وعقلكم قاصر عن دركه والإحاطة به في الدنيا.

ثمّ مدح سبحانه كتاب الأبرار بقوله : ﴿كِتابٌ﴾ وديوان ﴿مَرْقُومٌ﴾ ومكتوب فيه أعمالهم الخيرية ، يعرفها كلّ من نظر فيه ، أو معلّم بعلامة دالة على أنّ أصحابه من السعداء ، أو مختوم : ﴿يَشْهَدُهُ﴾ الملائكة ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ عند الله. قيل : كما وكّلهم الله باللّوح المحفوظ كذلك وكّلهم بحفظ كتاب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو امّ الكتاب إعظاما له (٧) .

والحاصل على ما قيل : إنّ الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار يسلّمونها إلى هؤلاء المقرّبين ، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم ، أو ينقلون ما في تلك الكتب إلى ذلك الكتاب الذي وكّلوا بحفظه ، فيصير علمهم شهادة (٨) .

وقيل : إنّ المراد كتاب موضوع في علّيين ، كتب فيه ما أعدّ الله لهم من الكرامة والثواب (٩) .

عن ابن عباس : إنّه مكتوب في لوح من زبرجد معلّق تحت العرش (١٠) .

قيل : يشهد ذلك الكتاب إذا سعد به إلى عليّين المقرّبون من الملائكة كرامة للمؤمن (١١) .

روي أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه ، فاذا انتهوا إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم : أنّكم الحفظة على عبدي ، وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنّه أخلص عمله ، فاجعلوه في علّيين ، فقد غفرت له. وإنّها تصعد بعمل العبد فيزكّونه ، فاذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم : أنتم الحفظة على عبدي ؛ وأنا الرقيب على قلبه ، إنّه لم يخلص لي عمله ، فاجعلوه في سجّين (١٢) .

عن الباقر عليه‌السلام قال : « إنّ الله خلقنا من أعلى علّيين ، وخلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، وقلوبهم تهوي إلينا ، لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه » ثمّ تلا هذه الآية ﴿كَلَّا إِنَ

__________________

(١- ٦) تفسير الرازي ٣١ : ٩٧.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٩٧.

(٨-١١) تفسير الرازي ٣١ : ٩٧.

(١٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٠.

٤٤٨

كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(١) .

﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ

 النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ

 الْمُتَنافِسُونَ (٢٢) و (٢٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عظمة كتاب الأبرار بيّن حال أنفسهم في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ﴾ والصلحاء من المؤمنين في الآخرة ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ ورزق كريم ، وإنما كيفية نعمهم أنّهم : ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ والسّرر التي في الحجال ﴿يَنْظُرُونَ﴾ إلى ما أعدّ الله لهم من البساتين والقصور والأطعمة والأشربة والفواكه والحور والغلمان وسائر ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، وإلى حال أعدائهم وشدّة عذابهم : ﴿تَعْرِفُ﴾ أيّها الناظر ﴿فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ وبهجته وبهاءه والاستبشار ، وقيل : يزيد في وجوههم من الحسن والجمال والنور ما لا يصفه واصف (٢) و ﴿يُسْقَوْنَ﴾ بأيدي الحور والغلمان ﴿مِنْ رَحِيقٍ﴾ وخمر صاف خالص لا غشّ ولا غائلة فيه ﴿مَخْتُومٍ﴾ بأمر الله مطبوع عليه لئلا تمسّه يد لامس إكراما له بالصيانة على ما جرت العادة من ختم ما يصان ويكرم ﴿خِتامُهُ﴾ وما يختم به بدل الطين ﴿مِسْكٌ﴾ أذفر رطب ينطبع فيه الخاتم.

وقيل : يعني عاقبته مسك ، بمعنى أنّ الشارب إذا رفع فاه من آخر شربة وجد ريحه كريح المسك(٣). وقيل : يعني خلطة المسك تطييبا لطعمه ورائحته (٤) . وقيل : هو كناية عن صحة أبدانهم وقوّة شهوته ، حيث إنّ خلط المسك معين على الهضم وقوّة الشهوة (٥) .

وعن أبي الدرداء : شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به آخر شربهم ، ولو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيب ريحه (٦) .

﴿وَفِي ذلِكَ﴾ النعيم المذكور ، أو الرحيق المختوم ﴿فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ وليرغب الراغبون ، لا في النّعم الدنيوية الكدرة السريعة السؤوال والفناء.

﴿وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ

 الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٢٠ / ٤ ، و٢ : ٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠١.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ٩٩.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ٩٩.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٩٩ و١٠٠.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٠.

٤٤٩

انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ * وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ

 حافِظِينَ (٢٧) و (٣٣)

ثمّ بالغ سبحانه في مدح الرحيق بقوله : ﴿وَمِزاجُهُ﴾ وخليطه شيء ﴿مِنْ﴾ ماء ﴿تَسْنِيمٍ﴾ أعني : ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ سئل ابن عباس عن تسنيم فقال : هذا ممّا يقول الله : ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ(١) .

وقال أيضا : أشرف شراب أهل الجنّة هو تسنيم ، لانّه يشربه المقرّبون صرفا ، ويمزح لأصحاب اليمين (٢) .

روي أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم ، فاذا ملئت مسك الماء حتى لا تقع قطرة منه على الأرض ، فلا يحتاجون إلى الاستسقاء (٣) .

ثمّ لمّا ذكر سبحانه كرامة الأبرار وعلوّ منزلتهم عنده في الآخرة ، ذكر توهين الكفّار إياهم وتحقيرهم واستهزائهم بهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وأصرّوا على الكفر والعصيان كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحزابهما ﴿كانُوا﴾ في الدنيا ﴿مِنَ﴾ حال ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالنبي عن صميم القلب ﴿يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء بهم لما هم فيه من الفقر والشدّة ، ﴿وَ﴾ إنّ المؤمنين ﴿إِذا مَرُّوا بِهِمْ﴾ وهم في أنديتهم ﴿يَتَغامَزُونَ﴾ ويعيبونهم ، ويشيرون إليهم بالأجفان والحواجب ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء السفهة يتعبون أنفسهم ويحرمونها من اللذات ويخاطرون بها (٤) في طلب ثواب موهوم :﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا﴾ وانصرفوا من مجامعهم ﴿إِلى أَهْلِهِمُ﴾ وأقاربهم ﴿انْقَلَبُوا﴾ وانصرفوا حال كونهم ﴿فَكِهِينَ﴾ ومعجبين بما هم فيه من الشرك والتنعّم ، أو متلذّذين بذكر المسلمين بالسوء والاستهزاء.

﴿وَإِذا﴾ يشاهدوا المؤمنين و﴿رَأَوْهُمْ قالُوا﴾ تحقيرا لهم : ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ المؤمنين ﴿لَضالُّونَ﴾ حيث تركوا دين آبائهم والتنعّم بالنّعم ، واغترّوا بوعد محمد ووعيده ﴿وَ﴾ الحال أنّ المجرمون و ﴿ما أُرْسِلُوا﴾ من قبلنا إلى المؤمنين ليكونوا ﴿عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ يحفظونهم من الضلال ، ويرشدونهم إلى الحقّ والصواب ، فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ضلالا. وفيه إشعار بأن تعيين الحقّ والضلال شأن المرسلين من الله ، لا شأن الناس الجهلة والحمقاء.

روى بعض العامة منهم الفخر ، أنّه جاء عليّ عليه‌السلام في نفر من المسلمين ، فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا الأصلح ، فضحكوا منه ، فنزلت الآيات قبل أن

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ : ١٠٠ ، والآية من سورة السجدة : ٣٢ / ١٧.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٢.

(٤) في النسخة : ويخاطرونها.

٤٥٠

يصل عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ

 ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٤) و (٣٦)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المجرمين يجازون في الآخرة على ضحكهم من المؤمنين بقوله : ﴿فَالْيَوْمَ﴾ الذي هو يوم الحساب والجزاء على الأعمال ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ ويسخرون حين يرونهم أذلاء ، معذّبين ومعلولين لتحزّزهم وتكبّرهم في الدنيا ، وإنّهم يأكلون الزقّوم ويشربون الحميم والغسّاق بعد تنعّمهم وترفهم.

روي أنّهم يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم : اخرجوا إليها ، فإذا وصلوا اغلق دونهم ، فيضحك المؤمنون منهم (٢) حال كونهم جالسين : ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ والسّرر المحجّلة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ إلى سوء حال المجرمين في النار ، وهم يقولون ، أو الله ، أو الملائكة يقولون : ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾ وعوّضوا ﴿ما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَفْعَلُونَ﴾ من الضّحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. وفيه تسلية للمؤمنين بأنّه سينقلب الحال ويكون الكفار في الآخرة مضحوكا منهم ، وتعظيم للأولياء.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ في الفريضة ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار ، ولم تره ولا يراها ، ولا يمرّ على جسر جهنّم ، ولا يحاسب يوم القيامة » (٣) . قد تمّ تفسير السورة بحمد الله ومنّه (٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٠١.

(٢) جوامع الجامع : ٥٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٣ ، في النسخة : المؤمن منهم.

(٣) ثواب الأعمال : ١٢٢ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٨٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٣.

(٤) في النسخة : والمنّة.

٤٥١
٤٥٢

في تفسير سورة الانشقاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ ما

 فِيها وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ * يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ

 كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة التطفيف المتضمنة بيان عظمة يوم القيامة ، وعظمة كتاب أعمال الأبرار ، ومهانة أعمال الفجّار ، ورجوع الكافرين (١) إلى أهلهم مسرورين بكفرهم باستهزائهم بالمؤمنين ، نظمت سورة الانشقاق المتضمّنة لبيان أهوال القيامة ، وحسن حال المؤمنين الذين يؤتون كتاب أعمالهم بأيمانهم ، وسوء حال الفجّار الذين يؤتون كتابهم بشمالهم ، ورجوع المؤمنين في الآخرة إلى أهلهم مسرورون ، فابتدئها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ افتتحها ببيان أهوال يوم القيامة بقوله : ﴿إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ لنزول الملائكة أو للسقوط ، أو الانطواء أو لهول القيامة.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تنشق من المجرّة ، وهي البياض المستطيل في وسط السماء » (٢) .

﴿وَأَذِنَتْ﴾ السماء وانقادت ﴿لِرَبِّها﴾ وخالقها حين أراد انشقاقها ، كانقياد العبد المطيع لأمر مولاه المطاع ، أو الرعية لحكم السلطان القاهر المقتدر ﴿وَحُقَّتْ﴾ السماء ، حقيقتها بالانقياد له ، لكونها موجودة بايجاد ، باقية بابقائه ، مقهورة تحت قدرته ، مربوبة بتربيته ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ﴾ بأمره تعالى ﴿مُدَّتْ﴾ وبسطت بإزالة جبالها وتلالها وآكامها عن مقارّها بحيث صارت كالصحيفة الملساء ، أو زيدت في سعتها لتتسع لوقوف الأولين والآخرين عليها للحساب.

عن ابن عباس : إذا كان يوم القيامة مدّ الله الأرض مدّ الأديم العكاظي (٣) .

__________________

(١) في النسخة : المؤمنين.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٥.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٣ ، وفيه : الأديم الكاظمي ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٥ ، ولم يذكر الراوي.

٤٥٣

﴿وَأَلْقَتْ﴾ ورمت ﴿ما فِيها﴾ من الكنوز والموتى من بطنها إلى ظاهرها بالزّلزال ﴿وَتَخَلَّتْ﴾ عمّا تحمله بحيث لا يبقى فيها شيء ﴿وَأَذِنَتْ﴾ وانقادت ﴿لِرَبِّها﴾ في الإلقاء والتخلّي ﴿وَحُقَّتْ﴾ بهذا الانقياد ، وحقيقته لأنّه شأن الممكن بالنسبة إلى الواجب ، فعند ذلك وقعت الواقعة العظمى ، وظهرت الأهوال التي قصرت الألسن عن شرحها ووصفها.

﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ﴾ الغافل عن عاقبة أمرك ﴿إِنَّكَ كادِحٌ﴾ ومجدّ وساع في دنياك ، ومجتهد في تحصيل شهواتك ﴿إِلى﴾ لقاء ﴿رَبِّكَ﴾ بالموت ﴿كَدْحاً﴾ وجدّا بليغا ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ بعد الموت لا محالة ، وحاضر في محكمة عدله تعالى البتة لا مفرّ منه.

وقيل : إنّ ضمير ( ملاقيه ) راجع إلى الكدح (١) ، والمعنى فأنت ملاق كدحك وعملك بملاقاة صحيفة الأعمال.

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلى

 أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً *

 وَيَصْلى سَعِيراً * إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلى إِنَّ رَبَّهُ

 كانَ بِهِ بَصِيراً * فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا

 اتَّسَقَ (٧) و (١٨)

ثمّ بيّن سبحانه اختلاف أفراد الانسان في كتاب الأعمال بقوله : ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ﴾ يوم القيامة ﴿بِيَمِينِهِ﴾ وهو المؤمن الصالح الذي كتب أعماله الملك القاعد عن يمينه ﴿فَسَوْفَ يُحاسَبُ﴾ هذا المؤمن ﴿حِساباً يَسِيراً﴾ وسهلا لا مناقشة فيه ولا اعتراض عليه بما يسوء ، وهو على ما قيل : أن يعرف طاعته ومعصيته ، فيثاب على طاعته وتغفر معصيته (٢) .

﴿وَ﴾ إذن ﴿يَنْقَلِبُ﴾ وينصرف ﴿إِلى أَهْلِهِ﴾ وعياله وذريّاته إن كانوا في الجنّة ، أو إلى حور العين ﴿مَسْرُوراً﴾ وفرحا بنجاته من النار وفوزه بالجنة.

عن عائشة قالت : سمعت رسول الله يقول : « اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا » قلت : ما الحساب اليسير ؟ قال : « ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته ، فأمّا من نوقش في الحساب فقد هلك » (٣) .

وعنها أنّها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من نوقش في الحساب فقد هلك » فقلت : يا رسول الله ، إنّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٧.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٦.

٤٥٤

الله يقول : ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ؟﴾ قال : « ذلك العرض ، ولكن من نوقش في الحساب عذّب » (١) .

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ﴾ وأعطي ﴿كِتابَهُ﴾ وصحيفة عمله بشماله الذي جعل ﴿وَراءَ ظَهْرِهِ﴾ بعد ما غلّت يده اليمنى على ما قيل (٢) ، وقيل : تخلع يده اليسرى وتجعل من وراء ظهره (٣) . وقيل : إنّ يده في محلّها ، ولكن يعطى الكتاب بها من وراء ظهره. وقيل : يحوّل وجهه إى قفاه ، فيقرأ الكتاب كذلك(٤) ﴿فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً﴾ وهلاكا لنفسه ، ويقول : واثبوراه ، لعلمه بذلك أنّه من أصحاب النار ﴿وَ﴾ بعد ذلك ﴿يَصْلى سَعِيراً﴾ أو يدخل نارا لأجل ﴿إِنَّهُ كانَ﴾ في الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ﴾ وعياله وعشيرته ﴿مَسْرُوراً﴾ بالنّعم والراحة من تعب العبادة ومشقّة امتثال التكاليف ، لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر ، وعدم خوفه من الحساب ، أو مسرورا بما هو عليه من الكفر والتكذيب بالبعث ، وكان يضحك ممّن آمن بهما ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ ولن يرجع بعد الموت إلى الحياة الدنيا ، أو إلى الآخرة ، أو إلى الله ، كما عن بن عباس (٥) .

﴿بَلى﴾ يحور ويرجع إلى الحياة ويبعث ﴿إِنَّ رَبَّهُ﴾ الذي خلقه ﴿كانَ﴾ حين خلقه ﴿بِهِ﴾ وبخبث طينته وشقاوته وسوء عمله وعاقبته ﴿بَصِيراً﴾ وعالما ﴿فَلا﴾ يظنّ أن يهمله الله ولا يعاقبه على كفره ومعاصيه ﴿أُقْسِمُ﴾ أيّها الانسان ﴿بِالشَّفَقِ﴾ والحمرة الباقية في الافق بعد غروب الشمس ، كما عن بن عباس (٦) ﴿وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ﴾ وجمع الليل بظلمته من النجوم والحيوانات التي يرجع إلى أماكنها من الدوابّ والسّباع والوحوش والهوامّ والحشرات ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ واجتمع وتمّ وصار بدرا. قيل. اقسم الله تعالى بهذه الامور لظهور التحوّل والتغيير فيها (٧) الدالّ على قدرته الكاملة.

﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩)

ثمّ بيّن سحانه المقسم عليه بقوله : ﴿لَتَرْكَبُنَ﴾ ولتلاقنّ أيّها الناس حالا ﴿طَبَقاً﴾ وموافقا لحال السابق متجاوزا في الشدّة ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾ وحال موافق لسابقه. حاصل المراد - والله أعلم - لتلاقن حالا بعد حال كلّ واحدة مطابقة لاختها في الشدّة والهول أو فوقها.

وقيل : إنّ الطّبق جمع طبقة ، وهي المرتبة ، والمعنى : لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض ، وهي وما بعدها من مواطن البرزخ والقيامة ودواهيها إلى حين

__________________

(١- ٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٦.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٧.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٨.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٠ و٣٨١.

٤٥٥

الاستقرار في الجنّة أو النار (١) .

وقيل : إنّه المقصود أنّ الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة ممّا كانوا عليه في الدنيا (٢) فانّ الله لما أخبر عن حال من يؤتى كتابه وراء ظهره ، وأنّه كان في أهله مسرورا ، وأنه ظنّ أن لن يحور ، أخبر أنه يحور. ثمّ أقسم على أنّ الناس يركبون طبقا عن طبق في الآخرة ، أي حالا بعد حالهم في الدنيا.

وقيل : يعني لتركبنّ سنّة الأولين ممّن كانوا قبلكم في تكذيب الرسل والقيامة (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام : « ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ أي سنن من كان قبلكم » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « لتركبنّ سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم » (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أي لتسلكنّ (٦) سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء » (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « أولم تركب هذه الامّة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان » (٨) .

وعن القمي : يقول : لتركبنّ سبيل (٩) من كان قبلكم ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة لا تخطئن طريقهم ، ولا يخطئ (١٠) شبر بشير وذراع بذراع وباع بباع ، حتى أنّه لو كان من كان قبلكم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه ؟ قالوا اليهود والنصارى : من تعني يا رسول الله ؟ قال : « فمن أعني ، لتنقضنّ عرى الاسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة ، وآخره الصلاة » (١١) .

﴿فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا

 يُكَذِّبُونَ * وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا

 وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٠) و (٢٥)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه صحّة البعث بالآيات المعجزات ، وبّخ المشركين على عدم إيمانهم ، وأظهر التعجّب منه بقوله : ﴿فَما لَهُمْ﴾ من العذر ، وأي مانع لهم أنّهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بهذا القرآن وما فيه من الإخبار بالبعث والحساب ؟ ﴿وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ﴾ مع ما فيه من العلوم والإعجاز ﴿لا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨١.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣١ : ١١٠.

(٤) كمال الدين : ٤٨٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٥.

(٥) جوامع الجامع : ٥٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٥.

(٦) في النسخة : لتركبنّ.

(٧) الاحتجاج : ٢٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٦.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٤١٣ ، الكافي ١ : ٣٤٣ / ١٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٦.

(٩) في المصدر : سنّة.

(١٠) في المصدر : ولا تخطئون طريقتهم.

(١١) تفسير القمي ٢ : ٤١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٦.

٤٥٦

يَسْجُدُونَ﴾ ولا يخضعون لله عن ابن عباس : المراد بالسجود الصلاة (١) . وعن جماعة من المفسّرين : المراد نفس السجود (٢) .

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ ذات يوم : ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(٣) فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفّق فوق رؤوسهم وتصفر ، فنزلت الآية (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم سجودهم وإيمانهم بقوله : ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وبكتابه واليوم الآخر ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ الرسول والقرآن في إخبارهما بالبعث عنادا ولجاجا وتقليدا لآبائهم ، ولذا لا يخافون ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ﴾ من أنفسهم ﴿بِما يُوعُونَ﴾ وما يضمرون في قلوبهم من الحسد والبغي واللّجاج ، أو بما يجمعون في صحف أعمالهم من الكفر والعصيان ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ يا محمد ﴿بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ في الدنيا والآخرة ، فانّهم بأعمالهم يظهرون أنّه مطلوبهم ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منهم بعد كفرهم.

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع (٥) ، والمعنى : لكن الذين آمنوا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ من الطاعات والعبادات ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَجْرٌ﴾ وثواب عظيم ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ومقطوع ، بل متّصل ودائم ، أو غير ممنون به عليهم ، فانّ المنّة تكدّر النعمة.

قد مرّ ذكر ثواب قراءتها.

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣١ : ١١١.

(٣) العلق : ٩٦ / ١٩.

(٤) جوامع الجامع : ٥٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٦.

(٥) الكشاف ٤ : ٧٢٨ ، تفسير الرازي ٣١ : ١١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٦.

٤٥٧
٤٥٨

في تفسير سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحابُ

 الْأُخْدُودِ (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختمت سورة الانشقاق المتضمّنة لانكار المشركين بالبعث ودار الجزاء ، وعدم إيمانهم بالقرآن وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان فيه تألّم قلبه الشريف ، نظمت سورة البروج المتضمّنة لحكاية امتناع أصحاب الاخدود من الايمان ، وإحراقهم المؤمنين بالنار ، وتهديد الذين يؤذون المؤمنين بالعذاب ، لتسلية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها سبحانه بالقسم بأشياء عظيمة القدر والشرف ، لظهور آثار قدرته وحكمته بها بقوله : ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ﴾ الاثني عشر التي فيها تسير الشمس في السنة الشمسية. وقيل : إنّ المراد بالبروج منازل القمر (١) ، وهي ثمانية وعشرون كوكبا (٢) . وقيل : هي الكواكب العظام (٣) وتسميتها بالبروج لظهورها ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ للناس بلسان الأنبياء ، وهو يوم القيامة ، كما رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) وهو يوم فصل القضاء ، وظهور تفرّد الله تعالى بالملك والسلطان ﴿وَشاهِدٍ﴾ وحاضر في ذلك اليوم من الملائكة والجنّ والإنس ، ﴿وَ﴾ يوم ﴿مَشْهُودٍ﴾ وهو يوم القيامة ، كما عن ابن عباس (٥) ، لمعاينة العجائب التي ليست في غيره ، ولقوله تعالى : ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ(٦) .

وعن أبي موسى الأشعري : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة » (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١١٣ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٣٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٥.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١١٣ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٣٥.

(٤) تفسير الرازي ٣١ : ١١٣.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ١١٤.

(٦) هود : ١١ / ١٠٣.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ١١٥.

٤٥٩

وعن أبي هريرة مرفوعا قال : « المشهود يوم عرفه والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل منه ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلّا استجاب له ، ولا يستعيد من شرّ إلا أعاذه منه » (١) .

وعن ابن المسيب مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة » (٢) .

ورواية العامة عن أمير المؤمنين (٣) رواه أصحابنا عن الصادق (٤) وعن الباقر عليهما‌السلام أنّه سئل عن ذلك فقال : « ما قيل لك » فقال السائل : قالوا شاهد يوم الجمعة ، ومشهود يوم عرفة. فقال : « ليس كما قيل لك ، الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم القيامة ، أما تقرأ القرآن ؟ قال الله عزوجل : ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن ذلك فقال : « النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام » (٦) .

وعلى أي تقدير قيل : إنّ جواب القسم محذوف (٧) ، والتقدير : لعن كفّار مكة كما ﴿قُتِلَ﴾ ولعن ﴿أَصْحابُ الْأُخْدُودِ﴾ وأهل الخنادق. قيل : كانوا ثلاثة : انطيانوس الرومي بالشام ، وبخت نصر بفارس ، ويوسف ذو نؤاس الحميري بنجران يمن ، كلّ واحد منهم حفر خندقا عظيما ، طوله أربعون ذراعا ، وعرضه اثنا عشر ذراعا ، وملأوه نارا ، وألقوا فيه المؤمنين (٨) .

قيل : إنّ المقصود بأصحاب الاخدود في الآية ذو نؤاس النجراني اليهودي وجنوده ، قالوا : إنّ عبدا صالحا يقال له : عبد الله بن الثامر ، وقع إلى نجران ، وكان على دين عيسى عليه‌السلام ، فدعاهم فأجابوه ، فسار إليهم ذو نؤاس بجنود من حمير ، فخيّرهم بين النار واليهودية ، فأبوا اليهودية ، فحفر الخنادق وأضرم فيها النيران ، فجعل يلقي فيها كلّ من اتّبع ابن الثامر حتّى أحرق نحوا من اثني عشر ألفا ، أو عشرين ألفا أو سبعين ألفا ، وكان اسم ذو نؤاس زرعة بن حسّان ملك حمير ، وسمّى نفسه يوسف (٩).

وروي أنّه انفلت رجل من أهل نجران ، اسمه دوس ذو ثعلبان ، ووجد إنجيلا محترقا بعضه ، فأتى به ملك الحبشة ، وكان نصرانيا ، فقال له : إنّ أهل دينك اوقدت لهم نار فأحرقوا بها واحرقت كتبهم ، وهذا بعضها. فأراه الذي جاء به ، ففزع لذلك ، فكتب إلى صاحب الروم يستمدّه بنجّارين يعملون له

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣١ : ١١٥.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١١٥.

(٤) معاني الأخبار : ٢٩٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٨.

(٥) معاني الأخبار : ٢٩٩ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٨.

(٦) الكافي ١ : ٣٥٢ / ٦٩ ، معاني الأخبار : ٢٩٩ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٨.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ١١٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٥.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٦.

(٩) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٦.

٤٦٠