نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

العذاب عليهم ﴿هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ ومفرّ أو ملجأ منه ؟ ولم يجدوه.

وقيل : إنّه من كلام الله تعالى مخاطبا لقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، والمعنى : أنّ الامم الماضية اهلكوا مع قوة بطشهم ، فهل لكم يا قوم محمد من محيص ومهرب عن العذاب ؟

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من إهلاك الامم لكفرهم وطغياهم ، والله ﴿لَذِكْرى﴾ وعظة ﴿لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ يفقه به ويتفكّر فيما يرد فيها ، ويدرك سوء عاقبة الكفر والطغيان ، أو لمن كان له عقل ، كما عن الكاظم عليه‌السلام. وعن ابن عباس (٢)﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ ولم يمسكه عن سماع ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ وحاضر بذهنه ليفهم معانيه ، أو شاهد بصدقه فيتّعظ بظواهره وينزجر بزواجره.

وقيل : يعني والمنذر الذي تعجّبتم منه شهيد ، كما قال : ﴿إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً(٣) .

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ

 * فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ

 * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ

 قَرِيبٍ (٣٨) و (٤١)

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على إمكان إعادة الخلق للحساب بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾ بطبقاتها ﴿وَما بَيْنَهُما﴾ من الموجودات ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ وأوقات بلا استعانة بالغير ﴿وَما مَسَّنا﴾ وما أصابنا بذلك شيء ﴿مِنْ لُغُوبٍ﴾ وتعب ونصب حتى نعجز من إعادة الخلق ثانيا ، فانّ خلق كلّ منها بالارادة المعبّر عنها بأمر ( كن ) بلا حاجة إلى حركة وتحمّل كلفة ومشقّة ، لاستحالة الحاجة في الواجب ، وفيه أيضا ردّ على اليهود حيث زعموا أنّ الله بدأ خلق العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستلقى يوم السبت على العرش واستراح.

ثمّ لمّا كان شدّة إنكار المشركين رسالة الرسول والبعث والمعاد ثقيلا على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمره سبحانه بالصبر وتنزيهه تعالى عن العجز بقوله : ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد ﴿عَلى﴾ أذى المشركين و﴿ما يَقُولُونَ﴾ في شأنك وشأن البعث من التعجّب من رسالتك واستبعاد البعث والإعادة بعد الموت ، كما

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٨٢.

(٢) الكافي ١ : ١٢ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٣٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٨٣ ، والآية من سورة الفتح : ٤٨ / ٨.

٤١

صبر اولو العزم من الرسل ، فانّك تظفر على أعدائك كما ظفروا ﴿وَسَبِّحْ﴾ ونزّه الله من العجز من تجديد الخلق وسائر الصفات الممكنات ، وأقرن تسبيحه ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ على ما أنعم عليك من الرسالة وإصابة الحقّ في الوقتين ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ وهو وقت العصر ، فأنهما أشرف الأوقات ﴿وَمِنَ﴾ أول ﴿اللَّيْلِ﴾ أو بعضه ﴿فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ﴾ وأعقابه.

قيل : إنّ المراد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار عظمة الله وتنزيهه من العجز بالبرهان في مجامع العرب ، وأن لا يسأم عن التبليغ بسبب أقاويلهم الباطلة ، فانّ العرب كانوا يجتمعون في تلك الأوقات (١) .

وقيل : إنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل الغروب صلاة الظهر والعصر ، وفي بعض الليل أو أوله صلاة المغرب والعشاء ، وبالتسبيح في أدبار السجود صلاة النوافل أدبار الفرائض(٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله : ﴿وَأَدْبارَ السُّجُودِ﴾ قال : « ركعتان بعد المغرب » (٣) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، قال : « أربع ركعات بعد المغرب » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام « أنّه الوتر في آخر الليل » (٥) .

وقيل : إنّ المراد بالتسبيح والتحميد قول : سبحان الله والحمد لله (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « تقول حين تمسي وحين تصبح عشر مرات : لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير»(٧).

قيل : إنّ وظيفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هداية الخلق وعبادة الحقّ (٨) ، والمراد من الآية إذا لم يهتدوا بهدايتك ، فاشتغل بعبادة ربك ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ يا محمد ما اوحي إليك ، ولا تكن من المعرضين عنه ، أو استمع النداء ﴿يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ﴾ بقوله : ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ(٩) أو بقوله : ﴿أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(١٠) وقوله للمتقين : ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ(١١) أو بقوله : ﴿أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(١٢) واعلم أنّ هذه الوجوه مبنية على كون المنادي هو الله عزوجل.

أو بقوله : ايتها العظام النخرة ، اجتمعن واتّصلن واحشرن للحساب ، بناء على كون المنادي إسرافيل.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٨٥.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٠.

(٣) الكافي ٣ : ٤٤٤ / ١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٨٥.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٢٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ١٨٥.

(٩) الصافات : ٣٧ / ٢٢.

(١٠) سورة ق : ٥٠ / ٢٤.

(١١) سورة ق : ٥٠ / ٣٤. (١٢) الأنعام : ٦ / ٢٢.

٤٢

قيل : إن إسرافيل يقوم على الصخرة وينادي : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطّعة ، واللحوم المتمزّقة ، والشعور المتفرّقة ، إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (١) .

وقيل : إنّ جبرئيل ينادي بالحشر (٢) . ﴿مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ من جميع الناس يسمعه كلّهم على حدّ سواء.

﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ

 وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ *

 نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ

 وَعِيدِ (٤٢) و (٤٥)

ثمّ بيّن سبحانه يوم نداء المنادي بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ يخرج جميع الناس من القبور و﴿يَسْمَعُونَ﴾ من إسرافيل ﴿الصَّيْحَةَ﴾ والنفخة الثانية في الصّور ، وهي مقرونة ومتلبّسة ﴿بِالْحَقِ﴾ والتحقّق ، أو مصحوبة باليقين والقطع ، لا بالظنّ والشكّ ، أو المراد بالصيحة بالحشر الذي هو الحقّ بقوله : يا عظام اجتمعي.

أقول : هذا التفسير لا يوافق سماع الناس تلك الصيحة.

﴿ذلِكَ﴾ اليوم الذي تسمع فيه الصيحة ﴿يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ من القبور والسوق إلى المحشر والحساب ، ثمّ إلى الجنّة ، أو النار.

وعن القمي ﴿يُنادِ الْمُنادِ﴾ باسم القائم واسم أبيه (٣)﴿مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ بحيث [ يصل ] نداؤه إلى الكلّ سواء ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ﴾ قال : صيحة القائم من السماء ﴿ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(٤) .

وعنه ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « هي الرجعة » (٥) .

أقول : هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

ثمّ قرّر سبحانه دليل البعث والنشور بقوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿نُحْيِي﴾ الناس جميعا في الدنيا ﴿وَنُمِيتُ﴾ جميعهم فيها ﴿وَ﴾ بعد ذلك ﴿إِلَيْنَا﴾ لا إلى غيرنا ﴿الْمَصِيرُ﴾ والمرجع في الآخرة لحساب أعمالهم وجزائها ، وذلك الرجوع إلينا يكون ﴿يَوْمَ﴾ يحيا الناس في قبورهم ﴿تَشَقَّقُ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥ ، وفي النسخة : واسم الله.

(٤و٥) تفسير القمي ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٥.

٤٣

الْأَرْضُ﴾ ونكشف حجاب التّراب ﴿عَنْهُمْ﴾ ويخرجون من القبور ﴿سِراعاً﴾ بلا ريث وبطء ﴿ذلِكَ﴾ الإحياء والخروج ﴿حَشْرٌ﴾ وبعثّ عود ، وهو ﴿عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ وهيّن لا عسر وصعب.

ثمّ سلّى سبحانه نبيه وحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِما يَقُولُونَ﴾ هؤلاء الكفّار من إنكار الرسالة ، واستبعاد البعث بعد الموت ، وتكذيب الآيات الناطقة به ، وأنت لا تتعب نفسك بدعوتهم إلى الايمان بك وبكتابك وبالآخرة ، لأنّك لا تكون عليهم رقيبا ﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ تجبرهم على تصديقك ، وتقهر على الاقرار بالمعاد والبعث ، وإنّما عليك البلاغ والتذكير ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ﴾ الذي انزل إليك ، المشتمل على أدلّة رسالتك بجهات إعجازه ، وأدلّة قاطعة وبراهين واضحة على صحة البعث وجزاء الأعمال ، وعظ بما فيه من المواعظ الشافية والعبر الوافية ﴿مَنْ يَخافُ وَعِيدِ﴾ الله وتهديده بالعذاب الاخروي والدنيوي ، فانّهم المنتفعون بمواعظ الله ورسله ، وأمّا من عداهم ففوّض أمرهم إلينا ، فانّا نعاملهم بما يستحقّون ، ونفعل بهم ما يستوجبون له.

قيل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب في كثير من الأوقات بسورة ( ق ) لاشتمالها على ذكر الله والثناء عليه ، وعلمه بما توسوس به النفوس ، وما تكتبه الملائكة ، وتذكير الموت وسكرته وشدّته ، وتذكير القيامة وأهوالها ، والشهادة على الخلائق بأعمالهم ، وتذكير الجنّة والنار والصّيحة والنّشور والخروج من القبور ، والمواظبة على الصلوات (١) .

وفي الحديث : « من قرأ سورة ( ق ) هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من أدمن في فرائضه ونوافله سورة ( ق ) وسّع الله عليه في رزقه ، وأعطاه كتابه بيمينه ، وحاسبه حسابا يسيرا » (٣) .

الحمد لله الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة ، وأسأله التوفيق لإدمان قراءتها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٥.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٥ ، ونقل عن حواشي سعدى المفتي ، تارات الموت : إفاقاته وغشياته.

(٣) ثواب الأعمال : ١١٥ ، مجمع البيان ٩ : ٢١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٦.

٤٤

في تفسير سورة الذاريات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالذَّارِياتِ ذَرْواً * فَالْحامِلاتِ وِقْراً * فَالْجارِياتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّماتِ

 أَمْراً (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختمت سورة ( ق ) المصدّرة بالحلف على صدق رسالة رسوله وإثباته ، وإثبات البعث ، وتهديد المكذّبين بما نزل على قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقوم لوط ، وإثبات التوحيد ببناء السماء ومدّ الأرض وغيرها من الآيات ، اردفت بسورة الذاريات المصدّرة بالحلف على صدق المعاد ، وتهديد المنكرين بما نزل على اولئك الامم مع شرذمة من تفصيل العذاب الواقع بهم ، واثبات التوحيد ببناء السماء وفرش الأرض ، وبعض آخر من المطالب المهمة المربوطة بمطالب السورة السابقة.

قيل : لمّا بيّن الله الحشر بدلائله في السورة السابقة ، وقال : ﴿ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ(١) وذكر إصرار المشركين على الإنكار بقوله : ﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ(٢) لم يبق إلّا اليمين ، فنظمت بعدها سورة والذاريات (٣) ، المصدّرة بالحلف على المعاد ، وصدق البعث والحساب ، فابتدأها بذكر الاسماء الحسنى ، بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه بالحلف على صدق المعاد ، فابتدأ بالحلف بالرياح التي تذرّ التراب وتفرّقه في أقطار الأرض بقوله : ﴿وَالذَّارِياتِ﴾ والمطيرات للتّراب والأشياء الخفاف كالحشائش والتبن (٤) في أطراف الأرض ﴿ذَرْواً﴾ وإطارة خاصة بها ، وإنّما قدّم سبحانه الحلف بها لكونها أدلّ على كمال قدرته ، ثمّ حلف بقطعات السّحاب الحاملات للأمطار بقوله : ﴿فَالْحامِلاتِ وِقْراً﴾ وحملا ثقيلا من الماء ، وإنّما قدّمها لكونها أنفع للناس بعد الرياح ، ثمّ حلف سبحانه بالسّفن الجارية بتوسّط الرياح

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٤.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ٤٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٣.

(٤) في النسخة التبين.

٤٥

بقوله : ﴿فَالْجارِياتِ﴾ في البحار جريانا ﴿يُسْراً﴾ وسهلا. ثم حلف بالملائكة الذين يقسّمون الأمطار والأرزاق بقوله : ﴿فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً﴾ والمراد بالأمر جنسه ، فيشمل جميع الأمور المنقسمة بين الخلائق.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « الذاريات هي الرياح ، والحاملات هي السّحاب ، والجاريات هي السّفن ، والمقسمات هي الملائكة الذين يقسّمون الأرزاق » (١) .

وعن القمي رحمه‌الله ، عن الصادق عليه‌السلام : « أن أمير المؤمنين سئل عن ( الذاريات ذروا ) قال : الريح ، وعن ( الحاملات وقرا ) قال : السّحاب ، وعن ( الجاريات يسرا ) قال : هي السّفن ، وعن (المقسمات امرا ) قال : الملائكة » (٢) . وعن ( الاحتجاج ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مثله (٣) .

والعجب من الفخر الرازي أنّه نقل هذا التفسير عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومع ذلك اختار غيره ، مع رواية العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها » (٤) وأنّه مع الحقّ والحقّ معه (٥).

قال الناصب : الأقرب أنّ هذه صفات أربع للرياح التي تنشئ السّحاب أولا ، والحاملات هي الرياح التي تحمل السّحب التي هي بخار المياه التي إذا سّحت جرت السيول العظيمة ، وهي أوقار أثقل من الجبال ، والجاريات هي الرياح التي تجري بالسّحب بعد حملها ، والمقسمات هي الرياح التي تفرّق الأمطار على الأقطار (٦) .

وفيه مع أنّه تفسير بالرأي ومن فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ومخالف لما فسّره به نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسانه وعيبة علمه ، على تقدير ثبوته ، فاسد في نفسه لظهور أنّ الذاريات غير المنشئات ، والسائقات غير الحاملات ، والجاريات غير المجريات ، والمقسمات مطلق الأمر الشامل للأمطار والأرزاق وغيرها ، غير مقسمات خصوص المطر ، فالمقسمات أمرا كالمدبرات أمرا ، قيل : هم أربعة : جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل (٧) . والظاهر أنّ هؤلاء عمد المدبّرات ، وإلّا فالمدبّرات أكثر.

قيل : إنّ هذه الامور دلائل التوحيد أخرجها بصورة القسم (٨) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٥.

(٢) تفسير القمي : ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٧.

(٣) الاحتجاج : ٢٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٧.

(٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٦ و١٢٧ ، جامع الاصول ٩ : ٤٧٣ / ٦٤٨٩ ، أسد الغابة ٤ : ٢٢ ، تاريخ بغداد ١١ : ٤٩ و٥٠.

(٥) مناقب الخوارزمي : ٥٧ ، ترجمة الامام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٣ : ٥٣ / ١١٧٢.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٥.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٨.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٤.

٤٦

قيل : إنّ الرياح في الدلالة على كمال القدرة أتمّ لكونها أسبابا للسّحب ، والسّحب أتمّ دلالة عليه من السفن لكونها أغرب ماهية وأكثر نفعا ، وهذه الثلاثة لكونها من المحسوسات غير القابلة للانكار أتمّ دلالة من الملائكة ، لإمكان إنكار المنكر وجودهم ، ولذا صدّر الثلاثة بالفاء (١) .

وقيل : إنّ الترتيب المترقّي من الأضعف إلى الأقوى ، فانّ السّحب أقوى دلالة على كمال القدرة من الرياح ، لتألّفها من الأجزاء المائية والهوائية. وقليل من الأجزاء الأرضية والنارية ، وفيها غرائب من الآثار العلوية ، والسّفن أقوى دلالة من السّحب ، لتألفها [ من ] جميع العناصر على ما فيها من الصنعة البديعة والامور العجيبة من حمل الأثقال مع خفّة الحامل ، وقطعها المسافة البعيدة في زمان يسير بهبوب الرياح العاصفة ، والأدلّ من الجميع إقداره الروحانيات مع لطافتهم على التصرّف في الجسمانيات مع كثافته ، ولا اعتبار بانكار من لا عبرة به (٢) .

وقيل : إنّ وجه الترتيب كون حركة السّحاب والسفن من آثار الرياح ، وبعد الحلف بما يكون سببا للرزق ذكر مقسّمات الأرزاق (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالذاريات الكواكب السريعة في السير من ذرا يذرو ، بمعنى أسرع. وقيل : إنّ المراد الملائكة. وقيل : إنّ التقدير : وربّ الذاريات (٤) .

﴿إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ * وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ

 لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٥) و (٩)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّما تُوعَدُونَ﴾ أيّها المشركون من البعث والحشر والحساب ﴿لَصادِقٌ﴾ ومطابق للواقع ، لا مجال للشكّ فيه. قيل : إنّ الصادق بمعنى ذو صدق (٥) . وقيل : إنّ في وصف المصدر بما يوصف به الفاعل غاية المبالغة (٦) . ﴿وَإِنَّ الدِّينَ﴾ وجزاء الأعمال في الآخرة ﴿لَواقِعٌ﴾ وكائن لا محالة.

ثمّ حكى سبحانه اختلاف طريقة المشركين في تكذيب الرسول والمعاد والقرآن ، مؤكّدا بالحلف بقوله : ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ﴾ والطرائق المختلفة للكواكب ، أو ذات الأشكال المختلفة بسبب النجوم.

وعن ابن عباس : ذات الخلق الحسن المستوي (٧) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٨.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٨.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ١٤٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٥.

(٥و٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٦.

(٧) تفسير أبي السعود ٨ : ١٣٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٥٠.

٤٧

﴿إِنَّكُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ومتناقض في شأن الرسول ، فتارة تقولون : إنّه ساحر ، وتارة تقولون : إنّه كاهن ، وتارة تقولون : إنّه شاعر ، وتارة تقولون : إنّه مجنون ، ومرّة تقولون : إنّه مجادل ونحن عاجزون من الجدل ، وسادسة تقولون : إنّه أمين ، وسابعة تقولون : إنّه كاذب.

وفي شأن القرآن تارة تقولون : إنّه سحر ، وتارة تقولون : إنّه شعر ، وتارة تقولون : إنّه كهانة ، وتارة تقولون : إنّه أساطير.

وفي شأن المعاد تارة تقولون : إنّه متيقّن والأصنام شفعاؤنا عند الله ، وتارة تقولون : إنّه مظنون ، وتارة تقولون : إنّه مشكوك ، وتارة تقولون : إنّه مقطوع العدم.

وقيل : إنّ المراد أنّكم غير ثابتين على قول ، ومن يكون كذلك لا يكون متيقنا في اعتقاده (١) .

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله : ﴿يُؤْفَكُ﴾ عن الرسول ، أو عن القرآن ، أو عن القول بالحشر ، ويصرف ﴿عَنْهُ﴾ مع كونه حقا يجب الايمان به ﴿مَنْ أُفِكَ﴾ وصرف عن كلّ خير وسعادة ، إذا لا صرف أفظع وأشنع منه.

وقيل : إنّه مدح للمؤمنين ، فإنّهم يصرفون عن القول المختلف [ ويصرفون ] من صرف عن كلّ باطل ، ويرشدون إلى القول المستوي (٢) ، وفيه ما لا يخفى من الضّعف.

﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ * يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ *

 يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ

 تَسْتَعْجِلُونَ (١٠) و (١٤)

ثمّ أظهر سبحانه الغضب على منكري رسالة الرسول والقرآن بالدعاء عليهم بقوله : ﴿قُتِلَ﴾ ولعن ﴿الْخَرَّاصُونَ﴾ والمعتمدون على الحدس والتخمين في دينهم ، والمتّبعون فيه لهوى أنفسهم ، مع أنّ الدين لا بدّ فيه من اليقين والاعتماد على البراهين.

ثمّ لمّا كانت توصيفهم بالخرص غير صريح في الذمّ ، وصفهم بما فيه التصريح به بقوله : ﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ كائنون ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾ وشدّة جهل وضلال و﴿ساهُونَ﴾ وغافلون عمّا يراد بهم ، بل عن أنفسهم ، أو عمّا امروا به من قبل ربّهم.

ثمّ حكى سبحانه ما يدلّ على شدّة جهالتهم وبغضهم للحقّ بقوله : ﴿يَسْئَلُونَ﴾ أولئك المشركون عنك استهزاء بقولك : ( انّ الدين لواقع ) ويقولون : يا محمد ﴿أَيَّانَ﴾ ومتى يقع ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ ووقت

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٨.

٤٨

جزاء الأعمال وابتلائنا بالعذاب.

ثمّ لمّا كان غرضهم من السؤال الاستهزاء ، هدّدهم بما يشبه الجواب وليس بجواب بقوله : ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ فيه ﴿عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ويعذّبون بها ، كما يفتن الذهب بالنار ويحرق خبثه. قيل : يعني يعرضون على النار كعرض المجرّب للذهب المذهّب عليها (١) ، كأنّهم يجرّبون عليها ، وتقول لهم خزنة جهنّم حين تعذيبهم : ﴿ذُوقُوا﴾ أيّها المنكرون للحشر ﴿فِتْنَتَكُمْ﴾ وعذابكم ، أو ما به امتحانكم وابتلاؤكم في الدنيا من العقائد والأعمال ﴿هذَا﴾ العذاب ﴿الَّذِي﴾ يتذوّقونه الآن ما ﴿كُنْتُمْ بِهِ﴾ في الدنيا ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ استهزاءا بالرسول وبإخبارنا به في كتابنا ، وسخرية منه حيث كنتم تقولون : متى هذا الوعد ، أو أيّان يوم الدين.

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ

 مُحْسِنِينَ * كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحارِ هُمْ

 يَسْتَغْفِرُونَ (١٥) و (١٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين وشدّة عذابهم في الآخرة ، بيّن حسن عاقبة المتّقين والمجتنبين عن الشرك والكفر والعصيان في الدنيا ، المحترزين من عذاب الله في الآخرة بقوله : ﴿إِنَ﴾ المؤمنين ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ عن الشرك والعصيان في الدنيا ، متمكّنون في الآخرة ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات قصور وبهاء وبهجة لا يمكن توصيفها ﴿وَ﴾ في ظلال ﴿عُيُونٍ﴾ غريزة ، وأنهار جارية في أطرافهم بحيث يرونها ويفرحون بالنظر إليها حال كونهم ﴿آخِذِينَ﴾ وقابلين ﴿ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ بفضله من النّعم الجسام ، وراضين به لغاية جودته وكماله.

قيل : في قوله : ﴿ما آتاهُمْ﴾ بصيغة الماضي ، دلالة على أنّ الإعطاء والتمليك كان في الدنيا ، والقبول والأخذ كان منهم في الآخرة (٢) .

ثمّ بيّن الله سبحانه علّة الإنعام على المتّقين بتلك النّعم العظيمة الجسمية بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ في العالم الذي كان ﴿قَبْلَ ذلِكَ﴾ العالم ، وهو عالم الدنيا ﴿مُحْسِنِينَ﴾ في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ، فأعطوا بذلك أحسن الجزاء ، وكان من حسناتهم أنّهم ﴿كانُوا﴾ في الدنيا مقدارا وزمانا ﴿قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ﴾ ووقت نوم جميع الناس ﴿ما يَهْجَعُونَ﴾ وينامون ، وزمانا كثيرا منه يذكرون الله ، ويصلّون ويعبدون.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠١.

٤٩

قيل : إن كلمة ( ما ) في ( ما يهجعون ) زائدة مؤكّدة للقلّة (١) . وقيل : إنّها مصدرية ، والمعنى قليلا من الليل هجوعهم ونومهم (٢) .

قيل : نزلت في شأن الأنصارن حيث كانوا يصلّون في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يمضون إلى قبا ، وبينهما ميلان (٣) . وقيل : إنّهم كانوا لا ينامون حتى يصلّون العشاء الآخرة (٤) .

وروى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : « من يهجع ما بين المغرب والعشاء حتى يشهد العشاء فهو منهم » (٥) .

وفي ( الكافي ) عنه عليه‌السلام : « كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « كان القوم ينامون ، ولكن كلّما انقلب أحدهم قال : الحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر » (٧) .

﴿وَبِالْأَسْحارِ﴾ والثّلث الآخر من الليالي ﴿هُمْ﴾ على الدوام ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ربّهم لذنوبهم. وقيل : يعني بالأسحار يصلّون طلبا لمغفرة ذنوبهم (٨) .

في فضيلة الاستغفار في الأسحار

روي أنّ الله تعالى قال : « إنّ أحبّ أحبّائي إليّ هم الذين يستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض شيئا ذكرتهم فصرفت بهم عنهم » (٩) .

قيل : يا رسول الله ، كيف الاستغفار ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قولوا : اللهمّ اغفر لنا ، وأرحمنا ، وتب علينا ، إنّك أنت التواب الرحيم » (١٠) .

﴿وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي

 أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (١٩) و (٢١)

ثمّ إنّه تعالى بعد مدح المتّقين بعبادة ربّهم وتعظيمه ، وشفقتهم على أنفسهم بطلب مغفرة ذنوبهم ، مدحهم بشفقتهم على الخلق وإحسانهم إلى العباد بقوله : ﴿وَفِي أَمْوالِهِمْ﴾ التي أعطاهم الله إياها ، وخصّهم الله بها ﴿حَقٌ﴾ عظيم ونصيب وافر يوجبونه على أنفسهم ﴿لِلسَّائِلِ﴾ والفقير الذي يستعطيهم ﴿وَ﴾ الفقير ﴿الْمَحْرُومِ﴾ الذي لا يستعطيهم ، بل يتعفّف عن السؤال والطلب ، بحيث يحسبه الناس غنيا فيحرم الصدقات.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠١ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٥٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠٢ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٣٨.

( ٣ - ٥ ) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٣.

(٦) الكافي ٣ : ٤٤٦ / ١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٩.

(٧) التهذيب ٢ : ٣٣٥ / ١٣٨٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٩.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٥٥.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٤.

(١٠) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٤.

٥٠

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « المحروم المحارف (١) الذي حرم كدّ يده من الشراء والبيع » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « المحروم الذي ليس بعقله بأس ، ولا يبسط له الرزق ، وهو محارف » (٣) .

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عبادة المتقين وحسن أعمالهم وحسن جزائهم ، بيّن استحقاقه للعبادة والجهد في الطاعة وطلب مرضاته بقوله : ﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾ سهلها وجبلها ، وبرّها وبحرها ، وعيونها وأنهارها ، ومسالكها وفجاجها ، ونباتها وأشجارها ، وأثمارها ومعادنها ، وما رتّب فيها ودبّر لمنافعها لسكّانها ﴿آياتٌ﴾ عظيمة ، ودلائل واضحة على وجود صانعها ووحدانيته ، وقدرته وعلمه وحكمته ، وإرادته ورحمته ، وإنّما يكون الانتفاع بتلك الآيات ﴿لِلْمُوقِنِينَ﴾ بتوحيد الله ، فانّهم لا يغفلون عنه في حال ، ويرون له في كلّ شيء آية ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ خصوصا آيات ودلائل على أن لها صانعا مستجمعا لجميع الكمالات ، حيث إنّه انطوى في كلّ فرد منكم نظير كلّ موجود يكون في العالم ، مع ماله من الأفعال البديعة والصنائع المختلفة العجيبة ، والعلوم الشريفة ، والمعارف العالية ، والكمالات النفسانية الانسانية ، أ أنتم عمون ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ تلك الآيات بعين البصيرة حتى تعتبروا وتستدلّوا بالصنعة على الصانع وبالنقش على النقّاش وكماله.

فى فضيلة علي عليه‌السلام

روى بعض العامة : أنّ عليا عليه‌السلام صعد يوما على المنبر فقال : « سلوني عمّا دون العرش ، فانّ ما بين جوانحي علم جمّ ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فمي ، هذا ما رزقني الله من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رزقا » وفي رواية : « هذا ما رقّني رسول الله زقّا ، فو الذي نفسي بيده ، لو اذن الله للتوراة والانجيل أن يتكلّما ، فأخبرت بما فيهما لصدقاني » .

وكان في المجلس رجل يماني ، فقال : ادّعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنّه. فقام وقال : يا علي ، أسأل ؟ قال « سلّ تفقّها ولا تسأل تعنّتا » .

فقال : أنت حملتني على ذلك ، هل رأيت ربّك يا علي ؟ قال : « ما كنت أعبد ربا لم أره » . فقال : كيف رأيت ؟ فقال : « لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأت القلوب بحقيقة الإيمان ، ربّي واحد لا شريك له ، أحد لا ثاني له ، فرد لا مثل له ، لا يحويه مكان ، ولا يداوله زمان ، ولا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالقياس » فسقط اليماني مغشيا عليه ، فلمّا أفاق ، قال : عاهدت الله أن لا أسال تعنّتا (٤) .

﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما

__________________

(١) المحارف : المحروم يطلب فلا يرزق.

(٢) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٠.

(٣) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١٢ ، وتفسير الصافي ٥ : ٧٠ ، عن الباقر والصادق عليهما‌السلام.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٩.

٥١

أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ * هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ

 فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ *

 فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ

 بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *

 قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا

 الْمُرْسَلُونَ * قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ

 طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٢٣) و (٣٤)

ثمّ لمّا مدح الله سبحانه المتّقين بأنّ في أموالهم حقا معلوما ، حثّ الناس على إنفاق أموالهم بقوله تعالى : ﴿وَفِي السَّماءِ﴾ مكتوب ومقدّر ﴿رِزْقُكُمْ﴾ وما يلزم لمعايشكم ، ولو لا التقدير لما حصل لكم في الأرض حبّة قوت ، ولو بذلتم في تحصيله غاية الجهد. وقيل : يعني أسباب رزقكم (١) من المطر وغيره ﴿وَما تُوعَدُونَ﴾ من خير وشرّ ورخاء وثواب وعقاب.

وعن المجتبى عليه‌السلام أنّه سئل عن أرزاق الخلائق ، فقال : « في السماء الرابعة ، تنزل بقدر وتبسط بقدر » (٢) .

﴿فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ الذي يربّيهما ويربّي ما فيهما بإيصال ما يوجب بقاءها وكمالها ﴿إِنَّهُ لَحَقٌ﴾ وصدق.

قيل : الضمير راجع إلى ( يوم الدين ) حيث قالوا : ( ايان يوم الدين ) (٣) .

وقيل : إنّه راجع إلى القرآن حيث قال سبحانه : ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ ومعنى المقسم عليه أنّه حقّ يكلّم به الملك من قبل الله ، وينطق (٤) به ﴿مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ وتتكلّمون (٥) . وقيل : إنّه راجع إلى ما يوعدون من الجنّة (٦) . والمعنى كما أنّكم تتكلّمون ولا تشكّون في كلامكم.

وقيل : إنّه راجع إلى ما أخبر به من كون الأرزاق في السماء (٧) ، وهو الأظهر.

في الحديث : « أبى ابن آدم أن يصدّق ربّه حتى أقسم له فقال : ﴿فَوَ رَبِّ السَّماءِ ﴾» الآية(٨) .

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « قاتل الله أقواما أقسم الله لهم بنفسه فلم يصدّقوه » انتهى (٩) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٧١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧١.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠٩.

(٤) في النسخة : ونطق.

( ٥ و ٦ ) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠٩.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٩.

(٨) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٩.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ١٥٩.

٥٢

قيل : لو أنّ يهوديا وعد لانسان رزقه ، وأقسم به عليه ، لاعتمد بوعده وقسمه ، فقاتله الله كيف لا يعتمد على وعد الله وقسمه برزقه ؟ ! (١)

حكي أنّ هرم بن سنان قال لاويس القرني : أين تأمرني أن أكون ؟ فأوما إلى الشام ، فقال هرم : كيف المعيشة بها ؟ قال اويس : أفّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشك ، فما تنفعها العظة (٢) .

قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم باسحاق

ثمّ شرع سبحانه في تهديد الكفّار بما نزل على الامم السابقة المهلكة ، بكفرهم وطغيانهم من العذاب بقوله : ﴿هَلْ أَتاكَ﴾ يا محمد وسمعت من أحد ﴿حَدِيثُ ضَيْفِ﴾ جدّك ﴿إِبْراهِيمَ﴾ الذين كانوا عند الله من ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ ومعظّمين بالعصمة والاصطفاء والقرب ، حيث كانوا من الملائكة الذين وصفهم الله بأنّهم عباد مكرمون.

وقيل : يعني كانوا مكرمين عند إبراهيم عليه‌السلام حيث خدمهم بنفسه بحسبان أنّهم ضيف (٣) . قيل : لم يكذّبه الله في حسبانه إكراما له (٤) .

﴿إِذْ دَخَلُوا﴾ وحين وردوا ﴿عَلَيْهِ فَقالُوا﴾ بعد دخولهم تأدّبا وتحية له : نسلّم عليك ﴿سَلاماً﴾ فردّ إبراهيم تحيّتهم و﴿قالَ سَلامٌ﴾ عليكم. قيل : إنّه عليه‌السلام لمّا ردّ عليهم قال في نفسه : هؤلاء ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ غير معروفين في هذا البلد ، حيث كان أهله كفّارا ، ولم تكن تحيتهم السّلام(٥).

وقيل : إنّه عليه‌السلام قال لهم : أنتم قوم منكرون ، لم أر مثلكم في حسن الصورة والقامة ، فعرّفوني أنفسكم. قالوا : نحن أضيافك (٦) .

﴿فَراغَ﴾ وذهب ﴿إِلى أَهْلِهِ﴾ وزوجته سارة خفية من أضيافه ، لئلا يمنعوه من إتيان الطعام وتحمّل الكلفة ﴿فَجاءَ﴾ إليهم ﴿بِعِجْلٍ﴾ وولد بقر ﴿سَمِينٍ﴾ كثير اللحم مشويّ ؛ لأنّه كان عامة ماله البقر ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ﴾ ووضعه بين أيديهم ليأكلوا منه ، فلم يمدّوا أيديهم إليه ، ولم يأكلوا منه ﴿قالَ﴾ إبراهيم حثّا لهم على الأكل : ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ من اللحم المشوي ؟

روي أنّهم قالوا : لا نأكل منه بغير ثمن. قال إبراهيم : كلوا وأعطوا ثمنه. قالوا : وما ثمنه ؟ قال إبراهيم : إذا أكلتم فقولوا : بسم الله ، وإذا فرغتم فقولوا : الحمد لله ، فتعجّبوا من قوله ، ثمّ أنّهم مع ذلك لم يأكلوا منه ﴿فَأَوْجَسَ﴾ وأضمر في نفسه ﴿مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ لتوهّمه أنهم اعدؤه جاءوا بالشرّ ، لكون العادة أنّ من يجيء بالشرّ ما كان يأكل من طعام من يريد إضراره (٧) . وقيل : وقع في نفسه أنّهم ملائكة ارسلوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٠.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٠.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ١٦١.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٢١٠.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٢.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٢. (٧) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٢.

٥٣

للعذاب (١) ، فلمّا أحسّوا بخوفه ﴿قالُوا﴾ يا إبراهيم ﴿لا تَخَفْ﴾ من شرّنا وضرّنا ، إنّا رسل ربّك. قيل : مسح جبرئيل العجل بجناحه فقام يمشى حتى لحق بامّه ، فعرفهم وأمن منهم (٢) .

﴿وَبَشَّرُوهُ﴾ تطييبا لقلبه ﴿بِغُلامٍ﴾ وولد ذكر ﴿عَلِيمٍ﴾ من سارة عقيمة لم تلد له ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ﴾ سارة على أهلها لمّا سمعت البشارة ، وهي ﴿فِي صَرَّةٍ﴾ وصيحة تقول : يا ويلتا. وعن الصادق عليه‌السلام : « في جماعة (٣) من نسائها » ﴿فَصَكَّتْ﴾ ولطمت ﴿وَجْهَها﴾ تعجّبا من قولهم ، كما هو عادة النساء إذا أنكرن وتعجّبن من شيء ﴿وَقالَتْ﴾ استبعادا لما بشّرت به بحكم العادة : كيف ألد الآن وأنا ﴿عَجُوزٌ﴾ قد بلغت من العمر تسعا وتسعين سنة ، على ما قيل (٤) : ﴿عَقِيمٌ﴾ لم ألد مدّة عمري قطّ ؟ فأجابها الملائكة و ﴿قالُوا﴾ لها ردعا لها عن الاستبعاد والتعجّب : ما قلنا ذلك من قبل أنفسنا ، بل ﴿كَذلِكَ﴾ الذي بشّرناك ﴿قالَ رَبُّكِ﴾ الذي خلقك بقدرته ، وبلّغك برحمته إلى المرتبة العالية من الكمالات الجسمانية والروحانية ، ونحن أخبرناك بما قال ﴿إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ﴾ في فعاله ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوال عباده ، فلا محالة يكون حقا ، وفعله محكما ، فليس لك أن تقولي : لم يعطيني الولد في شبابي ، وبشّرني به في زمان كبري وعجزي.

روي أنّ جبرئيل قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعة مورقة ومثمرة ، فأيقنت(٥) .

قيل : لمّا عرف إبراهيم الرسل وأنس بهم ، استعجلوا في الخروج من عنده ﴿قالَ﴾ لهم : ﴿فَما خَطْبُكُمْ﴾ وأي الأمر العظيم عجّل بكم بعد هذا الانس (٦)﴿أَيُّهَا﴾ الملائكة ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ لبشارتي؟ ﴿قالُوا﴾ ما ارسلنا لبشارتك فقط ، بل ﴿إِنَّا أُرْسِلْنا﴾ من جانب ربّك ﴿إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ ومصرّين على الكفر والطّغيان ، وهم قوم لوط ﴿لِنُرْسِلَ﴾ ونمطر ﴿عَلَيْهِمْ﴾ من السماء ﴿حِجارَةً﴾ مخلوقة ﴿مِنْ طِينٍ﴾ متحجّر مطبوخ بنار جهنّم ، على ما قيل (٧) ، فلا يتوهّم أنّها من برد ، كما قيل (٨) إنّ الحجارة قد تطلق عليه ، وتلك الحجارة تكون ﴿مُسَوَّمَةً﴾ ومعلّمة كلّ واحدة منها باسم من يقتل بها ، أو المراد مخلوقة لتعذيبهم ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وبقدرته ، لا للانتفاع بها كسائر الأحجار ، أو مرسلة في علم الله ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ ولإهلاك المجاوزين عن الحدّ في الفجور.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٢.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٢٣٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٧١ ، تفسير القمي ٢ : ٣٣٠ ، لم ينسبه إلى أحد.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٣.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ٢١٦.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٤.

(٨) تفسير الرازي ٢٨ : ٢١٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٤.

٥٤

عن ابن عباس : أي للمشركين ، فانّ الشّرك أسرف الذنوب وأعظمها (١) .

﴿فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ

 الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ * وَفِي مُوسى إِذْ

 أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *

 فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ

 الرِّيحَ الْعَقِيمَ * ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ

 إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ

 يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ

 إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٥) و (٤٦)

ثمّ أخبر الله سبحانه بلطفه بلوط بقوله : ﴿فَأَخْرَجْنا﴾ قبل نزول العذاب على القرى الخمسة ، أو السبعة ﴿مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأن قلنا للوط : ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ(٢) .

﴿فَما وَجَدْنا فِيها﴾ أهلا للنجاة من العذاب ﴿غَيْرَ﴾ أهل ﴿بَيْتٍ﴾ واحد ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ وهم لوط وأهله ، كما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، قيل : أهله بنتاه (٤) ، وقيل : كانوا ثلاثة عشر سوى امرأته الكافرة (٥) ، ﴿وَتَرَكْنا﴾ بتعذيب أهل القرى ﴿فِيها آيَةً﴾ عظيمة ودلالة واضحة على التوحيد وبطلان الشرك ، وهي تلك الحجارة المسوّمة ، أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم ﴿لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ﴾ فانّهم يرون آثار العذاب آية ، ويعتبرون بها ، لسلامة فطرتهم ، وتنوّر قلوبهم ، وقوّة بصيرتهم دون من عداهم.

﴿وَفِي﴾ حديث ﴿مُوسى﴾ بن عمران عليه‌السلام أيضا آية وعبرة - وقيل : إنّه عطف على قوله : ﴿وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ(٦) - ﴿إِذْ أَرْسَلْناهُ﴾ من جانب الطور الأيمن ﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾ ملك مصر مستدلا على رسالته ﴿بِسُلْطانٍ﴾ ومعجز باهر ﴿مُبِينٍ﴾ كالعصا واليد والبيضاء وغيرهما ﴿فَتَوَلَّى﴾ فرعون ، وأعرض عن دعوة موسى عليه‌السلام ﴿بِرُكْنِهِ﴾ وجانبه ، ولم يقبل دعوته ، ولم يعتن به. وقيل : يعني وتقوّى على معارضة موسى بقومه وجنده (٧) ، أو تصدّى لدفع (٨) موسى بقوّة نفسه حيث قال : ذروني أقتل

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٤.

(٢) هود : ١١ / ٨١.

(٣) علل الشرائع : ٥٥٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٢.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٣٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٤.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤١ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٥.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٥.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٦.

(٨) في النسخة : دفع.

٥٥

موسى ومن معه ﴿قالَ﴾ لقومه في حقّ موسى عليه‌السلام : إنّه ﴿ساحِرٌ﴾ يفعل ما يفعل من خوارق العادات بالسحر والشّعبذة ، ﴿أَوْ﴾ هو ﴿مَجْنُونٌ﴾ فاقد العقل حيث يقول قولا لا يقبله (١) منه عاقل ، مع أن فيه هلاك نفسه وقومه.

قيل : إنّ الساحر والمجنون كلاهما يستعينان بالجنّ ، والفرق أنّ الساحر يأتي الجنّ باختياره ، والمجنون يأتيه الجنّ بغير اختياره ، وغرضه من الترديد صيانة كلامه من الكذب (٢) .

وقيل : إنّه لغاية جهله طعن على موسى عليه‌السلام بالمتضادين ، حيث إنّ السحر مستلزم للعقل وجودة الذهن وكمال الحذاقة والجنون هو زوال العقل وعدم الفهم والدراك ، وهما ضدّان (٣) .

وقيل : إنّ كلمة ( أو ) بمعنى الواو ؛ لأنّه نسبه إليهما جميعا (٤) ، وعلى أي تقدير عصى فرعون وطغى ﴿فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ﴾ بذنبهم ، كما يأخذ أحدكم الحصيات الصغار بكفّه ﴿فَنَبَذْناهُمْ﴾ وطرحناهم ﴿فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ ومستحق للملامة عند العقلاء وعند نفسه بما ارتكب من معارضة موسى عليه‌السلام وطغيانه بالكفر والعصيان.

﴿وَفِي﴾ قصّة قوم ﴿عادٍ﴾ الذين عارضوا هود آيات وعبر للناس إلى يوم القيامة ﴿إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ﴾ عقوبة على كفرهم وطغيانهم ومعارضة رسولهم هود ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ والصّرصر العاتية التي لم تلد خيرا من إنشاء مطر أو تلقيح شجر ، وكيف يتوقّع منها الخير ؟ وقيل : وصفت بالعقيم لأنّها قطعت دابرهم (٥) ، فشبّهت بالنساء العقيمات اللاتي لا يلدن ، لأنّها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكهم ، والحال أنّها ﴿ما تَذَرُ﴾ وما تترك ﴿مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ﴾ وجرت ﴿عَلَيْهِ﴾ من انفسهم وأموالهم وأبنيتهم ومواشيهم ﴿إِلَّا جَعَلَتْهُ﴾ وصيّرته لشدّتها ﴿كَالرَّمِيمِ﴾ ومثل الحشيش اليابس المتفتّت.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الرياح خمسة : الريح العقيم ، فتعوّذوا بالله من شرّها » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ لله جنودا من الريح ، يعذّب بها من عصاه » (٧) .

﴿وَفِي﴾ حديث قوم ﴿ثَمُودَ﴾ وهم قوم صالح آيات أو آية ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ﴾ والقائل صالح بعد عقرهم ناقة الله : ﴿تَمَتَّعُوا﴾ وانتفعوا أيّها القوم بالحياة ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ وإلى وقت نزول العذاب ، وهو آخر ثلاثة أيام ، أو إلى انقضاء آجالكم المقدّرة ، فإن أحسنتم حصل لكم التمتّع في الدارين ، وإلّا فما لكم في الآخرة من نصيب ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ وطغوا على خالقهم ونبيّهم ، ولم يعتنوا بإنذاره ،

__________________

(١) في النسخة : لا يقبل.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٢١.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٦.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٧.

(٦) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٤٥ / ١٥٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٣.

(٧) الكافي ٨ : ٩١ / ٦٣ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٤٤ / ١٥٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٣.

٥٦

حيث قال لهم صالح : تصبح غدا وجوهكم مصفرّة ، وبعد غد محمّرة ، وفي اليوم الثالث مسوّدة ، ثمّ يصبّحكم العذاب.

قيل : لمّا رأوا وجوههم كما قال صالح ، عمدوا إلى قتله ، فنجّاه الله إلى ارض فلسطين ، ولمّا كان اليوم الرابع تحنّطوا وتكفّنوا (١)﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ والنار النازلة من السماء ﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ إليها حين نزولها.

وقيل : انّ المراد بالصاعقة صيحة جبرئيل مجازا ، ويحتمل أنّه كانت الصاعقة مع الصيحة ، فانّ الصيحة لا ينظر إليها ، بل تسمع بالاذن (٢) .

وقيل : هو من الانتظار ، والمعنى : هم ينتظرون ما أوعدوا به من العذاب ، حيث شاهدوا علامات نزوله (٣) .

وقيل : إنّ معنى ينظرون يتحيّرون (٤) ، فاهلكوا جميعا ﴿فَمَا اسْتَطاعُوا﴾ شيئا قليلا ﴿مِنْ قِيامٍ﴾ وما قدروا عليه ، فضلا عن الهرب ، أو المراد ما قدروا على قليل من المقاومة والثّبات له ﴿وَما كانُوا﴾ حينئذ ﴿مُنْتَصِرِينَ﴾ بغيرهم في دفع العذاب ، أو ما كانوا مدافعين عن أنفسهم ، أو ممّن له شائبة الدفاع.

﴿وَ﴾ أهلكنا ﴿قَوْمَ نُوحٍ﴾ بالغرق ، أو اذكرهم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي عصر سابق على أعصار هؤلاء المهلكين ، ثمّ ذكر سبحانه سبب إهلاكهم بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ حال حياتهم ﴿قَوْماً فاسِقِينَ﴾ وخارجين عن طاعة الله ورسوله ، وفي ذكر القضايا الخمسة تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيلا لا يشقّ عليه كفر وعنادهم ، فانّ البلية إذا عمّت طابت.

﴿وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ *

 وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ

 نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٧) و (٥١)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر وتهديد منكريه ، شرع في إثبات التوحيد بالموجودات بقوله : ﴿وَالسَّماءَ﴾ المرفوعة التي ترونها لهذا العام والدار الدنيا سقفا محفوظا ، لا شكّ في أنّه ما بنتها الكواكب التي فيها ، ولا الأصنام التي تنحتونها ، بل نحن ﴿بَنَيْناها﴾ ورفعناها ﴿بِأَيْدٍ﴾ وقوة وقدرة لنا

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٦٩.

(٢-٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٦٩.

٥٧

﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ ها بحيث تحيط بجميع كرات العناصر ، بل كلّها بالنسبة إليها كحلقة في فلاة ، أو لموسعون الرزق على الخلق منها ، أو المراد لقادرون على خلق أمثالها ﴿وَالْأَرْضَ﴾ البسيطة التي تسكنونها ، نحن ﴿فَرَشْناها﴾ وبسطناها تحتكم ، لتستقرّوا عليها ، ومهدناها لكم كالفراش ، تنامون وتتقلبون عليها ﴿فَنِعْمَ الْماهِدُونَ﴾ نحن ، أو ماهدها.

﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ، وجنس من الاجناس ﴿خَلَقْنا زَوْجَيْنِ﴾ ونوعين ، أو صنفين ، كالجوهر والعرض ، والمجرّد والمادي ، والجماد والنامي ، والمدرك والنبات ، والناطق والصامت ، والذكر والانثى ، إلى غير ذلك ، وإنّما فعلنا جميع ذلك ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ أيّها الناس ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ وتتنبّهون أنّ ربكم قادر على كلّ شيء ، وفرد لا زوج له ، وأنّه خلق للدنيا زوجا ، وهو الآخرة ، وأنّه مستحق للعبادة ، ومتفرّد في الالوهية ، فقل يا محمد إذا ظهر لكم أنّ الامر كذلك : ﴿فَفِرُّوا﴾ وأهربوا من العذاب ، ومن كلّ ما تخافون منه ﴿إِلَى اللهِ﴾ القادر المنعم عليكم وحده ، واسرعوا في الايمان بتوحيده والتسليم لأحكامه ، وبادروا إلى عبادته ، كي تنجوا من عقابه ، وتفوزوا بثوابه ﴿إِنِّي لَكُمْ﴾ يا عباد الله ﴿مِنْهُ نَذِيرٌ﴾ ومخوّف من عذابه على الشرك ﴿مُبِينٌ﴾ وظاهر رسالتي عنه ببرهان قاطع ومعجز باهر ، لا عذر لكم في تكذيبي وعدم اتّباع قولي.

ثمّ أكّد الأمر بالتوحيد بالنهي عن الشرك بقوله : ﴿وَلا تَجْعَلُوا﴾ بهوى أنفسكم ﴿مَعَ اللهِ﴾ الواحد الأحد في الالوهية والربوبية والمعبودية ﴿إِلهاً﴾ ومعبودا ﴿آخَرَ﴾ من مخلوقاته ، كالكواكب والأصنام وغيرهما ، ولا تدعوا معه غيره ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.

﴿كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *

 أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ

 الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٢) و (٥٥)

ثمّ لمّا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما دعا قومه إلى التوحيد والايمان بالبعث بعد الموت ، قالوا إنّه مجنون وكلّما أتى بالمعجزات قالوا : إنّه ساحر ، وكان يتأثّر قلبه الشريف من ذلك ، سلّاه سبحانه بالإخبار بأنّ سائر الأمم كان دأبهم ذلك بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ أمر سائر الامم ، فانّه ﴿ما أَتَى﴾ الامم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من زمان نوح ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ مبعوث لهدايتهم ﴿إِلَّا قالُوا﴾ في حقّه إذا أتاهم بمعجزة : إنّه ﴿ساحِرٌ أَوْ﴾ إذا دعاهم إلى التوحيد والمعاد : إنّه ﴿مَجْنُونٌ﴾ فلا تحزن على ما قال قومك في حقّك.

والعجب من اتّفاق جميع الامم على هذا القول الشنيع في حقّ رسلهم ﴿أَتَواصَوْا بِهِ﴾ وتعاهد

٥٨

بعضهم مع بعض أن يقولوا هذا القول ، لا ليس توافقهم عليه لتوصيتهم بذلك ، لبعد زمانهم ، وعدم تلاقيهم في وقت ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ﴾ مشركون في عداوة الله والإعراض عن الحقّ ، فاشتركوا في التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة ﴿فَتَوَلَ﴾ يا محمد وأعرض ﴿عَنْهُمْ﴾ فإنّك قد بالغت في دعوتهم ، وأتعبت نفسك في نصحهم ووعظهم ، وأتممت الحجّة عليهم ﴿فَما أَنْتَ﴾ بعد ذلك ﴿بِمَلُومٍ﴾ في تركهم والإعراض عنهم ، فان كنت رحيما وعطوفا بهم ، ولا تريد أن تدعهم بالكلية ﴿وَذَكِّرْ﴾ وعظ الناس ﴿فَإِنَّ الذِّكْرى﴾ والعظة وبيان العلوم والمعارف وامور الآخرة ﴿تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث إنّها تنوّر قلوبهم ، وتزيد في إيمانهم ورغبتهم إلى الطاعة والعبادة.

عنهما عليهما‌السلام قالا : « إنّ الناس لمّا كذبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ الله بإهلاك أهل الأرض إلّا عليا فما سواه بقوله : ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ ثمّ بدا له فرحم المؤمنين ، ثمّ قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام « لمّا نزلت ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ لم يبق أحد منّا إلّا أيقن بالهلكة ، فلمّا نزل ﴿وَذَكِّرْ﴾ ... الآية طابت أنفسنا » (٢) .

﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)

ثمّ لمّا كان ازدياد المعرفة ورغبة المؤمنين في العبادة من منافع التذكير ، بيّن سبحانه أنّ معرفته وعبادته هو الغرض من الخلقة بقوله : ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَ﴾ أولا وهم أعمّ من الملك ﴿وَالْإِنْسَ﴾ بعدهم لغرض من الأغراض وحكمة من الحكم ﴿إِلَّا﴾ ليعرفون ربّهم بالوجود والحكمة والقدرة وسائر الصفات الجمالية والجلالية و﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ خالقهم ، فيستكملوا بالعلم والعبادة ، ويستعدّوا للنيل بالفيوضات الأبدية ، ويستأهلوا للحياة الدائمة والنّعم الباقية ، والكرامات الفائقة غير المتناهية.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « خرج الحسين بن علي عليه‌السلام على أصحابه ، فقال : أيّها الناس ، إنّ الله ما خلق العباد إلّا ليعرفوه ، فاذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه » فقال رجل : يابن رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ، فما معرفة الله ؟ قال : « معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « خلقهم ليأمرهم بالعبادة » قيل : قوله تعالى : ﴿وَلا

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٠٣ / ٧٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٤.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥.

(٣) علل الشرائع : ٩ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥.

٥٩

يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ؟﴾ قال : « خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون رحمته [فيرحمهم] » (١) .

تحقيق في الجمع بين الروايات

أقول : بعد ما بينا أنّ معرفة الله مستلزمة لعبادته ، وعبادته مستلزمة لاستحقاق رحمته ، والغرض من الخلق أن يستكملوا أنفسهم وتترقّى من حضيض الحيوانية إلى كمال الانسانية حتى تستأهل للرحمة الدائمة والفيوضات الأبدية ، صحّ أن يقال : خلقهم الله لمعرفته ولعبادته ، ولمّا كان حصول العبادة متوقّفا على أمر الله ونهيه ، وتعليمه كيفية عبادته ، كتوقّفه على معرفته ، صحّ أن يقال : خلقهم ليأمرهم بالعبادة ، للتنبيه على أنّ العبادة التي هي المقصودة من الخلق ، هي العبادة الاختيارية لا الجبرية والاضطرارية ، فظهر ممّا ذكر صحّة تعليل الخلق بكلّ من المعرفة والأمر بالعبادة ، والعبادة والرحمة ، ولمّا كان ظاهر الآية المباركة كون العبادة غاية الغايات ، بيّن سبحانه بقوله : ﴿وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أنّ غاية الغايات نيلهم بالرحمة والنعم لا نفس العبادة ، ومن ذلك يصحّ إطلاق الناسخ على الآية الثانية ، كما ورد في حديث « أنّ الآية منسوخة بقوله : ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ » (٢) فلا تنافي بين الروايات.

﴿ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ

 الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ *

 فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٥٧) و (٦٠)

ثمّ لمّا كانت الآية موهمة لحاجته تعالى إلى عبادة خلقه ، صرّح سبحانه بأنّ الغرض استكمال الخلق لا استكمال نفسه بقوله : ﴿ما أُرِيدُ مِنْهُمْ﴾ شيئا ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾ ومال يكتسبون لي لأنظم به أمور معيشتي ، كما يريد الموالي من عبيدهم ذلك ﴿وَما أُرِيدُ﴾ منهم أقلّ من ذلك ، مثل ﴿أَنْ﴾ يطبخوا لي طعاما ﴿يُطْعِمُونِ﴾ وحاصل مفاد الآية والله أعلم : إنّي لا اريد منهم مالا ارتزق به ، أو عملا أقضي به حاجتي ﴿إِنَّ اللهَ﴾ الذي هو خالق كلّ شيء ﴿هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ لعباده ، فكيف يريد منهم الرزق وهو ﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ والشديد على جميع خلقه ، فكيف يحتاج إلى عملهم له ؟

وإذا علم أنّ خلق الثقلين للعبادة ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ولم يعتنوا بالغرض الذي خلقوا له ، ووضعوا عبادتهم في غير موضعها ، بأن عبدوا غير الله ، ووضعوا مكان تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تكذيبه ، أو ضيّعوا

__________________

(١) علل الشرائع : ١٣ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥ ، والآية من سورة هود : ١١ / ١١٨.

٦٠