نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

على الله.

ثمّ عيّن سبحانه وقته بذكر علاماته بقوله : ﴿فَإِذَا النُّجُومُ﴾ والكواكب كلّها ﴿طُمِسَتْ﴾ وانعدمت أجرامها ، أو محقت أنوارها. عن الباقر عليه‌السلام : « طموسها ذهاب ضوؤها » (١) ، ﴿وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ﴾ لنزول الملائكة ، أو فتحت أبوابها ﴿وَإِذَا الْجِبالُ﴾ كلّها ﴿نُسِفَتْ﴾ وفتّت وذريت كالرمل فوق الأرض ، أو قلعت من أماكنها بسرعة لانقضاء الدنيا وعدم الفائدة في بقائها أو بقاء السماء وما فيها من الكواكب ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ﴾ والأنبياء الذين هم شهداء على اممهم ﴿أُقِّتَتْ﴾ وعيّنت لهم أوقات شهادتهم ، أو بلغوا الميقات الذي كانوا ينتظرونه ، وكانوا يعدّون وقوعه ، وهو يوم القيامة والمجازاة بالأعمال.

ثمّ يقال تعجّبا من عظمة القيامة : أيّها الناس لا تدرون ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ واخّرت الامور الراجعة إلى الرسل من جمعهم وإحضارهم وتعذيب مكذّبيهم وإثابة مصدّقيهم والمؤمنين بهم. ثمّ كأنّه قال تعالى : إنّما أخّرت جميع ذلك ﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ﴾ والقضاء بين الخلائق ، كما عن ابن عباس (٢) .

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم ذلك اليوم بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأي شيء أعلمك يا محمد ﴿ما يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ في كثرة الأهوال والشدائد وشدّة الفظاعة ﴿وَيْلٌ﴾ وهلاك دائم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت الهائل ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بالأخبار بوقوع ذلك اليوم وبالرسل الذين أخبروا بوقوعه وبتوحيد الله ، ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على إتيان ذلك اليوم وتعذيب المكذّبين به بما أنزل على الامم السابقة من العذاب المستأصل بقوله : ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ﴾ الامم ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ والسابقين بتكذيبهم التوحيد والرسل والمعاد ، كقوم نوح وعاد وثمود بالعذاب الشديد ﴿ثُمَ﴾ نحن ﴿نُتْبِعُهُمُ﴾ في الاهلاك والعذاب الامم ﴿الْآخِرِينَ﴾ الذين هم نظراؤهم والسالكون مسلكهم في الكفر وتكذيب الرسل والمعاد ﴿كَذلِكَ﴾ الفعل الذي فعلنا بالامم السابقين المكذّبين ﴿نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ والطاغين الذين هم في عصرك وبعده ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ﴾ وفي زمان إهلاكهم ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بآيات الله وأنبيائه.

قيل : إنّه تعالى كرّر قضية الويل في السورة المباركة عشر مرات ؛ لأنّ تكرار القضية المرعبة في مقام التوعيد والترهيب دأب العرب ، وهو من البدائع والمحسّنات (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام في تأويل الآية أنّه قال : « يقول : ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية عليّ » قال : « الأولين الذين كذّبوا الرسل في طاعة الأوصياء و﴿نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٠١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٨.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٨٤.

٤٠١

قال : من أجرم إلى آل محمد وركب من وصيّته ما ركب » (١) .

﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ * إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ *

 فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً *

 أَحْياءً وَأَمْواتاً * وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً * وَيْلٌ

 يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٠) و (٢٨)

ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار تكذيبهم بالمعاد لاستبعادهم إياه بتقريرهم بالخلق الأول الدالّ على إمكان الخلق الثاني وقدرته عليه بقوله : ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ﴾ أيّها المنكرون للمعاد في الدنيا بقدرتنا ﴿مِنْ ماءٍ مَهِينٍ﴾ ومبتذل لا يعتنى به ، والنّطفة القذرة التي يتنفّر منها ﴿فَجَعَلْناهُ﴾ ومكّناه ﴿فِي قَرارٍ﴾ ومقرّ ﴿مَكِينٍ﴾ وحصين ومحفوظ من الآفات والعوارض الخارجية ، وهو الرّحم الذي هو وعاء الولد حال كونه باقيا فيه ﴿إِلى قَدَرٍ﴾ وأجل معين ومقدار ﴿مَعْلُومٍ﴾ من الوقت الذي قدّره الله تعالى للولادة ، وهو من ستة أشهر إلى تسعة أشهر ﴿فَقَدَرْنا﴾ وخلقنا جسده وأعضاءه وجوارحه أكمل خلق ﴿فَنِعْمَ الْقادِرُونَ﴾ نحن.

قيل : يعني فقدرنا في ذلك المكان الضيق المظلم على خلقه وتصويره كيف شئنا ، فنعم القادرون حيث خلقناه على أحسن صورة وهيئة (٢) تكون مع صغره انموذجا للعالم الكبير.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بقدرتنا على إعادته التي هي أهون.

قيل : إنّ الله تعالى خوّف الكفّار بكثرة نعمه عليهم ، فانّ نعم المنعم إذا كانت أكثر كان عصيانه أقبح وعقابه أشدّ (٣) ، فذكر الله سبحانه في الآية السابقة نعمة التي في أنفسهم ، ثمّ ذكر نعمه الخارجية الآفاقية بقوله : ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ﴾ لكم ﴿الْأَرْضَ﴾ الواسعة التي تحت أقدامكم ﴿كِفاتاً﴾ وجامعا أو حافظا (٤) أو مساكن في حال كونكم ﴿أَحْياءً وَ﴾ كونكم ﴿أَمْواتاً﴾.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه نظر في رجوعه من صفّين إلى مقابر الكوفة ، وقال : « هذه كفات الأموات » ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقاله : « هذه كفات الأحياء » أي مساكنهم ، ثمّ تلا هذه الآية » (٥) .

﴿وَجَعَلْنا﴾ لكم بعد خلق الأرض ﴿فِيها﴾ جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت ﴿شامِخاتٍ﴾ ومرتفعات

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٩.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٣.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٣.

(٤) كذا ، والظاهر : وجامعة أو حافظة.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٠٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٩.

٤٠٢

وطوالا ، لتكون أوتادا لها ﴿وَأَسْقَيْناكُمْ﴾ برحمتنا من السماء والأرض ﴿ماءً فُراتاً﴾ وعذبا أو لذيذا ﴿وَيْلٌ﴾ وعذاب أليم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الزمان الخطير ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بهذه النّعم العظام ، والمنكرين لقدرتنا على إعادة الخلق في يوم القيامة.

﴿انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا

 ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٢٩) و (٣١)

ثمّ ذكر سبحانه كيفية عذاب المكذبين يوم القيامة. قيل : إنّ الشمس تقرب فيه من رؤوس الخلائق وليس عليهم لباس وكنان ، فتلفحهم (١) الشمس وتأخذ بأنفاسهم ، ويمتدّ ذلك اليوم ، وينجّى الله المؤمنين إلى ظلّ عرشه ، فهناك يقولون : ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ(٢) ويقول خزنة جهنّم للمكذّبين : ﴿انْطَلِقُوا﴾ والعبوا أيّها المكذّبون ﴿إِلى ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ من العذاب.

ثمّ يبالغون في تقريعهم بتكرار الأمر بقوله : ﴿انْطَلِقُوا﴾ أيّها المكذّبون واذهبوا ﴿إِلى ظِلٍ﴾ من دخان غليظ عظيم من نار جهنّم ، أو ظلّ من نار ﴿ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ قيل : شعبة عن يمينهم ، وشعبه عن يسارهم ، وشعبة فوق رؤوسهم ، فيكونون محاطين بالدّخان أو النار (٣) .

قيل : يخرج لسان من النار محيط بالكافر كالسّرادق ، فيتشعّب ثلاث شعب يكون فيها حتّى يفرغ من الحساب (٤) ﴿لا ظَلِيلٍ﴾ ذلك الظلّ ولا مانع لهم من حرّ الشمس ، وقيل : يعني لا بارد (٥)﴿وَلا يُغْنِي﴾ الكفّار ﴿مِنَ﴾ حرّ ﴿اللهَبِ﴾ ولا يبعدهم أو لا يسترهم منه.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « بلغنا والله أعلم أنّه إذا سيق (٦) أهل النار وينطلق بهم قبل أن يدخلوا النار ، فيقال لهم : ادخلوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب من دخان النار ، فيحسبون أنّها الجنّة ، ثمّ يدخلون النار أفواجا [ أفواجا و] ذلك نصف النهار » انتهى (٧) .

﴿إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هذا

 يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٢) و (٣٧)

__________________

(١) في النسخة : فتلحقهم.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٥. والآية من سورة الطور ٥٢ : ٢٧.

(٤) تفسير أبي السعود ٩ : ٨٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٨٦.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٥.

(٦) في تفسيري القمي والصافي : استوى.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٠.

٤٠٣

ثمّ وصف سبحانه النار التي كان ذلك الظلّ دخانا لها بقوله : ﴿إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ﴾ وشعلات ، كلّ شرر وشعلة في العظمة ﴿كَالْقَصْرِ﴾ العظيم والبناء الرفيع ، عن ابن عباس : يريد القصور العظام(١). وروي عنه : أنّ هذا التشبيه ورد في بلاد العرب ، وقصورهم قصيرة السّمك (٢) جارية مجرى الخيمة (٣) .

وفي رواية اخرى عنه ، أنّه سئل عن القصر ، فقال : هو خشب كنّا ندّخره للشتاء نقطّعه (٤) . وقيل : هو اصول الشجر العظام والنّخل (٥) .

ثمّ شبه سبحانه كلّ شرر في اللون والتتابع والسرعة والكثرة والاختلاط بجماعة الابل السّود بقوله : ﴿كَأَنَّهُ جِمالَتٌ﴾ وجماعة إبل ﴿صُفْرٌ﴾ كلّ شررة كأنّها جمل أصفر.

قيل : عبّر سبحانه عن الأسود بالأصفر ، لأنّ لون الصّفرة هو السواد المختلط بالبياض ، أو لأنّ الإبل السوداء سوادها يضرب إلى السّفرة ، أو لأنّ الإبل الصفراء يشوب رؤوس أشعارها السواد (٦) .

قيل : إنّ ابتداء الشّرر يعظم فيكون كالقصر ، ثمّ يفترق فتكون القطع المتفرّقة كالجمالة الصّفر (٧).

قيل : في تشبيه الشرر بالجمالة الصّفر تقريع بالكفّار ، فانّهم كانوا يحبّون الجمال ، ويعتقدون أنّ ملكها تمام النّعمة ، كأنّه (٨) قيل لهم : إنّكم كنتم تتوقعون من دينكم نعمة كثيرة (٩) أهمّها عندكم جمالة وجماعة من الإبل ، فاليوم صارت الجمالة المحبوبة عندكم هذه الشرارات.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بهذه الأهوال ﴿هذا﴾ اليوم الذي فيه تلك الأهوال العظيمة ﴿يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ هؤلاء المكذّبون بشيء قيل : إنّ الكفّار حين السؤال ينطقون ، فلمّا انقضى السؤال والحساب لا ينطقون من الوحشة وعدم القدرة على التكلّم (١٠) ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ﴾ من قبل الله ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ عن تقصيراتهم لعدم عذر لهم بعد إتمام الحجّة عليهم في الدنيا ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بهذه الأخبار.

﴿هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ

 يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٨) و (٤٠)

ثمّ يقال لهم توبيخا وتقريعا : ﴿هذا﴾ اليوم العظيم الذي ترون أهواله ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ بين الحقّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٦.

(٢) السّمك : السقف أو الارتفاع.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٧.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٦.

(٦) في النسخة : لأن الابل الأسود سواده يضرب إلى الصفرة ، أو لأن الإبل الأصفر يشوب رؤوس أشعاره بالسواد. راجع : تفسير روح البيان ١٠ : ١٨٨.

(٧-٩) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٧.

(١٠) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧٩.

٤٠٤

والباطل ، أو القضاء بين الناس أجمعين ﴿جَمَعْناكُمْ﴾ يا امّة محمّد في هذا اليوم ﴿وَالْأَوَّلِينَ﴾ والامم السابقين لفصل القضاء والحكم للمحقّ وعلى المبطل ﴿فَإِنْ كانَ لَكُمْ﴾ أيّها الكفّار المبطلون ﴿كَيْدٌ﴾ وحيلة في هذا اليوم لدفع العذاب عنكم ، كما كان لكم في الدنيا مكائد لإبطال دعوة الرسل وصرف الناس عنهم ﴿فَكِيدُونِ﴾ واحتالوا وتخلّصوا من عذابي ، ولكن لا تقدرون اليوم على كيد وحيلة ، فعليكم أن تتحمّلوا ألم العذاب ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ الذين لا حيلة لهم من التخلّص من العذاب.

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا

 وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤١) و (٤٧)

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين بقوله : ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ والمحترزين عن الكفر والتكذيب في ذلك اليوم مستقرون ﴿فِي ظِلالٍ﴾ يظلّمهم من حرّ الشمس وغيره ، وهو ظلّ العرش ، أو أشجار الجنّة ، لا كظلّ المكذّبين الذي ليس بظليل عن القمي في ظلال من نور أنور من نور الشمس (١) . وعن الكاظم : « هم نحن وشيعتنا » (٢) .

﴿وَ﴾ في ﴿عُيُونٍ﴾ عذبة لذيذة يدفعون بمائها عطشهم ﴿وَ﴾ في ﴿فَواكِهَ﴾ كثيرة ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ ويميلون إليه : والحاصل أنّهم مستغرقون في فنون النّعم وأنواع الترفّه ، ويقال لهم تفريحا لقلوبهم : أيّها المتقون ﴿كُلُوا﴾ من نعم الجنة وفواكهها ﴿وَاشْرَبُوا﴾ من أنواع أشربتها ﴿هَنِيئاً﴾ لكم ، وشربا بلا داء ولا ضرر ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الصالحة والعبادات المرضية ﴿إِنَّا﴾ بفضلنا ورحمتنا ﴿كَذلِكَ﴾ الجزاء الجزيل والثواب العظيم ﴿نَجْزِي﴾ المؤمنين ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ في عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم ، وبسبب طاعتهم لربّهم.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ حيث يرون أنفسهم في غاية الذلّ والعذاب ، وأعداءهم المخاصمين لهم في نهاية الكرامة والنّعم والراحة ، وأمّا المجرمون المكذّبون فيقال لهم في الدنيا : ﴿كُلُوا﴾ من نعم الدنيا ﴿وَتَمَتَّعُوا﴾ وانتفعوا بمشتهياتها زمانا ﴿قَلِيلاً﴾ أو انتفاعا يسيرا ينقضي بموتكم ، فانّ تلذّذكم بها كتلذّذ من يأكل لقمة حلواء مسمومة مهلكة ، ثمّ يموتون ويهلكون بها ، وأنتم تبتلون بالعذاب لأجل ﴿إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ وطاغون على ربّكم ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتّع القليل.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٠٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧١.

(٢) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧١.

٤٠٥

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ

 يُؤْمِنُونَ (٤٨) و (٥٠)

ثمّ بيّن سبحانه شدّة طغيانهم على الله بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا﴾ أو اخضعوا لربّكم المنعم عليكم بتلك النّعم العظام الدنيوية وعظّموه شكرا عليها ﴿لا يَرْكَعُونَ [ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ]﴾ ويصرّون على كفرهم. عن ابن عباس : أنّ المراد بالركوع في الآية الصلاة (١) ، فالمعنى أنّ الكفّار إذا دعوا للصلاة لا يصلّون ، فذمّهم سبحانه على ترك انقيادهم لله في الاصول والفروع ، وفيه دلالة على أنّ الكفار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول ومعاقبون عليهما.

قيل : نزلت في ثقيف حين أمرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة فقالوا : لا ننحني فانّها سبّة (٢) .

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في كتابه الكريم في إقامة البراهين على وجوب الايمان بالله والانقياد له ، وزجر الكفار عن العتوّ والعصيان ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتأثّروا ولم يتّعظوا بمواعظه ، ختم السورة المباركة بإظهار التعجّب من عدم إيمانهم بقوله : ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ وبيان غير القرآن و﴿بَعْدَهُ﴾ مع كونه إعجازا وجامعا للمواعظ الشافية والعلوم والحكم ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فاذا لم يؤمنوا به فهم في غاية القساوة واللّجاج والعناد.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً﴾ عرّف الله بينه وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله»(٣).

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٨٤.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦٣٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧١ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٥٥٩.

(٣) ثواب الاعمال : ١٢١ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٢.

٤٠٦

في تفسير سورة النباء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان عظمة القيامة وأهوالها والاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعها بقوله : ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(١) إلى آخره ، وبيان سوء حال المكذّبين بها وحسن حال المتّقين ، نظمت السورة المباركة النبأ المتضمّنة لبيان عظمة ذلك اليوم وأهواله ، والاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعه بقوله : ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً(٢) إلى آخره ، وبيان سوء حال المكذّبين به ، وحسن حال المتّقين في الآخرة ، فافتتحها سبحانه على دأبه بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها على القول الصحيح ببيان عظمة يوم القيامة بقوله : ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ وعن أي خبر اولئك الكفّار يستخبرون بعضهم بعضا ، أو كلّهم المؤمنين استهزاء ، أو المؤمنون الرسول زيادة لليقين والبصيرة ؟ يتسائلون ﴿عَنِ النَّبَإِ﴾ والخبر ﴿الْعَظِيمِ﴾ الشأن الذي لا أعظم منه. قيل : إنّ المراد من النبأ نبوّة محمد (٣) . وقيل : هو القرآن (٤) ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ فبعضهم يقولون : إنّه سحر وبعضهم يقولون : إنّه شعر ، وبعضهم يقولون : كهانة.

وقيل : إنّ المراد به وقوع يوم القيامة (٥) ، وهو الأظهر ، فانّ الكفّار كانوا فيه مختلفين ، فبعضهم ينكرونه ، وبعضهم يظهرون الشكّ فيه ، وبعضهم ينكرون المعاد الجسماني دون الروحاني ، وفي الاستفهام غاية تفخيم شأنه.

وعن الصادق عليه‌السلام - في تأويله - قال : « ﴿ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ الولاية » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ قال : « هو أمير المؤمنين عليه‌السلام » وقال : « كان أمير

__________________

(١) المرسلات : ٧٧ / ٢٠.

(٢) النبأ : ٧٨ / ٦.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ٤.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦٣٩ ، تفسير الرازي ٣١ : ٤.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٣.

(٦) الكافي ١ : ٣٤٦ / ٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٣.

٤٠٧

المؤمنين عليه‌السلام يقول : ما لله عزوجل آية أكبر منّي ، وما لله نبأ أعظم منّي » (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عنه قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما لله نبأ أعظم منّي ، وما لله آية أكبر منّي ، وقد عرض فضلي على الامم الماضية على اختلاف ألسنتهم فلم تقرّ لفظلي » (٢) .

وعن أبيه [ عن آبائه ] عن الحسين بن عليّ : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : يا علي ، أنت حجّة الله ، وأنت باب الله ، وأنت الطريق إلى الله ، وأنت النبأ العظيم » (٣) .

وروي العلامة رحمه‌الله في ( نهج الحق ) عن العامة تأويله بأمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) أيضا.

أقول : هذه الروايات لا تنافي إرادة الله ظاهر الآية ، وإن انطبق عنوان النبأ العظيم على أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا.

﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) و (٥)

ثمّ ردع سبحانه الكفّار عن الاختلاف في المعاد بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس الأمر كما يقوله الكفّار في يوم القيامة ، فإنّهم ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ أنّه حقّ واقع لا محالة.

وقيل : إنّ ﴿كَلَّا﴾ هنا بمعنى حقّا (٥) .

ثمّ كرّر سبحانه الرّدع وأبلغ فيه بكلمة ﴿ثُمَ﴾ بقوله : ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ أنّه واقع لا دافع له ، فلا مجال للشكّ فيه ، ولا للتساؤل عنه لوضوحه.

وقيل : يعني كلّا سيعلمون حقيته عند النّزع ، ثمّ سيعلمون به يوم القيامة ، أو سيعلمون حين البعث من القبور بالقيامة والحشر والحساب (٦) . ثمّ سيعلمون بالعذاب على التكذيب ، أو سيعلمون ما الله فاعل بهم ثمّ سيعلمون أنّ الأمر ليس كما يتوهّمون من أنّ الله غير باعثهم ، أو سيعلمون بما نزل بهم في الدنيا من العذاب وسيعلمون بما ينالهم في الآخرة ، أو سيعلمون الكفّار سوء عاقبة تكذيبهم وسيعلمون المؤمنون حسن عاقبة تصديقهم (٧) .

وهذا التفسير أبعد من الكلّ ، لظهور الآيتين في غاية التهديد والتشديد ، والسين. في الفعلين للتقريب والتأكيد.

﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً * وَالْجِبالَ أَوْتاداً * وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً * وَجَعَلْنا

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦١ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٠١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٣.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٣.

(٤) نهج الحق : ٢١١.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٥.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٩٣.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٥.

٤٠٨

نَوْمَكُمْ سُباتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً * وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً * وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ

 سَبْعاً شِداداً * وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً *

 لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (٦) و (١٦)

ثمّ لمّا كان عمدة إنكار المنكرين بالنظر إلى استبعاد الإعادة المبنيّ على عدم المعرفة بقدرة الله ، ذكر سبحانه الشواهد على كمال قدرته بقوله : ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ﴾ بقدرتنا لكم ﴿مِهاداً﴾ وفراشا تتقلّبون عليها كما تتقلّبون على فرشكم ﴿وَالْجِبالَ﴾ الرواسي في الأرض ﴿أَوْتاداً﴾ لها لتسكن ولا تميد بأهلها ﴿وَخَلَقْناكُمْ﴾ من الماء المهين ﴿أَزْواجاً﴾ وأصنافا ذكرا وانثى ، ليسكن كلّ صنف إلى الآخر ، وينتظم أمر المعاش والمعاشرة والتناسل ﴿وَجَعَلْنا﴾ وصيّرنا ﴿نَوْمَكُمْ﴾ لطفا بكم ﴿سُباتاً﴾ وقاطعا لحركات أعضائكم ، وراحة لكم ، ورافعا لتعبكم ﴿وَجَعَلْنَا﴾ وصيّرنا ﴿اللَّيْلَ﴾ المظلم لكم ﴿لِباساً﴾ وساترا لكم بظلمته عن عيون الناس ، كما يستر الناس عن عيونكم ، فتستريحون فيه ، وتقفون عن الحركة في مطلب المعاش ﴿وَجَعَلْنَا النَّهارَ﴾ لكم ﴿مَعاشاً﴾ وزمان اكتساب الرزق والتقلّب في وجه الأرض لطلب المعاش ﴿وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ﴾ من السماوات ﴿سَبْعاً﴾ غير العرش والكرسيّ ﴿شِداداً﴾ وغلاظا غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام ، أو محكمات الخلق لا يؤثّر فيها مر الدهور وكرّ العصور ، ولا فطور فيها ولا فروج.

قيل : إنّ إطلاق البناء على السقف مع أنّه لا يستعمل إلّا في أسافل البيت (١) ، للدلالة على كمال الاستحكام ، أو لتنزيلها منزلة القبّات المضروبة على الخلق (٢) .

﴿وَجَعَلْنا﴾ وخلقنا لأهل العالم ﴿سِراجاً﴾ ومصباحا ﴿وَهَّاجاً﴾ ووقّادا ، أو مضياء في الغاية. عن ابن عباس : الوهّاج مبالغة في النور (٣) .

﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ﴾ والرياح المثيرات للسّحاب ، كما عن ابن عباس (٤) ، أو السّحاب كما في رواية اخرى عنه (٥)﴿ماءً ثَجَّاجاً﴾ وشديد الانصباب ومتتابع القطر عظيم النفع ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾ من الأرض ﴿حَبًّا﴾ ونباتا له الاكرام والثّمار ﴿وَنَباتاً﴾ لا أكمام له كالحشائش ﴿وَجَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿أَلْفافاً﴾ ومتداخلات أو متقاربات ، لتتفكّهوا بثمارها ، فذكر سبحانه أولا أغذية الانسان بقوله : ﴿حَبًّا﴾ ثمّ ذكر علوفة الحيوانات بقوله : ﴿وَنَباتاً﴾ وبعدها ما يستلذّ به الانسان من الفواكه.

﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً * وَفُتِحَتِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٩٦.

(٣-٥) تفسير الرازي ٣١ : ٨.

٤٠٩

السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (١٧) و (٢٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد ما بيّن كمال قدرته وحكمته وإتمام نعمته على الخلق من حيث المسكن وأسباب المعيشة والراحة في الدنيا ، ذكر أحوال الآخرة بقوله : ﴿إِنَ﴾ يوم القيامة الذي هو ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ والقضاء بين الناس ﴿كانَ﴾ بتقدير الله ﴿مِيقاتاً﴾ وزمانا تنتهي إليه الدنيا أو الخلائق ، أو موعدا للجزاء على الأعمال أو لاجتماع الخلائق.

ثمّ بيّن سبحانه ذلك اليوم بقوله : ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية التي هي نفخة الإحياء ﴿فَتَأْتُونَ﴾ أيّها الناس بعد إحيائكم في القبور وبعثكم منها إلى المحشر حال كونكم ﴿أَفْواجاً﴾ وجماعات قيل : يأتي كلّ نبي مع امّته (١) ، وقيل : يعني فرقا مختلفة (٢) .

روي عن معاذ أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه فقال : « يا معاذ ، سألت عن أمر عظيم من الامور » ثمّ أرسل عينيه وقال : « يحشر عشرة أصناف من امّتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صمّ بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلّاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقدّر أهل الجمع منهم ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ، وأمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت ، وأمّا المنكوسون على وجوههم فأكلة الرّبا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأمّا الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين تخالف أقوالهم أعمالهم ، وأمّا الذين قطّعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يوذون الجيران ، وأمّا المصلّبون على جذوع النار فالسعاة بالناس إلى السّلطان ، وأمّا الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حقّ الله تعالى من أموالهم ، وأموالهم ، وأمّا الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء » (٣) .

ورواه في ( المجمع ) عن النبي (٤) .

﴿وَفُتِحَتِ السَّماءُ﴾ وانشقّت شقوقا كثيرة ﴿فَكانَتْ﴾ السماء لكثرة الشّقوق (٥)﴿أَبْواباً﴾ لنزول

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٠.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٠ ، جوامع الجامع : ٥٢٦ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٨٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٩٩.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦٤٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٥.

(٥) زاد في النسخة : كأنّها ، ولا تصحّ ، لأن لفظ الآية بعدها منصوب.

٤١٠

الملائكة قيل : إنّ التقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا (١) . وقيل : إنّ المراد من فتحها إزالتها وإعدامها ، فكانت مكانها طرق ومسالك للملائكة (٢) ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ﴾ في الجوّ بعد انقلاعها من أماكنها ﴿فَكانَتْ﴾ وصارت في الأنظار شيئا وليست بشيء ، كما ترى ﴿سَراباً﴾ تحسبه ماء وليس بماء.

قيل : إنّ الله تعالى أخبر عن الجبال بحالات ؛ فأوّلها أنّها تندكّ وتتقطّع ، ثمّ تصير كثيبا مهيلا وتلا من رمل ، ثمّ تصير كالعهن ، ثمّ تنسفها الرياح فتصير هباء وذرات منبثّة في الهواء ، فتصير في الهواء كقطعة من الأرض تسير في الجوّ ، وترى الأرض التي تحتها بارزة ، وهي في هذه الحالة مثل السّراب ، فكما أنّ السراب تحسبه ماء وليس بماء ، كذلك الجبال تحسبها جبالا وليست بجبال في الحقيقة ، بل هي غبار (٣).

﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً * لا يَذُوقُونَ

 فِيها بَرْداً وَلا شَراباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزاءً وِفاقاً (٢١) و (٢٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان خراب الدنيا ومجيء الناس إلى الحشر ، بيّن حال جهنّم بقوله : ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ﴾ في علم الله ، أو صارت ﴿مِرْصاداً﴾ ومحلّا لترقّب خزنتها ورود الناس ، فالمؤمنون يمرّون عليها كالبرق الخالطف أو كالراكب ، وتكون ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ والعتاة والمتمرّدين خاصة ﴿مَآباً﴾ ومرجعا ومستقرا حال كونهم ﴿لابِثِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها أَحْقاباً﴾ ودهورا كثيرة لا نهاية لها.

عن ابن عباس : أنّ الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا ، كلّ حقب سبعون خريفا ، كلّ خريف سبعمائة سنة ، كلّ سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كلّ يوم ألف سنة من أيام الدنيا (٤) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا ، والحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة ممّا تعدّون ، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « الأحقاب ثمانية حقب ، والحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة ممّا تعدّون » (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١١.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٠١.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٢.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٦٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٦.

(٦) معاني الأخبار : ٢٢٠ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٦.

٤١١

وعن الصادقين عليهما‌السلام : « هذه في الذين يخرجون من النار » (١) .

وقيل : إنّه كناية عن الدوام والخلود (٢) ، وعلى أيّ تقدير أهل النار ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها﴾ ولا يحسّون ﴿بَرْداً﴾ ينتفعون ويستريحون به ، وعن بعض مفسري العامة والقمّي : يعني نوما (٣)﴿وَلا شَراباً﴾ رافعا لعطشهم ﴿إِلَّا حَمِيماً﴾ وماء متناهيا في الحرارة ﴿وَغَسَّاقاً﴾ وقيحا سائلا من جلود أهل النار ، إنّا نجازيهم ﴿جَزاءً﴾ يكون ﴿وِفاقاً﴾ لعقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ، بلا زيادة عليها ولا نقصان ، ومطابقا لها في العظم والصّغر.

﴿إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ

 كِتاباً (٢٧) و (٢٩)

ثمّ حكى سبحانه اعتقادهم الموجب لذلك العذاب بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ في الدنيا ﴿لا يَرْجُونَ﴾ ولا يحتملون ﴿حِساباً﴾ لأعمالهم في الآخرة ، وجزاء على سيئاتهم ، ولذا كانوا لا يبالون منكرا ، ولا يرغبون في معروف.

ثمّ حكى سبحانه أسوأ أعمالهم بقوله : ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ الدالة على التوحيد والبعث والحساب ﴿كِذَّاباً﴾ وتكذيبا مفرطا إسرارا على الكفر وفنون القبائح والمعاصي ، فلمّا كانت سيئاتهم بهذه الدرجة من العظمة استحقّوا هذه الدرجة الشديدة من العذاب ، للزوم موافقة عذابهم وأعمالهم ومعاصيهم.

ثمّ بيّن سبحانه علمه بميزان الأعمال ومقدار الجزاء بقوله : ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء منها الأعمال وجزاؤها ﴿أَحْصَيْناهُ﴾ وعلمناه حال كونه ﴿كِتاباً﴾ ومثبوتا في اللوح المحفوظ ، أو المراد علمناه علما يكون في القوة والثّبات كأنّه مكتوب ، أو المراد أحصيناه إحصاء ، وكتبناه كتابا في اللّوح المحفوظ ، أو في صحف الحفظة.

﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً * حَدائِقَ وَأَعْناباً *

 وَكَواعِبَ أَتْراباً * وَكَأْساً دِهاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزاءً مِنْ

 رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٠) و (٣٦)

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٦٤٣ ، وتفسير الصافي ٥ : ٢٧٦ ، عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٢.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ١٤ ، تفسير القمي ٢ : ٤٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٦.

٤١٢

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الطّغاة أظهر شدّة غضبه عليهم بتوجيه العتاب إليهم بقوله : ﴿فَذُوقُوا﴾ أيّها الكفرة الطّغاة طعم العذاب كما ذقتم في الدنيا لذّة مشتهياتها ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ﴾ إلى الأبد ﴿إِلَّا عَذاباً﴾ قيل : كلّما استغاثوا من عذاب اغيثوا بأشدّ منه (١) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار » (٢) .

قيل : إنّهم لمّا كانوا يزيدون تدريجا في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإيذائه وإيذاء المؤمنين ، زاد الله متدرّجا في عذابهم لتحقيق الموافقة في الجزاء ، فلا يرد ما قيل من أنّه لو كان العذاب الزائد مستحقّا في أول ورودهم في جهنّم كان تركه عفوا وإحسانا ، فلا ينبغي للحكيم رجوعه عن عفوه وإحسانه ، وإن كان غير مستحقّ فزيادته ظلم (٣) ، مع أنّ التخفيف إلى مدّة لا ينافي عذابه فيما بعد.

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمجتنبين عن الكفر وتكذيب الرسول والمعاد والعصيان في الآخرة ﴿مَفازاً﴾ وظفرا بأقصى المطالب وأهمّ المقاصد بعد النجاة من النار ، أعني بالمفازة ﴿حَدائِقَ﴾ وبساتين ذات أشجار كثيرة وثمار وافرة لم تر مثلها عين ، ولم تسمع مثلها اذن ﴿وَأَعْناباً﴾ طيبة كثيرة. قيل : إنّما خصّها بالذكر لشرفها وفضلها (٤) .

﴿وَ﴾ لهم نساء ﴿كَواعِبَ﴾ ومستديرات الثديين ، أو مرتفعاتها و﴿أَتْراباً﴾ ومتساويات في السنّ. عن الباقر عليه‌السلام : « ﴿ كَواعِبَ أَتْراباً﴾ فتيات ناهدات » (٥) .

﴿وَ﴾ ان لهم ﴿كَأْساً﴾ من خمر ﴿دِهاقاً﴾ ومملؤة كما عن ابن عباس (٦) ، أو متتابعة كما عن جماعة (٧) ، أو صافية (٨) .

وهؤلاء المتّقون الذين هم في الجنة ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ من أحد ﴿فِيها﴾ كلاما ﴿لَغْواً﴾ وباطلا ﴿وَلا كِذَّاباً﴾ الذي كان الطاغوت يقولونه في الآيات. والحاصل أنّ المتّقين لا يسمعون في الجنّة كلاما مشوّشا ولا كلاما ككلام الطّغات.

وقيل : إنّ ضمير ﴿فِيها﴾ راجع إلى الكأس (٩) ، والمعنى لا يسمعون في حال شربهم الخمر كلاما لغوا وباطلا ، إذ لا تتغير عقولهم ، ولا يتكلّمون بما لا فائدة فيه ، كلّ ذلك يكون ﴿جَزاءً﴾ على عقائدهم الصحيحة وأعمالهم الصالحة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ الكريم الجواد ، ويكون ﴿عَطاءً﴾ لهم ﴿حِساباً﴾ وكافيا ، أو كثيرا زائدا عن استحقاقهم بإزاء عملهم ، فانّ الاحسان إلى المطيع بمقدار عمله واجب على الله ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٩ ، وتفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٧ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٩ ، وتفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٧ ، هذا الحديث والذي قبله حديث واحد.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٣٠٧.

(٤) تفسير الرازي ١٠ : ٣٠٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٧.

(٦- ٩) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠.

٤١٣

لأنّه لو لم يحسن لزم البخل وتساوي المطيع والمعاصي ، وهما محالان ، وأمّا الزائد فإحسان حسن غير واجب ، فلذا جمع سبحانه في ثوابهم بين الجزاء والإحسان ، وهذا مراد من قال : العطاء موضع الفضل لا موضع الجزاء ، لأنّ الجزاء على الأعمال ، والفضل موهبة من الله مختصة بالخواصّ من أوليائه.

عن ( الأمالي ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال : « حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ، وأعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى : ﴿جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ﴾ » (١) .

﴿رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً * يَوْمَ

 يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ

 صَواباً (٣٧) و (٣٨)

ثمّ بيّن سبحانه علّة جزائه وكثرة عطائه بقوله : ﴿رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا﴾ هو ﴿الرَّحْمنِ﴾ والفيّاض المطلق على جميع الممكنات بجميع الخيرات ، فمن كان بهذه العظمة والجود لا يضيع عمل عامل عنده ، ولا يكون عطاءه قليلا ، بل كان في غاية العظمة ، ويكون من عظمته وكبريائه أنّ الأنبياء والرسل وأعاظم الملائكة ﴿لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ﴾ لغاية عظمته وكبريائه ﴿خِطاباً﴾ ومكالمة معه والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب.

ثمّ لمّا كان المشركون مدّعين أنّ الملائكة والأصنام شفعاءهم عند الله يوم القيامة ، ردّهم سبحانه بقوله : ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ الذي هو أعظم من جميع الملائكة ﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ الذين هم سكّان السماوات وأقرب الموجودات إلى الله تعالى ﴿صَفًّا﴾ واحدا أو أكثر ﴿لا يَتَكَلَّمُونَ﴾ في ذلك اليوم إجلالا له وخضوعا لديه وخوفا منه ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ﴾ في التكلّم والشفاعة ﴿وَقالَ﴾ ذلك المأذون قولا ﴿صَواباً﴾ وحقا واقعا في محلّه ومرضيا عنده ، فكيف بغيرهم ؟

وقيل : لا يتكلّمون في حقّ أحد إلّا في حقّ شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص صوابا وحقّا - وهو التوحيد - دون غيره من أهل الشرك (٢) . وفي ذكر الرحمن هنا إشعار بأنّ مناط الإذن هو الرحمة الواسعة.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٦ / ٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٧.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣١٠.

٤١٤

قيل : إنّ المراد بالروح جبرئيل (١) ، وتخصيصه بالذكر لكونه أفضلهم ، وقال جمع : إنّه أعظم من جبرئيل (٢) .

عن ابن مسعود : أنّه أعظم من السماوات والجبال (٣) .

وعن بن عباس : أنّه ملك من أعظم الملائكة خلقا (٤) .

وعن القمي : أنّه ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع الأئمة عليهم‌السلام ، وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٥) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « نحن والله المأذونون لهم يوم القيامة ، والقائلون صوابا » . قيل : ما تقولون إذا تكلّمتم ؟ قال : « نمجّد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا ولا يردّنا ربّنا » (٦) .

﴿ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً * إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ

 يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٣٩) و (٤٠)

ثمّ أكّد سبحانه ثبوت ذلك اليوم ورغّب الناس في التهية له بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ اليوم ﴿الْيَوْمُ الْحَقُ﴾ الثابت الذي لا ريب فيه ، أو اليوم الذي يحقّ فيه كلّ حقّ ويبطل فيه كلّ باطل ، فاذا علمتم ذلك ﴿فَمَنْ شاءَ﴾ النجاة من العذاب والنّيل بالثواب ﴿اتَّخَذَ﴾ واختار لنفسه ﴿إِلى رَبِّهِ مَآباً﴾ وسبيلا بالايمان بتوحيده ورسالة رسوله ، وبالأعمال الصالحة.

ثمّ أعلن سبحانه في الناس إتماما للحجّة عليهم بقوله : ﴿إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ﴾ أيّها الناس في هذه السورة ، أو في القرآن ﴿عَذاباً﴾ في الآخرة ﴿قَرِيباً﴾ وقوعه على الكفّار والعصاة ، فانّ كلّ آت قريب وإن ترونه بعيدا.

ثمّ بالغ سبحانه في التخويف والإنذار بقوله : ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ﴾ والانسان المكلّف إلى ﴿ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ والذي ارتكبت جوارحه في الدنيا من الطاعة والعصيان.

وقيل : يعني اذكروا يوم ينظر الانسان أي شيء قدّمت يداه من الخير والشرّ والطاعة والعصيان بالنظر إلى صحيفة أعماله ، فان رأى فيها الأعمال الصالحة فرح ورجا ثواب الله ، وإن رأى فيها الأعمال السيئة حزن وخاف العقاب (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢٤.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣١٠.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣١ : ٢٣.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٦ و٤٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٧.

(٦) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٧.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٦٤٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣١١ و٣١٢.

٤١٥

﴿وَيَقُولُ الْكافِرُ﴾ حين رأى تبعات كفره وعصيانه وخلوّ صحيفته من الحسنات : ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ﴾ في الدنيا ﴿تُراباً﴾ ولم أكن إنسانا مكلّفا حتى ابتلي بالعذاب ، أو ليتني كنت في هذه اليوم ترابا ولم ابعث كما كنت ترابا قبل الإحياء وقيل : يعني يا ليتني كنت متواضعا ولم أكن متكبّرا (١) .

وقيل : إنّ المراد بالكافر إبليس ، وهو يقول : يا ليتني كنت مخلوقا من تراب كآدم ، ولم أكن مخلوقا من النار (٢) حتّى اتكبّر على آدم ، ومن السّجود له.

وعن ( العلل ) عن ابن عباس ، أنّه سئل : لم سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام أبا تراب ؟ قال : « لأنّه صاحب الأرض وحجّة الله على أهلها بعده ، وبه (٣) بقاؤها ، وإليه سكونها » . قال : لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّه إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ الله تبارك وتعالى لشيعة عليّ من الثواب والزّلفى والكرامة قال : يا ليتني كنت ترابغ ، أي من شيعة عليّ ، وذلك قول الله : ﴿وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً(٤) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ لم تخرج سنته - إذا كان مدمنها في كلّ يوم - حتّى يزور بيت الله الحرام إن شاء الله تعالى » (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٢٦.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦٤٨ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٩٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣١٢.

(٣) في النسخة وتفسير الصافي : وله.

(٤) علل الشرائع : ١٥٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٨.

(٥) ثواب الاعمال : ١٢١ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٣٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٨.

٤١٦

في تفسير سورة النازعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقاتِ

 سَبْقاً * فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ

 يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ *

 أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً * قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ * فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ *

 فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١) و (١٤)

ثمّ لمّا ختمت السورة النبأ المتضمّنة لأهوال القيامة ، والاستدلال على وقوعها ، وسوء حال الكافرين المكذّبين لها ، وحسن حال المؤمنين المقرّين بها ، نضمت سورة النازعات المتضمّنة لتلك المطالب العالية ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بذكر الايمان بأصناف الملائكة بقوله : ﴿وَالنَّازِعاتِ﴾ والجاذبات من الملائكة لأرواح الكفّار ﴿غَرْقاً﴾ ونزعا وجذبا شديدا من أجسادهم كما ينزع في القوس بشدّة حتى ينتهى إلى النّصل ﴿وَالنَّاشِطاتِ﴾ والمخرجات من الملائكة أرواح المؤمنين ﴿نَشْطاً﴾ إخراجا برفق ولطف من أبدانهم ، كما يخرج الدلو من البئر ﴿وَالسَّابِحاتِ﴾ والمرفقات في ذلك الإخراج لئلا يصل إليهم ألم وشدّة ، كما يرفق السابح في الماء في حركاته لئلا يغرق في الماء ﴿سَبْحاً﴾ ورفقا بالغا لئلّا يحسّوا تعبا ﴿فَالسَّابِقاتِ﴾ والمسرعات من الملائكة بأرواح الكفّار إلى الغار وأرواح المؤمنين إلى الجنّة والراحة والنّعمة ، ليروا صدق مواعيد الله ﴿سَبْقاً﴾ وسرعة لا يشابهها (١) سبق سابق وسرعة سريع ﴿فَالْمُدَبِّراتِ﴾ من اولئك الملائكة ﴿أَمْراً﴾ أراد الله في حقّ كلّ منهم من العقاب والثواب للذين أعدهما (٢) الله لهم في الآخرة ، على ما رواه العامة عن أمير المؤمنين ، وابن عباس ، ومسروق (٣) .

__________________

(١) في النسخة : لا يشابهه.

(٢) في النسخة : أعدّه.

(٣) تفسير الرازي ٣١ : ٢٧ ، وفي النسخة : ابن مسروق.

٤١٧

قيل : نكتة عطف الثاني والثالث بالواو (١) مع اتّحاد الكلّ الإشعار بأنّ كلّ واحد من الأوصاف من الصفات العظيمة الجليلة الحقيقة بأن يكون كلّ على حياله مناطا لاستحقاق موصوفه للتعظيم والاجلال ، وعطف الرابع والخامس بالفاء لتفرعها على الأول.

وعن الصادق عليه‌السلام : قوله ﴿النَّازِعاتِ﴾ قال : « هم ملائكة الموت ينزعون النفوس » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « ﴿ فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً﴾ تسبق أرواح المؤمنين إلى الجنة » (٣) .

وقيل : إنّ المراد من الثلاثة الاخر عموم الملائكة المأمورين لامور العالم (٤) ، والمراد من السابحات طوائف الملائكة الذين ينزلون من السماء بسرعة كالسابح في الماء لعامة الامور ، ولازم السرعة هو التقدّم في السير وإجراء الامور وتدبيرها بغير تراخ.

وقيل : إنّ السابقات الملائكة الذين يسبقون الشياطين بالوحي إلى الأنبياء (٥) .

وقيل : النازعات صفة النجوم التي تكون ذوات نزع وجذب من تحت الأرض إلى فوقها نزعا شديدا (٦) ، والناشطات هي النجوم التي تسير من برج إلى برج ، فالمراد من نزعها حركتها اليومية ، ومن نشطها حركاتها الخاصة في أفلاكها بحركة ملائمة لذواتها ، والمراد من السابحات هي النجوم تسبح في الفلك ، كما قال تعالى : ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(٧) ووصفها بالسابقات باعتبار سبق بعضها على بعض ، ووصفها بالمدبّرات باعتبار ما يترتّب عليها من الآثار كاختلاف الفصول وتمييز الأوقات واختلاف الأحوال ، وعلى أيّ تقدير كلّها قسم على وقوع البعث والقيامة ، والتقدير : اقسم بهذه الامور العظام لتبعثنّ بعد الموت ، أو لننفخنّ في الصّور ، أو إن ما توعدون لواقع.

وقيل : إنّ جواب القسم مذكور ، وهو قوله : ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ(٨) والمعنى : أن ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ وتتزلزل وتضطرب شديدا جميع الأجرام الساكنة كالأرض والجبال بالنفخة الاولى التي هي ﴿الرَّاجِفَةُ﴾ والمحرّكة لكلّ شيء ، فأسند الفعل إلى سببه لأنّ النفخة سبب لاضطراب الاجرام ، ثمّ ﴿تَتْبَعُهَا﴾ وتحدّث بعدها النّفخة الثانية التي هي ﴿الرَّادِفَةُ﴾ للإحياء ، والمراد باليوم الزمان الممتدّ الذي يقع بين النفختين.

__________________

(١) تفسير ابي السعود ٩ : ٩٦.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٩ ، وفيهما : هو الموت ينزع النفوس.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٠٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٩.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦٥٢.

(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٢٨.

(٦) تفسير الرازي ٣١ : ٢٩.

(٧) الأنبياء : ٢١ / ٣٣.

(٨) تفسير الرازي ٣١ : ٣٣.

٤١٨

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ بين النفختين أربعين عاما » (١) .

وروي أنّ في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ، ويصير ذلك الماء عليها كالنّطف (٢) .

وقيل : إنّ الرادفة يوم القيامة (٣) .

وقيل : إنّ الراجفة الأرض والجبال (٤) ، والرادفة السماء ، فانّها تنشقّ ، والكواكب فإنّها تنثر (٥) .

وقيل : الرادفة زلزلة ثانية تتبع الزلزلة الاولى حتّى تتقطّع الأرض وتفنى (٦) .

﴿قُلُوبٌ﴾ كثيرة للكفّار ﴿يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ ومضطربة من خوف الله وأهوال ذلك اليوم ، ومن لوازم اضطراب القلوب وخوف النفوس ما أخبر سبحانه بقوله : ﴿أَبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ وخاضعة ذليلة مترقّبة لما ينزل بها من الامور العظام ، فانّ اولئك الكفّار كانوا ﴿يَقُولُونَ﴾ إنكارا للبعث أو استهزاء به : ﴿أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ﴾ بعد الموت ﴿فِي الْحافِرَةِ﴾ والحالة الاولى التي كانت لنا من البنية والحياة والقوّة ؟ ثمّ يبالغون في الانكار بقولهم : ﴿أَإِذا كُنَّا﴾ وصرنا في القبور ﴿عِظاماً نَخِرَةً﴾ وبالية يمكن بعثنا وإحياؤنا ؟ هيهات لا يكون ذلك أبدا. ثم ﴿قالُوا﴾ بطريق الاستهزاء بالبعث : ﴿تِلْكَ﴾ الرجعة إلى الحياة التي تدّعونها ﴿إِذاً﴾ وعلى ما تقولون ﴿كَرَّةٌ﴾ ورجعة ﴿خاسِرَةٌ﴾ ومضرّة لنا إذ كنا ننكرها ونكذّب مدّعيها.

ثمّ لمّا كانوا يستصعبونها على الله لزعمهم عجزه عنها ، بيّن سبحانه نهاية سهولتها عليه بقوله : ﴿فَإِنَّما هِيَ﴾ حاصلة لا محالة وما توجدها إلّا ﴿زَجْرَةٌ﴾ وصيحة ﴿واحِدَةٌ﴾ بأمرنا ، لا تكرّر فيها ، فيسمعها جميع الخلق في بطون الأرض وأقطارها ، كنفخ واحد في صور الناس لإقامة القافلة والعسكر ﴿فَإِذا هُمْ﴾ محيون ومبعثون ﴿بِالسَّاهِرَةِ﴾ والأرض البيضاء المستوية بعد ما كانوا أمواتا وعظاما وترابا.

﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * اذْهَبْ إِلى

 فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى *

 فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى * فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى *

 فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ

 لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (١٥) و (٢٦)

__________________

(١- ٦) تفسير الرازي ٣١ : ٣٤.

٤١٩

ثمّ لمّا كان تكذيب المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخباره بالمعاد ودار الجزاء مؤلما لقلبه الشريف ، سلّاه سبحانه بحكاية معارضة فرعون موسى بن عمران في دعوته إلى التوحيد ، وإنه مع إنكاره ادّعى الربوبية ، فابتلاه الله بالعذاب مع كونه أقوى من قومه بقوله : ﴿هَلْ أَتاكَ﴾ يا محمد ، وقيل : إنّ ﴿هَلْ﴾ هنا بمعنى ( قد ) (١) والمعنى قد جاءك ﴿حَدِيثُ﴾ دعوة ﴿مُوسى﴾ فرعون. وقيل : إنّ المعنى : هل بلغك خبره ، أم أنا اخبرك به ؟ (٢) وهذا التعبير للترغيب في الاستماع ليتسلّى به.

ثمّ ذكر الحديث بقوله : ﴿إِذْ ناداهُ رَبُّهُ﴾ قيل : إنّ التقدير اذكر حين ناداه ربّه (٣)﴿بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ﴾ والأرض المطهّرة عن الشرك ، واسم ذلك الوادي ﴿طُوىً﴾ وهو على ما قيل : واقع بين المدينة ومصر (٤) . وقيل : إنّه واد بالشام عند الطّور (٥) . وعن ابن عباس : أنّ طوى بمعنى الرجل بالعبرانية (٦) ، والمعنى : يا رجل ﴿اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ﴾ وقيل : إنّه بمعنى ساعة من الليل (٧) اذهب برسالتي إلى فرعون ملك مصر ﴿إِنَّهُ طَغى﴾ وتجاوز عن الحدّ في الكفر والعصيان والتكبّر على الخلق حتّى استبعدهم على ما قيل (٨) . فاذا جئته ﴿فَقُلْ﴾ له بلسان ليّن يا فرعون ﴿هَلْ لَكَ﴾ ميل ورغبة ﴿إِلى أَنْ تَزَكَّى﴾ وتتطهّر من دنس الكفر والكبر والأخلاق السيئة الرديّة. ﴿وَأَهْدِيَكَ﴾ وأدلّك إلى الطريق المقرّب ﴿إِلى رَبِّكَ﴾ ومعرفته وطاعته ﴿فَتَخْشى﴾ من عصيانه وعذابه بعد معرفته والعلم بوجوب طاعته ؟

فجاء موسى بأمر ربّه وحسب رسالته إلى فرعون ، وجرى بينه وبينه ما جرى إلى أن قال فرعون : فان كنت جئت بآية فات بها ﴿فَأَراهُ﴾ موسى ﴿الْآيَةَ الْكُبْرى﴾ والمعجزة العظمي بإلقائه عصاه وصيرورتها ثعبانا عظيما ، أو باليد البيضاء ، أو بهما ﴿فَكَذَّبَ﴾ فرعون بموسى ونسب معجزاته إلى السّحر ﴿وَعَصى﴾ ربّه وتمرّد عن طاعته مع علمه بصدق رسوله. ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ وأعرض عن الايمان بموسى وهو ﴿يَسْعى﴾ ويجتهد في إبطال أمر رسالته وإطفاء نوره عنادا ولجاجا.

قيل : لمّا رأى فرعون الثعبان أدبر وأسرع في مشيته (٩) خشية منه ﴿فَحَشَرَ﴾ وجمع السحرة لمعارضة موسى وسائر الناس ليروا غلبة السّحرة عليه ﴿فَنادى﴾ في مجمعهم بنفسه ، أو بتوسّط مناد منه قبله ﴿فَقالَ :﴾ أيّها الناس ﴿أَنَا رَبُّكُمُ﴾ وإلهكم ﴿الْأَعْلى﴾ من كلّ من يلي اموركم من الملوك والامراء ، أو من الأصنام التي تعبدونها ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ﴾ بسبب طغيانه ودعواه الربوبية والالوهية ونكّل

__________________

(١) تفسير الرازي ٣١ : ٣٨ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٩٩.

(٢) تفسير الرازي ٣١ : ٣٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣١٩.

(٣) تفسير الطبري ٣٠ : ٢٥.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٣١٩.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣١ : ٣٨.

(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٣٨.

(٨) تفسير الرازي ٣١ : ٣٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٢٠.

(٩) الكشاف ٤ : ٦٩٦ ، تفسير الرازي ٣١ : ٤٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٢١.

٤٢٠