نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)

ثمّ لمّا كان الاستهزاء بالغير ولمزه ونبزه واغتيابه لتحقيره والتفاخر عليه ، بيّن سبحانه أنّه لا تفاوت بين الناس في الشرف والرفعة إلّا من حيث الايمان والتقوى الذي أمر به بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ﴾ وأولدناكم ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾ وهو آدم ﴿وَأُنْثى﴾ وهي حوّاء ، فليس لأحد أن يفتخر على أحد بالنسب ؛ لأنّ جميعكم أبناء رجل وأب واحد ، وامرأة وامّ واحدة.

وقيل : إنّ المراد من الذّكر الأب المتّصل ، ومن الانثى الامّ المتصلة ، والمقصود أنّ كلّكم في الخلق سيّان ، ومن جنس واحد ، حيث إنّ كلّ واحد منكم ولدكما ولد غيره ، وخالقه خالق غيره ، فلا مزيّة لأحد على أحد في أصله (١) .

﴿وَجَعَلْناكُمْ﴾ وصيّرناكم ﴿شُعُوباً﴾ وجماعات عظماء منتسبين إلى أب واحد ﴿وَقَبائِلَ﴾ وطوائف منشعبة من كلّ شعب.

قيل : إنّ الشعوب جماعات لا يدري من يجمعهم كالعجم ، والقبائل جماعات منتسبون إلى أب واحد معلوم كالعرب (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الشعوب العجم ، والقبائل العرب » (٣) .

وقيل : إنّ الشعوب داخلة في القبائل ، فانّ القبيلة تحتها شعوب ، والشعوب تحتها بطون (٤) .

وإنّما كان ذلك الجعل ﴿لِتَعارَفُوا﴾ ويعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب ، لا لتفاخروا بالآباء والقبائل ، وتدّعون الشرف والتفاضل.

وقيل : لا لتناكروا بالسّخرية واللّمز والنّبز والغيبة ، فانّ كلّ واحد منها يؤدّي إلى التناكر (٥) .

في فضيلة التقوى

وقيل : إنّ المعنى إنّا خلقناكم من ذكر وانثى لتعبدوا ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (٦) .

واعلموا ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ﴾ واعلاكم شأنا ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي نظره ﴿أَتْقاكُمْ﴾ وأعلمكم بطاعته ، وإن كان عبدا حبشيا.

روي أنّها نزلت حين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلالا بعد فتح مكّة ليؤذّن ، فعلا ظهر الكعبة. فاذّن ، فقال عتّاب بن اسيد ، وكان من الطّلقاء : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم ، ولم يسمع هذا الصوت.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ / ١٣٧ ، تفسير روح البيان ٩ / ٩٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٢٢ ، وتفسير الصافي ٥ : ٥٤ ، ولم ينسباه إلى أحد.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٨.

(٥) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ / ١٣٨.

٢١

وقال الحارث بن هشام : أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب الأسود (١) .

وقيل : إنّ الآية نزلت في أبي هند من الصحابة ، حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني بياضة أن يزوّجوه امرأة منهم ، فقالوا : يا رسول الله ، نزوّج بناتنا موالينا (٢) .

وروي أنّ رسول الله مرّ في سوق المدينة ، فرآى غلاما أسود يباع ، وهو يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله : فاشتراه رجل ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يراه عند كلّ صلاة فقعده فسأل عنه صاحبه ، فقال : هو محموم فعاده ، ثمّ سأل عنه بعد أيام فقيل ! هو مشرف على الموت ، فجاءه وهو في بقية حركة ، فتولّى غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم ، فنزلت (٣) .

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال يوم فتح مكّة : « إنّ الله قد أذهب عنكم بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ، إنّ العربية ليست بأب والد ، وإنّما هو لسان ناطق ، فمن تكلّم به فهو عربي ، إلّا أنكم من آدم ، وآدم من التراب ، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ ربّكم واحد ، وأبوكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على اسود ، ولا أسود على أحمر إلّا بالتقوى » (٥) .

وإنّما ذكر سبحانه من أسباب التفاخر الدنيوي النسب ، مع أن أسبابه كثيرة كالمال والأولاد وغيرهما ، لأنّ النسب أعلاها من حيث أنّه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل بخلاف غيره ؛ ولأنّه كان بين العرب من أعظم أسباب الافتخار ، وكان دأبهم الشائع الافتخار به.

روي أنّه سئل عيسى عليه‌السلام : أي الناس أشرف ؟ فقبض قبضتين من التراب ، ثمّ قال : أي هذين أشرف ؟ ثمّ جمعهما فطرحهما ، وقال : الناس من تراب ، وأكرمهم عند الله أتقاهم (٦) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقول الله يوم القيامة : أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه ، ورفعتم أنسابكم ، اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتّقون ؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم » (٧) .

وعن أبي هريرة : أنّ الناس يحشرون يوم القيامة ، ثمّ يوقفون ، ثمّ يقول الله لهم : طالما كنتم تكلّمون وأنا ساكت ، فاسكتوا اليوم حتى أتكلّم ، إنّي رفعت نسبي وأبيتم إلّا أنسابكم ، قلت إنّ أكرمكم أتقاكم ، وأبيتم أنتم ، وقلتم : لا بل فلان بن فلان وفلان بن فلان ، فرفعتم أنسابكم ، ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٩ : ٩٠.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٩١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٢٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٤.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٩١.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٩١.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٢٠٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٤.

٢٢

نسبي ، وأضع أنسابكم ، سيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتّقون (١) .

وعن الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اتقى الناس من قال الحقّ فيما له وعليه » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله : ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ قال : « أعملكم بالتقية»(٣) .

﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ﴾ بأنسابكم وأعمالكم ﴿خَبِيرٌ﴾ ببواطنكم وضمائركم ، لا يخفى عليه إسراركم.

﴿قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي

 قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (١٤)

ثمّ لمّا كان التقوى متوّقفا على الايمان الراسخ في القلب بالتوحيد ورسالة الرسول ، ردّ الله سبحانه دعوى مدّعى الايمان مع كون إيمانهم صوريا بقوله : ﴿قالَتِ الْأَعْرابُ﴾ وسكنة البوادي لك : ﴿آمَنَّا﴾ بتوحيد الله ورسالتك ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ردّا عليهم : ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ عن صميم القلب ، فلا تقولوا: آمنا ﴿وَلكِنْ﴾ لمّا أسلمتم وأظهرتم الشهادتين باللسان ، وتركتم المقاتلة : ﴿قُولُوا أَسْلَمْنا﴾ ودخلنا في السلم والانقياد مخافة أنفسنا وأعراضنا. كيف تقولون آمنا ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ﴾ بعد ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وما باشر اليقين بالتوحيد ورسالة الرسول أفئدتكم.

قيل : نزلت في نفر من بني أسد ، قدموا المدينة في سنة جدب ، فأظهروا الشهادتين ، وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وأتيناك باثقالنا وعيالنا وذرارينا ، ولم نقاتلك كما قاتلت بنو فلان ، يريدون الصدقة (٤) ، ويمنّون عليه ما فعلوا (٥) .

في بيان الاختلاف في الفرق بين الايمان والاسلام

أقول : ذهب بعض العامة إلى أنّه لا فرق بين الاسلام والايمان (٦) ، وقال بعضهم : الإسلام أعمّ من الايمان ، فانّ الايمان لا يحصل إلّا في القلب ، والاسلام يحصل باللسان (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الايمان : هو الاقرار باللسان ، وعقد القلب ، وعمل بالاركان » إلى أن قال : « فقد

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٩٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٨٢ / ٨٣٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٥.

(٣) اعتقادات الصدوق : ١٠٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٥.

(٤) في تفسير روح البيان : يرون الصدق.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٢٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٩٢.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٤١.

(٧) تفسير الرازي ٢٨ : ١٤٢.

٢٣

يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما ، فالاسلام قبل الايمان ، وهو يشارك الايمان » الخبر (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « الاسلام علانية ، والايمان في القلب » وأشار إلى صدره (٢) .

وفي رواية : « الاسلام : هو الظاهر الذي عليه الناس ، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الاسلام والايمان : معرفة هذا الأمر مع هذا ، فإن أقرّ بها ولم يعرف هذا الأمر ، كان مسلما ، وكان ضالا » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الاسلام قبل الايمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والايمان عليه يثابون » (٤) ولذا قال سبحانه : ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ عن الايمان الخالص وترك النفاق ﴿لا يَلِتْكُمْ﴾ ولا ينقصكم ﴿مِنْ﴾ اجور ﴿أَعْمالِكُمْ﴾ وثوابها ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا.

وقيل : إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الأعمال الحسنة المقرونة بالاخلاص وترك النفاق ، فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء ، لا ينقص منه شيئا ، نظرا إلى ما في حسناتكم من النّقصان والتقصير (٥) .

﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ وستّار لما فرط من المطيعين ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم ومتفضّل عليهم بالثواب العظيم.

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ

 وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ

 يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ

 أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ

 إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما

 تَعْمَلُونَ (١٥) و (١٨)

ثمّ وصف سبحانه حقيقة الايمان إرشادا للأعراب القائلين : آمنا بقوله : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين يحقّ منهم دعوى الايمان ، ويصدقون في دعواه ، هم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ بالتوحيد والرسالة ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا﴾ ولم يشكّوا بسبب تشكيك المشكّك ، ولم يختلج

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٠٨ ، وتفسير الصافي ٥ : ٥٦ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) الكافي ٢ : ٢٠ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٥.

(٤) الكافي ١ : ١٣٢ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٥.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٩٣.

٢٤

ببالهم كذب الرسول في دعوى الرسالة وفيما أخبر عن الله ﴿وَجاهَدُوا﴾ الكفّار والمنافقين ﴿بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ وفدوهما ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته وترويج شريعته ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات الجليلة ﴿هُمُ﴾ بالخصوص ﴿الصَّادِقُونَ﴾ في دعوى الايمان لا غيرهم.

قيل : لمّا نزلت الآية جاءت الأعراب ، وحلفوا أنّهم مؤمنون صادقون ، فنزل (١) ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ردا عليهم : أيّها الأعراب ﴿أَتُعَلِّمُونَ اللهَ﴾ وتخبرونه ﴿بِدِينِكُمْ﴾ الذي أنتم عليه بقولكم : آمنا ﴿وَاللهُ﴾ باحاطته بجميع الموجودات وكلّ مخلوقاته ﴿يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ جليل وحقير ، خفيّ أو أخفى ﴿عَلِيمٌ﴾ فكيف تخفى عليه ضمائركم حتى يحتاج في الاطّلاع عليها إلى إخباركم ؟ ! وفيه توبيخ لهم على اجتهادهم في إخفاء نفاقهم.

ثمّ لمّا أظهر الأعراب المنّة على الرسول بإسلامهم ن حيث قالوا : إنا أتيناك بأثقالنا وعيالنا وذرارينا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، وكان قولهم ذلك في غاية القبح والشناعة ، وبّخهم الله سبحانه عليه بقوله : ﴿يَمُنُّونَ﴾ هؤلاء الأعراب ، ويظهرون التفضّل ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿أَنْ أَسْلَمُوا﴾ وحسبوا بجهلهم أنّ إسلامهم نعمة عليك ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الجهّال : ﴿لا تَمُنُّوا﴾ ولا تعدّوا النعمة ﴿عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ﴾ الظاهري المقرون بالنفاق ، لأنّه ليس بنعمة عليّ ، ولا منّة لي عليكم بدعوتكم إليه ، لأنّي عملت بوظيفة رسالتي من قبل ربّي ﴿بَلِ اللهُ﴾ المنّان ﴿يَمُنُ﴾ ويتفضّل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بأعظم النّعم ، وهو ﴿أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ﴾ وأرشدكم إليه بتبليغي ودعوتي ، ووفّقكم لقبوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دعوى الايمان.

عن القمي رحمه‌الله : أنّها نزلت في عثمان يوم الحندق ، وقد ارتفع الغبار من الحفرة ، فوضع عثمان كمّه على أنفه ، فقال عمار :

لا يستوي من يعمر المساجدا

فيصلي (٢) فيها راكعا وساجدا

و من يمرّ بالغبار حائدا

يعرض عنه جاحدا معاندا

فالتفت عثمان إليه ، وقال : يابن السوداء ، إياي تعني ؟ ثمّ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا ؟ فقال رسول الله : « قد أقلتك إسلامك » فأنزل الله تعالى : ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا(٣) .

ثمّ أكّد الله سبحانه علمه بالمغيبات التي منها ما في ضمائر الناس من اعتقاد حقّانية الاسلام وعدمه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٩٦.

(٢) كذا ، والظاهر : يصلّي.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٢٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٦.

٢٥

بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ﴾ بذاته ﴿غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخفياتها التي لا يعلم بها غيره أحد ، فكيف يخفى عليه إسراركم وما في ضمائركم من الكفر والايمان ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ﴾ بغير جارحة ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ بجوارحكم من الخيرات والشرور والطاعة والعصيان.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو كلّ يوم ، كان من زوّار محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١) .

الحمد لله على التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة.

__________________

(١) ثواب الاعمال : ١١٥ ، مجمع البيان ٩ : ١٩٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٧.

٢٦

في تفسير سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا

 شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الحجرات ببيان منّة الأعراب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسلامهم الدالّ على عدم إيمانهم برسوله وكتابه واليوم الآخر ، نظمت بعدها سورة ( ق ) المبتدئة ببيان عظمة القرآن وجلالته ، وبيان رسالة رسوله وأدلّة التوحيد ، وتهديد مكذّبي رسوله بما نزل على الامم الماضية من العذاب ، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ افتتحها بذكر حرف ﴿ق﴾ جلبا لتوجّه القلوب إلى ما يرد عليها فلا يفوتها حلاوة الكلمات الرائقة ، وفهم المعاني الفائقة ، وقدّ مرّ أنّ تلك الحروف رموز.

عن ابن عباس : هو اسم من اسماء الله ، أقسم الله به (١) .

وقيل : هو رمز عن كلّ اسم من الأسماء الحسنى المصدّرة بالقاف ، كالقادر والقدير والقديم والقاهر والقهّار والقائم بالقسط والقاضي بالحقّ والقريب والقابض (٢) والقدّوس نحوها (٣) ، فانّ العرب قد ترمز عن كلمة بحرف.

وقيل : هو قسم بقوة قلب حبيبه (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « وأمّا ﴿ق﴾ فهو جبل محيط [ بالأرض ] وخضرة السماء منه ، وبه يمسك الله الارض أن تميد بأهلها » (٥) .

وقال جمع من العامة : هو جبل محيط بالأرض كاحاطة بياض العين بسوادها ، وهو أعظم جبال الدنيا ، خلقه الله من زمرّد أخضر ، أو زبرجد أخضر ، منه خضرة السماء ، والسماء ملتزقة به ، وليس

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٩٩.

(٢) في تفسير روح البيان : والقهّار والقريب والقابض والقاضي.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٩٩.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٠٠.

(٥) معاني الاخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٨.

٢٧

مدينة من المدائن أو قرية من القرى إلّا وفيها عرق من عروقه ، وملك موكّل به ، واضع يديه على تلك العروق ، فاذا أراد الله بقوم هلاكا أوحى إلى ذلك الملك فحرّك عرقا ، فخسف بأهلها ، والشياطين ينطلقون إلى ذلك الزّبرجد ، فيأخذون منه ، فيبثّونه في الناس (١) ، ونسب ذلك القول إلى ابن عباس (٢).

والظاهر أن حرف ( ق ) رمز من كلمة قاف التي هي اسم للجبل ، فلا يرد اعتراض الفخر الرازي أنّه لو كان اسما للجبل لكتب ( قاف ) بالألف والفاء (٣) .

ثمّ عظّم القرآن بالحلف به وتوصيفه بالعظمة بقوله : ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ والكتاب العظيم لعظم فوائده وكونه من الله العظيم ، وآية عظمته حيث عجز الخلق عن الإتيان بمثله.

وقيل : إنّ المجيد بمعنى الكريم ، وتوصيفه بكثرة الكرم ، لأنّه لا يطلب أحد مقصودا منه إلّا وجده ، ولا يتمسّك به محتاج إلّا أغناه (٤) . وإنّما لم يذكر قبل ( ق ) أداة القسم ، قيل : لوكالة (٥) دخول الحرف على الحرف (٦) .

وحاصل المفاد أقسم بالجبل العظيم الذي به بقاء دنياكم ، وبالقرآن الذي به بقاء دينكم ، أنّ محمدا رسول منذر من جانب الله ، والعجب أنّ قريشا أنكروا رسالته مع دلالة المعجزات الباهرات على صدقه ، ولم يكتفوا بالانكار ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ لخبث ذاتهم وقلّة عقولهم من ﴿أَنْ جاءَهُمْ﴾ رسول ﴿مُنْذِرٌ﴾ مع كونه رجلا ﴿مِنْهُمْ﴾ يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، وليس من جنس الملائكة ﴿فَقالَ﴾ اولئك ﴿الْكافِرُونَ﴾ لنعم ربّهم بعضهم لبعض عنادا ولجاجا : ﴿هذا﴾ الأمر الذي يدّعيه محمد من رسالته مع كونه بشرا ﴿شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ يحقّ أن يتعجّب منه ، مضافا إلى أنه يقول بما لا يقبله العقلاء من أنّا نحيا بعد موتنا مرّة اخرى ، أنصفوا أيّها العقلاء ﴿أَإِذا مِتْنا﴾ واقبرنا ﴿وَكُنَّا﴾ بعد سنين ﴿تُراباً﴾ نرجع إلى ما كنّا عليه من الحياة ؟ لا يكون ذلك أبدا ، لأنّ ﴿ذلِكَ﴾ الرجوع الذي يدّعيه محمد ﴿رَجْعٌ﴾ وردّ ﴿بَعِيدٌ﴾ عن العادة أو الإمكان والصدق ، لاختلاط أجزاء الموتى عند صيرورتهم ترابا بعضها ببعض ، وعدم تميّز أجزاء كلّ ميت عن أجزاء الآخرين ، فكيف يمكن جمعها وإعادة خلق كلّ ميت من أجزائه التي كانت له حال حياته ؟ !

﴿قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا

 جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٠١.

(٢) تفسير الجامع للقرطبي ١٧ : ٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٤٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ١٤٨.

(٥) كذا ، والظاهر : لركاكة.

(٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٤٦ فيه اشارة إلى هذا.

٢٨

وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)

ثمّ ردّ سبحانه استبعادهم بأنّ عدم تميّز الأجزاء إنّما هو عندكم ، لقصور علمكم ، وأمّا نحن فانّا ﴿قَدْ عَلِمْنا﴾ وميّزنا كلّ ذرة من تراب ﴿ما تَنْقُصُ﴾ وتأكل ﴿الْأَرْضُ﴾ من أجزاء كلّ جسد ﴿مِنْهُمْ﴾ وتصيّر من لحومهم وعظامهم وتغيّرنا ترابا مع التفرّق في اقطارها وتخومها ، واختلاط بعضها مع بعض ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ﴾ ومصون من الغلط والتغيير والسهو ، فيه تفاصيل الأشياء كلّها جزءا جزءا ، وهو اللوح المحفوظ.

وقيل : إنّ المراد تمثيل علمه تعالى بعلم من عنده كتاب مضبوط فيه تفاصيل جميع الموجودات في العالم (١) ، يعلم الناظر فيه بخصوصيات كلّ ذرّة منها ، بحيث لا يشتبه عليه جزء بجزء ، فكيف يستبعد ممّن كان علمه بهذه السّعة والكمال رجعهم وإعادتهم أحياء ؟ لا والله ليس الإعادة عندهم بذلك البعيد ﴿بَلْ كَذَّبُوا﴾ عنادا ولجاجا ﴿بِالْحَقِ﴾ ورسالة محمد الثابتة بالمعجزات الباهرات ، أو القرآن الثابت كونه كلام الله باشتماله على وجوه من الإعجاز ﴿لَمَّا جاءَهُمْ﴾ من غير تفكّر وتأمّل في براهين صدقه ﴿فَهُمْ﴾ كائنون ﴿فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ قيل : إنّ المراد في رأي مختلف وقول مختلط ، حيث قالوا تارة إنّه شاعر أو شعر ، وتارة إنّه كاهن أو كهانة (٢) .

وقيل : يعني في حال مضطرب ، فانّهم تارة يظهرون الشكّ في صدقه ، وتارة يظهرون الظنّ بكذبه ، ويتعجّبون من دعوته ، وتارة يظهرون الجزم بكذبه (٣) .

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال استبعادهم بقوله : ﴿قَدْ عَلِمْنا﴾ إلى آخره ، استبعد منهم ذلك الاستبعاد مع ظهور قدرته بقوله : ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ قيل : إنّ التقدير أكان المنكرون للبعث عميانا فلم ينظروا نظرا منهيا (٤)﴿إِلَى السَّماءِ﴾ وهي ظاهرة عندهم غير غائبة عنهم حيث إنّها ﴿فَوْقَهُمْ﴾ فيروا أنّا ﴿كَيْفَ بَنَيْناها﴾ ورفعناها مع عظمتها بغير عمد ؟ ! ومن المعلوم أنّ بناءها أصعب من نباء أساس أبدانهم ﴿وَ﴾ كيف ﴿زَيَّنَّاها﴾ بزينة الكواكب مع أنّ تزيينها أصعب وأكمل من تزيين أبدانهم باللحم والجلد والسمع والبصر ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما لَها مِنْ فُرُوجٍ﴾ وفتوق ومسام وخلل ، ولبدن الانسان خلل ومسامات ، ومن الواضح أنّ تأليف ما خلل له ولا مسامّ أصعب من تأليف ماله خلل وفرج ومسام ، فكيف تستبعدون خلق الأبدان ثانيا مع كونه أهون ؟ !

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٢٠ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٢٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ١٥٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٥٤.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٠٦.

٢٩

﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *

 تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ

 جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على قدرته الموجب لرفع استبعاد المعاد بقوله تعالى : ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْناها﴾ فوق الماء ، وبسطناها كالفراش ، كما رفعنا السماء كالسقف ﴿وَأَلْقَيْنا﴾ في الأرض ، كما تلقى الحصاة ﴿فِيها﴾ جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت ، لترسو الأرض ، وتمنعها من الحركة والاضطراب فوق الماء.

روي أنّه لمّا خلق الله الأرض جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد ارسيت بالجبال (١)﴿وَأَنْبَتْنا فِيها﴾ بقدرتنا بعد يبسها وزلاقها ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾ وصنف من النباتات ﴿بَهِيجٍ﴾ وذي حسن ونظارة ، وإنّما فعلنا تلك الأفعال البديعة ، وخلقنا تلك الأشياء العجيبة ، لتكون ﴿تَبْصِرَةً﴾ ومسببا لمعرفة خالقهم ، ومنبّه بالتفكّر فيها ﴿وَذِكْرى﴾ وعظة وداعية إلى شكرها للناس ، وإنّما الانتفاع بها ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ وراجع إلى ربّه بالتفكّر في بدائع صنعه ونعمه الموجبة لشكره وأداء حقّه ﴿وَنَزَّلْنا﴾ برحمتنا ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بالأمطار ﴿ماءً مُبارَكاً﴾ كثير النفع ، حيث إنّه به حياة كلّ شيء من الأرض والنبات والحيوان والناس ﴿فَأَنْبَتْنا بِهِ﴾ في الأرض ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين من حيث أشجارها المثمرة وغير المثمرة وأنبتنا ﴿وَحَبَ﴾ الزرع ﴿الْحَصِيدِ﴾ في كلّ سنة من البرّ والشعير والدّخن وغيرها.

﴿وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ

 الْخُرُوجُ (١٠) و (١١)

ثمّ خصّ النخل بالذكر مع دخولها في الجنات ، لكثرة منافعها وشرفها على سائر الأشجار المثمرة بقوله : ﴿وَ﴾ انبتنا ﴿النَّخْلَ﴾ التي تكون ﴿باسِقاتٍ﴾ وطوالا ، أو حوامل بالثمار ﴿لَها طَلْعٌ﴾ وعنقود ﴿نَضِيدٌ﴾ وموضوع بعض الحبوب على بعض أكمامها ، كسنبلة البرّ ، فان كانت انثى تصير تلك الحبوب بسرا وتمرا ، وهو من العجائب ، فانّ الأشجار الطوال أثمارها بارزة متميزة بعضها من بعض ، لكلّ واحد منها أصل يخرج منه ، كالجوز واللوز وغيرهما ، وإنّما أنبتنا الحبوب والثمار والنخل ليكون ﴿رِزْقاً﴾ ومعاشا ﴿لِلْعِبادِ﴾ .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٠٧.

٣٠

وقيل : إنّ الرزق بمعنى الإنبات ، والمعنى أنبتنا إنباتا للعباد (١) .

وعلى أي تقدير إنّما علّل سبحانه خلق الثمار بكونها رزقا مع أنّ فيها أيضا تبصرة وذكرى ، لكون الارتزاق بها عند الناس أظهر فوائدها ، ولأنّ الله تعالى بعد بيان كونه قادرا على خلق أجسادهم ، بيّن نعمه عليهم المقتضية لغاية قبح تكذيبهم منعمهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على إحيائهم بعد خلق أجسادهم بقوله : ﴿وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً﴾ وأرضا يابسة جدبة لا نبات ولا نماء فيها ، فتشقّقت وخرج منها بالمطر أنواع النبات والأزهار ﴿كَذلِكَ﴾ الإحياء للأرض إحياؤكم في القبور ، وكخروج النباتات ﴿الْخُرُوجُ﴾ منها للحشر والحساب.

روي أنّ الله يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال ، يدخل في الأرض ، فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ، ثمّ يحييهم ويخرجهم من تحت الأرض (٢) .

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ

 * وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٢) و (١٤)

ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمنكرين للمعاد من كفّار قريش وغيرهم بما نزل من العذاب على أمثالهم من الامم الماضية بقوله : ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ بالرسول والمعاد ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ من بني شيث وبني قابيل ﴿وَ﴾ كذب ﴿أَصْحابُ الرَّسِّ﴾.

في قصة أصحاب الرّسّ

قيل : كان الرّسّ بئرا بعدن لامّة من بقايا ثمود ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، اسمه عليس ، وكانت البئر كثيرة الماء بحيث تسقي المدينة وباديتها وجميع ما فيها من أهاليها ودوابّها وأنعامها ، ولم يكن لهم ماء غيره ، فطال عمر الملك ، فلمّا مات ضجّوا جميعا بالبكاء ، لمّا رأوا أن أمرهم قد فسد ، ثمّ طلوا جسده بالدّهن لتبقى صورته ، ولا يتغير ، واغتنم الشيطان ذلك منهم ، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلّمهم ، وقال : إنّي لم أمت ، ولكنّي تغيّبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي. ففرحوا أشدّ الفرح ، وأمر خاصته أن يضربوا حجابا بينه وبينهم ، ويكلّمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته ، فنصبوه صنما من وراء الحجاب ، لا يأكل ولا يشرب ، وأخبرهم أنّه لا يموت ابدا ، وأنّه إلههم ، ويتكلم الشيطان ذلك كلّه على لسانه ، فصدّق كثير منهم ، وارتاب بعضهم ، وكان المؤمن المكذّب أقلّ من المصدّق. فكلّما تكلّم ناصح

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٥٧ و١٥٨.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٠٩.

٣١

منهم زجر وقهر ، فاتّفقوا على عبادته ، فبعث الله لهم نبيأ كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة ، وكان اسمه حنظلة بن صفوان ، فاعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له ، وأنّ الشيطان فيه ، وأنّ الله لا يتمثّل بالخلق ، وأنّ الملك لا يكون شريكا لله تعالى ، ونصحهم وحذرهم سطوة ربّهم ونقمته ، فأذوه وعادوه ، وهو يبالغ في نصحهم ووعظهم ، حتى قتلوه وطرحوه في بئر ، وعند ذلك حلّت عليهم النقمة ، وأصبحوا والبئر [ قد ] غار ماؤها ، فصاحوا بأجمعهم ، وضجّ النساء والولدان والبهائم عطشا حتى هلكوا ، وتبدّلت اشجارهم المثمرة بالسّدر والشوك (١) .

وقيل : إنّ الرّسّ بئر قريب من اليمامة (٢) .

وقيل : بئر أذربايجان (٣) ، أو اسم واد (٤) ، وقد سبقت قصتهم في سورة الفرقان.

﴿وَ﴾ كذّبت ﴿ثَمُودُ* وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ﴾ الذي كان مفتر ومستخفا بقومه فأطاعوه وأتّبعوه ، ولذا لم يقل : قوم فرعون ﴿وَإِخْوانُ لُوطٍ﴾ وإنّما عبّر سبحانه عن قوم لوط بإخوان ، لأنّهم كانوا طائفة من قوم إبراهيم ، لهم سابقة معروفة بلوط ، وكذا قيل (٥) ﴿وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ﴾ والغيظة ، وهم من قوم شعيب ﴿وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾ الحميري ملك اليمن ﴿كُلٌ﴾ من أفراد هؤلاء الأقوام ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ المبعوثين إليهم ، أو الرسل جميعا فيما ارسلوا به من التوحيد والبعث والشرائع ﴿فَحَقَ﴾ وثبت ، أو حلّ عليهم ﴿وَعِيدِ﴾ الله ، وما أنذروهم به من العذاب ، وفي الآية تسلية للرسول ، لئلا يحزن بتكذيب قومه ، ويصبر على أذاهم ، كما صبر الرّسل على أذى قومهم ، ويطمئنّ بالظّفر على أعدائه كما ظفروا.

﴿أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد الآيات الآفاقية الدالة على التوحيد وصحّة البعث عاطفا بعضها على بعض بالواو لكون جميعها من جنس واحد ، استدلّ بخلق أنفسهم عاطفا له بالفاء لتأخّره في الرّتبة عن تلك الآيات بقوله : ﴿أَفَعَيِينا﴾ وعجزنا عن خلقكم ثاني مرّة ﴿بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ وبسبب إيجادهم في الدنيا أو بخلق السماوات والأرض ؟ ! لا والله إنّهم لا ينكرون أنّا خلقنا السماوات والأرض ، وأنّا خلقناهم في الدنيا ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ﴾ وشكّ وشبهة ﴿مِنْ خَلْقٍ﴾ لهم ﴿جَدِيدٍ﴾ وثاني مرة ، لكونه على خلاف العادة في الدنيا ، ويقولون : أيكرّر ويجدّد خلقنا ، ونرجع ثانيا أحياء ؟ ! ذلك رجع بعيد.

قال بعض المتكلمين : إنّ ابن آدم في كلّ زمان متلبّس بخلق جديد ، فإنّه تتحلّل أجزاؤه ، ويخلق لها

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٠٩.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٩ : ١١٠.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١١٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٨ : ١٦١.

٣٢

بدل ما يتحلّل ، فهو في هذا العالم يتجدّد خلقه ، والله تعالى في كلّ يوم من خلقه ، بل من خلق العالم في شأن ، وعليه يكون معنى الآية أنّه لا يختصّ تجديد خلقهم بما بعد خروجهم من الدنيا ، بل هم في هذه الدنيا متلبّسون في كلّ يوم بخلق آخر جديد (١).

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « تأويل ذلك أن الله تعالى إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، جدّد الله عالما آخر غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحوله ولا إناث يعبدونه ويوحدّونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّلهم ، لعلك ترى أن الله إنّما خلق هذا العالم الواحد ، أو ترى أنّ الله لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، وأنت في آخر تلك العوالم ، واولئك الآدميين » (٢).

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ

 الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ

 قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٦) و (١٨)

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته وسعة علمه المبنيين لإمكان الخلق الجديد بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿الْإِنْسانَ﴾ في الدنيا من غير مثال سابق ﴿وَنَعْلَمُ﴾ بذاتنا ﴿ما تُوَسْوِسُ﴾ وتحدّث ﴿بِهِ نَفْسُهُ﴾ وتخطر على قلبه من خير أو شر ، أو خطرات السوء الحاصلة بإلقاء الشيطان ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ﴾ علما ﴿إِلَيْهِ﴾ من كلّ قريب حتى ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ والعرق المتّصل بقلبه المخالط للحمه ، وفيه مجاري روحه الحيواني ، وهو كناية عن نهاية القرب ، والمعنى أنّ الله تعالى أقرب إلى الانسان من روحه ونفسه ﴿إِذْ يَتَلَقَّى﴾ وحين يتلقّن الملكان ﴿الْمُتَلَقِّيانِ﴾ والآخذان من الانسان فعله وقوله ، وكاتبان عليه كلّما يصدر منه ، فليس توكيلهما عليه لكتابة أعماله للحاجة في الاطلاع على أعماله إلى ضبطهما وثبتهما أعماله ، لأنّا أقرب إليه من كلّ قريب ، وأعلم بحاله من نفسه ، بل لكونه بعد الاطلاع على أنّ عليه ملكين موكلين لكتابة أعماله ، أدعى له إلى الطاعة ، وأزجر له عن المعصية ، وكلّ منهما ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ من الانسان ﴿وَعَنِ الشِّمالِ﴾ منه ﴿قَعِيدٌ﴾ وجالس.

﴿ما يَلْفِظُ﴾ وما يرمى به ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ وكلام خير أو شرّ ﴿إِلَّا لَدَيْهِ﴾ ملك ﴿رَقِيبٌ﴾ يراقب ذلك القول ويكتبه في صحيفته ، وهو ﴿عَتِيدٌ﴾ ومهيأ لكتابته ، أو هو حاضر عنده أينما كان ، لا يفارقه ولا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١١١.

(٢) التوحيد : ٢٧٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٠.

٣٣

يغفل عنه.

روى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « نقّوا أفواهكم بالخلال ، فانّها مجلس الملكين الكريمين الحافظين ، وإنّ مدادهما الرّيق ، وقلمهما اللسان ، وليس عليهما شيء أمرّ من بقايا الطعام بين الأسنان»(١) .

ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : ﴿ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ قال :« عند نابيه» (٢).

ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير وأمين على كاتب السيئات ، فاذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح ويستغفر » (٣) وروى أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام ما يقرب منه (٤).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ ملائكة الليل وملائكة النهار يصلّون معكم العصر ، فتصعد ملائكة النهار وتمكث ملائكة الليل ، فاذا كان الفجر نزل ملائكة النهار ويصلّون الصبح ، فتصعد ملائكة الليل وتمكث ملائكة النهار ، وما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلّا قال لملائكته : اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله تبارك وتعالى وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله ، فاذا مات قال الملكان للذين يكتبان عمله : قد مات فلان ، فتأذن لنا أن نصعد إلى السماء. فيقول الله تعالى : إنّ سمائي مملوءة من ملائكتي يسبّحون. فيقولان : فأين ؟ فيقول : قوما على قبر عبدي فكبّراني وهلّلاني : واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة » (٦) .

وقيل : إنّ التلقّي بمعنى الاستقبال ، والمعنى بناء عليه : أنّ لكل إنسان ملكين يستقبلان روحه حين موته ، فيأخذان روحه من ملك الموت ، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين ، وينقلها إلى دار السرور ، والآخر يأخذ أرواح الطالحين ، وينقلها الى الويل والثبور ، وعنده ملكان يكتبان أعماله ، فاذا نزل المتلقيان يسألان الكاتبين أن الذي مات من الصالحين ، أو من الصالحين ، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ، ويرجع إلى الآخر مسرورا ، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ، ويرجع إلى الآخر محزونا » (٧) .

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٩ : ١١٦.

(٣) جوامع الجامع : ٤٦١ ، تفسير الصافي ٥ : ٦١ ، تفسير روح البيان ٩ : ١١٥.

(٤) الكافي ٢ : ٣١٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٦١.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ١١٦.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ١١٧.

(٧) تفسير الرازي ٢٨ : ١٦٣.

٣٤

أقول : فيه أنّ الظاهر أنّ الآيتين بيان لحال الانسان قبل خروج روحه.

﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)

ثمّ لمّا استبعدوا البعث بيّن سبحانه بعض أهوال النّزع وقيام الساعة بقوله : ﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ وشدّته المذهبة للعقول المزيلة للفطن الجاعلة للانسان كالسكران ﴿بِالْحَقِ﴾ والموت الثابت الذي لا محيص عنه.

نقل رواية عامية في فضيلة علي عليه‌السلام وجهل عمر

كما حكى بعض العامة أنّ رجلا أتى عمر وقال : إنّي أحبّ الفتنة ، وأكره الحقّ ، وأشهد بما لم أره. فحبسه عمر ، فبلغت قصّته أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : « يا عمر حبسته ظلما » فقال : كيف ذلك ؟ قال : « لأنّه يحبّ المال والولد ، وقال الله تعالى : ﴿إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ(١) ويكره الموت وهو الحقّ ، قال تعالى : ﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ﴾ ويشهد بأنّ الله واحد وهو لم يره » فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر (٢) انتهى.

فيقول له ملك الموت ، أو لسان حاله : يا إنسان ﴿ذلِكَ﴾ الموت الذي نزل بك هو ﴿ما كُنْتَ﴾ في الدنيا ﴿مِنْهُ تَحِيدُ﴾ وتميل وتهرب ، بل تحسب أن لا ينزل عليك لانغمارك في شهوات الدنيا وحبّها ، والتعبير بالماضي للإيذان بتحقّقه وقربه ، وإسناد إتيان الموت إلى سكرته لبيان غاية شدّتها ، فكأنّ شدّة حال النزع اقتضت الموت ، وأمات ذلك الانسان.

وقيل : إنّ المراد بالحقّ الدين الذي جاء به الرسول (٣) ، فانّ الانسان حال احتضاره يظهر له حقّانيته ، فكنّى سبحانه عن ظهور الحقّ بالسّكرة باتيانها به ، أو المراد من الحقّ العذاب المعدّ للكفّار ، فإنّه ينزل عليه بالموت ، أو يراه في حال الاحتضار وميله عن الحقّ على التقديرين إنكاره إياه.

عن القمي رحمه‌الله ، قال : نزلت في الأول (٤) .

أقول : يعني أنّه أظهر من تنطبق عليه الآية ، روت العامة عن عائشة ، أنّها قالت : أخذت أبا بكر غشية من الموت ، فبكيت عليه ، فأفاق أبو بكر ، فقال : ﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(٥) .

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ *

 لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقالَ

__________________

(١) التغابن : ٦٤ / ١٥.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١١٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٦٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٦١.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ١١٨.

٣٥

قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ

 مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ * قالَ قَرِينُهُ

 رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ

 إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٠) و (٢٩)

ثمّ ذكر سبحانه أهوال البعث بعد الموت بقوله : ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية ، وهي نفخة البعث والنشور ، فيقول لهم الملك تهويلا : ﴿ذلِكَ﴾ الوقت الذى بعثتم فيه ﴿يَوْمُ﴾ إنجاز ﴿الْوَعِيدِ﴾ الذي أوعدكم الله على لسان رسله به من العذاب والأهوال ﴿وَجاءَتْ﴾ من القبور إلى المحشر ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس البرّة والفاجرة و﴿مَعَها﴾ ملك ﴿سائِقٌ﴾ له يسوقه إلى المحشر ، وإن اختلفت كيفية سوق المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي ﴿وَ﴾ ملك ﴿شَهِيدٌ﴾ على أعمالها أنّها خير تستحقّ بها الجنّة ، أو شرّ تستحق بها النار.

وفي ( نهج البلاغة ) : « سائق يسوقها إلى المحشر ، وشاهد يشهد عليها بعملها » (١) .

قيل : إنهما الملكان الكاتبان (٢) . وقيل : ملك واحد يسوقها ويشهد على عملها (٣) . وقيل : السائق ملك ، والشهيد جوارحه (٤) .

ثمّ يقال لذلك المسوق : ﴿لَقَدْ كُنْتَ﴾ في الدنيا غائرا ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ عظيمة ﴿مِنْ هذا﴾ اليوم وما فيه من الأهوال ﴿فَكَشَفْنا﴾ وأزلنا ﴿عَنْكَ﴾ غفلتك التي كانت ﴿غِطاءَكَ﴾ وحجابك الذي يمنعك عن اليقين بمجيء هذا اليوم ، ويحتمل كون المراد من الغطاء الجهل والشهوة وحبّ الدنيا ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ﴾ لانكشاف الغطاء عنه ﴿حَدِيدٌ﴾ ونافذ ، تبصر ما كنت منكره وتستبعده وتتعجّب ممّن يخبر به ، ولكن لا ينفعك اليوم إبصار ﴿وَقالَ﴾ الملك الذي هو ﴿قَرِينُهُ﴾ في الدنيا يكتب أعماله ، أو الملك الشهيد عليه ، كما عنهما عليهما‌السلام (٥) : ﴿هذا﴾ الكتاب الذي فيه أعمالك ﴿ما لَدَيَ﴾ وهو الذي عندي ﴿عَتِيدٌ﴾ وحاضر ، أو مهيّأ جميعا للعرض.

وقيل : إنّ المراد بالقرين الشيطان المقيّض له (٦) . يقول هذا الشخص العاصي الطاغي : ما لدي والذي عندي وفي ملكتي ومقدوري عتيد ومهيأ لورود جهنّم ، قد هيأته له بإغوائي وإضلالي ، فيقول الله تعالى للسائق والشهيد ، أو الملكين من خزنة النار : ﴿أَلْقِيا﴾ أيّها الملكان ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾ هذا الكافر

__________________

(١) نهج البلاغة : ١١٦ ، الخطبة ٨٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٦١.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ١٢١.

(٣و٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٢٢.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٢.

(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ١٣١ ، وفي النسخة : المقبض له.

٣٦

و﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ وكثير الطغيان على المنعم ومبالغ في التضييع لحقوقه بانكار توحيده ونعمه.

وقيل : يعني كلّ كافر حامل غيره على كفره (١) ، عنيد ومبغض للحقّ ، أو منحرف عن الطاعة ، أو معجب بما عنده.

وعن القمي : أنّه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام (٢) .

وعن السجاد عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تبارك وتعالى إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد كنت أنا وأنت عن يمين العرش ، ثمّ يقول الله تبارك وتعالى لي ولك : قوما فالقيا من أبغضكما وكذّبكما في النار » (٣) .

وفي ( المجمع ) و( الأمالي ) من طرق العامة مثله ، وزادا : « وأدخلا في الجنّة من أحبكما ، وذلك قوله تعالى : ﴿أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ » (٤) .

﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ وكثير البخل بالمال ، الممتنع عن أداء حقوق الله من الزكاة والخمس وغيرهما من الواجبات المالية.

وقيل : إنّ المراد بالخير الاسلام. قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة لمّا منع بني أخيه منه ، وكان يقول: من دخل منكم في الاسلام لم أنفعه بخير ما عشت (٥) .

﴿مُعْتَدٍ﴾ ومجاوز عن حدود العقل ، ظالم على نفسه وعلى العباد ، ومعاند لآيات الله ولأهل الحقّ ﴿مُرِيبٍ﴾ وشاكّ في دين الاسلام ، أو في البعث ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ واختلق من قبل نفسه وهواه ﴿مَعَ اللهِ﴾ وأشرك به في العبادة ﴿إِلهاً آخَرَ﴾ ومعبودا غيره من مخلوقاته ، كالكواكب والأصنام ، فكلّ من كان من الناس بهذه الصفات ﴿فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ﴾ هذا الأمر تأكيد لما سبق.

ثمّ قيل : إنّ الكفار يعتذرون إلى الله بأنّ الشيطان الذي كان قريننا في الدنيا أضلّنا وأطغانا ، فهو المستحقّ للعذاب دوننا ﴿قالَ﴾ الشيطان الذي هو ﴿قَرِينُهُ﴾ ومصاحبه في الدنيا ﴿رَبَّنا﴾ ما أضللته و﴿ما أَطْغَيْتُهُ﴾ بالقهر والجبر ﴿وَلكِنْ كانَ﴾ هو لخبث ذاته وسوء أخلاقه مستقرا ﴿فِي ضَلالٍ﴾ وانحراف ظاهر عن صراطك المستقيم ﴿بَعِيدٍ﴾ عن طريق الحقّ القويم ، بحيث لا يرجى منه الرجوع إليه ، وأنا أعنته على ضلاله وطغيانه بالإغواء والدعوة لا عن قهر وإلجاء. ﴿قالَ﴾ الله تعالى ﴿لا تَخْتَصِمُوا﴾ ولا تنازعوا ﴿لَدَيَ﴾ وفي محضر عدلي وموقف حكومتي ، إذ لا فائدة فيه ، ولا عذر

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٢٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٢.

(٤) أمالي الطوسي : ٢٩٠ / ٥٦٣ ، مجمع البيان ٩ : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٢.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ١٢٤.

٣٧

مقبول ﴿وَ﴾ الحال أنّي ﴿قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ﴾ وأعلمتكم في دار الدنيا بتوسّط رسلي وكتبي ﴿بِالْوَعِيدِ﴾ والعذاب الشديد على الشرك والطغيان ، وأتممت الحجّة عليكم ، وقطعت عذركم ، فاليوم ﴿ما يُبَدَّلُ﴾ ولا يغيّر ﴿الْقَوْلُ﴾ الذي قلته ، والوعيد الذي وعدته على الشرك والكفر والطغيان في كتابي بقولي : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ(١) وقولي : ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ(٢)﴿فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ(٣) .

﴿لَدَيَ﴾ بوقوع الخلف فيه ﴿وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ بتعذيبهم بغير استحقاق أشدّ العذاب مع كونهم أهلين للرحمة والعطوفة وإنّما نفى كثرة الظلم عن نفسه مع أنّه لا يصدر منه أقلّه ؛ لأنّه لو عذّبهم بهذا العذاب الشديد بغير استحقاق ، كان أكثر ظلما من كلّ ظالم.

قيل : إنّ كثرة الظلم المنفي باعتبار كثرة العبيد (٤) . وقيل : إنّ المبالغة راجعة إلى النفي ، لا إن النفي وارد على صيغة المبالغة (٥) . وقيل : إنّ الظلّام بمعنى الظالم ، كالتمّار بمعنى التامر.

وقيل : إنّ الظلام تقديري ، والمعنى أنّي لو ظلمت عبدي الضعيف المستحقّ لغاية الرحمة ، لكان ذلك غاية الظلم ، وما أنا بذلك (٦) . وقيل : إنّ نفي كونه ظلّاما لا ينافي نفي كونه ظالما ، ونفيه للعبيد لا ينافي عدم كونه ظالما لغيرهم (٧) .

﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ

 لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٠) و (٣٢)

وذكر العبيد والتخصيص بهم لكونهم أقرب إليه ، وكونه أقبح منه ، كما أنّه لا ينافي نفي كونه ظالما في جميع الأزمنة تخصيص نفيه بيوم القيامة بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ والمعنى ما أنا بظلام للعبيد في يوم ﴿نَقُولُ﴾ في ذلك اليوم مع عظمتنا ، طلبا (٨) لتصديقنا في أخبارنا ، وتحقيق وعدنا ، وتقريع أهل العذاب ﴿لِجَهَنَّمَ﴾ ودار العذاب بعد إلقاء جميع الكفّار من الجنّ والإنس فيها : ﴿هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ بمن ألقينا فيك ، وهل وفينا بوعدنا إيّاك أن نملأك من الجنّة والناس ؟ ﴿وَتَقُولُ﴾ جهنّم مجيبة لنا ، واستكثارا لما القي فيها مع غاية سعتها وتباعد أقطارها وأطرافها : يا رب ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ وموضع يمكن أن يلقى فيه (٩) زيادة على ما القي فيّ ، لا وعزّتك لم يبق فيّ موضع يسع إبرة.

وقيل : إنّ الاستفهام لطلب الزيادة غيظا على الكفّار والعصاة ، وكان السؤال قبل إدخال الكلّ فيها ، أو

__________________

(١) النساء : ٤ / ٤٨ و١١٦.

(٢) النساء : ٤ / ٤٨ و١١٦.

(٣) البقرة : ٢ / ٨١.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ١٢٦.

(٥و٦) تفسير الرازي ٢٨ : ١٧٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٨ : ١٧٣.

(٨) في النسخة : طالبا. (٩) في النسخة : في.

٣٨

كان بعد إدخال الكلّ ، وهي تطلب الزيادة في سعتها وإلقاء الكفّار فيها (١) .

وقيل : إنّه لا يكون سؤال وجواب ، وإنّما ذكر الله سبحانه ذلك على سبيل التمثيل والتخيّل (٢) . إظهارا لامتلاء جهنّم ، واشتياقها إلى الكفّار ، والحقّ أنّه بيان الحقيقة والواقع ، حيث إنّ جهنّم بل جميع ما في عالم الآخرة لها شعور وحياة وقوة نطق ، كما دلّ عليه بعض الأخبار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدة غضبه وعذابه على الكفّار ، بيّن كثرة لطفه ورحمته للمؤمنين المتقين بقوله : ﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ وقربت ﴿الْجَنَّةُ﴾ في ذلك اليوم ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمحترزين عن الشرك والكفر والعصيان ، بحيث يرونها من الموقف ، ويطّلعون على ما فيها من المحاسن والبهجة والنّعم ، ليزيد فرحهم وابتهاجهم ، وهي تكون شيئا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ عنهم ، وفيه تأكيد لكمال قربها منهم وإكرامه لهم ، وأيضا في صدر الآية دلالة على أنّ الجنة تقرب إليهم ، لا أنّهم يقربون إلى الجنّة ، ويحتمل أن يكون المراد بالقرب هنا كناية عن سهولة دخولهم فيها.

وعن القمي رحمه‌الله : أنّ المعنى زيّنت الجنّة للمتقين بسرعة (٣) .

ثمّ يقال لهم تفريحا لقلوبهم : ﴿هذا﴾ الذي تشاهدونه من الجنّة ونعيمها ﴿ما﴾ كنتم في الدنيا ﴿تُوعَدُونَ﴾ وتبشّرون به على إيمانكم وطاعتكم ، في كتابنا المنزل على لسان النبي المرسل. ثمّ ابدل سبحانه عن المتّقين بقوله : ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ ورجّاع إلى ربّه بالتوبة والاستغفار من ذنوبه ﴿حَفِيظٍ﴾ يحفظ توبته من النقض ، وعهده مع الله بالطاعة من الرفض ، وقيل : الرجّاع إلى الله بالفكر (٤) والتوجّه بالقلب ، شديد التحفّظ على طاعة أحكامه وأوامره ونواهيه.

﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ

 الْخُلُودِ * لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٣) و (٣٥)

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح المتّقين بقوله : ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ﴾ وخاف من الله العظيم ، مع كونه الرحمن المبالغ في الرحمة والعطوفة بعبده حال كونه ﴿بِالْغَيْبِ﴾ من خلقه لا يرونه بالحواسّ الظاهرة ، أو خشى الرحمن من أن يعاقبه حال كون عقابه بالغيب لم يره بعينه ﴿وَجاءَ﴾ ربه في الآخرة ﴿بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ وحضر عنده مع قلب سليم من الشرك ورذائل الأخلاق والشكّ والنفاق.

ثمّ يقال لهم على رؤوس الأشهاد من قبل الله تبارك وتعالى : أيّها المتقون ، اذهبوا إلى الجنة التي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٧٤.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٢٤ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٣٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٢٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ١٧٦.

٣٩

ترونها و ﴿ادْخُلُوها﴾ حال كونكم مكرمين ﴿بِسَلامٍ﴾ من الله وملائكته ، أو متلبّسين بسلامة من العذاب والآفات وزوال النعم وحلول النقم ، آمنين منها ﴿ذلِكَ﴾ اليوم الذي أنتم فيه ﴿يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ في الجنّة ونعمها والبقاء فيها أبدا.

ثمّ بشّر الله سبحانه في الدنيا المتّقين بنعمه التي أعدّت لهم في الجنّة بقوله : ﴿لَهُمْ ما يَشاؤُنَ﴾ ويشتهون ﴿فِيها﴾ من المآكل اللذيذة ، والأشربة الطيبة ، والملابس الناعمة الفاخرة ، والحور والقصور ، والسّرر المرفوعة ، والنّمارق المصفوفة وغيرها في أيّ زمان وحال. ويحتمل أن يكون ذلك خطابا للملائكة الموكّلين بخدمتهم ، والمراد اعلموا يا ملائكتي أن لهم ما يشاؤون ، فأحضروا عندهم ما يشتهون ﴿وَلَدَيْنا﴾ على ذلك ﴿مَزِيدٌ﴾ ممّا لا يخطر ببالهم ، ولا تقدرون أنتم عليه ، ولا يندرج تحت مشيئتهم من أنواع اللّذات والكرامات.

قيل : إنّهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاءوا ، ثمّ يزيدهم من عنده ما لم يسألوه ، ولم تبلغه أمانيهم (١) .

قيل : إنّ السّحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال الله تعالى : ﴿وَلَدَيْنا مَزِيدٌ(٢) . وروي أنّ هذه الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى (٣) . وعن القمي رحمه‌الله ، قال : النظر إلى رحمة الله (٤) .

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ

 مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ

 شَهِيدٌ (٣٦) و (٣٧)

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين المنكرين للبعث بعذاب الآخرة وأهوالها ، وترغيبهم إلى الايمان والتقوى ببيان حسن عاقبة المتّقين ، هدّدهم بما نزل على أمثالهم من الامم الماضية من العذاب بقوله : ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا﴾ وكثيرا ما عذّبنا بعذاب الاستئصال ﴿قَبْلَهُمْ﴾ وفي الأعصار السابقة على عصر قومك ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ وجماعات مقترنين في العصر ﴿هُمْ أَشَدُّ﴾ من قومك وأكثر ﴿مِنْهُمْ بَطْشاً﴾ وقوة في الجسم ، كعاد وثمود وغيرهم ، لكفرهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث ﴿فَنَقَّبُوا﴾ وبحثوا وتصرّفوا ، أو جالوا ﴿فِي الْبِلادِ﴾ وأذلّوا أهلها وقهروهم وأستولوا عليهم ، وهم قائلون حين نزول

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ١٣٢.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٩ : ١٣٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٤.

٤٠