نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

ثمّ لمّا نهى سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التعجيل في القرآن والسؤال اللذين هما من أعمال الدين ذمّ سبحانه الناس على حبّ الدنيا العاجلة بقوله تبارك وتعالى : ﴿كَلَّا﴾ ليس لأحد التعجيل في الامور ، وليس اعتذاركم أيّها الناس في القيامة صدقا ﴿بَلْ﴾ عصيتم ربّكم لأنّكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه ، ولذا كنتم ﴿تُحِبُّونَ﴾ الدنيا ﴿الْعاجِلَةَ﴾ وتعملون لها ﴿وَتَذَرُونَ﴾ وتتركون النشأة ﴿الْآخِرَةَ﴾ وتعرضون عنها.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ

 بِها فاقِرَةٌ * كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ * وَقِيلَ مَنْ راقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ *

 وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٢٢) و (٣٠)

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين وسوء حال الكافرين فيها لحثّ الناس على العمل لها بقوله : ﴿وُجُوهٌ﴾ كثيرة وهي وجوه المؤمنين الصالحين ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت ﴿ناضِرَةٌ﴾ وحسنة ومشرقة بهية من أثر النعمة والراحة ، وهي ﴿إِلى﴾ رحمة ﴿رَبِّها ناظِرَةٌ﴾.

عن الرضا عليه‌السلام قال : « يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث - قال : « ينتهى أولياء الله بعد ما يفرغون من الحساب إلى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه ، فتبيّض وجوههم إشراقا ، فيذهب عنهم كلّ قذى ووعث ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم » قال : « فذلك قوله تعالى : ﴿إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ وإنّما يعني بالنظر إليه إلى ثوابه تبارك وتعالى » .

والناظرة في بعض اللغة : هي المنتظرة ، ألم تسمع إلى قوله : ﴿فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ؟﴾ أي منتظرة (٢) .

أقول : قد غلط جمهور أهل اسنّة - وهم الأشاعرة - حيث تمسّكوا بالآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى بأبصارهم في القيامة ، لعدم جواز التمسّك بظواهر الآيات لإثبات المحال العقلي ، مع أنّ الآية غير ظاهرة في مدّعاهم ، لجواز كون الناظرة بمعني منتظرة.

﴿وَوُجُوهٌ﴾ كثيرة ، وهي وجوه الكفّار ﴿يَوْمَئِذٍ ،﴾ وحين قيام القيامة ﴿باسِرَةٌ﴾ وعابسة كالحة ، مظلمة ألوآنها معدمة آثار السرور والنعمة منها ، لظهور الشقاء واليأس من رحمة الله ، فعند ذلك

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٦.

(٢) الاحتجاج : ٢٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٦.

٣٨١

﴿تَظُنُ﴾ وتعتقد ، أو تتوقّع تلك الوجوه ﴿أَنْ يُفْعَلَ بِها﴾ في ذلك اليوم عقوبة ﴿فاقِرَةٌ﴾ وداهية تكسر فقار الظهر. قيل : اريد بها أنواع العذاب في النار (١) .

ثمّ ردع سبحانه الناس عن إيثار الدنيا على الآخرة بقوله : ﴿كَلَّا﴾ وارتدعوا عمّا أنتم عليه من حبّ الدنيا.

قيل : إنّ المراد لمّا عرفتم سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة ، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتنبّهوا على [ ما ] بين أيديكم من الموت الذي تنقطّع عنده الدنيا العاجلة عنكم (٢) .

واذكروا ﴿إِذا بَلَغَتِ﴾ الروح ﴿التَّراقِيَ﴾ والحناجر والعظام المحيطة بالنحر. وقرب خروجها من جسدكم ﴿وَقِيلَ﴾ تمنيا أو انكارا ، لاحتمال شفائه بالرّقية والتعويذ ﴿مَنْ راقٍ﴾ ومن يقدر على إحيائه بالأوراد والتعويذ (٣) . وقيل : يعني من الرافع بروحه إى السماء (٤) .

عن ابن عباس : أنّ الملائكة يكرهون القرب من الكافر ، فيقول ملك الموت : من يرقى بهذا الكافر (٥) .

وقيل : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة ، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت ، فاذا بلغت نفس العبد التراقي ، نظر بعضهم إلى بعض أيّهم يرقي بروحه إلى السماء (٦) .

﴿وَظَنَ﴾ المحتضر حين بلوغ روحه التّرقوة وأحاط به ملائكة الموت ﴿أَنَّهُ الْفِراقُ﴾ من الدنيا المحبوبة ونعيمها التي ضيّع العمر في كسبها ، وأهلك نفسه بالالتذاذ والاشتغال بها ، أو فراق الروح من البدن ، أو الفراق من الأهل والأولاد والأموال.

قيل : عبّر سبحانه عن اليقين بالموت هنا بالظنّ ، لأنّ الانسان مادام فيه حشاشة يطمع في الحياة لشدّة حرصه عليها (٧) . في الحديث : « أنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته ، وإنّ مفاصله ليسلّم بعضها على بعض ، تقول : السّلام عليك ، افارقك وتفارقني إلى يوم القيامة » (٨) .

﴿وَالْتَفَّتِ﴾ والتوت ﴿السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ عند قلق الموت ، أو في الكفن ، أو ليبسهما (٩) بالموت.

وقيل : إنّ الساق كناية عن الشدّة ، والمراد التفّت شدّة فراق الدنيا بشدّة لقاء الآخرة ، أو شدّة مفارقة الأهل وشدّة ترك المال والجاه ، وشدّة شماتة الأعداء وغمّ الأولياء ، أو شدّة الذهاب إلى الآخرة وشدّة القدوم على الله ، أو شدّة فراق الأحباب وشدّة الورود في دار الغربة (١٠) . وعند ذلك ﴿إِلى رَبِّكَ

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٠.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٤.

(٤) تفسير الطبري ٢٩ : ١٢١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٥.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٥.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٥.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٥.

(٩) في النسخة : أو ليلبسهما ، راجع تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٢.

(١٠) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٢.

٣٨٢

وحده ، ونحو محضر عدله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ﴾ والاذهاب بالعنف والقهر ، أو إلى ربك مفوّض سوقهم.

عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال : هل من طبيب ؟ ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ﴾ أيقن بمفارقة الأحبّة ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ التفت الدنيا بالآخرة ﴿إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ﴾ قال : المصير إلى ربّ العالمين » (١) .

﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى *

 أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣١) و (٣٥)

ثمّ بيّن سبحانه أعظم معاصيهم الموجبة لاستحقاقهم العذاب بقوله : ﴿فَلا صَدَّقَ﴾ بالرسول ودينه وكتابه ودار الجزاء ﴿وَلا صَلَّى﴾ الصلوات الواجبة ﴿وَلكِنْ﴾ لم يكتف بترك التصديق ، بل ﴿كَذَّبَ﴾ الرسول وكتابه والبعث بعد الموت ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض عن الدين وعبادة ربّ العالمين ﴿ثُمَ﴾ مع ذلك ﴿ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ﴾ وعياله وعشيرته وهو ﴿يَتَمَطَّى﴾ ويتبختر ويختال في مشيه افتخارا بتكذيب الرسول والإعراض عن عبادة الله ، فقل يا محمد لهذا الكافر : ﴿أَوْلى لَكَ﴾ الهلاك ، أو بعدا ، أو ويل لك ﴿فَأَوْلى﴾ لك ﴿ثُمَ﴾ كرّر القول ، وقل : ﴿أَوْلى لَكَ فَأَوْلى﴾ بعد اخرى. وقيل : أولى مأخوذ من آل يئول ، والمعنى : عقباك النار (٢) .

قال جمع من المفسرين : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد أبي جهل : ثمّ قال : أولى لك فأولى ، توعّده ، فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهدّدني ؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وإنّي لأعزّ أهل هذا الوادي. ثمّ انسلّ ذاهبا ، فأنزل الله تعالى كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، فأولى لك دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه (٣) . وقيل : إنّه وعيد مبتدأ من الله للكافر (٤) .

عن الجواد عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « يقول الله عزوجل بعدا لك من خير الدنيا ، وبعدا لك من خير الآخرة » (٥) .

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ

 عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ

 عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٣٦) و (٤٠)

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥٩ / ٣٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٧.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٥٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٦٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٧.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٣.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٥٤ / ٢٠٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٧.

٣٨٣

ثمّ لمّا حكى سبحانه في أول السورة إنكار المشركين البعث في الآخرة بقوله : ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ(١) استدلّ هنا على وجوب البعث بقوله : ﴿أَيَحْسَبُ﴾ ويتوهّم ﴿الْإِنْسانُ﴾ العاقل ﴿أَنْ يُتْرَكَ﴾ من قبل الله ﴿سُدىً﴾ ومهملا لا يكلّف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة ؟ حاشا وكلّا كيف يمكن ذلك مع أنّه تعالى أعطاه القدرة وآلات الأعمال والعقل ، وذلك مقتض لنهيه عن القبائح وأمره بالمحسنات ، وإلّا يكون هذا الخلق الكامل عبثا ، ويكون راضيا بوقوع القبائح منه ، وذلك مناف للحكمة البالغة ، ولو كان التكليف ولم تكن دار الجزاء لزم تساوي المطيع والعاصي ، وذلك باطل بالبداهة ، وإن كان إنكارهم من جهة عدم قدرة الله على الخلق ثانيا فنقول : ﴿أَلَمْ يَكُ﴾ ذلك الانسان قبل خلقه الأول ﴿نُطْفَةً﴾ قدرة وماء قليلا ﴿مِنْ مَنِيٍ﴾ متكوّن في صلب الرجل ﴿يُمْنى﴾ ويصبّ من مخرج بوله في رحم انثى ﴿ثُمَ﴾ بعد انصبابه في الرّحم ﴿كانَ﴾ ذلك المنيّ ، أو ذلك الانسان ﴿عَلَقَةً﴾ وقطعة دم ﴿فَخَلَقَ﴾ الله وقدّره ﴿فَسَوَّى﴾ خلقه وعدّل قامته وأعضاءه وأكمل نشأته.

عن ابن عباس : ﴿فَخَلَقَ﴾ أي نفخ فيه الروح ﴿فَسَوَّى﴾ أي فكمّل أعضاءه (٢) .

﴿فَجَعَلَ﴾ وخلق ﴿مِنْهُ﴾ بقدرته ﴿الزَّوْجَيْنِ﴾ والصنفين من الانسان ، أعنى ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثى﴾ مع اختلافهما في الطبيعة والأخلاق ﴿أَلَيْسَ﴾ أيّها الشاعر ﴿ذلِكَ﴾ الخالق العظيم الذي خلق أولا هذا الخلق البديع بلا مثال من ماء ﴿بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى﴾ ويخلقهم ثانيا من تراب ، مع أنّ الخلق الثاني في نظر العقل أهون وأسهل من الأول.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا قرأها قال : « سبحانك اللهم بلى » (٣) .

وعن ( المجمع ) أنّه روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٤) .

وعن ابن عباس من قرأها فليقل : سبحانك اللهم بلى ، إماما كان أو مأموما (٥) .

وفي رواية : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « بلى والله ، بلى والله » (٦) .

عن الباقر عليه‌السلام : « من أدمن قراءة ﴿لا أُقْسِمُ﴾ وكان يعمل بها بعثه الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبره في أحسن صورة ، ويبشّره ويضحك في وجهه حتّى يجوز على الصراط والميزان » (٧) .

وفّقنا الله وجميع المؤمنين لإدمان تلاوتها ، والحمد لله تبارك وتعالى على التوفيق لإتمام تفسيرها.

__________________

(١) القيامة : ٧٥ / ٣.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٤.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٢٥٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٨.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦٠٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٨.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٨.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥٨.

(٧) ثواب الاعمال : ١٢١ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٩٤ ، عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٨.

٣٨٤

في تفسير سورة الانسان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا

 الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة القيامة ببيان بدو خلق الانسان وخلق صنفين منه الذكر والانثى ، اردفت بسورة الانسان المبدوءة ببيان ابتداء خلق الانسان ، وجعله صنفين الشكور والكفور ، وقال سبحانه في السورة السابقة : إنّ الكفّار يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة ، وفي هذه السورة أنّهم يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بذكر بدو خلق الانسان بقوله تعالى : ﴿هَلْ أَتى﴾ ومضى ﴿عَلَى الْإِنْسانِ﴾ في بدو خلقه ﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ ومدّة طويلة من الزمان وهو ﴿لَمْ يَكُنْ﴾ في تلك المدّة ﴿شَيْئاً﴾ وموجودا ﴿مَذْكُوراً﴾ باسم من الأسماء ، بل كان في هذا العالم معدوما صرفا ، وإنما كان في علم الله مقدورا عنها ، كان مذكورا في علم الله ولم يكن مذكورا في الخلق.

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان مقدورا غير مذكور » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « كان شيئا مقدورا ولم يكن مكوّنا » (٢) . قيل : إن المراد من الانسان في الآية آدم أبو البشر (٣) . روي عن ابن عباس : أنّه خلق من طين ، فأقام أربعين سنة ، ثمّ من صلصال فأقام أربعين سنة ، ثمّ من حمإ مسنون ، فأقام أربعين سنة ، فتمّ خلقه بعد مائة وعشرين سنة ، ثمّ نفخ فيه الرّوح (٤) .

وفي رواية اخرى عنه : أنّ المراد من ﴿حِينٌ﴾ هنا هو الزمن الطويل الممتدّ الذي لا يعرف مقداره(٥).

أقول : المراد من الزمن الطويل الذي لا يعرف مقداره مدّة كونه مقدورا في علم الله.

ثمّ بيّن سبحانه خلق أولاد آدم بقوله : ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ﴾ وأولاد آدم ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦١٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٥ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٠.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٥ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٠.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٥ ، ولم ينسبه إلى أحد.

٣٨٥

ومختلط ومركب من ماء الرجل وماء المرأة ، على ما روى عن الباقر عليه‌السلام (١) .

قيل : لكلّ من الماءين أوصاف تغاير أوصاف الآخر ، فانّ ماء الرجل أبيض غليظ له قوّة العقد ، وماء المرأة أصفر رقيق فيه قوّة الانعقاد ، فما كان في الولد من عصب وعظم وقوّة فمن ماء الرجل ، وما كان فيه من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة. قيل : إنّه مروي (٢) .

وقيل : إنّ المراد اختلاط ماء الرجل بدم الحيض (٣) .

قال بعض المفسرين : إنّه يختلط الماء أولا بدم الحيض ، ثمّ يصير علقة (٤) .

وقيل : إنّ المعنى من نطفة ذات أمشاج ، واخلاط من الطبائع كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة(٥) .

وقيل : يعني ذات أطوار وألوان ، فانّ النطفة تصير علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاما إلى تمام الخلق ، وهو مرويّ عن ابن عباس (٦) .

ثمّ بيّن سبحانه حكمة هذا الخلق البديع بقوله : ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ والتقدير لنبتليه بالتكليف. وقيل : إنّه حال ، والمعنى : حال كوننا مريدين ابتلاءه وامتحانه (٧) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أعطاه ما يصحّ معه ابتلاؤه. بقوله : ﴿فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ فبالسمع يدرك الآيات التنزيلية والمواعظ الإلهية وبالبصر يدرك الآيات التكوينية والعبر النافعة.

وقيل : إنّ المراد أعطيناه الحواسّ الخمس ، وإنّما خصّ الحسّين السمع والبصر - بالذكر لكونهما أعظمها وأشرفها وأنفعها (٨) . وقيل : إنّ المراد بهما الفهم والتميز (٩) ، والمعنى : جعلناه فهيما مميزا.

﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ

 وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً

 يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٣) و (٦)

ثمّ بيّن سبحانه إتمام لطفه به بقوله تعالى : ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ﴾ بتوسّط إعطائه العقل وإرسال الرسول وإنزال الكتب السماوية ﴿السَّبِيلَ﴾ الذي يوصله إلى قربنا ، وكأنّه تعالى قال : خلقته للابتلاء ، وأعطيته جميع ما يحتاج إليه في التعيّش والهداية إلى الحقّ ليكون ﴿إِمَّا شاكِراً﴾ لنعم الله بالايمان والطاعة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٩٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ٧٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٠.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٦.

(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ٧٠ ولم ينسبه إلى أحد.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٧.

(٨) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٧.

(٩) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٧.

٣٨٦

﴿وَإِمَّا كَفُوراً﴾ لنعمه بالكفر والعصيان.

وقيل : إنّ المعنى أنّا هديناه ، فان شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر (١) .

وقيل : إنّ المراد إنّا مكّناه سلوك الطريق الموصل إلى المطلوب في حالتي شكره وكفرانه (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « عرّفناه إمّا آخذا ، وإمّا تاركا » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « إمّا آخذ فشاكر ، وإما تارك فكافر » (٤) .

ثمّ بيّن حال الكافرين في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا﴾ وهيأنا ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ في الآخرة ﴿سَلاسِلَ﴾ يقادون بها ﴿وَأَغْلالاً﴾ وقيودا يقيّدون بها. وقيل : إنّ السلاسل بها تشدّ أرجلهم ، والأغلال تشدّ بها أيديهم إلى رقابهم (٥)﴿وَسَعِيراً﴾ ونارا مشتعلة موقدة بأجسادهم كما توقد بالحطب.

ثمّ بيّن سبحانه حال الشاكرين بقوله تعالى : ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ﴾ والشاكرين الأخيار ﴿يَشْرَبُونَ﴾ في الآخرة ﴿مِنْ كَأْسٍ﴾ وإناء خمر ﴿كانَ﴾ في علم الله ﴿مِزاجُها﴾ وخليطها شيئا يشبه ﴿كافُوراً﴾ في البياض والبرودة وطيب الرائحة عن ابن عباس : أنّ المراد بالكأس هو الخمر (٦) .

وقيل : إنّ الكافور اسم عين في الجنّة ماؤها في البياض والبرودة والرائحة كالكافور ، ولكن ليس فيه طعمه ومضرّته ، والمراد أنّ شرابهم ممزوج بماء تلك العين (٧) ، أعني ﴿عَيْناً﴾ صفتها أنّه ﴿يَشْرَبُ﴾ الخمر ممزوجة ﴿بِها﴾ أو يلتدّ بها ﴿عِبادُ اللهِ﴾ الأبرار ، وهم ﴿يُفَجِّرُونَها﴾ ويجرونها حيث شاءوا من منازلهم ﴿تَفْجِيراً﴾ سهلا لا كلفة عليهم فيه.

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ

 مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا

 شُكُوراً * إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ

 وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيها

 عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (٧) و (١٣)

ثمّ بيّن سبحانه أعمالهم التي يستحقّون بها هذا الأجر ، كأنّه قيل : بماذا استحقّوا هذا الأجر ؟ فقال سبحانه : ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ ويؤدّون ما أوجبوا على أنفسهم بسبب النّذر ، فكيف بما أوجبه الله عليهم ؟

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٣٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ٧١.

(٣) الكافي ١ : ١٢٤ / ٣ ، التوحيد : ٤١١ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٩٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٥٩.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٠.

(٦و٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٠.

٣٨٧

﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿يَخافُونَ﴾ لاحتمال التقصير في عبادة ربّهم ﴿يَوْماً﴾ عظيما ﴿كانَ شَرُّهُ﴾ وهو له وعذابه ﴿مُسْتَطِيراً﴾ ومنتشرا في أقطار العالم غاية الانتشار ، وبالغا أقصى المبالغ ، وواصلا إلى كلّ أحد إلّا من آمنه الله من المؤمنين المطيعين ، أو المعنى : شرّه سريع الوصول إلى العصاة. وعن الباقر عليه‌السلام « كلوحا عبوسا » (١) .

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ﴾ مع شدّة حاجتهم إليه ، وكونهم ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ عن الباقر عليه‌السلام يقول : « على شهوتهم » (٢) . وقيل : إطعاما كائنا على حبّ الله (٣)﴿مِسْكِيناً﴾ وفقيرا من المؤمنين ﴿وَيَتِيماً﴾ من يتاماهم ﴿وَأَسِيراً﴾ من الكفّار.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « مسكينا من مساكين المسلمين ، ويتيما من يتامى المسلمين ، وأسيرا من اسارى المشركين » (٤) .

وهم يقولون : لا نمنّ عليكم بإطعامكم لأنّا ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته ﴿لا نُرِيدُ﴾ ولا نطلب ﴿مِنْكُمْ﴾ بإطعامنا إياكم ﴿جَزاءً﴾ وأجرا بالمال والنفس ﴿وَلا شُكُوراً﴾ وعوضا بالمدح والدعاء.

عن الباقر عليه‌السلام قال : يقولون إذا أطعموهم ذلك قال : « والله ما قالوا هذا لهم ، ولكنّهم أضمروه في أنفسهم ، فأخبر بإضمارهم ، يقولون : لا نريد منكم جزاء تكافئوننا به ، ولا شكورا تثنون علينا به ، ولكنّنا إنّما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه » (٥) .

وكذا ﴿إِنَّا نَخافُ مِنْ﴾ عذاب ﴿رَبِّنا يَوْماً﴾ تكون الوجوه فيه ﴿عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ ومنقبضا شديد الانقباض. روي أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل العرق من بين عينيه كالقطران (٦) . وقيل : إنّه شبّه اليوم بالأسد العبوس في الشدّة والضّراوة (٧) ، فيكون المعنى : أنّا نخاف من اليوم الذي كالأسد العبوس الشديد العبوسة ، ولذا نعطيكم ليقينا الله برحمته من شرّ ذلك اليوم العظيم.

﴿فَوَقاهُمُ اللهُ﴾ وحفظهم ودفع عنهم ﴿شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ﴾ بسبب عطائهم وخوفهم ﴿وَلَقَّاهُمْ﴾ وأعطاهم بسبب طلبهم رضى الله ﴿نَضْرَةً﴾ وبهجة كاملة في وجوههم بدل عبوس الكفّار ﴿وَسُرُوراً﴾ عظيما في قلوبهم بدل غمّ الفجّار وحزنهم ﴿وَجَزاهُمْ﴾ في القيامة ﴿بِما صَبَرُوا﴾ على الجوع وإيثار المحتاجين على أنفسهم ﴿جَنَّةً﴾ ذات أشجار وثمار وقصور عالية يسكنونها ويأكلون من ثمارها ونعمها التي لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر مثلها بقلب أحد ﴿وَحَرِيراً﴾ ولباسا من

__________________

(١و٢) أمالي الصدوق : ٣٣٣ / ٣٩٠.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٥.

(٤) أمالي الصدوق : ٣٣٣ / ٣٩٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٠.

(٥) أمالي الصدوق : ٣٣٣ / ٣٩٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٠.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٧.

(٧) تفسير أبي السعود ٩ : ٧٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٧.

٣٨٨

سندس واستبرق يلبسونه ويتزيّنون به حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها﴾ ومعتمدين كالسلاطين على الوسائد التي تكون ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ والسّرر الموضونة بقضبان الذهب والفضّة وأنواع الجواهر ، موضوعة في البيوت المزيّنة بالثياب والسّتور ، كذا قيل (١) .

﴿لا يَرَوْنَ﴾ اولئك الأبرار الساكنون في الجنة ﴿فِيها﴾ وقتا من الاوقات ﴿شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً﴾ ولا يحسّون حرا ولا بردا ، بل هواؤها في غاية الاعتدال في الحديث : « هواء الجنّة سجسج (٢) لا حرّ فيه ولا قرّ » (٣) .

روى بعض العامة عن ابن عباس أنّه قال : بينما أهل الجنّة في الجنّة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس ، وقد أشرقت الجنان له ، فيقول أهل الجنّة : يا رضوان ، قال ربّنا عزوجل : ﴿لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً﴾. فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمس ولا قمر ، ولكن هذه فاطمة وعلى ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله ﴿هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ﴾ إلى قوله : ﴿وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً(٤) .

﴿وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً * وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ

 وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيها

 كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٤) و (١٧)

ثمّ بيّن سبحانه حالهم من حيث الراحة بقوله : ﴿وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ﴾ أغصان أشجار الجنّة ، وقريبة منهم ﴿ظِلالُها﴾.

قيل : إنّ المراد لمن خاف ربّه جنتان : جنّة فيها حرير لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، وجنة اخرى دانية عليهم ظلالها ، والمقصود أنّه لو كان فيها شمس كانت أشجارها مظلّة لهم (٥) .

﴿وَذُلِّلَتْ﴾ وقربت منهم ، أو انقادت لهم ﴿قُطُوفُها﴾ وثمارها ﴿تَذْلِيلاً﴾ تاما بحيث لا يصعب لمن يريدها اقتطافها في حال القيام والقعود والاضطجاع. عن البراء بن عازب ، قال : ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، فمن أكل قائما لم يؤذه ، ومن أكل جالسا لم يؤذه (٦) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً﴾ من قربها منهم ، يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٩.

(٢) يقال : يوم سجسج : لا حرّ فيه ولا برد.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٠.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٠ ، والآيات من سورة الانسان : ٧٦ / ١ - ٢٢.

(٥) تفسير ابى السعود ٩ : ٧٣ ، تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٩.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٨.

٣٨٩

من الثمار بعينه (١) وهو متكيء » (٢) .

﴿وَيُطافُ﴾ ويدور ﴿عَلَيْهِمْ﴾ في قصورهم ﴿بِآنِيَةٍ﴾ وأوعية كالقدح والكأس مخلوقة ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿فِضَّةٍ﴾ لها غاية اللّطافة ﴿وَأَكْوابٍ﴾ وكيزان لا عري لها ولا آذان يصبّ منها المشروب في الآنية ﴿كانَتْ﴾ ووجدت حال كونها في الصفاء والشفافية تشبه ﴿قَوارِيرَا﴾ وآنية زجاجية ، ولكن لا قوارير متكونة من الرمل كما القارورة في الدنيا كذلك ، بل ﴿قَوارِيرَا﴾ متكونة ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ فكما أنّ الله قادر على أن يقلب الرمل الكثيف في الدنيا زجاجة صافية شفّافة ، قادر على أن يقلب فضّة الآخرة زجاجة صافية ، ففي آنية الآخرة صفاء الزجاج وشفافيته ، ونقاء (٣) الفضّة وشرفها.

عن ابن عباس : ليس في الدنيا شيء ممّا في الجنّة إلّا الأسماء (٤) . وقيل : إنّ الأكواب تكون من فضة ، ولكن لها صفاء القارورة (٥). عن الصادق عليه‌السلام : « ينفذ البصر في فضّة الجنّة ، كما ينفذ في الزّجاجة » (٦) .

وقيل : إنّ المراد من ﴿قَوارِيرَا﴾ في الآية ليس هو الزّجاج ، فانّ العرب تسمّى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورقّ وصفا قارورة ، فمعنى الآية : وأكواب من فضّة مستديرة صافية رقيقة(٧) .

ثمّ لمّا بيّن سبحانه صفاء الأواني بقوله : ﴿كانَتْ قَوارِيرَا﴾ ونقائها بقوله : ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ بيّن شكلها بأنّ الشاربين ﴿قَدَّرُوها﴾ على قدر ريهم (٨) بارادتهم واشتهائهم ، أو بأعمالهم الحسنة ﴿تَقْدِيراً﴾ موافقا لميلهم واشتهائهم من غير زيادة ونقصان ، وهو ألذّ لأهل الجنّة (٩) .

﴿وَيُسْقَوْنَ فِيها﴾ بأمر الله ﴿كَأْساً كانَ مِزاجُها﴾ وخليطها شيئا يشبه ﴿زَنْجَبِيلاً﴾ في الطعم والرائحة ، ولكن ليس فيه لذعه وإحراقه ، وكان الشراب الممزوج به أطيب ما تستطيبه العرب وألذّ ما تستلذّه.

﴿عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ

 حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٨) و (١٩)

ثمّ لمّا كان تسمية المزاج بالزنجبيل موهمة لأن لا يكون له سلاسة الانحدار في الخلق وسهولة المساغ ، كما هو مقتضى اللّذع والإحراق ، دفع سبحانه التوهّم بقوله : ﴿عَيْناً فِيها تُسَمَّى﴾ عند أهل الجنّة وخزنتها ﴿سَلْسَبِيلاً﴾ ومشروبا في غاية العذوبة وسهولة المساغ ، ونهاية السّلاسة.

__________________

(١) في الكافي بفيه.

(٢) الكافي ٨ : ٩٩ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٣.

(٣) في النسخة : وشفافته ، ونقلوا.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧١.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٩.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٦٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٣.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٩.

(٨) في النسخة : يريهم.

(٩) في النسخة : ألذّ أهل الجنّة بقوله.

٣٩٠

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ معنى سلسبيل : سل سبيلا إليها » (١) .

أقول : الظاهر أنّه بيان وجه التسمية ، فانّه لا يشرب منها إلا من سأل سبيلا إليها بالأعمال الصالحة.

وعن ( الخصال ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعطاني الله خمسا : وأعطى عليا خمسا ؛ أعطاني الكوثر ، وأعطاه السلسبيل » (٢) .

ثمّ وصف سبحانه الخدّام الطائفين بقوله : ﴿وَيَطُوفُ﴾ بالكأس ﴿عَلَيْهِمْ﴾ في الجنّة ﴿وِلْدانٌ﴾ وغلمان ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ وباقون أبدا على ما هم عليه من الحياة والحسن والطّراوة والمواظبة على الخدمة. وعن الفراء والقمي : يعني مسوّرون (٣) . وقيل : يعني محلّون (٤) . وقيل : مقرّطون (٥)﴿إِذا رَأَيْتَهُمْ﴾ أيّها الرائي ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾ في صفاء الألوان وانتشارهم في المجالس ﴿لُؤْلُؤاً﴾ رطبا اخرج من صدفه ﴿مَنْثُوراً﴾ ومتفرّقا. قيل : إنّ اللؤلؤ إذا انتشر وتفرّق كان احسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض (٦) .

روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا » (٧) .

وعن سلمان الفارسي : « هم أطفال المشركين خدّام أهل الجنّة » (٨) .

أقول : لا منافاة بينهما ، لاحتمال كون كلّهم خدّاما.

﴿وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ

 وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢٠) و (٢١)

ثمّ بيّن سبحانه كمال نعمه عليهم وإكرامه لهم بقوله : ﴿وَإِذا رَأَيْتَ﴾ أيّها الرائي ﴿ثَمَ﴾ وهناك ﴿رَأَيْتَ نَعِيماً﴾ وافرا لا يوصف حسنه ولذّته. عن ابن عباس : لا يقدر واصف وصف حسنه ولا طيبه (٩)﴿وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ قيل : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، ويرى أقصاه كما يرى أدناه (١٠) .

وقيل : إنّ الكبير بمعنى أنّه لا زوال له (١١) . وعن الصادق عليه‌السلام : « أي لا يزول ولا يفنى »(١٢).

وقيل : إنّ الملك الكبير هو كثرة التعظيم (١٣) والاكرام. روي أنّ الرسول يأتي من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتّحف إلى وليّ الله وهو في منزله فيستأذن عليه ، ولا يدخل عليه رسول ربّ العزّة من الملائكة المقرّبين إلّا بعد الاستئذان (١٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٠.

(٢) الخصال : ٢٩٣ / ٥٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥١ ، تفسير القمي ٢ : ٣٩٩ ، وفيه : مستوون ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٤.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥١.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٣.

(٧و٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٤.

(٩) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢.

(١٠) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢.

(١١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢.

(١٢) مجمع البيان ١٠ : ٦٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٤.

(١٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢.    (١٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢.

٣٩١

عن الباقر عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : « وإنّ الملائكة من رسل الله لتستأذن عليه ، ولا يدخلون عليه إلّا بإذنه ، فذلك الملك العظيم » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل ما هذا الملك الكبير الذي كبّره الله عزوجل حتّى سمّاه كبيرا ؟ قال : إذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولا إلى وليّ من أوليائه ، فيجد الحجبة على بابه ، فتقول له : قف حتّى نستأذن لك ، فما يصل إليه رسول ربّه إلّا بإذنه ، فهو قول الله تعالى : ﴿وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً(٢) .

﴿عالِيَهُمْ﴾ وفوقهم وعلى ظهورهم ، أو على خيامهم المضروبة عليهم ﴿ثِيابُ سُندُسٍ﴾ وديباج رقيق ﴿خُضْرٌ وَ﴾ ثياب ﴿إِسْتَبْرَقٌ﴾ وحرير غليظ. قيل : إنّ الآية بيان للباس الولدان (٣) . ﴿وَحُلُّوا﴾ وزيّنوا اولئك الأبرار أو الولدان ﴿أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ قيل : كان الملوك يحلّون بها في الزمن الأول (٤) . وقيل : أساور الذهب - كما في سورة الكهف - للأبرار ، والفضّة للولدان ، أو كلاهما للأبرار يتعاقبون أو يجمعون بينهما (٥) .

﴿وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ مضافا إلى الشرابين السابقين الممزوجين ﴿شَراباً طَهُوراً﴾ هو أفضل وأعلى منهما : كما يدلّ عليه إسناد سقيه إلى ذاته المقدّسة ووصفه بالطّهورية.

قيل : هو عين على باب الجنّة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غلّ وغشّ وحسد ، وما كان في جوفه من قدر أو أذى (٦) .

وقيل : يؤتون بالطعام والشراب ، فإذا كان في آخر ذلك يؤتون بالشراب الطّهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام في حديث « وعلى باب الجنة شجرة ، إنّ الورق منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من الناس ، وعن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية » قال : « فيسقون منها شربة فيطهّر الله بها قلوبهم من الحسد ، ويسقط من أبشارهم الشعر ، وذلك قول الله : ﴿وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً﴾ » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « يطهّرهم من كلّ شيء سوى الله » (٩) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٤٨ ، الكافي ٨ : ٩٨ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٤.

(٢) معاني الأخبار : ٢١٠ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٣.

(٤) تفسير روح البيان ٣٠ : ٢٥٣.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٥ ، وفيه : فللمقربون الذهب وللأبرار الفضة.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٤.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٤.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٥٤ ، عن الصادق عليه‌السلام ، الكافي ٨ : ٩٦ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٥.

(٩) مجمع البيان ١٠ : ٦٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٥.

٣٩٢

﴿إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)

ثمّ يقول الله ، أو الملائكة ، للأبرار : ﴿إِنَّ هذا﴾ الذي ترون من العطايا والكرامات ﴿كانَ﴾ في علم الله ﴿لَكُمْ جَزاءً﴾ وعوضا بمقابلة أعمالكم الحسنة وعباداتكم المقبولة ﴿وَكانَ سَعْيُكُمْ﴾ وسرعتكم في الخيرات وتعبكم في الطاعات ﴿مَشْكُوراً﴾ عند الله ومرضيا له ومقابلا بالثواب العظيم ، فيزداد بذلك الخطاب فرحهم وسرورهم.

روى كثير من مفسّري العامة كالواحدي والزمخشري وأبي السعود وإسماعيل حقّي وغيرهم : أنّ الآيات نزلت في شأن علي وفاطمة والحسن والحسين ، لرواية ابن عباس (١) ، وهي كما في ( روح البيان ) : أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه ، فقالوا لعليّ عليه‌السلام : لو نذرت على ولديك نذر ؟ فنذر عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وفضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيام تقرّبا إلى الله وطلبا لمرضاته وشكرا له ، فشفيا فصاموا وما معهم شيء يفطرون عليه ، فاستقرض علي عليه‌السلام من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصوع من الشعير ، فطحنت فاطمة عليها‌السلام صاعا وخبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوا بين أيديهم وقت الإفطار ليفطروا به ، فوقف عليهم سائل ، فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت محمد ، أنا مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.

فقال علي لفاطمة عليهما‌السلام :

فاطم ذات المجد واليقين

يا بنت خير الناس أجمعين

أماترين البائس المسكين

قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى الله ويستكين

يشكو إلينا جائعا حزين

فقالت فاطمة عليها سلام الله :

أمرك يابن عم سمع طاعه

مابي من لؤم ولا ضراعة

أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه

ألحق بالأخيار والجماعه

و أدخل الخلد ولي شفاعة

فآثروه كلّهم وباتوا ولم يذوقوا إلّا الماء ، وأصبحوا صياما ، فطحنت فاطمة ثلثا آخر وخبزت ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ، وقف عليهم يتيم ، فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين ، استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.

__________________

(١) اسباب النزول : ٢٤٨ ، الكشاف ٤ : ٦٧٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٣ ، تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٤.

٣٩٣

فقال : علي عليه‌السلام لفاطمة عليهما‌السلام :

إني لاعطيه ولا ابالي

و أوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهم أشبالي

أصغرهم يقتل في القتال

فآثروه بطعامهم ، وأفطروا بالماء ، وباتوا جياعا ، وأصبحوا صياما ، فطحنت فاطمة الثّلث الباقي وخبزت ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف أسير ، فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، أسير من الاسارى ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أخذ علي بيد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فأقبلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم ! » وقام فانطلق معهم ، فرأى فاطمة سلام الله عليها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك فنزل جبرئيل وقال : خذ يا محمد ، هنّأك الله في أهل بيتك ، فأقرأه السورة (١) ، انتهى.

قال إسماعيل حقي صاحب تفسير ( روح البيان ) : الرواية ضعيفة لضعف راويها إلّا أنّها مشهورة بين العلماء مسفورة في الكتب (٢) .

أقول : من العجب أنّ العامة يعتمدون على ما هو أضعف منها ، ومع ذلك يظهرون الشكّ فيها مع اعترافهم بكونها من المشهورات.

ثمّ أنّهم قد ذكروا في ردّ هذه القضية : أنّ السورة مكية ، وكان نكاح فاطمة في المدينة بعد وقعة احد.

وفيه : أنّ جمعا من علماء العامة ومفسّريهم منهم : مجاهد وقتادة قائلون بأنّ السورة مدنية إلّا آية واحدة ، وهي قوله : ﴿وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ فانّها مكيّة ، وكذا قال الحسن وعكرمة والمارودي على ما نقل عنهم أنّها مدنية إلّا آية ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ...﴾ إلى آخره. وممّا يدلّ على أنّها مدنية أن الأسير إنّما كان بالمدينة بعد آية القتال (٣) .

وقال صاحب ( روح البيان ) : نحن لا نشكّ في صحّة القصّة (٤) ، فلا يصغى إلى ما قال الفخر الرازي من أنّه لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصمّ وأبي علي الجبّائي ، وأبي القاسم الكعبي ، وأبي مسلم الأصفهاني ، والقاضي عبد الجبّار بن أحمد في تفاسيرهم أنّ هذه الآيات نزلت في حقّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٥) .

أقول : عدم ذكرهم القصّة لا يدلّ على إنكارهم بأنّ ظاهر الآيات العموم ولا وجه لتخصيصها ، مع أنّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٩.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٩.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣.

٣٩٤

[ القول بأنّ ] تخصيصها ينافي نظم الآيات من الأغلاط ، فانّ نزول آية في حقّ أحد لا يستلزم تخصيص عمومها ، فانّ نزول آية : ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ في شأن الوليد (١) ، وآية : ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ في حقّ علي عليه‌السلام وإنفاقه (٢) . ونزول آية ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ في البراء بن عازب واستنجائه بالماء وتهنيته الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بنزول الآية فيه (٣). نزول آية ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ في شأن عمّار بن ياسر (٤) ، لا يوجب تخصيص عموم الآيات ، بل معناه أنّ فعل أحد صار منشأ لنزول الآية ، وكان النظر في الآية إلى ذلك الشخص تفصيلا - وإن كان الحكم في الآية شاملا لغيره إلى يوم القيامة - يدلّ على فضيلة عظيمة لذاك الشخص ، كما ادّعوا نزول آية ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى﴾ في حقّ أبي بكر وإنفاقه على المسلمين ويعدّونه من فضائله (٥) .

وروى في ( المجالس ) عن الصادق عليه‌السلام ما يقرب من رواية عبد الله بن عباس ، وفي آخره : فهبط جبرئيل فقال : يا محمد ، خذ ما هنّأه الله لك (٦) في أهل بيتك. فقال : ما آخذ يا جبرئيل ؟ فقال : ﴿هَلْ أَتى﴾ إلى قوله : ﴿وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً(٧) .

وعن ( المناقب ) أنّه رواه عن أكثر من عشرين من كبار المفسّرين (٨) .

وفي بعض الروايات عن الباقر عليه‌السلام : فرآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جياعا ، فنزل جبرئيل ومعه صحفة من الذهب مرصّعة بالدّرّ والياقوت ، مملؤة من الثريد ، وعراق (٩) يفوح منها رائحة المسك والكافور ، فجلسوا وأكلوا حتى شبعوا ، ولم تنقص منها لقمة واحد ، فخرج الحسين عليه‌السلام ومعه قطعة عراق ، فنادته يهودية : يا أهل بيت الجود - أو الجوع - من أين لكم هذه ! أطعمنيها ، فمدّ يده الحسين عليه‌السلام ليطعمها ، فهبط جبرئيل وأخذها من يده ، ورفع الصّحفة إلى السماء ، فقال عليه‌السلام ، لو لا ما أراد الحسين عليه‌السلام من إطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصّحفة في أهل بيتي يأكلون منها إلى يوم القيامة ، وكانت الصدقة في ليلة خمس وعشرين من ذي الحجّة ، ونزول ﴿هَلْ أَتى﴾ في يوم الخامس

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١١٩ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١١٨ ، والآية من سورة الحجرات : ٤٩ / ٦.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ٨٣ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٥ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٧٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٠ / ٥٩ ، الخصال : ١٩٢ / ٢٦٧ ، وفيهما : البراء بن معرور ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.

(٤) تفسير أبي السعود ٥ : ١٤٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ٨٤ ، والآية من سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.

(٥) تفسير أبي السعود ٩ : ١٦٨ ، والآيتان من سورة الليل : ٩٢ / ١٧ و١٨.

(٦) في المصدر : ما هيّأ الله لك.

(٧) أمالى الصدوق : ٣٣٢ / ٣٩٠.

(٨) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٧٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٢.

(٩) العراق : العظم اكل لحمه.

٣٩٥

والعشرين منه (١) .

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ

 كَفُوراً (٢٣) و (٢٤)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حسن طاعة الشاكرين وحالهم في الآخرة ، صلّى رسوله وقوّى قلبه على تحمّل أذى المشركين بقوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ﴾ يا نبي الرحمة ﴿الْقُرْآنَ﴾ العظيم الشأن بتوسّط جبرئيل ﴿تَنْزِيلاً﴾ مقرونا بجهات من الإعجاز وشواهد الصدق ، أو تنزيلا مفرّقا منجّما ، لاقتضاء الحكمة البالغة اختصاص كلّ آية أو سورة بوقت معين ، فلا تعتن بقول المعاندين إنّه سحر ، أو شعر ، أو كهانة ، أو اختلاق البشر ، فاذا علمت تلك النعمة العظيمة ﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذى المشركين ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ بتأخير الإذن في قتالهم ونصرك على أعدائك ، فانّ له عاقبة حميدة ﴿وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ﴾ كلّ من كان ﴿آثِماً﴾ وعاصيا لربّه في أمرك بعصيان الله بترك تبليغ الرسالة ﴿أَوْ﴾ كان ﴿كَفُوراً﴾ ومصرّا على الكفر والطغيان في أمرك بالرجوع إلى دينهم.

قيل : إنّ المراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، فانّه كان متعاطيا إلى أنواع الفسوق ، وبالكفور الوليد بن المغيرة فانّه كان غاليا في الكفر (٢) وقيل : بالعكس ، فان الله سمّى الوليد أثيما ، حيث قال في حقّه : ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(٣) .

روي أنّ عتبة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارجع عن هذا الأمر حتى ازوّجك بنتي ، فانّي من أجمل قريش بناتا: وقال الوليد : أنا اعطيك من المال حتّى ترضى ، فانّي من أكثرهم مالا ، فقرأ عليهم رسول الله عشر آيات من أول حم السجدة ، إلى قوله : ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ(٤) فانصرفا عنه ، قال أحدهما : ظننت أن الكعبة ستقع عليّ (٥) .

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً *

 إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْناهُمْ

 وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٥) و (٢٨)

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٧٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٢.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٨ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٨ ، والآية من سورة القلم : ٦٨ / ١٢.

(٤) فصلت : ٤١ / ١٣.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٨.

٣٩٦

ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر أمره بالعبادة الموجبة لراحة قلبه الشريف بقوله : ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ واشغل قلبك بالتوجّه إليه ﴿بُكْرَةً﴾ وأول النهار ﴿وَأَصِيلاً﴾ وآخره. قيل : إنّ المراد المداومة على الذّكر في جميع الأوقات (١) . وقيل : إنّ المراد المداومة على صلاة الفجر والظهر والعصر ، فانّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب (٢) .

﴿وَ﴾ في بعض ﴿مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ قيل : إنّ المراد بالسجدة صلاة المغرب والعشاء (٣)﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ قيل : اريد به التهجّد وصلاة نافلة الليل في ثلثيه ونصفه وثلثه (٤) .

وقيل : إنّ المراد بالذكر والتسبيح نفسهما. قال : ﴿اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(٥).

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شرع في بيان سوء حال الكفار والمتمرّدين بقوله : ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ الكفّار ﴿يُحِبُّونَ﴾ الدنيا ﴿الْعاجِلَةَ﴾ الفانية ، ويشتاقون إلى لذّاتها ومشتهياتها ﴿وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ﴾ ويدعون خلف ظهورهم ﴿يَوْماً ثَقِيلاً﴾ عليهم شديدا أهواله لهم ، ولذا أعرضوا عن الايمان بك وبكتابك ، ولا يعتنون بمواعظك التي فيها نفع آخرتهم ، وليس عدم إيمانهم لشبهة في نظرهم حتى تزيلها بالدلائل ، وإلّا لو كانوا تابعين (٦) لعقولهم كان عليهم إطاعة أوامرنا والانقياد لأحكامنا ﴿نَحْنُ خَلَقْناهُمْ﴾ وأعطيناهم الأعضاء والقوى التي يكمل بها خلقهم وتهيّأ (٧) لهم حياتهم ﴿وَشَدَدْنا﴾ ما حكمنا ﴿أَسْرَهُمْ﴾ وأعضائهم ، ليتمكّنوا من القيام والقعود والحركات التي ينتفعون بها من اللذائذ الدنيوية ﴿وَإِذا شِئْنا﴾ أهلكناهم و﴿بَدَّلْنا﴾ وعوّضنا عنهم في الأرض خلقا آخر ﴿أَمْثالَهُمْ﴾ في الخلقة والشكل ﴿تَبْدِيلاً﴾ بديعا.

حاصل المراد والله أعلم أنّهم محتاجون في الحياة والبقاء في الدنيا والالتذاذ بشهواتها إلينا ، ونحن مستغنون عنهم لعدم حاجتنا إلى الخلق ، ولو فرض لنا حاجة لنا إليهم ، بل نحن بقدرتنا الكاملة الذاتية قادرون على خلق أمثالهم.

﴿إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٩ : ٧٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٨.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٩ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٨.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٧٨.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٩ ، والآيتان من سورة الاحزاب : ٣٣ / ٤١ و٤٢.

(٦) في النسخة : تابعا.

(٧) كذا الظاهر ، والكلمة غير منقطة في النسخة.

٣٩٧

إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ

 عَذاباً أَلِيماً (٣١)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حال الشاكرين والكافرين نبّه على الغرض من هذه البيانات بقوله : ﴿إِنَّ هذِهِ﴾ المذكورات من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والدلائل والحكم ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ وعظة شافية لمن تأمّل فيها ، وتبصرة لمن تفكّر في لطائفها ﴿فَمَنْ شاءَ﴾ أيّها الناس خير الدارين وسعادة النشأتين ﴿اتَّخَذَ﴾ واختار لنفسه بالعمل بهذا القرآن ﴿إِلى رَبِّهِ﴾ القرب إليه ﴿سَبِيلاً﴾ يصله إلى مرضاته وجنّته والنّعم الدائمة ﴿وَما تَشاؤُنَ﴾ شيئا من الهداية وغيرها في حال من الأحوال ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ﴾ ذلك الشيء بالمشيئة التكوينية من غير أن يلزم جبران ﴿إِنَّ اللهَ كانَ﴾ بذاته ﴿عَلِيماً﴾ بمصالح العباد واستعداداتهم ﴿حَكِيماً﴾ فيما يشاء لعباده ، فلا يشاء لهم إلّا ما تستدعيه وتقتضيه حكمته.

عن القائم عجل الله فرجه أنّه سئل عن المفوّضه - كذا في النسخة - قال : « كذبو ، بل قلوبنا أوعية لمشية الله عزوجل ، فاذا شاء شيئا شئنا » ثمّ تلا هذه الآية (١) .

ثمّ بيّن سبحانه حكم مشيته بقوله : ﴿يُدْخِلُ﴾ الله ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ سعادته ودخوله ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ بإعطائه التوفيق وتأييده وتسديده ﴿وَالظَّالِمِينَ﴾ الذين ضيّعوا حقوق نعم الله بالكفر ﴿أَعَدَّ﴾ الله وهيّأ ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾ لا يوصف بالبيان.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة ﴿هَلْ أَتى﴾ كان جزاؤه على الله جنّة وحريرا » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ ﴿هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ﴾ كلّ غداة من الخميس ، زوّجه الله من الحور العين ثمانمائة عذراء ، وأربعة آلاف ثيّب ، وكان مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

وعن الهادي عليه‌السلام : « من أحبّ أن يقيه الله شرّ [ يوم ] الاثنين ، فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة ﴿هَلْ أَتى ﴾ » (٤) .

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤٥٩ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٦.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٥٥ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١٢١ ، مجمع البيان ١٠ : ٦٠٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٦.

(٤) أمالي الطوسي : ٢٢٤ / ٣٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٦٦.

٣٩٨

في تفسير سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِراتِ نَشْراً * فَالْفارِقاتِ فَرْقاً

 * فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة الإنسان المتضمّنة لذمّ الكفّار بأنّهم يذرون وراءهم يوما ثقيلا ، وذكر دلائل وقوعه ، وسوء حال المكذّبين ، وحسن حال المؤمنين ، ونظمت سورة المرسلات المتضمّنة لاثبات وقوع ذلك اليوم الثقيل ، وشرح ثقله بذكر أهواله وشدائده ، وتهديد مكذّبيه ، وبيان سوء حالهم ، وحسن حال المؤمنين ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالملائكة إظهارا لعظمتهم وكرامتهم عنده وتأكيدا للمدّعى بقوله : ﴿وَالْمُرْسَلاتِ﴾ من قبل الله من الملائكة ، لإيصال النّعم إلى الخلق ، وتبليغ الأحكام والعلوم إلى الرسل ، ولخلق ما في الأرحام ، وكتابة الأعمال ، وحفظ النفوس من البلايا ، وإنزال العذاب ، إرسالا ﴿عُرْفاً﴾ ومتتابعا كعرف الفرس ، أو معروفا ومستحسنا عند العامّة ، أو المؤمنين ، فانّ نزول العذاب على الأعداء إحسان إلى الأولياء.

ثمّ رتّب سبحانه على رسالتهم بيان سرعتهم في امتثال أوامر الله بقوله : ﴿فَالْعاصِفاتِ﴾ في طيرانهم ، والمسرعات بالشّدة في امتثال أوامر الله ، كما تصف الرياح ﴿عَصْفاً﴾ وسيرا شديدا ، وقيل : إنّ المراد بالعاصفات الملائكة الذين يلهبون بأرواح الكفار ويهلكونها (١) ﴿وَالنَّاشِراتِ﴾ بأجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، أو الشرائع في أهل الأرض ، أو للرحمة والعذاب ، أو لصحف الأعمال يوم الحساب ، أو للنفوس الموتى بالكفر والجهل [ بطريق ] الوحي الذي هو حياة القلوب ﴿نَشْراً﴾ معجبا بديعا.

ثمّ رتّب سبحانه على نشرهم أمرين : الأول بقوله : ﴿فَالْفارِقاتِ﴾ والمميزات بين الحقّ والباطل

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦٤.

٣٩٩

﴿فَرْقاً﴾ وتميزا ظاهرا ، والثاني بقوله : ﴿فَالْمُلْقِياتِ﴾ إلى الأنبياء ﴿ذِكْراً﴾ وعظة شافية ، أو علما وحكمة ، أو كتابا سماويا. قيل : هو القرآن ، وإطلاق صيغة الجمع وإرادة جبرئيل وحده لتعظيمه ، وإنّما يلقون الذّكر ليكون ﴿عُذْراً﴾ وقاطعا للحجّة بالنسبة إلى الكافرين ، أو عذرا للمعتذرين إلى الله بالتوبة والاستغفار والمحقّين ﴿أَوْ نُذْراً﴾ وتخويفا للكافرين والمبطلين ، أو بمن اتّبع الذكر.

وقيل : إنّ المراد من المرسلات والعاصفات الرياح المرسلة للعذاب ، ومن الناشرات رياح الرحمة نشرن في الجوّ وفرّقن السّحاب ، أو نشرن للموات ففرّقن كلّ صنف منها عن سائر الأصناف ، أو فرّقن بين الشاكرين لنعم الله وكفورها وبين الموحّد والمشرك ، وألقين الذكر والايمان في قلوب المؤمنين (١) .

وقيل : إنّ المراد من الجميع آيات القرآن ، فإنّها المرسلات المتتابعات ، أو بكلّ خير ومعروف ، وهي العاصفات والمذهبات بالأديان الباطلة ، وهي الناشرات للهداية والحكم في الأقطار ، والفارقات بين الحقّ والباطل (٢) ، والذوات الطيبة والخبيثة ، والملقيات لذكر الله في القلوب ، وفيها العذر والنّذر.

وقيل : إنّ المراد من الثلاثة الأول الرياح ، ومن الاثنين الآخرين الملائكة فانّهم بإنزال الوحي يفرّقون بين الحقّ والباطل ، ويلقون الذّكر إلى الرسل (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالأولين الرياح ، وبالثلاثة الباقية الملائكة ، لأنّهم ينشرون الوحي والدين ، وبه يفرّقون بين الحقّ والباطل ، ويظهرون الذّكر في القلوب والألسنة (٤) .

والجمع بين القسم بالرياح والملائكة ، لكونهما شبيهتين في اللطافة وسرعة السير ، واحتمل غير ذلك ممّا لا يهمّنا ذكره بعد وضوح كون التفسير الأول أقرب في النظر وأنسب.

﴿إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا

 الْجِبالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَما

 أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ

 نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٧) و (١٩)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّما تُوعَدُونَ﴾ أيّها الناس بلسان الأنبياء من الحشر والحساب ومجازاة الأعمال ﴿لَواقِعٌ﴾ لا محالة لاقتضاء الحكمة البالغة ذلك ، وامتناع الخلف للوعد

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦٧.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦٧.

٤٠٠