نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً *

 وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً * ما لَكُمْ لا

 تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٠) و (١٤)

ثمّ لمّا بيّن مراتب دعوته بيّن كيفيتها بقوله : ﴿فَقُلْتُ﴾ لهم : يا قوم ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ واسألوه ستر ذنوبكم ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ غَفَّاراً﴾ وستّارا للذنوب ، فاذا استغفرتم الله ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ﴾ وينزل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ الأمطار النافعة حال كونها ﴿مِدْراراً﴾ وسيالا ، أو متواترا.

قيل : إنّ قومه قالوا : إن كان ديننا حقّا فكيف نتركه ، وإن كان باطلا فكيف يغفر لنا بعد ما كنّا عليه دهرا طويلا ؟ فأمرهم الله بالاستغفار ، ووعدهم عليه بالعوائد الدنيوية العاجلة ، لأنّها أوقع في قلوبهم من المغفرة (١) .

وقيل : لمّا كذّبوا نوحا بعد تكرار الدعوه ، حبس الله عنهم قطر السماء ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة (٢) . وقيل : سبعين ، فوعدهم نوح إن آمنوا أن يرزقهم الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه (٣) بقوله : ﴿وَيُمْدِدْكُمْ﴾ ويقوّيكم ﴿بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ﴾ ويزدكم قوة إلى قوّتكم ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ بسبب إيمانكم واستغفاركم ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين كثيرة ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ فيها ﴿أَنْهاراً﴾ جارية تزيّنها بالنبات ، وتحفظها من اليبس ، وتفرح بها القلوب.

ثمّ لامهم نوح على تركهم الايمان بالله بقوله : ﴿ما لَكُمْ﴾ وأيّ مانع فيكم ؟ أنّكم ﴿لا تَرْجُونَ﴾ ولا تعتقدون ﴿لِلَّهِ﴾ الخالق لجميع الأشياء ﴿وَقاراً﴾ وعظمة مقتضية لايمانكم به وخضوعكم له ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿قَدْ خَلَقَكُمْ﴾ بقدرته ﴿أَطْواراً﴾ وتارات مختلفة ، خلقكم أولا ترابا ، ثمّ أغذية ، ثمّ أخلاطا ، ثمّ نطفا ، ثمّ علقا ، ثمّ مضغا ، ثمّ عظاما ، ثمّ لحوما ، ثمّ أنشأكم خلقا آخر.

وقيل : خلقكم صبيانا ثمّ شبّانا ، ثمّ كهولا ، ثمّ شيوخا (٤) .

وقيل : خلقكم طوالا وقصارا ، وأقوياء وضعفاء ، ومختلفين في الخلق والخلق (٥) .

وعن القمي : مختلفين في الأهواء والإرادات والمشيئات (٦) وعلى أيّ تقدير كلّها دالّ على قدرة الله وحكمته ونهاية عظمته.

﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٦.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٦.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٧.

(٤و٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٨.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٨٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣١ ، وفي النسخة : والمشتهيات ، بدل : والمشيئات.

٣٤١

الشَّمْسَ سِراجاً * وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها

 وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً

 فِجاجاً * قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ

 خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا

 سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً (١٥) و (٢٤)

ثمّ بالغ نوح بعد الاستدلال على عظمة الله بدليل الأنفس في إثبات عظمة الله بدلائل الآفاقية بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ يا قوم ، ولم تشاهدوا ﴿كَيْفَ خَلَقَ اللهُ﴾ وأبدع بقدرته ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ عظيمة حال كونها ﴿طِباقاً﴾ وقببا بعضها فوق بعض ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ﴾ المنير ﴿فِيهِنَّ نُوراً﴾ لأهل الأرض في ظلمة الليل.

عن ابن عباس رضوان الله عليه : أنّ الشمس والقمر والنجوم وجوهها ممّا يلي السماء ، وظهورها مما يلي الأرض (١) .

﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ﴾ التي في السماء الرابعة ﴿سِراجاً﴾ لأهل الدنيا ، يزيل بضيائها ظلمة الأرض ، كما يبصر أهل البيت بنور السّراج ما يحتاجون إلى رؤيته ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ﴾ وأنشأكم ﴿مِنَ﴾ تراب ﴿الْأَرْضِ﴾ بواسطة إنشاء آدم منه ، أو بواسطة الأغذية المتكوّنة من التراب والماء ﴿نَباتاً﴾ وإنشاء عجيبا ، وإنّما عبّر عن الخلق بالإنبات لقوة دلالته على الحدوث ﴿ثُمَ﴾ بعد إنباتكم من الأرض ﴿يُعِيدُكُمْ فِيها﴾ بالإقبار بعد الموت ﴿وَيُخْرِجُكُمْ﴾ منها عند البعث والحشر ﴿إِخْراجاً﴾ محقّقا لاريب فيه للمحاسبة والمجازاة على الأعمال ﴿وَاللهُ﴾ العظيم القادر ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ﴾ البسيطة ﴿بِساطاً﴾ وفراشا واسعا تتقلّبون عليها كتقلبكم على البسط ﴿لِتَسْلُكُوا﴾ وتستطرقوا ﴿مِنْها سُبُلاً﴾ وطرقا ﴿فِجاجاً﴾ ومتّسعات تمشون فيها ذهابا وإيابا.

﴿قالَ نُوحٌ﴾ بعد تلك المناجاة الطويلة وبيان كيفية دعوته : ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ وأصرّوا على مخالفتي ومعارضتي ﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ﴾ إلّا بطرا ﴿وَوَلَدُهُ﴾ إلّا غرورا ، وليس نتيجة ذلك البطر والغرور ﴿إِلَّا خَساراً﴾ وضررا عظيما في الآخرة ، فانّ الضعفاء رأوا أنّ اتّباعهم لجاههم وعزّهم بين الناس أولى وأنفع لهم من اتّباعي ، وأمّا الرؤساء [ فقد ] احتالو ﴿وَمَكَرُوا﴾ في الاخلال بأمر رسالتي ﴿مَكْراً كُبَّاراً﴾ واحتيالا عظيما بأن حرّضوا أتباعهم على سبّي وضربي وإيذائي ﴿وَقالُوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٨.

٣٤٢

لأتباعهم ﴿لا تَذَرُنَ﴾ ولا تتركنّ ﴿آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ ولا تدعنّ عبادتها.

قيل : إنّ تلك الأصنام دفنت في الطّوفان بساحل جدّه ، فأخرجها الشيطان بعد الطّوفان ، فوقع كلّ منها بيد قبيلة من العرب ، فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ، وسواع لقبيلة همدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لقبيلة مراد ، ونسر لحمير (١) .

وقيل : فنيت هؤلاء الأصنام بالطّوفان ، ثمّ اتّخذت أمثالها وسمّوها بأسمائها وعبدوها (٢) .

وقيل : إنّ هذه الأسماء المذكورة في السورة كانوا أبناء آدم من صلبه ، وكان يغوث أكبرهم ، وهي أسماء سريانية ، ثمّ وقعت تلك الأسماء إلى أهل الهند ، فسمّوا بها أصنامهم التي زعموا أنّها على صور الدراري (٣) السبعة ، وكان الجنّ يكلّمهم من جوفها ، ثمّ أدخلها عمرو بن لحي في أرض العرب (٤) .

قيل : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهو طائر عظيم (٥) .

﴿وَقَدْ أَضَلُّوا﴾ اولئك الرؤساء أو الأصنام خلقا ﴿كَثِيراً﴾.

﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً * مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا

 لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً * وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ

 دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً * رَبِّ اغْفِرْ لِي

 وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ

 إِلاَّ تَباراً (٢٤) و (٢٨)

ثمّ لمّا عدّ نوح قبائح أعمال القوم هاج غضبه ودعا عليهم بقوله : ﴿وَلا تَزِدِ﴾ يا ربّ الكفّار ﴿الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بتعريضها للهلاك باختيارهم الشرك ، وعليك بتضييع حقوقك ﴿إِلَّا ضَلالاً﴾ وضياعا وهلاكا ، أو ضلالا في تمشية مكرهم وترويج مصالح دنياهم ، أو لمّا يئس من إيمانهم دعا عليهم بازدياد شقاوتهم لازدياد استحقاقهم العذاب ، كما قال موسى عليه‌السلام ﴿وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ(٦) .

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨١.

(٣) الدراري : الكواكب.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨١ و١٨٢.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨٢.

(٦) يونس : ١٠ / ٨٨.

٣٤٣

ثمّ أخبر الله بسوء عاقبتهم بقوله : ﴿مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ﴾ العظيمة ، ومن أجل فواحشهم الكثيرة في المدّة المتطاوله ﴿أُغْرِقُوا﴾ كلّهم بالطّوفان ﴿فَأُدْخِلُوا﴾ بمحض خروج الروح من أبدانهم ﴿ناراً﴾ سجّرها القهّار بغضبه في البرزخ قبل القيامة ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ﴾ حين ابتلائهم بالعذاب الدنيوي والاخروي ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه من الأصنام والأوثان ﴿أَنْصاراً﴾ وأعوانا يدفعون العذاب عنهم بالقوة أو الشفاعة.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية قول نوح بقوله : ﴿وَقالَ نُوحٌ﴾ بعد يأسه من إيمان قومه واهتدائهم وتواصيهم بعدم ترك عبادة أصنامهم : ﴿رَبِّ لا تَذَرْ﴾ ولا تدع ﴿عَلَى﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ بسبب إنزال العذاب ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ بك وبرسولك ﴿دَيَّاراً﴾ ومتحرّكا.

ثمّ بيّن نوح أنّ دعاءه عليهم ليس للتشفّي وهوى النفس ، بل للغضب لله بقوله : ﴿إِنَّكَ﴾ يا رب ﴿إِنْ تَذَرْهُمْ﴾ وتبقيهم على وجه الأرض كلا أو بعضا ﴿يُضِلُّوا عِبادَكَ﴾ المؤمنين عن طريق التوحيد والقرب إليك ، أو المراد يصدّوا عبادك عن الايمان بك ، كما روي أن الرجل ينطلق بابنه إلى نوح ويقول له : احذر هذا الرجل ، فانّه كذّاب ، وإنّ أبي حذّرنيه وأوصاني بمثل ذلك (١) .

﴿وَلا يَلِدُوا﴾ من بعد ﴿إِلَّا فاجِراً﴾ ومعاديا لدينك ﴿كَفَّاراً﴾ ومصرا على الشرك وكفران نعمك.

عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل ما كان علم نوح حين دعا على قومه أنّهم لا يلدوا إلّا فاجرا كفّارا ؟

فقال : « أما سمعت قول الله لنوح : ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ » (٢) .

ثمّ دعا لنفسه ولأقاربه وللمؤمنين بقوله : ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ خطاياي وزلّاتي ﴿وَلِوالِدَيَ﴾ ملك بن متوشلخ وشمخا بنت أنوش كانا مؤمنين ﴿وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ﴾ قيل : يعني مسجدي (٣) . وقيل : يعني سفينتي (٤) حال كونه ﴿مُؤْمِناً﴾ بك وموحّدا لك ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ عموما إلى آخر الدهر.

ثمّ عاد إلى الدعاء على الكفّار بقوله : ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الشرك ﴿إِلَّا تَباراً﴾ وهلاكا ودمارا.

عن الصادق عليه‌السلام : من كان يؤمن بالله ويقرأ كتابه ، لا يدع قراءة سورة ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ﴾ فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله مساكن الأبرار ، وأعطاه ثلاث جنات مع جنّته كرامة من الله وزوّجه مأتي حوراء وأربعة آلاف ثيّب إن شاء الله » (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٣٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٨ ، والآية من سورة هود : ١١ / ٣٦.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨٦.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٠ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٤٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٣.

٣٤٤

في تفسير سورة الجن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي

 إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ

 صاحِبَةً وَلا وَلَداً * وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ

 تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً * وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ

 بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة نوح المتضمّنة لبيان إشراك جميع أهل الأرض من الإنس في عصر نوح وإيذاءهم ايّاه وتمرّدهم عن الايمان بالله وطاعته ، فأهلكهم الله بالغرق في الطّوفان ، نظمت سورة الجنّ المتضمّنة للإخبار بايمان كثير من الجنّ بالتوحيد ، وانقيادهم لخاتم الأنبياء ، وتصديقهم كتابه ، وحكمهم بسفاهة المشركين ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ أمر رسوله بحكاية مقالة الجنّ في شأن التوحيد وعظمة القرآن بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأهل مكّة المنكرين لصدق القرآن والتوحيد : إنّه قد ﴿أُوحِيَ إِلَيَ﴾ من جانب ربّي واطّلعت بإخبار الله تعالى ﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ القرآن حين تلاوته ﴿نَفَرٌ﴾ وجماعة ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾. روي أنّهم كانوا يهودا (١) .

وقيل كانوا يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين (٢) .

﴿فَقالُوا﴾ لقومهم حين رجوعهم إليهم مع تمرّدهم وعدم مجانستهم للانس : يا قوم ﴿إِنَّا سَمِعْنا﴾ من لسان رسول من الإنس ﴿قُرْآناً﴾ وكتابا متلوّا ﴿عَجَباً﴾ وبديعا مباينا لكلام البشر في الفصاحة وحسن النظم وعلوّ المعنى ﴿يَهْدِي﴾ ذلك القرآن ويدلّ جميع الخلق ﴿إِلَى الرُّشْدِ﴾ ودين الحقّ ، أو إلى كلّ خير وصواب في امور الدين والدنيا ﴿فَآمَنَّا بِهِ﴾ بمحض استماعه ، وصدّقنا أنّه كلام الله وكتابه ، وأنّ من أتى به رسول الله ﴿وَلَنْ نُشْرِكَ﴾ بعد اليوم بدلالة ذلك الكتاب المثبت للتوحيد

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٤ ، وفيه : ومشركا.

٣٤٥

﴿بِرَبِّنا أَحَداً﴾ من خلقه وشيئا من مصنوعاته.

روي أنّه جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال له : كنّا في سفر ، فاذا نحن بحيّة جريحة تتشحّط في دمها ، فقطع رجل منّا قطعة من عمامته فلفّها فيها فدفنها ، فلمّا أمسينا ونزلنا أتتنا امرأتان من أحسن نساء الجنّ فقالتا : أيّكم صاحب عمرو ؟ وأي الحيّة التيى دفنتموها. فأشرنا لهما إلى صاحبها ، فقالتا : إنّه كان آخر من بقي ممّن استمع القرآن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين كافري الجن ومسلميهم قتال فقتل فيهم ، فان كنتم أردتم به الدنيا ثوبناكم ؟ فقلنا : لا ، إنّما فعلنا ذلك لله. فقالتا : أحسنتما وذهبتا (١) .

﴿وَأَنَّهُ تَعالى﴾ وارتفع ﴿جَدُّ رَبِّنا﴾ وعظمته ، أو غناه ﴿مَا اتَّخَذَ﴾ وما اختار لنفسه ﴿صاحِبَةً﴾ وزوجة ﴿وَلا وَلَداً﴾ ابنا كان أو بنتا لكمال تعاليه عن الحاجة ، فانّ اتخاذ المصاحبة لا يكن إلّا للحاجة إليهما ، ولا يتّخذ الولد إلّا لبقاء النسل والاستعانة به ، وهما ينافيان الغنى المطلق ووجوب الوجود ﴿وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا﴾ وخفاف العقول منّا ، كابليس وغيره من المردة جرأة ﴿عَلَى اللهِ﴾ العظيم القهّار قولا ﴿شَطَطاً﴾ وبعيدا عن الحقّ ، ومتجاوزا عن حدّ العقل ، وهو القول بأنّ الملائكة بنات الله أو عيسى أو العزير ابن الله ، ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في القول بقولهم : ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا﴾ واعتقدنا ﴿أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُ﴾ من عند أنفسهم ﴿عَلَى اللهِ﴾ قولا ﴿كَذِباً﴾ أبدا ، ولذا اتّبعناهم في القول بأنّ لله ولدا ، ولمّا سمعنا القرآن تبيّن لنا كذب هذا القول ﴿وَأَنَّهُ كانَ﴾ قبل ذلك ﴿رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ﴾ ويلتجئون ﴿بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ﴾ قيل كان الرجل من العرب إذا امسى في واد قفر في بعض مسائره ، وخاف على نفسه يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، يريد الجنّ وكبيرهم ، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ، فاذا سمعوا ذلك استكبروا وقالوا : سدنا الانس والجنّ (٢)﴿فَزادُوهُمْ﴾ اولئك الإنس ﴿رَهَقاً﴾ وعتوا وسفها.

وعن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : « كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول : قل لشيطانك : فلان قد عاذ بك » (٣) .

وقيل : إن رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجنّ خوفا من أن يغشاهم الجنّ ، فزادت الجنّ في غشيانهم ، بمعنى أنّ الجنّ لمّا رأوا أنّ الإنس يتعوّذون بهم ولا يتعوّذون بالله ، استذلّوهم واجترءوا عليهم فزادوهم ظلما (٤) .

قيل : إنّ المعنى فزاد الجن العائذين غيا بان أضلّوهم حتى استعاذوا بهم ، وإذا استعاذوا بهم فآمنوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨٩.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩١.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٤.

(٤) تفسير الرازي ٣ : ١٥٦.

٣٤٦

ظنّوا أنّ ذلك من الجنّ ، فازدادوا رغبة في طاعة الشياطين وقبول وساوسهم (١) .

روي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري أنّه قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوّل ما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة ، فاذا في المبيت أتى (٢) راعي غنم ، فلمّا انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك. فنادى مناد لا نراه : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم ولم تصبه كدمة ، فأنزل الله على رسوله بمكة : ﴿وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ...(٣) الى آخره.

وعن مقاتل : كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثمّ من حنيفة ، ثمّ فشا ذلك في العرب ، فلمّا جاء الاسلام عاذوا بالله وتركوهم (٤) .

﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها

 مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ

 الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٧) و (٩)

ثمّ إنّ النفر من الجنّ بعد دعوتهم قومهم إلى التوحيد دعوهم إلى القول بالرسالة بقوله : ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ يا قوم ﴿ظَنُّوا﴾ لجهالتهم ﴿كَما ظَنَنْتُمْ﴾ لسفاهتكم ﴿أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ﴾ من بعد موسى ، أو بعد عيسى ، أو مطلقا من أول الخلق ﴿أَحَداً﴾ بالرسالة ليقيم به الحجّة على خلقه ، ثمّ علمنا أنّه تعالى بعث إلى الإنس محمدا بالرسالة فآمنوا به يا معشر الجنّ.

وقيل : إنّ المراد أنّ الانس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله بعد الموت للحساب والمجازاة على الأعمال أحدا (٥) .

وقيل : إنّ الآيتين من كلام الله ، والمعنى على ذلك القول : وإنّ الجن ظنّوا كما ظننتم يا كفّار قريش أن لن يبعث الله أحدا للرسالة ، كما هو مذهب البراهمة (٦) .

ثمّ حكى النفر من الجنّ لقومهم الانقلاب الحاصل في السماء بقولهم : ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا﴾ وطلبنا ﴿السَّماءَ﴾ وصعدنا إليها لاستماع ما تقول الملائكة من الإخبار بالحوادث ، لنخبر بها الكهنة على دأبنا السابق ﴿فَوَجَدْناها مُلِئَتْ﴾ من الملائكة حال كونهم ﴿حَرَساً﴾ وحفظة ﴿شَدِيداً﴾ وقويا على دفعنا يمنعوننا عن القرب من السماء ﴿وَ﴾ وجدنا ﴿شُهُباً﴾ وشعلا من النار منقضّة من الكواكب

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩١.

(٢) في تفسير روح البيان : بمكة ، فأدّاني المبيت إلى.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩١.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٢.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٢.

(٦) تفسير الرازي ٣ : ١٥٧.

٣٤٧

تحرق من قرب من السماء ﴿وَأَنَّا كُنَّا﴾ قبل هذا اليوم نصعد إلى السماء و﴿نَقْعُدُ مِنْها﴾ بعد صعودنا إليهما ﴿مَقاعِدَ﴾ خالية من الملائكة الحفظة ﴿لِلسَّمْعِ﴾ واستراق الأخبار من الملائكة ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ﴾ الأخبار منّا ﴿الْآنَ﴾ وفي هذا الزمان في مقعد من المقاعد ومرصد من المراصد ﴿يَجِدْ لَهُ﴾ ويصيب لنفسه ﴿شِهاباً﴾ وشعلة نار تحرقه وملكا يكون له ﴿رَصَداً﴾ وقاعدا في المكمن ليرجم بالشهاب.

وقيل : يعني شهابا راصدا له ، فالرصد بمعنى الراصد ، وتوصيف الشهاب به من باب التنزيل والمشابهة (١) .

عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الملائكة تنزل في السّحاب ، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء ، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه ، فتوحيه (٢) إلى الكهّان ، فيكذّبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث - قال : « وأمّا أخبار السماء فانّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وإنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء [ فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ، لاثبات الحجة ، ونفي الشبهة. وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء ] ممّا يحدث من الله في خلقه ، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض ، فيقذفها إلى الكاهن ، فاذا قد زاد كلمات من عنده ، فيخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ما أبداه إليه شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأه فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة»(٤).

وعن ابن عباس قال : كان الجنّ يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحى ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، أما الكلمة فانّها تكون حقّه ، وأما الزيادات فتكون باطلة. فلمّا بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منعوا مقاعدهم ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال إبليس : ما هذا إلّا لأمر حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما يصلّي (٥) الخبر.

وعن ابي بن كعب : أنّه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتّى بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرمى بها ، [ فرأت ] قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك (٦) .

أقول : لا يخفى أنّ الآيات الدالة على أنّ النجوم جعلت رجوما للشياطين ، وإن كانت كثيرة ، إلّا أنه

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٧.

(٢) في النسخة : فيوقيه.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٣.

(٤) الاحتجاج : ٣٣٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٥.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٨.

٣٤٨

لا بدّ من حملها بالنظر إلى هذه الآية والروايات على كونها مانعة من دخول الشياطين فيها لا من قربهم إليها بحيث يستمعون كلام الملائكة ، وبعد ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثته منعوا بالشّهب من قربها.

وأمّا الاعتراض على الروايات بأنّ الشهب كامن (١) قديم الأيام ، كما دلّ عليه تكلّم الفلاسفة فيها ، والأشعار التي حكيت من شعراء زمان الجاهلية.

فنقول : إنّ الشّهب التي كانت قبل البعثة فهي الحادثة من كرة النار ، والشهب التي كانت تنقضّ لمنع الشياطين كانت من النجوم ، ومقتضى ذلك كثرة الشّهب بعد البعثة لزيادة الشّهب التي تحدث من النجوم على الشّهب التي كانت قبل ، ولذا استوحشت قريش من رؤيتها.

﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً * وَأَنَّا مِنَّا

 الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي

 الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٠) و (١٢)

ثمّ بعد حكاية النفر من الجنّ تغيير وضع السماء قالوا لقومه : ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ﴾ من ذلك التغيير ﴿بِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الإنس والجنّ ﴿أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ وخيرا وصلاحا.

قيل : إنّ المعنى لا ندري أنّ المقصود من إرسال محمد الذي منعنا عنده من استراق السمع أن تكذّبه امّته فيهلكوا (٢) كما أهلك الامم المكذّبة قبله ، أم اريد أن يؤمنوا فيهتدوا (٣) وفي نسبة الخير إلى الله دون الشرّ رعاية الأدب.

ثمّ حكوا اختلاف فرقهم بقولهم : ﴿وَأَنَّا مِنَّا﴾ الأقوام ﴿الصَّالِحُونَ﴾ والراغبون إلى الايمان والأعمال الخيرية ﴿وَمِنَّا﴾ قوم حالهم ﴿دُونَ ذلِكَ﴾ الحال ، وأنقص من مرتبة الكمال ، ففيهم المقتصد والفاسق والكافر والطاغي ﴿كُنَّا طَرائِقَ﴾ وذوي مذاهب ﴿قِدَداً﴾ ومختلفة. وقيل : كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة (٤) ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا﴾ وتيقنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع والتفكّر في الآيات ﴿أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ﴾ عن إنفاذ إرادته في شأننا أينما كنّا ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ ومن أقطارها ﴿وَلَنْ نُعْجِزَهُ﴾ ونفوته أبدا إن أراد بنا أمرا أن نهرب من الأرض إلى السماء أو البحار أو الجبال ﴿هَرَباً﴾ ينجينا من سطواته ، فلا يمكننا الخروج من سلطانه ومن تحت قدرته.

﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً *

__________________

(١) كذا ، والظاهر : كانت من.

(٢) في النسخة : فهلكوا.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٨ ، وفيه : فنهيدوا.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٩.

٣٤٩

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا

 الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً * وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ

 ماءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً

 صَعَداً (١٣) و (١٧)

ثمّ أنّه بيّن النفر حالهم ، لترغيب غيرهم إلى الايمان بقولهم : ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا﴾ القرآن الذي يكون ﴿الْهُدى﴾ والرشاد لأهل العالم ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ بمحض السماع ، وصدّقنا أنّه كلام الله وكتابه الذي من عمل به نال سعادة الدارين ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ﴾ وبما أنزله من عنده ﴿فَلا يَخافُ﴾ مثل هذا الشخص في الآخرة ﴿بَخْساً﴾ ونقصا في جزائه ﴿وَلا رَهَقاً﴾ وغشيان ظلم أو ذلّة أو عذاب ﴿وَأَنَّا﴾ بعد استماع القرآن ﴿مِنَّا الْمُسْلِمُونَ﴾ والمستسلمون للدين الحقّ ﴿وَمِنَّا الْقاسِطُونَ﴾ والجائرون عن طريق الهدى والايمان والطاعة ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ﴾ لأمر الله وسلّم أحكامه. وعن الباقر عليه‌السلام : « أقرّ بولايتنا » (١)﴿فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا﴾ وطلبوا ﴿رَشَداً﴾ وهدايه عظيمة إلى الصراط المستقيم والطريق القويم الموصل إلى جميع الخيرات الدنيوية والاخروية.

﴿وَأَمَّا الْقاسِطُونَ﴾ والمنحرفون عن طريق الهدى ودين الحقّ ﴿فَكانُوا﴾ في الآخرة ﴿لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ توقد بهم نارها كما توقد بأبدان كفرة الإنس.

ثمّ إنّه تعالى بعدها أوحى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بيانات الجنّ ودعوتهم إلى الايمان بالقرآن ، بيّن ما أوحى ذاته المقدسة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا﴾ وثبتوا. قيل : إنّ التقدير قل يا محمد أوحي إليّ أنّ الشأن أنّ الجنّ والانس لو استقاموا أو ثبتوا ﴿عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾ المستقيمة وهي دين الاسلام (٢)﴿لَأَسْقَيْناهُمْ﴾ وأشربناهم ﴿ماءً غَدَقاً﴾ وكثيرا غزيرا. قيل : هو كناية عن سعة العيش وكثرة المال(٣) ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ ونمتحنهم في ذلك الاسقاء أو التوسيع ونختبرهم ﴿فِيهِ﴾ كيف يشكرونه.

وعن الصادق عليه‌السلام في تأويل الآية قال : لأفدناهم (٤) علما كثيرا يتعلّمونه عن الأئمّة » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « لو استقاموا على ولاية أمير المؤمنين على عليه‌السلام والأوصياء من ولده ، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم ، لاسقيناهم ماء غدقا ، لأشربنا قلوبهم الإيمان » (٦) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٨٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٦ ، وفيها : الذين أقروا بولايتنا.

(٢و٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٦.

(٤) في النسخة : لأخذنا.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٥٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٦.

(٦) الكافي ١ : ١٧١ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٦.

٣٥٠

﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ﴾ وعبادته ، أو موعظته ، أو وحيه. وعن ابن عباس : عن ولاية علي عليه‌السلام (١)﴿يَسْلُكْهُ﴾ ويدخله ﴿عَذاباً صَعَداً﴾ وعال على طاقته وشاقّ عليه.

عن ابن عباس : أن صعدا اسم جبل في جهنّم ، وهو صخرة ملساء ، فيكلّف الكافر صعودها ، ثمّ يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاه في أربعين سنة ، فاذا بلغ أعلاه جذب إلى الأسفل ، ثمّ يكلّف الصّعود مرة اخرى ، فهذا دأبه أبدا ، ونظير هذه الآية : ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(٢) .

﴿وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً * وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا

 يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٨) و (١٩)

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة إلى التوحيد في العبادة بقوله : ﴿وَأَنَّ الْمَساجِدَ﴾ والبيوت المبنية لإقامة الصلاة وإتيان العبادات فيها ، أو جميع وجه الأرض ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « جعلت لي الأرض مسجدا » (٣) ، أو الأعضاء التي يجب وضعها في حال السجود على الأرض من الوجه واليدين والركبتين والابهامين ، كما عن أمير المؤمنين والصادق والجواد عليهم‌السلام (٤) ، وعليه بعض مفسّري العامة (٥) . ﴿لِلَّهِ﴾ خاصّة لا يشركه فيها غيره من الملائكة والمسيح والعزير والأصنام ﴿فَلا تَدْعُوا﴾ ولا تعبدوا أيّها الناس ﴿مَعَ اللهِ﴾ العظيم المستحقّ للعبادة ﴿أَحَداً﴾ غيره ، وعن الكاظم عليه‌السلام في تأويل الآية : « أنّ المساجد الأوصياء » (٦) . وعن الرضا عليه‌السلام : « هم الائمة عليهم‌السلام » (٧) .

ثمّ حكى سبحانه تعجّب الجنّ والمشركين من عبادة الرسول بقوله : ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا﴾ قيل : إنّ المعنى وقد اوحي إليّ أن الشأن (٨) لمّا ﴿قامَ﴾ النبي المفتخر بأنّه ﴿عَبْدُ اللهِ﴾ في مقام العبودية لربّه حال كونه ﴿يَدْعُوهُ﴾ ويعبده في منظر المشركين ﴿كادُوا﴾ وقربوا ﴿يَكُونُونَ﴾ لتظاهرهم ﴿عَلَيْهِ﴾ وتعاونهم على عداوته ﴿لِبَداً﴾ وكمّا ليطفئوا نوره ويبطلوا عبادته.

وقيل : إنّ الآية ممّا اوحي إليه ، والمعنى أنّه قد اوحي إليّ أنّه لمّا قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعبد الله بصلاة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٩٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٦.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٢ ، والآية من سورة المدثر : ٧٤ / ١٧.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٧.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٨١ / ١٦٢٧ ، تفسير العياشي ٢ : ٤٧ / ١٢٦٩ ، الكافي ٣ : ٣١٢ / ٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٧.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٣ ، تفسير أبي السعود ٩ : ٤٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٨.

(٦) الكافي ١ : ٣٥٢ / ٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٧.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٩٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٧.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٨.

٣٥١

الفجر ، قرب الجنّ أن يكونوا عليه مزدحمين تعجّبا ممّا شاهدوا من كيفية عبادته وحسن قراءته واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا ، لرؤيتهم ما لم يروا مثله ، وسماعهم ما لم يسمعوا شبيهه (١) .

﴿قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً

 * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِنَ

 اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها

 أَبَداً (٢٠) و (٢٣)

ثمّ أمر سبحانه النبيّ بالإعلان بتوحيده ومخالفته لقريش بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين بغاية التجلّد ﴿إِنَّما أَدْعُوا﴾ وأعبد ﴿رَبِّي﴾ المستحقّ للعبادة فقط ﴿وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ من الملائكة والإنس ، فيكف بالأصنام التي هي جمادات ؟ فلا موقع لتعجّبكم ، أو إطباقكم على عداوتي.

روي أنّ كفّار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلّهم ، فارجع عن هذا ، فنزلت الآية (٢) .

ثمّ أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلانه للمشركين بأنّ الضرر والنفع والضلال والهداية كلّها بقدرة الله دون غيره بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين ﴿إِنِّي لا أَمْلِكُ﴾ ولا استطيع ﴿لَكُمْ﴾ أيّها الناس ﴿ضَرًّا﴾ ولا نفعا ولا غيّا ﴿وَلا رَشَداً﴾ بل كلّها بيد الله وحده ، فانّه المتصرّف في عالم الوجود دون غيره من الموجودات.

ثمّ قيل : إنّ المشركين قالوا له اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك (٣) ونحفظك من أعدائك ، فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي﴾ ولن يحفظني ﴿مِنَ﴾ قهر ﴿اللهِ﴾ وسخطه وعذابه ، أو ممّا أراد بي ﴿أَحَدٌ﴾ من خلقه إن أشركت به أو خالفت أمره بتبليغ الرسالة ﴿وَلَنْ أَجِدَ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه ﴿مُلْتَحَداً﴾ وملجاء ومفرّا ، وحاصل المفاد أنّي لا أملك لنفسي شيئا ، فكيف أملك لكم ولغيركم أمرا ؟ ﴿إِلَّا بَلاغاً﴾ وتبليغا كائنا ﴿مِنَ﴾ جانب ﴿اللهِ﴾ الذي أمرني به بأن أقول : قال الله كذا ﴿وَ﴾ تبليغ ﴿رِسالاتِهِ﴾ التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان.

وقيل : إنّ المراد من البلاغ تلقّي الوحي من الله تعالى ، ومن الرسالات تبليغه إلى الخلق (٤) .

ثمّ هدّد الناس على عصيانه بقوله : ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ ولم يمتثل أمرهما بالتوحيد وغيره

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٣.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٤.

(٤) تفسير الطبري ٢٩ : ٧٦ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٦٢

٣٥٢

من الواجبات ﴿فَإِنَّ لَهُ﴾ في الآخرة ﴿نارَ جَهَنَّمَ﴾ حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها أَبَداً﴾.

﴿حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً * قُلْ إِنْ

 أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً * عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى

 غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ

 رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ

 شَيْءٍ عَدَداً (٢٤) و (٢٨)

ثمّ لمّا كان الكفّار يستضعفون أنصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستقلّون عدد أصحابه ، فكأنّه تعالى قال : لا يزال المشركون يستضعفون المؤمنين ويستقلّون عددهم ﴿حَتَّى إِذا﴾ ماتوا و﴿رَأَوْا﴾ بعد الموت ﴿ما يُوعَدُونَ﴾ به من فنون العذاب ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ عند حلوله بهم ﴿مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾ هم أم محمد وأصحابه.

وقيل : إنّ المراد من ﴿ما يُوعَدُونَ﴾ عذاب يوم بدر (١) .

ثمّ لمّا قال سبحانه : ﴿إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ﴾ قال المشركون : متى يكون هذا الوعد ؟ فأمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿إِنْ أَدْرِي﴾ وما أعلم ﴿أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً﴾ ومدّة طويلة وأجلا بعيدا ، فانّ الله لم يعيّن وقته لحكمة رآها في إخفائه ، وهو تعالى ﴿عالِمُ الْغَيْبِ﴾ ومطّلع على جميع الخفايا ﴿فَلا يُظْهِرُ﴾ ولا يعلم ﴿عَلى غَيْبِهِ﴾ ومعلوماته الخفية ﴿أَحَداً﴾ من خلقه ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضى﴾ وأحبّ إعلامه بالمغيبات ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « وكان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن ارتضاه » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة » (٣) .

﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ﴾ قدّام الرسول المرتضى ، ويقيم ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ﴾ يجعل ﴿مِنْ خَلْفِهِ﴾ ووراء ظهره ومن جميع جوانبه عند إعلامه بالغيب ﴿رَصَداً﴾ وحرسا من الملائكة يحرسونه من الشياطين.

قيل : يعني إذا نزل جبرئيل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجنّ الوحي ، فيلقونه

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٩ : ٤٧.

(٢) الكافي ١ : ٢٠٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٨.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٣٤٣ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٨.

٣٥٣

إلى الكهنة ، فتخبر به الكهنة قبل الرسول ، فيختلط على الناس أمر الرسالة (١) .

وقيل : يرسل الله ملائكته ليخفوه من وساوس الشياطين وتخاليطهم حتّى يبلّغ ما أوحى به إليه ، ومن زحمة شياطين الإنس حتّى لا يؤذونه (٢) .

قيل : ما بعث الله نبيا إلّا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك (٣) .

﴿لِيَعْلَمَ﴾ الله أنّ الأنبياء ﴿أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا﴾ إلى الناس ﴿رِسالاتِ رَبِّهِمْ﴾ خالية من الاختطاف والتخليط بعد ما أبلغها الرّصد إليهم كذلك ﴿وَأَحاطَ﴾ الله تعالى ﴿بِما﴾ عند الرّصد والرّسل و﴿لَدَيْهِمْ﴾ من الأحوال ﴿وَأَحْصى﴾ وعلم ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ ما كان وما يكون وما هو كائن ﴿عَدَداً﴾ حتّى القطر والرمل ، فكيف لا يحيط بما لديهم.

عن ابن عباس : أحصى ما خلق ، وعرف عدد ما خلق ، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل (٤) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من أكثر قراءة ﴿قُلْ أُوحِيَ﴾ لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ ، ولا من نفثهم ، ولا من سحرهم ، ولا من كيدهم ، وكان مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : يا رب ما اريد منهم بدلا ، ولا اريد أن أبتغي عنهم حولا » (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٠٢.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٦٩.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٠٣.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٠ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٣٩.

٣٥٤

في تفسير سورة المزمّل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ

 وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (١) و (٥)

ثمّ لمّا ختمت سورة الجنّ المتضمّنة لتعظيم القرآن ، وبيان تعجّب الجنّ منه ، واشتياقهم إليه ، وإيمانهم به ، وتهديد مكذّبيه ، وبيان بعض حوادث أوّل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظمت سورة المزّمّل المتضمنة لبيان عظمة القرآن ، وأمر الرسول بتلاوته وترتيله ، وتهديد مكذّبي الرسول وكتابه ، وبيان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوائل نزول الوحي إليه ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصفة كانت له في أوّل نزول الوحي إليه تلطّفا وإيناسا ، كما هو دأب العرب بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ والمتلفّف بثيابه.

عن ابن عباس : أول ما جاء جبرئيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خافه ، وظنّ أنّ به مسّا من الجنّ ، فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجة مرتعدا ، وقال : زمّليني ، فبينما هو كذلك إذ جاء جبرئيل وناداه : ﴿يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(١) .

أقول : ما قاله ابن عباس ينافي الأخبار الواصلة في بيان كيفية أول نزول جبرئيل ، وكون سورة ( اقرأ ) أول ما نزل.

وقيل : إنّه كان نائما متزمّلا بقطيفة ، فناداه جبرئيل بما يهجّن تلك الحالة ، والمعنى : يا أيّها النائم المتزمّل بثوبه ، قم واشتغل بالعبادة (٢) .

وقيل : إنّه كان متزمّلا في مرط لخديجة مستأنسا بها فقيل له : ﴿يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ﴾ واترك حظّ نفسك واشتغل بالعبادة (٣)﴿إِلَّا﴾ مقدارا ﴿قَلِيلاً﴾ منه ، أعني ﴿نِصْفَهُ﴾ فانّ النصف قليل بالنسبة

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧١.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧١.

٣٥٥

إلى الكلّ.

وقيل : إنّ تقليل مقدار نومه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه نصفا لاظهار كمال الاعتناء بشأن الجزء المقارن للقيام والإيذان بفضله ، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب (١) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « القليل النصف » (٢) .

﴿أَوِ انْقُصْ﴾ القيام ﴿مِنْهُ﴾ مقدارا ﴿قَلِيلاً﴾ بحيث لا يصل إلى الثّلث على ما قيل (٣) ﴿أَوْ زِدْ﴾ القيام ﴿عَلَيْهِ﴾ إلى الثلثين ، والحاصل تخييره في القيام للعبادة بين نصف الليل أو أقلّ منه أو أكثر.

وقيل : إنّ المراد من القليل الذي ينقص ويزاد نصف النصف ، فيكون الواجب عليه من القيام للعبادة ربع الليل ، والزائد نفل ومندوب (٤) .

﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ واقرأه في أثناء قيامك في الليل على تؤدة وتبيين حروف ﴿تَرْتِيلاً﴾ بليغا.

وعن ابن مسعود : لا تعجلوا في القرآن ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين : بيّنه بيانا ، ولا تهذّه هذّ الشعر وتنثره نثر الرمل ، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسيه ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة » (٦) .

قيل : إنّ الترتيل في القرآن قراءته بنحو يتمكّن القارئ من التأمّل في حقائقه ودقائقه ، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر قلبه عظمته وجلاله ، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ، وحينئذ يتنوّر القلب بنور المعرفة (٧) واليقين ، وتستعدّ النفس لإشراق جلال الله والانكشاف الأتمّ الأعظم ، فكأنّه تعالى قال : إنّما أمرتك بالقيام في الليل بالصلاة والعبادة وترتيل القرآن ، ليزيد استعداد نفسك لتلقّي وحينا.

﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ﴾ والبتة نوحي إليك ﴿قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ وكلّا عظيم القدر والشأن وجليل الخطر ، كما عن ابن عباس (٨) .

وقيل : إنّ المراد قرآنا متضمّنا للأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقّة على العامة وعليك خاصة ، لأنّك تتحمّلها بنفسك وبتبليغها إلى امّتك (٩) .

وقيل : إنّ المراد ثقل نزوله على الرسول .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٠٤.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٠.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٣.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٣.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٠٥.

(٦) الكافي ٢ : ٤٤٩ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٠.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤.

(٨ و ٩) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤.

٣٥٦

قيل : كان يرفضّ (١) عرقا في اليوم الشديد البرد حين نزوله ، كما عن عائشة (٢) .

وعن ابن عباس : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد وجهه (٣) .

وروي أنّ الوحي نزل عليه وهو على ناقته ، فثقل عليها حتى وضعت جرانها (٤) ، فلم يستطع أن تتحرّك (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لقد نزلت عليه سورة المائدة وهو على بغلته الشّهباء (٦) وثقل عليه الوحي حتّى وقفت وتدلّى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض » (٧) .

وقيل : يعني ثقيلا في الميزان لكثرة ثواب تلاوته والعمل به (٨) ، أو ثقيلا على المنافقين حيث إنّه يهتك أسرارهم ويبطل أديانهم وأقوالهم (٩) . أو ثقيلا على العقل لأنّه لا يفي بإدراك فوائده ودقائقه ورقائقه(١٠) .

﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً *

 وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

 فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٦) و (٩)

ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقيام الليل والعبادة فيها بقوله : ﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ والنهضة فيه ، أو العبادة فيه ﴿هِيَ﴾ خاصة ﴿أَشَدُّ وَطْئاً﴾ أو أكثر كلفة ومشقّة على النفس من التي تؤتى بالنهار ، فتكون أفضل ، لأنّ أفضل العبادة أشقّها ، أو أوفق بالخلوص والخشوع ، أو المراد أنّ النفس الناهضة بالليل للعبادة أشدّ ثباتا وأكثر استقامة ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ وأحسن كلاما ، كما عن ابن عباس (١١) ، أو أخلص قولا لأن الأصوات تهدأ فيه والحركات تنقطع فيه.

عن الصادق عليه‌السلام في الآية : ﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ قال : « قام قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزوجل لا يريد به غيره » (١٢) .

__________________

(١) أرفضّ العرق : سال وترشّش.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤.

(٤) الجران : باطن عنق البعير.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤.

(٦) في النسخة ، وتفسير الصافي : بغلة شهباء.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣ / ١١٦١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٠.

(٨) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٤ ، تفسير الطبرى ٢٩ : ٨٠ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٧٠.

(٩ و١٠) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٥.

(١١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٧٦.

(١٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٩ / ١٣٦٧ ، التهذيب ٢ : ٣٣٦ / ١٣٨٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤١.

٣٥٧

﴿إِنَّ لَكَ﴾ يا محمد ﴿فِي النَّهارِ سَبْحاً﴾ وتقلّبا (١) وتصرّفا أو فراغا ﴿طَوِيلاً﴾ لحاجتك ونومك ، فعليك بالقيام للعبادة في الليل.

ثمّ بيّن سبحانه ما ينبغي للعبد بعد تلاوة القرآن الاشتغال به بقوله : ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ بالقلب بذكر نعمائه وكمال قدرته وحكمته وألطافه ، وباللسان بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير ﴿وَتَبَتَّلْ﴾ وانقطع من الدنيا وما فيها ، بل عن غيره تعالى ﴿إِلَيْهِ﴾ وحده ﴿تَبْتِيلاً﴾ وانقطاعا تاما ، لا تسأل غيره في حاجة ، ولا تتوجّه في آن إلى ما سواه.

ثمّ مدح سبحانه ذاته المقدسة بمدح يوجب العقل الانقطاع إليه بقوله : ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ وما بينهما ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبود سواه ، فاذا عرفت ربّك بهذه العظمة والقدرة الكاملة ﴿فَاتَّخِذْهُ﴾ واختره لنفسك ﴿وَكِيلاً﴾ ومدبّرا لجميع امورك ، ومفوّضا إليه جميع مقاصدك ، وكفيلا بما وعدك من النصر والغلبة على أعدائك.

﴿وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي

 النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً * وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً

 أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٠) و (١٤)

ثمّ سلّى سبحانه حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَاصْبِرْ﴾ حبيبي بعد ما اتخذتني وكيلا ﴿عَلى ما يَقُولُونَ﴾ هؤلاء المشركون فيك ، وفوّض أمرهم إليّ ، ولا تشغل قلبك باصلاح امورك الراجعة إليهم ﴿وَاهْجُرْهُمْ﴾ واترك مخالطتهم ، واصرف قلبك عن التفكّر في أمرهم ﴿هَجْراً جَمِيلاً﴾ مقرونا بالمداراة والكفّ عن المافات ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ الذين هم ﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾ والتّرفّه والرئاسة والتكبّر ، وحل بيني وبينهم ، فانّي اكافي ما أهمّك من مجازاتهم ﴿وَ﴾ لكن ﴿مَهِّلْهُمْ﴾ وأخّر سؤال تعذيبهم زمانا ﴿قَلِيلاً﴾ وهو الزمان الباقي إلى يوم بدر ، أو الباقي من عمرهم في الدنيا.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث يذكر فيه المنافقين - قال : « وما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألّفهم ويقرّبهم ويجلسهم عن يمينه وشماله حتى أذن الله عزوجل في إبعادهم بقوله : ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ » (٢).

أقول : لا ينافي ذلك العموم لجميع المكذّبين.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً﴾ وقيودا ثقالا لأرجلهم

__________________

(١) في النسخة : وتفليا.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٢.

٣٥٨

﴿وَجَحِيماً﴾ ونارا عظيمة شديدة الحرّ في مهواة ﴿وَطَعاماً﴾ ومأكولا ﴿ذا غُصَّةٍ﴾ وأخذ بالحلق ، لا هو نازل منه ولا خارج ، كالزّقّوم والضّريع ﴿وَعَذاباً أَلِيماً﴾ غير ذلك لا يوصف بالبيان.

روي أنّه لمّا نزلت الآية خرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مغشيّا عليه (١) .

ثمّ عيّن سبحانه وقت النّكال والعذاب بقوله : ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ وتولول ﴿الْأَرْضُ وَالْجِبالُ﴾ التي هي أوتادها ، وتضطربان بهيبة الله ﴿وَكانَتِ الْجِبالُ﴾ كلّها مع غاية صلابتها ﴿كَثِيباً﴾ وتلا من رمل ﴿مَهِيلاً﴾ وسائلا من كثرة تفتيتها.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى

 فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ

 الْوِلْدانَ شِيباً * السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً * إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ

 اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٥) و (١٩)

ثمّ هدّد سبحانه المشركين على تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿رَسُولاً﴾ عظيم الشأن ، ليكون ﴿شاهِداً﴾ يشهد ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يوم القيامة بما صدر منكم من الايمان والكفر والطاعة والعصيان ﴿كَما أَرْسَلْنا﴾ في مصر ﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾ سلطان مصر ﴿رَسُولاً﴾ عظيم الشأن ، وهو موسى بن عمران ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ﴾ ذلك ﴿الرَّسُولَ﴾ وكذّبه وعارضه ﴿فَأَخَذْناهُ﴾ بسبب عصيانه ﴿أَخْذاً وَبِيلاً﴾ وعذّبناه عذابا شديدا ، فاحذروا أيّها المشركون من أن ينزل عليكم بتكذيبكم رسولكم مثل ما نزل بهم ، هبوا أنّكم لا تؤخذون بعصيانكم في الدنيا مثل أخذ فرعون ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ﴾ وتحفظون أنفسكم ﴿إِنْ كَفَرْتُمْ﴾ في بقية عمركم ودمتم على عصيانكم ﴿يَوْماً يَجْعَلُ﴾ من شدّة أهواله وعظمة ما فيه من العذاب ﴿الْوِلْدانَ﴾ والأطفال الصغار ﴿شِيباً﴾ وشيوخا بيض الشعور.

قيل : هو مثل لشدّة الغموم والهموم ؛ لأنّ لازمها انطفاء الحرارة الغريزية واستيلاء البلغم على الاخلاط وابيضاض الشعر (٢) .

وقيل : هو كناية عن طول المدّة واليوم (٣) .

ثمّ بالغ سبحانه في بيان أهوال اليوم بقوله : و ﴿السَّماءُ﴾ مع غاية عظمها وغلظتها ﴿مُنْفَطِرٌ﴾ بسبب

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢١٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٨٤.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٢١٧.

٣٥٩

هول ذلك اليوم ، ومنشقّ ﴿بِهِ﴾ فكيف بغيرها من الخلائق ، واعلموا أنّ هذا اليوم الشديد الأهوال ممّا وعده الله و﴿كانَ وَعْدُهُ﴾ لا محالة ﴿مَفْعُولاً﴾ ومنجزا ومتحقّقا لامتناع الخلف فيه ، فليس للعاقل أن يرتاب في وقوعه ﴿إِنَّ هذِهِ﴾ المذكورات من الأنكال وما بعده ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ وعظة لمن شاء أن يذّكّر ويتّعظ ﴿فَمَنْ شاءَ﴾ من العقلاء النجاة من الأهوال والعذاب ، والنيل بالراحة الأبدية وعظم الثواب ﴿اتَّخَذَ﴾ وحصّل ﴿إِلى﴾ قرب ﴿رَبِّهِ﴾ ومرضاته ﴿سَبِيلاً﴾ موصلا له إلى مطلوبه ، وهو الايمان بوحدانية الله تبارك وتعالى ورسالة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعتهما.

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ

 مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما

 تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ

 يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ

 وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ

 مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (٢٠)

ثمّ إنّه روي أنّ الله تعالى لمّا فرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في أوّل السورة قيام الليل قاموا حولا كاملا مع مشقّة عظيمة ، من جهة أنّه كان يعسر عليهم تمييز القدر الواجب ، حتّى قام أكثرهم الليل كلّه خوفا من الخطأ في إصابة القدر المفروض ، وصاروا بحيث انتفخت أقدامهم ، واصفرّت ألوانهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى التخفيف (١) بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ﴾ من نومك ومضجعك للعبادة ﴿أَدْنى﴾ وأقلّ ﴿مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ﴾ تقوم ﴿نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ امتثالا للأمر ﴿وَطائِفَةٌ مِنَ﴾ أصحابك ﴿الَّذِينَ مَعَكَ﴾ يقومون مثل قيامك اتّباعا لك ، وأنتم لا تتمكّنون من تقدير ساعات الليل والعلم بها ﴿وَاللهُ وحده ﴿يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ ويعلم مقدار ساعاتهما و﴿عَلِمَ أَنْ﴾ الشأن أنّكم ﴿لَنْ تُحْصُوهُ﴾ ولا تعلمونه أبدا.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « يقولون متى يكون النصف والثلث » (٢) .

﴿فَتابَ﴾ الله ورجع بالترحّم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بأن رخّص لكم ترك القيام المقدّر ، ورفع التّبعة على تركه ، إذن ﴿فَاقْرَؤُا﴾ أيّها المؤمنون ﴿ما تَيَسَّرَ﴾ وسهل عليكم ﴿مِنَ الْقُرْآنِ﴾ في أيّ وقت من الليل. قيل :

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢١٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٩٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٣.

٣٦٠