نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة الحاقة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ

 بِالْقارِعَةِ (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختمت سورة القلم المتضمّنة لتجليل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبطال نسبة الجنون إليه ، وبيان نزول العذاب الدنيوي على مانعي حقوق الفقراء ، وبيان أن العذاب الدنيوي كذلك ، وعذاب الآخرة أكبر ، وبيان شدّة عداوة الكفّار للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وانضجارهم من استماع القرآن مع أنّه ذكر للعالمين ، نظمت سورة الحاقّة المتضمّنة لكثير من العذاب الدنيوي النازل على الامم ، وبيان عظمة عذاب الآخرة ، وشدّة عداوة الكفّار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسبة الكهانة والشعر إليه ، وإبطال هاتين النسبتين ، وأن القرآن تنزيل من ربّ العالمين ، وبيان عظمة يوم القيامة ، وذكر بعض أهوالها وشدائدها ، إلى غير ذلك من وجوه التناسب بين السورتين المباركتين ، ثمّ افتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها بذكر عظمة يوم القيامة بقوله : ﴿الْحَاقَّةُ﴾ وإنّما سمّي يوم القيامة بالحاقة لأنّه يحق وقوعه ويجب ، أو يحق فيه جزاء الأعمال ، أو تحقّ فيه الامور وتعرف حقائقها ، أو تحقّ فيه كلمة العذاب.

ثمّ بالغ في التهويل وتفخيم فظاعته بقوله : ﴿مَا الْحَاقَّةُ﴾ وأيّ شيء هي في العظمة والفظاعة ؟ ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وما أعلمك ﴿مَا الْحَاقَّةُ﴾ وأيّ يوم هي ؟ فانّها خارجة عن دائرة علم المخلوق ، كيف ما قدّر عظمها كانت أعظم منه ، ومع ذلك ﴿كَذَّبَتْ﴾ قبيلة ﴿ثَمُودُ وَعادٌ﴾ بهذا اليوم الذي يسمّى أيضا ﴿بِالْقارِعَةِ﴾ لأنّها تقرع الناس وتصيبهم بالأفزاع والأهوال والعذاب ، والسماء بالانشقاق ، والأرض والجبال بالدكّ (١) والنسف ، والنجوم بالطّمس والانكدار.

__________________

(١) في النسخة : بالباد ، والتصحيح من تفسير روح البيان ١٠ : ١٣١.

٣٢١

﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ *

 سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ

 أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٥) و (٧)

ثمّ بيّن سبحانه ما نزل على المكذّبين للقيامة من العذاب بقوله : ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا﴾ لتكذيبهم بهذا اليوم ﴿بِالطَّاغِيَةِ﴾ والصيحة المتجاوزة عن حدّ الصيحات في الشدّة (١) فارجفت الأرض وتقطّعت منها القلوب ﴿وَأَمَّا عادٌ﴾ الذين هم أشدّ طغيانا وعتوّا من ثمود ﴿فَأُهْلِكُوا﴾ لتكذيبهم مع كمال قوّتهم ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ وباردة أو شديدة الصوت ﴿عاتِيَةٍ﴾ ومتجاوزة عن الحدّ في الشدّة والعصف ، كأنّها عتت على خزّآنها ولم يتمكّنوا من ضبطها ﴿سَخَّرَها﴾ الله وأرسلها بقدرته القاهرة إلى قوم عاد ، وسلّطها ﴿عَلَيْهِمْ﴾ غضبا وانتقاما منهم ﴿سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ حال كون تلك الرياح ﴿حُسُوماً﴾ ومتواليات ومتتابعات ، وما خفّف هبوبها تلك المدّة ساعة حتّى أهلكتهم ، أو نحسات حسمت كلّ خير ، أو قاطعات حيث قطعت دابر القوم ﴿فَتَرَى﴾ يا محمد ، أو أيّها الرائي إن كنت حاضرا حينئذ ﴿الْقَوْمَ﴾ جميعهم مع كمال قوتهم وعظم أجسامهم ﴿فِيها صَرْعى﴾ ومطروحين على الأرض ميتين ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في عظم الأجسام وطولها وعدم الحركة لها ﴿أَعْجازُ نَخْلٍ﴾ وأصولها المقطوعة حال كونها ﴿خاوِيَةٍ﴾ ومجوّفة. قيل : كانت الريح تدخل من أفواههم ، ويخرج ما في أجوافهم من أدبارهم(٢) .

﴿فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ * وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ *

 فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي

 الْجارِيَةِ * لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (٨) و (١٢)

ثمّ بالغ سبحانه في بيان هلاكة جميعهم بقوله : ﴿فَهَلْ تَرى﴾ أيّها الرائي ﴿لَهُمْ مِنْ﴾ نفس ﴿باقِيَةٍ﴾ حبّه ، أو من بقية من ذكر أو انثى ، أو كبير أو صغير ؟ لا والله لا ترى منهم أحدا ﴿وَجاءَ فِرْعَوْنُ﴾ موسى ﴿وَمَنْ﴾ كان ﴿قَبْلَهُ﴾ وتقدّمه من الكفّار ﴿وَ﴾ أهل القرى ﴿الْمُؤْتَفِكاتُ﴾ والمنقلبات ، وهي قرى قوم لوط وأتوا (٣)﴿بِالْخاطِئَةِ﴾ والمعصية العظيمة ، أو الأفعال السيئة العظيمة كتكذيب البعث ﴿فَعَصَوْا﴾ كلّهم ﴿رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ حين نهوا عمّا كانوا عليه من القبائح ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم البعث وابتلائهم بالعقاب ﴿أَخْذَةً رابِيَةً﴾ وعقوبة زائدة في الشدّة على عقوبات

__________________

(١) في النسخة : الشديدة.

(٢) تفسير روح البيان ١ » : ١٣٤.

(٣) في النسخة : والوا.

٣٢٢

سائر الكفرة ، أو على القدر المتصوّر عند الناس ، لزيادة عصيانهم على عصيان غيرهم ، كغرق أهل العالم ، وتقليب سبع بلاد (١) ، وإمطار الحجارة عليهم.

ثمّ أشار سبحانه إلى قصة قوم نوح بقوله : ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ﴾ وتجاوز عن الحدّ حتى علا كلّ شيء في الأرض ، وارتفع على الجبال ، أو طغى على خزّانه ولم يقدروا على ضبطه ﴿حَمَلْناكُمْ﴾ يا بني آدم ﴿فِي﴾ السفينة ﴿الْجارِيَةِ﴾ السائرة على الماء ، وإنّما كان غرق الكفّار ونجاة المؤمنين ﴿لِنَجْعَلَها لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿تَذْكِرَةً﴾ وعظة ودليلا واضحا على قدرتنا وغضبنا على الكفر وتكذيب الرسل ﴿وَتَعِيَها﴾ وتحفظها ﴿أُذُنٌ واعِيَةٌ﴾ وحافظة ما هو نافع لصاحبها بتذكّرة والتفكّر فيه ، فانّ من تفكّر في غرق أهل الأرض بالطّوفان الذي علا على الجبال الشوامخ خمسة عشر ذراعا وإنجاء المؤمنين في السفينة ، علم أنّ للعالم مدبّرا قادرا حكيما رحيما بمن وجده منتقما بمن أنكره وكذّب رسله.

في ذكر فضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام

روى الفخر الرازي وغيره من العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لعلي عليه‌السلام حين نزلت الآية : « سئلت الله تبارك وتعالى أن يجعلها اذنك يا علي » قال علي صلوات الله عليه : « فما نسيت شيئا بعد ذلك ، وما كان لي أن أنسى » (٢) .

وفي رواية ذكرها النقّاش : أخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله باذن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : « هي هذه » (٣) .

﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً

 واحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ *

 وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ

 تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ

 اقْرَؤُا كِتابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ * فِي

 جَنَّةٍ عالِيَةٍ * قُطُوفُها دانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ

 الْخالِيَةِ (١٣) و (٢٤)

ثمّ شرع سبحانه وتعالى في بيان الحاقّة ، وكيفية وقوعها عقيب بيان عظم شأنها وإهلاك مكذّبيها

__________________

(١) كذا ، والظاهر : سبع بلدات ، أو سبع مدائن.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٠٧ ، تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥ ، الكشاف ٤ : ٦٠٠ ، الدر المنثور ٨ : ٢٦٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٦.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٦.

٣٢٣

بقوله : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وقد مرّ بيان الصّور والنفخ فيه ﴿نَفْخَةٌ واحِدَةٌ﴾ أولية ﴿وَحُمِلَتِ﴾ وقلعت ﴿الْأَرْضُ وَالْجِبالُ﴾ من أماكنهما بالقدرة الإلهية ، أو بالزلزلة ﴿فَدُكَّتا﴾ وضربتا : يعني كلا بالآخر ﴿دَكَّةً﴾ وضربة ﴿واحِدَةً﴾ فتسير الجبال بها كثيبا مهيلا ، والأرض هباء منثورا ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ وحينئذ ﴿وَقَعَتِ الْواقِعَةُ﴾ العظيمة ، ونزلت النازلة الهائلة الفظيعة ، وهي على ما قيل صيحة القيامة(١) ﴿وَانْشَقَّتِ السَّماءُ﴾ وانفرجت لنزول الملائكة إلى الأرض ﴿فَهِيَ يَوْمَئِذٍ﴾ وفي تلك الوقت ﴿واهِيَةٌ﴾ مسترخية غير متماسكة كالعهن المنقوش ﴿وَالْمَلَكُ﴾ الذي يسكن في السماء يقفون بعد انشقاقها ﴿عَلى أَرْجائِها﴾ ونواحيها وأكنافها.

قيل : إنّ الملائكة يقفون في حافات السماء لحظة ثمّ يموتون لقوله : ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ(٢) ويحتمل أنّ وقوفهم بعد موتهم وإحيائهم ، ويحتمل كون الواقفين المستثنون بقوله : ﴿إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ*(٣) .

﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ﴾ وهو على ما قيل الفلك التاسع (٤) ، وهو أعظم خلق خلقه الله ، وبه تحدّد الجهات ﴿فَوْقَهُمْ﴾ قيل : يعني فوق الملائكة الذين هم على أطراف السماء ، أو فوق الحملة (٥)﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت ﴿ثَمانِيَةٌ﴾ أملاك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هم اليوم أربعة ، فاذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة اخرى » (٦) .

وروي أنّهم ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرضين السابعة ، والعرش فوق رؤوسهم ، كلّهم مطرقون مسبّحون (٧) .

أقول : ومن التخرّص بالغيب قول بعض علماء العامة : الأربعة اللاحقة الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « حملة العرش - والعرش العلم - ثمانية : أربعة منّا ، وأربعة ممّن شاء الله » (٩) .

وعن القمي قال : حملة العرش ثمانيه ، لكلّ واحد منهم ثمانية أعين ، كلّ عين طباق الدنيا (١٠) .

قال : وفي حديث آخر قال : « حملة العرش ثمانية : أربعة من الأولين ، وأربعة من الآخرين ، فأما

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٧.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٠٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٨ ، والآية من سورة الزمر : ٣٩ / ٦٨.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٠٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٨ ، والآية من سورة الأنعام : ٦ / ١٢٨.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٨.

(٥) تفسير أبي السعود ٩ : ٢٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٩.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٩.

(٧و٨) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٩.

(٩) الكافي ١ : ١٠٢ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٩.

(١٠) بحار الأنوار ٥٨ : ٢٧ / ٤٣ ، وتفسير الصافي ٥ : ٢١٩ ، عن تفسير القمي.

٣٢٤

الأربعة من الأولين : فنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وأمّا من الآخرين : فمحمد ، وعلي ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام » . ومعني يحملون العرش : يحملون العلم (١) .

أقول : يمكن أن يكون هذا الحديث تأويل الآية ، فيكون المعنيان صحيحين.

﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أنتم أيّها الناس ﴿تُعْرَضُونَ﴾ على الله للسؤال والحساب ، كما يعرض العسكر على السّلطان لتعرف أحوالهم ﴿لا تَخْفى﴾ على الله ممّا صدر ﴿مِنْكُمْ﴾ في الدنيا فعلة ﴿خافِيَةٌ﴾ ومستورة من الغير ، وكذا كلّ نية وسريرة ، فيظهر في ذلك اليوم جميع الضمائر والسرائر على جميع الخلق ، فيكمل بذلك سرور المؤمنين المخلصين ، ويفتضح الكفار والمنافقين ، ومع ذلك تتطاير صحف الأعمال ، ويعطي كلّ أحد كتابه بيده ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ﴾ واعطي ﴿كِتابَهُ﴾ وصحيفة عمله التي كتبتها الملائكة الحفظة ﴿بِيَمِينِهِ﴾ تعظيما له ﴿فَيَقُولُ﴾ فرحا وسرورا لمحبّيه من المؤمنين : ﴿هاؤُمُ﴾ وخذوا ، أو هلمّوا يا إخواني المؤمنين وأقربائي وأحبّائي ﴿اقْرَؤُا كِتابِيَهْ﴾ وانظروا ما فيه من البشارة بالنجاة من النار والدخول في الجنّة ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ﴾ في الدنيا ﴿أَنِّي مُلاقٍ﴾ يوم القيامة ﴿حِسابِيَهْ﴾ وإن احتملت أنّ الله لا يحاسبني ويدخلني الجنّة بغير حساب لشدّة رجائي بكرمه.

وقيل : إنّ الظنّ هنا بمعني اليقين (٢) ، والمعنى أيقنت أنّي أبعث يوم القيامة والاقي حساب أعمالي ، فتهيّأت لهذا اليوم ﴿فَهُوَ﴾ بفضل الله وبكرمه يستقرّ ﴿فِي عِيشَةٍ﴾ هنيئة وحياة ﴿راضِيَةٍ﴾ مرضية صافية عن الكدورة مقرونة بالنّعم والراحة والكرامة ، أعني أنّه متمكّن ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ مرتفعة الدرجات والقصور والأشجار التي ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ وقريبة ممّن يريدها ينالها قائما وقاعدا ومضطجعا بيده من غير تعب. وقيل : لا ينتظر إدراكها (٣) .

ويقال لهم ﴿كُلُوا﴾ ممّا شئتم من الثّمار بلا منع ﴿وَاشْرَبُوا﴾ من أنهار الخمر والعسل واللّبن وماء غير آسن ﴿هَنِيئاً﴾ وسائغا لكم ﴿بِما أَسْلَفْتُمْ﴾ وقدّمتم من الأعمال الصالحة ﴿فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ﴾ والأزمنة الماضية من زمان عمر في الدنيا. وقيل : في أيام صومكم (٤) .

روي انّه يقول الله : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت عيونكم وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (٥) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٨٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٩.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١١٢.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٢.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٣.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٣.

٣٢٥

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ ما

 حِسابِيَهْ * يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ * ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي

 سُلْطانِيَهْ (٢٥) و (٢٩)

هذا حال المؤمنين الصالحين في الآخرة ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ﴾ تحقيرا له بأن تلوى - على ما قيل - يسراه إلى خلف ظهره ، ويرى ما فيه من قبائح أعماله ﴿فَيَقُولُ﴾ تحزّنا وتحسّرا (١)﴿يا﴾ أهل المحشر ﴿لَيْتَنِي﴾ وأتمنى أنّه ﴿لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾ ولم أعط صحيفة أعمالي التي فيها جميع سيئاتي ﴿وَلَمْ أَدْرِ﴾ ولم أعلم ﴿ما حِسابِيَهْ﴾ فانّه ليس في أعمالي إلّا ما يوجب العذاب.

ثمّ يتمنّى أنّ الموته التي أدركته في الدنيا لم يكن بعدها بعث بقوله : ﴿يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ﴾ والقاطعة لحياتي بحيث لم يكن بعدها بعث ولا حساب ، ولم ألق ما ألقى من سوء العاقبة واليوم ﴿ما أَغْنى﴾ ولم يدفع ﴿عَنِّي﴾ شيئا من العذاب ﴿ما﴾ كان ( ليه ) من المال والأولاد والأتباع.

قيل : إنّ ﴿ما﴾ استفهامية على سبيل الانكار ، والمعنى أي شيء أغني ما كان لي من اليسار (٢) . وقيل : يعني لم يغن عنّى المال الذي جمعته في الدنيا شيئا من العذاب (٣) ، بل صار سببا لابتلائي (٤) به.

﴿هَلَكَ﴾ وذهب ﴿عَنِّي﴾ اليوم ﴿سُلْطانِيَهْ﴾ وملكي واستيلائي على الناس ، وبقيت ضعيفا ذليلا مقهورا.

عن ابن عباس : يعني ضلّت عني حجّتي التي كنت احتجّ بها على محمّد في الدنيا (٥) . وقيل : يعني إنّما كنت انازع المحقّين بسبب الملك والسلطنة ، فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال (٦) .

﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً

 فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ *

 فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ * وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ

 الْخاطِؤُنَ (٣٠) و (٣٧)

وعلى أيّ تقدير يقول الله تعالى للملائكة الغلاظ والشداد غضبا على العاصي : ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ وقيّدوه ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ وأقلوه بعنف ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها﴾ وطولها ﴿سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ﴾ وأدخلوه وشدّوه بحيث لا يقدر على الحركة.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١١٤.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٤.

(٤ - ٦) تفسير الرازي ٣٠ : ١١٤.

٣٢٦

عن كعب الأحبار قال : لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها ، ولو وضعت حلقة منها على جبل لذاب مثل الرّصاص ، تدخل السلسلة في فيه وتخرج من دبره ، ويلوى فضلها على عنقه وجسده ، ويقرن بها بينه وبين شيطانه (١) .

قيل : إنّ السبعين كناية عن كثره الطول (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « كان معاوية صاحب السلسلة التي قال الله عزوجل : ﴿فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها ﴾ » الآية. قال : « وكان فرعون هذه الامّة » (٤) .

ثمّ كأنّه قالت خزنة النار : ماله يعذّب بهذا العذاب الشديد ؟ فقال سبحانه : ﴿إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ﴾ ومن كفر به مع غاية عظمته كان عذابه في غاية العظمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء اعتقاده بيّن سوء عمله بقوله : ﴿وَلا يَحُضُ﴾ ولا يحرّض أهله وغيرهم ﴿عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾ وإيكالهم القوت فضلا عن أن يعطى ويبذل من مال نفسه ، وفيه دلالة على أنّ البخل من أعظم المعاصي ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « البخل كفر ، والكافر في النار » (٥) .

﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ﴾ وفي ذلك الوقت ﴿هاهُنا﴾ وفي عرصة القيامة ﴿حَمِيمٌ﴾ وقريب يحامي عنه وينصره ، أو يحترق له قلبه ، بل أقرباؤه وأصدقاؤه ، يفرّون منه ﴿وَلا طَعامٌ﴾ له ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ وما يسيل من جلود أهل النار روي أنّه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم (٦) ، وعليه يكون إطلاق الطعام عليه مع أنّه شراب من باب المجاز. وقيل : إنّه اسم شجر في النار (٧) ﴿لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ﴾ طريق توحيد الله ، المشركون به ، كما عن ابن عباس (٨) . وقيل : هم الذي يتخطّون الحقّ إلى الباطل (٩) ، فيشمل منكر الرسالة والإمامة.

﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ * وَما لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَما هُوَ

 بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ

 رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٨) و (٤٣)

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢١.

(٤) الكافي ٤ : ٢٤٤ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢١.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٧.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٧.

(٧و٨) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٨.

(٩) تفسير الرازي ٣٠ : ١١٦ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٨.

٣٢٧

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أهوال القيامة وأحوال السعداء والأشقياء ، وكان المشركون والأشقياء ينكرون جميعها ويكذّبون القرآن ، بيّن سبحانه عظمة القرآن وأنّه كلام الله المجيد بقوله تعالى : ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ وقيل : إنّ التقدير فلا مجال لتكذيب المكذّبين (١) للقرآن وما أخبر به من البعث والنشور ، اقسم ﴿بِما تُبْصِرُونَ﴾ وما تشاهدون من الجسمانيات ﴿وَما لا تُبْصِرُونَ﴾ ولا تشاهدون من العقول والروحانيات ﴿إِنَّهُ﴾ من أوّله إلى آخره ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾ صادق مبعوث من جانب الله ﴿كَرِيمٍ﴾ عليه عظيم الشأن عنده ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جبرئيل ، جاء به من قبل الله ﴿وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ﴾ كما تزعمون ، وأنتم إيمانا ﴿قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ﴾ بالقرآن أنّه كلام الله ، وبمن جاء به أنّه رسول الله ﴿وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ﴾ كما تدّعون ذلك مرة اخرى تذكّرا ﴿قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ﴾ ولذا يلتبس عليكم الأمر.

قيل : إنّ الايمان والتذكّر القليل بالشيء الظنّ به والميل إليه (٢) وقيل : إنّ القليل في الآيتين كناية عن العدم (٣) . وقيل : إنّ الايمان القليل اليقين بالقلب والجحود باللسان (٤) . أو الايمان ببعض أحكام القرآن دون (٥) بعض.

وإنّما قرن سبحانه عدم الايمان بالشاعرية ؛ لأنّ عدم مشابهة القرآن بالشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا المعاند فلذا وبّخوا على عدم الايمان بخلاف مبانيه (٦) للكهانة ، فإنّها ليست بذاك الوضوح ، فانّ من تذكّر أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاني القرآن وتأمّل فيهما (٧) علم أنّ القرآن ليس بكهانة ، فانّ الكاهن يأتيه الشيطان ويلقي إليه أخبار السماء ، وما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مشتمل على ذمّ الشياطين وسبّهم ، فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين ؟ وكذا معاني القرآن [ فانها تشتمل على ] الدعوة إلى العقائد الحقّة وتهذيب الاخلاق والأعمال الصالحة بخلاف أقوال الكهنة ، فلو تذكّر كفّار مكّة معاني القرآن ومعاني أقوال الكهنة لما قالوا : إنّه كاهن ، وإن القرآن كهانة ، بل هو ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ نزّله بتوسّط جبرئيل على رسوله ، فهو قول الله وكلامه لأنّه نزّله ، وقول جبرئيل لّانه نزل به ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه أنذر به.

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ

 الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا

 لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ *

__________________

(١) تفسير طبرى ٢٩ : ٤١.

(٢-٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٩.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤٩ و١٥٠.

(٦) في تفسير روح البيان : مباينته.

(٧) في النسخة : منهما.

٣٢٨

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٤٤) و (٥٢)

ثمّ أكّد سبحانه أنّه كلامه لا كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله تعالى : ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ﴾ محمّد ﴿عَلَيْنا﴾ ونسب إلينا كذبا ﴿بَعْضَ الْأَقاوِيلِ﴾ والكلمات التي لم نقلها ﴿لَأَخَذْنا﴾ بعضا ﴿مِنْهُ﴾ للانتقام ﴿بِالْيَمِينِ﴾ والقوّة.

وقيل : إنّ المراد باليمين الحقّ (١) والمعنى لانتقمنا منه بالحقّ ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ والعرق الذي به حياته ، وهو كناية عن إماتته. وقيل : يعني لضربنا عنقه (٢) .

وعلى أيّ تقدير ، المراد إهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ﴿فَما مِنْكُمْ﴾ أيّها الناس ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ حينئذ ﴿عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ ومانعين بالقوّة أو الشفاعة.

ثمّ إنّه تعالى بعد تعظيم كتابه بالغ في مدحه بذكر فائدته العظيمة بقوله : ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ﴾ وعظة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ من إتّباع الهوى والعصبية في مذهبه الباطل ، فانّهم المنتفعون به ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَ﴾ كثيرا ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها العرب ﴿مُكَذِّبِينَ﴾ له لحبّ الدنيا واتّباع الهوى والتوغّل في العصبية ، وكافرين به حسدا وبغيا ﴿وَإِنَّهُ﴾ يوم القيامة ﴿لَحَسْرَةٌ﴾ وندامة ﴿عَلَى الْكافِرِينَ﴾ به وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مشاهدتهم عظمته وشفاعته لتاليه وثواب المصدّقين به ، وفي الدنيا أيضا إذا رأوا عز المؤمنين به وذلّة الجاحدين له قالوا : ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ وفيه من المبالغة ما لا يخفى ، فاذا كان القرآن أنزله إليك بهذه المرتبة من العظمة والفائدة ، ونعمته عليك فوق جميع النّعم ﴿فَسَبِّحْ﴾ الله تنزيها له.

عن الرضا عليه‌السلام : « بالتقول عليه ، وشكرا له على إيحائه عليك » (٣) مستعينا في تسبيحه ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قيل : المراد بالاسم المسمّى (٤) .

روي أنّه لمّا نزلت الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اجعلوها في ركوعكم » (٥) .

روى بعض العامة عن عمر بن الخطاب أنّه قال : خرجت بمكة يوما متعرّضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فجئت فوقفت وراءه ، فافتتح سورة الحاقة ، فلمّا سمعت سرد القرآن قلت في نفسي : إنّه لشاعر كما تقول قريش ، حتّى بلغ إلى قوله : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ثمّ مرّ حتّى انتهى إلى آخر السورة ، فأدخل الله في قلبي الإسلام (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١١٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥١.

(٣) تفسير الصافي ٥ : ٢٢٣.

(٤و٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٢.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٣.

٣٢٩

عن الكاظم عليه‌السلام : « ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ يعني جبرئيل عن الله في ولاية علي عليه‌السلام » قال : « قالوا : إنّ محمدا كذب على ربّه ، وما أمره الله بهذا في عليّ ، فأنزل الله تعالى بذلك قرآنا فقال : إنّ ولاية علي ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ...﴾ الآية ، ثمّ عطف القول فقال : إنّ ولاية علي لتذكرة للمتّقين - للعالمين - وإنّ عليا لحسرة على الكافرين ، وإنّ ولايته لحقّ اليقين ، فسبّح - يا محمد - باسم ربك العظيم. يقول : اشكر ربّك العظيم الذي اعطاك هذا الفضل »(١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد عليّ عليه‌السلام فأظهر ولايته ، قالا جميعا : والله ما هذا من تلقاء الله ، ولا هذا إلّا شيء أراد أن يشرّف به ابن عمّه ، فأنزل الله تعالى : ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا﴾ الآيات ﴿أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ﴾ يعني فلانا وفلانا ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ﴾ يعني عليا عليه‌السلام » (٢) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أكثر من قراءة الحاقة ، فان قراءتها في الفرائض والنوافل من الايمان بالله ورسوله ، [ لأنّها ] إنّما نزلت في أمير المؤمنين ومعاوية ، ولم يسلب قارءها دينه حتى يلقى الله عزوجل » (٤).

الحمد لله على التوفيق لاتمام تفسيرها.

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥٩ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٣.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٢٢ / ٢٤٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٨.

(٤) ثواب الأعمال : ١١٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٣.

٣٣٠

في تفسير سورة المعارج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الحاقة المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة وعذاب مكذّبيه وأهواله حين وقوعه ، وحسن حال المؤمنين به وسوء حال الكافرين ومانعي حقوق المساكين ، وأنّه ليس لهم في ذلك اليوم حميم ، وبيان عظمة القرآن وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظمت سورة المعارج المتضمّنة لبيان عذاب الكفار ، وقرب وقوع القيامة وطول مدّتها وأهوالها ، وغفلة الحميم عن حميمه ، وحسن حال المؤمنين المؤدّين حقوق الفقراء ، وسوء حال الكفّار ، وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره (١) بالصبر على أذى قومه إلى غير ذلك من وجوه المناسبات بين السورتين ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ حكى سبحانه شدّة خباثة بعض الكفّار وجرأته على الله بقوله : ﴿سَأَلَ سائِلٌ﴾ ودعا داع ﴿بِعَذابٍ واقِعٍ﴾ لا محالة ﴿لِلْكافِرينَ﴾ وعليهم كما عن ابن عباس ، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة (٢)﴿لَيْسَ لَهُ﴾ إذا جاء وقته أو اقتضته حكمته ﴿دافِعٌ﴾ ومانع ﴿مِنَ﴾ جانب ﴿اللهِ ذِي الْمَعارِجِ﴾ ومالك السماوات التي هي المصاعد للملائكة الذين هم مدبّرات الامور ومقسّمات الأرزاق ، وإنّما سمّى السماوات معارج لكون بعضها فوق بعض كالمدارج ، أو المراد ذي مراتب من النّعم ، أو ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنّة.

عن ابن عباس : نزلت الآية في النّضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث قال إنكارا للقرآن واستهزاء به : ﴿اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ(٣) .

وقيل : إنّه لمّا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وخوف المشركين بالعذاب ، قال بعضهم لبعض : سلوا محمدا لمن

__________________

(١) في النسخة : وأمر.

(٢و٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٣.

٣٣١

هذا العذاب ، وبمن يقع ؟ فنزلت ﴿سَأَلَ سائِلٌ(١) .

والباء في قوله : ﴿بِعَذابٍ﴾ في معنى ( عن ) . وقيل : إنّ المراد من السائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث استعجل بعذاب الكافرين ، فبشّره الله بأنّ العذاب واقع بهم لا دافع له بقرينة قوله بعد ذلك : ﴿فَاصْبِرْ(٢) .

﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً

 جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨)

وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إطلاق المعارج على السماوات بلحاظ عروج الملائكة بقوله : ﴿تَعْرُجُ﴾ وتصعد ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ الذين هم مدبّرات الامور ﴿وَالرُّوحُ﴾ الامين المسمّى بجبرئيل بعد فراغهم من امور الدنيا لانهائها بأمر الله ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى ﴿فِي﴾ أوّل ﴿يَوْمٍ﴾ وزمان ﴿كانَ مِقْدارُهُ﴾ من أوّله إلى آخره خمسين ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ من سني الدنيا ، وهو يوم القيامة وزمان وقوف الناس للحساب ، وهذا الطول بالنسبة إلى الكفار ، كما روي أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أطول هذا اليوم : فقال : « والذي نفسي بيده إنّه ليخفّ عن المؤمن حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ للقيامة خمسين موقفا ، كلّ موقف مقام (٤) ألف سنة » ثمّ تلا هذه الآية (٥) .

وقيل : إنّ هذا التقدير على سبيل الفرض ، والمقصود أنّه لو اشتغل بالقضاء بين الناس أعقل الناس وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف عام ، والله يفرغ من حسابهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا (٦) كما عن الصادق أنّه قال : « لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة » (٧) .

وقال في رواية اخرى : « لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنّة ، وأهل النار في النار » (٨) .

ويمكن أن يقال : إنّ التقدير لعروج الملائكة لا ليوم القيامة ، كما قال بعض (٩) . والمعنى أنّ الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد غيرهم من أهل الدنيا أن يصعد إليها لا يمكنه إلّا في مدّة خمسين ألف

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢١.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢١ ، والآية من سورة المعارج : ٧٠ / ٥.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٥٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٥ ، تفسير الرازي ٣٠ : ١٢٤.

(٤) في الكافي : مقداره.

(٥) الكافي ٨ : ١٤٣ / ١٠٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٥.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢٤.

(٧و٨) مجمع البيان ١٠ : ٥٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٥.

(٩) مجمع البيان ١٠ : ٥٣٠.

٣٣٢

سنة ، ولكن الملائكة يصعدون إليها في ساعة قليلة.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به إلى ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش » (١) .

وروى القمّي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « تعرج الملائكة والروح في صبح ليلة [ القدر ] إليه من عند النبيّ والوصي » (٢) .

﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد ، على استهزاء قومك وأذاهم ﴿صَبْراً جَمِيلاً﴾ حسنا لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله مع انتظار الفرج بلا استعجال ، ولا تدع على قومك لاستهزائهم بوعدك إيّاهم العذاب ﴿إِنَّهُمْ﴾ لجهلهم وحماقتهم ﴿يَرَوْنَهُ﴾ ويزعمونه ﴿بَعِيداً﴾ عن إمكان الوقوع ويحيلونه ، لاستبعادهم إحياء العظام الرميم ثانيا حتى يمكن لهم التألّم بالعذاب ﴿وَ﴾ نحن ﴿نَراهُ﴾ ونعلمه ﴿قَرِيباً﴾ من الوقوع لإمكان إعادة خلقهم وقدرتنا عليه واستحقاقهم للعذاب.

وقيل : إنّهم يرون الموت والبعث بعيدا لبعد آمالهم ، ونراه قريبا لأنّ كلّ آت قريب (٣) .

وأمّا وقوعه فانّه ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ﴾ في اللون ﴿كَالْمُهْلِ﴾ وخبث الحديد المذاب ، أو الفضّة المذابة كما عن ابن مسعود (٤) ، أو كالقير والقطران في سوادهما (٥) ، أو كدرديّ الزيت (٦) في سيلانه على مهل لثخانته (٧) ﴿وَتَكُونُ الْجِبالُ﴾ كلّها في سيرورتها ألوانا مختلفة ﴿كَالْعِهْنِ﴾ والصوف المصبوغ ، لاختلاف ألوان الجبال منها بيض ومنها حمر ، ﴿وَ﴾ منها غرابيب سود.

ثمّ لكثرة أهوال اليوم ﴿لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ﴾ وقريب ﴿حَمِيماً﴾ وقريبا عن حاله ولا يكلّمه ، لاشتغال كلّ بنفسه ، فكيف الأجانب ؟

﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصاحِبَتِهِ

 وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلاَّ إِنَّها

 لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعى (١١) و (١٨)

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٨٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٥.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٩.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٩.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٩.

(٦) درديّ الزيت : مارسب أسفله.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ١٥٩.

٣٣٣

ثمّ دفع سبحانه توهّم أنّ عدم سؤالهم لعلّه لعدم رؤيتهم أو عدم معرفة بعضهم بعضا بقوله : ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ ويعرفونهم ، فيعرف الرجل أباه وابنه وأخاه وعشيرته - وقيل : إنّ الملائكة يعرفونهم - ومع ذلك لا يسألهم لاشتغالهم بما هم فيه (١) .

عن ابن عباس : يتعارفون ساعة ثمّ يتناكرون (٢) .

بل من شدّة عذاب ذلك اليوم ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ﴾ ويشتاق الكافر والعاصي ﴿لَوْ يَفْتَدِي﴾ ويحفظ نفسه ﴿مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ﴾ الذي ابتلي به ﴿بِبَنِيهِ﴾ وأولاده الذكور الذين هم أعزّ الأنفس عنده ﴿وَصاحِبَتِهِ﴾ وزوجته المحبوبة عنده ﴿وَأَخِيهِ﴾ الذي كان ظهره ومعينه في الشدائد ﴿وَفَصِيلَتِهِ﴾ وأقاربه ﴿الَّتِي﴾ كانت ﴿تُؤْوِيهِ﴾ وتضمّه إلى نفسه ، وتحفظه في الدنيا بحقّ القرابة والمحبة من الشدائد ، كالآباء والأعمام والأخوال وغيرهم ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الجنّ والإنس ﴿جَمِيعاً﴾ لو كانوا تحت يديه وفي سلطانه ﴿ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ ذلك الافتداء.

﴿كَلَّا﴾ وهيهات أنّ الافتداء ينجيه من النار التي وصفها الله سبحانه بقوله : ﴿إِنَّها لَظى﴾ ولهب خالص لا يخالطه دخان وقيل : إنّ اللّظى علم للنار أو للدّرك الثاني من جهنّم (٣) ، وهي ﴿نَزَّاعَةً﴾ وجذّابة ﴿لِلشَّوى﴾ والأعضاء الواقعة في أطراف الجسد وقلّاعه لها بقوّة الاحتراق وشدّة الحرارة ، أو نزّاعة للجلود الرؤوس وتقشيرها عنه.

قيل : لا تترك جلدا ولا لحما ولا عصبا إلّا أحرقته (٤) .

﴿تَدْعُوا﴾ وتجلب إلى نفسها كالمغناطيس الذي يجلب الحديد ، أو تهلك ﴿مَنْ أَدْبَرَ﴾ عن التوحيد والحقّ وأعرض عنه ﴿وَتَوَلَّى﴾ عن طاعة ربّه ورسوله ، واستنكف عنه ، وتلتقطهم كما يلتقط الطير الحبّ. وقيل : إنّ المراد جلب زبانية النار بحذف المضاف (٥) .

﴿وَجَمَعَ﴾ المال حرصا وحبّا للدنيا ﴿فَأَوْعى﴾ وكنز لطول الأمل ، ولم يؤدّ زكاته وحقوقه الواجبة فيه ، وتشاغل به عن الدين ، وتكبّر على الفقراء باقتنائه (٦) .

﴿إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً *

 إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ

 مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٦٠

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٦١.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢٨.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ١٢٨.

(٦) في النسخة : باقتنامه ، وما أثبتناه من تفسير روح البيان ١٠ : ١٦٢.

٣٣٤

مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ

 لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ

 مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

 وَعَهْدِهِمْ راعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلى

 صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (١٩) و (٣٤)

ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ﴾ بالطبع ﴿خُلِقَ هَلُوعاً﴾ ثمّ فسر سبحانه الهلوع بقوله : ﴿إِذا مَسَّهُ﴾ وأصابه ﴿الشَّرُّ﴾ كالمرض والفقر والخوف وغيرها من البلايا كان ﴿جَزُوعاً﴾ وكثير القلق والشكوى لضعفه ﴿وَإِذا مَسَّهُ﴾ ووصل إليه ﴿الْخَيْرُ﴾ من الصحة والغنى كان ﴿مَنُوعاً﴾ وشديد البخل ومبالغا في الامساك لطول أمله وجهله بالقسمة ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ ولكن لا مطلقا بل ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ وعلى أدائها مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل ، لاهتمامهم على تقديم رضى الله على رضى أنفسهم.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الذين يقضون ما فاتهم من الليل بالنهار ، وما فاتهم من النهار بالليل»(١) .

﴿وَ﴾ إلّا ﴿الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ ونصيب معين أو جبوه على أنفسهم تقربا إلى الله ﴿لِلسَّائِلِ﴾ بالكفّ من الناس ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾ ومن لا يسأل حياء وتوكّلا على الله.

عن السجاد عليه‌السلام : « الحقّ المعلوم شيء يخرجه من ماله ، ليس من الزكاة ، ولا من الصدقة المفروضتين ، هو الشيء يخرجه من ماله إن شاء أكثر وإن شاء أقلّ على قدر ما يملك ، يصل به رحما ، ويقوّي به ضعيفا ، ويحمل به كلّا ، ويصل به أخا له في الله أو لنائبة تنوبه » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « المحروم المحارف (٣) الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع » (٤) .

وفي رواية : « المحروم الذي ليس بعقله بأس ، ولم يبسط له الرزق ، وهو محارف » (٥) . يعني أنّهم أهل الكسب والصنعة لا السؤال.

﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ ويؤمنون بدار الجزاء ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون أن يصيبهم فيتعبون أنفسهم في طاعة ربّهم بأداء الواجبات وترك المحرّمات وبذل الأموال ،

__________________

(١) الخصال : ٦٢٨ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٧.

(٢) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٧.

(٣) المحارف : المحروم يطلب فلا يرزق.

(٤) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٨ / ٣١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٧.

(٥) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٨ / ٣١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٧.

٣٣٥

وهم مع ذلك في جميع أحوالهم خائفون لما عملوا ﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ وإن بالغوا في الطاعة لجهلهم بعاقبة امورهم وواقعياتها ، فلعلّهم قصّروا فيما هو من وظائفهم ويعذّبون عليه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ﴾ وسوآتهم من القبل والدّبر ﴿حافِظُونَ﴾ من نظر الغير ومسّه ﴿إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ﴾ ونسائهم ﴿أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ﴾ من الجواري ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ على عدم حفظها من مسمين (١) ونظرهنّ ﴿غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ عند العقلاء وغير مؤاخذين عند الشرع ، وفيه إشعار بأنّ في ملامة العقلاء على ترك التحفّظ كفاية لا حاجة إلى نهي الشارع ﴿فَمَنِ ابْتَغى﴾ وطلب لنفسه ﴿وَراءَ ذلِكَ﴾ المذكور من الأزواج والإماء للاستمتاع ﴿فَأُولئِكَ﴾ المبتغون ﴿هُمُ العادُونَ﴾ والمتجاوزون لحدود العقل والشرع الكاملون في الظّلم على النفس ، ويدخل فيه الاستمناء فانّه نكاح النفس. روي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار ، فنزلت الآية (٢) .

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ﴾ وما يودع عندهم ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ سواء كان من العهود التي بينه وبين الله ، أو بينه وبين الناس ﴿راعُونَ﴾ ومجدّون في المحافظة ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ﴾ ولو على أنفسهم ، أو الوالدين والأقربين ﴿قائِمُونَ﴾ ومؤدّون حقّ الأداء ، والجمع باعتبار اختلافه الشهادات وكثرتها ، وإنّما خصّها بالذكر مع دخولها فى الأمانات لكثرة فضلها. وعن ابن عباس قال : يريد الشهادة بأنّ الله واحد لا شريك له (٣).

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ بحفظ أجزائها وشرائطها وآدابها. في الحديث : « من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابي بن خلف » (٤) .

قيل : إنّ ذكر الصلاة أولا وآخرا للإشارة بأنّها أوّل ما يجب على العبد أداءه بعد الايمان وآخر ما يجب رعايته بعده (٥) .

عن الكاظم عليه‌السلام : « اولئك أصحاب الخمسين صلاة (٦) من شيعتنا » (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « هي الفريضة ، والذين هم على صلاتهم دائمون هي النافلة » (٨) .

﴿أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ * فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ

 الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٥) و (٣٧)

__________________

(١) كذا ، والظاهر : مسهنّ.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٦٥ و١٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٣١.

(٤و٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٦٧.

(٦) في النسخة : أصحاب الحسين.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٥٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٨.

(٨) الكافي ٣ : ٢٦٩ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٨.

٣٣٦

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة أعمالهم بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بتلك الصفات الكريمة مستقرون يوم القيامة ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ لا توصف بالبيان ، ولا يدرك كنهها الانسان ، وهم مع ذلك ﴿مُكْرَمُونَ﴾ بغاية الاكرام ، ومعظّمون بنهاية التعظيم.

ثمّ روي أنّ الكفّار والمشركين كانوا محلّقين حول رسول الله حلقا حلقا وفرقا فرقا ، يستمعون القرآن ويستهزؤون به ، ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمّد فلندخلها قبلهم ، فنزل قوله : ﴿فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا(١) وأي حال عرضهم أنّهم ﴿قِبَلَكَ﴾ يا محمد وحولك حال كونهم ﴿مُهْطِعِينَ﴾ ومسرعين نحوك ، أو مادّين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ﴾ منك ﴿عِزِينَ﴾ ومجتمعين فرقا فرقا ، ومحلّقين عليك حلقا حلقا. وقيل : إنّ المراد منهم المنافقون (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - وقد ذكر المنافقين - قال : « وما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألّفهم ويقرّبهم ويجلسهم عن يمينه وشماله حتى أذن الله عزوجل له في إبعادهم بقوله : ﴿اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً(٣) وبقوله : ﴿فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ...﴾ الآيات » (٤) .

أقول : ويمكن أن يكون المراد المعنى العام.

﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ *

 فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ

 وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي

 يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ *

 خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٣٨) و (٤٤)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الطمع في دخولهم الجنة بقوله : ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ﴾ ونفس ﴿مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ﴾ في القيامة ﴿جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ كالمسلمين بغير إيمان ﴿كَلَّا﴾ وحاشا أن يدخلوها ﴿إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ من نطفة قذرة ، فكيف يتأهّلون لدخول الجنة التي هي منزل المطهّرين حتّى يتطهّروا بالايمان والمعرفة ؟ وقيل في ارتباط الآية وجوه اخر (٥) .

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على إهلاك جميعهم بقوله : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ﴾ التي تكون للشمس

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٣١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٦٩.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ١٣١.

(٣) المزمل : ٧٣ / ١٠.

(٤) الاحتجاج : ٢٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٨.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ١٣٢.

٣٣٧

في السنة لكلّ يوم مشرق ﴿وَ﴾ بربّ ﴿الْمَغارِبِ﴾ التي تكون فيها. وقيل : جمعها باعتبار الكواكب السيّارة لكل مشرق ومغرب (١) . أو المراد من المشرق ظهور دعوة نبي ، ومن المغرب موته.

﴿إِنَّا لَقادِرُونَ﴾ بالذات ﴿عَلى أَنْ﴾ نهلك جميعهم عقوبة على معاصيهم و﴿نُبَدِّلَ﴾ منهم خلقا آخر ﴿خَيْراً﴾ وأفضل ﴿مِنْهُمْ﴾ مكانهم ﴿وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ ومغلوبين وعاجزين إن أردنا ذلك ، وإنّما أخّرنا عقوبتهم للحكم البالغة المقتضية لتأخيرها ﴿فَذَرْهُمْ﴾ يا محمد ودعهم ﴿يَخُوضُوا﴾ ويشتغلوا بباطلهم من عبادة الأصنام والاستهزاء بالقرآن وإيذاء المؤمنين ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ بالدنيا وزخارفها التي لا نفع لها ، كاشتغال الأطفال بالأشغال التي لا غرض عقلائي فيها ، ويستمروا عليها ﴿حَتَّى يُلاقُوا﴾ ويعاينوا ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ في الدنيا بلسانك أنّهم يعذّبون فيه عقوبة على كفرهم وسيئات أعمالهم ، أعني من ذلك اليوم ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ﴾ والقبور حال كونهم ﴿سِراعاً﴾ وراكضين الى الداعي وهو إسرافيل ، أو إلى عرصة المحشر ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في الإسراع في السير ﴿إِلى نُصُبٍ﴾ وأحجار نصبوها في الدنيا للعبادة أو للمسابقة إليها بالعدو ﴿يُوفِضُونَ﴾ ويسرعون أو يتسابقون حال كونهم ﴿خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ﴾ لا يرفعونها من الأرض خوفا من رؤية العذاب ﴿تَرْهَقُهُمْ﴾ وتحيطهم ﴿ذِلَّةٌ﴾ ومهانة ﴿ذلِكَ﴾ اليوم الكثير الأهوال ﴿الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يُوعَدُونَ﴾ بلسان رسولهم ، وهم ينكرون وقوعه ويستهزؤون بالوعد به.

عن الصادق قال : « أكثروا من قراءة ﴿سَأَلَ سائِلٌ﴾ فانّ من أكثر قراءتها لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله ، وأسكنه الجنّة مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ١٣٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٠.

(٢) ثواب الاعمال : ١١٩ ، مجمع البيان ١٠ : ٥٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٢٩.

٣٣٨

في تفسير سورة نوح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * قالَ

 يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ

 ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ

 تَعْلَمُونَ * قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً

 * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ

 وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ

 وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (١) و (٩)

ثمّ لمّا ختمت سورة المعارج المتضمّنة لسؤال العذاب على الكفّار ، وأمر الرسول بالصبر على تكذيب المكذبين ، وبيان قدرته تعالى على إهلاك جميع الخلق ، اردفت بسورة نوح في النّظم المتضمّنة لشكاية نوح من تكذيب المكذّبين تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسؤال نوح العذاب على الكفّار ، ووقوع إهلاك جميع الخلق بالطّوفان ، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصّة بعثة نوح ، وكيفية دعوته وشكايته منهم (١) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً﴾ الذي هو أول اولي العزم من الرسل وشيخهم ، من جزيرة كان يسكنها - واسمه عبد الغفّار على ما قيل (٢) - ﴿إِلى قَوْمِهِ(٣) وهم جميع من في الأرض ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وقلنا له : ﴿أَنْ أَنْذِرْ﴾ وخوّف ﴿قَوْمَكَ﴾ من عذاب الله على الشّرك به وعصيانه ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ﴾ من جانب الله ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ غضبا عليهم.

__________________

(١) في النسخة : عنهم.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧١.

(٣) زاد في النسخة : من.

٣٣٩

قيل : بعث وهو ابن أربعين ، أو ثلثمائة وخمسين ، أو أربعمائة سنة (١) .

فلمّا جاء نوح بأمر الله إلى قومه ﴿قالَ﴾ لهم بلين وشفقة : ﴿يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ﴾ من قبل الله ﴿نَذِيرٌ﴾ ومخوّف من سوء عاقبة الشرك بالله وعصيانه ﴿مُبِينٌ﴾ وموضح لكم ما ارسلت به ببيان يفهمه كلّ أحد وهو ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ بامتثال أوامره ، ولا تشركوا به شيئا ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ واحذروا من مخالفته ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ واسمعوا نصائحي ومواعظي ، فان قبلتم قولي وأجبتم دعوتي ﴿يَغْفِرْ﴾ الله ﴿لَكُمْ﴾ ما سلف ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ ومعاصيكم كلّها ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾ ويكمل عمركم المقدّر ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ووقت معين لموتكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة ولا يهلككم بالعذاب.

﴿إِنَّ أَجَلَ اللهِ﴾ المقدّر لموت كلّ أحد مطيعا كان أو عاصيا ، وإذا حلّ الوقت المعين في اللوح المحفوظ لموت كلّ نفس ﴿إِذا جاءَ﴾ ووصل ﴿لا يُؤَخَّرُ﴾ ولا يغيّر بالزيادة ﴿لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك لسارعتم إلى الايمان والطاعة ، وبادرتم إلى ما أمركم به ، لأنّكم لا تدرون متى يجيء ، فلم يعتن بقوله أحد ، فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد وينصحهم بأبلغ نصح ، فلمّا طالت المدّة وعارضه قومه وآذوه حتى ضاق صدره وانقطعت عنه الحيل ، ناجى ربّه وشكا إليه قومه ، ﴿قالَ رَبِ﴾ إنّك تعلم ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾ إلى توحيدك وطاعتك ﴿لَيْلاً وَنَهاراً﴾ من غير توان وفتور.

قيل : كان يجيء باب البيوت في الليالي فيقرع ويقول لصاحب البيت قل لا إله إلا الله (٢) .

﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي﴾ إلى توحيدك وطاعتك ﴿إِلَّا فِراراً﴾ ممّا دعوتهم إليه ، ونفرة ممّا نصحتهم به ، وامتناعا من قبول دعوتي ﴿وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ﴾ إلى التوحيد والإقرار برسالتي ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ذنوبهم وسيئاتهم ﴿جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ وسدّوا مسامعهم لئلا يسمعوا قولي تنفّرا منه ﴿وَاسْتَغْشَوْا﴾ ولفّوا برؤوسهم ﴿ثِيابَهُمْ﴾ وتغطّوا بها لئلا يروني ولا أراهم ﴿وَأَصَرُّوا﴾ على كفرهم ومعاصيهم ، وأقاموا عليها لجاجا وعنادا ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا عن إقباحي وقبول دعوتي ﴿اسْتِكْباراً﴾ شديدا لا يصرفهم عنه شيء ﴿ثُمَّ إِنِّي﴾ لمّا رأيت أنّ ﴿دَعَوْتُهُمْ﴾ سرا غير مفيدة (٣) لهدايتهم ، دعوتهم وأجهرت في دعوتهم ﴿جِهاراً﴾ بليغا ، واظهرت دعائي إلى الايمان إظهارا شديدا ﴿ثُمَّ إِنِّي﴾ رأيت أنّ الإجهار وحده لا يؤثّر فيهم ﴿أَعْلَنْتُ﴾ دعوتي ﴿لَهُمْ﴾ في مجامعهم ومجالسهم ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ﴾ الدعوة في أبواب بيوتهم وفي خلواتهم ﴿إِسْراراً﴾ وأخفيتها إخفاء.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧١ ، وفيه : أربعمائة وثمانين.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٧٤.

(٣) في النسخة : مفيد.

٣٤٠