نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

زمان يقع هذا الحشر الذي تخبروننا بوقوعه ؟ أخبرونا بوقت وقوعه ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ في هذا الإخبار والوعد ﴿صادِقِينَ﴾ وبوقوعه عالمين.

﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ

 الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٦) و (٢٧)

ثمّ أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بجوابهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد : ليس لي بوقت وقوعه علم ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ﴾ بوقته ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ فقط مكتوم عن غيره ، لاقتضاء حكمته البالغة ذلك ﴿وَإِنَّما أَنَا﴾ من قبل الله ﴿نَذِيرٌ﴾ ومخوّف للناس بالإخبار بأصل وقوعه ﴿مُبِينٌ﴾ ومظهر لهم ببيان واضح يعرفه كلّ أحد ، لتتم الحجّة عليهم ، والعلم بالوقوع لا يستلزم العلم بوقت الوقوع ، والإخبار بالأول عن علم من قبل الله كاف في الانذار.

ثمّ هدّدهم سبحانه ببعض أهوال ذلك اليوم بقوله : ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً﴾ وقريبا منهم أو معاينة ﴿سِيئَتْ﴾ وقبحت ، أو اسودّت ﴿وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأنكروا وقوعه ، وعن ابن عباس : يكون عليها الكابة والقتر (١)﴿وَقِيلَ﴾ لهم من قبل الله بلسان الزبانية ، أو القائل بعضهم لبعض : ﴿هذَا﴾ اليوم الذي ترونه هو ذلك اليوم ﴿الَّذِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهِ تَدَّعُونَ﴾ وتطلبون وتستعجلون ، أو تدّعون بطلانه أو امتناعه ، وإنّه لا يأتي أبدا. قيل : إنّه استفهام انكاري ، والمعنى : أهذا الذي تدّعونه ، لا بل تدّعون عدمه (٢) وامتناع وقوعه.

وقيل : إنّ الآية تهديد لهم بالعذاب الدنيوي ، والمعني : فلمّا رأوا عذاب الاستئصال زلفة وقريبا منهم.

عن القمي رحمه‌الله قال : إذا كان يوم القيامة نظر أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام إليه وإلى ما أعطاه الله من الكرامة والمنزلة الشريفة العظيمة ، وبيده لواء الحمد ، وهو على الحوض يسقي ويمنع ، تسودّ وجوه أعدائه ، فيقال لهم : ﴿هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ منزلته وموضعه واسمه (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه الذين عملوا ما عملوا ، يرون أمير المؤمنين عليه‌السلام في أغبط الأماكن لهم ، فتسيء وجوههم ، ويقال لهم : ﴿هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ الذي انتحلتم اسمه » (٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٥.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٥.

(٤) الكافي ١ : ٣٥٢ / ٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٥.

٣٠١

وعنه عليه‌السلام : « فلمّا رأوا مكان علي عليه‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سيئت وجوه الذين كفروا » يعني الذين كذبوا بفضله » (١) .

وعن الأعمش قال : لمّا رأوا ما لعليّ عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا (٢) .

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ

 عَذابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي

 ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٨) و (٢٩)

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون : ننتظر موت محمد ونستريح منه ، وكانوا يدعون عليه بالهلاك على ما روي (٣) ، أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين الذين ينتظرون هلاكك: أيّها المشركون ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ﴾ بدعائكم عليّ ﴿وَ﴾ أهلك ﴿مَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين ، وأخرجنا من الدنيا بالموت أو القتل ، أو بعذاب من عنده على الفرض ﴿أَوْ رَحِمَنا﴾ وأطال أعمارنا ، فأيّ راحة لكم في ذلك ، وأيّ نفع يعود بموتنا إليكم ؟ ثمّ إن متنا أو بقينا ﴿فَمَنْ يُجِيرُ﴾ كم وأنتم من ﴿الْكافِرِينَ﴾ بتوحيده ﴿مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ﴾ أعدّ لكم ؟ إذا نزل بكم أتظنّون أنّ الأصنام والأوثان تجيركم منه ؟ ! حاشا وكلّا ﴿قُلْ﴾ يا محمد : إنّ مجير الخلق ﴿هُوَ الرَّحْمنُ﴾ والإله الواسع الرحمة وحده ، لا الأصنام ولا الأوثان ولا غيرهما من الموجودات ، ولذا نحن ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ وأنتم لجهلكم كفرتم به ﴿وَ﴾ نحن ﴿عَلَيْهِ﴾ وحده ﴿تَوَكَّلْنا﴾ واعتمدنا في امورنا ، وفوّضنا مهمّاتنا إليه لعلمنا بأنّه القادر الرؤف الضارّ النافع ، وغيره بمعزل عن التصرّف في الامور ، وأنتم لحمقكم توكّلتم على أصنامكم وأموالكم وأعوانكم ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ وعن قريب عند معاينة الشدائد والعذاب تفهمون ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وانحراف واضح عن طريق الحقّ وخطأ ظاهر ، نحن أو أنتم ؟

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعذاب الأليم ، ونفي مجير لهم إلّا الله ، هدّدهم ببلاء فقدان الماء الذي هو أهمّ ما يحتاجون إليه ، وأعظم ما يعيشون به ، وأسهل ما ينالون منه ، ونفي القادر على إيجاده غير الله بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين : إن ظننتم أنّ أصنامكم ينفعونكم ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٩٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٥.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٩٤ ، شواهد التنزيل ٢ : ٢٦٥ / ٩٩٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٦.

٣٠٢

﴿إِنْ أَصْبَحَ﴾ وصار ﴿ماؤُكُمْ﴾ الذي تنالون منه بسهولة من آباركم ﴿غَوْراً﴾ ونازلا في الأرض بالكلية بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع من الحيل ﴿فَمَنْ﴾ يقدر على أن ﴿يَأْتِيكُمْ﴾ على ضعفكم حينئذ ﴿بِماءٍ مَعِينٍ﴾ جار على وجه الأرض تنتفعون به بسهولة ، ءأصنامكم تأتيكم به ، أم الرحمن ؟ قيل : تخصيص الماء بالذكر لكونه أهون موجود وأعزّ مفقود (١) .

قيل : إنّ الكفار لما قالوا نتربّص به ريب المنون ، أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يجيبهم بقوله : ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين ، فأيّ نفع لكم فيه ، وأنتم تستحقّون عذابه ، ومن يجيركم من عذابه (٢) .

ثمّ أمره بأن يجيبهم بأنّ الله هو الرحمن لا يقبل دعاءكم وأنتم أهل الكفر والعناد في حقّنا ، مع أنّا آمنا به وعليه توكّلنا.

ثمّ لمّا ذكر أنّ توكّله عليه أمره بإقامة الدليل على أنّه يجب التوكّل عليه بقوله : ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ...﴾ إلى آخره ، والمقصود إقرارهم ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر ، حيث إنّهم إن قالوا : هو الله ، فيقال لهم : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية؟

عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ماؤكم أبوابكم (٣) الأئمّة ، الأئمّة أبواب الله ، فمن يأتيكم بماء معين ؟ أي من يأتيكم بعلم إمام ؟ » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « نزلت في الامام القائم ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو ، فمن يأتيكم بامام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض وحلال الله وحرامه ؟ » ثمّ قال : « والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها » (٥) .

في الحديث : « سورة في كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية ، شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك » (٦) .

وفي حديث آخر : « وددت أنّ ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ في قلب كلّ مؤمن » وكان لا ينام صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يقرأ سورة الملك وألم تنزيل السجدة (٧) .

وقال علي عليه‌السلام : « من قرأها يجيء يوم القيامة على أجنحة الملائكة ، وله وجه في الحسن كوجه يوسف » (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٩٧ و٩٨.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٦.

(٣) في النسخة : أبواكم.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٧٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٥.

(٥) كمال الدين : ٣٢٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٦.

(٦-٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٩٨.

٣٠٣

وعن ابن عباس : ضرب بعض الصحابة خيامه على قبر ، وهو لا يشعر أنّه قبر ، فاذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، ضربت خيامي على قبر ولا أعلم أنّه قبر ، فاذا إنسان يقرأ سورة الملك. فقال : « هي المانعة من عذاب الله ، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر » وكانوا يسمّونها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنجية ، وكانت تسمّى في التوراة المانعة ، وفي الانجيل الواقية (١) .

عن ابن مسعود : أنّه يؤتى الرجل في قبره من قبل رأسه فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، إنّه كان يقرأ على رأسه سورة الملك ، فيؤتى من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، إنه كان يقوم فيقرا سورة الملك ، فيؤتى من قبل جوفه فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، إنّه وعى سورة الملك ، أي حفظها(٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ في المكتوبة قبل أن ينام ، لم يزل في أمان الله حتى يصبح ، وفي أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة » (٣) .

قد تمّ تفسير لسورة المباركة بمنّ الله وتوفيقه.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٩٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٩٨.

(٣) ثواب الأعمال : ١١٩ ، مجمع البيان ١٠ : ٤٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٦.

٣٠٤

في تفسير سورة القلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الملك بذكر جواب اعتراضات المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجواب دعائهم عليه بالهلاك ، وتهديدهم بقوله : ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(١) ، اردفت في النّظم بسورة القلم المبتدئة بردّ المشركين في نسبتهم الجنون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيان أنّهم يبصرون بأيّكم المفتون والابتلاء بالجنون ، وأنّ الله عالم بضلالتهم وهداية نبيّه وتسليته صلى‌الله‌عليه‌وآله في سوء مقالات المشركين وتهديدهم بالعذاب ، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ خاطب سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿ن﴾ فانّه على قول بعض مفسري العامة اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة أسماء : خمسة في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن ، فأمّا التي في القرآن : محمد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ون » (٣) .

تحقيق في الجمع بين الروايات

أقول : لعلّ المراد من ﴿ن﴾ أنّه مفتاح ناصر دين الله ، ونعمة الله العظمى ، والنور المطلق الذي هو أصله وحقيقته وأوّل ما خلق حيث قال : « أوّل ما خلق الله نوري وهو أصل كلّ شيء من الرّوحانيات والجسمانيات التي كلّها كلمات الله ، ومنه النهر الذي في الجنّة ، وهو مادة جميع ما خلق الله في عالم الأشباح والصور كالمداد الذي يكتب به ، ويكون مادة جميع صور الحروف والخطوط ، ولذا فسّر النور بالمداد والدواة ، فلا منافاة بين ما ذكر من أنّه اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين ما روي عن الصادق عليه‌السلام من أنه قال : وأمّا ﴿ن﴾ فهو نهر في الجنّة ، قال الله عزوجل له : اجمد فجمد ، فصار مدادا ، ثمّ قال للقلم : اكتب فسطّر العلم في اللّوح المحفوظ ما

__________________

(١) الملك : ٦٧ / ٢٩.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠٠.

(٣) الخصال : ٤٢٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٨.

٣٠٥

كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فالمداد مداد من نور ، والقلم قلم من نور ، واللّوح لوح من نور » .

قال سفيان : فقلت له : يابن رسول [ الله ] بيّن لي أمر اللّوح والقلم والمداد فضل بيان ، وعلّمني ممّا علّمك الله. فقال : « يابن سعيد ، لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك ، فنون ملك يؤدّي إلى القلم ، والقلم ملك يؤدّي إلى اللّوح ، واللّوح ملك يؤدّي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدّي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدّي إلى الأنبياء والرّسل عليهم‌السلام » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « وأمّا ﴿ن﴾ فكان نهرا في الجنّة أشدّ بياضا من الثّلج وأحلى من العسل ... » (٢) الخبر.

أقول : ويمكن أن يؤوّل إلى ما ذكرنا قول من قال إنّه آخر كلمة ( الرحمن ) كما أنّه لا ينافي كونه اسما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أسماء الله كما عليه بعض ، ثمّ أكد سبحانه المخبر بالقسم على عادة الخلق بقوله تعالى : ﴿وَالْقَلَمِ﴾ وهو مطلق ما يكتب به على قول ، والحلف به لشرافته بسبب كثرة فوائده ، كما قال سبحانه : ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ والقلم الخاصّ الذي قال ابن عباس : أوّل ما خلق الله القلم ، ثمّ قال له : اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض (٣) .

أقول : يمكن أن يكون المراد من الكتابة إيجاد صور الموجودات في عالم الملكوت من أصل واحد ، وهو نور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبملاحظة اتحاده مع نور علي عليه‌السلام.

روى بعض العامة أنّ عليا عليه‌السلام قال على رؤوس الأشهاد : « أنا نقطة باء بسم الله ، أنا جنب الله الذي فرطتم فيه ، أنا القلم ، أنا اللّوح المحفوظ ، وأنا العرش ، وأنا الكرسيّ ، وأنا السماوات السبع والأرضون » (٤) .

ثمّ ثنّى سبحانه القسم مبالغة في التأكيد بقوله : ﴿وَما يَسْطُرُونَ﴾ ويكتبون أهل القلم من الملائكة السماوية والأرضية في كلّ كتاب ولوح ، أو القلم الخاص في اللّوح المحفوظ ، وإتيان صيغة الجمع للتعظيم.

﴿ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿ما أَنْتَ﴾ يا حبيبي محمد ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ وبسبب عقلك الكامل ورسالتك العامة التي أعطاكها إلهك اللطيف بك ، أو بدلالة عقلك الكامل وسيرتك المرضية

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٧.

(٢) علل الشرائع : ٤٠٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٧.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٨.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠٣.

٣٠٦

وبراءتك من كلّ عيب واتّصافك بكلّ مكرمة ﴿بِمَجْنُونٍ﴾ لوضوح منافاة هذه الصفات الكمالية لهذه النسبة الشنيعة.

عن ابن عباس رضوان الله عليه : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته فلم تجده ، فاذا به ووجهه متغيّر بلا غبار ، فقالت له : مالك ؟ فذكر نزول جبرئيل عليه ، وأنّه قال له : ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ(١) وهو أوّل ما نزل من القرآن. قال : « ثمّ نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضّأ وتوضّأت ، ثمّ صلّى وصلّيت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد » فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمّها ، وكان قد خالف قريش في الدين ، ودخل في دين النصرانية ، فسألته فقال : ارسلي إليّ محمدا فأرسلته ، فلمّا أتاه قال : هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا ؟ قال : « لا » فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ثمّ مات قبل دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش ، فقالوا : إنّه مجنون ، فاقسم الله على أنّه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة (٢) .

﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٣) و (٤)

ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ يا محمد بإزاء صبرك على أذى قومك وتحمّلك أعباء الرسالة ﴿لَأَجْراً﴾ عظيما وثوابا جسيما ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ومنقوص ، وعطاء غير مجذوذ ومقطوع. وقيل : يعني بغير واسطة يمنّ عليك بإيصاله إليك ، أو بغير أن يتكدّر عليك بسبب المنّة لأنّه ممّا تستحقّه بعملك ، وليس من التفضّل الابتدائي (٣) .

في بيان خلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

﴿وَإِنَّكَ﴾ بنعمة ربّك وتفضّله عليك ﴿لَعَلى خُلُقٍ﴾ ودين ﴿عَظِيمٍ﴾ الشأن عند الله ، وهو الاسلام. عن الباقر عليه‌السلام : « يقول : على دين عظيم » وفي رواية : « هو الاسلام » (٤) فانّ فيه جميع مكارم الأخلاق ، والتنزّه عن كلّ مساوئها بحيث لا يدانيه دين وأنت ملتزم به مسؤول عليه ، لا يفوتك شيء منه ، ولذا فقت سائر الأنبياء والرسل في الكمال والمعارف وحسن الأخلاق والأعمال.

روي أنّه قيل لعائشة : أخبريني عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قالت : أ لست تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم. قالت : فإنّه كان خلق رسول الله. وسئلت مرّة اخرى فقالت : كان خلقه القرآن. ثمّ قرأت : ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى عشر آيات (٥) .

__________________

(١) العلق : ٩٦ / ١.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٩.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠٥.

(٤) معاني الأخبار : ١٨٨ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٨.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٨١ ، والآية من سورة المؤمنون : ٢٣ / ١.

٣٠٧

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل أدّب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأحسن تأديبه ، فلمّا أكمل له الأدب قال : ﴿إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ » (١) .

عن ( البصائر ) مقطوعا : « أنّ الله أدّب نبيّه فأحسن تأديبه ، فقال : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ(٢) فلمّا كان ذلك ، أنزل الله تعالى : ﴿إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾» (٣).

وعن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلّا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لبيك » (٤) .

وعن أنس قال : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر سنين ، فما قال لي في شيء فعلته : لم فعلت ، ولا في شيء لم أفعله : هلّا فعلت (٥) !

وقيل : إنّه لم ينحرف عن بلاء ، ولم ينصرف عن عطاء (٦) .

وقيل : كيف لا يكون خلقه عظيما وقد تجلّى الله فيه بأنوار أخلاقه (٧) .

﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ

 وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٥) و (٩)

ثمّ لمّا وعد سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الأجر ، ومدحه بأكرم الأخلاق ، ذمّ معانديه ومكذّبيه بقوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ يا محمد ، وعن قريب ترى ﴿وَ﴾ المشركون ﴿يُبْصِرُونَ﴾ في الدنيا كما قيل ، أو في الآخرة (٨) حين نزول العذاب عليهم ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ وابتلاء بالجنون ، أبك وبفرق المؤمنين ، أم بفرق الكافرين والمكذّبين ؟ فانّ المجنون هو الذي هام في تيه الضّلال ، وابتلى نفسه بالعذاب والنّكال ، ومن الواضح ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِمَنْ ضَلَ﴾ وانحرف ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ المؤدّي إلى سعادة الدارين ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ إلى سبيله الناجين من كلّ هلكة وعذاب ، الفائزين بكلّ خير وصواب.

فاذا تبيّن أنّ أعداءك في ضلال ﴿فَلا تُطِعِ﴾ يا محمد ، ولا تجب ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ في سؤالهم منك الإعراض عن الدين الحقّ ، والدخول في دين آبائك المشركين باعتقادهم وزعمهم ، ودم على ما أنت عليه من التوحيد وعبادة الله ، وتشدّد عليهم مع قلّة أنصارك وأصحابك ، وإن عارضوك بأجمعهم مع

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٠٨ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٨.

(٢) الأعراف : ٧ / ١٩٩.

(٣) بصائر الدرجات : ٣٩٨ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٨.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٨١.

(٦و٧) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠٧.

(٨) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٢.

٣٠٨

كثرتهم أشدّ المعارضة ، فإنّا ناصروك وخاذلوا أعدائك قيل : إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل (١) .

إنّهم ﴿وَدُّوا﴾ وأحبّوا ﴿لَوْ تُدْهِنُ﴾ هؤلاء الكفرة وتلين معهم ، وتصانعهم (٢) بأن تترك بعض ما أنت عليه من سبّ آلهتهم والنهي عن عبادتها ﴿فَيُدْهِنُونَ﴾ ويصانعوك (٣) بأن لا يذمّون دينك ويلاينون في مكالمتك.

﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *

 عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ

 الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٠) و (١٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن موافقة آراء رؤساء المشركين ، نهاه عن اتّباع رأي بعضهم المذموم بأقبح الذمائم بقوله : ﴿وَلا تُطِعْ﴾ ولا تتّبع ﴿كُلَّ حَلَّافٍ﴾ وكثير اليمين في الحقّ والباطل وفي الكذب ﴿مَهِينٍ﴾ وحقير بين الناس لكثرة كذبه وحلقه عليه ، فانّ من حقر الله بعصيانه وكثرة الحلف به ، حقّره الله في الدنيا والآخرة ﴿هَمَّازٍ﴾ وعيّاب للناس ، طعّان عليهم ، أو كثير الذكر لهم بما يكرهونه ﴿مَشَّاءٍ﴾ بينهم ﴿بِنَمِيمٍ﴾ وكثير السعي في السّعاية ، نقّال للحديث من أحد إلى أحد للافساد بينهما ، وفي الحديث : « لا يدخل الجنّة نمّام » (٤) .

﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ وبخيل لا مال ، أو كثير المنع للناس من الإيمان وطاعة الله والإنفاق ﴿مُعْتَدٍ﴾ وظالم للناس ، أو متجاوز عن الحدّ في سوء الأعمال والأخلاق ﴿أَثِيمٍ﴾ وكثير الإقدام في العصيان ﴿عُتُلٍ﴾ وغليظ القلب والطبع وعن ابن عباس رضوان الله عليه : قويّ ضخيم (٥) .

وقيل : واسع البطن (٦) وثيق الخلق (٧) وقيل : الفاحش الخلق اللئيم النفس (٨) . وقيل : الأكول [ أو ] الحافي الغليظ (٩) .

﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ المذكور من القبائح ﴿زَنِيمٍ﴾ وملحق بقوم في النسب وليس منهم ، وهو أقبح القبائح في العرب. وقيل : هو المعروف بالشرّ كما يعرف الشاة بالزّنمة ، وهي ما يقطع من اذنها فيدلّى (١٠) منها. وقيل : إنّه ولد الزنا (١١) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٣.

(٢) في النسخة : وتصابقهم.

(٣) في النسخة : ويصابقونك.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١١١.

(٥و٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٤ ، وفيه : قويّ ضخم.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٤ ، وفي النسخة : وبنو الحلقوم.

(٨و٩) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٤.

(١٠) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٤ و٨٥.

(١١) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١١٢.

٣٠٩

قيل : لم يعلم أنّ الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر للوليد بن المغيرة من العيوب ، وكان الوليد دعيّا في قريش وليس من نسبهم (١) . قيل : ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده(٢) .

قيل : نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة ، فلمّا تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الآيات في مجمع قريش وفيهم الوليد ، وجد الوليد جميع العيوب في نفسه إلّا الولادة من زنا ، وقال في نفسه : أنا سيد قريش ، وأبي كان معروفا ، وأعلم أن محمدا لا يكذب فأخذ بسيفه وجاء إلى امّه ، وقال لها : ما قصّة ولادتي ؟ فلمّا أبلغ في تهديدها قالت : كان أبوك غير راغب في النساء ، وكان له بنو أخيه ينتظرون موته ، ويطمعون في ميراثه ، فثقل عليّ ذلك ، فاستأجرت عبدا فراودته عن نفسي ، فاحتبلت منه فولدتك (٣) .

وعن علي عليه‌السلام : « الزنيم : هو الذي لا أصل له » (٤) . وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله تعالى : ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ﴾ فقال : « العتلّ عظيم الكفر ، والزنيم : المستهتر بكفره » (٥) .

وعن ( المجمع ) أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن العتلّ الزّنيم فقال : « هو الشديد الخلق ، الشحيح (٦) ، الأكول الشروب ، الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس ، الرّحب الحلقوم » (٧) .

وعنه عليه‌السلام قال : « لا يدخل الجنّة جوّاظ ولا جعظري ولا عتلّ زنيم » قيل : فما الجوّاظ ؟ قال : « كلّ جمّاع منّاع » قيل : فما الجعظري ؟ قال : « الفظّ الغليظ » قيل : فما العتلّ الزّنيم ؟ قال : « رحب الجوف ، سيء الخلق ، أكول شروب ، غشوم ظلوم » (٨) .

وعن القمي ، قال : الحلّاف : الثاني ، حلف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا ينكث عهده ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ قال : كان ينمّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويهمز بين أصحابه ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ قال : الخير أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿مُعْتَدٍ﴾ قال : اعتدى عليه ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ﴾ قال : العتلّ : العظيم الكفر ، والزنيم : الدّعيّ (٩) .

قيل : كان للوليد عشرة بنين وأموال كثيرة ، كان له بستان بالطائف ، وتسعة آلاف مثقال من فضّة (١٠) ، فلامه سبحانه بقوله تبارك وتعالى : ﴿أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ﴾ قيل : إنّ التقدير كفر بالله لأجل أن كان ذا مال وبنين (١١) ، مع أنّ حقّه الشّكر وليس الكفر والعصيان جزاء نعمه وقيل : إنّ المعنى لا تطع من كان له هذه المطاعن والمثالب ، لأجل أن كان ذامال وبنين (١٢) ، ومن كفره أنه ﴿إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا﴾ القرآنية

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١١٢.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٢.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٥٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٠.

(٥) معاني الأخبار : ١٤٩ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٩.

(٦) في النسخة : المفتحج ، وفي تفسير الصافي : المصحاح.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٥٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٩ ، وفي المصدر : الرحيب الجوف ، وفي الصافي : الجوف.

(٨) مجمع البيان ١٠ : ٥٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٠.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٣٨٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٠. 

(١٠) تفسير روح البيان ١٠ : ١١١.

(١١و١٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٥.

٣١٠

﴿قالَ﴾ تكذيبا لها : هذا المتلوّ علينا ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وقصص ملفّقة من السابقين كقصة رستم وإسفنديار.

ثمّ هدّده سبحانه بقوله : ﴿سَنَسِمُهُ﴾ وعن قريب نعلّمه بعلامة قبيحة ﴿عَلَى﴾ أنفه الذي هو مثل ﴿الْخُرْطُومِ﴾ للفيل والخنزير. عن ابن عباس ، قال : سنخطمه بالسيف ، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش (١) ، روي أنّه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال (٢) . وقيل : إنّه لم يعش إلى يوم بدر (٣) ، والمراد سنشهره بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم ، كما يقال لمن تسبّه مسبّة قبيحة باقية : سنسمه ميسم سوء ، والمراد أنّه الحق به عارا لا يفارقه (٤) .

وقيل : يعني سنعلّمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يعلم بها من سائر الكفرة بأن تسوّد وجهه غاية التسويد ، إذ كان في عداوة الرسول بالغا أقصى المراتب ، فيكون الخرطوم كناية عن وجهه على طريق ذكر الجزء وإرادة الكلّ (٥) .

﴿إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ * وَلا

 يَسْتَثْنُونَ * فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ

 * فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا

 وَهُمْ يَتَخافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ

 قادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قالَ أَوْسَطُهُمْ

 أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (١٧) و (٢٨)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الغرور بالمال والأولاد صار سبب طغيان هذا الظالم الكافر ، بيّن أنّه تعالى أنعم بهذه النّعم عليه لابتلائه واختباره ، أنّه يشكر أم يكفر ، بقوله : ﴿إِنَّا بَلَوْناهُمْ﴾ واختبرناهم بإعطائهم المال والبنين ﴿كَما بَلَوْنا﴾ واختبرنا ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾ وقيل : إنّ المعنى إنّا كلّفناهم بالشّكر على نعمنا كما كلّفنا أصحاب الجنّة التي كانت ذات ثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم (٦) فكفروا.

في قضية أصحاب الجنّة

روي أنّ رجلا من ثقيف كان مسلما ، وكان له ضيعة بقرب صنعاء على فرسخين منها - وقيل : على فراسخ (٧) - فيها نخل وزرع ، وكان يجعل عند الحصاد من كلّ ما فيها نصيبا وافرا

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٦.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٣.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٧.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٤.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٧.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٤.

٣١١

للفقراء ، فلمّا مات ورثها بنوه ، ثمّ قالوا : عيالنا كثير والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان أبونا يعطي (١) .

وقيل : كانت الضيعة باليمن ، وكان أصحاب الجنّة بخلاء ، وكان أبوهم يأخذ منها قوت سنة ويتصدّق بالباقي ، وكان ينادي الفقراء وقت الصّرام ، ويترك لهم ما أخطأه المنجل ، وما في أسفل الأكداس ، وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخل إذا اصرمت ، وكان ذلك بعد رفع عيسى عليه‌السلام بقليل ، وكان يبقى لهم مع ذلك شيء كثير ، ويتزوّدون به أياما كثيرة ، فلمّا مات أبوهم قال بنوه : إن فعلنا ما كان أبونا يفعل ضاق الأمر علينا ونحن اولو عيال (٢) .

وعلى كلّ تقدير كان وقت ابتلائهم ﴿إِذْ أَقْسَمُوا﴾ وحين حلفوا ﴿لَيَصْرِمُنَّها﴾ ويقطعنّ ثمر نخلهم وأعنابهم وزروعهم وقت كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾ ودخولهم في الصباح وظلمة الليل باقية وقبل اطّلاع الفقراء على جمعهم الثمار ﴿وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾ ولا يقولون إن شاء الله على دأب أهل الايمان ﴿فَطافَ﴾ على الجنّة ونزل ﴿عَلَيْها﴾ في الليل ﴿طائِفٌ﴾ وبلاء محيط بثمارها ﴿مِنْ﴾ جانب ﴿رَبِّكَ﴾ بحيث لم يبق من الثمار شيء ﴿وَهُمْ﴾ في بيوتهم ﴿نائِمُونَ﴾ وغافلون عمّا نزل بهم وبثمارهم ﴿فَأَصْبَحَتْ﴾ الجنّه وصارت بنزول البلاء والنار فيها ﴿كَالصَّرِيمِ﴾ ومثل الجنة التي قطعت واقتطفت ثمارها بالكلّ. وقيل : يعني صارت سوداء كالليل لاحتراقها بالنار (٣) .

﴿فَتَنادَوْا﴾ وصاح بعضهم ببعض لمّا قاموا من النوم وصاروا ﴿مُصْبِحِينَ﴾ وداخلين في الصباح على حسب تواعدهم وقالوا : ﴿أَنِ اغْدُوا﴾ يا إخواننا واخرجوا في أول الصبح وأقبلوا ﴿عَلى حَرْثِكُمْ﴾ واقتطاف ثمار ضيعتكم وجنّتكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ﴾ وعازمين على قطعها وجمعها ﴿فَانْطَلَقُوا﴾ وذهبوا إلى حرثهم ﴿وَهُمْ يَتَخافَتُونَ﴾ ويقولون بطريق السرّ لئلّا يسمع المساكين قولهم ﴿أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ﴾ الذي هو يوم جمع الثمار ﴿عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ واحد فضلا عن الكثير ﴿وَغَدَوْا﴾ ومشوا بكرة ﴿عَلى﴾ حال ﴿حَرْدٍ﴾ ومنع شديد عن الفقراء ثمار جنّتهم حال كونهم ﴿قادِرِينَ﴾ على نفعهم بزعمهم ، أو على اجتناء ثمار الجنّة بحسبانهم.

﴿فَلَمَّا﴾ دخلوا الجنة و﴿رَأَوْها﴾ محترقة مسودّة لا ثمار فيها أقبل بعضهم على بعض ﴿قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ ومنحرفون عن طريق جنّتنا ودخلنا غيرها فلما تأملوها ووقفوا على خصوصيات الجنة وعلائمها قالوا ما نحن بضالين ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ عن نفعها ممنوعون عن ثمارها ببخلنا وسوء

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٧.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٨.

٣١٢

قصدنا وإرادة حرمان المساكين من خير جنّتنا ، فعجّل الله في حرماننا من ثمارنا ﴿قالَ﴾ أحدهم الذي هو ﴿أَوْسَطُهُمْ﴾ وأصوبهم رأيا ، وأفضلهم عقلا ، وأكملهم دينا ، وأوسطهم سنا ، وأكملهم عقلا بطريق التوبيخ ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا إخواني حين عزمتم على منع المساكين : ﴿لَوْ لا تُسَبِّحُونَ﴾ الله ، وهلّا تنزّهونه عن الخلف في وعده بأنّه يرزق عباده ، وعن الكذب في إخباره بالرزق بيده يبسط لمن يشاء ويقدر ، وليس الرزق بتدبير الخلق ؟

﴿قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قالُوا

 يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ * عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا

 راغِبُونَ (٢٩) و (٣٢)

فلمّا قال الأوسط ذلك تنبّه إخوانه واعترفوا بذنبهم و ﴿قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا﴾ وتنزّه خالقنا عن كلّ سوء ونقص وكذب وخلف ، سيما عن الظّلم علينا بإحراق جنّتنا ، بل ﴿إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ﴾ على أنفسنا بسوء قصدنا وإرادة منع حقوق المساكين وحرمانهم بخلا وشحّا ، إذن نتوب إلى الله ونستغفره من سوء قصدنا وصنيعنا ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ وهم ﴿يَتَلاوَمُونَ﴾ ويوبّخون كلّ منهم الآخرين على ما فعلوا ، و ﴿قالُوا﴾ اعترافا بذنبهم وتندّما وتحسّرا : ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا أسفنا ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ قبل اليوم ﴿طاغِينَ﴾ على الله ومتجاوزين عن الحدّ الذي حدّه ربّنا بمنع المساكين عن حقوقهم في أموالنا ، ثمّ إنّهم بعد التّوبة والإقبال على الله أظهروا الرجاء برحمته بقولهم : ﴿عَسى رَبُّنا﴾ ويرجى منه ﴿أَنْ يُبْدِلَنا﴾ ويعوّضنا عن الجنة المحترقة ﴿خَيْراً﴾ وأنفع ﴿مِنْها﴾ ببركة إقبالنا إليه وتوبتنا من ذنبنا ﴿إِنَّا﴾ متوجّهون ﴿إِلى رَبِّنا﴾ بقلوبنا ﴿راغِبُونَ﴾ وطالبون عفوه وخيره.

روي أنّهم تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها ، لنصنعنّ كما صنع أبونا ، فدعوا الله وتضرّعوا إليه ، فأبدلهم الله من لينتهم ما هو خير منها (١) .

قيل : إنّ الله تعالى أوحى إلى جبرئيل أن يقلع تلك الجنّة المحترقة فيضعها في براري الشام ، ويأخذ من الشام جنّة فيجعلها مكانها (٢) .

عن ابن مسعود : أنّ القوم لمّا أخلصوا وعرف الله منهم الصدق ، أبدلهم جنّة يقال لها الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل عنقودا (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية : ﴿إِذْ أَقْسَمُوا

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١١٧.

٣١٣

لَيَصْرِمُنَّها﴾ إلى قوله ﴿وَهُمْ نائِمُونَ(١)

وعن القمي ، عن ابن عباس ، أنّه قيل له : إنّ قوما من هذه الامّة يزعمون أنّ العبد قد يذنب الذنب فيحرم به الرزق. فقال ابن عباس : فو الله الذي لا إله إلّا هو ، لهذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ، ذكر الله في سورة ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ أنّ شيخا كانت له جنّة ، وكان لا يدخل بيته ثمرة ولا إلى منزلة حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، فلمّا قبض الشيخ ورثه بنوه ، وكان له خمس من البنين ، فحملت جنّته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم تكن حملت قبل ذلك ، فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر ، فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم ، فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا ، وقال بعضهم لبعض : إنّ أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف ، فهلّموا فلنتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا حتى نستغني وتكثر أموالنا ، ثمّ نستأنف الضيعة فيما نستقبل من السنين المقبلة ، فرضي بذلك أربعة وسخط الخامس ، وهو الذي قال الله تعالى : ﴿قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ﴾.

فقيل : يابن عباس ، كان أوسطهم في السنّ ! فقال : لا ، بل كان أصغرهم سنا وأكبرهم عقلا ، وأوسط القوم خير القوم ، قال الله تعالى : ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً(٢) .

فقال لهم أوسطهم ، اتّقوا الله ، وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا ، فبطشوا به وضربوه ضربا مبرّحا ، فلمّا أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع ، فراحوا إلى منازلهم. ثمّ حلفوا بالله : أن يصرموها إذا أصبحوا ، ولم يقولوا إن شاء الله ، فابتلاهم الله بذلك الذنب ، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه ، فأخبر عنهم في الكتاب وقال : ﴿إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ* وَلا يَسْتَثْنُونَ* فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ قال : كالمحترق.

فقيل لابن عباس : ما الصريم ؟ قال : الليل المظلم ، ثمّ قال : لا ضوء به ولا نور.

فلمّا أصبح القوم تنادوا مصبحين ﴿أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ﴾ قال : ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ﴾.

قيل : وما التخافت يابن عباس ؟ قال : يتسارّون ، يسارّ بعضهم بعضا لئلّا يسمع أحد غيرهم فقالوا : ﴿لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ* وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ﴾ وفي أنفسهم أن يصرموها ، ولا يعلمون ما حلّ بهم من سطوات الله ونقمته ﴿فَلَمَّا رَأَوْها﴾ وعاينوا ما حلّ بهم ﴿قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٠٨ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٢.

(٢) البقرة : ٢ / ١٤٣.

٣١٤

* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ حرمهم الله ذل الرزق بذنب كان منهم ولم يظلمهم شيئا (١) .

﴿كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ

 رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٣) و (٣٥)

ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الكفّار بقوله : ﴿كَذلِكَ الْعَذابُ﴾ الذي نزل على أصحاب الجنّة العذاب الدنيوي الذي ينزل على كلّ من عصى ربّه بحبس حقوق الفقراء وغيره ، كحبس المطر ، وإنزال الآفات على الزروع ، ورفع البركة عنها ، وإشاعة الأمراض ، وسلب الأمنية وغيرها ﴿وَ﴾ والله ﴿لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ وأعظم وأشدّ من عذاب الدنيا ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ عظمه لاحترزوا عن العصيان الموجب له.

ثمّ لمّا وعد سبحانه الكفّار عذاب الآخرة ، وعد المؤمنين المتّقين نعمها بقوله : ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ في الآخرة مذخور ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللطيف بهم ﴿جَنَّاتِ﴾ عديدة ذوات ﴿النَّعِيمِ﴾ الخالصة عن شوب ما ينقصها.

ثمّ قيل : لمّا نزلت الآية قال الكفّار للمسلمين : إنّ الله فضّلنا عليكم في الدنيا بالنّعم الدنيوية ، فلابدّ أن يفضلّنا عليكم في الآخرة ، فان لم يكن التفضيل فلابدّ من التساوي ، فنزل ردّا عليهم (٢) : ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ في الآخرة ﴿كَالْمُجْرِمِينَ﴾ والكفّار العصاة ، ومساوين لهم في الإنعام والإكرام ؟ ! حاشا وكلّا.

﴿ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما

 تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ *

 سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا

 صادِقِينَ (٣٦) و (٤١)

ثمّ بالغ سبحانه في تشديد الإنكار عليهم بتلوين الخطاب بقوله : ﴿ما لَكُمْ﴾ أيّها الحمقاء ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم المستحيل وقوعه ، المستعجب صدوره من عاقل ؟ ! لاستلزامه الظّلم على المسلمين من الله الحكيم الغني على الاطلاق ﴿أَمْ لَكُمْ﴾ أيّها الكفرة ﴿كِتابٌ﴾ نازل عليكم من السماء من جانب الله أنتم ﴿فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ وتقرؤون مرارا ، وتتأمّلون عباراته دائما ؟ ! فتبيّن لكم ممّا فيه ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ﴾ وتريدون لأنفسكم من المشتهيات ﴿أَمْ لَكُمْ﴾ مع سخطنا عليكم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٩ : ١٧ ، تفسير روح البيان ١٠ : ١١٩.

٣١٥

﴿أَيْمانٌ﴾ وعهود مؤكّدة ثابتة ﴿عَلَيْنا﴾ وفي عهدتنا ﴿بالِغَةٌ﴾ ومنتهية في الصحّة والتأكد واللّزوم ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ لا يجوز لنا حنثها ونقضها ، ولا يخرج عن عهدتها ؟ ! وهي ﴿إِنَّ لَكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿لَما تَحْكُمُونَ﴾ لأنفسكم وتطلبون منّا ، فيكون علينا بهذه العهود أن نحكمكم في ذلك اليوم ، ونوافقكم فيما تأمرون ، ونعطيكم ما تتوقّعون.

ثمّ لوّن سبحانه الخطاب عنهم إلى رسوله بقوله : ﴿سَلْهُمْ﴾ يا حبيبي مشافهة ﴿أَيُّهُمْ﴾ ومن يكون منهم ﴿بِذلِكَ﴾ الحكم المخالف للعقول ﴿زَعِيمٌ﴾ وضامن لاثباته بالحجّة والبرهان ؟ ﴿أَمْ لَهُمْ﴾ في ذلك الادّعاء ﴿شُرَكاءُ﴾ يشاركونهم في الدعوى ، ويساعدونهم في هذا القول ؟ ﴿فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ﴾ عندك وليحضروهم في محضرك حتى يقولوا بقولهم ويصدّقوهم في دعواهم ﴿إِنْ كانُوا صادِقِينَ﴾ في دعوى أنّ لهم شركاء. قيل : إنّ المراد من شركائهم أصنامهم (١) ، والمعني ألهم أصنام يجعلونهم مثل المسلمين في النجاة من العذاب والدّخول في الجنّة ؟ !

حاصل مفاد الآيات - والله أعلم - أنّه ليس لهم دليل عقلي على التسوية بين المطيع والعاصي والمحسن والمسيء ، ولا دليل نقلي من كتاب سماوي يقرؤونه ، ولا عهد مؤكّد بالأيمان ، ولا من يوافقهم من العقلاء حتّى يقلّدوهم ، مع حكم العقل السليم على خلافه ، فظهر أنّ بطلان دعواهم أظهر من الشمس في رائعة (٢) النهار.

﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ *خاشِعَةً

 أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ * فَذَرْنِي

 وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ

 إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٢) و (٤٥)

ثمّ بيّن سبحانه سوء حالهم يوم القيامة بقوله : ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ﴾ قيل : إنّ المعنى ذكرهم يا محمد يوم الشدّة وصعوبة الخطب على الكفّار والمنافقين ، فانّ كشف الساق كناية عن الوقوع في الشدّة ، كما أنّ من وقع بين الخصوم الأقوياء وانغمر رجلاه في الوحل ، يشمّر ذيله ويرفع ثيابه عن ساقه ، كما عن ابن عباس (٣) .

وقيل : إنّ المراد من الساق أصل الامور ، يعني يكشف عن حقائق الامور وواقعياتها وخفيّاتها (٤).

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٥١٧.

(٢) في النسخة : رابعة.

(٣) مجمع البيان ١ : ٥٠٩

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٥.

٣١٦

وقيل : يعني يكشف عن ساق العرش ، أو عن ساق جهنّم ، أو عن ساق ملك عظيم مهيب (١) .

وعلى أيّ تقدير ذلك اليوم يوم القيامة ، فانّهم في ذلك اليوم يؤمرون ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ لله تعنيفا على تركهم إياه في الدنيا تكبّرا وتعظّما وتحسّرا على تفريطهم فيه ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ السجود لسلب القدرة عنهم.

عن ابن مسعود : تعقم أصلابهم ، أي تصير عظاما لا فواصل لها ، فلا تثنى للرفع والخفض ، فيبقون قياما على حالهم حتّى تزداد حسرتهم على التفريط فيه (٢) .

وفي الحديث : « وتبقى أصلابهم طبقا واحدا (٣) - أي فقارة واحدة - كأنّ سفافيد الحديد في ظهورهم » (٤) .

عن الرضا عليه‌السلام قال : حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا ، وتدمج (٥) أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود (٦) حال كونهم ﴿خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ﴾ متواضعة جوارحهم ﴿تَرْهَقُهُمْ﴾ وتغشاهم ﴿ذِلَّةٌ﴾ شديدة وخزي فاحش جزاء لاستكبارهم في الدنيا عن السجود لله ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿قَدْ كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يُدْعَوْنَ﴾ من قبل الله بلسان الرسل ﴿إِلَى السُّجُودِ﴾ لله ويؤمرون به ﴿وَهُمْ سالِمُونَ﴾ أصحّاء مستطيعون له بأتمّ الاستطاعة ، فاذا كان حالهم في الآخرة كذلك ﴿فَذَرْنِي﴾ يا نبيّ الرحمة ودعني ﴿وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا﴾ القرآن الذي هو أحسن ﴿الْحَدِيثِ﴾ وأعظم المعاجز الذي يصدّقه كلّ عاقل منصف ويستدلّ به على صدق دعواك الرسالة ، فانّي أكفيكهم ، واعلم أنّا ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ وننزلهم في العذاب شيئا فشيئا ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ ومن الجهة التي لا يشعرون أنّه بلاء وعذاب.

قيل : إنّ المراد بالاستدراج توفير النّعم. حتّى ينسوا الاستغفار ، والمعنى كما قيل : كلّما جدّدوا ذنبا جددنا لهم نعمة (٧) ، وأغفلناهم عن التوجه إلينا ، ثمّ نأخذهم بغتة.

وفي الحديث : « إذا رأيت الله ينعم على عبد وهو مقيم على المعصية ، فاعلم أنه مستدرج ، وتلا هذه الآية » (٨) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من وسع عليه دنياه ، وهو لا يعلم أنّه قد مكر به ، فانّه مخدوع عن

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٥.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢١.

(٣) في تفسير روح البيان : طبعا واحدا.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢١.

(٥) في النسخة : وتديح ، وفي تفسير الصافي : ويدبّخ.

(٦) التوحيد : ١٥٤ / ١ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢١ / ١٤.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٦.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢٤.

٣١٧

عقله » (١) .

﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ وأمهلهم في الدنيا بإطالة أعمارهم وتأخير آجالهم ، ليزدادوا إثما ، ويكون لهم أشدّ العذاب في الآخرة ، واعلم ﴿إِنَّ كَيْدِي﴾ وتدبيري الخفيّ عنهم في إهلاكهم وازدياد عذابهم ﴿مَتِينٌ﴾ ومستحكم لقوة أثره في إهلاكهم الدنيوي والاخروي. وقيل : إنّ المعنى أنّ أخذي إياهم بالعذاب قويّ شديد لا يدفع بشيء (٢) .

﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ *

 فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْ لا أَنْ

 تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

 الصَّالِحِينَ (٤٦) و (٥٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار ، وتهديدهم بأهوال القيامة ، وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه تعالى كافيهم ، وأنّه معذّبهم على تكذيبهم ، عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم في عدم إيمانهم بالرسول بقوله : ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ﴾ وتطلب منهم على تبليغاتك عن الله ﴿أَجْراً﴾ وجعلا ماليا ﴿فَهُمْ﴾ لا يؤمنون بك ﴿مِنْ﴾ جهة ﴿مَغْرَمٍ﴾ وضرر مالي متوجّه إليهم لأجل الايمان بك ﴿مُثْقَلُونَ﴾ ومتحمّلون حملا ثقيلا فيعرضون عنك ؟ وإلّا فليس لهم عذر في الفرار منك وعدم التسليم لرسالتك ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ﴾ واللوح المحفوظ الذي لا يعلمه أحد مكتوب فيه أنّهم آمنون يوم القيامة من العذاب فائزون بأعلى الثواب كالمسلمين ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ويستنسخون منه ويعتمدون عليه. وقيل : يعني أم يدّعون أنّ المغيبات حاضرة في عقولهم ، ولذا يكتبون على الله ما شاؤوا وأرادوا (٣) .

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال قول الكفّار وزجرهم عمّا يقولون ، أمر رسوله بالصبر على أقوالهم الشنيعة وأعمالهم السيئة بقوله : ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ بإمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ، وتبليغك الرسالة ، وتحمّلك الأذى من قومك ، ﴿وَلا تَكُنْ﴾ ضيق الصدر ، قليل التحمّل ﴿كَصاحِبِ الْحُوتِ﴾ وهو يونس النبيّ ﴿إِذْ نادى﴾ ربّه في بطن الحوت بقوله : لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ ومملوء غيظا على قومه أو مغموم كما عن الباقر عليه‌السلام (٤) ، ولا تضجر من أذى قومك كما انضجر هو فتبتلى كما ابتلى ﴿لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ﴾ ووصل إليه ﴿نِعْمَةٌ﴾ ورحمة عظيمة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢٤.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٨٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٥.

٣١٨

﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ وهي توفيقه للتوبة وقبولها منه ﴿لَنُبِذَ﴾ وطرح في القيامة ﴿بِالْعَراءِ﴾ والأرض التي لا سقف لها ولا ظلّ ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ وملوم عند الله وعند الناس على فعله وهجرته من بين قومه وقلّة تحمّله لأذاهم.

واعلم أنّ هذا التفسير بالنظر إلى قوله تعالى : ﴿فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(١) .

وقيل : إنّ المعنى لنبذ من بطن الحوت في هذه الدنيا بالعراء ، في حال كونه مذموما ، ولكن لمّا تاب نبذ وطرح من بطن الحوت بالعراء ممدوحا غير مذموم (٢) .

﴿فَاجْتَباهُ﴾ واصطفاه ﴿رَبُّهُ﴾ بعد الخروج من بطن الحوت للرسالة إلى قومه ، كما كان كذلك قبل دخوله في بطنه.

عن ابن عباس : ردّ الله عليه الوحي وشفّعه في قومه (٣)﴿فَجَعَلَهُ﴾ برحمة ﴿مِنَ﴾ الأنبياء ﴿الصَّالِحِينَ﴾ والمعصومين من ارتكاب خلاف الأولى.

روى بعض العامة : أنّها نزلت في احد حين همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو على المنهزمين (٤) . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف (٥) .

﴿وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ

 لَمَجْنُونٌ * وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥١) و (٥٢)

ثمّ إنّه تعالى بعد ما أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر على أذى قومه ، بيّن شدّة عداوتهم وغضبهم على الرسول حين تلاوته القرآن العظيم بقوله : ﴿وَإِنْ يَكادُ﴾ وقد يقرب ﴿الَّذِينَ﴾ عاندوك ﴿كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ﴾ ويصرعونك ﴿بِأَبْصارِهِمْ﴾ غضبا عليك ﴿لَمَّا سَمِعُوا﴾ منك ﴿الذِّكْرَ﴾ وتلاوة القرآن.

روي أنّه كان في بني أسد عيّانون ، وكان الواحد منهم إذا أراد أن يصيب شيئا بعينه يتجوّع له ثلاثة أيام ، ثمّ يتعرّض له ، ويقول : تالله ما رأيت أحسن من هذا ، فيتساقط ذلك الشيء ، وكان الرجل منهم ينظر إلى الناقة السمينة أو البقرة السمينة ثمّ يعتنيها ، ثمّ يقول للجارية : خذي المكتل والدّرهم فأتينا بلحم من لحم هذه ، فما تبرح حتى تقع فتنحر ، ولا يمرّ بشيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلّا عانه ، وكان سببا لهلاكه وفساده ، فسال بعض كفّار قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في

__________________

(١) الصافات : ٣٧ / ١٤٣ و١٤٤.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٩.

(٣-٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٩٩.

٣١٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما رأيت مثله ولا مثل حججه ، فعصمه الله (١) بهذه الآية.

وقيل : إن زلقه بالأبصار كناية عن شدّة الغضب ، والمعنى أنّهم من شدّة عداوتهم لك ينظرون إليك نظر الغضبان بمؤخّر عيونهم ، بحيث يكادون يزلّون قدمك ويصرعونك وقت سماعهم القرآن (٢)﴿وَيَقُولُونَ﴾ لإخوانهم حين رؤيتك : ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ وفاسد العقل ، تنفيرا للناس عنه ، وتوهينا له ، وقد علموا كلّهم أنّه أعقل الناس.

وقيل : إنّ المعنى أنّ محمدا معه جنّ يعلّمه القرآن (٣) ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ﴾ وعظة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ من الإنس والجنّ ، وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من امور دينهم ودنياهم ، فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطّلع على أسراره وحقائقه ودقائقه ممّا قالوا في حقّه من الجنون ؟ فكيف ينسبونه إليه وليس ما قالوا إلّا من غاية الحمق والجهالة ؟

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه مرّ بمسجد الغدير ، فنظر إلى ميسرة المسجد فقال : « ذاك موضع قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه » ثمّ نظر إلى الجانب الآخر فقال : « ذاك موضع فسطاط أبي فلان وفلان وسالم مولى حذيفة وأبي عبيدة ، فلمّا أن رأوه رافعا يده قال بعضهم لبعض : انظروا إلى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون ، فنزل جبرئيل بهذه الآية » (٤) .

أقول : يمكن حمل نزول جبرئيل بها في ذلك الوقت على نزوله بها مرة ثانية.

وعن القمي : ﴿لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ قال : لمّا أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفضل أمير المؤمنين عليه‌السلام [ قالوا : هو مجنون ] قال تعالى : ﴿وَما هُوَ﴾ يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ(٥) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « من قرأ سورة ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ في فريضة أو نافلة ، آمنه الله عزوجل من أن يصيبه فقر أبدا وأعاذه الله إذا مات من ضمّة القبر » (٦) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢٧.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ١٢٧.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣٠.

(٤) الكافي ٤ : ٥٦٦ / ٢ ، من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٣٥ / ١٥٥٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٦.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٨٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٦.

(٦) ثواب الأعمال : ١١٩ ، مجمع البيان ١٠ : ٤٩٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢١٦.

٣٢٠