نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة التحريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ

 الْحَكِيمُ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة الطلاق المتضمّنة لأحكام طلاق النساء ، وتهديد الكفّار على مخالفة أحكامه ، وتعظيم شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظمت سورة التحريم المتضمّنة لبيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها ، وتهديد الكفّار ، وتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووعده بالنّصرة على أعدائه ، وغيرها من جهات الارتباط ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ إنّه تعالى كما خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في السورة السابقة بصفة النبوة إجلالا له عند ذكر حكم تحريم الزوجة بالطلاق ، خاطبه في هذه السورة أيضا بصفة النبوة عند بيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾ على نفسك ، ولأيّ علّة تجعل ممنوع الانتفاع ﴿ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ من النساء باليمين على ترك المقاربة ، أو العسل بالحلف على ترك شربه ﴿تَبْتَغِي﴾ وتطلب بتحريم الحلال على نفسك ﴿مَرْضاتَ أَزْواجِكَ﴾ وطيب قلوبهنّ مع عدم قابليتهنّ لأن تطلب رضاهنّ ، بل عليهنّ أن يطلبن رضاك ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لرعايتك ما لا يحبّ الله رعايته ﴿رَحِيمٌ﴾ بك بإعطائك الأجر العظيم على تحمّل مشاقّ صحبتهنّ وإيذائهنّ ﴿قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ﴾ وأوجب عليكم ﴿تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ﴾ ومخالفة حلفكم على ترك الاستمتاع ممّا أحل الله لكم ﴿وَاللهُ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿مَوْلاكُمْ﴾ وناصركم على أعدائكم الذين من جملتهم أزواجكم ، كما قال : ﴿إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ﴾ ... ﴿عَدُوًّا لَكُمْ ، وَهُوَ﴾ تعالى ﴿الْعَلِيمُ﴾ بمصالحكم ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله وأحكامه ، وفي خطاب النبي بضمير الجمع كمال تعظيمه.

روت العامة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خلا بمارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في يوم عائشة

٢٨١

ونوبتها ، وعلمت بذلك حفصة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتمي عليّ ولا تعلمي عائشة ، فقد حرّمت مارية على نفسي ، وابشّرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر امّتي » فأخبرت به عائشة ، ولم تكتم ، وكانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وقيل : خلا بها في يوم حفصة حيث استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زيارة أبيها في يومها ، فأذن لها ، فلمّا خرجت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى امّ ولده مارية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها ، فلمّا رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا ، فجلست عند الباب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال : « ما يبكيك » ؟ فقالت : إنّما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ثمّ وقعت عليها في يومي على فراشي ! فلو رأيت لي حقا وحرمة ما كنت تصنع هذا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أليس هي جاريتي ، أحلها الله لي ، اسكتي فهي حرام علي ، التمس بذلك رضاك ، فلا تخبري بذلك امرأة منهنّ » .

فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قرعت حفصة الجدار بينها وبين عائشة فقالت : ألا ابشّرك أنّ رسول الله قد حرّم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، ولم تكتم ، فطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق الجزاء على إفشاء سرّه ، واعتزل نساءه ، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية (٢) .

وقيل أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرا من شدّة مواجدته عليهنّ حتّى نزلت الآية ، ودخل عمر على بنته وهي تبكي ، فقال : أطلقكنّ رسول الله ؟ فقالت : لا أدرى ، هو ذا معتزل في هذه المشربة (٣) - وفي رواية ، قال لها : لو كان في آل الخطّاب خير لما طلّقك - قال عمر : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخلت وسلّمت عليه ، فإذا هو متكيء على رمل حصير قد أثّر في جنبه ، فقلت : أطلقت نساءك يا رسول الله ؟ فقال : « لا » . فقلت : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله وكنّا معشر قريش نغلب النساء ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم ، وطفقن نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت الآية (٤) .

وروى بعضهم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كلّما دخل على زينب بنت جحش شرب العسل ، ولذا كان يكثر وقوفه عندها ، فتواطأت عائشة وحفصة ، فقالتا له : إنّا نشمّ منك ريح المغافير ، والمغفور : صمغ حلو الطعم كرية الرائحة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكره الرائحة الكريهة ، فحرّم العسل (٥) .

وعن القمي ، قال : كان سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذهب في بيوت نسائه ، كانت مارية القبطية معه تخدمه ، وكان ذات يوم في بيت حفصة ، فذهبت حفصة في حاجة لها ، فتناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مارية ، فعلمت حفصة بذلك ، فغضبت وأقبلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧.

(٣) المشربة : الغرفة.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨.

٢٨٢

في يومي وداري وعلى فراشي ! فاستحيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « كفّي وقد حرّمت مارية على نفسي ، ولا أطاها بعد هذا أبدا ، وأنا أفضي إليك سرا إن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » . فقالت : نعم ما هو ؟ قال : إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي ، ثمّ بعده أبوك عمر » .

فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك ، وأخبرت عائشة أبا بكر ، فجاء أبا بكر إلى عمر ، فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء ولا أثق بقولها ، فاسأل أنت حفصة ، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة ؟ فأنكرت حفصة ذلك ، وقالت : ما قلت لها من ذلك شيئا. فقال لها عمر : إن [ كان ] هذا حقا فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه. فقالت : نعم ، قد قال [ ذلك ] رسول الله (١) ... الخبر.

﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ

 بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ

 الْخَبِيرُ (٣)

ثمّ شرع سبحانه في تفضيح بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي طلب رضاها بتحريم مارية بقوله : ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ﴾ والمعنى اذكروا أيّها المسلمون وقتا أفضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ﴾ وهي حفصة ﴿حَدِيثاً﴾ وكلاما خفية من غيرها ، وأمرها بكتمانه وإخفائه عن سائر أزواجه ، فخالفت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصته ، وأخبرت به عائشة ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ﴾ عائشة بسرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرتها ﴿بِهِ﴾ لمصادقة كانت بينهما ، وأخبر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإفشاء حفصة سرّه ﴿وَأَظْهَرَهُ اللهُ﴾ بتوسّط جبرئيل ﴿عَلَيْهِ﴾ بلا ريث وتأخير ﴿عَرَّفَ﴾ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حفصة وأعلمها بإفشائها سرّه ، ولكن لا كلّه ، بل ﴿بَعْضَهُ﴾ وهو تحريمه مارية على نفسه ﴿وَأَعْرَضَصلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿عَنْ بَعْضٍ﴾ ولم يقل لها : إنّك أخبرت بأنّ أبا بكر وعمر يليان الخلافة بعده كراهة انتشاره بين الناس ، وتكرّما منه وحلما ﴿فَلَمَّا﴾ أخبرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيانتها وعصيانها و﴿نَبَّأَها بِهِ﴾ معترضا عليها ﴿قالَتْ﴾ حفصة ﴿مَنْ أَنْبَأَكَ هذا﴾ العصيان ، وأخبرك بهذه الخيانة منّي ﴿قالَ﴾ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿نَبَّأَنِيَ﴾ الله ﴿الْعَلِيمُ﴾ بالأسرار و﴿الْخَبِيرُ﴾ بخفايا الامور.

أقول : فيه دلالة على إخباره بالغيب ، وهو من معجزاته.

﴿إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ

 وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ * عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٧٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٤.

٢٨٣

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ

 سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)

ثمّ وجه سبحانه الخطاب إلى المرأتين العاصيتين تشديدا للعتاب لهما بقوله : ﴿إِنْ تَتُوبا﴾ يا عائشة ويا حفصة من خيانتكما وعصيانكما ﴿إِلَى اللهِ﴾ وتستغفرانه فهو خير لكما ﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾ وأعرضت ﴿قُلُوبُكُما﴾ عن الله وطاعته برغبتكما إلى إيذاء نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَإِنْ﴾ لم تتوبا و﴿تَظاهَرا﴾ وتعاونا ﴿عَلَيْهِ﴾ وتواطئا على إيذائه ، فإنّه لا يبالي بكما ، لأنّ له مظاهرا ومعاونا أقوى من جميع أهل العالم ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ الغالب القاهر ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿مَوْلاهُ﴾ وناصره قبل كلّ شيء ، لأنّه حبيبه وصفيّه ﴿وَ﴾ بعده ﴿جِبْرِيلُ﴾ رئيس الكروبيين ، وأقوى الملائكة ناصره ﴿وَ﴾ بعدهما ﴿صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وسيدهم علي بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله ناصره بنفسه وماله ، كما عن مجاهد (١) والباقر عليه‌السلام (٢) ، ويؤيّده حديث المنزلة (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام « لقد عرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام أصحابه مرّتين ؛ أمّا مرّة فحيث قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وأمّا الثانية فحيث ما نزلت هذه الآية : ﴿فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي عليه‌السلام وقال : أيّها الناس ، هذا صالح المؤمنين » .

وقالت أسماء بنت عميس : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ﴿ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ علي بن أبي طالب » (٤) فما نسبه العامّة إلى ابن عباس من أنّ المراد أبو بكر وعمر (٥) فرية لا اعتداد بها ، مع أنّ مولاه لا بدّ أن يكون أقوى الناس لا أضعفهم.

وقيل : إنّ المراد خيار المؤمنين. وقيل : من برئ منهم من النفاق. وقيل : عموم اصحابه. وقيل : جميع الأنبياء (٦) .

﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ كلّهم ﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ المذكورين ﴿ظَهِيرٌ﴾ ومعاونا له على أعدائه ، فلا يبالي بكيد امرأتين ضعيفتين من له اولئك الظّهراء. ثمّ خوّفهنّ سبحانه بقوله : ﴿عَسى رَبُّهُ﴾ ويرجي منه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿إِنْ طَلَّقَكُنَ﴾ وأخرجكنّ من حبالة نكاحه ﴿أَنْ يُبْدِلَهُ﴾ الله ويعوّضه منكنّ ﴿أَزْواجاً﴾ اخر ﴿خَيْراً﴾ له وأفضل ﴿مِنْكُنَ﴾ من جهة كونهنّ ﴿مُسْلِماتٍ﴾ بألسنتهنّ ، أو منقادات بجوارحهنّ ﴿مُؤْمِناتٍ﴾ ومخلصات أو مصدّقات بقلوبهنّ ﴿قانِتاتٍ﴾ ومطيعات أو خاضعات لله ولرسوله

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٥.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٥٣.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٥.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٤.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٤.

٢٨٤

﴿تائِباتٍ﴾ من زلّاتهنّ ، و﴿عابِداتٍ﴾ لله مواضبات على الصلوات ، أو متذلّلات لأوامر الرسول ﴿سائِحاتٍ﴾ وصائمات ، يكون بعضهنّ ﴿ثَيِّباتٍ وَ﴾ بعضهنّ ﴿أَبْكاراً﴾ كما أنّ في أزواجه ثيّبات وبكر.

في فضيحة عائشة وحفصة وردّ بعض العامة

أقول : في ذكر الصفات في مقام بيان خيرية الأزواج إشعار بعدم اتّصاف عائشة وحفصة بجميع الصفات ، وإلّا لم يكنّ خيرا منهما ، وفيها ردّ على استدلال الفخر الرازي بآية ﴿الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ(١) على كون عائشة مبرّأة من جميع العيوب (٢) ، والظاهر أنّ الله تبارك وتعالى أنزل السورة لتفضيحهما بين المؤمنين بكونهما مؤذيتين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومتظاهرتين عليه ، كما أنزل سورة المنافقين لتفضيح عبد الله بن ابي وأصحابه بين المؤمنين بكفرهم ومعارضتهم للنبي ، فلا يعبأ بما روته العامة من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا طلّق حفصة قال له جبرئيل : ارجع إليها ، فانّها صوّامة قوّامة (٣) ، مع كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم بحالها من غيره ، وإنّما رجع إليها لدخالتها في الفتنة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ

 عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه عصيان زوجتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرهما بالتوبة أمر المؤمنين بحفظ نسائهم وأولادهم وأقربائهم من العصيان بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا﴾ واحفظوا ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بطاعة الله وترك عصيانه ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ من أزواجكم وأولادكم وأقاربكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنّصح والعظة ﴿ناراً﴾ موقدة التي ﴿وَقُودُهَا﴾ وحطبها ما تشتعل به ﴿النَّاسُ﴾ الكفرة والعصاة ﴿وَالْحِجارَةُ﴾ عن ابن عباس هي حجارة الكبريت ؛ لأنّها أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها (٤) . وقيل : حجارة الأصنام (٥) . وقيل : الذهب والفضّة الذين أصلهما الحجر (٦) .

تسلّط ﴿عَلَيْها﴾ بأمر ربّها تسعة عشر ﴿مَلائِكَةٌ غِلاظٌ﴾ أجرامهم وقلوبهم ، أو غلاظ أقوالهم ﴿شِدادٌ﴾ وجفاة وخشن على أعداء الله ، لم يخلق فيهم رحمة ورقة ، مطيعون لأمر الله ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ﴾ ولا يخالفون ﴿ما أَمَرَهُمْ﴾ الله في تعذيب أعدائه ومخالفي أحكامه ﴿وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ من أنواع العذاب من غير توان وتأخير ، وبلا زيادة ونقصان.

__________________

(١) النور : ٢٤ / ٢٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٩٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٤١ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٦.

(٥) تفسير روح البيان ٥٩ / ١٠.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ / ٥٩.

٢٨٥

في الحديث « رحم الله رجلا قال : يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم ، لعلّ الله يجمعكم معهم في الجنّة » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا نزلت هذه الآية جلس رجل من المسلمين يبكي ، وقال : عجزت عن نفسي ، وكلّفت أهلي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حسبك أن تأمرهم بما تأمر نفسك ، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك » (٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قيل له : هذه نفسي أقيها ، فكيف أقي أهلي ؟ فقال : « تأمرهم بما أمرهم الله به ، وتنهاهم عمّا نهاهم الله عنه ، فان أطاعوك وقيتهم ، وإن عصوك كنت قضيت ما عليك » (٣) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بحفظ أنفسهم وأهليهم من النار ، هدّد الكفّار بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والتقدير على ما قيل : يقال لكم حين إدخالكم النار يوم القيامة وإرادتكم الاعتذار عن كفركم وعصيانكم (٤) : ﴿لا تَعْتَذِرُوا﴾ في هذا ﴿الْيَوْمَ﴾ الذي هو يوم الجزاء بعد إتمام الحجّة عليكم بتوسّط الرسل في الدنيا ، وتبليغ الأوامر والنواهي إليكم بأبلغ بيان ، فلم يبق لكم عذر قابل للقبول مفيد بحالكم ﴿إِنَّما تُجْزَوْنَ﴾ اليوم ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وترتكبون من الكفر والطّغيان والعتوّ والعصيان بلا زيادة ولا نقصان.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ

 سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ

 وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا

 نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)

ثمّ علّم الله سبحانه المؤمنين طريق الخلاص من العذاب والاعتذار من العصيان بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ من معاصيكم وزلّاتكم في الدنيا قبل معاينة الآخرة وانسداد باب التوبة ﴿تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ لا رجوع بعدها إلى ما ارتكبتم من الذنب ، واعتذروا إلى الله ممّا فرط منكم من العصيان مع الندم عليه ندامة شديدة مستلزمة للعزم الأكيد على أن لا تعودوا إليه أبدا.

__________________

(١) جوامع الجامع : ٤٩٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٨.

(٢) الكافي ٥ : ٦٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٧ ، وتفسير الصافي ٥ : ١٩٦ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٠.

٢٨٦

في شرائط قبول التوبة

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سمع أعرابيا يقول : اللهمّ إنّي استغفرك وأتوب إليك. فقال : « يا هذا : إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين » قال : فما التوبة ؟

قال : « إنّ التوبة يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، والاستحلال من الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال عليه‌السلام : « يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه » (٢) .

وفي رواية : قيل له : وأيّنا لا يعود ؟ فقال : « إنّ الله يحبّ من عباده المفتّن التوّاب » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام في هذه الآية ، قال : « يتوب العبد ثمّ لا يرجع فيه ، وأحبّ عباد الله إلى الله : المفتّن التائب » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « التوبة النّصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره ، بل أفضل » (٥) .

ثمّ بيّن سبحانه فائدة التوبة بقوله : ﴿عَسى رَبُّكُمْ﴾ ويرجى من خالقكم اللطيف بكم ﴿أَنْ يُكَفِّرَ﴾ ويستر ﴿عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ﴾ وخطيئاتكم.

عن الصادق عليه‌السلام : « إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فيستر عليه في الدنيا والآخرة » قيل : وكيف يستر عليه ؟ قال : « ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، ويوحي إلى بقاع الأرض : اكتميى ما كان يعمل عليك من الذنوب ، فيلقى الله وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب » (٦) .

﴿وَيُدْخِلَكُمْ﴾ برحمته ﴿جَنَّاتٍ﴾ ذات قصور وأشجار كثيرة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ قيل: ذكر سبحانه الوعد بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك ، وإشعارا بأنّه تفضّل ، ولأنّ العبد ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء (٧) ، وذلك اللطف بالمؤمنين وإدخالهم الجنّة يكون في يوم القيامة ، وهو يكون ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ﴾ ولا يفضح ، أو لا يخجل ﴿النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ به حال كونهم ﴿مَعَهُ﴾ ومصاحبه ﴿نُورُهُمْ﴾ وضياء إيمانهم وطاعاتهم كشعاع الشمس ﴿يَسْعى﴾ ويسير بسرعة على الصّراط ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وقدّامهم ﴿وَبِأَيْمانِهِمْ﴾ وشمائلهم.

قيل : إنّ المراد من جميع جوانبهم وجهاتهم ، وإنّما اكتفى سبحانه بذكر الجهتين لأنّهما أشرف الجهات ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٦١.

(٢) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٦.

(٣) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٦ ، والمفتّن : الممتحن ، يمتحنه الله بالذّنب ثم يتوب ، ثم يعود ثم يتوب.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٦.

(٥) معاني الأخبار : ١٧٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٦.

(٦) الكافي ٢ : ٣١٤ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٧.   (٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٤.

٢٨٧

أو لأنّ أهل السعادة يؤتون صحائفهم من الجهتين (١) .

عن الباقر عليه‌السلام: « من كان له نور يومئذ نجا ، وكلّ مؤمن له نور » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : « يسعى [ أئمة ] المؤمنين يوم القيامة بين أيديى المؤمنين وبأيمانهم حتّى ينزلوهم منازلهم في الجنة » (٣) .

وهم مع ذلك ﴿يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قيل : هذا قول بعض المؤمنين ، وهم الذين يجوزون على الصراط حبوا وزحفا (٤) وقيل : يدعو كلّهم تقربا إلى الله مع تمام نورهم (٥) . وقيل : إنّ المراد من الاتمام الابقاء حتّى يدخلوا الجنّة ويردوا دار السّلام (٦) .

عن ابن عباس : يقولون ذلك عند انطفاء نور المنافقين إشقاقا (٧) .

وقيل : إنّ أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطئ قدمه ، لأنّ النور على قدر الأعمال (٨) .

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

 الْمَصِيرُ * ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ

 عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ

 ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (٩) و (١٠)

ثمّ لمّا بدأ السورة بالخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ختم سبحانه الخطابات بالخطاب إليه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُصلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿جاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ بالسيف والسّنان ﴿وَالْمُنافِقِينَ﴾ بالحجّة والبرهان ، وبالتهديد بالفضيحة والخذلان ﴿وَاغْلُظْ﴾ وشدّد وأخشن ﴿عَلَيْهِمْ﴾ فيما يجاهد الفريقين من القتال والمحاجّة حتّى تضيّق عليهم الدنيا ، وأنا حكمت بأنّ منزلهم ﴿وَمَأْواهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَهَنَّمُ﴾ التي اعدّت للكفار ﴿وَ﴾ هي ﴿بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع في الآخرة ، فلا يكون لهم دنيا ولا آخرة.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه خيانة زوجتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصيانهما إيّاه في أول السورة ، بيّن سبحانه عدم انتفاعهما بصحبته ، وعدم استفادتهما من كونهما من أزواجه ، بتمثيل حالهما بزوجة نوح وزوجة لوط بقوله : ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وبيّن حالهم الغريبة التي تشابه المثل في الغرابة بتذكيركم حال واعلة التي هي ﴿امْرَأَتَ نُوحٍ﴾ وأهله ﴿وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ فانّهما ﴿كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٥ و٦٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٧٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٧.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٧.

(٤و٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٨.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٦.

(٧و٨) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٨.

٢٨٨

صالِحَيْنِ﴾ كاملين في العبودية وحسن الأعمال والأخلاق ، وفي تصرّفهما وتربيتهما وحكمهما المقتضي لصيرورتهما مؤمنتين صالحتين ﴿فَخانَتاهُما﴾ بإفشاء سرّهما عند الكفّار ، كما كانت عائشة وحفصة تحت تربيتك وحلمك المقتضي لكونهما صالحتين ، ومع ذلك خانتاك بإفشاء سرّك ﴿فَلَمْ يُغْنِيا﴾ ذلكما النبيان المرسلان مع عظم شأنهما ﴿عَنْهُما﴾ بحقّ النكاح والصّحبة ﴿مِنْ﴾ عذاب ﴿اللهُ﴾ ونكاله ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الإغناء ، فشملهما عذاب الاستئصال في الدنيا بأنّ هلكت إحداهما بالغرق بالطّوفان ، والاخرى بالصيحة ومطر الحجارة ﴿وَقِيلَ﴾ لهما عند موتهما أو يوم القيامة : يا زوجة نوح ، ويا زوجة لوط ﴿ادْخُلَا النَّارَ مَعَ﴾ سائر ﴿الدَّاخِلِينَ﴾ فيها من الكفار الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.

﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي

 الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ

 عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها

 وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١١) و (١٢)

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا وصلة بينهنّ وبين الأنبياء ، بل كنّ تحت أشقى الأشقياء بقوله : ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ وبيّن حسن حالهم الغريبة بتذكيركم حال آسية ، مع أنّها كانت ﴿امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾ الذي ادّعى الالوهية وعارض موسى بن عمران ، فلم يضرّها صحبة زوجها الكافر ، وصبرت على اذاه ﴿إِذْ قالَتْ﴾ وحين دعت ربّها لمّا ابتليت بعذاب فرعون وأذاه بقولها : ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ﴾ وفي جوار قربك ﴿بَيْتاً﴾ ومنزلا ﴿فِي﴾ أعلى درجات ﴿الْجَنَّةِ﴾ لإيماني بك وبرسولك موسى ﴿وَنَجِّنِي مِنْ﴾ صحبة ﴿فِرْعَوْنَ﴾ وعذابه ﴿وَ﴾ من ﴿عَمَلِهِ﴾ الباطل ، وكفره بآياتك ﴿وَنَجِّنِي﴾ يا ربّ وخلّصني ﴿مِنْ﴾ ظلم ﴿الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم وعلى عبادك المؤمنين.

روي أنّه لمّا غلب موسى السّحرة آمنت آسيه بنت مزاحم زوجة فرعون بموسى بن عمران. قيل :

كانت عمّته ، فلمّا علم فرعون بإيمانها أمرها بالرجوع عن الايمان إلى الكفر فأبت عن ذلك ، فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد في حرّ الشمس ، فأمر الله الملائكة أن يظلّوها من الشمس بأجنحتهم ، فلمّا قالت : ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ، رفعت الحجب ، فأراها بيتا في الجنة من درّة بيضاء ،

٢٨٩

ورفع عنها ألم العذاب فضحكت ، فقال الكفّار : هي مجنونة لأنّها تضحك وهي في العذاب (١) ، ثمّ طارت روحها إلى جوار رحمة الله.

وعن الضحّاك : أمر فرعون أن يلقى عليها حجر رحى ، وهي في الأوتاد ، فقالت رب ابن لي ... إلى آخره فلم يصل الحجر حتّى رفع روحها إلى الجنّة ، فألقي الحجر عليها بعد خروج روحها ، فلم تجد ألما (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا زوج لهنّ بتمثيلهنّ بمريم بنت عمران بقوله : ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ﴾ أمّ عيسى ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ﴾ وحفظت ﴿فَرْجَها﴾ من مساس الرجال حراما وحلالا على آكد حفظ ، وقيل : يعني طهّرت ذيلها من ريبة الفجور ﴿فَنَفَخْنا﴾ في جيبها بتوسّط جبرئيل ، وأدخلنا ﴿فِيهِ﴾ كالريح من الروح العظيم الشأن الذي يصحّ أن تقول تشريفا : إنّه ﴿مِنْ رُوحِنا﴾ وقيل : إنّ المراد بالروح جبرئيل (٣) ، والمعنى فنفخنا في جيبها من جبرئيل ﴿وَصَدَّقَتْ﴾ عن صميم القلب ﴿بِكَلِماتِ رَبِّها﴾ المنزلة على الأنبياء ، أو المراد بالبشارات التي بشّر بها جبرئيل ﴿وَكُتُبِهِ﴾ المنزلة من السماء كصحف شيث وإبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وغيرها ﴿وَكانَتْ﴾ واحدة ﴿مِنَ الْقانِتِينَ﴾ والخاشعين لله ، أو من المطيعين والمعتكفين في المسجد الأقصى ، وعدّها من الرجال القانتين للإشعار بعدم قصور عبادتها عن عبادة الأنبياء.

روت العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) .

قيل : جمعه الله في التمثيل بين التي لها زوج والتي لازوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٩.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٦٩.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٧١.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٠.

٢٩٠

في تفسير سورة الملك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

 وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة التحريم المشتملة على اظهار غاية التعظيم لنبيه واللطف به وبالمؤمنين وتهديد الكفار بالعذاب وانقطاع عذرهم في الآخرة ، اردفت بسورة الملك المشتملة على بيان سلطنته المطلقة في عالم الوجود ، وكمال قدرته ، وتهديد الكفار بورودهم في النار ، وانقطاع عذرهم واعترافهم باستحقاقهم العذاب ، وإبطال قولهم بإنكار المعاد ، وإظهار اللّطف بالمؤمنين ، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة ذاته المقدّسة وكثرة خيره وكمال قدرته بقوله : ﴿تَبارَكَ﴾ وتعالى وتعظّم ، أو كثر خير الإله ﴿الَّذِي بِيَدِهِ﴾ وتحت قدرته وسلطنته ﴿الْمُلْكُ﴾ وعالم الوجود من العلويات والسفليات ، يقلّبه كيف يشاء ، ويحكم فيه كيف أراد بلا ضدّ ولا ندّ ولا معارض ولا معاضد ﴿وَهُوَ﴾ في ملكه ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الايجاد والإعدام والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والإحياء والإماتة وغيرها ﴿قَدِيرٌ﴾.

ثمّ بيّن سبحانه آثار قدرته وسلطانه بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وقدّر بقدرته وحكمته ﴿الْمَوْتَ وَالْحَياةَ﴾ لكلّ ما يقبلهما.

عن ابن عباس : أنّ الموت والحياة جسمان ، وأنّ الله خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء ولا يجد رائحته شيء إلّا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء (١) ، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء يركبونها ، خطوتها مدّ البصر ، فوق الحمار ودون البغل ، لا تمرّ بشيء ولا يجد رائحتها [ شيء ] إلّا حيي ، وهي التي أخذ السامري من أثرها قبضة فألقاها على العجل فحيي (٢) .

__________________

(١) الفرس البلقاء : التي فيها سواء وبياض.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٤.

٢٩١

تحقيق في الموت وبيان نكتة تقديمه على الحياة

أقول : ظاهر ما ذكره أنّ الموت المخلوق هو حيوان يشبه الكبش الأملح ، وأثر قربه ورائحته في الشيء الحي هو عروض الموت عليه ، كالسّمّ وسائر الأشياء المهلكة ، وهو غير الموت الذي يعرض للأشياء الحيّة ، فالموت الذي هو من العوارض الوجودية على قول والعدمية على القول الحقّ غير ذلك الموت الذي هو مخلوق وصورته في عالم الصّور والمثال صورة الكبش ، فلا دلالة لكلام ابن عباس على صحّة أحد القولين.

والحقّ أنّ المفهوم من لفظ الموت الذي يكون في قبال الحياة في الاستعمال الشائع ، هو من العدميات التي لها شائبة الوجود ، ويسمّى بالعدم والملكة والعدم المضاف ، وهو يتحقّق بانتفاء علّة الحياة ، فانّ عدم علّة الوجود علّة للعدم ، وقبض ملك الموت الروح من الجسد سبب لطروّ الموت عليه ، ويمكن أن تكون صورته المثاليه البرزخية صورة الكبش الأملح التي يؤتى بها يوم القيامة ، ويذبحه يحيى بن زكريا على رواية (١) .

وهذا المعنى الذي للموت مخلوق بتبع خلق الحياة ، كما أنّ خلق الليل الذي عدم النور فوق الأرض إنّما يكون بتبع خلق النهار ، فانّ ذهاب الشمس من فوق الأرض وعدمها منه علّة لظلمة الليل ، وعليه يكون معنى خلق الموت والحياة جعل الروح في القالب وسلبه منه ، وهذا هو الموت الذي يكون بعد الحياة ، كما عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله خلق الحياة قبل الموت » (٢) . وأمّا الموت الذي هو فقد الحياة وعدمها ، كما يكون للنّطفة وللأرض الميتة ، فهو قبل الحياة.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ الموت بالمعنى الأعمّ عدمي صرف لا يحتاج إلى السبب ، وأمّا الموت الذي هو زهاق الروح فهو مسبّب عن ذهاب مقتضى الحياة بنفسه أو وجود ما هو ضدّها ، وعليه يمكن حمل ما عن الباقر عليه‌السلام من قوله : « الحياة والموت خلقان من خلق الله ، فاذا جاء الموت فدخل في الانسان ، لم يدخل في شيء إلا خرجت منه الحياة » (٣) وحمل دخول الموت على دخول ما هو مانع الحياة ، وإن كان ظاهره مقررا لما قاله الأشاعرة من أنّ الموت والحياة صفتان وجوديتان مستدلّين عليه بالآية المباركة ، إلّا أن يقال : إنّ اتّصاف الجسم بالموت ( والسكون ) مثلا وتقيّده به أمر وجوديّ كالحياة.

وعلى أي تقدير قيل في وجه تقديم ذكر الموت : إنّ المراد به حال النّطفة والعلقة والمضغة ، وبالحياة نفخ الروح (٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٧٥.

(٢) الكافي ٨ : ١٤٥ / ١١٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٥٩ / ٣٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٠.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥.

٢٩٢

وعن ابن عباس ، قال : يزيد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة ، وفي معناه ما قيل من ان أيام الموت هي أيام الدنيا وهي من قضيته وأيام الحياة هي أيام الآخرة وهي متأخّرة (١) .

وقيل : إنّ أقوى الدواعي للعمل كون الموت نصب العين ، وإنّما قدّم الموت لأنّ الغرض - وهو البعث على العمل فيه - أهمّ (٢) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثروا ذكر هادم اللذّات » [ وقال لقوم « لو أكثرتم ذكر هادم اللذات ] لشغلكم عمّا أرى » (٣) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل عن رجل فأثنوا عليه فقال : « كيف ذكره الموت ؟ » قالوا : قليل. قال : « فليس كما تقولون » (٤) .

وفي الحديث : « لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر ، والمرض ، والموت » (٥) .

وإلى ما ذكر أشار سبحانه بقوله : ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ويختركم ويعلمكم بسبب خلق الموت والحياة ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ فيجازيكم على اختلاف المراتب.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يقول أيّكم أحسن عقلا » ثمّ قال : « أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا » (٦) .

وفي رواية قال : « أيكم أزهد في الدنيا ، وأشدّكم تركا لها » (٧) .

وفي رواية قال : « أيّكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ليس يعني أكثركم عملا ، ولكم أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة ... » (٩) الخبر.

﴿وَهُوَ﴾ تعالى وحده ﴿الْعَزِيزُ﴾ والغالب على كلّ شيء لا يفوته من أساء و﴿الْغَفُورُ﴾ لمن شاء إمّا بالتوبة أو بالشفاعة أو بالتفضّل.

﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ

 الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥ ، وفيه في الموضعين : هازم ، بدلا من : هادم.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٥.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٥.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٦.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٥٦.

(٨) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٦.

(٩) الكافي ٢ : ١٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٠.

٢٩٣

خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً

 لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٣) و (٥)

ثمّ بالغ سبحانه في ذكر آثار قدرته بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأبدع ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ حال كونهنّ ﴿طِباقاً﴾ بعضها فوق بعض لكلّ حدّ معين وحركة خاصة مقدّرة بقدر مخصوص من السرعة والبطئ ، متناسبات في الخلق بحيث ﴿ما تَرى﴾ أيّها الرسول ، أو الرائي ﴿فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ﴾ وإبداع الإله الفيّاض المنّان يسيرا ﴿مِنْ تَفاوُتٍ﴾ واختلاف وعيب. يقول الرائي : لو كان كذا كان أحسن ، أو من فروج وشقوق ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ وردّه إلى رؤيتها ، وأعد النظر إليها لطلب الخروق والصّدوع فيها (١)﴿يَنْقَلِبْ﴾ ويرجع ﴿إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً﴾ محروما من إصابة ما طلبه من العيب والخلل ﴿وَهُوَ﴾ لطول المعاودة وكثرة المراجعة ﴿حَسِيرٌ﴾ وكليل ، وبالغ غاية الإعياء والعجز عن الظّفر بالمطلوب من وجدان العيب.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال خلقه السماوات بيّن كمال قدرته وحكمته بتحسينها وتزيينها منّة على العباد بقوله : ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا﴾ وحسنّا بقدرتنا ﴿السَّماءَ الدُّنْيا﴾ وأقربها إلى الأرض ﴿بِمَصابِيحَ﴾ وسرج مضيئة من النجوم والكواكب الثوابت والسيارة.

أقول : لا ينافي ذلك كون جميعها أو بعضها في السماوات الاخر ، فانّها ترى في السماء الدنيا وترى زينة لها.

وصيّرنا الكواكب ﴿وَجَعَلْناها﴾ مع ذلك ﴿رُجُوماً﴾ ومطردات ﴿لِلشَّياطِينِ﴾ وكفرة الجنّ بالشّهب المنفصلة منها ، إذا أرادوا استراق السمع وقيل : يعني جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميّون من المنجّمين (٢)﴿وَأَعْتَدْنا﴾ لاولئك الشياطين وهيّأنا ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابَ السَّعِيرِ﴾ والنار الموقدة التي أوقدها الجبّار بغضبه.

﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها

 شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها

 أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ

 إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ

 السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) و (١١)

__________________

(١) يوجد في النسخة بياض بمقدار سطر وأربع كلمات.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٠.

٢٩٤

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ كفار الشياطين لهم عذاب جهنّم ، هدّد جميع الكفّار من الجنّ والإنس به بقوله : ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ [ سواء ] كانوا من الشياطين أو الجنّ أو الانس ﴿عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ في الآخرة ﴿وَ﴾ هي ﴿بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع لهم.

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوال جهنّم مضافا إلى التعذيب بها بقوله : ﴿إِذا أُلْقُوا﴾ اولئك الكفّار في جهنّم وطرحوا ﴿فِيها﴾ كالحطب الذي يطرح في النار من غير رقّة وترحّم ﴿سَمِعُوا﴾ اولئك الملقون في جهنّم ﴿لَها شَهِيقاً﴾ وصوتا منكرا كصوت الحمار غضبا عليهم ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ وتغلي غليان القدر بالماء الذي فيه بغاية الشدّة من شدّة التلهّب والتسعّر ، فهم لا يزالون صاعدين فيها وهابطين كالحبّ الذي في الماء المغلي لاقرار لهم فيها.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان شدّة غضب جهنّم عليهم بقوله : ﴿تَكادُ﴾ وتقرب جهنّم من أن ﴿تَمَيَّزُ﴾ وتفرّق ﴿مِنَ﴾ شدّة ﴿الْغَيْظِ﴾ والغضب عليهم.

ثمّ بيّن سبحانه حال الملقون فيها بقوله : ﴿كُلَّما أُلْقِيَ﴾ في جهنّم وطرح ﴿فِيها﴾ من الكفرة ﴿فَوْجٌ﴾ وجماعة بدفع الملائكة الذين هم أغيظ عليهم من النار ﴿سَأَلَهُمْ﴾ مالك جهنّم وأعوانه الذين هم موكلون عليها و﴿خَزَنَتُها﴾ بطريق التوبيخ والتقريع أيّها الكفرة ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ في الدنيا من قبل ربّكم ﴿نَذِيرٌ﴾ ومخوّف لكم من عذاب هذا اليوم وأهواله ؟ ﴿قالُوا﴾ في جواب الخزنه اعترافا بجرمهم واستحقاقهم للعذاب : ﴿بَلى﴾ أيّها الخزنة ﴿قَدْ جاءَنا﴾ في الدنيا من قبل ربّنا ﴿نَذِيرٌ﴾ عظيم الشأن كثير المعجزات ﴿فَكَذَّبْنا﴾ ذلك النذير في دعوى كونه من الله ﴿وَقُلْنا﴾ في ردّ ما كانوا يتلون علينا من الآيات ﴿ما نَزَّلَ اللهُ﴾ ممّا تتلون علينا ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ يسير فضلا عن جميع تلك الآيات الكثيرة أو من شيء من كتاب ورسول ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾ وما نراكم أيّها المدّعون للرسالة ﴿إِلَّا﴾ منغمرين ﴿فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ﴾ ومنحرفين عن طريق واضح عند عامة العقلاء في دعواكم الرسالة ، وكون ما تتلون علينا من جانب الله ﴿وَقالُوا﴾ تحسّرا وتندّما : إنا ﴿لَوْ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نَسْمَعُ﴾ مواعظ الرّسل سماع القبول ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ امتناع الشرك ووجوب بعث الرسول وجعل دار الجزاء على الله ، وبراهين الأنبياء على التوحيد ، وسائر ما جاءوا به ﴿ما كُنَّا﴾ اليوم ﴿فِي﴾ زمرة ﴿أَصْحابِ السَّعِيرِ﴾ ومستحقي العذاب.

قيل : كأنّ الخزنة قالوا لهم في تضاعيف توبيخهم : ألم تسمعوا آيات ربّكم من ألسنة الرّسل ، ولم تعقلوا معانيها ؟ قالوا في جوابهم ذلك (١) ﴿فَاعْتَرَفُوا﴾ في جواب الخزنة اضطرارا لما رأوا أنّه

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٨٥.

٢٩٥

لا يمكنهم الفرار والإنكار ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾ من الكفر والمعاصي ومعارضة الرسل وتكذيبهم اختيارا في الدنيا وأقرّوا باستحقاقهم العذاب ﴿فَسُحْقاً﴾ وبعدا لا غاية له من رحمة الله ﴿لِأَصْحابِ السَّعِيرِ﴾ وهم الكفرة من الجنّ والإنس اعترفوا أو جحدوا.

وعن ( الاحتجاج ) في الخطبة الغديرية : « أنّ هذه الآيات في أعداء عليّ وأولاده عليه‌السلام والتي بعدها في أوليائه » (١) .

قيل : إنّ التقدير فسحقوا سحقا وبعدوا بعدا على التحقيق ، أو على الدعاء عليهم ، بمعنى تعليم الله العباد أن يدعوا عليهم بهذا إشعارا بأنّهم مستحقّون لهذا الدعاء (٢) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ

 اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٢) و (١٣)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر سوء حال الكفّار في الآخرة ، ذكر حسن حال المؤمنين فيها بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ يؤمنون بالله ، و﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ الذي هو ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عن أبصارهم لا يرونه بعيونهم ، بل يعرفونه بقلوبهم ، أو المراد يخشون عذاب ربّهم بعد الموت ويوم القيامة مع [ أنّ ] ذلك العذاب غائب عنهم غير مرئيّ لهم في الدنيا ، أو هم بالغيب عن الناس فيتركون معاصي الله في الخلوة ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة لذنوبهم ﴿وَأَجْرٌ﴾ وثواب ﴿كَبِيرٌ﴾ وعظيم لا يوصف بالبيان تصغر دونه الدنيا وما فيها.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيد الكفّار ووعد المؤمنين بطريق المغايبة ، خاطب جميع الناس وحذّرهم عن العصيان في السّر والعلن بقوله : ﴿وَأَسِرُّوا﴾ وأخفوا ﴿قَوْلَكُمْ﴾ السيّء ﴿أَوِ اجْهَرُوا﴾ وأعلنوا ﴿بِهِ﴾ لا يتفاوت بالنسبة إلى الله ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بكلّ شيء ظاهر وخفيّ حتى ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ والخطورات التي في القلوب.

عن ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيخبره جبرئيل فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم ، لئلا يسمع إله محمد ، فنزلت هذه الآية (٣) .

﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً

 فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٤) و (١٥)

__________________

(١) الاحتجاج : ٦٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٢.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٦.

٢٩٦

ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار إنكار علمه تعالى بمخلوقه بقوله : ﴿أَلا يَعْلَمُ﴾ وهل لا يحيط ﴿مَنْ خَلَقَ﴾ شيئا بمخلوقه ؟ ماهية وصفة ومقدارا ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿هُوَ اللَّطِيفُ﴾ والعالم بخفيّات الامور ودقائق الأشياء ﴿الْخَبِيرُ﴾ والمحيط ببواطنها. قيل : اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، ثمّ يوصلها إلى المستصلح بالرّفق دون العنف ، والخبير من لا يعزب عنه الأخبار الباطنة ، فلا يجري في الملك والملكوت شيء حتى حركة الدّودة في بطن صخرة إلّا وعنده خبره وعلمه (١) .

ثمّ رجع سبحانه إلى آثار قدرته في الأرض بعد ذكر آثارها في السماوات بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ﴾ بقدرته نفعا ﴿لَكُمُ﴾ أيّها الناس ﴿الْأَرْضَ﴾ بأقطارها ﴿ذَلُولاً﴾ ومنقادة لكم غاية الانقياد ، لتنتفعوا بها بالسّكونة ، والزّرع والغرس ، وحفر الآبار ، وشقّ العيون والأنهار ، وبناء الأبنية ، ودفن الأموات وغيرها ﴿فَامْشُوا فِي مَناكِبِها﴾ واسلكوا في جوانبها وأطرافها ، أو في جبالها فضلا عن سهلها كما عن ابن عباس (٢)﴿وَكُلُوا مِنْ﴾ نعم الله و﴿رِزْقِهِ﴾ الذي أحلّ لكم ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى وحده ﴿النُّشُورُ﴾ والمرجع بعد البعث من قبوركم ، فاجتهدوا في شكره ، وجدّوا في طاعته.

قيل : إنّ وجه نظم هذه الآية أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بعلمه بسرّهم وعلنهم ، بالغ في تهديدهم بقوله : ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ﴾ فهو نظير أن يقول المولى لعبده العاصي : كن في هذه الدار ، وكل هذا الخبز ، ولا تأمن من تأديبي (٣) .

﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ

 مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٦) و (١٧)

ثمّ هدّد الكفّار على ترك شكر نعمه بقوله : ﴿أَأَمِنْتُمْ﴾ أيّها المكذّبون الكافرون لنعم الله ﴿مَنْ فِي السَّماءِ﴾ نفاذ أمره ، وظهور كمال قدرته وسلطانه وملكه ، أو المراد بمن في السماء جبرئيل الموكّل بالعذاب ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ ويقلب ﴿بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ويغلبكم في بطنها بعد جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها وتأكلون ممّا ينبت فيها بكفرانكم نعمه ﴿فَإِذا هِيَ﴾ بعد أن خسفت بكم ﴿تَمُورُ﴾ وتضطرب وتتحرّك ذهابا ومجيئا لتبلغكم إلى الطبقة السّفلى منها تعذيبا لكم كما فعلت بقارون.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله : ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ﴾ أيّها الكفار ﴿مَنْ فِي السَّماءِ﴾ من ﴿أَنْ يُرْسِلَ﴾ وينزل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ منها تعذيبا لكم ﴿حاصِباً﴾ ومطر حجارة كما أرسل على قوم لوط ، فاذا لا أمان

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٨٧.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٨.

٢٩٧
٢٩٨

﴿لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ﴾ عند نزول العذاب والآفات ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ﴾ وما سواه.

أقول : هذا التبكيت يساوق قوله : ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا(١) .

ثمّ قرّر سبحانه حماقتهم وجهلهم بقوله : ﴿إِنِ الْكافِرُونَ﴾ وما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من الآفات بحفظ آلهتهم ﴿إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ عظيم وظلال فاحش.

ثمّ وبّخهم سبحانه على اعتمادهم على آلهتهم في إيصال الخيرات إليهم بقوله : ﴿أَمَّنْ﴾ وبل أيّ شيء ﴿هذَا﴾ الصنم الحقير ﴿الَّذِي﴾ تزعمون أنّه ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ ويوصل إليكم ما تعيشون به من النّعم ﴿إِنْ أَمْسَكَ﴾ الرحمن ﴿رِزْقَهُ﴾ ونعمه بحبس المطر ومبادى الانتفاع بنعمه ، يا للعجب كيف لا يتأثّر الكفّار بتلك المواعظ والمنبّهات ! ﴿بَلْ لَجُّوا﴾ وتمادوا ﴿فِي عُتُوٍّ﴾ وطغيان على الله ﴿وَنُفُورٍ﴾ واشمئزاز عن الحقّ ، كأنّهم حمر مستنفرة.

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ

 مُسْتَقِيمٍ (٢٢)

ثمّ بيّن سبحانه عدم قابليتهم للهداية بضرب المثل بقوله : ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي﴾ حال كونه ﴿مُكِبًّا﴾ وساقطا ﴿عَلى وَجْهِهِ﴾ كالمصروع ﴿أَهْدى﴾ وأوصل إلى مقصوده ومطلوبه ﴿أَمَّنْ يَمْشِي﴾ حال كونه ﴿سَوِيًّا﴾ وقائما على رجليه مصونا من السقوط والعثار ﴿عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق سوى لا عوج فيه ولا انحراف ؟ ومن الواضح أنّ الأول يمتنع وصوله إلى مطلوبه أبدا.

قيل : إنّ الكافر لمّا كان في الدنيا مكبّا على معاصي الله ، حشره الله في الآخرة مكبّا على وجهه ، والمؤمن لمّا كان في الدنيا قائما على أوامر الله مقدما على امتثال أحكامه ، حشره الله في الآخرة قائما على قدميه سائرا إلى الجنّة (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان ، وقلب منكوس ، وقلب مطبوع ، وقلب أزهر أنور » قال : « فأمّا القلب المطبوع فقلب المنافق ، وأمّا القلب الأزهر فقلب المؤمن ، إذا أعطاه الله عزوجل شكر ، وإن ابتلاه صبر ، وأمّا القلب المنكوس فقلب المشرك » ثمّ قرأ هذه الآية(٣).

وعن الكاظم عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « إنّ الله ضرب مثل من حاد عن ولاية عليّ لا يهتدي لأمره ، وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم ، والصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه‌السلام » (٤).

__________________

(١) الأنبياء : ٢١ / ٤٣.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٩٤.

(٣) معاني الأخبار : ٣٩٥ / ٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٤.

(٤) الكافي ١ : ٣٥٩ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٤.

٢٩٩

أقول : هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

وعن ابن عباس رضوان الله عليه قال : نزلت في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب (١) ، وقيل : في أبي جهل ، وعمّار بن ياسر (٢) .

﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ

 * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ

 إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) و (٢٥)

ثمّ رجع سبحانه إلى الاستدلال على قدرته ونعمه بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين المنكرين لقدرة الله على البعث الكافرين لنعمه : إنّ الله تعالى ﴿هُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ وخلقكم أولا من تراب ، ثمّ من نطفة قذرة ، ثمّ أكمل خلقكم ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ لتدركوا المسموعات ، وتسمعوا المواعظ والآيات الإلهية ﴿وَ﴾ شقّ لكم ﴿الْأَبْصارَ﴾ وجعل فيها قوة الرؤية لتدركوا بها المبصرات ، وتنظروا إلى آيات توحيد الله وحكمته وقدرته ومعجزات رسله ﴿وَ﴾ جعل لكم ﴿الْأَفْئِدَةَ﴾ والقلوب وقوّة الفهم فيها ، لتتفكروا فيما تبصرونه وتسمعونه ، وتميّزوا (٣) صحيحه وفاسده وحقّه وباطله ، وتعتبروا بالعبر منهما ، وتتأمّلوا في الآيات التنزيلية والتكوينية ، وترتقوا بها في درجات الايمان والطاعة ، والاسف انكم شكرا أو زمانا ﴿قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ﴾ لله هذه النّعم العظام باستعمالها فيما خلقت له ، فانّ شكر النعمة صرفها فيما فيه رضا المنعم ، بل تكفرونها حيث تصرفونها فيما فيه غضبه وسخطه. وقيل : إنّ القليل هنا كناية عن العدم (٤) .

﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الكفرة : إنّ ربّكم ﴿هُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾ وأكثركم من نفس واحدة ، أو فرّقكم ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ وأقطارها ، لتتعيشوا فيها وتستريحوا عليها ثمّ أنتم بعد انقضاء هذا العالم تحيون ثانيا في القبور بقدرة الله ﴿وَإِلَيْهِ﴾ وحده يوم القيامة ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتساقون ، أو تجمعون للحساب وجزاء الأعمال ، فاستعدّوا لهذا اليوم العظيم ، وبادروا إلى أحسن الأعمال وأفضل العبادات ، كي تنجوا من الأهوال والشدائد التي فيه ، وتصلوا إلى الجنّة والنّعم الدائمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعده بالحشر والبعث حكى استهزاء المشركين المنكرين للبعث به بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ عنادا واستهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) والمؤمنين المخبرين بالحشر ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾ وفي أيّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٢.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٣.

(٣) زاد في النسخة : في.

(٤) تفسير أبي السعود ٩ : ٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٩٥.

(٥) في النسخة : للنبي.

٣٠٠