نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

استحقاقهم ، بيّن سبحانه سعة علمه بجميع الموجودات في جميع العوالم العلوية والسّفلية بقوله : ﴿يَعْلَمُ﴾ بذاته ﴿ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الموجودات الكبيرة والصغيرة ، وأحوالها الخفية والجلية.

ثمّ أكّد علمه أحوال الناس تشديدا للوعد والوعيد وإرعابا للقلوب بقوله : ﴿وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ﴾ وما تسترونه عن غيركم من الأعمال ﴿وَما تُعْلِنُونَ﴾ وتظهرونه لسائر الناس من الطاعة والمعصية ﴿وَاللهُ﴾ العظيم المنتقم ﴿عَلِيمٌ﴾ ومحيط ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ وخطورات القلوب ومكنونات الضمائر ، فلا يخفي عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، فيجازيكم حين رجوعكم إليه على عقائدكم وأعمالكم ، فأحسنوها كما أحسن صوركم ونظم امور معاشكم.

﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ *

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا

 وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٥) و (٦)

ثمّ وجّه خطابه إلى الكفّار وهدّدهم بمثل ما نزل على الكفرة من الامم السابقة من العذاب بقوله : ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ ولم يصل إليكم أيّها الكفار الحاضرون في عصر النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿نَبَأُ﴾ الامم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ كامّة نوح وهود وصالح ، وخبر حالهم السيء ، وذلك الخبر الهائل أنّهم أصرّوا على الكفر بالله ورسله ﴿فَذاقُوا﴾ وأحسّوا ﴿وَبالَ أَمْرِهِمْ﴾ وشدّة عاقبة كفرهم في الدنيا حيث استأصلهم بالعذاب ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ لا يمكن بيان شدّته وإيلامه في الدنيا وكان ﴿ذلِكَ﴾ العذاب الدنيوي والاخروي ﴿بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ﴾ من قبل الله مستدلّين على رسالتهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ﴿فَقالُوا﴾ جوابا لرسلهم وإنكارا لرسالتهم : ﴿أَبَشَرٌ﴾ مثلنا ﴿يَهْدُونَنا﴾ ويرشدوننا إلى معبودنا ودين آخر ؟ ! فتعجّبوا من أن يكون الرسول بشرا ، ولم يتعجّبوا من أن يكون إلههم حجرا ﴿فَكَفَرُوا﴾ بالله ورسله جهلا وعنادا ﴿وَتَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن قبول قولهم والتدبّر في معجزاتهم ﴿وَاسْتَغْنَى اللهُ﴾ عن إيمانهم وطاعتهم ، ولذا أهلك جميعهم وقطع دابرهم ، ولو لا غناء ، ما فعل ذلك ﴿وَاللهُ﴾ المالك لجميع الموجودات الخالق لهم ﴿غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ومحمود في فعاله ، أو مستحقّ للحمد بذاته ولو لم يكن حامد.

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ

 وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما

٢٦١

تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ

 وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

 خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧) و (٩)

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بعذاب الامم السابقة في الآخرة ، حكى إنكار المشركين المعاد بقوله : ﴿زَعَمَ﴾ وظنّ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ﴾ يحيوا بعدموتهم ولن ﴿يُبْعَثُوا﴾ أحياء من قبورهم للحساب والجزاء أبدا.

ثمّ أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بردّ قولهم ذلك بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : ﴿بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ﴾ من قبوركم للحساب والمجازاة ﴿ثُمَ﴾ بعد البعث ﴿لَتُنَبَّؤُنَ﴾ ولتخبرنّ ﴿بِما عَمِلْتُمْ﴾ في الدنيا من الكفر والعصيان برؤية العذاب عليه ﴿وَذلِكَ﴾ البعث والتعذيب ﴿عَلَى اللهِ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿يَسِيرٌ﴾ وسهل لكمال القدرة ووجود المقتضي وعدم المانع ، فإذا كان الأمر كذلك ﴿فَآمِنُوا﴾ أيها الناس ﴿بِاللهِ﴾ ووحدانيته ﴿وَرَسُولِهِ﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا﴾ على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو القرآن المبين لكلّ حقّ والمظهر لكلّ صواب.

وعن الكاظم عليه‌السلام : « الامامة هي النور » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « النور والله الأئمة » (٢) .

﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الايمان والعمل بالقرآن ﴿خَبِيرٌ﴾ ومطّلع في الغاية ، واذكروا أيها الناس ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ الله ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ والحساب ، يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، وهو يوم القيامة ﴿ذلِكَ﴾ اليوم ﴿يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ والتخاسر يغبن ويخسر بعض الناس بعضا ، يتمكّن بعضهم في مسكن بعض.

عن ابن عباس : أنّ قوما في النار يعذّبون ، وقوما في الجنة يتنعّمون (٣) .

وقيل : يوم يغبن أهل الحقّ أهل الباطل ، وأهل الهدى أهل الضّلالة ، وأهل الايمان أهل الكفر ، فلا غبن أبين من هذا (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار » (٥) .

وفي الحديث : « ما من عبد يدخل الجنّة إلّا اري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلّا اري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة » (٦) .

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥١ / ٦ ، وفيه : النور هو الإمام ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٣.

(٢) الكافي ١ : ١٥١ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٣.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤.

(٥) معاني الأخبار : ١٥٦ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٣.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١١.

٢٦٢

قيل : إطلاق الغبن على نزول الأشقياء في منازل السّعداء من باب التهكّم (١) .

﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن

 تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا

 بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * ما أَصابَ مِنْ

 مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا

 اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٠) و (١٢)

ثمّ بين سبحانه ربح المؤمنين في تجارتهم بقوله ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ﴾ صادقا مخلصا ﴿وَيَعْمَلْ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ مرضيا لله ﴿يُكَفِّرْ﴾ الله ﴿عَنْهُ﴾ ويغفر له ﴿سَيِّئاتِهِ﴾ يوم القيامة ، فلا يفضحه بها بين الناس ﴿وَيُدْخِلْهُ﴾ بفضله ﴿جَنَّاتٍ﴾ ذات قصور وأشجار ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها أَبَداً﴾ دائما ﴿ذلِكَ﴾ الأجر المذكور على إيمانهم وعملهم هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والنّيل بأعلى المقاصد من النجاة من العذاب والظّفر بأجلّ الطيبات.

ثمّ بيّن سبحانه غبن الكفّار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ القرآنية ومعجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿أُولئِكَ﴾ المغبونون ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها وَ﴾ هي ﴿بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع للكفّار.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة ، كان مجال أن يقال : فلم يبتلى المؤمن في الدنيا بالفقر والمرض والشدائد ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿ما أَصابَ﴾ أحدا ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ وبلية من فقر أو مرض أو غيرهما من الشدائد ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ وتقديره وإرادته المنبعثة عن الحكمة البالغة ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ﴾ اللطيف الحكيم ﴿يَهْدِ﴾ الله ﴿قَلْبَهُ﴾ عند المصيبة للصبر والثّبات والشّكر والرضا والتسليم لحكمه. عن ابن عباس : يهدي قلبه لما يحبّ ويرضى (٢) .

﴿وَاللهُ﴾ المحيط بخلقه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها من الرضا والتسليم ﴿عَلِيمٌ﴾ ومطّلع كمال الاطلاع ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ فيما أمركم به ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ فيما يؤدّي إليكم عنه ، ولا تشغلكم المصائب عن العمل بوظائف الايمان ، قيل : تكرار الأمر بالطاعة للتأكيد وبيان الفرق بين الطاعتين (٣)﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ وأعرضتم أيّها الناس عن طاعة الرسول وإجابته فيما

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٦.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٤.

٢٦٣

دعاكم إليه لا يضرّه بشيء ﴿فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا﴾ أيّ رسول كان ﴿الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ وتأدية الرسالة ببيان واضح ، وقد فعل بما لا مزيد عليه ، وقد بقي ما عليكم.

﴿اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ

 أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ

 اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٣) و (١٤)

ثمّ لمّا بيّن أنّ جميع المصائب والبلايا بتقدير الله وإرادته ، وصف ذاته المقدّسة بالعظمة والوحدانية ، وأمر المؤمنين بالتوكّل عليه بقوله : ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبود مستحقّ للعبادة سواه ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ العظيم وحده ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وليفوّضوا إليه الامور ، ومنه يسألوا الحفظ من المصائب والصبر عليها.

ثمّ لمّا صلّى سبحانه في المصائب والبلايا الدنيوية ، تعرّض للبلايا الاخروية وما يمنع عن طاعة الله ويصرف عنها من الأزواج والأولاد بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَ﴾ بعضا ﴿مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ﴾ يكونون ﴿عَدُوًّا لَكُمْ﴾ يمنعونكم من الهجرة والجهاد والعمل بالتكاليف ، كعداوة الشيطان لبني آدم ، إذن ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ واحترزوا عن موافقتهم وقبول قولهم. قيل : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان أهله وولده يثبّطونه عن الهجرة والجهاد (١) .

وعن ابن عباس : أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : هؤلاء رجال من أهل مكّة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة ، فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم ، فهو قوله : ﴿عَدُوًّا لَكُمْ﴾ فاحذروا أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة. وقوله : ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا﴾ قال : هو أنّ الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا إلى الهجرة ، وفقهوا في الدين ، همّ أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه من الهجرة ، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ، ولم يصبهم بخير ، فنزل : ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٢) قيل : يعني فعليكم أن تتخلّقوا بأخلاق الله (٣) .

﴿إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ

 وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ

 الْمُفْلِحُونَ (١٥) و (١٦)

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٧.

(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٨.

٢٦٤

ثمّ لمّا كان محبّة المال والولد فتنة وبلاء عظيما أمر سبحانه المؤمنين بإيثار محبة الله على محبّتهما بقوله : ﴿إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ واختبارا وبلاء ومحنة لكم يوقعانكم في معصية الله وعذابه ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لمن آثر محبّته على محبّتهما وطاعته على الاشتغال بمصالحهما ، فلا تعصوا الله بسبب حبّهما.

عن امير المؤمنين عليه‌السلام قال : لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ الله فليستعذ من مضلّات الفتن ، فانّ الله يقول : ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ(١) .

وحكى بعض العامة عن ابن مسعود ما يقرب منه (٢) .

في فضيلة الحسنين عليهما‌السلام

وعن بعض العامة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب ، إذ جاء الحسن والحسين عليهما‌السلام وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله من المنبر ، فحملهما ووضعهما بين يديه (٣) .

وفي رواية : وضعهما في حجرة على المنبر وقال : « صدق الله عزوجل ﴿إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم اصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما » . ثمّ أخذ في خطبته (٤) .

فإذا علمتم أنّ الأزواج والأولاد أعداءكم ، وأنّ المال والولد فتنة لكم ، وأنّ الله عنده أجر عظيم وجنة ونعيم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ واحذروه أن يعذّبكم على مخالفة أحكامه لحبّ المال والولد ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ومقدار وسعكم ، ولا ترتكبوا ما يوجب سخطه عليكم ﴿وَاسْمَعُوا﴾ مواعظ الله سماع القبول ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أيّها المؤمنون أوامره ونواهيه ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ في سبيله ممّا رزقكم لوجهه ، تكن التقوى والسماع والطاعة والانفاق ﴿خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ﴾ وأنفع من الدنيا وما فيها فضلا عن المال والولد.

في ذم البخل والترغيب في الانفاق وثوابه

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين بعد أمرهم بالانفاق إلى ترك البخل بقوله : ﴿وَمَنْ يُوقَ﴾ ويمنع ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ وبخلها الكامن فيها من التأثير في المنع عن الانفاق في سبيل الله ﴿فَأُولئِكَ﴾ الرادعون أنفسهم عن البخل ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون بالجنّة ونعيمها.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٨٣ الحكمة ٩٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٥.

(٢-٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩.

٢٦٥

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف ، بالبيت ، فاذا رجل متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول : بحرمة هذا البيت إلّا غفرت لي. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ذنبك ؟ » قال : هو أعظم من أن أصفه لك. قال : « ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون ؟ » قال : بل ذنبي يا رسول الله. قال : « ويحك ذنبك أعظم أم الجبال ؟ » قال : بل ذنبي أعظم. قال : « فذنبك أعظم أم السماوات » قال : بل ذنبي أعظم. قال : « فذنبك أعظم أم العرش » قال : بل ذنبي أعظم. قال : « فذنبك أعظم أم الله » قال : بل الله أعظم وأعلى.

قال : « ويحك صف لي ذنبك » قال : يا رسول الله ، إنّي رجل ذو ثروة من المال ، وإن السائل ليأتيني ليسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من النار. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اعزب عنّي لا تحرقني بنارك ، فو الذي بعثني بالهداية والكرامه لو قمت بين الرّكن والمقام ، ثمّ بكيت ألفي عام حتى تجرى من دموعك الأنهار وتسقى بها الاشجار ، ثمّ مت وأنت لئيم ، لأكبّك الله في النار ، أما علمت أنّ البخل كفر ، وأنّ الكفّار في النار ، ويحك أما علمت أنّ الله يقول : ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ » (١) .

﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ *

 عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٧) و (١٨)

ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الانفاق في سبيله بقوله : ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ﴾ أيّها المؤمنون ﴿قَرْضاً حَسَناً﴾ ببذل شيء من أموالكم في الوجوه البرية ، وفي المصارف الخيرية ، بخلوص النية ، وطيب النفس ﴿يُضاعِفْهُ﴾ الله ﴿لَكُمْ﴾ أضعافا كثيرة على حسب النيات والأوقات والمحالّ ، فبعض بالواحد عشرة ، وآخر بالواحد سبعين ، وبعض بالواحد سبعمائة ، وبعض أكثر منها ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبكم وخطاياكم ﴿وَاللهُ﴾ الكريم ﴿شَكُورٌ﴾ لعبيده بإكثار الثواب والعوض على إنفاقهم والأجر على حسناتهم ، أو بإكثار الثناء على عبده المحسن ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل في عقوبة البخيل وغيره من العصاة ﴿عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ والمطّلع على الخفيّ والظاهر من أعمال عباده وغيرها بحيث لا يعزب عن علمه شيء ، فيعلم صدقة السرّ والعلن وخلوص نيّة المصّدّق ورياءه فيها ﴿الْعَزِيزُ﴾ والقادر على إثابة المطيعين وعقوبة العصاة المتمرّدين ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يصدر منه إلّا ما هو الأصلح والأصوب ، ويثيب ويعاقب على حسب الاستحقاق.

روى بعض العامة عن عبد الله بن عمران قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من مولود إلّا وفي شبابيك

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢١.

٢٦٦

رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن » (١) .

أقول : لعلّ المراد خمس آيات من أول السورة مع عدّ ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ آية ، كما هو الحقّ.

وفي الحديث : « من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت له شفيعة يوم القيامة ، [ و] شاهد عدل عند من يجيز شهادتها ، ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة » (٣) .

الحمد لله على التوفيق لإتمام تفسيرها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٤.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٥٩ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٢٤.

(٣) ثواب الأعمال : ١١٨ ، مجمع البيان ١٠ : ٤٤٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٥.

٢٦٧
٢٦٨

في تفسير سورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ

 رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

 وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ

 بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة التغابن المتضمّنة لبيان عداوة النساء لأزواجهنّ ، وتهديد الكفّار بذوق الامم السابقة وبال كفرهم ، وحثّ المؤمنين على التقوى والانفاق في سبيل الله ، نظمت سورة الطلاق المتضمّنة لبيان بعض أحكام طلاق الأزواج ، ووجوب الانفاق عليهنّ في العدّة الرجعية وإذا كنّ ذوات الحمل ووجوب الانفاق على الأولاد والحثّ على التقوى وتهديد الكفّار بما ذاقت الامم السابقة من العذاب ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

في ذكر شرائط الطلاق وبعض أحكامه

ثمّ شرع سبحانه ببيان بعض أحكام الطلاق بعد خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُ﴾ ثمّ خاطب امّته لأنّه سيّدهم وقدوتهم ، فكان خطابه بمنزلة خطابهم. وقيل : إنّ التقدير قل لامتك (١)﴿إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ المدخول بهنّ ، وأردتم فراقهنّ وقطع علقة نكاحهنّ ﴿فَطَلِّقُوهُنَ﴾ وأنشئوا صيغة طلاقهنّ حال كونهنّ مستقبلات ﴿لِعِدَّتِهِنَ﴾ وزمان تربّصهنّ بعد الطلاق ، ومنعهنّ عن التزوج بالغير إذا كنّ في سنّ من تحيض.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسجاد عليه‌السلام : « فطلقوهن من (٢) قبل عدّتهنّ » (٣) . وعن الصادق عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا أراد الرجل الطلاق طلّقها (٤) من قبل عدّتها بغير جماع » (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٦.

(٢) في مجمع البيان وتفسير الصافي : في.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٦.

(٤) في الكافي : في.

(٥) الكافي ٦ : ٦٩ / ٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٦.

٢٦٩

وعن الباقر عليه‌السلام : « إنّما الطلاق أن يقول لها في قبل العدّة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها : أنت طالق ... » الخبر (١) .

وقيل : إن لام ﴿لِعِدَّتِهِنَ﴾ بمعنى في ، والمعنى فطلّقوهن في عدّتهنّ (٢) ، لأنّ الطّهر الذي يقع فيه الطلاق معدود من إظهار العدّة ، وهي ثلاثة. وعن الباقر عليه‌السلام : « العدّة : الطّهر من الحيض » (٣).

﴿وَأَحْصُوا﴾ أيّها الأزواج واضبطوا ﴿الْعِدَّةَ﴾ بحفظ الوقت الذي يقع فيه الطلاق ، وأكملوها ثلاث أطهار ، أو ثلاث أشهر ، إذا كنّ في سنّ من تحيض ، فانّ النساء عاجزات عن إحصائها لغلبة الغفلة عليهنّ.

ثمّ لمّا كان الغائب وقوع الطلاق لكراهة الزوج معاشرة الزوجه ، ولازم ذلك سرعة الزوج في إخراجهنّ من منزلهم ، نهى سبحانه عن إخراجهن مع التهديد على ذلك بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ﴾ أيّها الأزواج وخافوا عذابه على إخراجهن ، ولذا ﴿لا تُخْرِجُوهُنَ﴾ إذا كنّ رجعيات ﴿مِنْ بُيُوتِهِنَ﴾ ومساكنهنّ اللاتي أسكنتموهنّ فيها حال الطلاق ﴿وَ﴾ هن أيضا ﴿لا يَخْرُجْنَ﴾ منها ما دمن في العدّة.

وقيل : إنّ المراد اتّقوا الله ربّكم في تطويل عدّتهنّ والاضرار بهنّ بايقاع طلاق ثان بعد الرجعة (٤) .

ثمّ حرّم إخراجهنّ وخروجهنّ ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ويعملن عملا ظاهر القباحة كالزنا ، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عنه ، فقال : « إلا أن تزني ، فتخرج ويقام عليها الحدّ » (٥) .

وعن ابن عباس : وهو كلّ معصية (٦) .

وعن الرضا عليه‌السلام قال : « أذاها لأهل الرجل وسوء خلقها » (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « يعني بالفاحشة المبينة أن تؤذي أهل زوجها ، فاذا فعلت فان شاء أن يخرجها من قبل أن تنقضي عدّتها فعل » (٨) .

وقيل : إنّها خروجهنّ من البيوت ، والمعنى لا يخرجن إلّا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج (٩) .

ثمّ عظّم سبحانه أمر هذه الأحكام بقوله : ﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ وقوانينه الموضوعة لصلاح الناس ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾ ويتجاوز ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ ويخالفها ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وأضرّها بإيقاعها

__________________

(١) الكافي ٦ : ٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٦.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٠.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٨.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٢٢ / ١٥٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٨ و٢٩.

(٧) الكافي ٦ : ٩٧ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٨) الكافي ٦ : ٩٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٩) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٩.

٢٧٠

في معصية الله وتعريفها للعذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تحريم إخراجهن وخروجهنّ بقوله : ﴿لا تَدْرِي﴾ أيّها الزوج المطلّق ﴿لَعَلَّ اللهَ﴾ ويرجى أنّه ﴿يُحْدِثُ﴾ ويوجد ﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ الذي فعلت من الطلاق ﴿أَمْراً﴾ آخر من الندم والمحبّة للمطلّقة والإقبال إليها.

عن ابن عباس : يريد الندم على طلاقها ، والمحبّة لرجعتها في العدّة (١) .

وعن القمي قال : لعلّه يبدو لزوجها في الطلاق فيراجعها (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أحب للرجل الفقيه إذا أراد أن يطلّق امرأته أن يطلّقها طلاق السّنّة » ثمّ قال : « وهو الذي قال الله عزوجل : ﴿لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً﴾ [ يعني بعد الطلاق وانقضاء العدّة التزويج بها من قبل أن تزوّج زوجا غيره » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيب وتلبس ما شاءت من الثياب لأنّ الله عزوجل يقول : ﴿لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً﴾] لعلّها أن تقع في نفسه فيراجعها » (٤) .

روي بعض العامة عن أنس : أن رسول الله طلّق حفصة بنت عمر ، فأتت إلى أهلها ، فنزلت(٥).

وعن الكلبي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غضب على حفصة لمّا أسرّ إليها فاظهرته لعائشة ، فطلّقها تطليقة ، فنزلت (٦) .

أقول : لعلّ نزولها لخروجها إلى أهلها ، فلمّا نزلت راجعها.

وقيل : إنّها نزلت في عبد الله بن عمر ، فانّه طلّق امرأته في الحيض. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاذا راجعها ، فاذا ظهرت طلّقها إن شئت » فنزلت ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ(٧) .

﴿فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ

 عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ

 الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ

 يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٢) و (٣)

ثمّ بيّن سبحانه حكم الرجوع في العدّة بقوله : ﴿فَإِذا بَلَغْنَ﴾ المطلّقات وقربن ﴿أَجَلَهُنَ﴾ وآخر مدّة عدّتهن ، وأشرفن على انقضائها ﴿فَأَمْسِكُوهُنَ﴾ وارجعوا إلى نكاحهنّ إن شئتم ﴿بِمَعْرُوفٍ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٧٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٣) الكافي ٦ : ٦٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٤) الكافي ٦ : ٩٢ / ١٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٩.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٩.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٥.

٢٧١

وإيفاء حقوقهن ، ﴿أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وعدم الاضرار بهنّ بتطويل عدّتهنّ بالرجوع والطلاق ثانيا ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ على طلاقهنّ رجلين ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾ وصاحبي عدالة ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها المؤمنون.

عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال لأبي يوسف القاضي : « إنّ الله تبارك وتعالى أمر في كتابه بالطلاق ، وأكّد فيه بشاهدين ، ولم يرض بهما إلّا عدلين ، وأمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود ، فأثبتم شاهدين فيما أهمل ، وأبطلتم الشاهدين فيما أكّد » (١) .

و﴿وَأَقِيمُوا﴾ وأدّوا أيّها الشهود ﴿الشَّهادَةَ﴾ عند الحاجة إليها خالصا ﴿لِلَّهِ﴾ وتقربا إليه ﴿ذلِكُمْ﴾ الأحكام من طلاق السّنة ، والحثّ على الإشهاد وإقامة الشهادة لله مما ﴿يُوعَظُ﴾ ويرتدع ﴿بِهِ﴾ عن المخالفة خوفا من العذاب ﴿مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ عن صميم القلب ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ودار الجزاء ، فانّ لازم الايمان بالله مراعاة عظمته وحقوق ألوهيته وربوبيته ، وأقلّها طاعة أحكامه ، ولازم الايمان باليوم الآخر الخوف من الحساب والعقاب على مخالفة أحكامه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ﴾ في مخالفة أحكامه المذكورة في السورة ، أو في القرآن ﴿يَجْعَلْ﴾ الله ﴿لَهُ مَخْرَجاً﴾ ومخلصا ممّا عسى أن يبتلي به من الغموم الراجعة إلى الازدواج ، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب ، أو خلاصا من غموم الدنيا والآخرة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - بطريق عامي - أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها فقال : « مخرجا من شبهات الدنيا ، وغمرات الموت ، وشدائد يوم القيامة » (٢) . وقيل يجعل له مخرجا إلى الرّجعة (٣) .

عن ابن عباس ، أنّه سئل عمّن طلّق امرأته ثلاثا ، أو ألفا ، هل له من مخرج ؟ فقال : لم يتّق الله ، فلم يجعل له مخرجا ، بانت منه بثلاث ، والزيادة إثم في عنقه (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « مخرجا من الفتن ، ونورا من الظلم » (٥) .

﴿وَيَرْزُقْهُ﴾ الله في الدنيا ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ ومن وجه لا يخطر بباله.

روي أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنه سالما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : اسر ابني ، وشكا إليه الفاقة. فقال : « اتّق الله ، وأكثر قول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم » ففعل ، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنهما العدوّ فساقها ، فنزلت (٦) .

وفي رواية : أفلت بأربعة آلاف شاة وبالأمتعة (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : «﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ أي يبارك له فيما أتاه » (٨) .

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٨٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٧.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣١.

(٣و٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٣١.

(٥) نهج البلاغة : ٢٦٦ الخطبة ١٨٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٨.

(٦و٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٢.

(٨) مجمع البيان ٩ : ٤٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٨.

٢٧٢

وعنه ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام : « من أتاه برزق لم يخط إليه برجله ، ولم يمدّ إليه يده ، ولم يتكلّم فيه بلسانه ، ولم يشدّ إليه ثيابه ، ولم يتعرّض له ، كان ممّن ذكره الله عزوجل في كتابه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ(١) الآية » .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - بطريق عاميّ « أنّي لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ﴾ » الآية ، فما زال يقولها ويعيدها (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ قوما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزلت هذه الآية أغلقوا الباب ، وأقبلوا على العبادة ، وقالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فارسل إليهم ، فقال : ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا : يا رسول الله ، تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة. فقال : من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب » (٣) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، ليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا ، فيسمعوا حديثنا ويقتبسوا من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم ، وينفقون أموالهم ، حتّى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا ، فينقلوه إليهم ، فيعيه هؤلاء ويضيّعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون » (٤) .

في بيان حقيقة التوكل

أقول : الظاهر تطبيق الآية عليهم لا حصر المراد فيهم.

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ﴾ ويعتمد في اموره ﴿عَلَى اللهِ﴾ ويفوّض إليه ويثق به فيها ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ وكافيه مهمّاته ، ومصلح اموره ، ومعطيه مراده.

لو كنتم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠١ / ٣٩٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٨.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٢.

(٣) الكافي ٥ : ٨٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٨.

(٤) الكافي ٨ : ١٧٨ / ٢٠١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٨ ، وفيهما عن الصادق عليه‌السلام.

٢٧٣

حكمته البالغة ، لا يتقدّم بسعي ساع ، ولا يتأخّر بمنع مانع وتقصير مقصّر ، فاذا وصل الوقت يصل إليه ما قسم له من أنصبة الدنيا ، ومن المعلوم أنّ من تيقّن ذلك ما خاف أحدا ولا رجى أحدا وفوض أمره إليه تعالى ، وهو تعالى يبلغ ما أراد من أمره بلا مانع ولا عائق.

روي أن جبرئيل جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا جبرئيل ، ما التوكّل على الله ؟ فقال : العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فاذا كان العبد كذلك لم يعتمد على أحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله ، فهذا هو التوكّل(١).

وعن الكاظم عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « للمتوكّل على الله درجات ، منها أن تتوكّل على الله في امورك كلّها ، فما فعل بك كنت عنه راضيا ، تعلم أنّه لا يألوك خيرا وفضلا ، وتعلم أن الحكم في ذلك له ، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه ، وثق به فيها وفي غيرها » (٢) .

﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ

 وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ

 يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ

 سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٤) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه عدّة النساء اللاتي انقطع حيضهنّ بقوله : ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ﴾ وأزواجكم اللاتي دخلتم بهنّ وانقطع حيضهنّ ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ وشككتم في أمرهنّ ، ولا تدرون أنّهنّ يائسات ، أو في سنّ من تحيض ولا تحيض لمانع ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ هلالية.

عن ( المجمع ) عن أئمتنا عليهم‌السلام « هنّ اللواتي أمثالهنّ يحضن ، لأنهنّ لو كنّ في سنّ من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى » (٣) .

روي أنّ معاذ بن جبل قال : يا رسول الله ، قد عرفنا عدّه التي تحيض ، فما عدّة التي لم تحض ؟ فنزل : ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ(٤) فلمّا نزلت قام رجل فقال : يا رسول الله ، فما عدّة الصغيرة التي لم تحض ؟ فنزل ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ الصغر ، فهنّ أيضا كالكبيرة التي انقطع حيضها ، عدّتهن ثلاثة أشهر (٥). قيل : فقام رجل آخر. وقال : ما عدّة الحوامل يا رسول الله ؟ فنزل :

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٦١ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٩.

(٢) الكافي ٢ : ٥٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٩.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٦١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٩.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٥.

(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٥.

٢٧٤

﴿وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ(١) وآخر عدّتهنّ ﴿أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ﴾ وعن ( المجمع ) عنهم عليهم‌السلام : « هي في الطلاق خاصة » (٢) .

وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ في عدّة الوفاة يعتبر أبعد الأجلين ؛ لأنّ اولات الأحمال في عدّة الطلاق » (٣) . وعن ابن عباس ما يقرب منه (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته وهي حبلى ، وكان في بطنها اثنان ، فوضعت واحدا وبقي واحد ؟ قال : « تبين بالأول ، ولا تحلّ للازواج حتى تضع ما في بطنها » (٥) .

وعنه سئل عن الحبلى يموت زوجها فتضع ، فتزوّج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشرا ؟ قال : « إن كان دخل بها فرّق بينهما ، ثمّ لم تحلّ له أبدا ، واعتدّت بما بقي من الأول ، واستقبلت عدّة اخرى من الأخير ثلاثة قروء ، وإن لم يكن دخل بها فرّق بينهما ، واعتدّت بما بقي عليها من الأول ، وهو خاطب من الخطّاب » (٦) .

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على العمل بأحكامه بقوله : ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ﴾ في العمل بأحكامه والقيام بحقوقه ﴿يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ﴾ الراجع إلى الدنيا والآخرة ﴿يُسْراً﴾ وسهولة بحيث لا يصعب عليه شيء من امور الدارين ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الأحكام ﴿أَمْرُ اللهِ﴾ وحكمه الذي ﴿أَنْزَلَهُ﴾ بتوسط جبرئيل ﴿إِلَيْكُمْ﴾ أيّها المؤمنون من اللّوح المحفوظ ، لتعملوا به ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ﴾ ويخافه في مخالفة أحكامه ﴿يُكَفِّرْ﴾ بتقواه وبمواظبته على الحسنات ﴿عَنْهُ سَيِّئاتِهِ﴾ ويستر معاصيه ، فلا يفضحه بها يوم القيامة ، ولا يخجله برؤيتها فضلا عن أن يعذّبه بها ﴿وَيُعْظِمْ لَهُ﴾ يوم القيامة ﴿أَجْراً﴾ ويضاعف له جزاء. قيل : إنّ الله أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاث مرات ، ووعد في كلّ مرة نوعا من الجزاء. فقال أولا : يجعل له مخرجا يخرجه ممّا دخل فيه وهو يكرهه ، ويهيء له محبوبه من حيث لا يأمل. وقال في المرة الثانية : يسهّل عليه كلّ صعب من أمره ، ويفتح له خيرا ممّن طلّقها ، ووعد في المرة الثالثة عليه بأفضل الجزاء في الآخرة ، وهي كفر الذنوب ودخول الجنّة والنّيل بالنعماء (٧) .

﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ

 كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ

 فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ

__________________

(١و٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٦١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٩.

(٣و٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٥.

(٥) الكافي ٦ : ٨٢ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٩.

(٦) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٠.

(٧) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦.

٢٧٥

أُخْرى (٦)

ثمّ كأنّه قيل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المطلّقات المعتدات ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿أَسْكِنُوهُنَ﴾ في مدّة عدّتهن ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ وفي أي مكان تمكّنتم ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ ووسعكم واستطاعتكم ﴿وَلا تُضآرُّوهُنَ﴾ بإسكانهنّ في مكان لا يناسبهنّ أو مع من لا يوافقهنّ في الأخلاق ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ﴾ في المسكن وتسلبوا منهنّ الراحة حتى تلجئوهن إلى الخروج ، أو إلى تحمّل غاية المشقّة.

عن الصادق عليه‌السلام : « لا يضارّ الرجل امرأته إذا طلّقها فيضيّق عليها حتّى تنتقل قبل أن تنقضي عدّتها ، فانّ الله تعالى قد نهى عن ذلك » ثمّ تلا هذه الآية (١) .

﴿وَإِنْ كُنَ﴾ المطلّقات حال الطلاق ﴿أُولاتِ حَمْلٍ﴾ وصاحبات الولد في الرّحم ، أي حمل كان ، قريب الوضع أو بعيده ﴿فَأَنْفِقُوا﴾ أيّها المطلّقون ﴿عَلَيْهِنَ﴾ في مدّة عدّتهن ، كانت رجعية أو بائنة ﴿حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ﴾ ويخرجن من العدّة. عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن المطلّقة ثلاثا ، ألها النفقة والسّكنى ؟ قال : « أحبلي هي ؟ » قيل : لا. قال : « فلا » (٢) .

﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ﴾ بعد الوضع الولد الذي هو ﴿لَكُمْ﴾ ونفقته عليكم ﴿فَآتُوهُنَ﴾ وأعطوهنّ ﴿أُجُورَهُنَ﴾ على إرضاعهن ﴿وَأْتَمِرُوا﴾ وتشاورا أيّها الآباء والامّهات ﴿بَيْنَكُمْ﴾ في مدّة الإرضاع ومقدار الاجرة ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ وجميل ومستحسن في مدّة الإرضاع ومقدار الأجر ، بأن لا يقصّر الرجل في أجر المرأة ونقصها ، ولا تقصّر المرأة في حقّ الولد ورضاعة ﴿وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ﴾ وتضايقتم بأن طلبت المرأة زائدا على الاجرة المتعارفة للرضاع ، وامتنع الأب عن أداء اجرة المثل ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾ الولد ﴿لَهُ﴾ مرضعة ﴿أُخْرى﴾ غير الامّ مجانا أو باجرة يرضاها الأب ، وفيه إشعار بالعتاب على الامّ على المعاسرة.

﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ

 نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)

ثمّ بيّن سبحانه قدر الانفاق بقوله : ﴿لِيُنْفِقْ﴾ الرجل الذي هو ﴿ذُو سَعَةٍ﴾ وصاحب ثروة على المطلّقة المرضعة ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ وبمقدار ثروته وغناه.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل الموسر يتّخذ الثياب الكثيرة الجياد والطّيالسة والقمص

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٢٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٠.

(٢) التهذيب ٨ : ١٣٣ / ٤٦٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٠.

٢٧٦

الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمّل بها ، أيكون مسرفا ؟ قال : « لا ، إنّ الله عزوجل يقول : ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ » (١) .

﴿وَمَنْ قُدِرَ﴾ وضيّق من جانب الله ﴿عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ وكان فقيرا ﴿فَلْيُنْفِقْ﴾ على المطلّقة والمرضعة مقدارا ﴿مِمَّا آتاهُ اللهُ﴾ وأعطاه من المال ، وإن كان مقدار القوت.

عن الصادق عليه‌السلام قال في الآية : « إن أنفق الرجل على امرأته ما يقيم ظهرها مع كسوة ، وإلّا فرّق بينهما » (٢) .

﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً﴾ من النفوس ﴿إِلَّا﴾ إعطاء ﴿ما آتاها﴾ وأعطاها من المال ، ولا يمكن أن يكلّف الفقير بمثل ما كلّف الغني.

ثمّ بشّر سبحانه الفقراء تسلية لقلوبهم بقوله : ﴿سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ وبعد الفقر غنىّ ، وبعد الشدّة رخاء ، وبعد الخوف أمنا ، وبعد السّقم صحّة ، فلينتظر من وقع في العسر الفرج واليسر سواء كان المعصر زوجا أو غيره ، أو كان فقيرا في وقت نزول الآية أو في غيره ، لعدم كون المورد مخصّصا للحكم.

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً

 وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً * فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٨) و (٩)

ثمّ هدّد سبحانه المخالفين لأحكامه والعاتين على ربّهم بما نزل على العتاة من الامم السابقة بقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وكثير من أهل بلدة ﴿عَتَتْ﴾ وأعرضت ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّها﴾ وخالقها ﴿وَ﴾ أمر ﴿رُسُلِهِ﴾ المبعوثين إليهم بسبب التجاوز عن الحدّ في التكبّر والعناد ﴿فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً﴾ وأخذناهم بدقائق ذنوبهم بأن ابتليناهم بالقحط والأمراض والخوف وغيرها من البلايا والشدائد مقدّما على استئصالهم بالعذاب ، ليرجعوا إلى الله ، ويتوبوا ممّا هم فيه من العتوّ والعصيان ﴿وَعَذَّبْناها﴾ بذنوبهم ﴿عَذاباً نُكْراً﴾ وعاقبناهم عقابا هائلا عظيما ، أو عذابا غير متوقّع من الغرق والحرق بالصاعقة والخسف والرجعة وغيرها من المستأصلات ﴿فَذاقَتْ﴾ القرية ، يعني أهلها ﴿وَبالَ أَمْرِها﴾ وعاقبة كفرها في الدنيا ﴿وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً﴾ وضررا عظيما لا خسر ولا ضرر أعظم منه.

﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ

 إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٤٣ / ١٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٧٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩١.

٢٧٧

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (١٠) و (١١)

ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله : ﴿أَعَدَّ اللهُ﴾ وهيّأ ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة بعد ذلك ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ لا يقادر قدرة ، ولا يوصف كنهه ، إذا كان الأمر كذلك ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوه في مخالفة أحكامه ﴿يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ وذوي العقول السليمة والأفهام المستقيمة ، واعتبروا بحال أمثالكم من الامم الماضية.

ثمّ وصف سبحانه أصحاب العقول السليمة من شوائب الأوهام بقوله : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب بتوحيد الله ، فاعلموا أنه من أعظم النّعم عليكم أنّه ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللهُ﴾ وبعث ﴿إِلَيْكُمْ﴾ بلطفه ﴿ذِكْراً﴾ وواعظا وهاديا إلى الحقّ ، أعنى ﴿رَسُولاً﴾ عظيم الشأن ، وهو ﴿يَتْلُوا﴾ ويقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ مع امّيته ﴿آياتِ﴾ كتاب ﴿اللهِ﴾ وقرآنه العظيم حال كونها ﴿مُبَيِّناتٍ﴾ وموضحات لكم جميع ما تحتاجون إليه في معاشكم ومعادكم وعقائدكم من معارف ربكم وصفاته الجمالية والجلالية ﴿لِيُخْرِجَ﴾ ذلك الرسول بتلاوته ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ به وبكتابه عن صميم القلب ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ بتعليمه وهدايته ﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ التي بعضها فوق بعض كالكفر والشّبهات والجهل والأخلاق النميمة والشهوات المردية ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الذي هو كمال الايمان الحقيقي والعلم والمعرفة الكاملة بالله والأخلاق الحميدة والصفات الجميلة.

قيل : إنّ المراد بالذين آمنوا الذين يؤمنون على استعمال الماضي في المستقبل المحقّق الوقوع ، أو المراد من الظلمات الظلمات التي تحدث بعد الايمان (١) .

﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

 خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً * اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ

 الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ

 قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١١) و (١٢)

ثمّ حثّ سبحانه الناس إلى الايمان والعمل الصالح ببيان حسن عاقبتهما بقوله : ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ﴾ إيمانا خالصا من شوب النفاق ﴿وَيَعْمَلْ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ خالصا من الرّياء والسّمعة والعجب ﴿يُدْخِلْهُ﴾ الله في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾ ذات قصور وأشجار كثيرة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ لا يخرجون منها ﴿أَبَداً﴾ وهو تأكيد للخلود ، لأن لا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ﴾ في تلك الجنّات ﴿رِزْقاً﴾ واسعا وافرا من

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٩.

٢٧٨

نعم الجنة. قيل : فيه معنى التعجّب والتعظيم ، والمعنى ما أحسن رزقهم الذي رزقهم الله ، وما أعظمه (١) ! وقيل : إنّ المراد بالرزق الطاعة في الدنيا والثواب في الآخرة (٢) .

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن المجازاة على الايمان والعمل الصالح ، ذكّر الناس كمال قدرته بقوله : ﴿اللهُ﴾ تعالى هو ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ سوى العرش والكرسيّ بعضها فوق بعض كالقبّة ، ﴿وَ﴾ خلق ﴿مِنَ﴾ جنس ﴿الْأَرْضِ﴾ بعدد السماوات و﴿مِثْلَهُنَ﴾ في كونهنّ طباقا متلاصقة.

قيل : إنّ المراد من الأراضي السبعة الأقاليم السبعة على حسب سبع سماوات وسبع كواكب ، فانّ لكلّ واحد منها خواصا تظهر في كلّ إقليم ، فتصير الأرض بهذا الاعتبار سبعة (٣) .

وفي رواية عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ السماء الدنيا فوق هذه الأرض قبّة عليها ، وأنّ الأرض الثانية فوق سماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، وهكذا إلى السابعة منهما ، وهو قول الله : ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ » (٤) .

﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ﴾ من الله في السماوات السبع والأرضين السبع و﴿بَيْنَهُنَ﴾ ويجري حكمه وقضاؤه فيهنّ ، وإنّما خلق ما خلق وأنفذ في كلّ شيء قضاءه وقدره ﴿لِتَعْلَمُوا﴾ يا بني آدم ﴿أَنَّ اللهَ﴾ الذي خلقكم وخلق الموجودات ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الايجاد والإعدام والإعادة والبعث والحساب والجزاء بالثواب والعقاب في الآخرة ﴿قَدِيرٌ﴾ ومقتدر ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ الخالق لكلّ شيء ﴿قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ خلقه ﴿عِلْماً﴾ واطّلاعا وخبرا ، فأطيعوا أوامره ونواهيه ، ولا تخالفوا أحكامه ، واخضعوا لعظمته ، وخافوا عقوبته.

عن ابن عباس لمّا سئل عن هذه الآية قال : لو فسّرتها لقطعوا حلقومي ، أو رجموني (٥) .

أقول : فيه إشارة إلى ما فيها من الأسرار الغامضة التي تعلّمها من استاذه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فرائضه أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف ويحزن ، وعوفي من النار ، وأدخله الله الجنّة بتلاوته إياهما ، ومحافظته عليهما ، لأنّهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٦) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٢ و٤٣.

(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٣٩.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٤٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٢٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٢.

(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧.

(٦) ثواب الأعمال : ١١٩ ، مجمع البيان ١٠ : ٤٥٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٩٢.

٢٧٩
٢٨٠