نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

هذه حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فظهرت المؤمنة على الكافرة (١) ، فذلك قوله تعالى : ﴿فَأَيَّدْنَا﴾ وقوّينا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منهم ﴿عَلى عَدُوِّهِمْ﴾ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ وصاروا اولئك المؤمنون ﴿ظاهِرِينَ﴾ وغالبين على عدوّهم بالحجّة بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ عيسى عليه‌السلام كلمة الله وروحه.

عن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ سورة الصفّ وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله ، صفّه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين » (٢) .

الحمد لله ربّ العالمين على إنعامه عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤٢٣ ، تفسير الرازي ٢٩ : ٣١٩.

(٢) ثواب الأعمال : ١١٨ ، مجمع البيان ٩ : ٤١٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧١.

٢٤١
٢٤٢

في تفسير سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ

 الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الصفّ المبدوءة بتعظيم الله تعالى ببيان تسبيح الموجودات له بصيغة الماضي ، المتضمّنة لبيان رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبشارة عيسى عليه‌السلام ببعثته ، وكونه على الهدى ودين الحقّ ، المختتمة بدعوة الناس إلى التجارة الرابحة ، وهو الايمان به والجهاد معه ، نظمت سورة الجمعة المبدوءة أيضا بتعظيم الله ببيان تسبيح جميع الموجودات له بصيغة المضارع الدالة على دوام التسبيح له في جميع الأوقات : الماضي والمستقبل ، المتضمّنة لبيان رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعموميتها لكافة العرب والعجم والمشركين وأهل الكتاب ، وأنّ نبوته ودينه من أعظم فضل الله وإنعامه على الخلق ، وذمّ المكذبين بآيات الله والمعرضين عن التوراة التي بشّرت برسالته ، وحثّ الناس على ذكر الله وعبادته ، وتوبيخ المقبلين إلى التجارة الدنيوية ، وكون ما عند الله من الثواب خيرا منها ، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ عظّم سبحانه ذاته المقدّسة ببيان تسبيح الموجودات له بقوله : ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ ثمّ وصف ذاته بالسلطنة على جميع الموجودات المقتضية لكونها بأجمعها جنوده بقوله : ﴿الْمَلِكِ﴾ والسّلطان الذي لا زوال لملكه وسلطانه ﴿الْقُدُّوسِ﴾ والمنزّه والمبرّأ من كلّ عيب ونقص ﴿الْعَزِيزِ﴾ والغالب على كلّ شيء ﴿الْحَكِيمِ﴾ والفاعل لما هو الأصواب والأصلح ، والواضع لكلّ شيء في موضعه ، والمعطي لكلّ شيء ما يستحقّه ويليق به ، ثمّ منّ على الخلق ببعثة النبيّ الاميّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو من آثار سلطنته وقدرته وحكمته بقوله : ﴿هُوَ﴾ السلطان القادر الحكيم ﴿الَّذِي بَعَثَ﴾ بحكمته ولطفه ﴿فِي﴾ المشركين ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾ الذين لا يعلمون الكتابة والخطّ ، ولم يقرءوا

٢٤٣

شيئا. وعن ابن عباس : هم الذين ليس لهم كتاب ولا نبيّ بعث فيهم (١)﴿رَسُولاً﴾ من جنس الاميين ونبيا ﴿مِنْهُمْ﴾ وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي مع امّيته ﴿يَتْلُوا﴾ ويقرأ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ كلام الله و﴿آياتِهِ﴾ القرآنية التي فيها جميع العلوم والمعارف الإلهية الدالة على رسالته ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ ويطهّر نفوسهم من أرجاس الأخلاق الرذيلة والصفات الدنيّة الذميمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ﴾ السماوي ، أو الخطّ كما عن ابن عباس (٢)﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل : هي الفرائض والسّنن (٣) . وقيل : هي سنّته (٤) . وقيل : هي العظة(٥) .

﴿وَإِنْ﴾ الشأن أنّهم ﴿كانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السابقة على بعثته ﴿لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وانحراف ظاهر عن الصراط المستقيم ، يعني مصرّين على الشرك ، ومجبولين على ذمائم أخلاق الجاهلية ، وكانوا في غاية الافتقار إلى الهادي إلى الحقّ ، والرسول المرشد إلى الصواب وسعادة الدارين.

قيل : إنّ توسيط التزكية التي هي تكميل النفس بحسب قوّتها العلمية ، وتهذيبها للتفرّع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالتعليم المترتّبة على التلاوة ، للايذان بأنّ كلا من الامور المترتّبة نعمة جليلة على حيالها ، مستوجبة للشكر عليها ، فلو روعي الترتيب في الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكلّ نعمة واحدة (٦) .

﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ

 يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها

كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا

 يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٣) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ رسالته ليست مختصة بالاميين ، بل تعمّ غيرهم من أهالي جميع الأزمنة بقوله : ﴿وَآخَرِينَ﴾. قيل : المعنى ويعلم الآخرين (٧) ، والذين لا يكونون ﴿مِنْهُمْ﴾ بل يكونون من غيرهم كأهل الكتاب و﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ ولم يكونوا في زمانهم وسيلحقون بهم ويكونون بعدهم.

قيل : إنّ المراد غير العرب من الأعاجم كما عن ابن عباس (٨) ، وعن الباقر عليه‌السلام (٩) .

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ هذه الآية فقيل له : من هؤلاء ؟ فوضع يده على كتف سلمان ، وقال : « لو كان

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٣.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٥١٤.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٣ ، وفيه : والسّنة.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٥١٤.

(٥و٦) تفسير روح البيان ٩ : ٥١٤.

(٧) تفسير الرازي ٣٠ : ٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ٥١٥.

(٨) تفسير الرازي ٣٠ : ٤.

(٩) مجمع البيان ١٠ : ٤٢٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٣.

٢٤٤

الايمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء » (١) .

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « رأيتني أسقي غنما سوداء ، ثمّ أتبعها غنما عفرا » قيل : هو الشاة التي يعلو بياضها الحمرة. ثمّ قال : « أوّلها يا أبا بكر » فقال : يا نبي الله ، أما السّود فالعرب ، وأما العفرة فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال عليه‌السلام : « كذلك أوّلها الملك » يعني جبرئيل (٢) .

وقيل : يعني بالآخرين التابعين الذين لم يلحقوا بالصحابة في الفضل (٣) .

وقيل : إنّ آخرين عطف على اميين (٤) ، والمعنى بعث في الاميين وغيرهم من الامم والطوائف. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والمبالغ ، في العزّة والغلبة ، ولذلك يمكّن رجلا من الاميين من ذلك الأمر العظيم ﴿الْحَكِيمُ﴾ المبالغ في العلم ورعاية الصلاح ، ولذلك اصطفاه من كافة الناس ﴿ذلِكَ﴾ المنصب العظيم ، أو الدين الذي جاء به ﴿فَضْلُ اللهِ﴾ وإنعامه الفاضل الذي تستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة ﴿يُؤْتِيهِ﴾ الله ويعطيه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ إعطاءه من عباده ، وقد أعطاه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين به ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ والمواهب الجسيمة (٥) على جميع خلقه في الدنيا وبخصوص المؤمنين ، بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا ، وبإجزال الثواب على الايمان والأعمال في الآخرة.

ثمّ قيل : لمّا ذكر سبحانه أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى الاميين والمشركين ، اعترض اليهود على نبوّته بأنّه مبعوث إلى العرب خاصة ، وليس مبعوثا إلينا. أجاب سبحانه عن الاعتراض بضرب المثل (٦) بقوله : ﴿مَثَلُ﴾ اليهود ﴿الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ﴾ وعلموها ، وكلّفوا العمل بما فيها ، وتعهّدوا القيام بها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها﴾ ولم يعملوا بها ، ولم يلتزموا بما فيها في عدم الانتفاع بها ﴿كَمَثَلِ الْحِمارِ﴾ الذي ﴿يَحْمِلُ أَسْفاراً﴾ وكتبا كبارا فيها علوم كثيرة ، فكما لا ينتفع الحمار بتلك الكتب والعلوم التي فيها ، ولا يدرك إلّا ثقلها ، لا ينتفع اليهود بالتوراة الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعموم رسالته إلى الجنّ والإنس والعرب والعجم والأبيض والأسود ، ووجوب الايمان به على جميع الخلق إلى يوم القيامة ، وإنّما قنعوا بمجرد تلاوتها ، ولم يتأمّلوا في معانيها ومداليل آياتها لغاية تعصّبهم وبلادتهم ﴿بِئْسَ﴾ مثلا ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ﴾ وكفروا بما في التوراة من الإخبار بعموم نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق للخير والسعادة ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بتعريضها للهلاك الأبد والعذاب الدائم كاليهود ونظائرهم.

﴿قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٢٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٢.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٩ : ٥١٥.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٤.

(٥) في النسخة : الجسيم.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٥.

٢٤٥

الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

 بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى

 عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦) و (٨)

ثمّ لمّا كان اليهود مدّعين أنّهم أبناء الأنبياء ، وأنّهم أولياء الله ، وأولى بالرسالة من العرب والاميين ، أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبهيتهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا﴾ وتديّنوا بدين اليهودية ﴿إِنْ زَعَمْتُمْ﴾ وتخيّلتم ﴿أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ﴾ وأحباؤه ﴿مِنْ دُونِ﴾ سائر ﴿النَّاسِ﴾ من العرب والعجم ، فلا محالة تعتقدون أنّ لكم الدار الآخرة خاصة ، وأنّ الجنة ونعمها مختصة بكم ، إذن ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ من الله ، واسألوه أن يخرجكم من الدنيا كي تصلوا إلى الجنّة والنّعم الدائمة ، وتستريحوا من تعب الدنيا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في الدعوى بزعمكم مطمئنين بحقانيته.

ثمّ أخبر سبحانه بكذبهم في دعوى حبّ الله ، وأن الجنّة لهم خاصة ، بل هم عالمون بأن لا حظّ لهم في النّعم الاخروية ، لعلمهم بكونهم عاصين ومشاقّين لله وللرسول بقوله : ﴿وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ﴾ ولا يحبّون لقاء الله ﴿أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وارتكبت جوارحهم من الكفر والطّغيان والذنب والعصيان الموجب لاستحقاقهم النار ﴿وَاللهُ﴾ العالم بالسرائر ﴿عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ مطّلع على خواطرهم وسرائرهم من الكفر والمعاصى الموجبين لأنواع العذاب.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديدهم بالموت والعذاب بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي﴾ لا تتمنّونه ، بل ﴿تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ مخافة أن تعاقبوا على كفركم وسيئات أعمالكم لا يفيدكم الفرار منه ﴿فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ ومدرككم لا محالة ﴿ثُمَ﴾ بعد الموت ﴿تُرَدُّونَ﴾ وترجعون ﴿إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ والحاكم المطّلع على البواطن والظواهر ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ ويخبركم ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وترتكبون من الكفر والمعاصي ، وتحريف التوراة ، وإخفاء أوصاف رسول آخر الزمان وعلائمه ، وإضلال الناس ، وإلقاء الشّبهات في نبوّته في القلوب ، فيعذّبكم بها أشدّ العذاب.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ

 وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا

 فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩) و (١٠)

في فضيلة يوم الجمعة والعبادة فيه ، وابتداء صلاة الجمعة فيه

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الموت ملاق الناس ولا يمكن الفرار منه ، بيّن ما يوجب الراحة عنده ، وما ينفع بعده بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بوحدانية الله ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٤٦

﴿إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ﴾ وأذّن المؤذّن لها ﴿مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ الذي هو عيد المسلمين وأشرف الأيام الذي أمر الناس بالاجتماع فيه للعبادة ، ولذا سمّي جمعة ﴿فَاسْعَوْا﴾ وأسرعوا ﴿إِلى ذِكْرِ اللهِ﴾.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « اعملوا وعجّلوا ، فانّه يوم مضيّق على المسلمين ، وثواب أعمال المسلمين على قدر ما ضيّق عليهم ، والحسنة والسيئة تضاعف » . قال : « والله بلغني أنّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس ، لأنّه يوم مضيّق على المسلمين » (١) .

﴿وَذَرُوا﴾ واتركوا ﴿الْبَيْعَ﴾ والمعاملة ﴿ذلِكُمْ﴾ السعي إلى العبادة وترك البيع ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وأنفع من التواني والمعاملة ، أو من الدنيا وما فيها ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير والشرّ ، وما في السعي من الأجر.

في الحديث : « إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على باب المسجد بأيديهم صحف من فضّة وأقلام من ذهب ، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم ، فاذا خرج الامام طويت الصّحف واجتمعوا للخطبة ، والمهاجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة ، ثمّ الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثمّ الذي يليه كالمهدي شاة » حتى ذكر الدّجاجة والبيضة (٢) .

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ، ثمّ خرج يوم الجمعة عائدا المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا ، فخطب صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى وقال فيها : « الحمد لله واستعينه واستهديه ، وأومن به ولا أكفره ، واعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ والنور والموعظة والحكمة ، على فترة من الرسل ، وقلّة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمان ، ودنوّ من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضلّ ضلالا بعيدا ، اوصيكم بتقوى الله ، فانّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله ، واحذر ما حذّركم [ الله ] من نفسه ... » . إلى آخر الخطبة الشريفة (٣) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد الخطبة : « إنّ الله افترض عليكم الجمعة في يومي هذا ، وفي مقامي هذا ، فمن تركها في حياتي وبعد مماتي ، وله إمام عادل من غير عذر ، فلا بارك الله له ، ولا جمع الله شمله ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١٥ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٤.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٥٢٣.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٥٢٢.

٢٤٧

ألا فلا حجّ له ، ألا فلا صوم له ، ومن تاب تاب الله عليه » (١) .

﴿فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾ التي نوديتم لها ﴿فَانْتَشِرُوا﴾ وتفرّقوا ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ لإقامة مصالحكم وقضاء حوائجكم وإصلاح معاشكم ﴿وَابْتَغُوا﴾ أيّها المؤمنون ، واطلبوا لأنفسكم وأهليكم الرزق الحلال الذي هو ﴿مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ وإحسانه إليكم. روي أنّه قال : « طلب الكسب بعد الصلاة فريضة (٢) بعد الفريضة » (٣) .

وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنّما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز ، وزيارة أخ في الله (٤) . وعن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقرب منه (٥) .

﴿وَاذْكُرُوا اللهَ﴾ في جميع الأوقات والأحوال ذكرا ﴿كَثِيراً﴾ ولا تخصّوا ذكره بحال الصلاة ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتنجون من المهالك ، وتفوزون بأعلى المقاصد.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أتيتم السوق فقولوا : لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير ، فانّ من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة ، وحطّ عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة » (٦) .

﴿وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ

 اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)

ثمّ لمّا نهى الله سبحانه المؤمنين عن البيع والتجارة وقت النداء ، وبّخ سبحانه الذين أقبلوا إلى التجارة حين خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ﴾ سمعوا ﴿لَهْواً﴾ وصوت طبل وصفق ﴿انْفَضُّوا﴾ وتفرّقوا من حولك متوجّهين ﴿إِلَيْها﴾ حبّا للدنيا وزخارفها ﴿وَتَرَكُوكَ﴾ وحيدا ﴿قائِماً﴾ على المنبر.

روي أن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام ، وكان قبل إسلامه ، وكان بالمدينة مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ ودقيق وزيت وغيرها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة ، فلمّا علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلّا ثمانية أو أحد عشر أو اثنا عشر أو أربعون ، وفيهم عليّ عليه‌السلام وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة [ ابن ] الجرّاح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٢٤.

(٢) في تفسير روح البيان : هو الفريضة.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٥٢٥.

(٤) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٥٠.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٥.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ٩.

٢٤٨

مسعود. وفي رواية : عمار بن ياسر [ بدل عبد الله ] وجابر وامرأة فقال : « والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا » وفي رواية : « لو لا الباقون لنزلت عليهم الحجارة » (١) .

ثمّ أمر الله سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوعظ المسلمين ونصحهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المؤمنين: اعلموا أيّها المؤمنون أنّ ﴿ما عِنْدَ اللهِ﴾ وأعدّه من الثواب للمصلّين ومستمعي الخطبة في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ لكم وأنفع ﴿مِنَ﴾ استماع ﴿اللهْوِ﴾ وصوت الطّبل والصّفق ﴿وَمِنَ﴾ نفع ﴿التِّجارَةِ﴾ وتحصيل البرّ والدقيق وغيرهما لرزقكم ورزق أهليكم ﴿وَاللهُ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ فانّ عنده خزائن السماوات والأرض ، ولا ينقص منها شيء بالعطاء ، وهو الجواد الذي لا يبخل ، فاسعوا إليه واطلبوا الرزق منه.

عن الصادق عليه‌السلام : « الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ،﴾ وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان ثوابه وأجره على الله الجنّة » (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٢٦.

(٢) ثواب الأعمال : ١١٨ ، مجمع البيان ٩ : ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٦.

٢٤٩
٢٥٠

في تفسير سورة المنافقين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ

 يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ

 إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ

 لا يَفْقَهُونَ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الجمعة المتضمّنة لبيان عظمة الله ومنّته على الناس بإرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، ومنافع بعثته ، وعموم رسالته لكافة الناس إلى يوم القيامة ، ومعارضة اليهود وإلقائهم الشّبهة في عموم رسالته ، والجواب عنها ، وذمّ المسلمين على توجّههم إلى التجارة واللهو ، نظمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان كيد المنافقين وإلقائهم الشّبهات في رسالته ، وأمر المؤمنين بالإعراض عن الأولاد والأموال الملهين عن ذكر الله ، وإن في تركه الخسران ، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ المنافقين بقوله : ﴿إِذا جاءَكَ﴾ يا محمد ﴿الْمُنافِقُونَ﴾ الذين يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر وحين حضروا عندك ﴿قالُوا﴾ لك نفاقا وكيدا : إنّا ﴿نَشْهَدُ﴾ ونقرّ عن اعتقاد جازم ويقين صادق ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ﴾ والمبعوث من قبله إلى الخلق لهدايتهم إلى الدين الحقّ ﴿وَاللهُ﴾ العالم بكلّ شيء ﴿يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ وأنّ شهادتهم برسالتك صدق ومطابق للواقع ﴿وَاللهُ﴾ مع ذلك ﴿يَشْهَدُ﴾ شهادة حقّه ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ﴾ الذين يشهدون برسالتك كعبد الله بن ابي واصحابه وأضرابه ﴿لَكاذِبُونَ﴾ فيما تضمّنت (١) شهادتهم من إظهار اليقين والاعتقاد بها ، اولئك الذين ﴿اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ﴾ الفاجرة وجعلوها ﴿جُنَّةً﴾ وترسا ووقاية لأنفسهم من القتل والسبي ، وأموالهم من النهب والغارة.

__________________

(١) في النسخة : تضمّن.

٢٥١

قيل : إنّ قولهم ﴿نَشْهَدُ﴾ جار مجري اليمين في التأكيد (١) .

﴿فَصَدُّوا﴾ ومنعوا أنفسهم ، أو الناس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وقبول دينه وطاعته وطاعة رسوله إلّا ﴿إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من النّفاق والصدّ والكذب ﴿ذلِكَ﴾ الحكم من الله بكذبهم ، أو بسوء أعمالهم إنّما هو ﴿بِأَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ بألسنتهم بتوحيد الله ورسالة رسوله ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بهما بقلوبهم ، أو اظهروا الكفر عند اهوانهم الشياطين ، أو آمنوا بالتوراة ثمّ كفروا بما فيها من نعوت خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فَطُبِعَ﴾ وختم لذلك ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ بكفرهم ﴿فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ ولا يفهمون القرآن وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوى رسالته ، أو فوائد الايمان وضرر الكفر ، أو لا يفهمون أنّ قلوبهم مطبوعة.

﴿وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ

 يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ

 وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٤) و (٥)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّهم بكثر مكرهم بالنبي والمسلمين ، ذمّهم بقلّة فهمهم وإدراكهم بقوله : ﴿وَإِذا رَأَيْتَهُمْ﴾ ونظرت إليهم ﴿تُعْجِبُكَ﴾ ويعظم في نفسك ﴿أَجْسامُهُمْ﴾ من حيث الضّخامة وصباحة الوجه ﴿وَإِنْ يَقُولُوا﴾ لك قولا ﴿تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ لفصاحتهم وذلاقة لسانهم ، ولكنّهم في عدم الفهم والعقل والنفع ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ﴾ يابسة وعيدان غليظة ﴿مُسَنَّدَةٌ﴾ ومعتمدة على الحائط ، ومن غاية جبنهم وشدّة ضعف قلوبهم ﴿يَحْسَبُونَ﴾ ويتوهّمون ﴿كُلَّ صَيْحَةٍ﴾ سمعوها من أحد ونداء مناد ولو لإنشاد ضالّته ، أو انفلات دابّته ، أنّه من عدوّهم واقعة ﴿عَلَيْهِمْ﴾ حيث يتوقّعون في كلّ ساعة أن يظهر الله نفاقهم ويهتك سرّهم ويكشف سرّهم فيقصدهم المسلمون ، فاعلم يا محمد أن ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ الكاملون في العداوة لك وللمسلمين ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ واحترز منهم أن تأمنهم على سرّك وتدخلهم في أمر من امورك ﴿قاتَلَهُمُ اللهُ﴾ وأفناهم من وجه الأرض ولعنهم ، والعجب من حمقهم وجهلهم أنّهم ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وكيف يعدلون ويصرفون عن الحقّ مع كمال وضوحه ولمعان نوره ﴿وَ﴾ من حمقهم أنّهم ﴿إِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ نصحا من قبل المؤمنين حين ظهور فسادهم : أيّها المنافقون ، ﴿تَعالَوْا﴾ عند الرسول واتوه ﴿يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ﴾ ويسال الله العفو من ذنوبكم ﴿لَوَّوْا﴾ وعطفوا ﴿رُؤُسَهُمْ﴾ وأمالوا وجوههم إلى الطرف الآخر ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ ويعرضون عن القائل

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ : ١٣.

٢٥٢

﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإتيان عند الرسول ، ويتأنّفون عن أن يسألوه الاستغفار لهم.

روي أنّه لمّا نزل القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بذمّ المنافقين مشى (١) إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم : ويلكم افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم ، فاتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق ، واسالوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت (٢) .

وعن ابن عباس : لمّا رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس ، مقته المسلمون وعنّفوه ، وأسمعوه المكروه ، فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يستغفر لك ويرضى عنك ؟ فقال : لا أذهب إليه ، ولا اريد أن يستغفر لي ، وجعل يلوي رأسه. فنزلت (٣) .

﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي

 الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى

 يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٦) و (٧)

ثمّ أخبر الله تعالى بعدم قابليتهم للعفو والمغفرة بقوله : ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ومساويا بالنسبة إليهم ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾ يا محمد ﴿لَهُمْ﴾ إذا جاءوك معتذرين من نفاقهم وسيئات أعمالهم ﴿أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ لاستكبارهم عن الاعتذار وطلب الاستغفار ﴿لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ أبدا لعدم قابليتهم للعفو والمغفرة لإصرارهم على الكفر والفسوق ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ ولا يوصل إلى الخير والسعادة الأبدية ﴿الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ والجماعة الخارجين عن الدين وحدود العقل والصلاح.

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم قابليتهم للمغفرة وبلوغهم إلى غاية الفسق والشقاوة بقوله : ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ للأنصار جهلا وعنادا للحقّ : أيّها الأنصار ﴿لا تُنْفِقُوا﴾ من أموالكم ﴿عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ﴾ من المؤمنين المهاجرين إليه ﴿حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ ويتفرّقوا من حوله ويرجعوا إلى أوطانهم وعشائرهم ويرجع العبيد إلى مواليهم والأبناء إلى آبائهم. قيل : إنّ قولهم ( رسول الله ) إما للهزء ، أو لاشتهاره عليه‌السلام بهذا اللّقب (٤) ، أو أنّهم قالوا ( على من عند محمد ) وذكره الله بهذا اللقب إجلالا له(٥).

ثمّ أبطل سبحانه قولهم بقوله : ﴿وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبيده أرزاق الخلائق يعطيها لمن يشاء ويقدر ﴿وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ﴾ لجهلهم بالله وشؤونه ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾ ذلك ، ولذا يقولون من مقالات الكفر ما يقولون.

__________________

(١) في النسخة : سيء.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٥٣٦.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٤٤.

٢٥٣

﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ

 وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)

ثمّ حكى سبحانه قولهم الآخر الذي هو أشنع من قولهم الأول بقوله : ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا﴾ من سفرنا هذا ﴿إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ والله ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ﴾ وهم المنافقون باعتقادهم ، أو خصوص عبد الله بن ابي ﴿مِنْهَا الْأَذَلَ﴾ وهم المؤمنون ، أو خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

روي أنّ في غزوة بني المصطلق ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر بن الخطاب يقود فرسه وسنان الجهمي حليف عبد الله بن ابي رئيس المنافقين واقتتلا ، فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وسنان بالأنصار ، فاعان جهجاه جعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سنانا ، فاشتكى إلى عبد الله بن ابي ، فقال للأنصار ما ذا فعلتم بأنفسكم ؟ أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم من جعال وذوي فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم ، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ عنى بالأعزّ نفسه ، وبالأذلّ جانب المؤمنين ، أو خصوص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما نسب سبحانه القول إلى المنافقين لرضاهم به.

فسمع ذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عزّ من الرحمن ، وقوة من المسلمين. فقال ابن أبي : اسكت ، فانّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما قال ابن أبي ، فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال : إذا ترغم أنوفا كثيرة بيثرب. فقال عمر : فإن كرهت أن يقتله المهاجرون ، فأمر به أنصاريا. فقال : إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. وقال عليه‌السلام لابن أبي : « أنت صاحب الكلام الذي بلغني » ؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإنّ زيدا لكاذب. فقال الحاضرون : شيخنا وكبيرنا يصدّق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم. فقال رسول الله لزيد : « لعلّك غضبت عليه » ؟ قال : لا. قال : « فلعلّك أخطاك سمعك » ؟ قال : لا. قال : « فلعلّه اشتبه عليك » قال : لا.

فلمّا نزلت الآية لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زيدا من خلفه ، فعرك اذنه ، وقال : « وفت اذنك يا غلام ، إنّ الله صدّقك وكذّب المنافقين » (١) . وردّ عليهم بقوله : ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ لا لغيرهم ﴿وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك لجهلهم وغرورهم.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٣٧.

٢٥٤

روى بعض العامة أنه قيل للحسن بن علي عليه‌السلام : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها - أي كبرا - فقال : « ليس ذلك بتيه ، ولكنّه عزّة » وتلا الآية (١) .

وعن القمي ، قال : نزلت الآية أو السورة في غزوة مريسيع - وهي غزوة بني المصطلق - في سنة خمس من الهجرة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إليها ، ولمّا رجع منها نزل على بئر ، وكان الماء قليلا فيها ، وكان أنس بن سيّار حليف الأنصار ، وكان الجهجاه بن سعيد الغفارى أجيرا لعمر بن الخطاب ، فاجتمعوا على البئر ، فتعلّق دلو أنس بن سيّار بدلو جهجاه ، فقال أنس بن سيّار : دلوي. وقال جهجاه : دلوي ، فضرب جهجاه يده على وجه انس بن سيّار ، فسال منه الدم ، فنادى أنس بن سيّار بالخرزج ، ونادى جهجاه بقريش ، فأخذ الناس السلاحن وكاد أن تقع الفتنة.

فسمع عبد الله بن ابي النداء ، فقال : ما هذا ؟ فأخبروه بالخبر ، فغضب غضبا شديدا ، ثمّ قال : قد كنت كارها لهذا المسير ، [ إنّي ] لأذلّ العرب ، ما ظننت أن أبقى إلى أن أسمع مثل هذا النداء فلا يكن عندي تغيير (٢) . ثمّ أقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم ، أنزلتموهم منازلكم ، وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بانفسكم ، وأبرزتم نحوركم للقتل ، فأرمل نساءكم ، وأيتم صبيانكم ، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثمّ قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

وكان في القوم زيد بن أرقم ، وكان غلاما قد راهق ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ظلّ شجرة وعنده قوم من المهاجرين والأنصار ، وجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن ابي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعلّك وهمت يا غلام » قال : لا والله ما وهمت. فقال : « لعلّك غضبت عليه » قال : لا والله ما غضبت عليه. قال : « فلعلّه شبّه عليك » قال : لا والله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشقران مولاه : « أحدج » (٣) . فأحدج راحلته وركب ، فتسامع الناس بذلك ، فقالوا : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليرحل في مثل هذا الوقت. فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة. فقال : السّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال : « وعليك السّلام » فقال : ما كنت لتركب في مثل هذا الوقت ؟ فقال : « أو ما سمعت قولا قال صاحبكم » ؟ قال : وأيّ صاحب لنا غيرك يا رسول الله ؟ قال : « عبد الله بن ابيّ زعم انه ان رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل » فانّك وأصحابك الأعزّ ، وهو وأصحابه الأذلّ.

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومه كلّه ، لا يكلّمه أحد ، فأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابي يعذلونه ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٣٨.

(٢) في المصدر : تعيير ، وفي النسخة : تعبير.

(٣) أحدج بعيره : شدّ عليه قتبه بأداته.

٢٥٥

فحلف عبد الله أنّه لم يقل شيئا من ذلك ، فقالوا : فقم بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه ، فلمّا جنّ الليل سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليله كلّه ونهاره ، فلم ينزلوا إلّا للصلاة ، فلمّا كان من الغد نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل أصحابه ، وقد أمهدهم الأرض من السّهر الذي اصابهم ، فجاء عبد الله بن ابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحلف أنّه لم يقل ذلك ، وأنّه ليشهد لا إله إلّا الله ، وإنّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ زيدا قد كذب عليّ ، فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ، ويقولون له: كذبت على عبد الله بن ابي سيّدنا.

فلمّا رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان زيد معه يقول : اللهمّ إنّك لتعلم أنّي لم أكذب على عبد الله بن ابي ، فما سار إلّا قليلا حتى أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يأخذه من البرحاء (١) عند نزول الوحى عليه ، فثقل حتّى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي ، فسرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسكب العرق عن جبهته ، ثمّ أخذ باذني زيد بن أرقم ، فرفعه من الرّحل ، ثمّ قال : « يا غلام ، صدق فوك ، ووعى قلبك ، وأنزل الله فيك قرآنا » فلمّا نزل جمع أصحابه ، وقرأ عليهم سورة المنافقين ، ففضح الله عبد الله بن ابي(٢) .

[ وفي رواية عن أبي جعفر عليه‌السلام ] قال : فلمّا نعتهم الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرّفه [ مساءتهم ] ، مشى إليهم عشائرهم فقالوا لهم : قد افتضحتم ، فأتوا نبيّ الله يستغفر لكم ، فلووا رؤوسهم وزهدوا في الاستغفار(٣) .

روي أنّ ولد عبد الله بن ابي أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إن كنت عزمت على قتل أبي ، فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الأوس والخزرج أنّي أبرهم ولدا بوالد ، فإنّي أخاف أن تأمر غيري فيقتله ، فلا تطيب نفسي أنّي انظر إلى قاتل عبد الله ، فأقتل مؤمنا بكافر ، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل نحسن لك صحابته مادام معنا » (٤) .

وعن ( الكافي ) عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : إنّ الله تبارك وتعالى سمّى من لم يتّبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ولاية وصيّه منافقين ، وجعل من جحد وصيّه إمامته كمن جحد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنزل بذلك قرآنا ، فقال: يا محمد ﴿إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ﴾ بولاية وصيك ﴿قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ﴾ بولاية علي ﴿لَكاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ والسبيل هو الوصي ﴿إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ برسالتك ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بولاية وصيك ﴿فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ يقول : لا يعقلون بنبوتك ، وإذا قيل لهم إرجعوا إلى

__________________

(١) البرحاء : الشدّة والمشقّة.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٧٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٧٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٠.

٢٥٦

ولاية عليّ يستغفر لكم النبي من ذنوبكم ﴿لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ﴾ قال الله : ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ عن ولاية علي ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ عليه ثمّ عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال : ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ يقول : الظالمين لوصيّك (١) .

أقول : لا شكّ في أنّ الرواية في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ

 ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ

 أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ

 الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٩) و (١١)

ثمّ لمّا كان الكفر والنفاق مع وضوح الحقّ لا يكون إلّا لجمع الأموال وراحة الأولاد ، وعظ الله سبحانه المنافقين والمؤمنين بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ﴾ ولا تغفلكم ﴿أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ﴾ ولا يشغلكم الاهتمام بتدبير امورهما وتنظيم مصالحهما ﴿عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ والتوجّه إليه والقيام بعبادته ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ التلهّي بالمال والولد والاشتغال بالامور الدنيوية ﴿فَأُولئِكَ﴾ الغافلون والملهون عن ذكر الله ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ في تجارتهم في سوق الدنيا ، حيث إنّهم باعوا الجنة والنّعم الدائمة والراحة الأبدية باللّذّة الدنيوية القليلة الفانية المشوبة مع التعب الكثير.

وفي الحديث : « ما طلعت الشمس إلّا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين : يا أيها الناس : هلمّوا إلى ربّكم ، ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى » (٢) .

﴿وَأَنْفِقُوا﴾ شيئا ﴿مِنْ ما رَزَقْناكُمْ﴾ وأعطيناكم بفضلنا في سبيل الله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ وعاين مخائله وأماراته ﴿فَيَقُولَ﴾ عند حلوله تمنيا وتحسّرا : يا ﴿رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي﴾ وهلّا أمهلتني ﴿إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وأمد قصير وزمان قليل في الدنيا ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ مالي للفقراء ، وأنفق عليهم تقرّبا إليك ، أو أؤدّي زكاتي ﴿وَأَكُنْ﴾ في آخر عمري ﴿مِنْ﴾ عبادك ﴿الصَّالِحِينَ﴾ والمتعبّدين المخلصين.

عن ابن عباس : من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكّه ، أو مال يبلغه إلى بيت الله فلم يحجّ ، يسأل عند الموت الرجعة فقال رجل : اتق الله يابن عباس ، إنّما سألت الكفّار الرجعة. فقال ابن عباس : إنّي اقرأ عليك هذا القرآن. فقال : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فقال

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥٨ / ٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٠.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٥٤١.

٢٥٧

الرجل : ما يوجب الزكاة. قال : مائتا درهم. قال : ممّا يوجب الحجّ. قال : الزاد والراحلة (١) .

وروي عنه أيضا أنه قال : هذا دليل على أنّ القوم لم يكونوا مؤمنين ، إذ المؤمن لا يسأل الرجعة(٢).

وقيل : لا ينزل الموت بأحد لم يحجّ ولم يؤدّ الزكاة إلا وسأل الرجعة ، وقرأ هذه الآية (٣) .

وعن ( الفقيه ) سئل [ الصادق ] عليه‌السلام عن قول الله : ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال : ( أصدق ) من الصدقة ﴿وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أحجّ » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « الصلاح هنا الحجّ » (٥) .

وعن ابن عباس قال : تصدّقوا قبل ان ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل(٦) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من انقضى أجله وحان حينه لا يمهل في الدنيا بقوله : ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ﴾ عن الموت أبدا ﴿نَفْساً﴾ من النفوس ﴿إِذا جاءَ أَجَلُها﴾ وحضر وقت موتها ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ﴾ وعالم ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ من خير وشرّ ، فيجازيكم على حسب استحقاقكم في الآخرة.

قد مرّ ثواب قراءتها (٧) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٤٢.

(٢و٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٤٢ / ٦١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨١.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٤٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨١.

(٦) تفسير الرازي ٣٠ : ١٩.

(٧) تقدم في سورة الجمعة.

٢٥٨

في تفسير سورة التغابن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ

 شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

 بَصِيرٌ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان سوء أخلاق المنافقين وأقوالهم ، وأنّ خزائن السماوات والأرض والعزّة الكاملة له تعالى ، ووعظ الناس بأنّه لا ينبغي أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ، وعليهم أن يتّقوا الله وينفقوا أموالهم في سبيله ، نظمت سورة التغابن المبدوءة ببيان عظمة الله وعزّه وجلاله ، وأنّ الناس صنفان : كافر في الظاهر والباطن ، ومؤمن خالص ، وأنّه لا ينبغي للانسان أن يفتتن بمحبّة الأزواج والأولاد والأموال ، بل عليه أن يتّقي الله وينفق أمواله في سبيله ، وذكر في السورة السابقة أنّ الملهون عن ذكر الله في الخسارة ، وهنا بيّن أن المنفقين لهم الفلاح في الدارين ، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته وعزّته بقوله : ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ قد مرّ تفسيره و﴿لَهُ﴾ تعالى وحده ﴿الْمُلْكُ﴾ والسلطنة المطلقة التامة في تمام عوالم الوجود ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ على نعمه السابغة الوافرة ، فعليكم أن تتذلّلوا لعزّه ، وتهابوه لسلطانه ، وتستغرقوا في ذكره ، ولا تلهوا عن تسبيحه وحمده وشكره.

ثمّ لمّا خصّ ملك الوجود بنفسه ، ولازمه اختصاص التصرّف فيه بذاته ، بيّن كمال قدرته بقوله : ﴿وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الايجاد والإعدام والتصرّف والتدبير في الموجودات ﴿قَدِيرٌ﴾ لا عجز في ساحته ، ولا مانع عن إنفاذ إنفاذ إرادته.

ثمّ ذكر سبحانه الناس بأصل النّعم الذي أنعم عليهم وأعظمها بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أيّها الناس بقدرته ، وأوجدكم أولا من تراب ، ثمّ من نطفة ، فكان الواجب أن تؤمنوا جميعا به وتشكروه

٢٥٩

في جميع الأوقات ، ومع ذلك صرتم صنفين ﴿فَمِنْكُمْ كافِرٌ﴾ به لجهله وعناده ﴿وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ به مصدّق بأنّه خالقه ورازقه ، والمنعم عليه بالنّعم الجسام ، فيشكره ويقوم بمرضاته. عن ابن عباس : أنّ الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا (١) . قيل : يعني فمنكم جاحد ، ومنكم مصدّق (٢) .

وقيل : يعني فمنكم كافر في السرّ مؤمن في الظاهر والعلانية كالمنافقين ، وكافر في العلانية ومؤمن في السرّ كأبي طالب وعمّار بن ياسر (٣) .

ثمّ هدّد على الكفر والعصيان ، ووعد على الايمان والطاعة بقوله : ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والعصيان والايمان والطاعة ﴿بَصِيرٌ﴾ ومطّلع في الغاية ، ويجازيكم يوم القيامة حسب استحقاقكم وأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

عن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية قال : « عرف الله إيمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم أخذ [ عليهم ] الميثاق في صلب آدم وهم ذرّ » (٤) .

﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ *

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ

 بِذاتِ الصُّدُورِ (٣) و (٤)

ثمّ ذكر سبحانه نعمتين عظيمتين اخريين بقوله : ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ﴾ والحكمة البالغة خلقا بديعا نافعا ، حيث إنّ جميع الحيوانات بإمطار السماوات وإنبات الأرض يرتزقون ويتعيّشون ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ يا بني آدم في الأرحام بقدرته ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ وزيّن أشكالكم ببدائع الصفات من استواء القامة واعتدال الأعضاء مع ما فيكم من الجمال الظاهر وكمال القوى والمشاعر التي نيطت به الكمالات الظاهرية والباطنية المستتبعة للرّقي إلى عام القرب والرّوحانية ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع في ترقيّاتكم في هذا العالم بالعلم والعمل وبعد خروجكم من الدنيا ، فخذوا في أعمال القوي والجوارح التي أنعم الله بها عليكم ، حتّى تلاقوا ربّكم وهو راض منكم غير ساخط عليكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الناس صنفان : كافر ومؤمن ، ومصير الكلّ إليه فيجازيهم على حسب

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٢١.

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٢١ ، ولم يرد فيه : أبو طالب.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٧١ ، الكافي ١ : ٣٤١ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٨٢.

٢٦٠