نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ

 وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ

 رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ

 بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ

 السَّبِيلِ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الحشر المتضمّنة لبيان خذلان الكفّار والمنافقين وذمّهم ، ونصرة المسلمين ، والمواعظ الشافية ، اردفت بسورة الممتحنة المتضمّنة لنهي المؤمنين عند موادّة الكفّار ، وبيان حكم أزواجهم إذا هاجرن إلى المسلمين ، وأخذ الرسول البيعة منهنّ على العمل بأحكام الاسلام ، وبيان المواعظ الشافية ، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع في نصح المؤمنين والنهي عن موادّة الكفار بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿لا تَتَّخِذُوا﴾ ولا تختاروا لأنفسكم ﴿عَدُوِّي﴾ ومنكر توحيدي ورسالة رسولي ، الساعي في إطفاء نوري ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾ ومبغضكم لمخالفتكم لدينه ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأحبّاء وأنصارا ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ﴾ وتظهرون له ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾ والمحبّة والنصيحة ، أو تلقون إليهم بأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبب المودة التي بينكم وبينهم ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ﴾ قبل الله دين ﴿الْحَقِ﴾ أو القرآن بتوسّط رسولي ، والشاهد على معاداتهم إياكم أنهم ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ من أوطانكم لأجل ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ﴾ مع أنّ العقل حاكم بوجوب الايمان به ، لوضوح ألوهيته وربوبيته ، والشاهد على موادّتكم إياهم أنّكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ من المدينة إليهم ﴿جِهاداً﴾ ولأجل القتال معهم ﴿فِي سَبِيلِي﴾ وترويج ديني ﴿وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي﴾ ولأجل طلب رحمتي وجنّتي ﴿تُسِرُّونَ﴾ إلى الكفّار ،

٢٢١

وترسلون ﴿إِلَيْهِمْ﴾ خفية أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾ وبسبب المحبّة والنصيحة ﴿وَ﴾ الحال ﴿أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ﴾ في قلوبكم من مودّتكم ، أو من الناس من كتابكم إليهم ﴿وَما أَعْلَنْتُمْ﴾ وأظهرتم للرسول من الاعتذار من إظهار المودّه لهم ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ﴾ وخالف نهيي عن موادّتهم واتّخاذهم أولياء ﴿فَقَدْ ضَلَ﴾ وأخطأ ﴿سَواءَ السَّبِيلِ﴾ ووسط طريق الحقّ والصواب الموصل إلى السعادة الأبدية والقرب من الله. عن ابن عباس : أنّه عدل عن قصد الايمان في اعتقاده (١) .

روى بعض العامة : أنّ حاطب بن أبي بلتعة - وكان من المهاجرين والبدريين والمبايعين بيعة الرضوان - لمّا تجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة ، كتب إلى أهل مكّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريدكم فخذوا حذركم ، فانّه توجّه إليكم بجيش كالليل : وأرسل الكتاب مع سارة مولاة بني عبد المطّلب ، وأعطاها عشرة دنانير وبردة ، وكانت سارة قدمت من مكة ، وكانت مغنية ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لماذا جئت ؟ » قالت : جئت لتعطيني شيئا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله: « ما فعلت بعطائك من شبّان قريش ؟ » قالت : مذ قتلتهم ببدر لم يصل إليّ شيء إلّا قليل ، فأعطاها شيئا ، فرجعت إلى مكّة ومعها كتاب حاطب ، فنزل جبرئيل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا وعمّارا وطلحة والزبير والمقداد ومرثد بن أبي مرثد ، وقال : « انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - وهو موضع بين الحرمين - فانّ بها ضعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكّة ، فخذوه منها ، فان أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها ثمّة فجحدت ، فسلّ عليّ عليه‌السلام سيفه ، فأخرجته من عقائصها » .

فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حاطبا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما حملك على هذا ؟ » فقال : يا رسول الله ، ما كفرت منذ أسلمت ، وما غششتك منذ نصحتك ، ولكنّي كنت امرءا ملصقا (٢) في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، ومن معك من المهاجرين كان له فيهم قرابات يحمون أهاليهم وأموالهم ، وليس فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن آخذ عندهم يدا ، ولم أفعله كفرا وارتدادا عن ديني ، وقد علمت أنّ كتابي لا يغني عنهم. فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل عذره. فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.

فقال : « يا عمر ، إنّه شهد بدرا ، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » ففاضت عينا عمر (٣) .

أقول : في ذيل الرواية من القدح في عمر - من جرأته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإظهار مخالفته له - ما لا يخفى.

وعن القمي ، قال : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة - إلى أن قال - : كان سبب ذلك أنّ حاطب بن أبي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٩٨.

(٢) أي حليفا.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤٧٢.

٢٢٢

بلتعة كان أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكّة ، فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاروا إلى عيال حاطب ، وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهل يريد أن يأتي مكة ، فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة ، فوضعته في قرونها فمرّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بذلك ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين عليه‌السلام والزبير بن العوّام في طلبها ، فلحقوها فقال أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله: « أين الكتاب ؟ » فقالت : ما معي شيء. ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئا. فقال الزبير : ما نرى معها شيئا. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والله ما كذّبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا كذّب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على جبرئيل ، ولا كذّب جبرئيل على الله جلّ ثناؤه ، والله لئن لم تظهري الكتاب لأردّن رأسك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » فقالت : تنحّ عنّي حتى اخرجه. فأخرجت الكتاب من قرونها.

فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وجاء به إلى رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا حاطب ، ما هذا ؟ » فقال حاطب : يا رسول الله ، ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت ، وإنّى أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله حقا ، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنع قريش إليهم ، فأحببت أن اجازي قريشا بحسن معاشرتهم. فأنزل الله عزوجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية (١) .

﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ

 وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ

 بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) و (٣)

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عداوة الكفّار للمؤمنين ، وإن ألقوا إليهم بالمودّة بقوله : ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ ويظهر الكفّار عليكم ، ويتمكّنوا منكم أيّها المؤمنون ﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً﴾ متجاهرين في العداوة والبغض ، ومظهرين ما في قلوبهم من الغيظ والحقد ﴿وَيَبْسُطُوا﴾ ويمدّوا ﴿إِلَيْكُمْ﴾ من غيظهم ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ بالضرب والقتل والإيذاء ﴿وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ من الشّتم والسبّ واللّعن ﴿وَوَدُّوا﴾ وتمنّوا في جميع الأوقات قبل الظفر والظهور عليكم وبعده ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وأن ترجعوا إلى دينهم ، وتعبدوا آلهتهم ، وأن توادّوهم أيّها المؤمنون لرعاية أهلكم وأرحامكم ، فاعلموا أنّه ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾ بجلب خير أو دفع ضرّ ﴿أَرْحامُكُمْ﴾ وأقاربكم ﴿وَلا أَوْلادُكُمْ﴾ وذراريكم ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ فانّه يوم ﴿يَفْصِلُ﴾ الله ويفرّق ﴿بَيْنَكُمْ﴾ وبين أرحامكم وأولادكم وأصدقائكم ، لأنّه لاهمّ لأحد فيه إلّا نجاة نفسه من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٦١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦١.

٢٢٣

الأهوال والعذاب ﴿وَاللهُ﴾ الخالق لشراشركم وجميع أجزائكم ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الموادّة للكفار وإرسال الكتاب إليهم وسائر معاصيكم وزلّاتكم الجلية والخفية ﴿بَصِيرٌ﴾ لأنّ جميعها بمنظر منه ومرآة ، كأنّه يدرك جميعها بحسن البصر.

﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا

 مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ

 وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ

 وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *

 رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

 الْحَكِيمُ (٤) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ وظيفة الايمان التبرّي من الأهل والأقارب إذا كانوا مشركين ، كما تبرأ إبراهيم عليه‌السلام والمؤمنون به من أقاربهم بقوله : ﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿أُسْوَةٌ﴾ وقدوة وتبعة ﴿حَسَنَةٌ﴾ مرضية كاملة ﴿فِي﴾ عمل ﴿إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ﴾ آمنوا بالله وشاركوا ﴿مَعَهُ﴾ في التوحيد من سائر الأنبياء والأولياء والمؤمنين ﴿إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ﴾ وأقاربهم المشركين ﴿إِنَّا بُرَآؤُا﴾ ومتنفّرون ﴿مِنْكُمْ﴾ لشرككم ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ من الأصنام والأوثان والكواكب وغيرها وأعداؤكم وأعداؤها.

ثمّ بالغوا في تبرّيهم منهم بقولهم : ﴿كَفَرْنا بِكُمْ﴾ وتبرّأنا منكم ، كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ، أو أنكرنا دينكم ﴿وَبَدا﴾ وظهر ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ﴾ لاختلافنا في الدين ﴿الْعَداوَةُ﴾ وطلب الشرّ والضرّ لكم ﴿وَالْبَغْضاءُ﴾ والغضب عليكم ﴿أَبَداً﴾ دائما ﴿حَتَّى﴾ تتركوا الشّرك و﴿تُؤْمِنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ فحينئذ تنقلب العداوة والبغضاء بالصداقة والمحبّة والالفة ، فعليكم أيّها المؤمنون الاقتداء باپراهيم عليه‌السلام في أقواله ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ﴾ إشفاقا ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر المشرك برجاء إيمانه ، ولموعدة وعدها إياه ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ يا أبه ، فانّ الاستغفار هو الذي أقدر عليه ﴿وَما أَمْلِكُ لَكَ﴾ وليس في قدرتي ﴿مِنْ﴾ دفع عذاب ﴿اللهِ﴾ عنك ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ يسير إن دمت على الشرك ، وإنّما وعده الاستغفار لكونه راجيا إيمانه بالتوحيد ، فليس لكم أيّها المؤمنون أن تتأسّوا وتقتدوا بإبراهيم في استغفاره للمشرك بأن تستغفروا للمشركين ، لأنّه موادّة ولغو ، لعدم إمكان المغفرة لهم ،

__________________

(١) التوحيد : ٢٦٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٢.

٢٢٤

وكذا لكم أيّها المؤمنون الأسوة في إبراهيم عليه‌السلام ومن معه في دعائهم بقوله : ﴿رَبَّنا﴾ ومليكنا ﴿عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا﴾ واعتمدنا في جميع امورنا ﴿وَإِلَيْكَ﴾ يا ربّ ﴿أَنَبْنا﴾ ورجعنا من ذنوبنا ومعاصينا بالتوبة والطاعة ﴿وَإِلَيْكَ﴾ وحدك ﴿الْمَصِيرُ﴾ والمرجع بعد الموت وحين الخروج من القبر ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا﴾ ولا تصيّرنا في الدنيا ﴿فِتْنَةً﴾ وامتحانا وبلاء ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بأن تسلّطهم علينا ، فيظنّون بذلك أنّهم على الحقّ ، كما عن ابن عباس (١) .

وقيل : إنّ المعنى لا تعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحقّ لما أصابهم ذلك (٢)﴿وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا﴾ واستر ذنوبنا في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ والقادر على إنفاذ إرادتك ، فلا تذلّ من لجأ إليك ﴿الْحَكِيمُ﴾ في فعاله ، فلا يصدر منك إلّا ما فيه الصلاح الأتمّ.

﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ

 فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ

 مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦) و (٧)

ثمّ أكّد سبحانه وجوب التأسّي بإبراهيم عليه‌السلام ومن معه بقوله تعالى : ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أعني ﴿لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ﴾ ويأمل النيل بثوابه ، ويؤمن بلقائه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ويصدّق به ، لوضوح أنّ من يؤمن بالله وبيوم الجزاء لا يترك التأسّي بإبراهيم عليه‌السلام ﴿وَمَنْ يَتَوَلَ﴾ ويعرض عن الاقتداء بهم ، وعن مواعظ الله ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ وحده ﴿هُوَ الْغَنِيُ﴾ بالذات عنه وعن جميع خلقه ، وطاعتهم ونصرتهم لدينه ﴿الْحَمِيدُ﴾ والمحمود في ذاته وصفاته ، أو المستحقّ للحمد وإن لم يكن حامدا ﴿عَسَى اللهُ﴾ والرجاء منه ﴿أَنْ يَجْعَلَ﴾ ويوجد ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿وَبَيْنَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ عادَيْتُمْ﴾ وباغضتم ﴿مِنْهُمْ﴾ بسبب اختلاف الدين ﴿مَوَدَّةً﴾ ومحبّة بأن يوفّقهم للاسلام ويوافقهم معكم في الدين ، كما جعل باسلام جميع أهل مكة ومخالطتهم أصحاب الرسول ومناكحتهم فيهم ﴿وَاللهُ قَدِيرٌ﴾ على تقليب قلوبهم وتغيير سوء أخلاقهم إلى حسنها ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لمن أسلم ، أو لمن فرط منكم في موالاتهم من قبل ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين.

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ماداموا كفارا ، فقال : ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قطع الله ولاية المؤمنين منهم ، وأظهروا لهم العداوة ، ثمّ قال : ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ فلمّا أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٢.

٢٢٥

وناكحوهم ، وتزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب » (١) .

﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ

 تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بالانقطاع عن الكفّار وترك موالاتهم ، رخّص سبحانه في مواصلة الذين لم يظهروا العداوة ولم يضرّوهم بقوله تعالى : ﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ﴾ ولا يمنعكم أيّها المؤمنون ﴿عَنِ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ ولم يقدموا على حربكم لاطفاء نور الله ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ﴾ وأوطانكم من ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ وتحسنوا إليهم بتطييب قلوبهم ، وحسن عشرتهم ، وبذل المال لهم ﴿وَتُقْسِطُوا﴾ وتؤدّوا حقوقهم ﴿إِلَيْهِمْ﴾ ولا تظلمواهم ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والعادلين في معاملاتهم.

قيل : إنّ المراد من هذا القسم من الكفار ، هم الذين عاهدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على ترك القتال والمظاهرة في العداوة ، وهم خزاعة ، فانّهم عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوفاء إلى مدّتهم والبرّ بهم ، كما عن ابن عباس (٢) .

وعنه : أنّهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوهم يوم بدر كرها (٣) . وقيل : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا (٤) . وقيل : إنّهم النّسوان والصبيان (٥) . وقيل : إنّ المسلمين استأمروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أقربائهم من المشركين (٦) .

وعن ابن الزبير : أنّ فتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها وهي مشركة بهدايا ، فلم تقبلها ، ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت الآية ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها(٧).

﴿إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ

 وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ

 بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ

 وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٦٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٣.

(٣-٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٤.

(٧) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٤.

٢٢٦

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما

 أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩) و (١٠)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النهي عن تولّي عتاة المشركين والكفّار بقوله : ﴿إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ﴾ ويمنعكم أيّها المؤمنون ﴿عَنِ﴾ الكفار ﴿الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ ونازلوكم لإطفاء نوره ﴿وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ﴾ وأوطانكم كجبابرة أهل مكّة ﴿وَظاهَرُوا﴾ وعاونوا قريشا ﴿عَلى إِخْراجِكُمْ﴾ من مكّة عن ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ وتوادّوهم ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ﴾ ويتودّد معهم ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسهم بعصيان الله وبوضع الودّ موضع العداوة.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم معاملة المؤمنين مع الفريقين من الكفّار ، بيّن سبحانه حكم النساء اللاتي يأتين المؤمنين مظهرات للايمان بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ﴾ النساء اللاتي يدّعين أنّهن ﴿الْمُؤْمِناتُ﴾ بألسنتهنّ حال كونهنّ ﴿مُهاجِراتٍ﴾ إليكم من أوطانهنّ ، ولم تعلموا صدقهنّ في دعوى الايمان ﴿فَامْتَحِنُوهُنَ﴾ واختبروهن ﴿اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ﴾ الحقيقي ، لعلمه بسرائر الخلق ، وأنتم لا تعلمون إلّا بالأمارات والامتحان.

قيل : إنّ من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت : ساهاجر إلى محمد (١) .

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول للتي يمتحنها : « بالله الذي لا إله إلّا هو ، ما خرجت عن بغض زوجي ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت حبّا لرجل من المسلمين ، بالله ما خرجت لحدث احدثه ، بالله ما خرجت إلّا رغبة في الاسلام وحبّا لله ولرسوله » (٢) .

﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَ﴾ بعد الامتحان ﴿مُؤْمِناتٍ﴾ صادقات في دعوى الايمان ﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَ﴾ ولا تردّوهن ﴿إِلَى﴾ أزواجهن من ﴿الْكُفَّارِ﴾ لأنّه ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾ لانقطاع علقة الزوجية بينهما بالإيمان ﴿وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ﴾ لوضوح ارتفاع الزوجية من الجانبين لا من جانب واحد.

وقيل : إنّ الجملة الاولى لبيان زوال النكاح الأول ، والثانية لبيان امتناع النكاح الجديد (٣) ، أو للتأكيد ، وأعطو أزواجهنّ الكفرة (٤)﴿وَآتُوهُمْ﴾ من مال المؤمنات ، أو من بيت المال ﴿ما أَنْفَقُوا﴾ عليهنّ ودفعوا إليهنّ من المهور.

روي أنّ صلح الحديبية كان على أنّ من أتى المسلمين من الكفّار ردّوه إليهم ، فجاءت سبيعة بنت

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٢.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٣.

٢٢٧

الحارث الأسلمية مسلمة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديبية ، فأقبل مسافر المخزومي زوجها طالبا لها ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فانّك قد شرطت أن تردّ علينا من أتاك منّا ، فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما الشرط كان في الرجال دون النساء » فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق (١) .

وعن القمي رحمه‌الله : إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف بالله إنّه لم يحملها على اللّحوق بالمسلمين بغض زوجها الكافر ، ولا حبّ أحد من المسلمين ، وإنّما حملها على ذلك الاسلام ، فاذا حلفت على ذلك قبل إسلامها وأتوهم ما أنفقوا ، يعني تردّ المسلمة على زوجها الكافر صداقها [ ثم يتزوجها المسلم ](٢) .

﴿وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ أيّها المسلمون ﴿أَنْ﴾ تتزوّجوا المهاجرات و﴿تَنْكِحُوهُنَ﴾ لخلوهنّ عن الزوج بالاسلام ﴿إِذا آتَيْتُمُوهُنَ﴾ وحين أعطيتموهنّ ﴿أُجُورَهُنَ﴾ والتزمتم مهورهنّ ، فانّه لا يكفي ما أعطى الزوج عن المهر ﴿وَلا تُمْسِكُوا﴾ ولا تعتدّوا ﴿بِعِصَمِ﴾ النساء ﴿الْكَوافِرِ﴾ ونكاحهنّ لبطلانه بسبب الاختلاف في الدين.

عن ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه (٣) ، يعني لا يعدّها من الأربع ، بل يجوز تزويج غيرها ونكاح اختها.

عن الباقر عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « يقول : من كانت عنده امرأة كافرة - يعني على غير ملة الاسلام - وهو على ملّة الاسلام ، فليعرض عليها الاسلام ، فان قبلت فهي امرأته ، وإلّا فهي بريئة منه ، فنهى الله أن يمسك بعصمتها » (٤) .

وعنه عليه‌السلام قال : « لا ينبغي نكاح أهل الكتاب » قيل : وأين تحريمه ؟ قال : « قوله : ﴿لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ﴾ » (٥) .

أقول : يعارضه أخبار معتبرة ، فلا بدّ من حملها على الكراهة ﴿وَسْئَلُوا﴾ أيّها المؤمنون من الكفّار ، واطلبوا منهم ﴿ما أَنْفَقْتُمْ﴾ من مهور نسائكم إذا لحقن بهم ﴿وَلْيَسْئَلُوا﴾ اولئك الكفّار ، ويطلبوا منكم ﴿ما أَنْفَقُوا﴾ وأعطوا من مهور نسائهم ، إذا لحقن بكم ﴿ذلِكُمْ﴾ الأحكام ﴿حُكْمُ اللهِ﴾ الذي ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ وبين الكفّار ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالح العباد ﴿حَكِيمٌ﴾ يشرّع ما تقتضيه حكمته.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٣٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٤.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٣٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٤.

(٥) الكافي ٥ : ٣٥٨ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٥.

٢٢٨

﴿وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ

 أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)

ثمّ لمّا حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا ذهبت إليهم ، ويسأل الكفار من المسلمين مهر نسائهم إذا جاءت إليهم مسلمة ، أقرّ المسلمون بحكم الله ، وأبى المشركون العمل به ، بيّن سبحانه حكم ذلك بقوله تبارك وتعالى : ﴿وَإِنْ فاتَكُمْ﴾ وانفلت منكم أيّها المسلمون ﴿شَيْءٌ﴾ واحد ﴿مِنْ أَزْواجِكُمْ﴾ وذهبت ﴿إِلَى الْكُفَّارِ﴾ ولم يمكنكم إرجاعها.

قيل : إطلاق الشيء على أحد للتحقير (١) . وقيل : للإشباع في التعميم (٢) . وقيل : يعني شيء من مهور أزواجكم (٣) ونسائكم ﴿فَعاقَبْتُمْ﴾ وغنمتم من الكفّار كما عن ابن عباس (٤) أو جاءت نوبتكم من أداء المهر وتزوّجتم باخرى عقيبها ﴿فَآتُوا﴾ وأعطوا المسلمين ﴿الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ﴾ إلى الكفّار من الغنيمة ، أو من مهر المرأة المسلمة التي جاءت إلى المسلمين ﴿مِثْلَ ما أَنْفَقُوا﴾ على أزواجهم الفائتة من المهر ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ في العمل بأحكامه ولا تخالفوه ، فانّ الايمان مقتضي لذلك.

قيل : نزلت الآية في عمر بن الخطاب ، كانت عنده فاطمة بنت أبي امية ابن المغيرة ، فكرهت الهجرة ، وأقامت مع المشركين ، فنكحها معاوية بن أبي سفيان ، فأمر الله تعالى رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها (٥) .

وقيل : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ستّ نسوة ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أزواجهم مهور نسائهم من الغنيمة (٦) .

وعنهما عليهما‌السلام : سئلا ما معنى العقوبة هنا ؟ قال : « إنّ الذي ذهبت امرأته ، فعاقب على امرأة اخرى غيرها - يعني تزوّجها - فاذا هو تزوّج امرأة اخرى غيرها فعلى الامام أن يعطيه مهر امرأته الذاهبة».

فسئلا كيف صار المؤمنون يردّون على زوجها المهر بغير فعل منهم في ذهابها ، وعلى (٧) المؤمنين أن يردّوا على زوجها ما أنفق عليها ممّا يصيب المؤمنون ؟ قال : « يردّ الامام عليه ، أصابوا من الكفّار أو لم يصيبوا ، لأنّ على الامام أن يجبر (٨) حاجته من تحت يده ، وإن حضرت القسمة فله أن يسدّ كلّ نائبة تنوبه قبل القسمة ، وإن بقي بعد ذلك شيء قسمه بينهم ، وإن لم يبق شيء فلا شيء لهم » (٩) .

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا

__________________

(١-٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٤٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٧.

(٥) تفسير الصافي ٥ : ١٦٥.

(٦) جوامع الجامع : ٤٩١.

(٧) في النسخة : قيل على.

(٨) في علل الشرائع : ينجز ، وفي تفسير الصافي : يحيز.

(٩) علل الشرائع : ٥١٧ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٥.

٢٢٩

يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ

 وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم هجرة النساء وتزويج المسلمين إيّاهن ، بيّن كيفية بيعتهنّ بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ﴾ النساء ﴿الْمُؤْمِناتُ﴾ بقصد أن ﴿يُبايِعْنَكَ﴾ ويعاهدنك ﴿عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً﴾ من الأصنام والأوثان والكواكب والملائكة وغيرها ﴿وَلا يَسْرِقْنَ﴾ ولا يأخذن أموال أزواجهنّ (١) وغيرهم خفية بغير إذن مالكها ﴿وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ﴾ بشرب الدواء والحركات الموجبة لسقطهنّ وغير ذلك من الأسباب ، أو المراد قتلهنّ البنات ﴿وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ﴾ ونسبة الولد كذبا إلى أزواجهنّ حال كونهنّ ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾ ببطونهنّ اللاتي ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَ﴾ وفروجهنّ اللاتي بين أرجلهنّ.

قيل : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ ﴿وَأَرْجُلِهِنَّ ،﴾ وذلك أنّ الولد إذا رضعته الامّ وضعته بين يديها ورجليها ، أو بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ، ومخرجه بين رجليها (٢) .

عن ابن عباس : يعني لا تلحق بزوجها ولدا ليس منه (٣) .

﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي﴾ عمل ﴿مَعْرُوفٍ﴾ وحسن تكلّفهنّ به من فعل أو ترك.

حكى بعض أكابر مفسري العامة : أنّ المراد هو النهي عن النّياحة ، والدعاء بالويل ، وتمزيق الثوب ، ونتف الشعر ونشره ، وخمش الوجه (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو ما فرض الله عليهنّ من الصلاة والزكاة ، وما أمرهنّ به من خير »(٥).

﴿فَبايِعْهُنَ﴾ على ما ذكر ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَ﴾ الله لطفا عليهنّ ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لذنوب المؤمنين ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بإعطاء الثواب العظيم.

روى الفخر الرازي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح ، أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا ، وعمر أسفل منه يبايع النساء بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاءت هند بنت عتبة امراة أبي سفيان متقنعة متنكّرة خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعرفها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ابايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا » فرفعت

__________________

(١) في النسخة : زوجهنّ.

(٢) جوامع الجامع : ٤٩١ ، تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٩.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤١٤ ، تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٨٩.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٦٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٦.

٢٣٠

هند رأسها ، وقالت : والله لقد عبدنا الأصنام ، وإنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، تبايع الرجال على الاسلام والجهاد فقط ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولا تسرقن » فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإنّي أصبت من ماله هناة ، فما أدري أتحلّ لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال. فضحك رسول الله وعرفها ، فقال لها : « وإنّك لهند بنت عتبة ؟ » قالت : نعم ، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله ، عفا الله عنك.

فقال : « ولا تزنين » قالت : أتزني الحرّة ؟ فقال : « ولا تقتلن أولادكنّ » فقالت : ربّيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا ، فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر. فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال : « ولا يأتين ببهتان يفترينه » وهو أن تقذف على زوجها ما ليس منه ، فقالت هند : إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلّا بالرّشد ومكارم الأخلاق.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولا تعصينني في معروف » فقالت : والله ما جلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، انتهى (١) .

في كيفية أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من النساء

قال بعض العامة : إنّ مبايعة عمر إيّاهن من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ؛ لأنّه لا يجوز للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مسّ أيدي الأجنبية.

أقول : كذلك والله لا يجوز لعمر مسّها بطريق أولى ، ورووا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهنّ ، وهي اميمة اخت خديجة (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بايع الرجال ، ثمّ جاءت النساء يبايعنه ، فأنزل الله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُ﴾ الآية ، قالت هند : أمّا الولد فقد ربّيناهم صغارا وقتلتهم كبارا. وقالت امّ الحكم بنت الحارث بن هشام ، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل : يا رسول الله ، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه ؟ قال : لا تلطمن خدّا ، ولا تخمشن وجها ، ولا تنتفن شعرا ، ولا تشققن جيبا ، ولا تسوّدن ثوبا ولا تدعين بالويل ، فبايعهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا. فقالت : يا رسول الله كيف نبايعك ؟ قال : إنّني لا اصافح النساء ، فدعا بقدح من ماء ، فأدخل يده فيه ، ثمّ أخرجها ، فقال : ادخلن أيديكنّ في هذا الماء ، فهي البيعة » (٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٧.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩١.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩١.

(٤) الكافي ٥ : ٥٢٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٦.

٢٣١

وعنه عليه‌السلام قال : « جمعهنّ حوله ، ثمّ دعا بتور برام (١) ، فصبّ فيه ماء نضوحا ، ثمّ غمس يده فيه ، ثمّ قال : اسمعن يا هؤلاء ، ابايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا - إلى آخر ما في الآية - ثمّ قال : أقررتنّ ؟ قلن : نعم ، فأخرج يده من التّور ، ثمّ قال لهن : اغمسن أيديكنّ فيه ، ففعلن ، فكانت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أطيب من أن يمسّ بها كفّ انثى ليست [ له ] بمحرم » (٢) .

وروي عن عائشة أنّها قالت : « ما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطّ إلّا بما أمر الله ، وما مسّت كفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفّ امرأة قطّ ، وكان يقول إذا أخذ عليهنّ قد بايعتك على كلّها ، فاذا أقررن بذلك من قولهنّ ، قال لهنّ : انطلقن فقد بايعتكنّ » (٣) .

وروى بعض العامة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهنّ وبين يديه وأيديهن ثوب قطريّ - وهو ضرب من البرد - يأخذ بطرف منه ويأخذن بالطرف الآخر (٤) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما

 يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن مولاة الكفّار ، أو عن مولاة خصوص اليهود بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ عن ابن عباس يقول : لا تتولّوا اليهود والمشركين ، وذلك لأنّ جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم ، فنهوا عنه ، ولمّا كان اليهود قد كذّبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم يعرفون أنّه رسول الله ، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه (٥) ، فهم ﴿قَدْ يَئِسُوا﴾ وقطعوا الطمع ﴿مِنَ﴾ نعيم الدار ﴿الْآخِرَةِ﴾ وثوابها ﴿كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ﴾ الذين ماتوا على كفرهم وصاروا جميعا ﴿مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ﴾ فانّهم عاينوا الآخرة ، وعلموا بخذلانهم فيها ، وعدم حظّهم منها.

روي عن مقاتل : أنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار ، ثمّ يسأله من ربّك ، ومن نبيّك ؟ فيقول : لا أدري. فيقول الملك : أبعدك الله ، أنظر إلى منزلك في النار ، فيدعو بالويل والثبور ، ويقول : هذا لك ، فيفتح باب الجنة فيقول : هذا لمن آمن بالله ، فلو كنت آمنت بربّك نزلت الجنّة ، فيكون حسرة عليه ، وينقطع رجاءة ويعلم أنّه لا حظّ له فيها ، فييأس من خير الجنّة (٦) .

__________________

(١) التور : هو إناء من صفر أو حجارة كالإجّانة ، وقد يتوضأ منه ، والبرمة : القدر مطلقا ، وجمعها برام ، وهي في الأصل المتّخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن.

(٢) الكافي ٥ : ٥٢٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٧.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩١.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩١.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٩.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٢.

٢٣٢

وقيل : إنّ المعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا إلى الدنيا أحياء (١) .

عن السجاد عليه‌السلام : « من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله ، امتحن الله قلبه للايمان ، ونوّر له بصره ، ولا يصيبه فقر أبدا ، ولا جنون في بدنه ، ولا في ولده » (٢) .

الحمد لله والشّكر له على التوفيق لاتمام تفسيرها.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٤١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٢.

(٢) ثواب الاعمال : ١١٨ ، مجمع البيان ٩ : ٤٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٧.

٢٣٣
٢٣٤

في تفسير سورة الصف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يا أَيُّهَا

 الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا

 تَفْعَلُونَ (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الممتحنة المبدوءة والمختتمة بالنهي عن موالاة أعداء الله واليهود الذين غضب الله تبارك وتعالى عليهم ، نظمت سورة الصفّ التي فيها الترغيب إلى معاداة أعداء الله والاصطفاف في مقابلهم في ميدان الجهاد طلبا لمرضاة الله تعالى ، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ أعلن سبحانه بكمال عظمته المقتضية لتعظيمه وتحصيل القرب منه والمحبوبية عنده بقوله : ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وقد مرّ تفسيره مرارا.

ثمّ وبّخ سبحانه المؤمنين على تخلّفهم عن وعدهم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ﴾ ولأيّ علّة تظهرون وتعدون ﴿ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ولا تفون به. روي أنّ المسلمين كانوا يقولون : لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله ، لبذلنا أموالنا وأنفسنا فيه ، فلمّا نزل الجهاد كرهوه ، فنزلت الآية (١) توبيخا عليهم بعدم وفائهم بقولهم.

في وجوب الوفاء بالوعد وعدمه

ثمّ عظّم الله سبحانه قبح ترك العمل بالقول وخلف الوعد بقوله : ﴿كَبُرَ مَقْتاً﴾ وعظم بغضا ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي علمه ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿ما لا تَفْعَلُونَ﴾.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الخلف يوجب المقت عند الله وعند الناس ، قال الله : ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ﴾ لآية » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ،

__________________

(١) تفسير الصافي ٥ : ١٦٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٣.

(٢) نهج البلاغة : ٤٤٤ الكتاب ٥٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٨.

٢٣٥

وذلك قوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ﴾ ... الآيتان » (١) .

أقول : ذهب بعض الأعاظم إلى وجوب الوفاء بالوعد ، وقال به صاحب المستند (٢) ، وادّعى بعض الإجماع على عدم وجوبه ، والأحوط الاهتمام بالوفاء.

﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ * وَإِذْ قالَ

 مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا

 أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٤) و (٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المخالفين للوعد الذين وعدوا بالقتال وتخلّفوا عنه ، وإظهار غضبه عليهم ، مدح المؤمنين المقاتلين لاعلاء كلمة التوحيد بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ يُقاتِلُونَ﴾ أعداءه ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾ وطريق مرضاته ، ولإعلاء كلمة الحقّ حال كونهم ﴿صَفًّا﴾ وقائمين في مقابل الأعداء في معركة القتال مستوين وثابتين ومستقرين ، ومنضمّين بعضهم ببعض ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ﴾ وجدار ﴿مَرْصُوصٌ﴾ ومستحكم لا يتحرّك من مكانه ، ولا يكون فيه الخلل والفرج.

عن ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ، ثمّ يرصّ بأحجار صغار ، ثمّ يوضع اللّبن عليه ، فيسمّيه أهل مكّة المرصوص (٣) .

وعن ابن جبير : هذا تعليم الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوّهم (٤) .

ثمّ لمّا كان مخالفة المنافقين وعدهم بالقتال سببا لإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنكسار قلبه الشريف ، سلّاه سبحانه بشكاية موسى من إيذاء قومه بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ﴾ قيل : إنّ التقدير واذكر يا محمد وقت (٥) قال ﴿مُوسى﴾ بن عمران مع كونه صاحب المعجزات الباهرة ﴿لِقَوْمِهِ﴾ وطائفته ، وهم بنو إسرائيل ، بعد ما أفرطوا في إيذائه بالقول والفعل : ﴿يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ بالمخالفة والعصيان فيما آمركم به ﴿وَ﴾ الحال أنّكم ﴿قَدْ تَعْلَمُونَ﴾ بالأدلّة الواضحة والمعجزات الباهرة ﴿أَنِّي رَسُولُ اللهِ﴾ الّذي ارسلت ﴿إِلَيْكُمْ﴾ لهدايتكم إلى الدين الحقّ وإرشادكم إلى السعادة الأبديه ، فعليكم أن تعظّموني وتوقّروني ، وتحسنوا إليّ ﴿فَلَمَّا زاغُوا﴾ ومالوا عن الحقّ ، وأصرّوا على العقائد الفاسدة ، ولم يتّعظوا بمواعظه ﴿أَزاغَ اللهُ﴾ وصرف ﴿قُلُوبَهُمْ﴾ عن قبول الدين الحقّ ، بالطبع عليها ، وتسليط الشيطان عليهم ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق للوصول إلى الخير والسعادة ﴿الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ والخارجين عن حدود العقل

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧٠ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٨.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٣١٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٥.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٥.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٤٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٦.

٢٣٦

وطريق الصواب.

﴿وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

 يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ

 بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)

في بشارة عيسى عليه‌السلام ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ سلّاه بمخالفة قوم عيسى عليه‌السلام إياه بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لبني إسرائيل مناديا لهم استمالة لقلوبهم إلى تصديقه : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ﴾ الذي ارسلت ﴿إِلَيْكُمْ﴾ لدعوتكم إلى التوحيد والدين المرضيّ عند الله ، وجئتكم حال كوني ﴿مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ﴾ وانزل قبلي عليكم ﴿مِنَ﴾ كتاب ﴿التَّوْراةِ﴾ الذي جاء به موسى ﴿وَمُبَشِّراً﴾ إياكم ﴿بِرَسُولٍ﴾ عظيم الشأن الذي ﴿يَأْتِي﴾ من قبل الله ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ وبعد ذهابي من بينكم. ثمّ كأنّه قيل : ما اسمه ؟ قال : ﴿اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا أن بعث الله عيسى عليه‌السلام قال : إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد من ولد إسماعيل يجيء بتصديقي وتصديقكم وعذري وعذركم » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « لم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بعث الله المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام فبشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك قوله : ﴿يَجِدُونَهُ﴾ يعنى اليهود والنصارى ﴿مَكْتُوباً﴾ يعني صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله واسمه ﴿عِنْدَهُمْ﴾ يعني في التوراة والإنجيل - إلى أن قال - : [ وهو قول الله عزوجل ] يخبر عن عيسى عليه‌السلام : ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صحف إبراهيم الماحي ، وفي توراة موسى الحادّ ، وفي إنجيل عيسى أحمد ، وفي الفرقان محمد » (٤) .

وعن القمي : أنه سأل بعض اليهود لم سمّيت أحمد ؟ قال : « لأنّي في السماء أحمد منّي في الأرض » (٥) .

ثمّ وبّخ سبحانه امّة عيسى عليه‌السلام أو امّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ﴾ محمد أو عيسىعليهما‌السلام

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٩٨.

(٢) الكافي ١ : ٢٣٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٩.

(٣) الكافي ٨ : ١١٧ / ٩٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٣٠ / ٤٥٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٩.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٦٥ ، وفيه : وأما أحمد فاني في السماء أحمد منه ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٩.

٢٣٧

﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ﴿قالُوا﴾ عنادا ولجاجا ﴿هذا﴾ الذي جاءنا به باسم المعجزة ﴿سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وشعبذة ظاهرة ، لا يشكّ أحد في كونه سحرا وشعبذة.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا

 يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ

 كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

 الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٧) و (٩)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الذين ينسبون المعجزات إلى السحر أظلم الناس بقوله : ﴿وَمَنْ﴾ هو ﴿أَظْلَمُ﴾ وأكثر إضرارا على نفسه ﴿مِمَّنِ﴾ نسب كلام الله ، أو المعجزات التي جاء بها رسوله إى السحر و﴿افْتَرى عَلَى اللهِ﴾ ونسب إليه ﴿الْكَذِبَ﴾ بنسبة الكذب إلى رسوله ﴿وَهُوَ يُدْعى﴾ بلسان رسوله ﴿إِلَى﴾ دين ﴿الْإِسْلامِ﴾ أو إلى السلامة من المكاره في الدارين ، والسعادة في النشأتين ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يرشد ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على الله بتضييع حقوقه ، وعلى أنفسهم بإهلاكها في الآخرة إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم وفلاحهم اولئك الظالمون ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا﴾ ويخمدوا ﴿نُورَ اللهِ﴾ ويبطلوا دينه أو حجّته ، أو يوهنوا كتابه ﴿بِأَفْواهِهِمْ﴾ وأقوالهم الفاسدة ومطاعنهم الردئة ، كمن يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة ﴿وَاللهُ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿مُتِمُّ نُورِهِ﴾ ومكمّله ، ومظهر دينه ، ومتقن حجّة رسوله ، وناشر كتابه في الآفاق ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ والمعاندون لدين الاسلام من اليهود والنصارى وغيرهم إتمامه وإكماله وظهوره واتقانه وانتشاره إرغاما لانوفهم ، فانّ سعيهم في إنفاذ مرادهم كسعي الخفّاش في إعدام الشمس وإطفاء نورها ﴿هُوَ﴾ الله اللطيف ﴿الَّذِي أَرْسَلَ﴾ بلطفه على عباده ﴿رَسُولَهُ﴾ محمدا إلى كافة الناس إلى يوم القيامة مصاحبا ﴿بِالْهُدى﴾ وما به رشاد الخلق من القرآن العظيم والمعجزات الباهرات ﴿وَدِينِ الْحَقِ﴾ الذي ارتضاه لملائكته ، واختاره لرسوله وامّته ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ويعليه بقدرته وتأييده ﴿عَلَى﴾ جنس ﴿الدِّينِ﴾ المخالف لما جاء به ﴿كُلِّهِ﴾ بحيث لا يبقى على وجه الأرض دين غير دينه ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ذلك الظهور والغلبة لعنادهم وتعصّبهم وحسدهم ، لأنّ فيه محض التوحيد بكماله ، وإبطال الشرك بمراتبه جليّه وخفيّه ، وقد أنجز الله تعالى وعده حيث جعل دينه غالبا على جميع الأديان بالحجّة والسيف ، وسيكمل بفضله وحكمته إنجازه بظهور وليّه وحجّته ابن الحسن العسكري الغائب المنتظر ، فانّه في ذلك الزمان المبارك والعصر المنوّر لا يبقى على وجه الأرض دين غير الاسلام وشرع خير الأنام.

٢٣٨

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ

 بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ

 كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

 وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ

 مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) و (١٣)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه رسالة رسوله ، وإيتاءه بالهدى ودين الحقّ ، وتكميل لطفه وتفضّله على العباد ، حثّ المؤمنين على الإخلاص في الايمان به والجهاد معه بقوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتكم بمحمد ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ وارشدكم ﴿عَلى تِجارَةٍ﴾ واكتساب ومعاوضة رابحة ، تعالوا وعاملوا مع ربّكم معاملة يكون أهمّ فوائدها أنّها ﴿تُنْجِيكُمْ﴾ وتخلّصكم ﴿مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة ، كما تنجيكم التجارة الدنيوية من عذاب الفقر وألم الفاقة.

ثمّ كأنّه قيل : أيّ تجارة هي ، وكيف نعمل ، وما نصنع (١) ؟ فقال سبحانه : ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ أولا عن صميم القلب وخلوص النّيّة ﴿بِاللهِ﴾ وبوحدانيته ﴿وَ﴾ برسالة ﴿رَسُولِهِ﴾ محمد.

عن ابن عباس قال : المؤمنون : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعلمنا ، فنزلت الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : يا ليتنا نعلم ما هي ، فدلّهم الله عليها بقوله : ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ(٢) . ﴿وَ﴾ بعد ذلك ﴿تُجاهِدُونَ﴾ أعداء الله ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ونصرة دينه ﴿بِأَمْوالِكُمْ﴾ بأن تبذلوها للفقراء والمجاهدين ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بأن تبذلوا مهجكم دون رسوله ﴿ذلِكُمْ﴾ الايمان والجهاد ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الدنيا وما فيها ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك لعملتم به ، أو إن كنتم تعلمون أن العاقل لا يختار إلّا ما هو خير له ، لا تختارون غير الايمان والجهاد في سبيل الله ، فانّ فائدتهما إن فعلتما ذلك ﴿يَغْفِرْ﴾ الله ﴿لَكُمْ﴾ بكرمه ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾ ويستر عن أنظاركم وأنظار جميع الخلق يوم القيامة معاصيكم وخطاياكم ، وفي تلك المغفرة نجاتكم من العذاب ﴿وَ﴾ بعد ذلك ﴿يُدْخِلْكُمْ﴾ بفضله ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات أشجار كثيرة وقصور عالية ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، وبعد دخول الجنّة يدخلكم منازل ﴿وَمَساكِنَ طَيِّبَةً﴾ مرضية نزهة كائنة ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وخلود ﴿ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .

سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه المساكن الطيبة فقال : « قصر من لؤلؤ في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء ، في كلّ بيت سبعون وصيفا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٧.

٢٣٩

ووصيفة ، فيعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه » (١) .

قد مرّ عن ابن عباس مرارا أنّ جنة عدن علم لإحدى الجنات السبعة (٢) .

ولكم أيّها المؤمنون مع ذلك ثواب آخر ﴿وَ﴾ نعمة ﴿أُخْرى﴾ في الدنيا ﴿تُحِبُّونَها﴾ وتشتاقون إليها ، وهو ﴿نَصْرٌ﴾ عزيز لكم ﴿مِنَ﴾ جانب ﴿اللهِ﴾ على أعدائكم ﴿وَفَتْحٌ﴾ مبين لمكة ، أو الروم وفارس ﴿قَرِيبٌ﴾ وعاجل ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا أيّها الرسول على حسب وظيفتكم ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ بي وبك بتلك النّعم الدنيوية والاخروية ، وفي توصيف النعمة الدنيوية ، وهو النصر على الأعداء وفتح المسلمين بقوله : ﴿تُحِبُّونَها﴾ إشعار بأنّهم يؤثرون رواج الاسلام وقوّة الدين على النّعم الاخروية.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ

 أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي

 إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا

 ظاهِرِينَ (١٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد الايمان والجهاد ، حثّ المؤمنين على الجهاد ، ودعاهم إلى نصرة دينه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ جاهدوا الأعداء و﴿كُونُوا أَنْصارَ اللهِ﴾ وأعوان رسوله في إعلاء كلمة التوحيد ورواج دين الاسلام ﴿كَما﴾ نصر الحواريون إذ ﴿قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ أو المعنى : قل يا محمد للمؤمنين بك : يا أيّها الذين آمنوا ، كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى بن مريم ﴿لِلْحَوارِيِّينَ :﴾ يا حواريين ﴿مَنْ أَنْصارِي﴾ وإنّكم جندي وعسكري تقرّبا ﴿إِلَى اللهِ﴾ أو متوجّها إليه ﴿قالَ الْحَوارِيُّونَ :﴾ يا نبي الله ﴿نَحْنُ﴾ كلّنا ﴿أَنْصارَ اللهِ﴾ وحماة دينه ﴿فَآمَنَتْ﴾ بعيسى ﴿طائِفَةٌ﴾ وجماعة قليلة ﴿مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وأطاعوه فيما أمرهم به من نصرة دينه ﴿وَكَفَرَتْ﴾ منهم ﴿طائِفَةٌ﴾ وجماعة اخرى.

عن ابن عباس ، قال : يعني الذين آمنوا بعيسى في زمانه ، والذين كفروا كذلك ، وذلك لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السماء تفرّقوا ثلاث فرق ؛ فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المسلمون ، واتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس ، واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض ، فكانت الحالة

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤٢٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٥٠٧.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٥٠٨.

٢٤٠