نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

ثمّ بيّن سبحانه علّة إصرارهم على مخالفة الله وعصيانه بقوله : ﴿اسْتَحْوَذَ﴾ واستولى ﴿عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ﴾ وملك قلوبهم بحيث يسوقهم إلى طاعته فيما يريد منهم ﴿فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ﴾ وأغفلهم عن التوجّه إليه بحيث لا يخطر ببالهم تصوّر أنّهم مخلوقه ومربوبه ﴿أُولئِكَ﴾ البعيدون عن الله وعن كلّ خير ﴿حِزْبُ الشَّيْطانِ﴾ وجنده وأتباعه ﴿أَلا﴾ أيّها العقلاء اعلموا ﴿إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ﴾ وجنده ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ والمتضرّرون بغاية الضرر في الدنيا والآخرة ، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد ، وأبدلوه بالعذاب المخلّد.

عن القمي ، قال : نزلت في الثاني ، لأنّه مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو جالس عند رجل من اليهود ، يكتب خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا ...﴾ الآية. فجاء الثاني إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رأيتك تكتب من اليهود ، وقد نهى الله عزوجل عن ذلك ؟ » فقال : يا رسول الله ، كتبت عنه ما في التوراة من صفتك. وأقبل يقرأ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو غضبان. فقال رجل من الأنصار : ويلك أما ترى غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليك ؟ فقال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، إنّي إنّما كتبت ذلك لما وجدت [ فيه ] من خبرك. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا فلان ، لو أنّ موسى بن عمران فيهم قائما ، ثمّ أتيته رغبة عمّا جئت به ، لكنت كافرا بما جئت به».

وهو قوله : ﴿اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً*﴾ أي حجابا بينهم وبين الكفار ، وأيمانهم إقرارهم باللسان خوفا من السيف ودفع الجزية.

وقوله : ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقّهم ، فيعرض عليهم أعمالهم ، فيحلفون له إنّهم لم يعملوا منها شيئا ، كما حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدنيا حين حلفوا أن لا يردّوا الولاية في بني هاشم ، وحين همّوا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة ، فلمّا أطلع الله نبيه وأخبره حلفوا إنّهم لم يقولوا ذلك ، ولم يهمّوا به حين أنزل الله على رسوله : ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ(١) . قال : إذا عرض الله عزوجل ذلك عليهم [ في القيامة ] ينكرون ويحلفون له ، كما حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قوله : ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ...*﴾ الآية (٢) .

أقول : الظاهر تطبيق الآية على أعمالهم ، لا أنّه شأن نزولها.

__________________

(١) إلى هنا في تفسير القمي.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٠.

٢٠١

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا

 وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٠) و (٢١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الكفار والمنافقين الذين هم حزب الشيطان هم الخاسرون ، بيّن سبحانه أنّهم أذلّ خلق في الدنيا والآخرة ، وأنّ العزّة والغلبة لله ولرسوله بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ﴾ ويعارضون ﴿اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ ويعاندونهما من الكفّار والمنافقين ، ﴿أُولئِكَ﴾ البعيدون من كلّ خير كائنون ﴿فِي﴾ زمرة ﴿الْأَذَلِّينَ﴾ من خلق الله ، فانّ ذلّ أحد الخصمين على حسب عزّ الخصم الآخر ، ومن الواضح أنّ عزّ الله لا نهاية له ، فلا بدّ أن يكون ذلّ خصومه لا نهاية له.

ثمّ بيّن سبحانه عزّ المؤمنين الذين هم حزبه بقوله : ﴿كَتَبَ اللهُ﴾ في اللّوح المحفوظ ، وقدّر في علمه والمكتوب فيه هو : والله ﴿لَأَغْلِبَنَ﴾ على الأعداء المجادلين والمعارضين ﴿أَنَا وَرُسُلِي﴾ بالحجّة لدى المحاجّة ، وبالسيف لدى المنازعة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تلك الغلبة بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ قَوِيٌ﴾ لا يتصوّر فيه الضعف ، قدير لا يطرؤه العجز (١) . ﴿عَزِيزٌ﴾ وغالب على جميع الموجودات ، لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته.

عن مقاتل : انّه قال المؤمنون : لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ ، رجونا أن يظهرنا الله على فارس والروم. فقال عبد الله بن ابي رئيس المنافقين : أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشدّ بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك ، فنزل قوله : ﴿كَتَبَ اللهُ ... الآية (٢) .

﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا

 آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ

أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ

 اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين ، وأنّهم يتولّون اليهود وأهل الكتاب ، بيّن حال المؤمنين المخلصين بقوله : ﴿لا تَجِدُ﴾ يا محمّد ، ولا يمكن أن ترى ﴿قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ عن صميم القلب والخلوص من شوب النفاق ﴿يُوادُّونَ﴾ ويحابّون ﴿مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ ويعاندونهما ، كأهل الكتاب والمشركين ﴿وَلَوْ كانُوا﴾ هؤلاء المعاندون ﴿آباءَهُمْ﴾ الذين هم أكرم

__________________

(١) كذا ، والظاهر لا يطرؤ عليه العجز.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤١٠.

٢٠٢

الناس عندهم ، ﴿أَوْ أَبْناءَهُمْ﴾ الذين هم أحبّ الناس إليهم ﴿أَوْ إِخْوانَهُمْ﴾ الذين هم أعزّ الناس لديهم ﴿أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ وأقرباءهم الذين هم أولى الناس بموادّتهم ، لامتناع اجتماع حبّ الله ورسوله في القلب مع محبّة أعدائهما.

﴿أُولئِكَ﴾ العظماء الذين تصلّبوا في دينهم ، ولا يوادّون أعداء الله ﴿كَتَبَ﴾ الله وأثبت ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ﴾ ورسّخه فيها ﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾ وقوّاهم على القيام بوظائف الايمان ﴿بِرُوحٍ﴾ حاصل ﴿مِنْهُ﴾ تعالى ، وهو نور القرآن على قول (١) ، أو الايمان كما عن ( الكافي ) عنهما عليهما‌السلام (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما من أحد إلّا ولقلبه اذنان في جوفه ؛ اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس ، واذن ينفث فيها الملك ، فيؤيّد الله المؤمن بالملك ، فذلك قوله : ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كلّ وقت يحسن فيه ويتّقي ، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ... » الخبر (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا زنى الرجل فارقه روح الايمان » . قال : « قوله تعالى : ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ » (٥) .

﴿وَيُدْخِلُهُمْ﴾ في الآخرة برحمته ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذوات أشجار وقصور ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، والأعلى والأعظم من جميع النّعم أنه ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ﴾ بسبب إيمانهم وأعمالهم ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بسبب وفور إنعامه عليهم وإكرامه لهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ لمّا بيّن أنّ الكفّار والمنافقين حزب الشيطان ، جعل المؤمنين الخلّصين حزبه بقوله : ﴿أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ﴾ وجنده وأنصاره ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون بجميع الخيرات الدنيوية والاخروية ، كما أنّ حزب الشيطان هم الخاسرون المحرومون عن جميع الخيرات.

قيل : نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين أخبر أهل مكة بمسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم لمّا أراد فتحها (٦) .

قد سبق في آخر سورة الحديد ثواب تلاوتها. الحمد لله الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤١٣.

(٢) الكافي ٢ : ٢ و١٣ / ١ و٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥١.

(٣) الكافي ٢ : ٢٠٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٢.

(٤) الكافي ٢ : ٢٠٦ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٢.

(٥) الكافي ٢ : ٢١٣ / ١١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٢.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٧.

٢٠٣
٢٠٤

في تفسير سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي

 أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة المجادلة المختتمة ببيان كون الكفّار والمنافقين حزب الشيطان ، وكون المؤمنين المخلصين حزب الله ، وأنّ الغلبة لله ولرسوله ، وذمّ المنافقين على موادّتهم لليهود ، نظمت سورة الحشر المبتدئة ببيان عظمة الله ، وكونه غالبا غير مغلوب ، وبيان غلبته على الكفّار وذلّتهم ، وبيان موالاة المنافقين لهم ، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثمّ عظّم ذاته المقدّسة ببيان تسبيح جميع الموجودات له بقوله : ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ ونزّهه عن كلّ ما لا يليق به جميع ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ ذاتا وحالا ومقالا على حسبهم ، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ وقال ابن مسعود : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (١) .

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بيانا لاستحقاقه التسبيح بالعزّة بقوله : ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والغالب القاهر على كلّ شيء ، وبالحكمة البالغة بقوله : ﴿الْحَكِيمُ﴾ وتوطئته لبيان غلبته على أهل الكتاب وإذلالهم ، الذي هو من آثار عزّته ، وبيان إجلائهم الذي هو من مقتضيات حكمته بقوله : : ﴿هُوَ﴾ العزيز الغالب ﴿الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ وهم طائفة بني النّضير ﴿مِنْ دِيارِهِمْ﴾ وأوطانهم في الوقت المقدّر ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ والإخراج من مكانهم إلى الشام.

حكي أنّ بني النّضير وبني قريضة وبني قينقاع كانوا من أولاد هارون أخي موسى بن عمران ، نزلوا بيثرب ، واستوطنوا فيها انتظارا لبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الموعود في التوراة ، فلمّا هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى المدينة ، عاهدهم على أن لا يكونوا له ولا عليه ، فلمّا ظهر صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر قالوا فيما بينهم : هذا النبيّ إلى المدينة ، عاهدهم على أن لا له ولا عليه ، فلمّا ظهر صلّى الله عليه وله يوم بدر قالوا فيما بينهم : هذا النبيّ الموعود الذي نعته في التوراة أنه لا تردّ له راية ، فلمّا انكسر جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في احد ، شكّوا ونكثوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤١٥.

٢٠٥

العهد.

فخرج كعب بن أشرف - أحد رؤساء بني النّضير - في أربعين راكبا إلى مكة ، وحالفوا قريشا على قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا رجع كعب إلى المدينة نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبره بنقض بني النّضير عهدهم ، وتعاهدهم قريشا على قتاله ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله محمد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخا كعب بن أشرف من الرّضاعة أن يقتله غيلة ، فأتاه ليلا فاستخرجه من بيته ، وقال : إنّي أتيتك لاستقرض منك شيئا من التمر ، فخرج إليه فقتله ، ورجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره ، ففرح به ، لأنّه أضعف قلوبهم (١) .

وفي بعض الأخبار : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذهب إلى بني النّضير في نفر من أصحابه ، للاستعانة منهم في دية ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم حتّى تطعم وترجع بحاجتك ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل تلك الحالة ، فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحّاش - أحد ساداتهم - : أنا لذلك. فقال لهم سلّام بن مشكم - أحد ساداتهم - : لا تفعلوا ، والله ليخبرنّ بما هممتم به ، إنّه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه. فلمّا صعد الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله مظهرا أنّه يقضي حاجته ، وترك أصحابه في مجالسهم ، ورجع مسرعا إلى المدينة ، ولم يعلم من كان معه من أصحابه ، فلمّا استبطؤوه قاموا في طلبه ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه فقال : رأيته داخل المدينة.

فأقبل أصحابه حتّى انتهوا إليه ، فأخبرهم بما أرادت بنو النّضير ، فندم اليهود ، وقالوا : قد اخبر بما أردنا ، فأرسل محمد بن مسلمة إليهم : أن اخرجوا من بلدي - وهم كانوا في قرية زاهرة من أعمال المدينة - فلا تساكنوني بها ، فلقد هممتم بما هممتم من الغدر. فسكتوا ولم يقولوا حرفا ، فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنّا نمدّكم.

فأرسل حيي بن أخطب - أحد رؤسائهم - إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لا نخرج من ديارنا ، فافعل ما بدا لك. اغترارا بقول المنافقين ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه إليهم راكبا على حمار مخطوم بليف ، وحمل رايته علي بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نزل بهم وصلّى العصر بفنائهم ، وقد تحصّنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنّبال والحجارة ، وزرّبوا (٢) على الأزقّة وحصّنوها ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إحدى

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤١٦.

(٢) أي اتخذوا الزرائب ، جمع زريبة : الحفرة. ولعلّه تصحيف ( ودرّبوا ) على ما سيأتي لا حقا عن تفسير الرازي.

٢٠٦

وعشرين ليلة.

فلمّا قذف في قلوبهم الرّعب ، وأيسوا من نصر المنافقين ، طلبوا الصّلح ، فأبى عليهم إلّا الجلاء ، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم إلّا السلاح ، فحملوا ستمائة بعير ، وضربوا الدّفوف ، وأظهروا السّرور إظهارا للجلادة ، وعبروا من سوق المدينة ، وذهبوا إلى الشام إلى أريحا من فلسطين ، وإلى أذرعات من دمشق ، إلّا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق ، وآل حيي بن أخطب ، فانّهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة من قرى الكوفة ، ولم يسلم من بني النّضير إلّا رجلان ، وكان هذا الحشر والإخراج لأهل الكتاب أول إخراج لم يكن قبله إخراج لهم من مكان (١) .

وقيل : هذا أول حشرهم ، وآخره إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام حين بلغه الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا يبقينّ دينان في جزيرة العرب » (٢) .

وقيل : آخر حشرهم يوم القيامة (٣) . وقيل : يكون في الرجعة (٤) .

وعن ابن عباس : قال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اخرجوا » قالوا : إلى أين ؟ قال : « إلى أرض المحشر»(٥) .

﴿ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ

 حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ

 وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ * وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ

 الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا

 اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ * ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ

 تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٢) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه غاية قوّتهم بقوله تعالى : ﴿ما ظَنَنْتُمْ﴾ وما رجوتم في حقّ بني النّضير ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾ من المدينة وما حولها ، لشدّة بأسهم ومنعتهم وغاية عزّتهم وشوكتهم ﴿وَظَنُّوا﴾ هؤلاء الكفرة ﴿أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ﴾ وحافظتهم ﴿حُصُونُهُمْ﴾ المنيعة ﴿مِنْ﴾ بأس ﴿اللهِ﴾ وقهره ﴿فَأَتاهُمُ اللهُ﴾ بإذلالهم وخذلانهم ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ ومن سبب لم يتوهّموا ، وهو قتل كعب بن أشرف غيلة ﴿وَ﴾ بذلك ﴿قَذَفَ﴾ وألقى ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ والخوف الشديد ، وكان حالهم حين الرّعب

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٢١٧.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤١٨.

(٣) جوامع الجامع : ٤٨٦ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٢٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤١٨.

(٤) تفسير الصافي ٥ : ١٥٣ ، وفيه : في الرجفة.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٨٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٣.

٢٠٧

أنهم ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ ومساكنهم ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ ليسدّوا بأخشابها وحجارتها أبواب الأزقّة ، أو لئلا تبقى بعد جلائهم للمسلمين ، أو لينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها ﴿وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. قيل : إنّهم كانوا يخربون بيوتهم من داخل ، والمسلمون من خارج (١) .

وقيل : إنّهم درّبوا (٢) على الأزقّة وحصّنوها ، افنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقّة ، وكان المسلمون يخربون سائر جوانبها (٣) .

وقيل : إنّ المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لمّا أيقنوا بالجلاء يخربون البيوت ، لينزعوا الأخشاب والأبواب وغيرها من الآلات الحسنة ، ويحملوها معهم (٤) .

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الغدر والكفر ، وإبادته شوكة اليهود وكسر قوّتهم ، أمر أهل البصيرة بالاعتبار بقوله : ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾ واتّعظوا ﴿يا أُولِي الْأَبْصارِ﴾ فلا تغدروا ، ولا تعتمدوا على غير الله في أمر من الامور. عن ابن عباس : يريد يا أهل اللّب والعقل والبصائر (٥) .

: ﴿وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ﴾ في حقّ بني النّضير ، وقدّر ﴿عَلَيْهِمُ﴾ بمقتضى حكمته البالغة ﴿الْجَلاءَ﴾ الخروج من أوطانهم ﴿لَعَذَّبَهُمْ﴾ بالقتل والأسر ، أو بعذاب الاستئصال ﴿فِي الدُّنْيا﴾ على كفرهم وغدرهم ﴿وَلَهُمْ﴾ مع الجلاء ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ بعد خروجهم من الدنيا ﴿عَذابُ النَّارِ﴾ لا نجاة لهم منه : ﴿ذلِكَ﴾ الجلاء ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ وعاندوهما ، وخالفوا عهدهما ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ﴾ كائنا من كان ، يعاقبه الله أشدّ العقاب ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ على من شاقّه وخالفه ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾.

ثمّ روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بقطع نخيل اليهود وإحراقها ، فجاؤوا إليه ، وقالوا : يا محمد ، إنّك قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخيل وتحريقها ؟ وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت (٦) : ﴿ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ ونخلة كريمة قصيرة طيبة الثمرة ، أو أيّ نخل من نخيلهم بأنواعها ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها﴾ كما كانت ، ولم تقطعوها ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ وأمره لمصلحة ازدياد غيظ الكفّار وتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم ﴿وَلِيُخْزِيَ﴾ ويذلّ اليهود ﴿الْفاسِقِينَ﴾ الخارجين عن طاعة الله ، فانّ في كلّ من القطع والترك حكمة ومصلحة.

﴿وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ

 يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٠.

(٢) درّب الجنديّ : صبر في الحرب وقت الفرار.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٢.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٢٣.

٢٠٨

ثمّ بيّن سبحانه حكم ما بقي منهم من أموالهم بقوله : ﴿وَما أَفاءَ اللهُ﴾ وردّه ﴿عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ من الأملاك والأموال ﴿فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيّها المسلمون ، ولا أسرعتم السير في تحصيله ﴿مِنْ خَيْلٍ﴾ وجماعة أفراس ﴿وَلا رِكابٍ﴾ وجماعة الإبل ، ولا تحمّلتم مشقة عظيمة ، ولا قتالا شديدا ، وما قطعتم مسافة بعيدة.

قيل : إنّ قرى بني النّضير كانت على ميلين من المدينة ، لم يركب أحد في مسيرهم إليهم إلّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّه ركب حمارا مخطوما باللّيف ، أو جملا على ما قاله بعض (١) .

والحاصل أنّه لم تحصل هذه الغنيمة بقتالكم ﴿وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ﴾ على حسب سنّته الجارية ﴿عَلى مَنْ يَشاءُ﴾ تسليطه عليه من أعدائه بغير الأسباب الظاهرية ، فلا حقّ لكم في أموالهم ، بل هي مختصّة به ، مفوّض أمرها إليه ، يضعها حيث يشاء ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

قيل : نزلت حين طلب الصحابة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قسمة أموالهم عليهم ، كما قسّم الغنيمة بينهم ، فبيّن الله الفرق بين الغنيمه والفيء ، فانّ الغنيمة فيما أتعب المسلمون أنفسهم في تحصيله ، وأوجفوا عليه بخيل وركاب ، بخلاف الفيء فانّه ما لم يتحمّل [ المسلمون ] في تحصيله تعبا شديدا (٢) .

وقيل : إنّ أموال بني النّضير اخذت بالقتال والمحاصرة أياما ، فلم تكن فيئا ، وإنما نزلت الآية في فدك ، لأنّ أهل فدك جلوا عنه ، فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير حرب (٣) .

﴿ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى

 وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ

 الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)

ثمّ أكّد سبحانه حكم الفيء في أموال بني النّضير ببيان حكم كلّي الفيء بقوله تعالى : ﴿ما أَفاءَ اللهُ﴾ وردّه ﴿عَلى رَسُولِهِ مِنْ﴾ أموال ﴿أَهْلِ الْقُرى﴾ والبلدان بغير حرب وقتال ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ أشرك ذاته المقدّسة مع رسوله تشريفا له ﴿وَلِذِي الْقُرْبى﴾ وأرحام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من بني هاشم وبني عبد المطّلب ﴿وَالْيَتامى﴾ منهم ﴿وَالْمَساكِينِ﴾ والفقراء منهم ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ والمسافرين المنقطعين عن أموالهم منهم.

روى بعض العامة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقسّم الفيء خمسة أسهم ، ويتصرّف في أربعة أخماس كيف يشاء ، ويقسّم الخمس الباقي خمسة أسهم ، ويأخذ لنفسه خمس الخمس ، ويقسّم أربعة أخماس

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٢٦.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٤.

٢٠٩

الباقية إلى الأصناف الأربعة من بني هاشم (١) .

وعن أمير المؤمنين : « نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ﴿ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ منّا خاصة ، ولم يجعل لنا سهما في الصدقة ، كرّم الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكرمنا من أوساخ أيدي الناس » (٢) .

وعن السجّاد عليه‌السلام قال : « قرباؤنا ، ومساكيننا ، وأبناء سبيلنا » (٣) .

ثمّ ذكر سبحانه علّة اختصاص الفيء بهذه الأصناف المعينة في الآية بقوله : ﴿كَيْ لا يَكُونَ﴾ الفيء الذي حقّه أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفقراء أقربائه ﴿دُولَةً﴾ وشيئا متداولا ودائرا ﴿بَيْنَ الْأَغْنِياءِ﴾ وذوي الثروة ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها الناس يتكاثرون به ، كما كان يتداول بين الأغنياء في الجاهلية ، وينتقل من غنيّ إلى غنيّ ، ويحرم منه الفقراء ﴿وَما آتاكُمُ﴾ وأعطاكم ﴿الرَّسُولُ﴾ من الأمر فيئا كان أو حكما ﴿فَخُذُوهُ﴾ واقبلوا منه ﴿وَما نَهاكُمْ﴾ وردعكم ﴿عَنْهُ﴾ من إتيان عمل أو التصرف في مال ﴿فَانْتَهُوا﴾ وارتدعوا عنه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفته رسوله ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ فيعاقب من خالفه وعصاه.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد ، ثمّ فوّض إليه ، فقال : ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلينا » (٤) .

وفي رواية : « فوّض إلى نبيه أمر خلقه ، لينظر كيف طاعتهم » ثمّ تلا هذه الآية (٥) .

وعن ابن مسعود : أنّه رأى رجلا محرما وعليه ثيابه ، فقال : انزع هذا عنك. فقال الرجل : اقرأ بهذا عليّ آية من كتاب الله. قال : نعم ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(٦) .

﴿لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ

 اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)

ثمّ بيّن سبحانه على ما قيل الأصناف الثلاثة الأخيرة في الآية في خصوص فيء بني النّضير (٧) بقوله تعالى : ﴿لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ﴾ من مكّة إلى المدينة ، ومن دار الحرب إلى دار السّلام ، ثمّ وصفهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٥.

(٢) الكافي ١ : ٤٥٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٥.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٩١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٦.

(٤) الكافي ١ : ٢١٠ / ٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٦.

(٥) الكافي ١ : ٢٠٨ و٢٠٩ / ٣ و٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٦.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٤٢٩.

(٧) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٨١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٠.

٢١٠

بقوله : ﴿الَّذِينَ﴾ لم يهاجروا اختيارا وبميل أنفسهم ، بل ﴿أُخْرِجُوا﴾ واضطرّوا إلى الهجرة من قبل الكفّار ﴿مِنْ دِيارِهِمْ﴾ ومساكنهم التي كانت لهم بمكّة ﴿وَ﴾ من ﴿أَمْوالِهِمْ﴾ حال كونهم ﴿يَبْتَغُونَ﴾ ويطلبون رزقهم الذي يكون ﴿فَضْلاً﴾ وإحسانا ﴿مِنَ اللهِ﴾ في الدنيا ﴿وَ﴾ يطلبون ﴿رِضْواناً﴾ منه في الآخرة ﴿وَيَنْصُرُونَ﴾ بهجرتهم ﴿اللهِ﴾ بإعلاء دينه ﴿وَرَسُولَهُ﴾ ببذل الأنفس في حفظه وترويج شريعته ﴿أُولئِكَ﴾ المهاجرون ﴿هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ في دعوى الايمان بشهادة أعمالهم على ضمائرهم.

في نقل استدلال بعض العامة على خلافة أبي بكر وإمامته ، وردّه

قال الفخر الرازي : يعني أنّهم لمّا هجروا لذّات الدنيا ، وتحمّلوا شدائدها لأجل الدين ، ظهر صدقهم في دينهم. ثمّ قال : تمسّك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر ، فقال : هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، والله يشهد على كونهم صادقين ، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم : يا خليفة رسول الله ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب الجزم بصحّة إمامته (١) .

أقول : هذا الاستدلال ممّا تضحك به الثكلى ، فانّ المقام قرينة على كون المراد الصدق في دعوى الايمان لا في كلّ ما يتكلّمون به ، كقوله تعالى : ﴿بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٢) أي في دعوى الايمان ، لا في جميع الامور ، مع أنّا نعلم أنّهم كانوا كاذبين في هذا الخطاب إن كان المراد أنّه استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصبه للامامة ، ولم يدّعه غالب أشياعه وأتباعه ، وإن كان المراد بالخليفة الجالس في مجلسه ، ولو بالغصب والقهر ، فنحن نقول بخلافته ، ولا يحتاج إلى الاستدلال بالآية ، ولا يدلّ الخطاب على إمامته من جانب الله ووجوب طاعته ، كما يقوله العامّة.

ثمّ اعلم أنّه بناء على مذهبنا من اختصاص الفيء بالرسول والأئمة بعده ، كما ذكره الله في فيء بني النّضير ، لا بدّ من حمل الآية على استحباب صرفهم الفيء المختصّ بهم في المصارف المعينة.

﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ

 فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ

 وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)

ثمّ مدح سبحانه الأنصار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ﴾ دار الهجرة ، وهي المدينة ﴿وَالْإِيمانَ﴾ وتمكّنوا فيهما أشدّ التمكّن في زمان سابق على هجرة المهاجرين إليهم ، و﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٦.

(٢) الحجرات : ٤٩ / ١٧.

٢١١

قيل : إنّ المعنى تبوّءوا المدينة ، وأخلصوا الايمان من قبل هجرتهم (١) . وقيل : إنّ المراد من الايمان هو المدينة ، لظهور الايمان وقوّته فيها (٢) .

وهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ من المؤمنين ، لمحبّتهم الايمان بالله وبرسوله ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ﴾ ولا يدركون في أنفسهم ﴿حاجَةً﴾ وإقبالا إلى شيء ﴿مِمَّا أُوتُوا﴾ واعطوا اولئك المهاجرون من الفيء ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾ ويقدّمون المهاجرين ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ في الفيء وغيره ممّا يرتبط بالمعاش جودا وحبّا لهم ﴿وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ وشدّة حاجة.

عن ابن عباس : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للأنصار : « إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم ، وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم ، وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم » فقالوا : لا ، بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ، ولا نشاركهم في الغنيمة ، فنزلت الآية (٣) .

قيل : إن من كان له امرأتان يفارق إحداهما ويزوّجها واحدا منهم (٤) .

في إيثار المؤمنين إخوانهم على أنفسهم

أقول : كان الايثار من صفات الكاملين في الايمان ، فانّ المؤمن الحقيقي يؤثر أخاه المؤمن على نفسه.

عن ( الامالي ) : أنّه جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلّا الماء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من لهذا الرجل الليلة ؟ » فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « أنا له يا رسول الله » فأتى فاطمة عليه‌السلام وقال لها : « ما عندك يا ابنة رسول الله ؟ » فقالت : « ما عندنا إلّا قوت العشيّة (٥) ، لكنّا نؤثر ضيفنا » . فقال : « يا ابنة رسول الله ، نوّمي الصّبية ، وأطفئ المصباح » فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره الخبر ، فلم يبرح حتّى أنزل الله : ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ...﴾ الآية (٦) .

وعن أنس : أنّه اهدي إلى رجل من الأنصار رأس [ شاة ] وكان مجهودا ، فوجّه به إلى جار له زاعما أنّه أحوج إليه منه ، فوجّه جاره أيضا إلى آخر ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتّى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول (٧) .

وعن حذيفة العدوي ، قال : انطلقت في غزوة أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من الماء قاصدا أنّه إذا كان به رمق سقيته ، فاذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار إليّ برأسه أن نعم ، فاذا برجل يقول : آه آه ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٧ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٢٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٧.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٨١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٣.

(٥) في المصدر : الصبية.

(٦) أمالي الطوسي : ١٨٥ / ٣٠٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٧.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٣.

٢١٢

فأشار إلى ابن عمّي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فسمع آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فاذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام فاذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمّي فاذا هو قد مات (١) .

وقال بعض العامة : إنّ الآية قد نزلت في أبي طلحة الأنصاري حين نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضيف ، ولم يكن عنده ما يضيفه به ، فقال : « ألا رجلا يضيف هذا رحمه‌الله ؟ » فقام أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، وقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله ، فنوّمت الصّبية ، وأطفأت السّراج ، وجعل الضيف يأكل وهما يريان أنّهما يأكلان معه ولا يأكلان ، فنزلت (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّ سعادة الدارين لمن يحفظ نفسه عن البخل ، فكيف بمن يؤثر غيره على نفسه بقوله : ﴿وَمَنْ يُوقَ﴾ ويحفظ ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ وحرصها على البخل بالمال بتوفيق الله وإعانته ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون بأعلى المقاصد من خير الدنيا والآخرة وسعادتهما.

﴿وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا

 بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَرَ

 إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ

 أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ

 وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠) و (١١)

ثمّ مدح سبحانه المؤمنين التابعين للمهاجرين والأنصار في الايمان والصلاح بقوله : ﴿وَالَّذِينَ جاؤُ﴾ حين مات المهاجرون والأنصار ، ووجدوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من المؤمنين الصالحين إلى يوم القيامة يحبّون السابقين منهم بالايمان ، ويدعون لأنفسهم ولهم و﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا﴾ ذنوبنا ﴿وَلِإِخْوانِنَا﴾ في الدين ﴿الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ﴾ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا﴾ وحقدا وعداوة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بك وبرسولك لمكان الاخوّة الدينية ﴿رَبَّنا إِنَّكَ﴾ بعبادك المؤمنين ﴿رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ فلا ترضى - برأفتك بنا - باستيلاء الشيطان علينا ، ولا تردّ برحمتك دعاءنا.

ثمّ لمّا أرسل عبد الله بن ابي بن (٣) سلول رأس المنافقين سرا إلى بني النضير : أن اتبتوا في أماكنكم،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٤.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٤.

(٣) زاد في النسخة : أبي ، راجع : الأعلام للزركلي ٤ : ٦٥.

٢١٣

وقاتلوا محمدا إن قاتلكم ، فانّا ننصركم ، وإن أخرجكم بالقهر لنخرجنّ معكم. ذمّهم سبحانه على قولهم ونفاقهم ، وأكذبهم في وعدهم الموافقة والنّصرة بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد ، أو يا من يعقل ، ولم تنظر ﴿إِلَى﴾ الكفار ﴿الَّذِينَ نافَقُوا﴾ المسلمين في المدينة حتى تتعجّب منهم ، فانّهم ﴿يَقُولُونَ﴾ سرا ﴿لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ الموافقون لهم في عداوة الرسول والمؤمنين المشاركين معهم في الكفر : يا إخواننا ، والله ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ من دياركم قسرا واضطرارا بأمر محمد وجور أصحابه ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ من المدينة البتة. ونصاحبنكم حيثما ذهبتم أداء لحقّ الصداقة والاخوة ﴿وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ﴾ ولا نوافق في شأنكم ﴿أَحَداً﴾ يمنعنا من الخروج معكم ﴿أَبَداً﴾ وفي وقت من الأوقات ، وإن طال الزمان ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ﴾ وحاربكم محمّد وأصحابه ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ ولنعاوننّكم على قتالهم ولا نخذلنكم ﴿وَاللهُ﴾ العالم بالضمائر والسرائر ﴿يَشْهَدُ﴾ ويخبر عن علم ﴿إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ في وعدهم وغارّون لهم ، مع تأكيدهم إياه باليمين الغموس.

﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ

 لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد تكذيبهم الإجمالي كذّبهم تفصيلا بقوله : ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا﴾ من ديارهم وأموالهم قهرا وجبرا وإذلالا ، والله ﴿لا يَخْرُجُونَ﴾ من المدينة ﴿مَعَهُمْ﴾ لشدّة علاقتهم بدورهم ووطنهم ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا﴾ وحوربوا من طرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ لشدّة حبّهم أنفسهم ﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ على الفرض والتقدير ، والله ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ﴾ وليفرّن من القتال أفظع الفرار ، لضعف قلوبهم ، وتحفّظا على أنفسهم ﴿ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ اولئك المنافقون بعد ذلك من قبل أحد ، أو لا ينصرون اولئك اليهود ، وعلى أيّ تقدير لا ينفعهم نصرة المنافقين.

قيل : إنّ عبد الله بن ابي أرسل إلى بني النّضير سرّا : أنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يصل إليكم محمد ، وتمدّكم بنو قريظة وحلفاؤهم من غطفان ، فطمع بنو النّضير فيما قاله اللعين و[ هو ] جالس في بيته ، حتى قال أحد سادات بني النّضير - وهو سلّام بن مشكم لحيي بن أخطب الذي هو المتولّي لأمر بني النّضير - : والله يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل ، وليس بشيء ، وإنّما يريد أن يورّطك في الهلكة حتى تحارب محمّد فيجلس في بيته ويتركك. فقال حيي : نأبى إلّا عداوة محمد وإلّا قتاله. فقال سلّام فهو والله جلاؤنا من أرضنا ،

٢١٤

وذهاب أموالنا وشرفنا ، أو سبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا ، فكان ما كان (١) .

وفيه دلالة واضحة على صحّة نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعجاز القرآن من حيث إخباره بالغيب ووقوع المخبر به موافقا لإخباره.

﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا

 يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ

 تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ

 قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ

 لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ *

 فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٣) و (١٧)

ثمّ بيّن سبحانه علّة خلفهم الوعد وغدرهم بإخوانهم الكافرين بقوله تعالى : ﴿لَأَنْتُمْ﴾ أيّها المسلمون أكثر رعبا في قلوب المنافقين ، و﴿أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ﴾.

قيل : يعني أنّهم يظهرون لكم في العلانية الرّهبة والخوف من الله ، وأنتم في صدورهم أشدّ رهبة منه تعالى (٢)﴿ذلِكَ﴾ المذكور من كون رهبتكم أشدّ من الله ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ شيئا حتّى يعلموا عظمة الله وكمال قدرته وشدّة عقابه ، فيخافوه حقّ المخافة. ثمّ بيّن سبحانه شدّة خوفهم من المسلمين بقوله : ﴿لا يُقاتِلُونَكُمْ﴾ ولا يجترئون على حربكم حال كونهم ﴿جَمِيعاً﴾ ومتّفقين في موطن واحد ﴿إِلَّا فِي قُرىً﴾ وقلاع ﴿مُحَصَّنَةٍ﴾ محكمة بالدّروب والخنادق وما أشبه ذلك ﴿أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ﴾ وعقيب الحيطان ، ولا يبارزونكم في الميدان ، وليس ذلك لضعف قلوبهم وقوّتهم ، وجبنهم ووهن أعضائهم ، بل ﴿بَأْسُهُمْ﴾ وسطوتهم وبطشتهم ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وفي قبال أقرانهم ﴿شَدِيدٌ﴾ وإنّما ضعفهم وجبنهم منكم لما قذف الله في قلوبهم من الرّعب ، مع أن الشّجاع يجبن ، والعزيز يذلّ عند محاربة الله ورسوله.

وقيل : إنّ المراد انّهم إذا اجتمعوا يقولون : لنفعلنّ كذا وكذا ، فهم يهدّدون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون ، ويحترزون عن الخروج للقتال ، فبأسهم فيما بينهم شديد لا فيما بينهم وبين المؤمنين (٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٣٩.

(٢) الكشاف ٤ : ٥٠٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٩٠.

٢١٥

وعن ابن عباس : معناه أنّ بعضهم عدو للبعض (١) ، ويدلّ عليه قوله : ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً﴾ ومتّفقين ومؤتلفين ومتحابّين في الظاهر ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ ومتفرقة لا الفة بينهم ، لأنّ لكلّ واحد منهم مذهبا غير مذهب الآخرين ، ولذا بينهم في الواقع عداوة شديدة.

﴿ذلِكَ﴾ التشتّت بين قلوبهم ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون أنّ تشتّت القلوب يوهن قوّتهم ، وتقلّ به حظوظهم ، أو لا يعقلون شيئا حتّى يعرفوا الحقّ فيتّبعوه وتتّحد كلمتهم. اعلموا أنّ مثل هؤلاء اليهود والمنافقين وحالهم العجيبة ﴿كَمَثَلِ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ﴾ حاربوا الرسول في بدر ، أو كمثل بني قينقاع على ما قيل من أنّهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا ، فلمّا كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ، ونبذوا العهد كبني النّضير ، فأخرجهم رسول الله (٢) من المدينة إلى الشام (٣)﴿مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً﴾ من زمانهم. قيل : قبل ستة أشهر من قضية بني النّضير (٤) ، أو قيل : سنة (٥) . فانّهم ﴿ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ﴾ ورأوا سوء عاقبة كفرهم في الدنيا ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ لا يقادر قدره ، ومثل المنافقين الذين غرّروا اليهود ووعدوهم النصر ثمّ خذلوهم ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ﴾ الغويّ ﴿إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ﴾ إغراء وإغواء : ﴿اكْفُرْ﴾ بالله وبرسوله ﴿فَلَمَّا كَفَرَ﴾ الانسان بإغوائه وحلّ به العذاب في القيامة - وقيل : إنّ المراد بالانسان أبو جهل (٦) ، ومعنى ( اكفر ) دم على كفرك ، فلمّا كفروا جاء إلى بدر ، وابتلى بالقتال - ﴿قالَ﴾ الشيطان له ، ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ ومنقطع عنك ﴿إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ﴾ من أن يعذّبني بأشدّ العذاب. قيل : هذا من كذبات اللّعين (٧) . وقيل : إنّه قال ذلك استهزاء (٨) ، ولو كان صادقا لم يستمرّ على عصيان الله ﴿فَكانَ﴾ مآل كفر الانسان والشيطان المغوي له و﴿عاقِبَتَهُما﴾ في الآخرة ﴿أَنَّهُما فِي النَّارِ﴾ التي سجّرها الجبّار بغضبه حال كونهما ﴿خالِدَيْنِ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ لا خلاص لهما منها أبدا ﴿وَذلِكَ﴾ العذاب المقيم ﴿جَزاءُ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهما العاصين لله ، وكذلك كان عاقبة اليهود والمنافقين.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ

 خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ

 الْفاسِقُونَ (١٨) و (١٩)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٩٠.

(٢) في النسخة : فأخرجوا بالرسول.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٢.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٣.

(٦ - ٨) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٣.

٢١٦

ثمّ شرع سبحانه في وعظ المؤمنين بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوا عذابه على عصيانه ، واحترزوا عن مخالفته ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ﴾ أيّ نفس كانت ﴿ما قَدَّمَتْ﴾ وأيّ عمل هيّأت وادّخرت ﴿لِغَدٍ﴾ ويوم عظيم في القرب بمنزلة اليوم البعد ، وهو يوم القيامة.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالتقوى التي هي (١) أقوى سبب النجاة من العذاب والفوز بالنّعم الأبدية بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أيّها المؤمنون فيما تأتون وما تذرون.

ثمّ هدّد العصاة بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ العالم بكلّ شيء ﴿خَبِيرٌ﴾ وعليم ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي فيعاقبكم عليه أشدّ العقاب ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ﴾ وذهبوا عن عظمته وحقوقه باشتغالهم بلذّات الدنيا وزخارفها ، ولم يراعوا أوامره ونواهيه حقّ الرّعاية ﴿فَأَنْساهُمْ﴾ الله بسبب ذلك ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ وأذهلهم عن خيرها وما فيه نجاتها من المهالك ، وفوزها بما فيه حياتها الدائمة وتنعّمها وراحتها الأبديه ﴿أُولئِكَ﴾ الناسون ﴿هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ والخارجون عن طاعة العقل والشرع ، وفي تخصيص الفسق بهم إشعار بأنّ فسق غيرهم كالمعدوم لأنّهم كفّار.

﴿لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ *

 لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ

 الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢٠) و (٢١)

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن مماثلة الكفّار ، بيّن عدم أهلية الكفّار لأن يماثلهم ويساويهم أحد من المؤمنين بقوله : ﴿لا يَسْتَوِي﴾ ولا يماثل الكفّار الذين هم أهل العذاب و﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ في الآخرة ، والمؤمنون الذين هم أهل الرحمة ﴿وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ فانّ أصحاب النار هم الخاسرون و﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ﴾ بأعلى المقاصد وأسنى المطالب.

عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلا هذه الآية ، فقال : أصحاب الجنة من أطاعني وسلّم لعليّ بن أبي طالب بعدي وأقرّ بولايته ، وأصحاب النار من سخط الولاية ونقض العهد » (٢) .

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض المواعظ الموجبة لرقّة القلب والخشوع ، مدح القرآن بغاية التأثير ، وذمّ قلوب الكفار بغاية القساوة بقوله : ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ﴾ العظيم الشأن ، الذي فيه المواعظ الشافية والتهديدات الكثيرة ﴿عَلى جَبَلٍ﴾ وكان المقصود بالمواعظ والانذارات التي فيه وعظه وإنذاره ، والله

__________________

(١) في النسخة : الذي هو.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨٠ / ٢٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٥٩.

٢١٧

﴿لَرَأَيْتَهُ﴾ يا محمد مع غاية صلابته وعدم تأثّره ممّا يصادفه ﴿خاشِعاً﴾ وضارعا ومنقادا و﴿مُتَصَدِّعاً﴾ ومتشقّقا ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ وخوف عقوبته وعذابه ، فانّ إدراك الجمادات عظمة خالقها ومهابة ربّها وشعورها بشدّة (١) عذابه ممّا ثبت بالآيات كقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ(٢) وقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ(٣) وغيرهما من الآيات والروايات الكثيرة كرواية بكاء الجبل من خوف أن يكون من حجارة جهنّم (٤) وغيرها ، فلا وجه لما قيل : من أنّ الآية من باب التمثيل والتخييل (٥) ، والمعنى لو جعل في الجبل حياة وعقل ، كما جعل فيكم ، ثمّ أنزل عليه القرآن بمواعظه وإنذاراته لصار خاشعا ، ولم تتأثّر قلوب الكفار ، فهي أشدّ قسوة من الحجارة ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثالُ﴾ والبيانات العجيبة ﴿نَضْرِبُها﴾ ونبيّنها ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها ، فيتّعظون بها.

﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * هُوَ

 اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ

 الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ

 الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ

 الْحَكِيمُ (٢٢) و (٢٤)

ثمّ لمّا كان عظمة القرآن وقوّة تأثيره منوطا بمعرفة عظمة الله وكمال قدرته ، شرع سبحانه في بيان صفاته الجليلة الدالة على كمال عظمته بقوله : ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبود بالحقّ سواه في عالم الوجود ، وهو ﴿عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ المطّلع على المعدومات والموجودات أو على ما غاب عن الحواسّ وما يدرك بها ، أو على السرّ والعلانية ، أو على الدنيا والآخرة ، و﴿هُوَ﴾ وحده ﴿الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ﴾ قد تكرّر في السابق تفسيره ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ﴾ والسّلطان المطلق في جميع عوالم الوجود ﴿الْقُدُّوسُ﴾ والبليغ في النزاهة عن العيوب في ذاته ﴿السَّلامُ﴾ قيل : يعني السالم عن الآفات لا يطروءه (٦) نقص في ذاته وصفاته (٧) وقيل : يعني معطي السلامة للموجودات (٨) . وقيل : يعني المسلّم على المؤمنين في الجنة (٩) .

__________________

(١) في النسخة : شدّة.

(٢) الإسراء : ١٧ / ٤٤.

(٣) البقرة : ٢ / ٧٤.

(٤) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٩ / ٢٥٩.

(٥) جوامع الجامع : ٤٨٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٨٣ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٣٣.

(٦) كذا ، والظاهر : لا يطرؤ عليه.

(٧و٨) تفسير روح البيان ٩ : ٤٥٩.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٤٥٩.

٢١٨

﴿الْمُؤْمِنُ﴾ والمصدّق للأنبياء بإجراء المعجزات على أيديهم ، أو معطي الأمان لأوليائه من العذاب ، أو لمن توكّل عليه من الآفات والمضارّ. وعن ابن عباس : هو الذي آمن الناس من ظلمه ، وآمن من آمن من عذابه (١) .

﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ والمسلّط على ما سواه ، والرقيب عليهم ، والحافظ لهم. وقيل : يعني القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم (٢) .

﴿الْعَزِيزُ﴾ والغالب على كلّ شيء ، أو الخطير الذي لا مثل له ، أو معطي العزّ لكلّ ذي عزّ ﴿الْجَبَّارُ﴾ والقهّار لخلقه على ما أراد ، أو المصلح لأعمالهم. وعن ابن عباس : الملك العظيم (٣) .

﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ والعظيم ، أو البليغ في الكبرياء ، الذي كلّ شيء دونه ، ومفتقر إليه ، وخاضع لديه. عن ابن عباس : الذي تكبّر بربوبيته ، فلا شيء مثله (٤) .

﴿سُبْحانَ اللهِ﴾ وتنزّه ( عن ) إشراك ( ما ) ﴿يُشْرِكُونَ﴾ به من الأصنام والأوثان والكواكب وغيرها ، كما أشرك به الجاهلون.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير ﴿سُبْحانَ اللهِ﴾ فقال : « هو تعظيم جلال الله وتنزيهه عمّا قال فيه كلّ مشرك ، فإذا قالها العبد صلّى عليه كلّ ملك » (٥) .

وعن [ عبد الله بن ] عمر قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما على هذا المنبر في المدينة ، وهو يحكي عن ربّه تعالى فقال : « إنّ الله عزوجل إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين في قبضته تبارك وتعالى » ثمّ قال هكذا ، وشدّ قبضته ثمّ بسطها « ثمّ يقول : أنا الله ، أنا الرحمن ، أنا الرحيم ، أنا الملك ، أنا القدّوس ، أنا السّلام ، أنا المؤمن ، أنا العزيز ، أنا الجبّار أنا المتكبّر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا ، أنا الذي أعدتها ، أين الملوك ، أين الجبابرة » (٦) .

: ﴿هُوَ اللهُ﴾ تعالى وحده ﴿الْخالِقُ﴾ والمقدّر لكلّ شيء على مقتضى حكمته ووفق مشيئته ﴿الْبارِئُ﴾ والموجد للأشياء بعد تقديرها ﴿الْمُصَوِّرُ﴾ لها بعد إيجاد موادّها.

ثمّ أشار سبحانه إلى سائر أسمائه إجمالا بقوله : ﴿لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾ والصفات العليا ، ولذا ﴿يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الموجودات الناطقة والصامتة ، وينزّهه عمّا لا يليق بالوهيته بلسان الحال والمقال.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٦٠.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٦٢.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٩٤.

(٥) التوحيد : ٣١٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٠.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٤٦٤.

٢١٩

ثمّ لمّا كان جميع صفاته راجعة إلى القدر والعلم ، ختم تمجيد ذاته المقدّسة بقوله : ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ والقدير العليم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة الحشر ، لم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسيّ ولا حجاب ولا السماوات السبع والأرضون السبع والهواء والريح والطير والشجر والجبال والدوابّ والشمس والقمر والملائكة إلّا صلّوا عليه ، واستغفروا له ، وإن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا » (١) .

الحمد لله على ما أنعم عليّ من التوفيق لإتمام تفسيرها.

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١١٧ ، مجمع البيان ٩ : ٣٨٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٦٠.

٢٢٠