نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

وأعطيناه ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ الذي فيه هدى ونور ﴿وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في دينه بهدايته وتربيته ﴿رَأْفَةً﴾ ومودّة للمؤمنين ﴿وَرَحْمَةً﴾ وعطوفة عليهم ﴿وَرَهْبانِيَّةً﴾ وإعراضا عن الدنيا ولذائذها ، ولكن ما أوجبناها عليهم ، وإنّما ﴿ابْتَدَعُوها﴾ وأحدثوها من عند أنفسهم ﴿ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ﴾ وما شرّعناها لهم لطريق النّدب على ما قيل (١)﴿إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ﴾ وطلبا للقرب منه. قيل : إنّ الاستثناء منقطع (٢) ، والمعنى : ما أوجبناها عليهم في كتابهم ولسان رسوله لهم ، ولكن التزموها لابتغاء مرضاة الله.

عن ابن عباس : أنّ في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله غيّر الملوك التوراة والإنجيل ، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصّوف (٣) .

وعن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يابن مسعود ، أما علمت أنّ بني إسرائيل تفرّقوا ثلاث و(٤) سبعين فرقة كلّها في النار ، إلّا ثلاث فرق ؛ فرقة آمنوا بعيسى عليه‌السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال ، فأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين ، فلبسوا العباء ، وخرجوا إلى القفار والفيافي ، وهو قوله تعالى : ﴿وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ...﴾ الآية » (٥) .

وقيل : إنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه‌السلام فقاتلوا ثلاث مرات ، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلّا قليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا الرّهبانية في قلل الجبال ، فارّين بدينهم ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، منتظرين للبعثة النبوية التي وعدها عيسى عليه‌السلام (٦) .

وروي أنّ الله لمّا أغرق فرعون وجنوده ؛ استاذن الذين كانوا آمنوا من السّحرة موسى عليه‌السلام في الرجوع إلى الأهل والمال بمصر ، فأذن لهم ، ودعا لهم ، فترهّبوا في رؤوس الجبال ، فكانوا أول من ترهّب ، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه‌السلام حتى توفّاه الله ، ثمّ انقطعت الرّهبانية بعدهم حتّى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه‌السلام (٧) .

﴿فَما رَعَوْها﴾ ولم يحفظوها قيل : يعني المقتدين بهم بعدهم (٨)﴿حَقَّ رِعايَتِها﴾ وكمال حفظها ، بل خلطوها وأفسدوها بالقول بالتثليث ، وأكل الخنزير ، وشرب الخمر ، وقصد الرياء والسّمعة ، والكفر

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع : ٤٨٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٦ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٧١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٥.

(٤) ( ثلاث و) ليست في تفسير الرازي.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٥.

(٦) تفسير أبي السعود ٨ : ٢١٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٨٢.

(٧و٨) تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٢.

١٨١

بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من آمن بي وصدّقني ، فقد رعاها حقّ رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون » (١) .

﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ الذي يليق بهم على رهبانيتهم وإيمانهم بالرسول ، وهو المغفرة والجنّة والرضوان ﴿وَ﴾ الأسف أنّه ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ وهم الذين ابتدعوها ثمّ ضيّعوها ، وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فاسِقُونَ﴾ وخارجون عن حدّ الاتّباع والعقل.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ

 لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ

 يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو

 الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٨) و (٢٩)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ الذين آمنوا من أتباع عيسى عليه‌السلام بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله اتوا أجرهم وكثير منهم لم يؤمنوا ، دعاهم سبحانه إلى الايمان به بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعيسى وسائر الرسل ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ واحذروا عقابه ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ النبي الامّي ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ الله بإزاء إيمانكم بسائر الرسل وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿كِفْلَيْنِ﴾ ونصيبين من الأجر ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وفضله وجوده ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿نُوراً﴾ من بين أيديكم وأيمانكم ﴿تَمْشُونَ بِهِ﴾ في ظلمات العرصة إلى الجنّة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ جميع ذنوبكم التي ارتكبتموها في حياتكم الدنيا ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ للذنوب ﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده المؤمنين.

عن ابن عباس : أنّه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسلموا ، فجعل الله لهم أجرين (٢) .

روي أنّ أهل الكتاب افتخروا بذلك على المسلمين (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ﴿كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ،﴾ قال : « الحسن والحسين عليهما‌السلام و﴿نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ يعني إماما تاتمّون به » (٤) وفي رواية ، قال : « والنور علي » (٥) .

ثمّ أنّه تعالى بعد دعوة أهل الكتاب بالايمان بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يدّعون أنّ النبوة والرسالة

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٦٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٧.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٢١٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥٢ ، الكافي ١ : ٣٥٦ / ٨٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٠.

(٥) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٠.

١٨٢

مختصة بهم ، لكونهم أهل النسب الشريف ، والعلم بالكتاب ، بيّن سبحانه أنّ جعل الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ليس من بني إسرائيل ، ووعد الأجر الجزيل على الايمان به ، ونصيبين من الأجر على إيمان أهل الكتاب به ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ﴾ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم كونه من بني إسرائيل ، والمشهور زيادة ( لا ) والمعنى لأن يعلموا ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى﴾ نيل ﴿شَيْءٍ﴾ قليل ﴿مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ وإحسانه ، أو تخصيصه وحصره في أقوام معيّنين ﴿وَ﴾ يعلموا ﴿أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ وبقدرته ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ﴾ وقيل : إنّ ( لا ) نافية ، وضمير ﴿يَقْدِرُونَ﴾ راجع إلى الرسول وأصحابه (١) ، والمعنى : لئلا يعتقدوا أهل الكتاب أنّ محمدا وأصحابه لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فقد علموا أنّهم يقدرون عليه ، والمراد تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في نبوته وشرعه وكتابه ، وليعتقدوا أنّ الفضل بيد الله وفي تصرّفه وسلطانه ﴿وَاللهُ﴾ العظيم ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فانّ العظيم لا يكون فضله إلّا عظيما.

روي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ التسبيحات قبل أن يرقد ويقول : « إنّ فيهن آية أفضل من ألف آية » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة [ وأدمنها ] ، لم يعذّبه الله حتّى يموت أبدا ، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا ، ولا خصاصة في بدنه » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام ، لم يمت حتى يدرك القائم ، وإن مات كان في جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) .

الحمد لله الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٨.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٤٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٧.

(٣) ثواب الاعمال : ١١٧ ، مجمع البيان ٩ : ٣٤٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤١.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٤٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤١.

١٨٣
١٨٤

في تفسير سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ

 تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الحديد المتضمّنة لبيان ابتداع الرّهبانية التي من أركانها ترك التزوّج والعشرة مع الناس في دين المسيح ، والمختتمة بدعوة الناس إلى الايمان بخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله الناسخ للرّهبانية بقوله : « لا رهبانية في الاسلام » (١) والآمر بالتزويج حيث قال : « النكاح سنّتي ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » (٢) الباعث إلى مصادقة الناس والمعاشرة معهم ، نظمت سورة المجادلة المتضمّنة لبيان بعض أحكام الأزواج والمباشرة التي يكون الالتزام بها من شؤون الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والتحذير عن موادة الكفار ، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ افتتحها بذكر مقدّمة نسخ حكم الظهار بين الزوج والزوجة بقوله : ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ﴾ المرأة ﴿الَّتِي تُجادِلُكَ﴾ وتكالمك يا محمد ﴿فِي﴾ شأن ﴿زَوْجِها﴾ وتراجعك بالكلام فيه ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ﴾ ممّا لقيته من ظهار زوجها ﴿وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما﴾ وتخاطبكما فيه ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لكلّ مقال ﴿بَصِيرٌ﴾ بكلّ حال.

في بيان شأن نزول آيات الظهار

روي أنّ خولة بنت ثعلبة (٣) بن مالك بن خزاعة الخزرجية كانت حسنة البدن ، رآها زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة وهي تصلّي ، فاشتهى مواقعتها ، فلمّا سلّمت راودها فأبت ، فغضب أوس ، وكان به خفّة ، وقال : أنت عليّ كظهر امّي ، ثمّ ندم وقال لها : ما أظنّك إلّا وقد حرمت عليّ ، فشقّ ذلك عليها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعائشة تغسل شقّ رأسه عليه‌السلام فقالت : يا رسول الله ، إنّ زوجي أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمّي وأحبّ الناس إليّ ،

__________________

(١) النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٨٠.

(٢) جامع الاخبار : ٢٧١ / ٧٣٧.

(٣) في النسخة : تغلب ، وما في المتن من مجمع البيان ، راجع : اسد الغابة ٥ : ٤٤٢.

١٨٥

ظاهر منّي وندم (١) . وفي رواية قالت : إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلمّا علا سنّي وكثر ولدي جعلني كامّه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها : « ما عندي في أمرك شيء » (٢) . وفي رواية قال : « حرمت عليه » فقالت :  لا تقل ذلك يا رسول الله ، إنّ لي صبية صغار إن ضممتم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا.

فأعاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله الأول فجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقالتها الاولى ، وكلّما قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله الأول هتفت وقالت : أشكو إلى الله ممّا لقيت من زوجي حال فاقتي ووحدتي ، وقد طالت معه صحبتي ، ونفضت له بطني. وكانت ترفع في كلّ ذلك رأسها إلى السماء وتقول : اللهمّ أنزل على لسان نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقامت عائشة تغسل الشّقّ الآخر من رأسه وهي ما زالت في مراجعة الكلام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبثّ الشكوى إلى الله حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات الأربع (٣) .

وفي رواية : كلّما قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « حرمت عليه » هتفت وشكت إلى الله ، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت هذه الآيات (٤) ، وقريب من الروايتين مروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والصادقين عليهما‌السلام (٥) .

﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي

 وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ

 يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا

 ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ

 مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ

 لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣) و (٤)

ثمّ بيّن الله بطلان حكم الجاهلية في امرأة ظاهر منها زوجها أنها تصير حراما أبديا على زوجها ، ونسخه بقوله : ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ﴾ أيّها المسلمون ، ويقولون لأزواجهم : أنت عليّ كظهر أمّي ، اجتنابا ﴿مِنْ نِسائِهِمْ﴾ وأزواجهم ، لا يحرمن على أزواجهنّ بجهة الامومة ، و﴿ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ﴾ لا حقيقة ولا تنزيلا من الله ﴿إِنْ أُمَّهاتُهُمْ﴾ الحقيقية ، وما والداتهم الواقعية ﴿إِلَّا﴾ النساء ﴿اللَّائِي

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٨ ، مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٩.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٩.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٥٣ ، الكافي ٦ : ١٥٢ / ١ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٤٠ / ١٦٤١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٣.

١٨٦

وَلَدْنَهُمْ﴾ ووضعنهم من بطنهنّ على الأرض ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ الأزواج ﴿لَيَقُولُونَ﴾ بقولهم : إنّهنّ كامّهم في الحرمة الأبدية ﴿مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ﴾ ومخالفا للشرع والعقل من الكلام ﴿وَزُوراً﴾ وباطلا ﴿وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ﴾ وكثير التجاوز عن الذنوب التي منها هذا القول ، إن تاب أو إن لم يتب ﴿غَفُورٌ﴾ وستّار للمعاصي بجوده وكرمه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم تأثيره [ في ] تأييد حرمة الزوجة على الزوج ، بيّن ما يترتّب عليه في دين الاسلام بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ﴾ ويقولون لهنّ هذا القول المنكر ﴿ثُمَ﴾ يندمون و﴿يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ من الظّهار ، ويرجعون عمّا عزموا عليه من الاجتناب من الزوجة بقولهم ذلك إلى إلغائه والاستمتاع منها. وقيل : يعني يعودون إلى ما حرّموا على أنفسهم بلفظ الظّهار من الاستمتاع (١) ، وعليه نزّل القول منزلة المقول فيه ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ واعتاق إنسان مملوك من قيد الملكية واجب عليه ، سواء أكان المملوك ذكرا أو انثى ، صغيرا أو كبيرا ، مؤمنا أو كافرا ، ولا بدّ أن يكون التحرير ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ ويتلاقيا بشهوة واستمتاع ﴿ذلِكُمْ﴾ التحرير أيّها المؤمنون ليس لتعريضكم للثواب بالتحرير ، بل الغرض إنّكم ﴿تُوعَظُونَ﴾ وتنزجرون ﴿بِهِ﴾ ممّا ارتكبتم من القول المنكر والزّور ، وترتدعون عنه ، أو تؤمرون به ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الظّهار والتكفير ونحو ذلك من القليل والكثير ﴿خَبِيرٌ﴾ ومطّلع ، ومجازيكم عليه ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ من المظاهرين الرقبة بأن لا يضملكها ولا يمكنه تملّكها بالعوض لفقره ، أو لعدم وجودها (٢) في بلده ونواحيه حين إرادة التكفير ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ﴾ هلاليين ﴿مُتَتابِعَيْنِ﴾ واجب عليه بأن يصوم شهرا هلاليا ويوما من الشهر الآخر متواليين بلا فصل بين الأيام ، ثمّ يتمّ الشهر الآخر متواليا أو متفرقا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ ويتجامعا (٣) ويتقاربا بشهوة ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ صيام شهريت بالكيفية المذكورة ، ولم يطق ذلك لضعف البنية أو للهرم أو للمرض أو لخوفه ﴿فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ وإشباع هذا العدد من الفقراء بالإباحة أو بتمليك كلّ واحد مدّا من الطعام قبل أن يتماسّا ، وإنّما جعلنا ﴿ذلِكَ﴾ الحكم الموافق للحكمة بالبيان المعجز ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ وتصدّقوا ﴿بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولا تستمرّوا على حكم الجاهلية ، من القول بأنّ الظّهار أشدّ أنواع الطلاق ، وكونه محرّما أبديا للزوجة ﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ وشرائعه المقرّرة في دينه الذي هو مرتضيه (٤) ، لا بدّ من إطاعتها والعمل بها ﴿وَلِلْكافِرِينَ﴾ والمنكرين لها في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ وموجع غايته.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٥٦ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢١٦.

(٢) في النسخة : وجوده.

(٣) في النسخة : يجامعا.

(٤) في النسخة : مرضيّة.

١٨٧

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل إلى أوس بن الصامت ، وقال : « ما حملك على ما صنعت ؟ » فقال الشيطان : فهل من رخصة ؟ فقال : نعم. وقرأ عليه الأربع آيات ، وقال له : هل تستطيع العتق ؟ فقال : لا والله (١) . وفي رواية : قال : إذن يذهب جلّ مالي.

فقال : « هل تستطيع الصوم ؟ » فقال : لا والله ، لو لا إنّي كل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت (٢) . وفي رواية قال : فصيام شهرين متتابعين ؟ قال : يا رسول الله ، إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري ، وخشيت أن تعشو عيني.

فقال له : « هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ » فقال : لا والله يا رسول الله ، إلّا أن تعينني منك بصدقة ، فأعانه بخمسة عشر صاعا ، وأخرج أوس من عنده مثله (٣) . وفي رواية : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اعينك بخمسة عشر صاعا ، وأنا أدعو لك بالبركة » وتلك البركة بقيت في آله (٤) .

عن الباقر عليه‌السلام : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ امراة من المسلمات أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، إنّ فلانا زوجي ، وقد نثرت له بطني (٥) ، وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير منّي مكروها ، أشكوه إلى الله وإليك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ممّا تشتكيه ؟ قال : إنّه قال أنت عليّ كظهر امّي ، وقد أخرجني من منزلي ، فانظر في أمري.

فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزوجل ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانصرفت.

قال : « فسمع الله مجادلتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زوجها ، وما شكت إليه ، فأنزل الله عزوجل ذلك قرآنا : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ * ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما﴾ يعني محاورتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زوجها ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ ...﴾ الآية » .

قال : « فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المرأة فأتته ، فقال لها : جيئيني بزوجك ، فأتته به ، فقال له : اقلت لامرأتك هذه أنت عليّ كظهر امّي ؟ فقال : قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا ، فقرأ عليه ما أنزل الله ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ﴾ إلى قوله : ﴿لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٩٥.

(٣و٤) مجمع البيان ٩ : ٣٧١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٩٥.

(٥) نثرت المرأة بطنها : كثر ولدها.

١٨٨

ثمّ قال : فضمّ إليك امرأتك ، فانّك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفا الله عنك وغفر لك ولا تعد. قال : فانصرف الرجل وهو نادم على ما قاله لامرأته.

وكره الله ذلك للمؤمنين بعد ، وأنزل الله ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ يعني ما قال الرجل الأوّل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمّي. قال : فمن قال بعد ما عفا الله وغفر للرجل الأول ، فانّ عليه ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ يعني مجامعتها ﴿ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا ، ثمّ قال : ﴿ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ قال : هذا حدّ الظهار » .

ثمّ قال : « لا يكون ظهار في يمين وإضرار ، ولا في غضب ، ولا يكون ظهار إلّا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين » (١) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا

 آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما

 عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥) و (٦)

ثمّ لمّا كان تغيير حكم الجاهلية ثقيلا على المشركين ، وسببا لشدّة عداوتهم ، هدّد سبحانه المعاندين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ ويعاندونهما ، أو يضعون حدودا وأحكاما غير حدودهما وأحكامهما ﴿كُبِتُوا﴾ واخزوا واذلّوا في الدنيا ﴿كَما كُبِتَ﴾ واخزي واذلّ الأقوام ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ بمعاندتهم لرسلهم استكبارا عليهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ﴿وَ﴾ الحال إنّا ﴿قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ ودلائل واضحات على صدق الرسول وصحّة ما جاء به من الأحكام والحدود ﴿وَلِلْكافِرِينَ﴾ بالله والرسول والمنكرين لأحكامهما أو الكافرين بتلك الآيات في الآخرة ﴿عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ومذلّ يذهب بعزّهم وكبرهم.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله : ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ﴾ ويخرجهم من القبور أحياء ﴿جَمِيعاً﴾ لا يترك منهم أحدا ، أو مجتمعين في حالة واحدة ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾ الله في ذلك اليوم ، وينبّههم على رؤوس الأشهاد تخجيلا وتوبيخا لهم وتشهيرا لحالهم ﴿بِما عَمِلُوا﴾ في الدنيا وارتكبوا فيها من الكفر ومعاندة الرسول وغيرهما من العصيان الذي ﴿أَحْصاهُ اللهُ﴾ وأحاط به من الكمية والكيفية والزمان

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٥٢ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٣.

١٨٩

والمكان وسائر مشخّصاته ﴿وَ﴾ هم ﴿نَسُوهُ﴾ استحقارا له وتهاونا به ﴿وَاللهُ﴾ العظيم الخالق لكلّ شيء ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الموجودات ومخلوقاته وأحوالها ، وعلى جميع أحوال عباده وأفعالهم وضمائرهم والمكتومات في خواطرهم ﴿شَهِيدٌ﴾ ومطّلع لا تخفى عليه خافيه.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى

 ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ

 هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

 * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ

 بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ

 وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ

 الْمَصِيرُ (٧) و (٨)

ثمّ أكّد سبحانه سعة علمه بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أيّها الرائي ، ولم تعلم علما يكون كالمشاهدة ﴿أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ﴾ بالذات ﴿ما فِي السَّماواتِ﴾ السبع ﴿وَما فِي الْأَرْضِ﴾ من الحقير والجليل ، والنّقير والقطمير ، والمحسوس وغير المحسوس.

عن ابن عباس ، قال : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو ، وصفوان بن امية ، كانوا يوما يتحادثون فقال أحدهم : أترى أنّ الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضا وقال الثالث : إنّ كان يعلم بعضه فهو يعلم كلّه ، وصدق لأنّ من يعلم بعض الأشياء بغير سبب ، فقد علمها كلّها ؛ لأنّ كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كلّ معلوم ، فنزلت (١) .

﴿ما يَكُونُ﴾ وما يوجد ﴿مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ﴾ من الأشخاص ومسارّتهم في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ في حال ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿رابِعُهُمْ﴾ وحاضر عندهم ومشارك معهم في الاطّلاع عليها ﴿وَلا﴾ نجوى ﴿خَمْسَةٍ﴾ من الأشخاص ﴿إِلَّا هُوَ﴾ تعالى ﴿سادِسُهُمْ﴾ في العلم والاطلاع.

قيل : تخصيص العددين بالذكر لخصوص الواقعة (٢) ، فإنّ المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة ، ومرة خمسة ، أو لكون العدد الوتر أشرف من الزوج (٣) فاكتفى بذكر الوترين الأولين ، أو لكون الغالب في التشاور يكون من ثلاثة إلى الستة ، ليكونوا أقلّ لفظا ، وأجدر رأيا ، واكتم سرّا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٩٨.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٩٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٥.

١٩٠

ثمّ عمّم الحكم بقوله : ﴿وَلا أَدْنى﴾ وأقلّ ﴿مِنْ ذلِكَ﴾ العدد كالاثنين والواحد ﴿وَلا أَكْثَرَ﴾ منه كالستة وما فوقها ﴿إِلَّا هُوَ﴾ تعالى ﴿مَعَهُمْ﴾ بالعلم والاحاطة لا يخفى عليه نجواهم ﴿أَيْنَ ما كانُوا﴾ وفي أيّ مكان اجتمعوا وتناجوا ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ﴾ ويخبرهم ﴿بِما عَمِلُوا﴾ من خير أو شرّ ، وطاعة أو عصيان ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ تفضيحا للعصاة ، وتوبيخا لهم ، وتشهيرا لفضل المطيعين ، وتبشيرا لهم بالكرامة ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء والأعمال الجليات والخفيّات ﴿عَلِيمٌ﴾ ومحيط.

ثمّ روي أنّ اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، ويجتمعون ثلاثة وخمسة ، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، يريدون أن يغيضوهم ، فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ عادوا لمثل فعلهم (١) ، فوبّخهم الله سبحانه على ذلك بقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد ، ولم تنظر ﴿إِلَى الَّذِينَ نُهُوا﴾ من جانب الله ﴿عَنِ النَّجْوى﴾ والمكالمة سرّا ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ من النجوى ويكرّرونه.

ثمّ بيّن سبحانه النجوى التي نهوا عنها (٢) بقوله : ﴿وَيَتَناجَوْنَ﴾ ويسارون بينهم ﴿بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ﴾ للمؤمنين من المكر بهم أو بشيء يسوؤهم ﴿وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ﴾ في نهيه عن النجوى ﴿وَإِذا جاؤُكَ﴾ يا محمّد ﴿حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ﴾ قيل : كانوا يقولون : السام عليك ، ويريدون بالسام الموت أو القتل بالسيف ، ويوهمون أنّهم يقولون : السّلام عليك (٣) . وقيل : كانوا يقولون : أنعم صباحا ، وهو تحية الجاهلية ، وتحية الله للمرسلين هي السّلام (٤) . ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وفيما بينهم إذا خرجوا من عندك : ﴿لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ﴾ وهلّا يبتلينا بالعقوبة ﴿بِما نَقُولُ﴾ من الدعاء بالشرّ ، أو تحيّة الجاهلية ؟

ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿حَسْبُهُمْ﴾ وكافيهم ﴿جَهَنَّمُ﴾ في التعذيب ، فانّهم يوم القيامة ﴿يَصْلَوْنَها﴾ ويدخلونها بعنف ويقاسون حرّها لا محالة ﴿فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع لهم جهنّم.

روي أنّ عائشة سمعت قول اليهود ، فقالت : عليكم السام والذامّ واللعن. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عائشة ، ارفقي فانّ الله يحبّ الرّفق في كلّ شيء ، ولا يحبّ الفحش والتفحّش ، ألا سمعت ما رددت عليهم ، قلت : عليكم ، فيستجاب لي منهم » (٥) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٧٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٠.

(٢) في النسخة : الذي نهوا عنه.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٠.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٧٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٠.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٠ و٤٠١.

١٩١

الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا

 النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ

 وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٩) و (١٠)

ثمّ أمر سبحانه المؤمنين المخلصين بالعمل بخلاف ما يعمله اليهود والمنافقون بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتكم وقلوبكم ﴿إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ﴾ والقبيح الذي يخصّكم ﴿وَالْعُدْوانِ﴾ والعمل الذي يؤدّي إلى الظّلم بالغير ﴿وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ﴾ ومخالفته ، ولا تسلكوا في نجواكم مسلك المنافقين ﴿وَ﴾ لكن ﴿تَناجَوْا بِالْبِرِّ﴾ والاحسان إلى أنفسكم وإلى إخوانكم المؤمنين ﴿وَالتَّقْوى﴾ وترك المعاصي والقيام بالطاعة ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ﴾ بعد خروجكم من القبور ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وإلى مقام عدله تساقون ، فيجازيكم حسب أعمالكم.

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن النجوى بما ذكر من الامور القبيحة بقوله : ﴿إِنَّمَا النَّجْوى﴾ بتلك الأمور تصدر ﴿مِنَ﴾ تسويلات ﴿الشَّيْطانِ﴾ وتزيينه في أنظاركم ﴿لِيَحْزُنَ﴾ قلوب ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حيث توهمهم النجوى أنّ المتناجين بلغهم قتل أقربائهم وإخوانهم المؤمنين الذين خرجوا إلى الجهاد ، أو هزمهم (١) العدوّ أو أصابتهم نكبة ﴿وَلَيْسَ﴾ الشيطان ، أو التناجي ﴿بِضارِّهِمْ شَيْئاً﴾ قليلا وقدرا يسيرا ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ وإرادته ومشيئته. قيل : بأن يبيّن لهم كيفية مناجاة الكفّار حتّى يزول غمّهم (٢)﴿وَعَلَى اللهِ﴾ وحده لا على غيره ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وإليه فليفوّضوا امورهم ، ولا يبالوا بنجوى المنافقين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فانّ ذلك يحزنه » (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالنجوى في الآية الأخيرة الأحلام التي يراها الانسان في نومه فتحزنه (٤) .

في ذكر رؤيا فاطمة عليها‌السلاموما يدفع به ضرر رؤيا السوء

روى بعض العامة أنّ فاطمة عليها‌السلام رأت كأنّ الحسن والحسين أكلا من أطيب جزور بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فماتا ، فلمّا غدت سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسأل هو جبرئيل ، وسأل جبرئيل ملك الرّؤيا فقال : لا علم لي به ، فعلم أنّه من الشيطان (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : سبب نزول الآية أنّ فاطمة عليها‌السلام رأت في منامها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة ، فخرجوا حتى جازوا حيطان المدينة ، فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه

__________________

(١) في النسخة : انهزمهم.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٨.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٢.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٦.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٢.

١٩٢

نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة دراء - وهي التي في أحد اذنيه نقط بيض - فأمر بذبحها ، فلمّا أكلوا [ منها ] ماتوا [ في ] مكانهم ، فانتبهت فاطمة عليها‌السلام باكية ذعرة ، فلم تخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

فلمّا أصبحت جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمار ، فأركب عليه فاطمه عليها‌السلام وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها‌السلام في نومها ، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة ، عرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين حتّى انتهى إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة درّاء ، كما رأت فاطمة ، فأمر بذبحها فذبحت وشويت ، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحّت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا ، فطلبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وقع عليها وهي تبكي فقال : ما شأنك يا بنيّة ؟ قالت : يا رسول الله ، رأيت البارحة كذا وكذا في نومي ، وقد فعلت أنت كما رأيته ، فتنحّيت عنكم لئلا أراكم تموتون.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى ركعتين ، ثمّ ناجى ربّه ، فنزل جبرئيل ، فقال : يا محمد ، هذا شيطان يقال له الزهّار ، هو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ، ويؤذي ويري المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به ، فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : أنت الذي أريت هذه الرؤيا ، فقال : نعم يا محمد ، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة في ثلاثة مواضع.

ثمّ قال جبرئيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يا محمد ، إذا رأيت شيئا في منامك تركهه ، أو رأى أحد من المؤمنين يقول : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي ، ويقرأ الحمد ، والمعوذتين ، وقل هو الله أحد ، ويتفل عن يساره [ ثلاث ] تفلات فانّه لا يضرّه ما رأى ، فأنزل الله عزوجل على رسوله : ﴿إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ...﴾ الآية (١) .

وعنه عليه‌السلام : « إذا رأى الرجل منكم ما يكره في منامه فليتحوّل من شقّه الذي كان عليه نائما ، وليقل : ﴿إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ﴾ إلى قوله : ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ ثمّ ليقل : عذت بما عاذت به ملائكة الله المقرّبون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من [ شرّ ما رأيت ومن ] شرّ الشيطان الرجيم »(٢).

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ

 لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

 دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٥٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٦.

(٢) الكافي ٨ : ١٤٢ / ١٠٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٧.

١٩٣

ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن النجوى التي توجب (١) التباغض وشدة الاتّصال في المجلس ، أمر عباده بما يوجب التودّد والتحابب بقوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿إِذا قِيلَ لَكُمْ﴾ [ سواء أ ] كان القائل قريبا أو بعيدا ، أو وضيعا أو شريفا : يا إخواني ﴿تَفَسَّحُوا﴾ وتوسّعوا ﴿فِي الْمَجالِسِ﴾ والأماكن التي تجلسون فيها على المؤمنين الواردين عليكم ﴿فَافْسَحُوا﴾ ووسّعوا عليهم حتّى يجلسوا بينكم ، فإذا تفسّحتم ووسّعتم في المكان على الواردين ﴿يَفْسَحِ اللهُ﴾ ويوسّع ﴿لَكُمْ﴾ فيما تريدون التوسعة فيه من الصدور والرزق والقبر وغيرها.

في فضيلة أهل العلم

قيل : إنّ المراد مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان الأصحاب يتضامّون فيه تنافسا على القرب منه ، وحوصا على استماع الكلام (٢) .

عن ابن عباس : دخل ثابت بن قيس بن الشمّاس في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للوقر الذي كان في اذنه ، فوسّعوا له حتى قرب ، ثمّ ضايقه بعضهم ، وجرى بينه وبينهم كلام ، فوصف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله محبّة القرب منه ليستمع كلامه ، وأن فلانا لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية ، فأمر القوم بأن يوسّعوا ولا يقوم أحد لأحد (٣) .

وقيل : إنّ الأصحاب كانوا يحبّون القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان الرجل يكره أن يضيّق عليه ، فربما سأله [ أخوه ] أن يفسح له فيأبى ، فأمرهم الله بأن يتعاطفوا ويتحمّلوا المكروه ، وكان فيهم من يكره أن يمسّه الفقراء ، وكان أهل الصّفّة يلبسون الصوف ولهم روائح (٤) .

وعن مقاتل : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوم الجمعة في الصّفّة ، وفي المكان ضيق ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظرون أن يوسّع لهم ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لمن حوله من أهل بدر : « قم يا فلان ، قم يا فلان » فلم يزل يقيم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه ، فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه ، وعرفت الكراهة في وجوههم ، وطعن المنافقون في ذلك ، وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إنّ قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبّوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة (٥) .

وقيل : إنّ المراد من التفسّح والتوسّع في مقاعد القتال ، وكان الرجل يأتي الصفّ فيقول : تفسّحوا

__________________

(١) في النسخة : الذي يوجب.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٣.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٩.

(٥) تفسير الرازي ٦٩ : ٢٦٨.

١٩٤

فيأبون حرصا على الشهادة (١) ، والحقّ عموم الآية لجميع الأشخاص والمجالس ، فانّ مورد النزول لا يخصّص العموم.

وقيل : إنّ المراد بالقائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّه كان إذا دخل المسجد يقوم له الناس ، فنهاهم الله عن أن يقوموا له ، وقال : تفسّحوا له في المجالس (٢) .

﴿وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا﴾ وقوموا من مكانكم للتوسعة على الوارد ، أو انهضوا من مجلس الرسول ، ولا تطيلوا الجلوس عنده فتملّوه ، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وغيرهما من الأعمال الخيرية ﴿فَانْشُزُوا﴾ وانهضوا وقوموا طاعة للأمر ، وتواضعا للمؤمنين ، وتوسعة للاخوان ، ومسارعة للخيرات ، إذن ﴿يَرْفَعِ اللهُ﴾ بالنصر وحسن الذكر وكمال النفس في الدنيا والإيواء في غرف الجنان في الآخرة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ بايمانهم وعملهم الصالح ﴿وَ﴾ يرفع ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ خاصة لجهة علمهم المقارن للعمل ﴿دَرَجاتٍ﴾ رفيعة عالية في الفضل والإكرام في الدنيا والآخرة مراتب سامية في الروض والرضوان.

ذكر فضيلة العلماء

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بين العالم والعابد مائة درجة ، بين كلّ درجة حضر (٣) الجواد المضمر سبعين سنة » (٤) .

وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فضل العالم على العابد كفضلي على امّتي » (٥) .

وفي اخرى : « كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » (٦) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : « فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة ، وفضل النبي على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم » (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد » (٨) .

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الطاعة بقوله : ﴿وَاللهُ﴾ بكلّ شيء ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ أيّها المؤمنون من امتثال أوامره والانزجار عن معاصيه ﴿خَبِيرٌ﴾ ومطّلع ، فيجازيكم على الطاعة بأفضل الثواب ،

__________________

(١) جوامع الجامع : ٤٨٥ ، تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٨ ، وفيهما : فقال : تفسحوا ، أيّ وسّعوا له في المجلس.

(٣) الحضر : عدوّ ذو وثب.

(٤) جوامع الجامع : ٤٨٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٤.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٤.

(٦) جوامع الجامع : ٤٨٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٤.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٣٨٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٨.

(٨) الكافي ١ : ٢٥ / ٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٤٨.

١٩٥

ويعذّبكم على عصيانه بأسوء العذاب.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ

 خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا

 بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

 وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٢) و (١٣)

ثمّ لمّا علّم الله المؤمنين ما يتناجون به من البرّ والتقوى ، عظّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونجواه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾ وكالمتموه سرّا في بعض شؤونكم كما عن بعض (١) ، أو في استفسار حال رؤياكم كما عن آخر (٢)﴿فَقَدِّمُوا﴾ وأعطوا المستحقّين ﴿بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ﴾ وقبلها ﴿صَدَقَةً﴾ ومقدارا ما من المال تقرّبا إلى الله ﴿ذلِكَ﴾ التصدّق ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون في دينكم من تركه ﴿وَأَطْهَرُ﴾ لأنفسكم من رجس المعاصي ودنس البخل.

عن ابن عباس : لمّا أكثر المسلمون السؤال على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أسأموه وأملّوه ، أراد الله أن يخفّف عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية ، وأمرهم الله بتقديم الصدقة عند نجواه ، فكفّ كثير من الناس عن المناجاة وشحّوا (٣) .

قيل : أراد سبحانه بهذا الأمر تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونفع الفقراء ، والزجر عن الإفراط في السؤال ، وتمييز المخلص عن المنافق ، ومحبّ الآخرة عن محبّ الدنيا ، إذ لم يناجه أحد من أصحابه عشرة أيام إلّا عليّ عليه‌السلام (٤) .

أقول : وأراد سبحانه تفضيح أغنياء الصحابة كأبي بكر على ما ادّعاه شيعته من أنّه كان غنيا ، وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم ، وظهور فضيلة أمير المؤمنين وخلوصه في الايمان ، وحبّه للآخرة ومناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

روى بعض العامة عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تصدّقت بدرهم » (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٤.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧١.

(٤) تفسير جوامع الجامع : ٤٨٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧١ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٧٦ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٢١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٥.

١٩٦

وروى الفخر الرازي عن كثير من مفسري العامة ، عن ابن عباس : أنّ المسلمين نهوا عن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يتصدّقوا ، فلم يناجه أحد إلّا علي عليه‌السلام تصدّق بدينار ، ثمّ نزلت الرّخصة (١) .

ورووا عن عبد الله بن عمر أنّه قال : كان لعلي عليه‌السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحبّ إلي من حمر النّعم : تزويجه فاطمة عليها‌السلام ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى (٢) .

في ردّ قول القاضي وبيان فساد قول الفخر الرازي

وقال القاضي أبو بكر : والأكثر في الروايات أنّه تفرّد بالتصدّق قبل مناجاته ، ثمّ ورد النسخ ، وإن كان قد روي أيضا أنّ أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك (٣) .

والعجب إنّه لتوغّله في الضلال ، وتعصّبه لمذهبه الباطل ، تردّد فيما اتفقت عليه روايات العامة والخاصة من إطاعة عليّ عليه‌السلام أمر الله وعصيان مشايخه وأئمّته ، وهمّ بدفع الطعن عنهم بقوله : « وإن ثبت أنّه اختصّ بذلك ، فلأنّ الوقت لم يتّسع لهذا الفرض ، وإلّا فلا شبهة أنّ أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله » (٤) .

أقول : فيه أنّ دعوى ضيق الوقت بعد رواياتهم بأن الحكم كان باقيا عشرة أيام ممّا تضحك به الثكلى ، وأمّا أفاضل الصحابة كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار وحذيفة وأضرابهم ، كانوا لفقرهم خارجين عن هذا الحكم بقوله : ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا﴾ ما تتصدّقون به لا يجب عليكم ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ للمذنبين ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين ، لا يكلّفهم بما لا يطيقون.

والحاصل إنّ أفاضل الصحابة الذين اتفقنا على فضلهم وخلوص إيمانهم كانوا فقراء غير متمكّنين من التصدّق ، وأمّا غيرهم فقد بخلوا بالتصدّق لعدم اشتياقهم إلى صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومناجاته ولم يسو عندهم صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدرهم ، ولذا صار تركهم الصدقة من أكبر المطاعن عليهم ، وتصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بعشرة دراهم من أعظم فضائله ، ولا يصغى إلى قول القاضي بأن الصحابة ما وجدوا الوقت(٥) .

وبذلك يظهر فساد ما ذكره الفخر الرازي من أنّه على تقدير أنّ الصحابة وجدوا الوقت ولم يفعلوا ، فهذا لا يجرّ إليهم طعنا ؛ لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق به قلب الفقير ، فانّه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ، ويوحش قلب الغنيّ ، فانّه لمّا لم يفعل الغني وفعله غيره ، صار ذلك الفعل سببا للطعن فيمن لم يفعل ، فهذا الفعل لمّا كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء ، لم يكن في تركه كبير

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧١ و٢٧٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.

١٩٧

مضرّة ، لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة (١) .

والعجب أنّه يظهر من آخر كلامه أنّ ترك الصدقة كان أولى من التصدّق ، وهو مناف للروايات الدالة على فضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالعمل بالآية والتصدّق قبل مناجاته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوبيخ الله سبحانه تاركي التصدّق بقوله : ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ أيّها المسلمون وخفتم من ﴿أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ﴾ وقبل مسارّتكم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿صَدَقاتٍ﴾ قيل : إفراد الصدقة أولا لكفاية شيء قليل منها ، وإتيانها بصيغة الجمع هنا لكثرة التناجي والمناجي (٢) .

ثمّ لمّا ظهر حال المؤمن الصادق في إيمانه المشتاق إلى مكالمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والمنافق غير المشتاق ، نسخ سبحانه الحكم بقوله : ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما امرتم به ، وبخلتم وشقّ عليكم بذل أقلّ قليل من أموالكم لدرك مكالمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحصيل علم دينكم ، وهو ذنب ، رفع ذلك الحكم ﴿وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ وقبل ندامتكم ، وعفا عنكم ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما يكلّفانكم (٣) من فعل سائر الواجبات وترك المحرّمات ﴿وَاللهُ﴾ العالم بكلّ شيء ﴿خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.

قال أبو مسلم الأصفهاني من مفسّري العامة : إنّ الآية ليست ناسخة ، فانّ المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإن قوما تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا ، فأراد الله أن يميّزهم ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمّن بقي على نفاقه ، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدّرة بذلك الوقت ، لا جرم يقدّر هذا التكليف بذلك الوقت (٤) .

في ردّ أبي مسلم الأصفهاني

أقول : حاصل قوله : إنّ مصلحة التكليف بالصدقة قبل النجوى ، كانت في الواقع وفي علم الله مقدّرة بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاء التكليف عند انتهاء مقتضيه إلى الغاية ، ومقتضى كلامه أنّ غير أمير المؤمنين عليه‌السلام من أغنياء الصحابة كانوا منافقين ، لامتناعهم عن التصدّق ، وبعد ظهور حالهم ارتفع التكليف.

ثمّ اعلم أنّه لا معنى للنسخ عندنا إلّا إطلاق الحكم في الظاهر وتقييده في الواقع بوقت معين ، وإلّا يلزم البداء ، ولذا توافقت الروايات العامة والخاصة في كون الآية ناسخة لإيجاب الصدقة.

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٦.

(٣) في النسخة : يكلفونكم.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.

١٩٨

عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا

 يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * لَنْ

 تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها

 خالِدُونَ (١٤) و (١٧)

ثمّ لمّا افتضح المنافقون بيّن سبحانه سوء حال المنافقين ، وأظهر التعجّب من سوء صنيعهم بقوله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا من يعقل ، أو يا محمد ، ولم تنظر ﴿إِلَى﴾ المنافقين ﴿الَّذِينَ﴾ ي ﴿تَوَلَّوْا﴾ ن ، وتوادّوا ﴿قَوْماً﴾ من اليهود ، مع أنّهم قوم ﴿غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ ولعنهم حيث ينقلون أسرار المؤمنين إليهم ، والعجب أنّ هؤلاء المنافقين مذبذبين ﴿ما هُمْ مِنْكُمْ﴾ وليسوا من زمرتكم ، لكفرهم في الباطن ﴿وَلا مِنْهُمْ﴾ لعدم اعتقادهم بدين اليهود ، وإذا لقوكم قالوا : إنّا مسلمون ، أو المراد إنّهم يشتمون الله ورسوله ، ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل لهم : إنّكم فعلتم كذا وكذا ، أو قلتم كذا وكذا ، قالوا : والله ما فعلنا ذلك وما قلنا ذلك ﴿وَيَحْلِفُونَ﴾ ويقسمون بالله ﴿عَلَى﴾ ادّعائهم ﴿الْكَذِبِ﴾ تحفّظا على أنفسهم من القتل ، وعلى أموالهم من النّهب ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ كذب ما حلفوا عليه ، وهذا الحلف في غاية الشناعة والقباحة.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله : ﴿أَعَدَّ اللهُ﴾ وهيّأ ﴿لَهُمْ﴾ في القبر على قول بعض ، أو في الآخرة ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ لا يمكن تحديد شدّته وتوصيفها ، لأجل ﴿إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر بالله ورسوله ، وموادّة اليهود واليمين الغموس (١) .

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في حجرة من حجراته ، فقال لأصحابه : « يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار ، وينظر بعين الشيطان » فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أرزق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : على م تشتمني أنت وأصحابك ؟ فحلف بالله ما فعل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فعلت » فانطلق بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه ، فنزلت الآيات (٢) .

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله : ﴿اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ﴾ الفاجرة حين الخوف من المسلمين ﴿جُنَّةً﴾ وترسا يحفظون به أنفسهم من سيوف المسلمين ، وأموالهم من النّهب ﴿فَصَدُّوا﴾ ومنعوا الناس ﴿عَنْ﴾ الدخول في دين الاسلام ، وسلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والعمل بما يوجب قربهم إليه في خلال أمنهم وسلامتهم ، بإدخال الشّبهات في القلوب ، وذكر المطاعن للاسلام ، وتعييب المسلمين ﴿فَلَهُمْ﴾ في

__________________

(١) اليمين الغموس : الكاذبة ، تغمس صاحبها في الإثم.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٨.

١٩٩

الآخرة بسبب كفرهم وصدّهم طلبا للعزّ عند الكفّار ، وتكبّرا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿عَذابٌ مُهِينٌ﴾ لهم غاية الهوان ، ومذلّ لهم أشدّ الذّلّ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ ولن تكفيهم للوقاية ، ولا تنفعهم أبدا ﴿أَمْوالُهُمْ﴾ التي جمعوها في الدنيا ﴿وَلا أَوْلادُهُمْ﴾ الذين يفتخرون بهم ﴿مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ إذا دخلوا النار ﴿شَيْئاً﴾ قليلا من الإغناء والنفع ﴿أُولئِكَ﴾ البعيدون من ساحة رحمة الله ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها أو مالكوها : لأنّهم اكتسبوها بأعمالهم في الدنيا ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ ومقيمون أبدا ، لا نجاة لهم منها.

روي أن واحدا منهم قال : إن كان ما يقول محمد حقا لندفعنّ العذاب من أنفسنا بأموالنا وأولادنا ، فنزلت الآية تكذيبا له (١) .

﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى

 شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)

ثمّ بيّن سبحانه وقت ابتلائهم بالعذاب وخلودهم في النار بقوله : ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ﴾ ويخرجهم من القبور أحياء ، ويسوقهم ﴿جَمِيعاً﴾ إلى المحشر. وقيل : المعنى : واذكر يا محمد يوم يبعثم الله جميعا (٢)﴿فَيَحْلِفُونَ﴾ هؤلاء المنافقون في ذلك اليوم حين حضورهم في مقام عتاب الله ﴿لَهُ﴾ كذبا بقولهم: والله ربّنا ما فعنا كذا وكذا ، وما كنا مشركين ﴿كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أيّها المسلمون في الدنيا كذبا بقولهم: والله إنّا منكم ، وما هم منكم ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ ويتوهّمون ﴿أَنَّهُمْ﴾ بتلك الأيمان الكاذبة ﴿عَلى شَيْءٍ﴾ من جلب نفع أو دفع ضرر ، كما كانوا في الدنيا عليه حيث كانوا يدفعون بالأيمان الكاذبة عن أنفسهم وأموالهم ضرر المسلمين ، ويجلبون إليهم فوائد ﴿أَلا﴾ تنبّهوا أيّها العقلاء ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ﴾ والمصرّون على الكذب إلى حدّ لا يتصوّر فوقه ، حيث كانوا يتجاسرون عليه بين يدي علّام الغيوب ، وزعموا أنّ الحلف يروّج (٣) به الكذب لديه ، كما يروّجه عند الغافلين.

قيل : إنّ ذكر ﴿أَلا﴾ التنبيهية مشعر بتوغّلهم في النّفاق وتعوّدهم به بحيث لا ينفكّون عنه في الدنيا ولا في الآخرة (٤) .

﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ

 حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٩.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٩٧.

(٣) روّج السلعة : أنفقها ، وروّج الكلام : زيّنه ، أو أبهمه فلا تعلم حقيقته.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٩.

٢٠٠