نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً(١) أو المراد سلام التحية ، والمقصود أنّ أصحاب اليمين يسلّم بعضهم على بعض (٢) .

وقيل : إنّ خطاب ( لك ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد بيان عدم حاجتهم إلى الشفاعة ، والمعنى : فسلام لك يا محمد لا يهمّك أمرهم ، فانّهم في سلامة وعافية (٣) . أو المراد أنّ أصحاب اليمين يسلّمون عليك يا محمد ، وفيه دلالة على عظمتهم ، فانّ العظيم لا يسلم عليه إلّا العظيم - كذا قيل - (٤) وعلى أنّ أصحاب اليمين وإن كان مكانهم دون المقرّبين ، إلّا أنه لا ينقطع بينهم التسليم والمكالمة ، كما أنّهم يسلمون عليك.

﴿وَأَمَّا إِنْ كانَ﴾ المتوفّى ﴿مِنَ﴾ الكفار ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ للرسل في دعوى الرسالة والتوحيد والبعث من جهة كونهم من ﴿الضَّالِّينَ﴾ والمنحرفين عن طريق الحق والهدى ، أو الواقفين عن شمال العرش ، أو المحشر ، المؤتين كتابهم (٥) بشمالهم.

عن الباقر عليه‌السلام : « فهولاء المشركون » (٦) .

﴿فَنُزُلٌ﴾ وما أعد لهم حين ورودهم علينا ، كائن ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ وماء متناه في الحرارة تقطّع به أمعاءهم. قيل : هذا في قبره ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ وإلقاء في النار ، وهذا في الآخرة ، كما عن الصادقعليه‌السلام(٧) . ﴿إِنَّ هذا﴾ المذكور في هذه السورة المباركة ، أو أصناف الناس وجزاؤهم في الآخرة ، والله ﴿لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ والثابت الذي لا ريب فيه (٨) ، والثابت المتيقن أو حقّ الخبر (٩) اليقين ، أو الثابت الذي لا يطرأ عليه التبديل والتغيير. وقيل : يعني يقين حق اليقين (١٠) .

ثمّ لمّا كان حقّية ما في السورة الكريمة ممّا يوجب تنزّهه تعالى عن الشرك والكذب وسائر ما لا يليق بربوبيته تعالى ، رتّب على بيان ما في السورة أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسبيحه وتنزيهه بقوله تعالى : ﴿فَسَبِّحْ﴾ يا محمد ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ وقد مرّ تفسيره أو المراد فسبّح شكرا لما أنزلت إليك من المطالب العالية التي ما نزلت على غيرك من الرسل.

وقيل : لمّا بيّن سبحانه الحقّ ، وامتنع الكفّار عن قبوله ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسبيحه وتنزيهه (١١) ، والمراد إن امتنع الكفّار من قبول ما فصّل في السورة ، فلا تتركهم ولا تعرض عنهم ، وسبّح ربّك في نفسك ، وما

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٢ ، والآية من سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٥.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤١.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٢.

(٥) في النسخة المؤتون كتابتهم.

(٦) الكافي ٢ : ٢٥ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣١.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٥٠ ، امالي الصدوق : ٣٦٦ / ٤٥٥ ، و: ٥٦١ / ٧٥٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣١.

(٨) في النسخة : التي لا ريب فيها.

(٩) في النسخة : بالخبر.

(١٠) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٢.

(١١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٤.

١٦١

عليك إن صدّقوك أو كذّبوك.

روي أنّ عثمان بن عفان عاد عبد الله بن مسعود في مرض موته ، فقال له : ممّا تشتكي ؟ قال : أشتكي من ذنوبي. قال : عثمان : ما تشتهي ؟ قال : رحمة ربّي. قال : أ فلا تدعو الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني. قال : أ فلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، تعطينيه وأنا مستغن عنه ! قال : أجعل عطاءك بعدك لبناتك ؟ قال : لا حاجة لهن فيه ؛ لأنّي علمتهنّ سورة الواقعة يقرأنها بعد العشاء ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من قرأ سورة الواقعة بعد العشاء لم تصبه فاقة » (١) .

وفي رواية ، قال : « من قرأ سورة الواقعة [ في كل ليلة ] لم تصبه فاقة أبدا » (٢) .

وفي حديث آخر : « من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدا » (٣) .

وعن الغزالي : أنّ قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الصحابة (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ الواقعة كلّ ليلة قبل أن ينام لقي الله عزوجل ووجهه كالقمر ليلة البدر»(٥) .

الحمد لله على التوفيق لاتمام تفسيرها ، وأسأله التوفيق لتلاوتها.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٢١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٣.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٢١ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٦٥ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٢.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٤.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٤.

(٥) ثواب الأعمال : ١١٧ ، مجمع البيان ٩ : ٣٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣١.

١٦٢

في تفسير سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

 وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاثة المقرّبين ، وأصحاب اليمين ، والمكذّبين الضالين ، المختتمة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتسبيح ، نظمت سورة الحديد المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاث المؤمنين المخلصين ، والمنافقين ، والكفّار ، المبدوؤة ببيان تسبيح الموجودات ، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ شرع فيها ببيان تسبيح جميع الموجودات بقوله : ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ كأنّه قال تعالى : سبّح يا محمد باسم ربك العظيم ، كما أنّ جميع الموجودات سبّحته خالصة (١) له بلسان الحال والمقال ، كما سمع حنين الجذع ، وذكر بعض الجمادات. وقيل : إنّ المراد بما في السماوات والأرض الموجودات الأحياء العقلاء ، كالملائكة وحملة العرش والجنّ والإنس (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه صفاته الموجبة لتسبيحه وتنزيهه عن النقائص الإمكانية بقوله : ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والغالب على كلّ شيء ، ولا يغلبه شيء ﴿الْحَكِيمُ﴾ والعالم بجميع مصالح الأشياء ومفاسدها ، والفاعل لما هو الأصلح والأصوب بنظام العالم ﴿لَهُ﴾ خاصة ﴿مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسلطنة التامة المطلقة على جميع الممكنات ، والتصرّف الكلّي ، ونفوذ الإرادة فيها إيجادا وإعداما ، وتغييرا وتقلّبا ، ومن آثار سلطنته أنّه ﴿يُحْيِي﴾ الميت ﴿وَيُمِيتُ﴾ الحيّ ، كما تشاهدون في حياة النّطف وموت الحيوانات.

ثمّ نبّه على عدم اختصاص قدرته بالاحياء والاماتة بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء المتصوّرة وغير المتصوّرة ، وكلّ فعل من الأفعال الممكنة ﴿قَدِيرٌ﴾ بذاته ، بلا حاجة إلى

__________________

(١) في النسخة : سبّحه خالصا.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٧.

١٦٣

معاون ومعاضد وإله ومادة ومدة ، ومن المعلوم أنّ من له هذه القدرة الكاملة والعلم الشامل ، والغناء والسلطان الدائم ، مستحقّا للتنزيه عن العجز والجهل والحاجة والفقر بحكم العقل.

﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)

ثمّ وصف سبحانه ذاته بالأزلية والأبدية المساوقتين لوجوب الوجود بقوله : ﴿هُوَ﴾ تعالى الموجود ﴿الْأَوَّلُ﴾ الذي لا أول له ، والسابق الذي لم يسبقه شيء في الوجود ، والكائن الذي لا كينونية لشيء قبل كينونيّته ﴿وَالْآخِرُ﴾ الذي لا آخر له ولا متأخّر عنه ، والباقي الذي لا فناء له ولا زوال ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ والمشهود بالصفات والآثار ﴿وَالْباطِنُ﴾ والخفيّ بالذات والكنه.

قيل : يعني هو الأول في سلسلة الموجودات ، والآخر لها بحيث ينتهي إليه كلّ شيء ، والظاهر يعني الغالب على كلّ شيء ، والباطن يعني العالم ببواطن كلّ شيء (١) .

وقيل : إنّه أول لأنّه قبل كلّ شيء ، وإنّه آخر لأنّه بعد كلّ شيء (٢) ، وإنّه ظاهر بحسب الدلائل ، وإنّه باطن لأنّه لا يدرك بالحواس.

روي أنّ فاطمة الزهراء عليها‌السلام دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألته خادما فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا أدلّك على ما هو خير لك من ذلك ؟ » قالت : « نعم » . قال : « قولي : اللهم ربّ السماوات السبع ورب العرش العظيم ، وربّنا وربّ كلّ شيء ، منزل التوراة والانجيل والفرقان ، فالق الحبّ والنّوى ، أعوذ بك من شرّ كلّ ذي شرّ أنت آخذ بناصيته - أو من شرّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها - أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنّي الدين ، وأغنني من الفقر » (٣) .

وفي رواية : « صلّ على محمد وآله ، واقض عنّي الدين ، وأغنني من الفقر ، ويسّر لي كلّ الأمر برحمتك يا أرحم الراحمين » (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « الذي ليس لأوّليته نهاية ، ولا لآخريته حدّ ولا غاية » وقال : « الذي بطن من خفيّاته الامور ، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير » (٥) .

وقيل : يعني هو الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية ، والظاهر بالأحدية ، والباطن بالصّمدية (٦) ، وحاصل الجميع أنّه لا ابتداء لوجوده ، ولا اختتام له ، لاستحالة عدمه بدوا وختما ، وكلّ شيء منه بدأ وإليه

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٠٤.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٦.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٧.

(٤) بحار الأنوار ٩٥ : ٤٠٦.

(٥) الكافي ١ : ١٠٩ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٢.

(٦) مجمع البيان ٩ : ٣٤٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٤٩.

١٦٤

يعود ، والظاهر الواضح للالوهية والربوبية بالآثار والدلائل ، والباطن المحتجب كنهه عن العقول والأوهام.

قيل : يجب أن ينعدم جميع ما يكون من الجنّة والنار وأهلها حتى يصحّ كونه آخرا (١) . وفيه : أنه بعد ثبوت بقاء الموجودات الاخروية ، مع حكم العقل بإمكانه ، لا بدّ من حمل آخريته على معنى اختصاص شأنيتها به تعالى ، وإن لم يقع انعدام غيره بقدرته ، أو آخريته بعد فناء الدنيا.

﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ ظاهره وباطنه ﴿عَلِيمٌ﴾ لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، إذ ما من موجود إلّا وهو بشراشره مخلوقه ومصنوعه.

قيل : من قرأ هذه الآية بعد صلاة ركعتين خمسا وأربعين مرّة قضى الله حاجته (٢) .

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

 يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها

 وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

 وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ

 عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) و (٦)

ثمّ بيّن سبحانه علّة كون جميع الموجودات ملكا له تعالى وتحت سلطانه بقوله : ﴿هُوَ﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ وأوجدهما بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ﴿فِي﴾ مدّة مقدّرة ب ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الدنيا ، أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، ليتعلم العباد التأنّي في الامور ﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ واستولى بالعلم والقدرة ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ المفسّر في آية الكرسيّ.

ثمّ صرّح سبحانه بإحاطته العلمية بقوله : ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ﴾ ويدخل ﴿فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ﴾ إلى الأرض ﴿وَما يَعْرُجُ فِيها﴾ وما يصعد من الأرض إليها ، وقد مرّ تفسيرها في سوره سبأ (٣)﴿وَهُوَ﴾ بذاته ﴿مَعَكُمْ﴾ بالاحاطة والقدرة ﴿أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ وفي أيّ مكان تمكّنتم من الأرض ، تحتها أو فوقها ، خلوتها أو جلوتها ﴿وَاللهُ﴾ العظيم حسب الوهيته ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الطاعة والعصيان ﴿بَصِيرٌ﴾ وشهيد ، فيجازيكم عليه بالثواب الجزيل والعقاب الشديد.

ثمّ أعاد سبحانه بيان سلطنته التامة المطلقة على جميع الموجودات بقوله : ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٠.

(٣) تقدّم في سورة سبأ : ٣٤ / ٢.

١٦٥

وَالْأَرْضِ﴾ تمهيدا لإثبات المعاد بقوله : ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿تُرْجَعُ﴾ وتردّ ﴿الْأُمُورُ﴾ كلّها من الأعمال الصالحة والطالحة ، فيجازيكم عليها ، فاستعدّوا للقائه باختيار الأعمال الصالحة وأحسنها عنده.

ثمّ استدلّ سبحانه على إعادة الخلق بإعادة كلّ من الليل والنهار إلى ما كانا عليه بعد إذهاب جزء من الليل وجعله من النهار وبالعكس بقوله : ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ﴾ بجعل ساعات منه جزءا من النهار حتى يصير خمس عشرة ساعة ﴿وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بجعل ساعات منه جزءا من الليل حتى يصير خمس عشرة ساعة ، ويعود كلّ منها إلى ما كان عليه قبل الادخال ، فمن كان قادرا على إذهاب ساعات من الليل حتّى يصير تسع ساعات ، ثمّ إعادة تلك الساعات الذاهبة حتّى يصير الليل مثل ما كان قبل وبالعكس ، قادر على إعادة خلق الانسان بعد صيرورته ترابا.

ثمّ بعد إحاطته سبحانه بالأعمال الجوارحية ، بيّن إحاطته بالأعمال الجوانحية بقوله : ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ﴾ ومحيط غاية الإحاطة ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ والمخفيّات في القلوب من العقائد الفاسدة ، والنيات السيئة ، والمكنونات القبيحة.

عن ابن عباس : اسم الله الأعظم في ستّ من أول سورة الحديد ، فإذا علّقت على المقاتل في الصفّ لم ينفذ إليه حديد (١) .

﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

 وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا

 بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٧) و (٨)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه دلائل توحيده وقدرته وعلمه ، وكونه مبدأ للخلق ومعادهم ، دعاهم إلى الايمان به وبرسوله بقوله : ﴿آمِنُوا﴾ أيّها الناس ﴿بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ عن صميم القلب ثمّ دعاهم إلى أهمّ الأعمال بقوله تعالى : ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ في سبيل الله ﴿مِمَّا﴾ أعطاكم الله من فضله ، و﴿جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ﴾ ونائبين عنه في التصرّف ﴿فِيهِ﴾ من غير أن تملكوه حقيقة ، فلا ينبغي أن يشقّ عليكم إنفاق ما هو في أيديكم بعنوان النيابة والوكالة عن مالكه الحقيقي ، كما لا يشقّ على أحد إنفاق مال الغير إذا أذن له فيه ، أو المراد جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم ، حيث إنّ ما بأيديكم من الأموال كان لغيركم زمانا ، ثمّ انتقل إليكم بالإرث وغيره ، فإذا بخلتم به ينتقل منكم إلى غيركم ، كما انتقل من غيركم إليكم ، فلا يبقى

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٣.

١٦٦

لكم عينه ولا منافعه ، وأما إذا انفقتم في سبيل الله يبقى لكم إلى الأبد ، بل يربو ويضاعف أضعافا كثيرة بشرط الإيمان الحقيقي ، كما نبّه سبحانه عليه بقوله : ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [ إيمانا ] خالصا لله ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ في سبيله وطلبا لمرضاته بعنوان الزكاة أو غيرها من الوجوه البرّية ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وثواب عظيم.

قيل : نزلت الآية في غزوة تبوك (١) .

ثمّ وبّخ سبحانه على ترك الايمان مع تأكّد مقتضياته بقوله : ﴿وَما لَكُمْ﴾ وأيّ فائدة أو عذر في ترك الايمان تتصوّرون ، ولذا ﴿لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ مع حكم العقل والعقلاء بوجوبه ؟ ﴿وَالرَّسُولُ﴾ المرسل من جانب الله لدعوتكم إلى الايمان ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ إليه ، ويبعثكم عليه بالحجج والمواعظ الحسنة ﴿لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ اللطيف بكم ، المنعم عليكم ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ الله ﴿مِيثاقَكُمْ﴾ والعهد الأكيد منكم على الايمان به في عالم الذرّ ، على ما قاله جمع من المفسرين (٢) ، أو بإقامة الحجج والبراهين القاطعة على توحيده ، ونصب الدلائل الواضحة ، وتمكينكم من النظر فيها ، وذلك أوثق من الحلف والعهد اللفظي ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بشيء لأجل الدليل عليه ، فتوحيد الله شيء لا يساويه شيء في كثرة الدليل عليه.

وقيل : يعني إن كنتم مصدّقين بالميثاق (٣) .

﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ

 اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ * وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ

 أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ

 بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٩) و (١٠)

ثمّ بيّن سبحانه دليل ربوبيته ورسالة رسوله ورجوع (٤) فائدة الايمان إليهم بقوله : ﴿هُوَ﴾ الرب اللطيف ﴿الَّذِي يُنَزِّلُ﴾ من قبله ، أو من اللّوح المحفوظ ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوسّط جبرئيل ﴿آياتٍ﴾ عظيمة الشأن ﴿بَيِّناتٍ﴾ وواضحات الدلالات على كلّ حقّ وحقيقة ، وإنّما فعل ذلك ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ أيّها الناس ، أو العرب ، أو الحاضرين في مكّة بسبب ذلك ﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ ظلمة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٧.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٤.

(٤) كذا الظاهر ، والكلمة غير واضحة في النسخة.

١٦٧

الكفر ، وظلمة الجهل ، وظلمة الأخلاق السيئة ﴿إِلَى النُّورِ﴾ نور العلم ، ونور الايمان في الدنيا ، ونور الرحمة والمغفرة والرضوان في الآخرة ﴿وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ﴾ أيّها الناس ﴿لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ لا يرضى بضلالكم وحرمانكم من الخيرات الدنيوية والاخروية ، بل يحبّ أن يهديكم إلى الكمالات النفسانية والمقامات العالية العلمية والأخلاقية في الدنيا ، والدرجات العالية في الجنّة والنّعم الدائمة في الآخرة.

ثمّ لا مهم سبحانه على ترك الانفاق في سبيله مع كثرة فوائده الدنيوية والاخروية بقوله : ﴿وَما لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ، وأيّ عذر تتصوّرون في ﴿أَلَّا تُنْفِقُوا﴾ ولا تصرفوا بعض أموالكم التي هي في الواقع ليست لكم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وتحصيل مرضاته ، ﴿وَ﴾ الحال أنّ ﴿لِلَّهِ﴾ وحده ﴿مِيراثُ﴾ أهل ﴿السَّماواتِ وَ﴾ أهل ﴿الْأَرْضِ﴾ بعد موتهم ، فانّه ينتقل بموتهم جميع ما في أيديهم إلى الله ، فإذا علم أنّه لا تبقى هذه الأموال في ملككم وتحت تصرّفكم ، بل تخرج من أيديكم لا محالة بالموت ، كان إخراجها بالانفاق الموجب للمدح والثواب العظيم خير في حكم العقل والعقلاء من ترك الانفاق وإبقائها حتّى تخرج قهرا من ملككم بالموت فتستحقّون اللعن والعقاب ، أو المراد إنّ أمركم بالانفاق ليس لحاجة الله إلى أموالكم ، فانّ لله جميع ما لأهل السماوات والأرض ، ينقل إليه بموتهم ، أوله ما يرثونه من الأموال في زمان حياتهم ، وإنّما يأمركم بالانفاق لحاجتكم إليه في الآخرة ، وكون فوائده لكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وجوب الانفاق وفضيلته ، بيّن أفضلية المبادرة إليه حين ضعف الاسلام بقوله : ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ﴾ أيّها المؤمنون في الفضيلة ﴿مَنْ أَنْفَقَ﴾ من أمواله في سبيل الله ونصرة دين الاسلام ﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ قيل : يعني فتح مكة (١) . وقيل : فتح الحديبية (٢)﴿وَ﴾ من ﴿قاتَلَ﴾ أعداء الله ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتلهم ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون المنفقون والمقاتلون من قبل الفتح ، وفي زمان ضعف الاسلام ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ وأرفع منزلة ، وأعلى رتبة عند الله في الدنيا والآخرة ﴿مَنْ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا﴾ وجاهدوا بأنفسهم في حال قوة الاسلام وكثرة المسلمين ﴿وَكُلًّا﴾ من الفريقين ﴿وَعَدَ اللهِ﴾ المثوبة ﴿الْحُسْنى﴾ والدرجة العليا في الجنّة.

ثمّ لمّا كان الوفاء بالوعد موقوفا على العلم بالأعمال وخصوصياتها ، أخبر سبحانه بعلمه بجميع أعمال العباد بقوله : ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال ظاهرة وباطنة ومزاياه وخصوصياته ﴿خَبِيرٌ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٨ ، مجمع البيان ٩ : ٣٥٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٦.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٥٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٦.

١٦٨

وبصير ، فيجازيكم بحسبه.

روي أنّ جماعة من الصحابة أنفقوا نفقات كثيرة حتّى قال ناس : هؤلاء أعظم أجرا من كلّ من أنفق قديما ، فنزلت الآية (١) ، وبيّن سبحانه أنّ النفقة قبل فتح مكة أعظم أجرا.

روى الفخر الرازي عن الكلبي أنّه قال : نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر ؛ لأنّه أول من أنفق المال على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل الله. قال عمر : كنت قاعدا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال ، فنزل جبرئيل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة خلّلها في صدره ، فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح (٢) ، ... انتهى.

في نقد كلام بعض العامة في فضيلة أبي بكر وردّه

أقول : ليث شعري من أين علم الكلبي أنّ أبا بكر أول من أنفق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّه لم يعلم له مال ، بل علم فقره ، فانّه كان معلم أطفال ، وكان أبوه من فقراء مكّة ، بل المعلوم أنّ أول من أنفق ماله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة ثم أبو طالب.

وقول عمر - على فرض صدقه - لا يدلّ على نزول الآية في فضل خصوص أبي بكر ، بل يدلّ على أنّ أبا بكر كان من المنفقين من قبل الفتح ، ومن المعلوم أنّ المنفقين قبل الفتح كثير من الصحابة ، وليس في الرواية أنّ الآية نزلت حين قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أنفق قبل الفتح.

وأعجب من ذلك أنّ الفخر حكى عن الواحدي أنّه قال : إنّ أبا بكر كان أوّل من قاتل على الاسلام ، وذلك لأنّ عليا في أول ظهور الاسلام كان صبيا صغيرا ، ولم يكن صاحب قتال ، وأما أبو بكر فإنّه كان شيخا مقدّما ، وكان يذبّ عن الاسلام حتى ضرب بسببه ضربا أشرف [ به ] على الموت (٣) ... انتهى. فإنّه حين كان عليّ عليه‌السلام صبيا لم يكن قتال ، ولم يكن ذبّ أبي بكر - على تقدير التسليم - إلّا باللسان ، وضربه حتى أشرف على الموت لا يدلّ على قتاله ، بل يدلّ على ضعفه وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه ، فضلا عن القتال ، كما أن قتل والد عمار لا يدلّ على قتاله.

وأعجب العجائب أنّهم يتمسّكون بهذه الترّهات على فضيلة أبي بكر ، ويغمضون على الروايات المتواترة الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام على جميع الصحابة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويؤولون الروايات الناصّة على خلافته وإمامته.

ثمّ اعلم أنّ تقديم ذكر من أنفق قبل الفتح على من قاتل لا يدلّ على تقدّم صاحب الانفاق على صاحب القتال ، كما ادّعاه الفخر الرازي ؛ لأنّ الكلام في الحثّ على الانفاق ، وإنّما ذكر صاحب القتال

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢١٩.

١٦٩

هنا لأهميته وشدّة الاعتناء به ، فما قال الفخر - من أنّ صاحب الانفاق أبو بكر ، وصاحب القتال عليّ عليه‌السلام ، وفي تقديم صاحب الإنفاق إيماء إلى تقديم أبي بكر - من ترّهات الكلام.

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى

 الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ

 جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ

 الْعَظِيمُ (١١) و (١٢)

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق في نصرة المسلمين ومواساة فقرائهم بقوله : ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يأخذ عوضه ، فإنّه كمن ﴿يُقْرِضُ اللهَ﴾ ماله ﴿قَرْضاً حَسَناً﴾ وخالصا لوجه الله ، أو يقرض الله مالا حسنا ، وهو المال الحلال الطيب ﴿فَيُضاعِفَهُ﴾ الله ، ويزيد ذلك المال أمثاله ﴿لَهُ﴾ من فضله ﴿وَلَهُ﴾ مضافا إلى ذلك ﴿أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ وثواب مرضيّ لا يوصف بالبيان.

في فضيلة الانفاق في سبيل الله

روي أنه لمّا نزلت الآية جعل أبو الدّحداح يتصدّق بنصف كلّ شيء يملكه في سبيل الله ، حتى إنّه خلع إحدى نعليه ، ثمّ جاء إلى امّ الدّحداح فقال : إنّي بايعت ربّي فقالت : ربح بيعك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كم من نخلة مدلّاة عذوقها في الجنّة لأبي الدّحداح » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله تعالى لم يسأل خلقه من حاجة به إلى ذلك ، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه » (٢) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « نزلت في صلة الإمام » (٣) .

ثمّ عيّن سبحانه يوم تأدية ذلك القرض بقوله : ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ يا محمد ، أو يا من له شأنية الرؤية ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ في ذلك اليوم إذا خرجوا من قبورهم ، يسعون إلى المحشر و﴿يَسْعى﴾ ويسير سريعا ﴿نُورُهُمْ﴾ الحاصل لهم بإيمانهم ، ومعرفتهم بالله ، وأعمالهم الصالحة ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وفي قدّامهم ﴿وَبِأَيْمانِهِمْ﴾ لأنّهم أصحاب اليمين ، ويكون مسيرهم إلى الجنّة من جانب اليمين ، كما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّ كلّ مثاب يحصل له النور على قدر عمله » (٤) . وقيل : إنّ المراد بالنور ما يهتدى به إلى الجنّة (٥) .

ويقول لهم الملائكة : أيّها المؤمنون ﴿بُشْراكُمُ﴾ والخبر الذي يسرّ قلوبكم ، هو أنّ لكم ﴿الْيَوْمَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٥٩.

(٢) الكافي ١ : ٤٥١ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٤.

(٣) الكافي ١ : ٤٥١ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٤.

(٤و٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٢.

١٧٠

جَنَّاتٌ﴾ كثيرة الأشجار ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ حال كونكم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، لا تخرجون منها طرفة عين ﴿ذلِكَ﴾ الثواب العظيم الذي أعدّه الله لكم ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والنّيل بأعلى المطالب وأقصى المقاصد.

﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ

 ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ

 وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين المخلصين ، بيّن سوء حال المنافقين بقوله : ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ﴾ لمّا رأو أنفسهم في ظلمة لا يمكنهم المشي فيها ، ورأوا المؤمنين تتلألأ وجوههم نورا يمشون بنورهم كالبرق الخاطف ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب : يا أيّها المؤمنون ﴿انْظُرُونا﴾ واستقبلونا بوجوهكم ، أو انتظرونا ﴿نَقْتَبِسْ﴾ ونستضيء ﴿مِنْ نُورِكُمْ﴾ ونمشي فيه معكم ﴿قِيلَ﴾ تخييبا (١) لهم وتهكّما بهم من جهة المؤمنين : أو الملائكة أيّها المنافقون والمنافقات ، ليس لكم من النور الذي حصّلناه في الدنيا بالايمان الخالص والأعمال الحسنة حظّ ونصيب ، فإن أردتم النور ﴿ارْجِعُوا﴾ إلى الدنيا التي خلّفتموها ﴿وَراءَكُمْ﴾ إن أمكنكم الرجوع إليها ﴿فَالْتَمِسُوا﴾ وحصّلوا لأنفسكم بالايمان الخالص والعلم والمعرفة ﴿نُوراً﴾ كنورنا تمشونا فيه.

قيل : إنّ الناس يكونون في ظلمة شديدة ، ثمّ المؤمنون يعطون الأنوار ، فإذا أسرع المؤمن في الذّهاب ، قال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم. فيقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. وهي خدعة خدع بها المنافقون. كما قال الله تعالى : ﴿يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ(٢) فيرجعون إلى المكان الذي قسّم فيه النور ، فلا يجدون شيئا فينظرون إليهم (٣) .

﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ﴾ وبين المؤمنون ﴿بِسُورٍ﴾ وحائط عريض مرتفع ، كسور البلد ﴿لَهُ بابٌ﴾ يدخل فيه المؤمنون ، وداخل ذلك السّور الذي يلي المؤمنين و﴿باطِنُهُ﴾ وجوّه (٤)﴿فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ الالهية ، وهي الجنّة ﴿وَظاهِرُهُ﴾ وخارجه الذي يلي المنافقين ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ يأتيهم ﴿الْعَذابُ﴾ وحاصله : أنّ بين الجنّة والنار سورا وحائطا ، قيل : هو حجاب الأعراف ، له باب يدخل المؤمنون من ذلك الباب الجنة ،

__________________

(١) في النسخة : تجنيتا.

(٢) النساء : ٤ / ١٤٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦١.

(٤) جوّ كلّ شيء : باطنه وداخله.

١٧١

والمنافقون يمنعون من الدخول ، ويبقون في العذاب والنار (١) .

﴿يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ

 وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ

 مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ

 الْمَصِيرُ (١٤) و (١٥)

فلمّا رأى المنافقون أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة ﴿يُنادُونَهُمْ﴾ ويقولون لهم : أيها المؤمنون ﴿أَلَمْ نَكُنْ﴾ في الدنيا ﴿مَعَكُمْ﴾ في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات ؟ فأجابهم المؤمنون و﴿قالُوا بَلى﴾ كنتم معنا في إظهار الايمان ، والاشتغال بالعبادات ﴿وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ﴾ وأضررتم ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بالكفر وارتكاب المعاصي ، ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالتوبة ، وأخّرتموها ، كما عن ابن عباس (٢) ، أو تربّصتم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الموت ، وقلتم : يوشك أن يموت محمد فنستريح منه (٣) . أو دائرة السوء ، فتلتحقوا بالكفار ، وتتخلّصوا من النفاق (٤)﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ وشككتم في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة البعث والقيامة ، وصدق وعيد الله بالعذاب ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ﴾ وشغلتكم أباطيل الدنيا وشهواتها ، وخدع الشيطان ﴿حَتَّى جاءَ﴾ كم ﴿أَمْرُ اللهِ﴾ وقضاؤه بموتكم ﴿وَغَرَّكُمْ﴾ وخدعكم ﴿بِاللهِ﴾ وأطمعكم في عفوه الشيطان ﴿الْغَرُورُ﴾ الخداع ﴿فَالْيَوْمَ﴾ الذي تكونون فيه أيّها المنافقون هو يوم القيامة ﴿لا يُؤْخَذُ﴾ ولا يقبل ﴿مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ ومال تدفعون به العذاب عن أنفسكم ﴿وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظاهرا وباطنا بل ﴿مَأْواكُمُ﴾ ومرجعكم ﴿النَّارُ﴾ ومسكنكم جهنّم ﴿هِيَ مَوْلاكُمْ﴾ ومصيركم ، كما عن ابن عباس (٥) . أو أولى بالتصرّف فيكم ، والسّكونة لكم ﴿وَ﴾ هي ﴿بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وساء المنقلب لكم.

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا

 كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ

 فاسِقُونَ (١٦)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٦ ، مجمع البيان ٩ : ٣٥٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٢٧.

١٧٢

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة حثّ المؤمنين على الخشية والخشوع لله بقوله : ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ وأما حان ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعد أن عمّروا طويلا في الايمان ، وشاهدوا آثار عظمة الله ، وعلموا عظم عصيانه وشدّة عقابه ﴿أَنْ تَخْشَعَ﴾ وتضرع وترقّ ﴿قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ والتنبيه لعظمته ، فيسارعوا إلى طاعته بلا توان وفتور ، أو لموعظته ﴿وَما نَزَلَ مِنَ﴾ القرآن ﴿الْحَقِ﴾ والصدق ، فيبادرون إلى العمل بما فيه من الأحكام التي منها الانفاق في سبيل الله.

روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكة ، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ، ففتروا عمّا كانوا عليه من الخشوع ، فنزلت (١) .

وقيل : إنّه لمّا بدا في الصحابة شيء من المزاح فنزلت (٢) .

عن ابن عباس : أنّ الله استبطأ خشوع قلوب فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن(٣) .

وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين (٤) .

﴿وَ﴾ لم يأن أن ﴿لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ﴾ كاليهود والنصارى ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ والزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم ﴿فَقَسَتْ﴾ وصلبت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ وذهب عنهم الخوف ورقة القلب التي كانت تأتيهم بتلاوة التوراة والانجيل ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ اليوم لشدّة قساوة قلوبهم ﴿فاسِقُونَ﴾ وخارجون عن حدود دينهم ، ورافضون لما في كتبهم من الأحكام ، وفيه إشعار بأنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق والخروج من الدين في الآخر.

﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *

 إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ

 أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٧) و (١٨)

ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الخشوع ، بتمثيل القلوب في إحيائها بالخشوع بالأرض الميتة التي تحيا بالمطر بقوله : ﴿اعْلَمُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ﴾ بالمطر الذي ينزل من السماء ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ ويبسها ، فكذلك القلوب تحيا بالخشوع والذكر وتلاوة القرآن بعد موتها بالقساوة.

وقيل : رغّب سبحانه في الخشوع والخضوع بالتذكير بإحياء الأرض ببعث الأموات (٥)﴿قَدْ بَيَّنَّا﴾ وأوضحنا ﴿لَكُمُ﴾ أيّها الناس ﴿الْآياتِ﴾ التي فيها بيان موجبات سعادتكم في الدارين ﴿لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٣.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٥.

١٧٣

تَعْقِلُونَ﴾ وتفهمون ما فيها ، وتعملون به ، وتفوزون بالدرجات العالية ، والراحة الأبدية ، والنّعم الدائمة وقيل : يعني كي تكمل عقولكم (١) .

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق لوجهه بقوله : ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ﴾ والمنفقين أموالهم في وجوه الخير ﴿وَالْمُصَّدِّقاتِ﴾ والمنفقات ﴿وَ﴾ هم ﴿أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ وسلّموا أموالهم إلى الله بإنفاقهم في سبيله برجاء العوض والأجر ﴿يُضاعَفُ﴾ ذلك المال المنفق ﴿لَهُمْ﴾ ويتزايد مقداره في ميزانهم على ما كان في الدنيا مرّات ﴿وَلَهُمْ﴾ مع التضاعف ﴿أَجْرٌ﴾ وثواب ﴿كَرِيمٌ﴾ مرضيّ. وقيل : إنّ المصدّقين بمعنى الذين تصدّقوا ، ولذا صحّ عطف الجملة الفعلية عليه (٢) .

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ

 أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين ، بيّن حال المؤمنين والكفّار المتظاهرين بالكفر بقوله تبارك وتعالى : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿بِاللهِ وَ﴾ بجميع ﴿رُسُلِهِ﴾ من آدم إلى الخاتم ﴿أُولئِكَ﴾ العالون في الشأن والمنزله ﴿هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ﴾ والكاملون في الايمان ، أو بمنزلة المستشهدين في سبيل الله في عظمة الأجر ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وفي حكمه ونظره.

عن السجاد عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : « ما من شيعتنا إلّا صديق شهيد. قيل : أنّى يكون ذلك ، وعامّتهم يموتون على فرشهم ؟ فقال عليه‌السلام : أما تتلو كتاب الله في الحديد ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ﴾ قال : « لو كان الشهداء كما يقولون ، كان الشهداء قليلا»(٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « العارف منكم هذا الأمر ، المنتظر له ، المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد والله مع القائم بسيفه » ثمّ قال : « بل والله كمن جاهد مع رسول الله بسيفه » ثم قال الثالثة : « بل والله كمن استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله ».

قيل : وأيّة آية ؟ قال : « قول الله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...﴾ الآية » ثمّ قال : « صرتم والله الصديقون والشهداء عند ربكم » (٤) .

أقول : حاصل الروايات أنّ المؤمن بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنه الولاية بمنزلة الصدّيقين والشّهداء في المعركة لنصرة الإسلام ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ الموعودان لهم المعروفان بالعظمة والكمال.

__________________

(١) تفسير الصافي ٥ : ١٣٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٩.

(٣) المحاسن : ١٦٣ / ١١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٦.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٦.

١٧٤

ثمّ بيّن حال الكفّار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسله ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة ﴿أُولئِكَ﴾ البعداء عن الرحمة ﴿أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾ وملازمو النار ، لاخلاص لهم منها.

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي

 الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ

 يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ

 الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)

ثمّ لمّا كان الكفر والنفاق بسبب حبّ الدنيا وشهواتها ، أخبر سبحانه بحقارتها وسرعة زوالها بقوله: ﴿اعْلَمُوا﴾ أيّها الناس ﴿أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ ومشتهياتها التي لا يراد بها التوصّل إلى السعادة الاخروية ﴿لَعِبٌ﴾ وعمل يتعب الانسان نفسه فيه بغير غرض عقلاني ، كعمل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم فيه بغير فائدة ﴿وَلَهْوٌ﴾ واشتغال باللذائذ السريعة الزوال ، السيئة العاقبة ، والوخيمة المآل ، الموجبة للحسرة والندامة ، كأشغال الشّبّان التي ليس غرضهم منها إلّا التذاذ النفس مع الغفلة عن وخامة عاقبتها ﴿وَزِينَةٌ﴾ وتحسين للظاهر في الأوهام مع عدم حقيقة وواقعية له ، كلبس الملابس الفاخرة ، وركوب المراكب الفارهة ، والسكونة في المساكن البهية الحسنة ، ونظائرها كتزيين النّسوان صورهنّ للرجال ﴿وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ بالمزايا الجسمانية الزائلة بالأمراض والموت ، كالقوة والقدرة والجمال والنسب والرئاسة ونظائرها ﴿وَتَكاثُرٌ﴾ وتزايد ﴿فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ﴾.

ومن الواضح أنّ هذه الامور الجامعة للمشتهيات النفسانية الدنيوية ، ممّا يستحقرها العقل السليم ، ولا يعتني به العاقل الفهيم ، لسرعة زوالها ، وعدم فائدة مهمة لها ، مع استلزام توجّه النفس إليها فوات فوائد عظيمة باقية.

ثمّ أكّد سبحانه حقارة المشاغل الدنيوية السريعة الزوال ، المفوّتة للمنافع الاخروية بضرب مثل لسرعة زوال الدنيا بقوله : ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ ونظير مطر نافع أنبت بنزوله من الأرض اليابسة النباتات النافعة بحيث ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ والزارعين الذين يكفرون ويسترون البذور بالتّراب ﴿نَباتُهُ﴾ وما يخرج من الأرض بسببه.

وقيل : إنّ المراد بالكفار الكافرون بالله ، فانّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا (١) . بل إعجابه مختصّ بهم ، لأنّ نظرهم إلى المحسوسات ، وأمّا المؤمنون فإنّهم لا يعجبهم نموّه وخضرته ، وإنّما يعجبهم قدرة

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٤ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٧٠.

١٧٥

خالقهم وربّهم.

﴿ثُمَ﴾ بعد النمو والخضرة والنّظارة ﴿يَهِيجُ﴾ وييبس وتزول خضرته ونظارته ﴿فَتَراهُ﴾ أيّها الرائي بعد مدّة قليلة ﴿مُصْفَرًّا﴾ بعد ما رأيته ناضرا مونقا ﴿ثُمَّ يَكُونُ﴾ بعد اصفراره ويبسه ﴿حُطاماً﴾ ومنكسرا ومتفتّتا ﴿وَ﴾ يكون ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ لمن أعجبه الدنيا وأقبل عليها ، ولم يطلب بها الآخرة ﴿عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ لا يقادر قدره ﴿وَ﴾ لمن طلب الآخرة بها ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنَ اللهِ﴾ العظيم الغفور ﴿وَرِضْوانٌ﴾ منه تعالى ، المستلزم لدخول الجنّة والتنعّم بالنّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة شرح المشاغل الدنيوية وحاصل المثل الذي ضرب للدنيا ﴿وَ﴾ زينتها بقوله: ﴿مَا الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ ولذائذها ﴿إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ وانتفاع يخدع الانسان الجاهل به ، وفيه غاية تحقير الدنيا ، والحثّ على الإعراض عنها ، وتعظيم الآخرة.

﴿سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ

 لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

 الْعَظِيمِ (٢١)

ثمّ حثّ على الجدّ في تحصيل ما ينتفع به فيها بقوله : ﴿سابِقُوا﴾ أيّها المؤمنون ، واجتهدوا في التقدّم على الأقران ، وسارعوا مسارعة السابقين في المضمار ﴿إِلى﴾ موجبات ﴿مَغْفِرَةٍ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وخالقكم اللطيف بكم ، وإتيان الأعمال الموجبة للدخول في بستان ﴿وَجَنَّةٍ﴾ وسيعة ﴿عَرْضُها﴾ وسعتها ﴿كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ وسعتهما إذا بسطا ﴿أُعِدَّتْ﴾ وهيئت تلك الجنّة من قبل الله تعالى ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ جميعا ، ولا يقول : نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض.

عن ابن عباس : إنّ الجنان أربعة ، قال الله تعالى : ﴿وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ(١) ثمّ قال : ﴿وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ(٢) فذكر الله هنا تشبيه واحدة من الجنات الأربع في العرض بالسماوات السبع(٣) .

وعنه أيضا : أنّ لكلّ من المطيعين جنّة بهذه الصفة (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أن أدنى أهل الجنّة منزلا من لو نزل به الثقلان الجنّ والانس لوسعهم طعاما وشرابا » (٥) .

﴿ذلِكَ﴾ الثواب العظيم المذكور ﴿فَضْلُ اللهِ﴾ وإنعامه ﴿يُؤْتِيهِ﴾ ويعطيه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ إعطاءه إياه

__________________

(١) الرحمن : ٥٥ / ٤٦.

(٢) الرحمن : ٥٥ / ٦٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٤.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٧.

١٧٦

من عباده المؤمنين ﴿وَاللهُ﴾ العظيم ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ والإحسان الجسيم.

في الرّد على الأشاعرة

ثمّ لا يخفى أنّ استحقاق الأجر بالعمل لا يوجب على الله إعطاء الجنة بهذه الصفة ، فإعطاؤها فضل من الله ، مع أنّ الفضل لا يكون إلّا في المحلّ القابل ، والمراد بالاستحقاق القابلية التي لا يجوز البخل مع وجودها ، وبالوجوب على الله كونه مقتضى الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه ، فظهر أنّ استدلال الاشاعرة بالآية على عدم استحقاق العبد على الله شيئا - وأنّ كلّما يعطي الله بإزاء العمل تفضّل منه تعالى ، يجوز له في حكم العقل منعه والبخل به - فاسد جدّا.

﴿ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ

 نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما

 آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٢) و (٢٣)

ثمّ لمّا كان الحزن على الامور الدنيوية والفرح بها شاغلا للقلب عن الإقبال على العبادة والتوجّه إلى الآخرة ، نبّه سبحانه على أنّ الحوادث كلّها بتقدير الله بقوله : ﴿ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ ولا حدث عن حادث ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ من قحط أو فساد ﴿وَلا﴾ عارضة ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من (١) المرض والجرح والصحّة والغنى والفقر وغيرها ﴿إِلَّا﴾ وهو مكتوب ﴿فِي كِتابٍ﴾ مكنون ولوح محفوظ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ﴾ نخلق هذه الحوادث و﴿نَبْرَأَها﴾ ونوجدها. وقيل : يعني من قبل أن نوجد الأنفس ، أو نوجد الأرض (٢) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ ملك الأرحام يكتب كلّ ما يصيب الانسان في الدنيا بين عينيه ، فذلك قول الله عزوجل : ﴿ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ الآية » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام في رواية : « كتابه في السماء علمه [ بها ] ، وكتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر وفي غيرها » (٤) .

﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور من كتب الحوادث من الخير والشرّ قبل إيجادهما ﴿عَلَى اللهِ﴾ العالم بالامور ﴿يَسِيرٌ﴾ وسهل ، وذلك التقدير وكتب المقدرات قبل وجودها والإخبار بها ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا﴾ ولأجل أن لا تحزنوا ﴿عَلى ما فاتَكُمْ﴾ ولم يقبل إليكم ، أو ذهب منكم من النّعم الدنيوية كالمال والجاه

__________________

(١) زاد في النسخة : الفقر و.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٧.

(٣) علل الشرائع : ٩٥ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٧.

١٧٧

والصحّة والأمان ونظائرها ﴿وَلا تَفْرَحُوا﴾ ولا تسرّوا ﴿بِما آتاكُمْ﴾ الله وأعطاكم منها ، فانّ من علم أنّ إقبال الدنيا وإدبارها بتقدير الله لا بسعي الانسان وكدّه ، لا يشتدّ جزعه على إدبارها ، لعلمه بكونه لصلاح أنفع منه ، ولا فرحه بأقبالها لتجويزه ذهابه في أسرع وقت ، أو كونه امتحانا واستدراجا.

وعن بعض الحكماء : لا التأسّف يردّ فائتا ، ولا الفرح يقرّب معدوما ويديم آتيا (١) .

وعن ابن مسعود : لأن أمسّ جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت ، أحبّ إلي من أن أقول لشيء لم يكن ليته كان (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الزّهد كلّه بين كلمتين في (٣) القرآن قال الله تعالى : ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ﴾ ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزّهد بطرفيه » (٤) .

وعن السجاد عليه‌السلام : « ألا إنّ الزّهد في آية من كتاب الله » ثمّ تلا هذه الآية (٥) .

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الأسى المذموم هو المانع عن التسليم لأمر الله ، والفرح المبغوض هو الفرح الموجب للاختيال والفخر بقوله : ﴿وَاللهُ لا يُحِبُ﴾ بل يبغض ﴿كُلَ﴾ شخص ﴿مُخْتالٍ﴾ ومتكبّر ﴿فَخُورٍ﴾ ومتطاول على عباده ، فانّ من عظمت عنده الحظوظ الدنيوية وفرح بها ، اختال وافتخر بها لا محالة ، وأمّا الفرح بنعمة الله والشّكر عليها فغير مذموم.

عن ابن عباس ، قال : ليس أحد إلّا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا ، وللخير شكرا (٦) .

﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

 * لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ

 بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

 وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٤) و (٢٥)

ثمّ لمّا كان التكبّر والتطاول على الناس بالأموال وكثرة النّعم الدنيوية لعظمتها في نفسه وشدّة حبّه لها ملازما للبخل بها ، وصف سبحانه المختال والفخور بقوله : ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بأموالهم ، ولا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٧٦.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٧٦.

(٣) في نهج البلاغة : من.

(٤) نهج البلاغة : ٥٥٣ / ٤٣٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٨.

(٥) الكافي ٢ : ١٠٥ / ٤ ، الخصال : ٤٣٧ / ٢٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٩.

١٧٨

ينفقونها على الفقراء ، وفي سبيل الله ، لحبّهم لها ، ولعزّتها عندهم ، ثمّ لا يقنعون ببخلهم ، بل يبعثون ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ بأموالهم وإمساكها وعدم صرفها في وجوه الخير ، وهذا غاية الذمّ ﴿وَمَنْ يَتَوَلَ﴾ ويعرض عن الإنفاق ، أو عن إطاعة أوامر الله ونواهيه ﴿فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ﴾ عن إنفاقهم وطاعتهم لا يضرّه بخلهم وعصيانهم ، ولا ينفعه إنفاقهم وشكرهم وطاعتهم ﴿الْحَمِيدُ﴾ في ذاته ، المحمود في فعاله التي منها فتح أبواب نعمه على البخلاء ، لأنّ فيه نظام العالم ، وامتحان الخلق ، ووبال بخلهم عائد إليهم.

ثمّ لمّا كان نظام العالم بالعلم والقواعد المقرّرة لحفظ النظام وقيام العدل وقوّة دفاع الظالمين ، بيّن سبحانه إتمام نعمه على الناس حثّا لهم على طاعته بقوله : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا﴾ إليكم أيّها الناس ﴿رُسُلَنا﴾ في كلّ عصر وقرن ، مستدلّين على رسالتهم من قبلنا ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الظاهرات ، والحجج الباهرات ، لئلا يشكّ أحد في صدق دعواهم الرسالة ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ إتماما للّطف ﴿مَعَهُمُ الْكِتابَ﴾ السماوي الذي فيه بيان كلّما يحتاجون إليه من العلوم المربوطة بمعاشهم ومعادهم. عن الصادق عليه‌السلام : « الكتاب الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كلّ شيء الذي كان مع الأنبياء ... » الخبر (١) . ﴿وَالْمِيزانَ﴾ وما يعيّن به الحقوق. روي أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ، وقال : مر قومك يزنوا به (٢) . وقيل : إنّ المراد بالميزان العدل والانصاف (٣) . القمي ، قال : الميزان الامام (٤) .

﴿لِيَقُومَ النَّاسُ﴾ في معاملاتهم وحقوقهم ﴿بِالْقِسْطِ﴾ والعدل ، ولا يظلم أحدا في إيفاء حقوقهم واستيفائها ، كما أنّه تعالى قائم في عباده بالقسط والعدل ، فوفاهم حقوقهم بلا حيف ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ من السماء ﴿الْحَدِيدَ﴾ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعني السلاح » (٥) الذي ﴿فِيهِ بَأْسٌ﴾ وعذاب ﴿شَدِيدٌ﴾ على من لم يعمل بالكتاب وأخسر الميزان.

وقيل : يعني قوّة شديدة عليهم ، فان آلات الحرب كلّها من حديد (٦) .

عن ابن عمر : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ؛ أنزل الحديد ، والنار ، [ والماء ] ، والملح » (٧) .

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٣٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٨.

(٢) جوامع الجامع : ٤٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٩ ، تفسير الرازي ٩ : ٢٤١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢١٢.

(٣) تفسير جوامع الجامع : ٤٨٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٧٤ و٣٥٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٩.

(٥) التوحيد : ٢٦٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٩.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٣٨٠.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٣٦٣ ، تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٩ ، وتفسير روح البيان ٩ : ٣٨٠ ، ولم ينسباه إلى أحد من الرواة.

١٧٩

وعن ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد : السّندان ، والكلبتان ، والميقعة (١) أو المقمعة - والمطرقة ، والإبرة (٢) .

وقيل : إنّ الإنزال التهيئه (٣) . وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنزاله خلقه » (٤) .

﴿وَ﴾ فيه مع ذلك ﴿مَنافِعُ﴾ كثيرة ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة ، فانّ انتظام العالم ومصالحه بالزراعة والحياكة والبناء والسلطنة ، ولا يتمّ شيء منها إلّا بالحديد ، فلو لم يكن الحديد لاختلّ جميع مصالح العالم ، ولذلك جعله الله تعالى بجوده ورحمته سهل الوجدان كثير الوجود ليستعملوه ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ ويميّز في الخارج ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ ومن يحامي عن دينه وأنبيائه بالسيوف والسّنان والنّبال ، مع أنّه تعالى ﴿بِالْغَيْبِ﴾ والستر عن نظر ذلك الناظر ، وهو مؤمن به بالدلائل و﴿إِنَ﴾ كان ﴿اللهُ﴾ العظيم لا يحتاج إلى نصرتكم وحمايتكم عن دينه ورسله ؛ لأنّه ﴿قَوِيٌ﴾ بذاته شديد البطش ﴿عَزِيزٌ﴾ وغالب غير مغلوب ، وإنّما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه ، وعود نفعه إليكم في العاجل والآجل.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ

 وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

 وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً

 ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها

 فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) و (٢٧)

ثمّ لمّا أمر بنصرة رسله ، ذكر عظمة شأن بعض اولى العزم منهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً﴾ الذي هو أول اولي العزم من الرسل ﴿وَإِبْراهِيمَ﴾ الذي هو الثاني منهم ﴿وَجَعَلْنا﴾ وقرّرنا ﴿فِي ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ ونسلهما طبقة بعد طبقة ﴿النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ﴾ ولم يك نبي إلّا من نسلهما ، ولم ينزل كتاب إلّا إليهم ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ﴾ إلى الحقّ مؤمن بالكتاب ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ وخارجون عن طاعة الله ؛ إما بالكفر ، وإمّا بالعصيان ﴿ثُمَ﴾ لمّا مات نوح وإبراهيم ﴿قَفَّيْنا﴾ واتّبعنا ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ وأعقابهم ﴿بِرُسُلِنا﴾ كهود وصالح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأضرابهم واحدا بعد واحد حتّى انتهى إلى زمان عيسى عليه‌السلام ﴿وَقَفَّيْنا﴾ واتبعناهم ﴿بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ﴿وَآتَيْناهُ

__________________

(١) الميقعة : خشبة القصّار يدقّ عليها ، والمسنّ الطويل يحدّد به ، والمطرقة.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢١٢ ، وتفسير روح البيان ٩ : ٣٧٩ ، وقد نسباه إلى القيل.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٤٢.

(٤) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٩ : ١٣٩.

١٨٠