نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

في تفسير سورة الواقعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ * خافِضَةٌ رافِعَةٌ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الرحمن المبتدئة بالاعلان بسعة الرحمة ، ثمّ عظمة القرآن المحتوية لبيان النّعم الدنيوية والاخروية ، وبيان فناء الموجودات الجسمانية ، وأهوال القيامة ، وكون الناس فيها فرقا ثلاث : المجرمين ، والمقرّبين ، والمؤمنين الأبرار ، نظمت بعدها سورة الواقعة المبتدئة بإظهار المهابة ببيان أهوال القيامة ، وبيان فناء الدنيا وخرابها فيها ، وكون الناس فيها فرقا ثلاث : السابقين المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وغير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة ، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ شرع سبحانه فيها ببيان أهوال القيامة الموجبة للخوف عن مقامه وإرعاب القلوب من مهابته بقوله : ﴿إِذا وَقَعَتِ﴾ القيامة التي هي ﴿الْواقِعَةُ﴾ لا محالة ، أو هي الواقعة العظيمة التي من عظمتها وشدائدها لا يتصوّر لها نظير ، أو الزلزلة التي تضع لهو لها كلّ ذات حمل حملها. قيل : إنّ جواب ( إذا ) محذوف ، والتقدير : تكون أهوال وشدائد (١) .

﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها﴾ وحدوثها نفس ﴿كاذِبَةٌ﴾ ومنكرة إيّاها لشهودها وشهود أهوالها ، أو لا يوجد نفس كاذبة لأجل شدّتها وأهوالها ، ومن عظمتها أنّها ﴿خافِضَةٌ﴾ لأقوام ، و﴿رافِعَةٌ﴾ لآخرين عن ابن عباس : تخفض أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا ، وترفع أقواما كانوا متّضعين فيها (٢) .

وعن السجاد عليه‌السلام : « ﴿ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ﴾ يعني القيامة ﴿خافِضَةٌ﴾ خفضت والله بأعداء الله إلى النار ﴿رافِعَةٌ﴾ رفعت والله أولياء الله إلى الجنّة » (٣) .

وقيل : إنّه بيان لنفي وجود الكاذب في ذلك اليوم (٤) ، والمعنى : ليس فيها نفس كاذبة تغيّر الكلام

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٠ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٨٨.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٢٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣١٦.

(٣) الخصال : ٦٤ / ٩٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١١٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤١.

١٤١

وتخفض كلمة أو ترفعها ، أو المراد أنّ تلك الواقعة تخفض بعض الأشياء ، وترفع بعضا ، تحطّ الأشقياء ، وترفع السّعداء ، وتزيل الأجرام عن مقارّها بنثر الكواكب وإسقاط السماء كسفا ، وتسيير الجبال في الجو كالسّحاب ، وصيرورتها بعد الرفع عن الأرض [ كثيبا ] مهيلا منبسطا ، وصيرورة الأرض كثيبا مرتفعا ، وإنّما قدّم الخفض للتشديد والتهويل.

﴿إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا * فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ

 أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ

 ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (٤) و (١١)

ثمّ بيّن سبحانه وقت كون القيامة خافضة رافعة بقوله : ﴿إِذا رُجَّتِ﴾ وزلزلت ﴿الْأَرْضُ رَجًّا﴾ وزلزالا عظيما ، وحرّكت تحريكا شديدا بحيث لا يبقى فوقها بناء ﴿وَبُسَّتِ﴾ وفتّتت ﴿الْجِبالُ﴾ أو سيقت وسيّرت من أماكنها ﴿بَسًّا﴾ وتفتينا عيجبا ، أو سوقا وسيرا سريعا ﴿فَكانَتْ﴾ وصارت جميع الجبال بسبب ذلك التفتت أو السوق ﴿هَباءً﴾ أو غبارا مرتفعا ، أو كالذرّات التي ترى في شعاع الشمس ، أو ما يتطاير من شرر النار ، أو ما ذرّت الريح من الأوراق ﴿مُنْبَثًّا﴾ ومتفرّقا ومنتشرا في الجوّ.

قيل : إنّ الله تعالى يبعث ريحا ، فتحمل الأرض والجبال ، وتضرب بعضها ببعض ، ولا تزال كذلك حتى تصير غبارا (١) .

﴿وَكُنْتُمْ﴾ أيّها الناس ، من الأولين والآخرين في ذلك اليوم ﴿أَزْواجاً﴾ وأصنافا ﴿ثَلاثَةً﴾ حسب اختلاف عقائدهم وأعمالهم في الدنيا ، أما الصنف الأول ﴿فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ والبركة والسعادة ، أو أهل المنزلة الرفيعة ، أو ذوي الصحائف التي يعطونها بأيمانهم ، أو الجماعة الذين (٢) يقومون عن يمين العرش ، أو كانوا على يمين آدم في عالم الذّر ويوم الميثاق ، وما تدرون أيّها العقلاء ﴿ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ وأيّ شيء هم في الفخامة وعلوّ الرّتبة ؟ فتتعجبون من حسن حالهم ، لكونهم مؤمنين صالحين ، وإن كان لهم تبعات يقومون بها للحساب ﴿وَ﴾ الصنف الثاني ﴿وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ﴾ والشرّ والشقاوة ، وأهل الذّلة والشراسة والنّكبة والدّناءة و﴿ما﴾ تدرون ما ﴿أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ﴾ وأيّ شيء هم في سوء الحظّ وحطّ المنزلة ؟ فتتعجبون من سوء حالهم لكونهم كفّارا طغاة مستحقيّن للعذاب ﴿وَ﴾ الثالث ﴿السَّابِقُونَ﴾ والمبادرون إلى الايمان والطاعة ، والمسارعون إلى الخيرات ، وهم ﴿السَّابِقُونَ﴾ والمبادرون إلى الجنة بغير حساب ، والمسارعون إلى الدرجات العاليات.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣١٧.

(٢) في النسخة : التي.

١٤٢

وقيل : إنّ المراد أنّ ﴿السَّابِقُونَ﴾ هم السابقون المعروفون بحسن الحال (١) . أو هم الذين لا يمكن الإخبار عن عظمتهم إلّا بأن يقال : هم السابقون ، لكون حسن حالهم وعلوّ مقامهم فوق أن يحيط به علم البشر (٢) . وقيل : إنّ ﴿السَّابِقُونَ﴾ الثاني تأكيد للأول (٣) . وقيل : إنّ المعنى : السابقون ما السابقون ؟ فحذفت كلمة ( ما ) لدلالة الجملتين السابقتين عليها (٤) . وقيل : إنّ ( السابقون ) الثاني مبتدأ ، وخبره قوله : ﴿أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(٥) إلى الله بأعلى درجات القرب الذي يكون للبشر ، أو المقربون إلى العرش ، لأنّ درجاتهم فوق درجات غيرهم في الجنّة التي سقفها عرش الرحمن ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فانّه أوسط الجنّة وأعلاها ، وفوقه عرش الرحمن »(٦) .

وقيل : إنّهم مقربون إلى الجنّة حين كون أصحاب الميمنة في مقام الحساب (٧) .

قيل : قدّم سبحانه عند ذكر الأصناف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لأنّهم الذين ينفعهم ذكر أهوال القيامة دون السابقين الذين لا يختلف حالهم بالخوف والرجاء (٨) .

نقل كلام بعض العامة وردّه

قال بعض العامة : السابقون اربعة : سابق امّة موسى عليه‌السلام وهو جزبيل (٩) أو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق امّة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية ، وسابقا امّة محمد وهما أبو بكر وعمر(١٠) .

أقول : هذا القول مما تضحك به الثكلى ، لوضوح أنّ الرجلين لا سبق لهما لا في الإيمان ولا في الطاعة ، للاتفاق على أنّ إسلام أبي بكر كان بعد إسلام ثلاثة أو أربعة (١١) ، وإسلام عمر كان بعد إسلام تسعة وثلاثين أو أربعين من الصحابة ، مع أنّه روى الجمهور عن ابن عباس ، أنّه قال : سابق هذه الامة علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١٢) .

وقال فضل بن روزبهان الناصب : جاء في رواية أهل السنّة : « سباق الامم ثلاثة : مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار ، وعلي بن أبي طالب » (١٣) . وفيما رواه الفخر الرازي : « هو أفضلهم » (١٤).

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣١٨ ، وفي النسخة : تأكيد الأول.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٩ : ٣١٨.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٣١٨.

(٧) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٦.

(٨) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٢

(٩) في تفسير روح البيان : خربيل.

(١٠) تفسير روح البيان ٩ : ٣١٨.

(١١) وروى الطبري مسندا عن محمد بن سعد ، قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أولكم إسلاما ؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين. تاريخ الطبري ٢ : ٣١٦.

(١٢) نهج الحق : ١٨١ / ١٣ ، مناقب ابن المغازلي : ٣٢٠ / ٣٦٥ ، الصواعق المحرقة : ٢٥ / ٢٩ ، ينابيع المودة : ٦٠ ، مناقب الخوارزمي : ٢٠ ، شواهد التنزيل ٢ : ٢١٣ / ٩٢٤ - ٩٣١.

(١٣) إحقاق الحق ٣ : ١٢١.

(١٤) تفسير الرازي ٢٧ : ٥٧.

١٤٣

وعن الباقر عليه‌السلام : « السابقون أربعة : ابن آدم المقتول ، وسابق امّة موسى وهو مؤمن آل فرعون ، وسابق امّة عيسى وهو حبيب النجّار ، والسابق في امّة محمد وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « ﴿ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ فيّ نزلت » (٢) .

وعنه عليه‌السلام قال : « خلق الله الناس على ثلاث طبقات ، وأنزلهم ثلاث منازل ، وذلك قول الله : ( اصحاب الميمنة واصحاب المشئمة والسابقون ) وأمّا السابقون فهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين ، جعل الله فيهم خمسة أرواح : روح القدس ، وبها بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين ، وبها علموا الأشياء ، وروح الايمان وبها عبدوا الله ، ولم يشركوا به شيئا ، وروح القوّة وبها جاهدوا عدوّهم وعالجوا معاشهم ، وروح الشهوة وبها أصابوا لذيذ الطعام ، ونكحوا الحلال من شباب النساء ، وروح البدن وبها دبّوا ودرجوا ، وأمّا أصحاب الميمنة ، وهم المؤمنون حقّا ، جعل الله فيهم أربعة أرواح : روح الايمان ، وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح البدن - إلى أن قال - ﴿وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ﴾ فهم اليهود والنصارى ... جحدوا ما عرفوا ، فسلبهم الله تعالى روح الايمان » (٣) وروي عن الصادق عليه‌السلام ما يقرب منه (٤) .

وعن ( الامالي ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « قال جبرئيل : ذلك عليّ وشيعته هم السابقون إلى الجنّة ، المقربون الى الله بكرامته [ لهم ] » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في حديث - : « نحن السابقون السابقون إلى الجنّة ، ونحن الآخرون » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « قال أبي لاناس من الشيعة : أنتم شيعة الله ، وأنتم أنصار الله ، وأنتم السابقون الأولون ، والسابقون الآخرون ، والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا،والسابقون في الآخرة إلى الجنّة » (٧) .

﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلى سُرُرٍ

 مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ *

 بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٢) و (١٩)

ثمّ قدّم سبحانه ذكر حال السابقين بقوله : ﴿فِي جَنَّاتِ﴾ والتقدير : هم كائنون أو مستقرّون في جنات مشتملة على ﴿النَّعِيمِ﴾ وأنواع اللذات الجسمانية والروحانية ، وهم ﴿ثُلَّةٌ﴾ وجماعة عظيمة

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٢٥ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٥ / ٢٨٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

(٣) الكافي ٢ : ٢١٤ / ١٦.

(٤) الكافي ١ : ٢١٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

(٥) أمالي الطوسي : ٧٢ / ١٠٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

(٦) كمال الدين : ٢٠٦ / ٢٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

(٧) الكافي ٨ : ٢١٣ / ٢٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٠.

١٤٤

﴿مِنَ﴾ المؤمنين ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ من لدن آدم عليه‌السلام إلى بعث الخاتم ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ﴾ المؤمنين ﴿الْآخِرِينَ﴾ من أمّة خاتم النبيين ، كلّهم قاعدون في الجنّة ﴿عَلى سُرُرٍ﴾ ومجالس مرتفعة من الأرض معدّة لحال السرور ، وتجعل للملوك ﴿مَوْضُونَةٍ﴾ ومنسوجة بعضها على بعض ، أو منسوجة بالحرير ، أو باليواقيت والجواهر ، أو بالذهب.

قيل : قوائمها من الجواهر ، وأرضها من الذهب (١) . عن ابن عباس : ألواحها من الذهب ، مكلّلة بالزّبرجد والدّرّ والياقوت ، مرتفعة ما لم يجئ صاحبها ، فاذا أراد صاحبها الجلوس عليها تواضعت حتى يجلس عليها ، ثمّ ترفع إلى موضعها (٢) .

حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ ومعتمدين ﴿عَلَيْها﴾ كالملوك ، وكونهم ﴿مُتَقابِلِينَ﴾ ومتوجّهين بعضهم إلى بعض ومستأنسين بعضهم ببعض ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ ويدور حولهم للخدمة ﴿وِلْدانٌ﴾ وغلمان ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ ومبقون على شكلهم وطراوتهم أبدا.

قيل : إنّهم مخلوقون [ للخدمة ] في الجنة (٣) ، والمخلّدون بمعنى مقرّطون ، أو مسوّرون (٤) .

وقيل : إنّهم أطفال المشركين (٥) ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة » (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هم أولاد أهل الدنيا » (٧) .

ويكون طوافهم ﴿بِأَكْوابٍ﴾ وأوان - لا عروة لها ولا خرطوم - من الذهب والجواهر. وقيل : إنّها الأقداح الكبيرة (٨)﴿وَأَبارِيقَ﴾ وأوان لها عرى وخرطوم تبرق من صفائها ﴿وَكَأْسٍ﴾ مملوء من خمر جارية ﴿مِنْ مَعِينٍ﴾ ومنبع في الجنّة.

وقيل : إنّ المعنى كأس مملوء من خمر ظاهره يعاين بالأبصار (٩) ، وجمع الأكواب والأباريق للدلالة على الكثرة ، وإفراد الكأس لعدم حاجة شخص واحد إلى أكثر من واحد.

قيل : إنّه يصبّ الخمر من الأكواب في الأباريق ، ومن الأباريق في الكأس (١٠) .

ثمّ وصف سبحانه خمر الجنة بقوله : ﴿لا يُصَدَّعُونَ﴾ ولا يصيبهم وجع الرأس المسبّب منها الصادرة ﴿عَنْها﴾ كما يصيبهم ذلك من خمر الدنيا ﴿وَلا يُنْزِفُونَ﴾ ولا يسكرون.

عن ابن عبّاس : في الخمر أربعة خصال : السّكر ، والصّداع ، والقيء ، والبول ، وليست في خمر

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ١٤٩.

(٢) تفسير القرطبي ١٧ : ٢٠٢.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٢٧.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢١.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢١ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢١.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢١.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢١.

(٨) مجمع البيان ٩ : ٣٢٧ ، تفسير الرازي ٢٩ : ١٥٠.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٢.

(١٠) تفسير الرازي ٢٩ : ١٥٠.

١٤٥

الجنّة ، بل هي لذّة بلا أذى (١) . وقيل : ( لا ينزفون ) بمعنى لا يفقدون الشراب (٢) .

﴿وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ

 اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) و (٢٤)

ثمّ لمّا كان دأب شاربي خمر الدنيا أكل شيء بعد الشرب من فاكهة أو لحم أو غيرهما ، ممّا يغيّر الذائقة ، وساقي الخمر يأتي للشارب بعد الشّرب بأحد الاشياء اللذيذة ، عطف سبحانه على قوله : ﴿بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ﴾ بقوله ﴿وَفاكِهَةٍ﴾ وثمار لذيذة ﴿مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ ويختارون ، مع أنّ كلّها خيار ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ﴾ من طيور الجنّة ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ وتميل إليه طباعهم مشويا أو مطبوخا ﴿وَ﴾ عندهم ﴿حُورٌ﴾ ونساء بيض ، أو شديد بياض عيونهنّ (٣) وسوادها ﴿عِينٌ﴾ وواسعات الأحداق وهنّ في الصفاء والبياض ﴿كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ﴾ والدّر ﴿الْمَكْنُونِ﴾ والمخزون في الصدف لم تمسه الأيدي ، ولم تره الأعين ، أو المصون ممّا يضرّ بصفاته وشدّة بياضه ، وإنّما ننعم عليهم بتلك النّعم العظام لكونها ﴿جَزاءً بِما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الحسنة الصالحة.

﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحابُ الْيَمِينِ

 ما أَصْحابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ *

 وَماءٍ مَسْكُوبٍ * وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ *

 إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً * عُرُباً أَتْراباً * لِأَصْحابِ الْيَمِينِ *

 ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٢٥) و (٤٠)

ثمّ ذكر سبحانه ما تلتذ به اسماعهم في الجنّة بقوله : ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً﴾ وباطلا ، وكلاما لا ينتفع ولا يعتدّ به ﴿وَلا تَأْثِيماً﴾ وكلاما فيه نسبتهم إلى الباطل والمعصية ، كقول : أنت فاسق أو سارق ، أو شارب خمر محرّم ، كما قيل (٤) .

وعن ابن عباس ، قال : لا يقول بعضهم لبعض : أثمت (٥) .

وعن القمي : يعني الفحش والكذب [ والغناء ](٦) .

والحاصل أنّه ليس في الجنة كلام لغو ولا مؤلم لا محقّقا ولا فرضا ﴿إِلَّا قِيلاً﴾ وكلاما مفروض

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ١٥٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٢.

(٣) في النسخة : شديدة بياض عيونهم.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٥٨ و١٥٩.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٢٨.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٢.

١٤٦

اللغوية على الفرض المحال ، وهو قول بعض لبعض عند الملاقات في الجنة ، أو حين التوجه ، أو قول الملائكة لهم : سلّمت ﴿سَلاماً﴾ أو سلّمك الله ﴿سَلاماً﴾.

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى : ولكن يسمعون سلاما بعد سلام (١) من الله ، كما قال سبحانه ﴿سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ(٢) أو من الملائكة ، كما قال تعالى : ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ(٣) أو بعضهم على بعض ، كما قال تعالى : ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ(٤) أو المراد أنّهم يفشون السّلام ، أو لا يسمع المسلّم والمسلّم عليه إلّا السّلام بدءا وردّا (٥) .

ثمّ شرع سبحانه في بيان حسن حال اصحاب الميمنة بقوله تعالى : ﴿وَأَصْحابُ الْيَمِينِ﴾ وما تدرون ﴿ما أَصْحابُ الْيَمِينِ﴾ وأيّ اشخاص هم في العظمة والكرامة عند الله ؟ هم يوم القيامة متمكّنون ﴿فِي﴾ جنة ذات ﴿سِدْرٍ﴾ وشجر نبق ، وهو عزيز عند العرب ، ورقه في غاية الصّغر ، وثمره محبوب عندهم ، ولكن يخالف سدر الدنيا في أنّ له شوكا كثيرا يكسر ورقه ، ولو لاه لكان أصفى الشجر عند العرب لكثرة أوراقه ، ودخول بعضها في بعض ، وسدر الجنة بلا شوك ، وهو معنى ﴿مَخْضُودٍ﴾ على ما قيل (٦) . وقيل : إنّ معنى مخضود منعطف الأغصان إلى الأسفل لكثرة ثمره (٧) .

﴿وَ﴾ ذات ﴿طَلْحٍ﴾ وشجر موز ورقه في غاية الكبر و﴿مَنْضُودٍ﴾ بعضه فوق بعض بحيث لا يكون فصل بين أوراقه. وقيل : منضود حمله وراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه ، ليس له ساق بارز (٨) .

وقيل : الطلح : شجر أمّ غيلان ، له أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة ، تقصد العرب منه النّزهة والزّينة (٩) .

وعن مجاهد : كان لأهل الطائف واد معجب ، فيه الطلّح والسّدر ، فقالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي ، فنزلت هذه الآية (١٠) .

﴿وَ﴾ ذات ﴿ظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ عريض لا ينتقص أبدا ، كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

روى أنّ أوقات الجنة كغدرات الصيف لا يكون فيه حر ولا برد (١١) .

وفي الحديث : « في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » (١٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يصف أهل الجنة قال : « ويتنعمون في جنّاتهم في ظلّ ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وأطيب من ذلك » (١٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٣.

(٢) يس : ٣٦ / ٥٨.

(٣) الرعد : ١٣ / ٢٣ و٢٤.

(٤) الواقعة : ٥٦ / ٩١.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٤.  

(٦ - ١٠) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٤.

(١١) مجمع البيان ٩ : ٣٣٠.

(١٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(١٣) الكافي ٨ : ٩٩ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٣.

١٤٧

وقيل : إنّ الظّل الممدود كناية عن الراحة الدائمة (١) .

﴿وَ﴾ ذات ﴿ماءٍ﴾ كثير ﴿مَسْكُوبٍ﴾ ومصبوب من فوق أينما شاء ، وكيفما أراد ، فانّ العرب لم يكن لهم مياه ساكبة من العيون التي في الجبال ، بل كان مياههم في الآبار والبرك.

وقيل : إن المسكوب بمعنى الجاري في غير اخدود (٢) . وقيل : إنّه كناية عن الكثرة (٣) ، لأنّ الماء لعزّته عند العرب لا يسكب ولا يراق ، بل يحفظ ويشرب.

﴿وَ﴾ ذات ﴿فاكِهَةٍ﴾ دائمة مبذولة ﴿كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ﴾ ومعدومة في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا صيفيها لا يكون في الشتاء ، وشتويها لا يكون في الصيف ﴿وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ عن أهلها بسبب من الأسباب.

وفي الحديث : « ما قطعت ثمرة من ثمار الجنّة إلّا أبدل الله مكانها ضعفين » (٤) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لمّا دخلت الجنة رأيت في الجنة شجرة طوبى أصلها في دار علي ، وما في الجنة قصر ولا منزل إلّا وفيها فنن [ منها ] عليها (٥) أسفاط حلل من سندس واستبرق ، يكون للعبد المؤمن ألف ألف سفط ، وفي كلّ سفط مائة حلّة ، وما فيها حلّة تشبه الاخرى ، على ألوان مختلفة ، وثياب أهل الجنّة وسطها ظلّ ممدود في عرض الجنة ، وعرض الجنة كعرض السماء والأرض اعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ، يسير الراكب في ذلك الظلّ مسيرة مائتي عام فلا يقطعه ، وذلك قوله تعالى : ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ وأسفلها ثمار أهل الجنة وطعامهم متدل في بيوتهم ، يكون في القضيب منها مائة لون من الفاكهة ممّا رأيتم في دار الدنيا وممّا لم تروه وما سمعتم به وما لم تسمعوا مثلها (٦) ، وكلّما يجتنى منها شيء نبتت مكانها اخرى لا مقطوعة ولا ممنوعة » (٧) .

﴿وَ﴾ ذات ﴿فُرُشٍ﴾ وبسط ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ القدر على السرر ، أو بعضها على بعض من الحرير والدّيباج ، بألوان مختلفة ، وحشوها المسك والعنبر والكافور ، رواه في ( الكافي ) (٨) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث صفة أهل الجنّة.

وقيل : ارتفاعها كما بين السماء والأرض (٩) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٣٠ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٥) في النسخة : وفيها قتر عليها ، وفي تفسير القمي : وفيها فرع منها أعلاها.

(٦) في تفسير الصافي : تسمعوه منها.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٣٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٣.

(٨) الكافي ٨ : ٩٧ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١٨ ، و٥ : ١٢٤.

(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

١٤٨

وقيل : إنّ الفرش كناية عن الأزواج (١) ، وارتفاعهنّ كونهنّ على الأرائك ، أو رفعتهنّ في الجمال والكمال ، ويؤيده إرجاع الضمير إليهنّ في قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ﴾ وخلقناهنّ بغير ولادة ﴿إِنْشاءً﴾ وخلقا عجيبا.

وقيل : إن الفرش بمعناه (٢) ، ولمّا كان الفرش التي هي المضاجع دليلة بالألتزام على الأزواج ، ذكر أوصافهنّ بلا تصريح بذكرهنّ إشعارا بصونهن وتخدّرهن.

وقيل : إنّ المراد بهنّ حور العين ، كما عن القمي وبعض مفسري العامة (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل من أي شيء خلقن الحور العين ؟ قال : « من تربة الجنّة النورانية»(٤) .

وقيل : إنّ المراد نساء الدنيا ، والمراد من إنشائهنّ إعادة خلقهنّ في الآخرة ، لقوله تعالى ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً(٥) ولو كان المراد حور العين كان ذلك الوصف توضيح الواضح.

وفي الحديث : « هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا ، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء ، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا » ... الخبر (٦) .

وروى أنّه قالت عجوز من بني عامر : يا رسول الله ، ادع الله أن يدخلني الجنّة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله مزاحا : « يا امّ فلان ، إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز » فولّت وهي تبكي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أخبروها أنّها لست يومئذ بعجوز » وقرأ : ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً(٧) .

﴿عُرُباً﴾ متحنّنات إلى أزواجهنّ ، ومتحبّبات إليهم.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن العروبة (٨) فقال : « هي الغنجة الرضية الشهية » (٩) .

وعن القمي ، قال : يتكلّمن بلسان العربية (١٠) . وقال به بعض مفسري العامة (١١) .

﴿أَتْراباً﴾ ومستويات في السنّ لأزواجهن ، أو بعضهم لبعض ، لا تفاوت بينهنّ بصغر ولا كبر ، كلّهنّ بنات ثلاث وثلاثين سنة ، أو متماثلات في النّظر إليهنّ. وقيل : يعني متساويات في السن (١٢) ﴿لِأَصْحابِ الْيَمِينِ﴾ كما ذكرنا لا يعيّرون ازواجهنّ بكبر السنّ وعلى التفسيرين الأولين قوله : ﴿لِأَصْحابِ الْيَمِينِ﴾ متعلق بقوله : ﴿إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ﴾ والمعنى خلقناهنّ لأصحاب اليمين.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٤.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٦.

(٦) جوامع الجامع ٤٧٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٥.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٦.

(٨) في النسخة : العربي.

(٩) تفسير الصافي ٥ : ١٢٤.

(١٠) تفسير القمي ٢ : ٣٤٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٤.

(١١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٦.

(١٢) تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٦ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٤.

١٤٩

ثمّ لمّا نزل قوله في السابقين السابقين ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ بكى بعض الصحابة وقال : يا نبي الله ، نحن آمنا بك صدّقناك ، ولا ينجو منّا إلا قليل ! فنزلت : ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ(١) .

قيل : إنّ الثّلّتين من أمّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الثلة الاولى الذين كانوا في زمانه ، والثلّة الاخرى الذين جاءوا بعد زمانه (٢) .

وفي الحديث : « أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة ؟ » قالوا : نعم قال : « أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ » قالوا : نعم ، قال : « والذي نفس محمد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» (٣) .

وفي رواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ جميع الثّلّتين من أمّتي » (٤) .

أقول : الأظهر أنّ المراد من الأولين امم الأنبياء السابقين من آدم إلى زمان خاتم النبيين ، ومن الآخرين امّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما قلنا أولا ، لوضوح أنّ في سائر الامم أصحاب اليمين أيضا ، كما أنّ فيهم السابقين ، ولدلالة قوله : « إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة » ولما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة » ثمّ تلا هذه الاية » (٥) ، لوضوح أنّ النصف الآخر والشطر الآخر لا بدّ أن يكون من سائر الامم.

﴿وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ

 يَحْمُومٍ * لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤١) و (٤٤)

ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الفرقة الثالثة الذين عبّر سبحانه عنهم أولا بأصحاب المشأمة ، لأنّ فساد الدنيا إنّما هو لشؤم كفرهم وعصيانهم ، وعبّر عنهم هنا بقوله : ﴿وَأَصْحابُ الشِّمالِ﴾ قيل : لكونهم في شمال العرش (٦) . وقيل : في شمال المحشر. وقيل : لإعطاء كتاب أعمالهم بشمالهم (٧) فيه.

وما تدرون ﴿ما أَصْحابُ الشِّمالِ﴾ وأيّ شيء هم في الذلّة وسوء العاقبة والحال في الآخرة وشدّة العذاب ؟ أولئك الملعونون في القيامة مستقرّون ﴿فِي سَمُومٍ﴾ ونار نافذ في ثقب أجسادهم ومنافذ أبدانهم. وقيل : إنّ السّموم ريح حارة عفنة قتّالة ﴿وَ﴾ في ﴿حَمِيمٍ﴾ وماء بالغ منتهى الحرارة ﴿وَ﴾ في ﴿ظِلٍ﴾ وفيء ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿يَحْمُومٍ﴾ ودخان أسود كالفحم ، أو ظلّ ناشئ من نار

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٠.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٧.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٠.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٥.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٣٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٧.

(٦) لم نعثر عليه.

(٧) مجمع البيان ٩ : ٣٣٣ ، تفسير أبى السعود ٨ : ١٩٤ ، تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٨.

١٥٠

سوداء. وقيل : إنّ يحموم من أسماء جهنّم (١) .

ولمّا كان الظلّ مطلوبا لبرده واستفادة الراحة فيه ، وصف الظلّ بضدّ ما يكون مطلوبا له بقوله :

﴿لا بارِدٍ﴾ ذلك الظلّ ﴿وَلا كَرِيمٍ﴾ ونافع ومريح من أذى الحرّ.

قيل : لمّا كان المترفون والمتنعمون يطلبون أحسن الأهوية ، وأعذب المياه وأبردها (٢) ، القعود في الظلال ، بيّن سبحانه أنّهم إذا طلبوا الهواء الطيب يهبّ عليهم السّموم ، وإذا أرادوا دفع حرقته بالماء البارد كان ماؤهم حميما ، وإذا أرادوا أن يستكنوا ويدفعوا عن أنفسهم السّموم يكونون في ظلّ من يحموم.

وقيل : إنّ السموم يحرقهم فيعطشون ، فيشربون من الحميم فيقطّع أمعاءهم ، ويستظلّون منه ، فيكون ظلّهم من يحموم (٣) .

﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكانُوا

 يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ

 إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا

 الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ *

 فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٤٥) و (٥٥)

ثمّ بيّن سبحانه سبب استحقاقهم ذلك العذاب بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ﴾ اليوم في الدنيا ﴿مُتْرَفِينَ﴾ ومتنعّمين بالنّعم الدنيوية فألهتهم عن ذكر الله وكفروا نعمه ﴿وَكانُوا﴾ مع ذلك ﴿يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ﴾ والذنب ﴿الْعَظِيمِ﴾ وهو الشّرك بالله العظيم ، ويكذّبون الأنبياء الذين يدعونهم إلى التوحيد والإقرار بالمعاد ﴿وَكانُوا يَقُولُونَ﴾ إنكارا لهم واستبعادا لقولهم بالبعث بعد الموت : ﴿أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا﴾ بعد الموت ﴿تُراباً وَعِظاماً﴾ نخرة بالية ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ من القبور ، ومخرجون منها أحياء ؟ ﴿أَوَ﴾ يبعث ﴿آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ وأجدادنا السابقون بعد تفرّق أجزاء ترابهم في أقطار الأرض ، واختلاطها بغيرها من التراب ؟ وفي إعادة الاستفهام مبالغة في الإنكار.

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بردّهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : نعم ﴿إِنَ﴾ الامم ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ والسابقين من لدن آدم إلى زمانكم هذا ﴿وَ﴾ الامم ﴿الْآخِرِينَ﴾ الذين يأتون إلى يوم فناء الدنيا

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٣٣ ، تفسير أبى السعود ٨ : ١٩٤ ، تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٨.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٣٣ ، تفسير أبى السعود ٨ : ١٩٤ ، تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٨.

١٥١

﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ بعد الاحياء في المحشر ، ومبعوثون لا محالة ﴿إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ﴾ ووقت واحد معين ﴿مَعْلُومٍ﴾ عند الله لا يعلمه غيره ، وهو يوم القيامة.

﴿ثُمَ﴾ بعد الإحياء والبعث ﴿إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ عن طريق الحقّ والمنحرفون عن مسلك الصواب ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾ للرسل إخبارهم بالبعث بعد الموت ، والله ﴿لَآكِلُونَ﴾ بعد البعث والجمع ودخول جهنّم ﴿مِنْ شَجَرٍ﴾ من أشجار جهنّم ، أعني ﴿مِنْ﴾ شجر ﴿زَقُّومٍ﴾ وهو شجر كريه المنظر ، مرّ الطعم ، حار في اللّمس منتن في الرائحة ، ولا يقنع منه بالأكل من تلك الأشجار والثمار ، بل يجبرون على الإكثار من أكلها ﴿فَمالِؤُنَ مِنْهَا﴾ كرها ﴿الْبُطُونَ﴾ أو لشدّة الجوع ، فيعطشون من حرارة الزّقّوم وحرقته ﴿فَشارِبُونَ﴾ أنتم بعد أكله ﴿عَلَيْهِ﴾ شرابا ﴿مِنَ الْحَمِيمِ﴾ والماء الحار البالغ منتهى الحرارة ﴿فَشارِبُونَ﴾ أنتم منه كرها وجبرا ﴿شُرْبَ الْهِيمِ﴾ والجمال التي بها داء الاستسقاء ، لا تروي من الماء حتى تموت ، أو مثل شرب الرمال التي لا تتماسك.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الهيم ، قال : « الابل » (١) وفي رواية : « إنّه الرّمل » (٢) .

وحاصل المعنى على ما قيل : أنّه يسلّط عليكم أيّها الضالّون من الجوع ما يضطرّكم إلى أكل الزقّوم الذي هو كالمهل ، فاذا ملأتم منه بطونكم ، وهو في غاية المرارة والحرارة ، سلّط عليكم من العطش ما يضطرّكم إلى شرب الحميم الذي يقطّع أمعاءكم ثمّ يلزمونكم على أن تشربوا منه ، ولا يكون شربكم شربا معتادا ، بل يكون شربكم مثل شرب الجمل الذي به مرض العطاش ، أو مثل شرب كثيب الرّمل.

﴿هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *

 أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٦) و (٥٩)

ثمّ بيّن سبحانه أن ما ذكر ليس جميع عذابهم ، بل هو أوّل ما يلقونه يوم القيامة بقوله : ﴿هذا﴾ المذكور ﴿نُزُلُهُمْ﴾ وأوّل ما يهيّأ لهم ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ ووقت الجزاء على الضلال وتكذيب الرسل والبعث ، وبعد ما استقروا في الجحيم أشدّ وأشقّ ، وفيه من التهكّم ما لا يخفى ، فانّ النّزل ما يعدّ تكرمة للضيف أوّل وروده.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على صحّة البعث وصدق الرسل في إخبارهم به بقوله : ﴿نَحْنُ

__________________

(١) المحاسن : ٥٧٦ / ٣٢ - ٣٤ ، معاني الأخبار : ١٥٠ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٦.

(٢) المحاسن : ٥٧٧ / ٣٦ ، معاني الأخبار : ١٥٠ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٦.

١٥٢

بقدرتنا ﴿خَلَقْناكُمْ﴾ أوّل مرة ، فاذا علمتم ذلك ﴿فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ﴾ الرسل في قولهم بالبعث ، وهلا تقرّون بخلقكم ثاني مرّة ؟ مع أنّه في نظركم أهون وأسهل ، وإن أنكرتم أنّكم مخلوقون بقدرتنا ، وقلتم : إنّا موجودون من المنيّ بتأثير الطبيعة أو الكواكب فيه ، نقول : ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني عن ﴿ما تُمْنُونَ﴾ وتدفقون من المنيّ في ارحام النساء ، فانّه لا بدّ له من خالق يخلقه في أصلابكم ﴿أَأَنْتُمْ﴾ بقدرتكم ﴿تَخْلُقُونَهُ﴾ في أصلابكم ﴿أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ﴾ لذلك المنيّ من غير دخل شيء في خلقه وتقديره في الأصلاب وأطواره وتصويره في الأرحام ؟ لا مجال لأحد إلّا القول بأنّا خالقه ، وإلا لتسلسل ، فمن خلقه وصوّره في ظلمات ثلاث وأحياه ، قادر على إحيائكم ثانيا بعد موتكم.

﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ

 وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا

 تَذَكَّرُونَ (٦٠) و (٦٢)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أن الخلق بقدرته ، لا دخل لأحد فيه ، أثبت أنّ الموت أيضا بقدرته ، ليس قدرته على الخلق والإحياء فقط ، بل الحياة والموت كلاهما بقدرته وإرادته بقوله : ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا﴾ وجعلنا ، أو قسّمنا ﴿بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم البالغة ﴿وَما نَحْنُ﴾ في آن من الآنات ﴿بِمَسْبُوقِينَ﴾ وغير قادرين ﴿عَلى أَنْ﴾ نعدمكم ونميتكم و﴿نُبَدِّلَ﴾ منكم ﴿أَمْثالَكُمْ﴾ ونخلق عوضا منكم في مكانكم أشباهكم في الخلق.

وقيل : قوله : ﴿عَلى أَنْ نُبَدِّلَ﴾ متعلق بقوله : ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ(١) والمعنى : نحن قدّرنا بينكم الموت ، لكن لا بأن نهلككم دفعة واحدة ، بل قدّرنا بأن نميتكم ونجعل بدلكم في الأرض مثلكم مدّة طويلة ثم نهلككم جميعا ﴿وَنُنْشِئَكُمْ﴾ ونخلقكم ثانيا ﴿فِي ما لا تَعْلَمُونَ﴾ من الوقت والزمان وفيه تحريص على الايمان والعمل الصالح ، والإعداد ليوم لا يعلم وقوعه في أي وقت.

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى﴾ والخلق الأول في دار الدنيا ، حيث إنّه خلقكم أولا من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ من علقة ، ثمّ من مضغة ثمّ جعلكم عظاما ، ثمّ كسا العظام لحما ، ثمّ جعلكم خلقا ذا حياة وقوة وقدرة وشعور ﴿فَلَوْ لا﴾ وهلّا ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ وتعتبرون أنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى والخلق الآخر ؟

في الخبر : « عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الآخرة ، وهوى يرى النشأة الاولى » (٢) . وعن

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ١٧٩.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٣١.

١٥٣

السجاد عليه‌السلام ما يقرب منه (١) .

﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٣) و (٦٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال على المعاد بقدرته على الخلق الأول ، استدلّ بقدرته على خلق ما يحتاجون إليه في بقائهم من المأكول بقوله : ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ وأخبروني عمّا تبذرون من الحبوب كالحنطة والشعير ونحوهما ﴿أَأَنْتُمْ﴾ بقدرتكم ﴿تَزْرَعُونَهُ﴾ وتنبتونه من الأرض ، وتبلغونه إلى الثمر المقصود ﴿أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ والمنبتون له من الأرض ، والمبلغون له إلى الثمر بحيث تنتفعون به وتأكلونه؟

في الحديث « لا يقولنّ أحدكم : زرعت ، بل يقول : حرثت ، فانّ الزارع هو الله تعالى » (٢) .

قيل : يستحبّ لمن ألقى في الأرض بذرا أن يقرأ بعد الاستعاذة : ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ إلى قوله : ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(٣) ثمّ يقول الله الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، وارزقنا ثمره ، واجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين فانّ الدعاء أمان لذلك الزرع من جميع الآفات(٤) .

وحاصل الآية أنّ من قدر على إنبات الزرع من الأرض ، قادر على خلق الانسان من النّطفة المستديرة الباقية في القبر.

﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

 * أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ

 الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٦٥) و (٧٠)

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على حفظ الزرع إلى بلوغ الثمر بقوله : ﴿لَوْ نَشاءُ﴾ بعد إنبات الزرع واستوائه على سوقه ﴿لَجَعَلْناهُ﴾ وصيّرناه ﴿حُطاماً﴾ ويابسا منكسرا متفتّتا ﴿فَظَلْتُمْ﴾ وبقيتم بسبب فساد زرعكم ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ وتتحدّثون بعجيب ما رأيتم من فساد الزرع بعد ما كان على أحسن الحال من النمو والاشراف على الثمر ، أو تندمون على ما انفقتم فيه ، وما بذلتم فيه من غاية الجهد ، وتقولون : يا قوم ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ ومتضرّرون بفساد زرعنا أو مهلكون بهلاك رزقنا ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ من

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥٨ / ٢٨ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٧.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٣٧ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٧ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٣٢.

(٣) الواقعة : ٥٦ / ٦٧.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٣٢.

١٥٤

حظّنا ، وممنوعون من رزقنا.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته الكاملة بإنزال ما يشربونه من الماء العذب بقوله : ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾ وأخبروني عنه ﴿أَأَنْتُمْ﴾ بقدرتكم ﴿أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾ والسّحاب المتّصل بالماء ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ له بقدرتنا لشربكم الذي هو أهمّ منافعكم ، وبه بقائكم ؟

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته بقوله : ﴿لَوْ نَشاءُ﴾ عدم استقائكم ﴿جَعَلْناهُ﴾ وصيّرناه ﴿أُجاجاً﴾ ومرّا من شدّة الملوحة ، فلا يمكنكم شربه ﴿فَلَوْ لا﴾ وهلّا ﴿تَشْكُرُونَ﴾ الله على إكمال نعمة مأكولكم بنعمة مشروبكم ؟ قيل : تصدير جزاء الشرطية الأولى باللام للدلالة على أن سلب نعمة المأكول أشدّ على [ الانسان من سلب ] نعمة المشروب ، لكون الحاجة إلى المشروب تبع للحاجة إلى المأكول (١) .

عن ابن عباس : أنّ تحت العرش بحر تنزل [ منه ] أرزاق الحيوانات ن يوحي الله إليه ما شاء من السماء إلى السماء ، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ، ثمّ يوحي الله إلى سماء الدنيا أن غربليه فتغربله ، فليس من قطرة تقطر إلّا ومعها ملك يضعها موضعها ، ولا تنزل من السماء قطرة إلّا بكيل معلوم ووزن معلوم ، إلّا ما كان من يوم الطّوفان ، فانّه نزل بغير كيل ووزن (٢) .

﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ *

 نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧١) و (٧٣)

ثمّ استدلّ سبحانه بالنار المنقدحة من الزّناد بقوله : ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ وأخبروني عن البرقة التي تقدحونها وتخرجونها من عودين يحك أحدهما بآخر ﴿أَأَنْتُمْ﴾ أيّها العرب ﴿أَنْشَأْتُمْ﴾ وأوجدتم بقدرتكم ﴿شَجَرَتَها﴾ التي منها الزّند والزّندة ، وهي المرخ والعفار (٣) ؟ وقيل : اريد مطلق الشجر الذي يصلح للإيقاد (٤)﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ﴾ والموجدون لها بقدرتنا ؟

ثمّ بيّن سبحانه منافع النار بقوله : ﴿نَحْنُ﴾ بقدرتنا وحكمتنا ﴿جَعَلْناها تَذْكِرَةً﴾ ومنبها لصحة البعث ، حيث إنّ من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر ، قادر على أن يخلق في بدن الميت حرارة غريزية يحيا بها الميت ، أو تذكرة لنار القيامة ، فيخشى العاقل من عذاب ربّه إذا رأى النار الموقدة ﴿وَمَتاعاً﴾ ومنفعة مهمة ﴿لِلْمُقْوِينَ﴾ والمسافرين الذين ينزلون البوادي والقفار ، فانّهم اشدّ

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٣٤.

(٣) المرخ : شجر سريع الوري يقتدح به. والعفار : شجر يتّخذ منه الزّناد.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٨٤.

١٥٥

حاجة بالنار لحفظهم من السباع ودفع البرد وغير ذلك. وقيل : يعني للذين أوقدوها وقوّوها (١) ، أو للذين خلت بطونهم ، أو مزاودهم (٢) من الطعام ، وفي تقديم التذكرة إشعار بأهمية المنافع العقلية من المنافع الجسمانية.

﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ * فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ

 تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٤) و (٧٦)

ثمّ لمّا أثبت سبحانه التوحيد والمعاد ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتنزيهه عن الشريك وترك إعادة الخلق للحساب بقوله تعالى : ﴿فَسَبِّحْ﴾ يا محمد ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ وذاته المقدسة عمّا لا يليق به من الشريك ، وخلق العالم عبثا ، وعدم إعادة الخلق للحساب والجزاء ، وفي إضافة التسبيح إلى اسمه دلالة على نهاية عظمة المسمّى ، والظاهر أنّ المراد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسبيح الله وإقران تسبيحه بذكر اسم ربّه العظيم ، بأن يقول : سبحانه ربّي العظيم.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لمّا نزلت الآية قال : « اجعلوها في ركوعكم » (٣) .

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد والمعاد بالأدلة القاطعة ، وكان ذلك دليلا على صحّة نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق القرآن ، ولم يبق مجال للاستدلال عليهما لوضوحهما ، أقسم سبحانه عليهما بقوله : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ التي في السماء ومساقطها. قيل : هي مشارقها ومغاربها ، أو مغاربها وحدها ، أو منازلها وبروجها ، أو مساقطها في اتّباع الشياطين ، أو في القيامة حين انتشارها (٤) .

وقيل : إنّ المراد بالنجوم معاني الآيات وأحكامها التي وردت فيها.

قيل : إن كلمة ( لا ) زائدة يجاء بها لتأكيد القسم (٥) . وقيل : إنّ الأصل لأقسم بلام التأكيد ، اشبعت فتحتها فصارت ( لا ) (٦) وقيل : إنّها نافية على أصلها (٧) ، والمنفي محذوف ، والتقدير : فلا صحة لقول الكفار من انكار البعث ، أو كون القرآن كلام البشر ، اقسم عليه بمواقع النجوم : وقيل : إنّ المعنى لا اقسم لظهور الأمر ووضوحه (٨) ، وإلا لكنت اقسم بمواقع النجوم ، وفيه دلالة بناء عليه على ظهور الأمر والحلف عليه. وعن الصادق عليه‌السلام قال : « كان أهل الجاهلية يحلفون بها ، فقال الله عزوجل : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ » (٩) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩ : ١٨٤.

(٢) المزاود : جمع مزود : وعاء الزاد.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٣٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٨٨.

(٥-٧) تفسير الرازي ٢٩ : ١٨٧.

(٨) تفسير أبي السعود ٨ : ١٩٩ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٣٦.

(٩) الكافي ٧ : ٤٥٠ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٨.

١٥٦

وعنهما عليهما‌السلام : « أن مواقع النجوم رجومها للشياطين ، فكان المشركون يقسمون بها ، فقال سبحانه : فلا اقسم بها » (١) .

وقال الطريحي : في الحديث يعني به اليمين بالبراءة من الأئمة عليهم‌السلام ، يحلف بها الرجل ، يقول : إنّ ذلك عند الله عظيم (٢) ، وهو قوله : ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(٣) .

قيل : إنّ المعنى : ليس تركي للقسم بمواقع النجوم لأجل أنّه ليس بقسم (٤) ، أو ليس بقسم عظيم ، بل لأنّي أريد بتركي القسم به أن اقسم بأعظم منه لغاية جزمي بصحّة المقسم عليه (٥) ، وإنّ القسم بمواقع النجوم عظيم لو تعلمون عظمته ، أو لو كنتم من أهل العلم لصدّقتموني (٦) .

ولمّا كان المقسم به - وهو اختلاف مواقع النجوم ومغاربها - دليلا على كمال قدرة الله ، استدلّ بها بصورة القسم ، كأنّ المعنى : لو تعلمون أنّ اختلافها ليس إلّا لكونها تحت قدرة القادر المختار الحكيم ، لاعترفتم بمدلوله ، وهو توحيد الله وقدرته على كلّ شيء ، ومنه حشر الأجساد البالية.

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ

 الْعالَمِينَ * أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ

 تُكَذِّبُونَ (٧٧) و (٨٢)

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه ، وهو كون القرآن كلام الله بقوله : ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ﴾ متلوّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جانب الله ، وهو ﴿كَرِيمٌ﴾ وذو فضل عميم ونفع عظيم في الدنيا والآخرة ، لاشتماله على اصول العلوم وصلاح المعاش والمعاد ، أو حسن مرضيّ من الكتب ، أو ذو كرامة عند الله ، ولذا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو مكتوب ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ ومصون عن أن تناله أيدي الثقلين ، أو محفوظ عن التغيير والتبديل ، أو مستور عن أعين غير المقرّبين من الملائكة ، وهو اللّوح المحفوظ ، وفيه ردّ على المشركين القائلين بأنّه كلام البشر ، أو شعرأ سحر وكهانة.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عظمة شأنه عنده بقوله : ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ من الأخباث والأحداث ، وهم الملائكة المنزهون عن الادناس الجسمانية ، والمؤمنون المنظفون عن الأحداث البشرية.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٤١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٣٧ / ١١٢٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٨.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ١٩٦١ - وقع -

(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٩٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ١٩٠.

(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ١٨٩.

١٥٧

عن الكاظم عليه‌السلام قال : « المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنبا ، ولا تمسّ خيطه ، ولا تعلّقه ، إنّ الله تعالى يقول : ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ » (١) .

وفي ( الاحتجاج ) : لمّا استخلف عمر سأل عليا عليه‌السلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرّفوه فيما بينهم ، فقال : يا أبا الحسن ، إن جئت بالقرآن الذي جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه ؟ فقال عليه‌السلام : « هيهات ، ليس إلى ذلك سبيل ، إنّما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجّة عليكم ، ولا تقولوا يوم القيامة : إنّا كنّا عن هذا غافلين ، أو تقولوا : ما جئتنا به ، فانّ القرآن الذي عندي لا يمسّه إلّا المطهّرون ، وهم الأوصياء من ولدي. فقال عمر : فهل لإظهاره وقت معلوم ؟ فقال : نعم ، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه ، فتجري السنة به » (٢) .

أقول : المراد من التحريف تغيير ما كتبه أمير المؤمنين من التفسير والتأويل ، لا تغيير ألفاظ الآيات التي نزلت من السماء ، ومن وقوله ( لا يمسّه إلّا المطهّرون وهم الأوصياء ) بيان تأويله وبطنه لا تنزيله.

وقيل : إنّه وصف الكتاب المكنون ، وهو اللوح المحفوظ (٣) ، والأصحّ الأول ، لقوله : ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ومنزّل هذا القرآن ﴿مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وفي نسبة تنزيله إلى ذاته مع توصيفها بربّ العالمين دلالة على غاية عظمة القرآن المنزّل منه ، وكونه من شؤون ربوبيته لجميع الموجودات.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على إهانتهم بهذا الكتاب العظيم بقوله : ﴿أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ﴾ الذي هو أحسن الحديث ، وهذا القرآن الذي هو أعظم الكتب السماوية ﴿أَنْتُمْ﴾ ايّها المشركون ﴿مُدْهِنُونَ﴾ وتكذّبون ، أو تهينون ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ ومعاشكم ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ محمدا وكتابه ، أو المراد تجعلون شكر رزقكم ونعم ربّكم تكذيبكم بمن أنزله عليكم ورزقكم نعمه بأن تنسبونها إلى الأنواء.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قرأ الواقعة فقال : ( تجعلون شكركم أنّكم تكذّبون ) فلمّا انصرف قال : « إنّي قد عرفت أنّه سيقول قائل : لم قرأ هكذا قرأتها ، لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأها كذلك ، وكانوا إذا امطروا قالوا : امطرنا بنوء كذا ، فأنزل الله تعالى : ( تجعلون شكركم انكن تكذبون ) » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام في الآية قال : ( وتجعلون شكركم ) (٥) .

أقول : في الرواية العلوية دلالة واضحة على اشتهار قراءة ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ في الصدر الأول ، فيمكن أن تكون قراءة ( شكركم ) تفسيرا للآية ، كما فسّرها به كثير من المفسّرين ، أو يكون نزول

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٢٧ / ٣٤٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٩.

(٢) الاحتجاج : ١٥٦ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ١٩٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٤٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٩.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٠.

١٥٨

الآية على النحوين ( رزقكم ) و( شكركم ) .

والذي يهوّن الخطب أن الروايتين لا حجّية فيهما ، لكونهما أخبار آحاد ، وغير قطعيتين ، وعدم ترتّب عمل عليهما ، بل عدم جوازه ، لوضوح عدم حرمة مسّ ( شكركم ) إذا كتب بدل ( رزقكم ) وعدم جواز قراءته في الصلاة ، أو في غير الصلاة بقصد القرآنية.

ومن المعلوم أنّ هذا النحو من الحذف والوصل كثير في القرآن المجيد ، وقد ورد أنّ الآية توبيخ لمن نسب الأمطار والأرزاق إلى الأنواء ، وهي منازل القمر ، أو النجوم التي يسقط واحد منها عند طلوع الفجر في جانب المغرب ، ويطلع رقيبه من ساعته في جانب المشرق ، وكانت العرب تنسب الأمطار والرياح إلى الساقط أو إلى الطالع منها ، وهو الشّرك بالله العظيم ، وتكذيب لقوله : ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ(١) وقوله : ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(٢) إلى غير ذلك.

﴿فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ

 وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ

 صادِقِينَ (٨٣) و (٨٧)

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم لا يبقون على ذلك التكذيب والقول بالأنواء عند الموت وحين انكشاف حقائق الامور بقوله : ﴿فَلَوْ لا﴾ وهلّا تقولون أيّها المشركون هذه الأقوال الشنيعة ﴿إِذا بَلَغَتِ﴾ أرواحكم ﴿الْحُلْقُومَ﴾ ومجرى النفس ، وتداعت إلى الخروج من أبدانكم ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ إلى ما أنتم فيه من غمرات الموت ، ولو كان ما تقولونه لكان الواجب أن تقولنه في ذلك الوقت الذي هو زمان ظهور الواقعيات ورفع حجاب الجهل والشّبهات.

وقيل : إنّ الخطاب للحاضرين عند المحتضر (٣) ، والمعنى والحال أنّكم في ذلك الوقت حاضرون عند من بلغت الروح حلقه ، وتنظرون إلى ما هو فيه من سكرات الموت ، وتعطفون عليه غاية العطوفة ، وتشتاقون إلى أن تنجونه من الموت والهلاك ﴿وَ﴾ مع كمال قربكم منه ﴿نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ في تلك الحال ، وفي جميع الأحوال علما وقدرة وتصرفا ، حيث إنّا متولّون لجميع أحواله ﴿وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ ولا تدركون قربنا إليه وإحاطتنا به ، وكونه بشراشر وجوده تحت قدرتنا وتصرفنا.

__________________

(١) الشورى : ٤٢ / ٢٨.

(٢) الواقعة : ٥٦ / ٦٨.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ٤٦٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٣٩.

١٥٩

ثمّ أكّد سبحانه تحضيضهم بتكرار كلمة التحضيض بقوله : ﴿فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ وغير مملوكين ومقهورين تحت قدرتنا ، أو غير مجزيين بأعمالكم في الآخرة ، تعيدون أنفسكم و ﴿تَرْجِعُونَها﴾ إلى الدنيا كما كنتم في الدنيا مختارين في الذهاب ، والإياب والقعود في الأماكن ، وحاصل المعنى ، والله أعلم : إنّ كنتم غير مملوكين ومخلوقين لنا ، أو غير مجزيين في دار الآخرة ، أو غير مقيمين فيها لاستيفاء جزاء الأعمال ، لم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا ، لوضوح أنّه لو لا المقهورية تحت قدرتنا ، أو إرادتنا بقاءكم في الآخرة للجزاء ، لكنتم مختارين في الرجوع إلى الدنيا ، أو إرجاع أنفسكم بعد بلوغها إلى الحلقوم إلى ابدانكم ، كما كنتم مختارين في الرجوع إلى أيّ مكان تريدون ، أو أي عمل تهوون ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دعوى كونكم غير مخلوقين لله ، أو غير مجازين في الآخرة ، أو غير مقيمين في العذاب ، كما قالت اليهود : ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً﴾.

﴿فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ

 أَصْحابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ

 الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ

 الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٨٨) و (٩٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر ، وذكر حال النّزع ، بيّن حال الفرق من الناس بعد خروج روحهم ، أو في المحشر بقوله تعالى : ﴿فَأَمَّا إِنْ كانَ﴾ الذي بلغت روحه حلقومه ، أو حشر في المحشر ﴿مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ من الله ، السابقين إلى الإيمان والطاعة في الدنيا ﴿فَرَوْحٌ﴾ وراحة دائمة ، أو رحمة أبدية ، أو فرح بسبب لقاء الله ﴿وَرَيْحانٌ﴾ ورزق طيب مرضيّ ، أو ورق ، أو زهر طيب الرائحة ﴿وَجَنَّةُ﴾ الخلد التي ذات ﴿نَعِيمٍ﴾ لا يوصف.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ﴾ يعني في قبره ﴿وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ يعني في الآخرة»(١) .

﴿وَأَمَّا إِنْ كانَ﴾ المتوفّى ﴿مِنْ﴾ جملة ﴿أَصْحابِ الْيَمِينِ﴾ وأهل اليمن والسعادة ، أو الواقفين عن يمين العرش ، أو يمين المحشر ، أو الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم ﴿فَسَلامٌ﴾ وأمان ابدي من جميع الآفات والمكروهات ﴿لَكَ﴾ يا صاحب اليمن والسعادة والكرامة ﴿مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ﴾.

قيل : إنّ المراد أنّ اصحاب اليمين كلّ يبشّر الآخر بالسلامة من المكاره ، كما دلّ عليه قوله تعالى : ﴿لا

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٥٠ ، أمالي الصدوق : ٣٦٥ / ٤٥٥ و: ٥٦١ / ٧٥٣ ، تفسير الصافي ٥ : ١٣٠.

١٦٠