حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

الْعَلِيمُ) (١٢٧) بالفعل (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ) منقادين (لَكَ وَ) اجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) أولادنا (أُمَّةً) جماعة (مُسْلِمَةً لَكَ) ومن للتبعيض وأتى به لتقدم قوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وَأَرِنا) علمنا (مَناسِكَنا) شرائع عبادتنا أو حجنا (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨) سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعا وتعليما لذريتهما (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي أهل البيت (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) القرآن (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي ما فيه من الأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الشرك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب (الْحَكِيمُ) (١٢٩) في صنعه (وَمَنْ) أي (يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) فيتركها (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) جهل أنها مخلوقة الله يجب عليها عبادته أو استخف بها وامتهنها (وَلَقَدِ

____________________________________

قوله : (يقولان) قدره المفسر ليصح جعل الجملة حالا من إبراهيم وإسماعيل ، لأن الجملة الإنشائية لا تقع حالا إلا بتقدير ، وعبر بالمضارع في يرفع استحضارا للحال الماضية لعظم شأنه كأنه حصل الآن وهو يحدث عنه. قوله : (للقول) أي دعائنا. قوله : (بالفعل) أي بنائنا. قوله : (منقادين) أي كاملين في الأنقياد لأن الكامل يقبل الكمال ، وليس المراد طلب أصل الإسلام لأن الأنبياء معصومون عن كل معصية سيما الكفر. قوله : (جماعة) أي وهو الأصل الكثير وتطلق على المقتدى به كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) وتطلق على الملة ، قال تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) قوله : (وَأَرِنا) رأى عرفانية تنصب مفعولا واحدا ودخلت عليها الهمزة فتعدت لاثنين ، فنا مفعول أول ومناسكنا مفعول ثان. قوله : (التَّوَّابُ) أي كثير القبول لتوبة من تاب ، ويوصف العبد بذلك الوصف بمعنى كثير التوبة والرجوع عن القبائح والرذائل. قوله : (الرَّحِيمُ) أي عظيم الرحمة وهي الإنعام أو إرادته. قوله : (تواضعا) أي أو طلبا للإرتقاء من مقام أعلى مما هما فيه. قوله : (أهل البيت) أي بيت إبراهيم وهم ذريته ، ولم يأت نبي من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما الغالب فمن ذرية إسحق. قوله : (وَالْحِكْمَةَ) هي العلم النافع. قوله : (الغالب) أي الذي أمره نافذ. قوله : (الْحَكِيمُ) هو الذي يضع الشيء في محله.

قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) سبب نزولها أن عبد الله بن سلام أسلم وكان له ابن أخ أحدهما اسمه مهاجر والثاني اسمه سلمة ، فدعاهما إلى الإسلام وقال لهما قد علمتها أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر فنزلت الآية ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (أي لا) (يَرْغَبُ) أشار بذلك إلى أن الإستفهام إنكاري بمعنى النفي ، والإستثناء المفرغ لا يكون إلا بعد النفي ، وما في معناه الرغبة ، عن الشيء الزهد فيه. قوله : (عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) أي دينه وشريعته فالملة والدين والشريعة بمعنى واحد ، وهو الأحكام التي جعلها الله للتعبد بها ، فمن حيث إملاؤها يقال لها ملة ، ومن حيث شرعها يقال لها شريعة ، ومن حيث التدين بها يقال لها دين. قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) يحتمل أن من اسم موصول والجملة بعدها صلة أو نكرة والجملة بعدها صفة ، وعلى كل فهو بدل من فاعل يرغب ، التقدير ولا يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا الذي أو شخص سفه نفسه قوله : (جهل أنها مخلوقة) هذا بناء على أنه لا يتعدى بنفسه إلا بتضمينه معنى جهل ومعنى جهله نفسه لم يتأمل ولم ينظر فيها ، فيستدل على أن لها صانعا

٨١

اصْطَفَيْناهُ) اخترناه (فِي الدُّنْيا) بالرسالة والخلة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠) الذين لهم الدرجات العلى واذكر (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) انقد الله وأخلص له دينك (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١) (وَوَصَّى) وفي قراءة وأوصى (بِها) بالملة (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) بنيه قال (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) دين الإسلام (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢) نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت. ولما قال اليهود للنبي ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) حضورا (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ) بدل من إذ قبله (قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) بعد موتي (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عد أسماعيل من الآباء تغليب ولأن العم بمنزلة الأب (إِلهاً واحِداً) بدل من إلهك (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٣) وأم بمعنى همزة الانكار أي لم تحضروه وقت موته فكيف تنسبون

____________________________________

أتقن صنعها فيؤمن به. قوله : (أو استخف بها) هذا بناء على أنه يتعدى بنفسه كالمشدد ، ومعنى استخفافه بها تركه العبادة لله التي بها العز الأبدي.

قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) هذا حجة لقوله ومن يرغب ، وأكدت هذه الجملة باللام فقط وما بعدها بأن واللام لأن هذه الجملة متعلقة بأمر الدنيا وهو فيها ظاهر الحال ، بخلاف الجملة الثانية فإنها متعلقة بالآخرة وهو أمر مغيب لا يؤمن به إلا من نور الله بصيرته فاحتاجت لزيادة التأكيد. قوله : (وفي قراءة وأوصى) أي فهما قراءتان سبعيتان فالهمز والتضعيف أخوان. قوله : (إبراهيم وبنيه) أي وهم اسماعيل وهو من هاجر وإسحق وهو من سارة ، وكان له ستة أولاد من امرأة تسمى قنطور الكنعانية تزوجها بعد وفاة سارة ، فجملة أولاده ثمانية وقيل أربعة عشر. قوله : (وَيَعْقُوبُ) (بنيه) أشار بذلك إلى أن يعقوب بالرفع معطوف على إبراهيم ، والمفعول محذوف قدره المفسر بقوله بنيه وهم اثنا عشر : روبيل بضم الراء وشمعون ولاوي ويهوذا ويشبخون وزبولون ودون وبقيون وكودا وأوشيز وبنيامين ويوسف ، كذا في البيضاوي.

قوله : (يا بَنِيَ) هذا هو صورة الوصية. قوله : (فَلا تَمُوتُنَ) أصله تموتون أكد بالنون فصار تموتن حذف نون الرفع لتوالي الأمثال فالتقى ساكنان الواو والنون حذفت الواو لالتقائهما. قوله : (نهى عن ترك الإسلام إلخ) دفع بذلك ما يقال إن الموت على الإسلام ليس في طاقة العبد فما معنى التكليف ، فأجاب بأن المراد التكليف بالإسلام والنهي عن تركه ، كقولك لشخص لا تصل إلا وأنت خاشع ، فهو نهي عن ترك الخشوع فيها. قوله : (بدل من إذ قبله) أي بدل اشتمال. قوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أتى بما دون من امتحانا لهم لأنه في زمنه كثرت عبادة غير الله ، وإنما امتحنهم لتظهر سرائرهم. قوله : (إبراهيم إلخ) بدل من آبائك وكرر إله لأنه الفصيح مطلقا اسما كما هنا أو حرفا كمررت بك وبزيد ، قال ابن مالك :

وعود خافض لدى عطف على

ضمير لازما قد جعلا

قوله : (وَإِسْماعِيلَ) قدمه على إسحق وإن كان أبا يعقوب لمزيتين ، كونه أسن منه وكونه أبا النبي عليه الصلاة والسّلام. قوله : (ولأن العم بمنزلة الأب) أي لما في الحديث «عمك صنو أبيك». قوله : (إِلهاً واحِداً) كرره لدفع توهم التعدد من تعدد المضاف. قوله : (بمعنى همزة الإنكار) أي فتارة تفسر بها

٨٢

إليه ما لا يليق به (تِلْكَ) مبتدأ والإشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما وأنث لتأنيث خيره (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) سلفت (لَها ما كَسَبَتْ) من العمل أي جزاؤه استئناف (وَلَكُمْ) الخطاب لليهود (ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤) كما لا يسألون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) أو للتفصيل وقائل الأول يهود المدينة والثاني نصارى نجران (قُلْ) لهم (بَلْ) نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) حال من إبراهيم مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) (قُولُوا) خطاب للمؤمنين (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) من الصحف العشر (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

____________________________________

وحدها كما هنا وتارة تفسر وببل وتارة تفسر ببل وحدها. قوله : (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) هذا رد على اليهود من حيث افتخارهم بآبائهم. قوله : (من العمل) أي فلا ينفع أحدا كسب غيره ، بل كل امرىء بما كسب رهين خيرا كان أو شرا. قوله : (استئناف) أي فلها خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وكسبت صلتها والعائد محذوف أي كسبته. قوله : (والجملة تأكيد لما قبلها) أي لأنه إذا كان لها ما كسبت فلا يسألون عن عملكم وإذا كان لكم ما كسبتم فلا تسألون عما كانوا يعملون ، وقوله كما لا يسألون عن عملكم إشارة إلى أن في الكلام اكتفاء. قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) هذا في المعنى معطوف على قوله ما ننسخ ، وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. قوله : (تَهْتَدُوا) أي تصلوا للخير وتبلغوا السعادة. قوله : (أو للتفصيل) أي لا للجمع فإن مقالة يهود المدينة كونوا هودا تهتدوا لأنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا ، ومقالة نصارى نجران كونوا نصارى تهتدوا لأنه لا يدخل الجنة إلا من كان نصارى. قوله : (نتبع) قدره إشارة إلى أن ملة معمول لمحذوف ، والجملة مقول القول في محل نصب. قوله : (حال من إبراهيم) أي والشرط موجود وهو كون المضاف كالجزء من المضاف إليه. قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض لهم بأنهم هم المشركون. قوله : (خطاب للمؤمنين) أي ويصح أن يكون خطابا لليهود والنصارى ، أي إذا أردتم النجاة فلا تشركوا وقولوا آمنا. قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) معطوف على لفظ الجلالة وقوله : (من القرآن) بيان لما. قوله : (من الصحف العشر) قال تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

قوله : (وَإِسْماعِيلَ) إلخ إن قلت إن إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط لم ينزل عليهم كتاب ، أجيب بأنه أوحى إليهم بصحف إبراهيم فلم يكن مغايرا لما نزل الله على إبراهيم. قوله : (أولاده) أي أولاد يعقوب وهم أسباط بالنسبة لإسحق وإبراهيم. وأولادهم أسباط للجميع ويؤخذ من الآية أن الأسباط أنبياء وهو المعتمد كما ذكره ابن حجر في شرحه على الهمزية. إن قلت حيث كانوا أنبياء فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها فكيف ذلك مع ما يأتي في سورة يوسف من رميه في الجب وإتيانهم على قميصه بدم كذب وغير ذلك من الأمور المنافية للنبوة. فأجيب بأنهم غير مشرعين بل هم أنبياء فقط ، فلا يلزمهم إجراء فعلهم على مقتضى الظاهر بل على سر القدر ، فالمدار على خلوصهم في الباطن على حد ما قيل في أفعال الخضر مع موسى ، وقد شهد الله له بأنه ما فعله عن أمره فيكون ما جرى من الأسباط في حق يوسف كما جرى من الخضر أو أولى ، وسيأتي بسط ذلك في سورة يوسف إن شاء الله تعالى.

٨٣

وَالْأَسْباطِ) أولاده (وَما أُوتِيَ مُوسى) من التوراة (وَعِيسى) من الانجيل (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) من الكتب والآيات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٦) (فَإِنْ آمَنُوا) أي اليهود والنصارى (بِمِثْلِ) مثل زائدة (ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان به (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) خلاف معكم (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) يا محمد شقاقهم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) (١٣٧) بأحوالهم وقد كفاه إياهم بقتل قريظة ونفي النضير وضرب الجزية عليهم (صِبْغَةَ اللهِ) مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي صبغنا الله والمراد بها دينه الذي فطر الناس عليه لظهور أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب (وَمَنْ) أي لا أحد (أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) تمييز (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨) قال اليهود للمسلمين نحن أهل الكتاب الأول وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من

____________________________________

قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى) عبر أولا بأنزل وثانيا بأوتى تفننا ودفعا للثقل. قوله : (وَعِيسى) لم يكرر ما أوتي لأن مؤدى الإنجيل والتوراة واحد ، وإنما التغاير في شيء يسير وهو تحليل بعض ما حرم. قوله : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) هذا من عطف العام على الخاص ، إشارة إلى أنه يجب علينا الإيمان بجميع أنبياء الله وما أنزل عليهم. قوله : (كاليهود) أي فإنهم آمنوا بموسى وكفروا بمن عداه ، وقوله والنصارى أي فإنهم آمنوا بعيسى وكفروا بمن عداه. قوله : (مثل زائدة) أي لأن المعنى على أصالتها فاسد لأنه يوهم أنهم مأمورون بالإيمان بمثل الله ومثل ما أنزل على محمد إلخ وهذا باطل. قوله : (خلاف) أي مخالفة الدين الحق ويطلق على الضلال وعلى العداوة ، ويصح إرادة كل منهما لأن تولى عن الإيمان فهو في ضلال ومعاداة الله. قوله : (شقاقهم) أي ضرر ضلالهم ومخالفتهم ومعاداتهم. قوله : (بقتل قريظة) أي فقد قتل منهم في يوم واحد سبعمائة من صناديدهم ورموا في الخندق. قوله : (وضرب الجزية عليهم) أي اليهود والنصارى.

قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) الصبغ بالكسر أثر الصبغ بالفتح الذي هو المصدر. وسبب نزول الآية أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمى ماء المعمودية ، ويقولون حينئذ : قد صار نصرانيا حقا ، فنزلت ردا عليهم كأن الله يقول لهم : صبغتي لعبيدي لا أحسن منها صبغة. قوله : (أي صبغنا) من باب نفع وضرب ونصر. قوله : (كالصبغ في الثوب) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تصريحية أصلية ، حيث شبه آثار الإيمان القائم بالشخص بالصبغ القائم بالثوب بجامع المكث والظهور في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، وفي هذه الآية بشرى للمؤمنين عظيمة ، وهي أن الإيمان في القلب كالصبغ المتقن في الثوب ، فكما لا يزول الصبغ من الثوب كذلك الإيمان لا يزول من القلب لأن صبغة الله لا أحسن منها ، ولذا قيل إن موت المؤمن على غير الإيمان نادر كالكبريت الأحمر ، والمراد من الصبغة الأنوار الكائنة في القلب والأعضاء لأن الإيمان لا يكمل إلا إذا صبغ به كصبغة الثوب ، قال تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ). وقال تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) في الحديث : «لو كشف عن نور المؤمن العاصي لأضاء ما بين المشرق والمغرب وإنما انحجب عنه ليتم وعد الله ووعيده». قوله : (قال اليهود) شروع في ذكر سبب نزول الآية. قوله : (الأول) أي السابق على الأنجيل والقرآن. قوله : (من العرب) أي بل كانت من بني إسرائيل.

٨٤

العرب ولو كان محمد نبيا لكان منا فنزل (قُلْ) لهم (أَتُحَاجُّونَنا) تخاصموننا (فِي اللهِ) أن اصطفى نبيا من العرب (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) فله أن يصطفي من عباده من يشاء (وَلَنا أَعْمالُنا) نجازى بها (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) تجازون بها فلا يبعد أن يكون في أعمالنا ما نستحق به الاكرام (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩) الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء والهمزة للانكار والجمل الثلاث أحوال (أَمْ) بل (تَقُولُونَ) بالياء والتاء (إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ) لهم (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أي الله أعلم وقد برأ منهما إبراهيم بقوله (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) والمذكورون معه تبع له (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ) أخفى الناس (شَهادَةً عِنْدَهُ) كائنة (مِنَ اللهِ) أي لا أحد أظلم وهم اليهود كتموا شهادة الله في التوراة لابراهيم بالحنيفية (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٠) تهديد لهم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ

____________________________________

قوله : (قُلْ) أي يا محمد والخطاب لكل عاقل يريد إقامة الحجة عليهم. قوله : (فله أن يصطفي من عباده من يشاء) أي فلا حرج عليه في أفعاله. قوله : (وَلَنا أَعْمالُنا) أي فإن كانت النبوة من جهة اصطفاء الله واختياره ، فربكم هو ربنا فيختص برحمته من يشاء ، وإن كان من جهة العمل فكما لكم أعمال تجازون عليها لنا أعمال نجازى عليها ، فنحن مشتركون معكم في العبودية والأعمال. قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي لم نشرك به أحدا بخلافكم أنتم فقد زدنا عليكم وصفا وهو الإخلاص ، فكان الأولى بذلك نحن لا أنتم. قوله : (أحوال) أي إما من الواو أو نا ، لكن الأظهر في الأخيرة أنها حال من نا ، وعامل الحال على كل هو الفعل الذي هو أتحاجوننا. قوله : (بالياء والتاء) فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أَوْ نَصارى) أو للتقسيم والتوزيع فاليهود نسبوا لهم اليهودية ، والنصارى نسبوا لهم النصرانية.

قوله : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) الهمزة للإستفهام وما بعدها مبتدأ وخبر ، والمستفهم عنه يجوز توسطه بين الهمزة وأم كما هنا هو الأحسن ، ويجوز في غير القرآن أن تقول أأعلم أنتم أم الله أو أأنتم أم الله أعلم. قوله : (أَمِ اللهُ) أم معادلة للهمزة التي هي لطلب التعيين ، واسم التفضيل ليس على بابه بل للتهكم والإستهزاء. قوله : (أي الله أعلم) أشار بذلك إلى أنه جواب الإستفهام وإن خبر المبتدأ محذوف دل عليه المذكور. قوله : (تبع له) جواب عن سؤال مقدر تقديره إن الله قد برأ إبراهيم ولم يذكر معه أولاده. ومن جملة ما رد عليهم به قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). قوله : (كائنة) (مِنَ اللهِ) أشار بذلك إلى أن قوله عنده صفة أولى لشهادة ، وقوله من الله متعلق بمحذوف صفة ثانية لها. قوله : (لإبراهيم بالحنيفية) أي ولمحمد بالرسالة حيث ذكر الله أوصافه وأخلاقه في كتبهم فغيروها وبدلوها. قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الغفلة هي ترك الشيء مع التمكن من العلم به وذلك مستحيل على الله تعالى ، فالمراد بها الإمهال ليوم القيامة ، وما يفسر تلك الآية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ). وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أبلغ في التهديد من قوله : (والله عليم بما تعملون) مثلا لأن عدم الغفلة يستلزم العلم فلا يستلزم عدم الغفلة.

قوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ) أي أنبياء بني إسرائيل. قوله : (قَدْ خَلَتْ) أي سبقت. قوله : (لَها ما

٨٥

وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١) تقدم مثله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) الجهال (مِنَ النَّاسِ) اليهود والمشركين (ما وَلَّاهُمْ) أي شيء صرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الاخبار بالغيب (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا اعتراض عليه (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته (إِلى صِراطٍ) طريق (مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) دين الإسلام أي ومنهم أنتم دل على هذا (وَكَذلِكَ) كما هديناكم إليه (جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد (أُمَّةً وَسَطاً) خيارا عدولا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ

____________________________________

كَسَبَتْ) أي من خير أو شر. قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولا يسألون عن عملكم. قوله : (تقدم مثله) أي وإنما كرره الله لمزيد بلادتهم فإن السامع إذا كان بليدا فالأبلغ تكرار الكلام له لإقامة الحجة عليه. قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) سيأتي للمفسر أن الآية من الإخبار بالغيب وحاصل ذلك أن النبي كان يستقبل الكعبة في صلاته وهو بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمر باستقبال بيت المقدس ، فأنزل الله هذه الآية ليعلمه بأنه سيحوله للكعبة فيعترض عليه وليكون معجزة له من حيث إخباره بالمغيبات ، ثم نزل آية تحويل القبلة ، فمقتضاه أن هذه الآية متقدمة في النزول والتلاوة ، ودرج على ذلك جماعة من المفسرين ، والذي ورد عن ابن عباس وغيره أنها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن آية التحويل ، وحكمة الإتيان بالسين إفادة الإستمرار على هذه المقالة منهم ومن يأتي بعدهم ، والسفهاء جمع سفيه وهو من يتجنب المنافع ويتعلق بالمضار دنيوية أو دينية ، ولا شك أن الكافر تعلق بالمضار الدينية فكل كافر سفيه. قوله : (مِنَ النَّاسِ) بيان للسفهاء احترازا عن البهائم فإنها تسمى سفهاء أيضا. قوله : (اليهود) أي فإنهم اعترضوا على النبي وأصحابه في تحولهم عن جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة ، وقوله : (والمشركين) أي فإنهم اعترضوا عليهم في تحولهم أولا ورجوعهم ثانيا. قوله : (ما وَلَّاهُمْ) ما استفهامية والجملة بعدها خبر عنها. قوله : (إلى أي جهة شاء) أي فالأمر باستقبال جهة مخصوصة تعبدي لا نعقل له معنى. قوله : (هدايته) مفعول يشاء قوله : (ومنهم أنتم) أي من المهتدين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَكَذلِكَ) اسم الإشارة عائد على الهداية. قوله : (أي كما هديناكم) (جَعَلْناكُمْ) أي فمن الله عليهم بمنتين الأولى الهداية والثانية جعلهم خيارا عدولا ، وجعل بمعنى صير فالكاف مفعول أول وأمة مفعول ثان. (وَسَطاً) هو في الأصل المكان الذي استوت إليه الجهات ثم أطلق وأريد منه الخصال الحميدة ، فالمعنى أصحاب خصال حميدة ولا شك أن من كان كذلك فهم خيار عدول. قوله : (خيارا وعدولا) أي أصحاب علم وعمل ولا يخلو زمان منهم لما في الحديث : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك وما دام القرآن موجودا فهم موجودون» لقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فلو لا أن أناسا موجودون بهذه المثابة ما بقي القرآن ، ونزول البلاء ليس دليلا على عدم وجود الخيار ، فإن الأنبياء كانوا موجودين مع حصول الخسف والمسخ بأممهم فليسوا أعظم من الأنبياء ، ولما في الحديث : «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث».

٨٦

عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أنه بلغكم (وَما جَعَلْنَا) صيرنا (الْقِبْلَةَ) لك الآن الجهة (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أولا وهي الكعبة وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي اليها فلما هاجر أمر ياستقبال بيت المقدس تألفا لليهود فصلى اليه ستة أو سبعة عشر شهرا ثم حول (إِلَّا لِنَعْلَمَ) علم ظهور (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فيصدقه (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي يرجع إلى الكفر شكا في الدين وظنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حيرة من أمره وقد ارتد لذلك جماعة (وَإِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي وإنها (كانَتْ) أي التولية اليها (لَكَبِيرَةً) شاقة على الناس (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) منهم (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي

____________________________________

قوله : (لِتَكُونُوا) اللام للتعليل وقيل للصيرورة وعلى كل فالفعل منصوب بأن مضمرة بعدها جوازا وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل. قوله : (أن رسلهم بلغتهم) هذا بيان للمشهود به قوله : (أنه بلغكم) هذا بيان لشهادة الرسول ، وحاصل ذلك أنه يوم القيامة توقف كفار الأمم السابقة في صعيد واحد ، ويقول الله لهم لم لم تؤمنوا بي ألم يأتكم نذير؟ فيقولون يا ربنا ما جاءنا نذير ، فيؤتى بأنبيائهم فيقول الله لهم وهو أعلم بهم لإقامة الحجة عليهم ، ومن يشهد لكم فيقولون أمة محمد فيؤتى بهم فيقول الله : أتشهدون أن الرسل بلغت الرسالة لأممهم فكفروا بهم ، فيقولون نعم نشهد بذلك ، فتقول الأمم كيف يشهدون علينا مع كونهم متأخرين عنا؟ فيقولون يا ربنا أخبرنا رسولنا بذلك في كتابنا عنك وهو صادق في خبره ، فيقول الله لهم ومن يزكيكم؟ فيقولون نبينا فيؤتى به فيقول أشهد أن أمتي عدول ، وقوله على الناس إن كان المراد بهم أمم الأنبياء السابقة فعلى على بابها ، وإن كان المراد بهم الأنبياء فعلى بمعنى اللام فهي مستعملة في حقيقتها ومجازها ، وقوله : (عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي على كفاركم وسميت شهادة وإن كانت في الواقع دعوى لعدم ردها ، ويحتمل أن على بمعنى اللام والضمير عائد على العدول الشاهدين على الأمم السابقة من حيث تزكيته لهم.

قوله : (وَما جَعَلْنَا) اختلف في إعراب هذه الآية فدرج المفسر على أن قوله : (الْقِبْلَةَ) مفعول ثان لجعلنا مقدم ، وقوله : (الَّتِي) صفة لموصوف محذوف مفعول أول ، ودرج غيره على العكس وهو أن القبلة مفعول أول والتي صفة لموصوف محذوف مفعول ثان والأقرب الأول ، وحاصل ذلك أن رسول الله وهو بمكة كان يصلي للكعبة ، فما هاجر إلى المدينة أمر باستقبال بيت المقدس تأليفا لليهود فصلى لها سبعة عشر أو ستة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشم منهم الكبر فكانوا يقولون إن محمدا يفارق ديننا ويصلي لقبلتنا ، وكان رسول الله يحب أن يصلي للكعبة حتى نزل عليه جبريل يوما فقال له يا جبريل أود أن الله يحولني لقبلة أبي إبراهيم فسل ربك ذلك ، فقال له أنت أكرم عليه مني ، ثم صعد إلى السماء فصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر لجهتها منتظرا للإذن في ذلك ، فنزل عليه جبريل بعد ركعتين من صلاة الظهر في رجب بالأمر بالتحويل للكعبة فتحول وتحولت الناس معه. وكان يوما مشهودا فافتتن اليهود وأهل النفاق. قوله : (علم ظهور) جواب عما يقال إن علم الله قديم فلا يتجدد ، والمعنى ليظهر لكم متعلق علمنا بتمييز المؤمن من الكافر. قوله : (فيصدقه) أي يدوم على صدقه. قوله : (أي يرجع للكفر) أشار بذلك إلى أن قوله ممن ينقلب على عقبيه ليس على حقيقته ، لأن الانقلاب على العقب معناه الرجوع لخلف وليس مرادا بل هو كناية عن الرجوع للكفر ، نظير (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى). قوله : (وقد ارتد ذلك) أي التحويل والمعنى ظهر كفرهم ، وإلا فمتى صبغ القلب بالإيمان فلا يزول لأن الكريم إذا منّ تمم. قوله : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي فكان عيدا لهم حتى صار

٨٧

صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ) المؤمنين (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣) في عدم إضاعة أعمالهم والرأفة شدة الرحمة وقدم الأبلغ للفاصلة (قَدْ) للتحقيق (نَرى تَقَلُّبَ) تصرف (وَجْهِكَ فِي) جهة (السَّماءِ) متطلعا إلى الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة وكان يود ذلك لأنه قبلة إبراهيم ولأنها أدعى إلى الإسلام العرب (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) نحولنك (قِبْلَةً تَرْضاها) تحبها (فَوَلِّ وَجْهَكَ) استقبل في الصلاة (شَطْرَ) نحو (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي الكعبة (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) خطاب للأمة (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) في الصلاة (شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التولي إلى الكعبة (الْحَقُ) الثابت

____________________________________

فضل من صلى مع النبي للقبلتين أعظم ممن أتى بعد ذلك ، قال صاحب الجوهرة : والسابقون فضلهم نصا عرف. قوله : (أي صلاتكم) عبر بالإيمان عن الصلاة لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. قوله : (لأن سبب نزولها إلخ) وسبب ذلك شبهة ألقاها حيي بن أخطب للمسلمين ، وهي أن استقبالكم لبيت المقدس لا يخلو إما أن يكون هدى فقد انتقلتم الآن إلى ضلال ، وإما أن يكون ضلالا فلم أقركم عليه ، وأيضا من مات قبل التحويل مات على الضلال وضاعت أعماله ، فشق ذلك على أقارب من مات قبل التحويل فشكوا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية ، وتحويل القبلة أول نسخ ورد في الشرع. قوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ) هذا كالدليل لما قبله أي لم يضيع صلاتكم لكونه رؤوفا رحيما. قوله : (للفاصلة) أي التي هي قوله إلى صراط مستقيم فهي على الميم فيهما.

قوله : (قَدْ نَرى) تقدم سبب نزول هذه الآية. قوله : (للتحقيق) وقيل للتكثير وهو بالنظر لفعل النبي لا لرؤية الله وهو خطاب تودد. قوله : (متطلعا) أي متطلبا ومتشوفا وهو إشارة لحال محذوفة. قوله : (لأنها قبلة إبراهيم) أي وقبلته من قبل. قوله : (ولأنه أدعى إلى إسلام العرب) أي فإنهم قالوا حين استقبل بيت المقدس حيث عدل عن قبلة أبيه إبراهيم : لا نتبعه أبدا. قوله : (نحولنك) متقضى هذا التفسير أن قبلة منصوب بنزع الخافض ولو أبقى نولي على حالها لفسرها بنعطي لأنها تنصب مفعولين ، فالكاف مفعول أول وقبله مفعول ثان. قوله : (تحبها) أي بحسب الطبع وإلا فهو يحب أوامر الله مطلقا. لكن إذا كانت موافقة للطبع كانت أحب ، وهذا وعد من الله له بما يحبه وفي قوله فول إنجاز له. قوله : (شَطْرَ) يطلق على الجهة وهو المراد هنا ويطلق على النصف ويطلق على البعد يقال شطر فلان بمعنى بعد. قوله : (أي الكعبة) أشار بذلك إلى أن المراد بالمسجد الحرام خصوص الكعبة ، ولما نزلت هذه الآية تحول لجهة الميزاب وهكذا قبلتنا بمصر فإنها لجهته.

قوله : (وَحَيْثُ ما) شرطية لاقترانها بما وكنتم فعل الشرط ، وقوله فولوا إلخ جوابه وقرن بالفاء لأنه فعل طلبي ، وفي هذه الآية إشارة أخرى لحكمة النسخ وهي تطلعه لجهة السماء ومحبته للكعبة ، وتقدمت الحكمة الأولى كونها فتنة للناس ليتميز المؤمن من غيره. قوله : (خطاب للأمة) ودفع بذلك ما يتوهم أنه من خصائصه عليه الصلاة والسّلام. قوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) أي في أي مكان وفي أي زمان. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل المراد بهم اليهود لأنهم هم المعارضون له في ذلك الوقت والكتاب هو التوراة ، وقيل اليهود والنصارى والكتاب هو التوراة والإنجيل. قوله : (أي التولي إلى الكعبة) ويصح أنه

٨٨

(منْ رَبِّهِمْ) لما في كتبهم من نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنه يتحول إليها (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤) بالتاء أيها المؤمنون من امتثال أمره وبالياء أي اليهود من إنكار أمر القبلة (وَلَئِنْ) لام قسم (أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) على صدقك في أمر القبلة (ما تَبِعُوا) أي يتبعون (قِبْلَتَكَ) عنادا (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لطمعه في إسلامهم وطمعهم في عوده إليها (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي اليهود قبلة النصارى وبالعكس (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) التي يدعونك إليها (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الوحي (إِنَّكَ إِذاً) إن اتبعتهم فرضا (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) أي محمدا (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) بنعته في كتبهم ، قال ابن سلام لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي لمحمد أشد (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) نعته (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦) هذا الّذي أنت عليه (الْحَقُ) كائن (مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧) الشاكين فيه أي من هذا النوع فهو أبلغ من لا تمتر

____________________________________

عائد على النبي أو النسخ ، لأن كلا مذكور في الآية والمآل واحد قوله : (أيها المؤمنون) أي وفيه وعيد وزجر وتهديد وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ولئن أتيت) هذا أيضا تسلية للنبي وتيؤس من إيمانهم ، لأنهم ضلوا على علم فلا تنفع فيهم موعظة :

وإذا ضلت العقول على عل

م فماذا تقوله النصحاء

قوله : (لام قسم) أي وإن حرف شرط وقوله أتيت فعل الشرط وقوله ما تبعوا جواب القسم ، وأما جواب الشرط فهو محذوف للقاعدة النحوية أنه إذا اجتمع شرط وقسم فإنه يحذف جواب المتأخر منهما ، وأيضا قوله ما تبعوا لا يصلح أن يكون جوابا للشرط لأنه فعل منفي بما فحقه دخول الفاء فيه. قوله : (قطع لطمعه في إسلامهم) راجع لقوله ما تبعوا قبلتك ، وقوله : (وطمعهم إلخ) راجع لقوله وما أنت بتابع قبلتهم ، فهو لف ونشر مرتب. إن قلت كيف يطمعون في عوده لبيت المقدس مع أنه مذكور في كتبهم أنه لا يرجع عن الكعبة بعد أن تحول إليها ، قلت إن ذلك الطمع واقع من جهلتهم الذين لا يعرفون في التوراة شيئا. قوله : (أي اليهود قبلة النصارى) هذا مما يؤيد أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، وقبلة اليهود بيت المقدس ، وقبلة النصارى مطلع الشمس. وكانت باختراع منهم لزعم بولس القسيس أنه بعد رفع عيسى قال لقيت عيسى عليه‌السلام فقال لي إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم ففعلوا ذلك. قوله : (إن اتبعتهم فرضا) أي على سبيل الفرض والتقدير على حد لئن أشركت ليحبطن عملك ، وقيل الخطاب له والمراد غيره لمزيد الزجر.

قوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ما مصدرية تسبح مع ما بعدها بمصدر أي كمعرفتهم ابنائهم ، والمشبه أقوى من المشبه به ، قوله : (ومعرفتي لمحمد أشد) سئل عن ذلك فقال لأن معرفتي بابني ظنية لأنه يحتمل أن يكون من غيره ، وأما معرفتي بمحمد فهي عن الله ، وأي خبر أصدق خبر الله؟ قوله : (كائنا) أشار بذلك إلى أن قوله من ربك متعلق بمحذوف حال من الحق وهو خير لمبتدأ محذوف ، والأظهر أن مبتدأ خبره والجار والمجرور بعده أو مبتدأ والخبر محذوف تقديره يعرفونه وأل يحتمل أنها للعهد الذكري أو الجنس أو الاستغراق ، قوله : (الشاكين فيه) أي في كونهم يعرفون نعتك أو في الحق ، قوله : (فهو أبلغ من لا تمتر)

٨٩

(وَلِكُلٍ) من الأمم (وِجْهَةٌ) قبلة (هُوَ مُوَلِّيها) وجهه في صلاته وفي قراءة مولاها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) بادروا إلى الطاعات وقبولها (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يجمعكم يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) لسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٩) بالتاء والياء تقدم مثله وكرره لبيان تساوى حكم السفر وغيره (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) كرره للتأكيد (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) اليهود أو

____________________________________

أي لكون النهي عاما فيفيد أن الشك يضر كل من قام به ، ولكونه مؤكدا بالنون ولأن الكناية أبلغ من الحقيقة بخلاف لا تمتر ، فربما يتوهم أن الشك يضر إلا هو فقط ولم يكن مؤكدا.

قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) هذا كالنتيجة لما قبله كأنه قال فلما تفرقوا صار لكل وجهة. قوله : (قبلة) أشار بذلك إلى أن وجهة اسم للمكان فثبوت الواو قياسي ، وأما إن أريد بها المعنى المصدري فثبوت الواو غير قياسي على حد عدة ورقة ، وإنما ثبتت الواو تنبيها على الأصل ، قوله : (هُوَ) أي الفريق المفهوم من الأمم ، لأن المراد بهم الفرق ، ولو عبر به لكان أوضح ، قوله : (مُوَلِّيها) اسم فاعل فاعله ضمير يعود على الفريق ، والهاء مفعول أول وقول المفسر وجهة مفعول ثان قوله : (وفي قراءة مولاها) أي بصيغة اسم المفعول ، فنائب الفاعل مفعول أول والهاء مفعول ثاني والمعنى موجه إليها. قوله : (الْخَيْراتِ) جمع خير بالتخفيف والتشديد جمع خيرة ومعناه الطاعة على كل ، قوله : (أَيْنَما تَكُونُوا) أين اسم شرط جازم يجزم فعلين ، تكونوا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل ، ويأت جواب الشرط مجزوم بحذف الياء والكسرة دليل عليها ، وبكم متعلق بيأت والله فاعل يأت وجميعا حال من الكاف في بكم ، وقوله : (فيجازيكم) فيصح فيه الجزم والرفع والنصب ولكن الرسم يأبى الأول ، وإنما جازت الأوجه الثلاثة فيه لقول ابن مالك :

والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفاء أو الواو بتثليث قمن

والمعنى في أي مكان تكونون فيه يجمعكم الله لحساب فيترتب عليه الجزاء. قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا كالدليل لما قبله أي إنما كان ذلك لأنه قدير على كل شيء. قال تعالى : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ، قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) إلخ حيث هنا ظرف مكان ومن للإبتداء ، وجملة خرجت في محل جر بإضافة حيث إليها وليست شرطية لأنها لا تكون كذلك إلا إذا اقترنت بما. قوله : (لسفر) ظاهره فرضا ونقلا ولكن السنة خصصت ذلك بالفريضة ، وأما النافلة فتجوز في السفر لغير القبلة بشروط مذكورة في الفقه ، قوله : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي جهة الكعبة. قوله : (وَإِنَّهُ) أي النسخ أو التولي للكعبة أو النبي ، قوله : (لَلْحَقُ) أي جنسه أو المعهود وهو نعت النبي أو كل فرد من أفراده ، قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، قوله : (لبيان تساوي حكم السفر إلخ) أشار بذلك لدفع ما يتوهم أنه تكرار محض ، قوله : (كرره للتأكيد) أي للتثبيت في عقولهم لقرابة الحكم حينئذ لأنه أول ما ورد من النسخ.

قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ) هذا هو حكمة التولية أي فما أمرناكم بالتوبة لأجل انتفاء حجة

٩٠

المشركين (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي مجادلة في التولي إلى غيره أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود يجحد ديننا ويتبع قبلتنا وقول المشركين يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالعناد فإنهم يقولون ما تحول إليها إلا ميلا إلى دين آبائه والاستثناء متصل والمعنى لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء (فَلا تَخْشَوْهُمْ) تخافوا جدالهم في التولي إليها (وَاخْشَوْنِي) بامتثال أمري (وَلِأُتِمَ) عطف على لئلا يكون (نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى معالم دينكم (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠) إلى الحق (كَما أَرْسَلْنا) متعلق بأتم أي إتماما كإتمامها بإرسالنا (فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) القرآن (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهركم من الشرك (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) ما فيه الأحكام (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١)

____________________________________

الناس عليكم ، واللام هذه لام كي وإن مصدرية ولا نافية ويكون منصوب بأن ، وللناس خبرها مقدم وحجة اسمها مؤخر وعليكم حال من حجة لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، قوله : (أي لتنتفي إلخ) هذا حل معنى لا حل إعراب ، ولو حله حل إعراب لقال لعدم كون حجة ثابتة للناس عليكم قوله : (أي مجادلة) أي جدال في الباطل واعتراض وليس المراد بها المجادلة في الحق وإظهار حجته قوله : (من قول اليهود) هذا بيان للمجادلة ، قوله : (وقول المشركين) أي فقد زال ذلك وأما قولهم ما زال محمد في حيرة فباقية لم تزل ، قوله : (فإنهم يقولون) أي اليهود ، والحاصل أن الحجج أربع : لليهود حجتان وللمشركين كذلك ، أما حجة اليهود فهي ما له يصلي لقبلتنا ولا يتبع ديننا وأما حجة المشركين فهي يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ، وهاتان الحجتان قد انقطعتا وبقيت حجة لكل ، أما حجة اليهود فقولهم ما تحول إليها إلا ميلا لدين الجاهلية ، وأما حجة المشركين فقولهم لم يزل محمد في حيرة ، قوله : (والإستثناء متصل) أي لأن ما قبله ظالمون أيضا ، قوله : (تخافوا جدالهم) أي لا يقدرون على إيصال نفع ولا دفع ضرر ، قوله : (عطف على لئلا يكون) أي فتحويل القبلة لحكم عظيمة الأولى تمييز المؤمن من غيره ، الثانية انقطاع الحجج ، الثالثة إتمام النعمة ، الرابعة الإهتداء إن قلت إن مقتضى هذه الآية إن النعمة تمت الآن ومقتضى ما يأتي في سورة المائدة في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أنها لم تتم إلا حين نزولها وهو يوم عرفة في حجة الوداع. أجيب بأن النعمة مقولة بالتشكيك ، فالمراد بها هنا استقبال الأشرف الذي هو الكعبة والمراد بها هنا الدين ، قوله : (مِنْكُمْ) هذه نعمة أخرى فوق أصل الإرسال لأنه لو كان ملكا لما استطاعوه لأن علة الإنضمام المجانسة ، قوله : (القرآن) خصه من دون المعجزات لأنه باق إلى الآن. قوله : (يطهركم من الشرك) أي حتى صرتم عدولا تشهدون على الناس يوم القيامة ، ويصح أن يقال معنى (يُزَكِّيكُمْ) يشهد لكم بالعدالة يوم القيامة.

قوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي حتى حفظتم لفظه عن ظهر قلب لقوله في الحديث : «وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم» قوله : (ما فيه من الأحكام) أي المعاني التي لا تحصى ، قال علي بن أبي طالب : لو أردت أن أوقر من الفاتحة حمل سبعين بعيرا لفعلت ، ومن معناه ما قال الخواص مما من الله به علي أن أعطاني مائة ألف علم وتسعة وتسعين الفا من علوم الفاتحة ، قوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)

٩١

(فَاذْكُرُونِي) بالصلاة والتسبيح ونحوه (أَذْكُرْكُمْ) قيل معناه أجازكم ، وفي الحديث عن الله «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه»

(وَاشْكُرُوا لِي) نعمتي بالطاعة (وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) بالمعصية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا)

____________________________________

عطف عام على خاص ، قوله : (ونحوه) أي كالتهليل والتحميد ، وإنما قال بالصلاة لأن الذكر إما باللسان أو الجوارح أو بالجنان ، ولا شك أن الصلاة جامعة لكل ذكر ، فالقراءة والتكبير والتسبيح والدعاء ذكر لساني ، والركوع والسجود ذكر بالجوارح والخشوع والخضوع والمراقبة ذكر قلبي ، قوله : أي خاليا وبعيدا عن الخلق ، قوله : (ذكرته في نفسي) أي أعطيه عطايا لا يعلمها غيري ، قوله : (ومن ذكرني في ملأ) أي بين الناس ، قوله : (ذكرته في ملأ) أي أعطيته عطايا ظاهرة لعبادي وأظهر فضله لهم ، إن قلت إن الإنسان قد يذكر الله بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالصحابة فأي ملأ خير من النبي ، قلت أجيب بأن الشيء يشرف بما نسب إليه ، فإن المجلس ينسب لكبيره وفرق بين حضرة الله وملائكته ، وبين حضرة النبي وأصحابه ، وأيضا كون النبي في حضرة الله اشرف من نفسه في حضرة أصحابه ، فمعنى قوله خير من ملئه ذكرته في حضرة النبي والملائكة المقربين في الملأ الأعلى ، ولا شك أن تلك الحضرة لا يعدلها شيء أبدا ، والملأ بالقصر الجماعة الأشراف قوله : (خير) بالجر صفة الملأ وقيل معنى اذكروني تذللوا لجلالي ، أذكركم أكشف الحجب عنكم وأفيض عليكم رحمتي وإحساني وأحبكم وأرفع ذكركم في الملأ الأعلى لما في الحديث : «ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا» وفي الحديث أيضا «إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل : إني أحب فلانا فأحبه» فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» وهذا من جملة الثمرات المعجلة ، وأما المؤجلة فرؤية وجهه الكريم ورفع الدرجات وغير ذلك وينبغي للإنسان أن يذكر الله كثيرا لقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ولا يلتفت لواش ولا رقيب ، لقول السيد الحفني خطابا للعارف بالله تعالى إستاذنا الشيخ الدردير :

يا مبتغي طرق أهل الله والتسليك

دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيك

إن اذكروني لرد المعترض يكفيك

فاجعل سلافا الجلالة دائما في فيك

ولا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه ، فربما ذكر مع غفلة يجر لذكر مع حضور ، لأنهم شبهوا الذكر بقدح الزناد ، فلا يترك الإنسان القدح لعدم إيقاده من أول مرة مثلا بل يكرر حتى يوقد ، فإذا ولع القلب نارت الأعضاء فلا يقدر الشيطان على وسوسته ، لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) وخفت العبادة على الأعضاء فلا يكون على الشخص كلفة فيها ، قال العارف :

إذا رفع الحجاب فلا ملالة

بتكليف الإله ولا مشقة

ويكفى الذاكر من الشرف قول الله تعالى في الحديث القدسي «أنا جليس من ذكرنى» وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهل الأفضل الذكر مع الناس أو الذكر في خلوة ، والحق التفصيل ، وهو إن كان الإنسان ينشط وحده ولم يكن مدعوا من الله لهداية الناس فالخلوة في حقه أفضل ، وإلا فذكره مع الناس أفضل إما لينشط أو ليقتدي الناس به ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره. قوله : (وَاشْكُرُوا

٩٢

على الآخرة (بِالصَّبْرِ) على الطاعة والبلاء (وَالصَّلاةِ) خصها بالذكر لتكررها وعظمها (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١٥٣) بالعون (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) هم (أَمْواتٌ بَلْ) هم (أَحْياءٌ) أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت لحديث بذلك (وَلكِنْ لا

____________________________________

لِي) الحق أنه يتعدى بنفسه وباللام والمعنى واحد وهو من عطف الخاص على العام ، والنكة في ذلك بيان أعلى المقاصد في الذكر ، فإن المقاصد في الذكر مختلفة ، فمن قصد بذكره الدنيا فقط فهو دنيء ، ومن قصد بذكره دخول الجنة والنجاة من النار فهو أعلى من الأول ، ومن قصد بذكره شكر الله على خلقه إياه وإنعامه عليه ولم يقصد غيره فهو من المقربين لما في الحديث «أفلا أكون عبدا شكورا».

قوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) أي لأن حقيقة الشكر أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، فمعنى لا تكفرون لا تصرفوا نعمي في غير ما خلقتها له. قوله : (على الطاعة) أي على دوامها سواء كانت الطاعة فعلا أو تركا. قوله : (والبلاء) أي المصائب بأقسام الصبر ثلاثة : صبر على الطاعة بدوام فعلها ، وصبر عن المعصية بدوام تركها ، وصبر على البلاء بحمد الله وشكره عليها فيكون شاكرا على السراء والضراء ، وأعظمها الصبر عن المعاصي ، وأقل منه الصبر على الطاعة ، وأقل منهما الصبر على البلاء لأنه ورد أن الصابر على البلاء يرفعه الله ثلثمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض مرة والصابر على دوام الطاعة يرفعه يرفع الله ستمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض امرة والصابر عن المعصية يرفعه الله تسعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ثلاث مرات. قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) خصهم وإن كان الله مع كل أحد لأن المراد معية مخصوصة وهي العون والإغاثة ، وأما المعية مع كل أحد فمعية علم وقدرة يتصرف فيهم كيف شاء ، وأما الصابرون فهم المحبوبون لله لقوله في الحديث : «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» حديث.

قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذه الآية نزلت في قتلى بدر وكان المقتول من المسلمين أربعة عشر : ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، لما قال المشركون والمنافقون هؤلاء قد ماتوا وضيعوا على أنفسهم الحياة ولذاتها وقد ادعوا أنهم ماتوا في مرضاة محمد فنزلت هذه الآية. قوله : (هم) (أَمْواتٌ) اشار بذلك إلى أن أموات خبر لمبتدأ محذوف والجملة في محل نصب مقول القول ، والمعنى يحرم قول ذلك للشهيد لأنه ليس بموت حقيقة ، وإنما هو انتقال من دار الكدر إلى دار الصفا ومن دار الحزن إلى دار السرور. قوله : (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وهم الشهداء وسموا بذلك لأن أرواحهم شهدت دار السّلام عند خروجها من البدن ، أو لأن الملائكة تشهد له بنصره لدين الإسلام.

قوله : (بَلْ) (هم) (أَحْياءٌ) أي حياة أخروية بالجسم والروح ليس كحياة أهل الدنيا ، لا يشاهدها إلا أهل الآخرة ومن خصه الله بالإطلاع عليها وهذا هو التحقيق خلافا لمن قال إنهم أحياء بالروح فقط لأنه يرد بأن كل انسان حي الروح مسلما كان أو كافرا لعدم فناء الروح ولا مزية للشهيد على غيره وهذه الحياة حقيقة ، وإنما خروج روحه انتقال من دار إلى أخرى وهي مزية من مزايا الأنبياء فلا يقال إنهم ساووهم ، وحكمة عدم تغسيل الشهداء بقاء دمهم ليشهد لهم يوم القيامة ، لما في الحديث «زملوهم بثيابهم اللون لون الدم والريح ريح المسك» ، وأما تغسيل الأنبياء فتعبدي أو للتشريع ولا تأكل الأرض

٩٣

تَشْعُرُونَ) (١٥٤) تعلمون ما هم فيه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) للعدو (وَالْجُوعِ) القحط (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) بالهلاك (وَالْأَنْفُسِ) بالقتل والموت والأمراض (وَالثَّمَراتِ) بالجوائح أي لنختبرنكم فننظر أتصبرون أو لا (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥) على البلاء بالجنة هم (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) بلاء (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) ملكا وعبيدا يفعل بنا ما يشاء (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١٥٦) في الآخرة فيجازينا ، في الحديث «من استرجع عند المصيبة آجره الله فيها وأخلف عليه خيرا» وفيه «أن مصباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طفىء فاسترجع فقالت عائشة إنما هذا مصباح فقال : كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة» رواه أبو داود في مراسيله (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ) مغفرة (مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) نعمة

____________________________________

أجساد الشهداء. قوله : (أرواحهم في حواصل الطيور إلخ) أي فهو كالهودج لها ، وأما أرواح المؤمنين المطيعين الغير الشهداء فتتنعم خارج الجنة بريحها ومأواها البرزخ ، وأما أرواح العصاة والكفار فهي مسجونة لا تصرف لها ، وأما أرواح الأنبياء فورد أنها تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش في الجنة ، وأما أرواح صغار المؤمنين ففي الجنة في كفالة إبراهيم وسارة.

قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لنبلونكم ونبلون جوابه ، واقترن باللام والنون لكونه مضارعا مثبتا مستقبلا ، والمعنى لنختبركم أيها المؤمنون لما في الحديث «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» أو ولو كان المؤمن في غاية نعيمها والكافر في أشد ضيقها. قوله : (القحط) هو في الأصل تخلف المطر وهو سبب في الجوع ، فقد فسر الشيء بسببه. قوله : (بالجوائح) أي الآفات المتلفة للزرع ونحوه. قوله : (أي لنختبركم) أي لنظهر ذلك للملائكة ولبعضكم فمن صبر فله الرضا ، ومن جزع فله السخط. قوله : (بالجنة) متعلق ببشر ، والمعنى بشرهم بالجنة من غير سابقة عذاب. قوله : (هم) (الَّذِينَ) أشار بذلك إلى أن الذين خبر لمبتدأ محذوف واقع في جواب سؤال مقدر قيل نعت مقطوع ، وقيل إن الذين نعت للصابرين وهو أحسنها ، وقيل منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح ، وقيل مبتدأ خبره قوله أولئك. قوله : (مُصِيبَةٌ) أي مصيبة كانت سواء كانت فقد مال أو نفس أو جوعا أو خوفا أو غير ذلك.

قوله : (إِنَّا لِلَّهِ) أي مملوكون ومخلوقون له يتصرف فينا على ما أراد ، وهذه المقالة من خصائص هذه الأمة ، ولو كانت لغيرهم لكانت ليعقوب حين فقد يوسف فقال يا أسفا. قوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي صائرون. قوله : (من استرجع) أي قال إن لله وإنا إليه راجعون. قوله : (آجره الله فيها) أي بسببها وفي المصباح أجره الله أجرا من بابي ضرب وقتل وآجره بالمد لغة ثالثة إذا أثابه. قوله : (وأخلف عليه خيرا) أي منها إما في الآخرة فقط أو فيها وفي الدنيا ، فمن رضي بأحكام الله وصبر على ما أصابه فله الرضا من الله ، ولكل مصيبة دواء إلا الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى ، قال بعضهم :

لكل شيء إذا فارقته عوض

وليس لله إن فارقت من عوض

قوله : (إنما هذا مصباح) أي شيء قليل. قوله : (صَلَواتٌ) جمع صلاة وهي المغفرة كما فسر بذلك المفسر ، وجمعها إشارة إلى أنه لا يبقى عليهم ذنوب أبدا بل عليهم مغفرة متكررة ، قوله : (نعمة) دفع بذلك ما يقال إن الصلاة هي الرحمة ، فعطف الرحمة عليها مرادف فيما حكمة التكرار ، فأجاب المفسر بمنع

٩٤

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧) إلى الصواب (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) جبلان بمكة (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أعلام دينه جمع شعيرة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) أي تلبس بالحج أو العمرة وأصلهما القصد والزيارة (فَلا جُناحَ) إثم (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ) فيه ادغام التاء في الأصل في الطاء (بِهِما) بأن يسعى بينهما سبعا نزلت لما كره المسلمون ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بهما وعليهما صنمان يمسحونهما وعن ابن عباس أن السعي غير فرض لما أفاده رفع الاثم من التخيير وقال الشافعي وغيره ركن وبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرضيته بقوله : «إن الله كتب عليكم السعي» رواه البيهقي وغيره ، وقال : «ابدأوا بما بدأ الله به» يعني الصفا رواه مسلم (وَمَنْ تَطَوَّعَ) وفي قراءة بالتحتية وتشديد الطاء مجزوما وفيه إدغام التاء فيها (خَيْراً) أي بخير أي عمل ما لم يجب عليه من طواف وغيره (فَإِنَ

____________________________________

ذلك ، وأن العطف مغاير ، فالصلاة محو الذنوب والرحمة العطايا فهو من باب التحلية بعد التخلية ، وقد ورد إطلاق الصلاة على المغفرة ، ففي الحديث «اللهم صل على آل أبي أوفى» أي اغفر لهم ، وفي الحديث أيضا «إن الملائكة لتصلي على أحدكم ما دام في صلاة تقول اللهم اغفر له اللهم اغفر له» وقيل إن الصلاة بمعنى الرحمة والعطف مرادف وحكمة التكرار الإشارة لتوالي الرحمات والنعم والرضا عليه ، حيث رضي بأحكام سيده وحبس نفسه على ما تكره. قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي الكاملون في الهدى ، فإن الرضا عن الله في كل حال من علامات الهدى الكامل. قوله : (إِنَّ الصَّفا) جمع صفاة اسم للحجر الأملس ، والمراد هنا الجبل المعروف الذي يبتدأ السعي منه. قوله : (وَالْمَرْوَةَ) في الأصل اسم للمكان الرخو ، والمراد هنا الجبل الذي ينتهي السعي إليه. قوله : (جبلان بمكة) أي بجوار المسجد الحرام. قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من أمور دين الله التي تعبدنا بها فمن أنكر كون السعي من أمور الدين فقد كفر. قوله : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) الحج في اللغة القصد واصطلاحا عبادة ، يلزمها طواف بالبيت سبعا وسعي بين الصفا والمروة كذلك ، ووقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة على وجه مخصوص.

قوله : (أَوِ اعْتَمَرَ) العمرة في اللغة الزيارة واصطلاحا عبادة ، يلزمها طواف وسعي على وجه مخصوص. قوله : (وأصلهما القصد إلخ) لف ونشر مرتب. قوله : (فيه إدغام التاء في الأصل) أي فأصله يتطوف قلبت التاء طاء ثم أدغمت في الطاء. قوله : (لما كره المسلمون) أي حين كرهوا ذلك. قوله : (وعليهما صنمان) أحدهما يسمى أسافا والثاني يسمى نائلة ، قيل كانا على صورة رجل وامرأة ، وذلك أن رجلا اسمه أساف وامرأة اسمها نائلة زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين على صورتهما الأصلية ، فلما تقادم الزمان عبدتهما الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك ونسخه. قوله : (غير فرض) أي ووافقه على ذلك ابن حنبل. قوله : (من التخيير) ليس المراد أنه مباح بل هو مطلوب بدليل ضم أول الآية لأخرها. قوله : (وغيره) أي وهو مالك. قوله : (إن الله كتب عليكم السعي) تمامه «فاسعوا» وأصل الحديث «اسعوا فإن كتب عليكم السعي» فتحصل أن الآية ليست صريحة في الفرضي ولا في الوجوب وإنما أخذ ذلك من السنة. قوله : (وفيه إدغام التاء) أي بعد قلبها طاء. قوله : (أي بخير) أشار بذلك إلى أن خيرا منصوب بنزع الخافض. قوله : (من طواف وغيره) أي كسعي في حج أو عمرة أو طواف مطلقا ، لأن عبادة الطواف لا تقيد بالنسك بخلاف السعي.

٩٥

اللهَ شاكِرٌ) لعمله بالإثابة عليه (عَلِيمٌ) (١٥٨) به. ونزل في اليهود (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) الناس (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) كآية الرجم ونعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) التوراة (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعدهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩) الملائكة والمؤمنون أو كل شيء بالدعاء عليهم باللعنة (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) رجعوا عن ذلك (وَأَصْلَحُوا) عملهم (وَبَيَّنُوا) ما كتموا (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٦٠) بالمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) حال (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٦١) أي هم مستحقون ذلك في الدنيا والآخرة ، والناس قيل عام وقيل المؤمنون

____________________________________

قوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) هذا دليل الجواب وليس هو الجواب بل هو محذوف تقديره شكره الله لأن الله شاكر عليم ، والشكر في الأصل مجازاة أصحاب الحقوق عليها ، وليس ذلك مرادا في حق مولانا ، وإنما المراد عاملناه معاملة الشاكر بأنه ألزم نفسه الجزاء من فضله لأنه كريم واسع العطاء. قوله : (ونزل في اليهود) أي في أحبارهم ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وعبد الله بن صوريا قوله : (الناس) قدره المفسر إشارة إلى أنه مفعول يكتمون الثاني ، والمعنى يكتمون الحق عن الناس بحيث يظهرون الباطل ويخفون الحق من نعت محمد وغيره. قوله : (ما أَنْزَلْنا) أي الشيء أو الذي أنزلناه ، وقوله من البينات بيان لما ، والمراد بالبينات الآيات الواضحات التي من أذعن لها فقد اهتدى ، وعطف الهدى عليها للتفسير. قوله : (كآية الرجم) أي الكائنة في التوراة ، وهي أن من زنى يرجم فمحوها وقالوا لم يكن ذلك عندنا فحصل منهم التكذيب لنبيهم. قوله : (ونعت محمد) أي صفاته وأخلاقه من مولده إلى إنتهاء أجله ، وهذان مثالان للبينات والهدى معا لأن بالآيات يحصل الهدى.

قوله : (لِلنَّاسِ) أي عموما. قوله : (أُولئِكَ) مبتدأ وجملة يلعنهم الله خبره وأتى بإشارة البعيد إشارة لبعدهم عن رحمة الله. قوله : (والمؤمنون) أي من غيرهم كالإنس والجن. قوله : (أو كل شيء) أي حتى الجمادات والحيتان في البحر ، ويشهد له الحديث «العاصي يلعنه كل شيء حتى الحيتان في البحر». وأو لتنويع الخلاف ، ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذا الوعيد وإن كان واردا في كل شيء خاص إلا أنه لكل من كتم علما ، ومنه شاهد الزور والمفتي بغير الحق.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء متصل أفاد به أن اللعنة معلقة. قوله : (رجعوا عن ذلك) أي الكتمان بأن أنصفوا من أنفسهم وأسلموا فهذا الوعيد خاص بمن مات كافرا ، وأما من مات مؤمنا ولو عاصيا فليس له هذا الوعيد ، ولا يجوز الدعاء باللعنة على المعين ولو كافرا إلا أن يثبت موته على الكفر ، وأما غير المعين فيجوز على الكافر والعاصي. قوله : (وَأَصْلَحُوا) (عملهم) أي في المستقبل كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله : (ما كتموا) أي من البينات والهدى ، ويحتمل أن قوله تعالى وبينوا أي التوبة. قوله : (فَأُولئِكَ) أتى بإشارة البعيد إشارة لرفعة رتبتهم على رتبة غيرهم على حد (ذلك الكتاب). قوله : (وَأَنَا التَّوَّابُ) أي الكثير القبول لتوبة من تاب ، والجملة حالية من فاعل أتوب. قوله : (بالمؤمنين) أي ولو عصاة والمراد من مات مسلما.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أحبارا أو غيرهم ، وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي استمروا على

٩٦

(خالِدِينَ فِيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) طرفة عين (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١٦٢) يمهلون لتوبة أو معذرة. ونزل لما قالوا صف لنا ربك (وَإِلهُكُمْ) المستحق للعبادة منكم (إِلهٌ واحِدٌ) لا نظير له في ذاته ولا في صفاته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣) وطلبوا آية على ذلك فنزل (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من

____________________________________

الكفر حتى ماتوا عليه. قوله : (أي هم مستحقون ذلك) أشار بذلك لدفع التكرار ، كأنه قال : المراد باللعنة الأولى حصولها بالفعل وبالثانية استحقاقها ، وفي الحقيقة لا تكرار لأن ما تقدم في الكفار من أحبار اليهود وهذا في الكفار عموما. قوله : (قيل عام) أي حتى الكفار لأنه يلعن بعضهم بعضا. قوله : (وقيل المؤمنون) أي من الإنس والجن والملائكة. قوله : (أي اللعنة) أي ويلزم من خلوده في اللعنة خلوده في النار. قوله : (المدلول بها) أي اللعنة وقوله أي عليها أي النار. قوله : (طرفة) أي مقدار تغميض العين وفتحها العادي. قوله : (يمهلون) أشار بذلك إلى أنه من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير ، قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أجارنا الله والمسلمين من النار. قوله : (ونزل) أي بمكة لأن هذه الآية وما بعدها مكية وإن كانت السورة مدنية. قوله : (لما قالوا) أي مشركوا العرب وكانوا إذ ذاك يعبدون ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة ، نزلت سورة الإخلاص أيضا ردا عليهم.

قوله : (وَإِلهُكُمْ) مبتدأ وإله خبره وواحد صفته وهو محط الفائدة على حد : مررت بزيد رجلا صالحا ، فهي كالحال الموطئة ، وقوله لا إله إلا هو خبر ثان مؤكد لما قبله لقصد الإيضاح. قوله : (لا نظير له إلخ) فيه نفي الكموم الخمسة وتوضيحه أن قوله لا نظير له في ذاته ، أي إن ذاته ليست مركبة من أجزاء وليس لأحد ذات كذاته ولا في صفاته ، أي ليست صفاته متعددة من جنس واحد ، بمعنى أنه ليس له علمان ولا سمعان إلى آخرها ، وليس لأحد صفة كصفات مولانا ، فهذه أربعة كموم متصلان في الذات والصفات ومنفصلان فيهما ، والخامس المنفصل في الأفعال بمعنى أنه ليس لأحد فعل مع الله وأما المتصل فيها فهو ثابت لا ينفى لأن أفعاله على حسب شؤونه في خلقه.

قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق موجود إلا هو أي إلهكم ، وفي الكلام تغليظ لهم ، وإعرابه لا نافيه للجنس تعمل عمل إن. إله اسمها مبني على الفتح في محل نصب ، والخبر محذوف تقديره موجود ، وإلا أداة حصر وهو ضمير منفصل بدل من الضمير المستتر في الخبر ، والتقدير : لا إله موجود هو إلا هو ، وقوله الرحمن الرحيم خبر ثالث ، والمقصود من تعدد الأخبار أيضا أمر الإله لهم وتبكيت لهم لالزامهم الحجة وهذه طريقة ، ومشى المفسر على أن الرحمن الرحيم خبر لمبتدأ محذوف ، وكل صحيح. قوله : (وطلبوا آية) أي دليلا على ما تقدم من الدعاوى ، فإن قوله وإلهكم إله واحد دعوى أولى ، وقوله لا إله هو دعوى ثانية ، وقوله الرحمن الرحيم دعوى ثالثة. قوله : (فنزل) (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) أي إلى قوله لآيات وهي ثمانية أشياء في كل شيء منها آيات فهو إجابة بالمطلوب وزيادة :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وإن حرف نصب وتوكيد وفي خلق السموات جار ومجرور خبر مقدم ولآيات اسمها مؤخر وحذفه من الأول لدلالة الأخير عليه كأنه قال واختلاف الليل والنهار لآيات والفلك التي تجري في البحر لآيات

٩٧

العجائب (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان (وَالْفُلْكِ) السفن (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) ولا ترسب موقرة (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) من التجارات والحمل (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) مطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها (وَبَثَ) فرق ونشر به (فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) لأنهم ينمون بالخصب الكائن عنه (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة (وَالسَّحابِ) الغيم (الْمُسَخَّرِ) المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى

____________________________________

وهكذا ، وقوله في خلق اطلق المصدر وأراد اسم المفعول أي مخلوق هو السموات والأرض ، وقد جعل الخازن السماء مع الأرض شيئا واحدا من ثمانية أشياء ، وقوله بما ينفع الناس شيء مستقل. قوله : (وما فيهما من العجائب) أي فعجائب السموات رفعها بلا عمد ، وكو الشمس في السماء الرابعة مع إضاءتها لأهل الأرض ونفعها لهم النفع التام ، وإضاءة النجوم لأهل الأرض واهتدائهم بها مع كونها ثوابت في العرش وهكذا ، وعجائب الأرض مدها وبسطها وتثبيتها بالجبال الرواسي وهكذا قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وأفرد الأرض ولم يجمعها كالسموات لإتحاد جنسها وهو الماء والتراب واختلاف جنس السموات. قوله : (بالذهاب والمجيء) أشار بذلك إلى وجه اختلافهما. ومن جملة عجائب الليل كونه مقمرا أو مظلما وكونه طويلا على أناس دون غيرهم ، ومن جملة عجائب النهار طوله على أناس دون غيرهم ، فقد يكون الفجر عند قوم هو العصر عند آخرين وغير ذلك ، وقدم الليل على النهار لأنه سابقه على الأصح لأن الظلمة سابقة على النور وقيل يسبق النهار وينبني على هذا الخلاف فائدة وهي أن الليلة تابعة لليوم قبلها أو لليوم بعدها فعلى الصحيح تكون الليلة تابعة لليوم بعدها ، وعلى مقابله تكون تابعة لليوم قبلها ، فيوم عرفة مستثنى على القول الأول لأنه تابع لليلة بعده ، ولا يرد قوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) لأن المعنى ليس الليل يسبق النهار بحيث يأتي قبل انقضاء النهار بل كل يلزم الحد الذي حده الله له.

قوله : (وَالْفُلْكِ) يستعمل مفردا وجمعا بوزن واحد والتغاير بالوصف ، يقال فلك مشحونة وفلك مشحونات. قوله : (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) أي يسيرها الله بالريح مقبلة ومدبرة ، قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ). قوله : (ولا ترسب) أي لا تسقط لأسفل. قوله : (موقرة) أي حاملة للإثقال. اشار به إلى أن قوله بما ينفع الناس متعلق بمحذوف هو الشيء الرابع قوله : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي ومن جملة منافعهم اتصال الأقطار بعضها ببعض من حيث انتفاعهم بما في القطر الآخر من الزروع وغيرها ، فلو لا تسخير السفن لاستقل كل قطر بما فيه وضاق على الناس معاشهم. قوله : (مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) من الأولى ابتدائية والثانية يصح أن تكون بيانية أو للتبعيض.

قوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) أي أظهر ما فيها من النضارة والبهجة. قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قوله : (لأنهم ينمون بالخصب) أي فإذا كثرت المراعي شبعت البهائم فيأتي منها النسل ، وإذا كثرت الأقوات شبعت الناس فتأتي منهم الذرية. قوله : (وشمالا) هي ما جاءت من جهة القطب والجنوب ما قابلتها ، والصبا ما جاءت من مطلع الشمس والدبور ما قابلتها. قوله : (حارة وباردة) أي

٩٨

حيث شاء (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بلا علاقة (لَآياتٍ) دالات على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) يتدبرون (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (أَنْداداً) أصناما (يُحِبُّونَهُمْ) بالتعظيم والخضوع (كَحُبِّ اللهِ) أي كحبهم له (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من

____________________________________

وتأتي بالخير والشر ففي الحديث «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» ، والحاصل أن الريح تنقسم إلى قسمين رحمة وعذاب ، ثم إن كل قسم ينقسم إلى أربعة أقسام ولكل قسم اسم ، فأسماء أقسام الرحمة المبشرات والنشر والمرسلات والرخاء ، وأسماء أقسام العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر ، وقد جاء في القرآن بكل هذه الأسماء ، وقد نزل الأطباء كل ريح على طبيعة من الطبائع الأربع ، فطبع الصبا الحرارة واليبس وتسميها أهل مصر الشرقية لأن مهبها من الشرق وتسمى قبولا لاستقبالها وجهة الكعبة. وطبع الدبور البرد والرطوبة وتسميها أهل مصر الغربية لأن مهبها من الغرب وهي تأتي من دبر الكعبة ، وطبع الشمال البرد واليبس وتسمى البحرية لأنه يسار بها في البحر على كل حال وقلما تهب ليلا ، وطبع الجنوب الحرارة وتسمى القبلية لأن مهبها من مقابلة القطب وهي عن يمين مستقبل المشرق وتسميها أهل مصر المريسية وهي من عيوب مصر المعدودة فإنها إذا هبت عليهم سبع ليال استعدوا للأكفان.

قوله : (وَالسَّحابِ) أصله طرح شجرة في الجنة جعله الله محمولا للريح يسير حيث شاء الله ، فسيره أعجب من سير المراكب على ظهر البحر. قوله : (بلا علاقة) أي بلا شيء يتعلق به ويحفظه من السقوط. قوله : (يتدبرون) أي يتفكرون ويتأملون في عجائب قدرته فيعلمون أنه قادر على كل شيء ، فهذا الدليل من تمسك به وأتقنه كفاه في عقائد إيمانه ، وأما المقلد فهو من لم يحضر العلماء ولم يجلس بين أيديهم ولا يعرف الأرض من السماء كالبهائم.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ) هذه الآية وردت لاستعظام ما وقع من بعض بني آدم من الكفر بعد ثبوت البراهين القطعية ، كأن الله يقول : اعجبوا لكفر بعض العبيد مع ثبوت الأدلة على وحدانيته تعالى ، والجار والمجرور خبر مقدم ، ومن يتخذ مبتدأ مؤخر ، وهو اسم موصول وما بعد صلته أو نكرة موصوفة وما بعده صفة. قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) هي في الأصل ظرف مكان للمكان الأدنى ، يقال : جلس فلان في مكان دون مكان زيد يعني أدنى منه ، ثم أطلق الدون ، وأريد الغيرية من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن صار حقيقة عرفية في الغير.

قوله : (أَنْداداً) مفعول يتخذ وقوله يحبونهم صفة لأندادا ، وفاعل يحبونهم عائد على من باعتبار المعنى وأفرد في يتخذ مراعاة للفظ. قوله : (أي كحبهم له) أي كحب المشركين فقد سووا في المحبة بين الله والأنداد ، ويحتمل أن المعنى كحب المؤمنين لله فمحبة المشركين للأصنام كمحبة المؤمنين لله وهو الأقرب ، واستشكل الأول بأنه لا يتأتى من عاقل التسوية في المحبة بين من يخلق ومن لا يخلق ، أجاب المفسر بأن المراد بالحب التعظيم والخضوع وليس المراد الحب الحقيقي ، فإن كل إنسان جبل على محبة خالقه. قوله : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي فقد انفرد المؤمنون بمحبة الله ، وأما محبة مثل الأنبياء والأولياء فمن المحبة لله ، إن قلت إن الكفار كذلك يحبون الأنداد ليقربوهم إلى الله زلفى فيقتضي أنها أيضا من المحبة لله. أجيب بأنهم

٩٩

حبهم للأنداد لأنهم لا يعدلون عنه بحال ما والكفار يعدلون في الشدة إلى الله (وَلَوْ يَرَى) تبصر يا محمد (الَّذِينَ ظَلَمُوا) باتخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ) بالبناء للفاعل والمفعول يبصرون (الْعَذابَ) لرأيت أمرا عظيما وإذ بمعنى إذا (أَنَ) أي لأن (الْقُوَّةَ) القدرة والغلبة (لِلَّهِ جَمِيعاً) حال (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) (١٦٥) وفي قراءة يرى بالتحتانية والفاعل ضمير السامع وقيل الذين ظلموا فهي بمعنى يعلم وأن وما بعدها سدت مسد المفعولين وجواب لو محذوف والمعنى لو علموا في الدنيا شدة عذاب الله وأن القدرة لله وحده وقت معاينتهم له وهو يوم القيامة لما اتخذوا من دونه أندادا

____________________________________

كفروا بعبادتهم لهم لا بمجرد المحبة ففرق بين المحبة والعبادة ، فلا يعبد إلا الله لا غيره ، بخلاف المحبة من أجل كون ذلك المحبوب مقربا مثلا من الله كالأنبياء والأولياء ولذلك من عبدهم فقد كفر. قوله : (لأنهم لا يعدلون عنه بحال) أي فهذا وجه الأشدية. وحاصل ما قرره المفسر أن المشركين سووا الأنداد في المحبة بالله ، والمؤمنين انفردوا بمحبة الله ، ومع ذلك فهي أشد من محبة المشركين للأنداد ، وقرر غيره أن قوله تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي من جهة أن المحبة من الطرفين ، فالمؤمنون يحبون الله ويحبهم الله ، وأما المشركون فلا يخلو إما أن يكون معبودهم عاقلا أم لا فالأول يلعنهم ولا يحبهم ، والثاني لا يوصف بحب ولا بغض على أنه يصير حصبا لهم في نار جهنم بعذبون به ، فمحبة الله للعبد سابقة على محبة العبد لله ، لأن الله هو الخالق للخير والهدى في القلوب ، فحيث خلق الله في قلب الشخص النور والهدى والمحبة وفق العبد للرضا عنه ومحبته له وامتثاله أمره ونهيه ، ولذا قال بعض العارفين :

أيها المعرض عنا

إن إعراضك منا

لو أردناك جعلنا

كل ما فيك يردنا

وإنما قال أشد حبا ولم يقل أحب ، لأن اسم التفضيل لا يصاغ من الفعل المبني للمجهول ، وحيث اختل منه شرط توصل له بأشد أو أشدد. قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أظهر في محل الإضمار زيادة في التشنيع عليهم ، والمراد بالظلم الكفر. قوله : (باتخاذ الأنداد) الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف تقديره أنفسهم. قوله : (يبصرون) على القراءة الأولى هو بضم الياء مع سكون الباء وكسر الصاد ، وعلى الثانية بضم الياء وفتح الباء مع تشديد الصاد. قوله : (الْعَذابَ) مفعول لقوله يرون. قوله : (لرأيت أمرا عظيما) هذا هو جواب لو الشرطية. قوله : (إذ بمعنى إذا) جواب عن سؤال وهو أن إذ ظرف للماضي ورؤية العذاب مستقبل فالمحل لإذا فأجاب بذلك أو أنه نزل المستقبل منزلة الماضي لتحقق الحصول. قوله : (أي لأن) أشار بذلك إلى أنه علة لجواب لو أي رأيت أمرا عظيما لكون القوة جميعها لله ، فلا تخش من إمهالهم الفوات والهروب.

قوله : (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) هذا لدفع توهم الكافر أنه وإن كانت له القوة جميعا يمكن أن يسامح في ذلك فقال إن الله شديد العذاب. قوله : (قيل ضمير السامع) أي والذين ظلموا مفعوله والجواب محذوف تقديره لرأى أمرا فظيعا. قوله : (فهي بمعنى يعلم) أي فتنصب مفعولين. قوله : (وأن) أي الأولى. قوله : (سدت مسد المفعولين) أي فهذا موجب فتحها ، ويوجب فتحها أيضا تأويلها بمصدر. قوله : (والمعنى) أي على هذا الوجه الأخير. قوله : (وقت معاينتهم) هذا تفسير لإذ. قوله : (لما اتخذوا)

١٠٠