حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

ليكفروا أي حسدا على (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) بالتخفيف والتشديد (مِنْ فَضْلِهِ) الوحي (عَلى مَنْ يَشاءُ) للرسالة (مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ) رجعوا (بِغَضَبٍ) من الله بكفرهم بما أنزل والتنكير للتعظيم (عَلى غَضَبٍ) استحقوه من قبل بتضييع التوراة والكفر بعيسى (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩٠) ذو إهانة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) القرآن وغيره (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي التوراة ، قال تعالى (وَيَكْفُرُونَ) الواو للحال (بِما وَراءَهُ) سواه أو بعده من القرآن (وَهُوَ الْحَقُ) حال (مُصَدِّقاً) حال ثانية مؤكدة (لِما مَعَهُمْ قُلْ) لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) أي قتلتم (أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١) بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم ، والخطاب للموجودين في زمن نبينا بما فعل آباؤهم لرضاهم به (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات كالعصا واليد وفلق

____________________________________

قوله : على أن (يُنَزِّلَ اللهُ) المعنى كفرهم بما أنزل الله حسدا على إنزال الله من فضله ، وذلك بمعنى قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). قوله : (الوحي) قدره إشارة إلى أن مفعول ينزل محذوف. قوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ) مفعول يشاء محذوف التقدير يشاؤه. قوله : (بكفرهم) الباء يصح أن تكون للتعدية وللسببية والتنكير للتعظيم. أي في قوله غضب على حد شرا هر ذا ناب. قوله : (والكفر بعيسى) أي ثم الكفر بمحمد وما جاء به ، فقد آمنوا بموسى ثم كفروا به وضيعوا التوراة ، فلما جاءهم عيسى آمنوا به ثم كفروا به ، فلما جاءهم محمد كفروا به ، وازدادوا كفرا. قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ) أصله مهون نقلت كسرة الواو إلى الهاء فوقعت الووا ساكنة بعد كسرة قلبت ياء. قوله : (ذو إهانة) أي هوان وذل ولا يوصف بذلك إلا عذاب الكافرين ، وأما ما يقع للعصاة في الدنيا من المصائب وفي الآخرة من دخول النار فهو تطهير لهم. قوله : (بِما وَراءَهُ) يطلق بمعنى سوى وبمعنى بعد وبمعنى أمام اقتصر المفسر على الأولين. قوله : (من القرآن) أي والأنجيل.

قوله : (وَهُوَ الْحَقُ) حال من ما. قوله : (مؤكدة) أي لمضمون الجملة قبلها على حد زيد أبوك عطوفا وقوله : (ثانية) أي في التأكيد وإلا فهي ثالثة. قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) ما اسم استفهام حذفت ألفها لجرها باللام ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بالتوراة فلأي شيء تقتلون أنبياء الله. قوله : (أي قتلتم) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي ، وإنما عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جواب إن محذوف دل عليه المذكور ، فقد حذف من الجملة الأولى أداة الشرط وفعلها ومن الثانية الجواب فهو احتباك ، وقيل إن نافية بمعنى ما نتيجة الشرط المقدر. قوله : (بما فعل آباؤهم) الحاصل أنه أقيمت الحجة عليهم مرتين ، الأولى دعواكم الإيمان بالتوراة ، كذب لكفرهم بالقرآن ، فإن الكافر بأي كتاب كافر بالجميع ، وعلى تسليم هذه الدعوى فهي كذب من جهة أخرى وهي قتل الأنبياء ، فلو كنتم مؤمنين بالتوراة لانتهيتم عما نهاكم الله عنه ، فإنه نهاكم فيها عن قتل الأنبياء. قوله : (لرضاهم به) جواب عما يقال إن ذلك فيمن قتل الأنبياء ، وأما هؤلاء فلم يقع منهم ذلك ، فأجاب بأن الرضا بالكفر كفر ، وقد يقال إنهم مصرون على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تسببوا في ذلك مرارا.

قوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى) هذا أيضا من جملة قبائح بني إسرائيل. قوله : (كالعصا) دخل تحت

٦١

البحر (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ذهابه إلى الميقات (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٩٢) باتخاذه (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) على العمل بما في التوراة (وَ) قد (رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل حين امتنعتم من قولها ليسقط عليكم وقلنا (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي خالط حبه قلوبهم كما يخالط الشراب (بِكُفْرِهِمْ قُلْ) لهم (بِئْسَما) شيئا (يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بالتوراة عبادة العجل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣) بها كما زعمتم. المعنى لستم بمؤمنين لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل والمراد آباؤهم أي فكذلك أنتم لستم بمؤمنين بالتوراة وقد كذبتم محمدا والإيمان بها لا يأمركم بتكذيبه (قُلْ) لهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) خاصة (مِنْ دُونِ النَّاسِ) كما زعمتم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٤) تعلق بتمنيه الشرطان على أن الأول قيد في الثاني أي إن صدقتم في زعمكم أنها

____________________________________

الكاف باقي التسع وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين والطمس. قوله : (إلها) قدره إشارة إلى مفعول اتخذتم. قوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي كافرون. قوله : (ليسقط عليكم) علة لقوله رفعنا أي رفعناه لأجل السقوط عليكم إن لم تتمثلوا. قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) الجملة حالية على حذف مضافين أي حب عبادة العجل ، وفي الكلام استعارة بالكناية وتقريرها أن تقول شبه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ بجامع الإمتزاج في كل وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإشراب فاثباته تخييل ولم يعبر بالأكل لأنه ليس فيه شدة مخالطة. قوله : (كما يخالط الشراب) أي خلال القلوب والأبدان فمفعول يخالط محذوف. قوله : (شيئا) أشار بذلك إلى أن ما نكرة بمعنى شيء مفسرة لفاعل بئس ، وقوله : (يَأْمُرُكُمْ) صفة لما و (إِيمانُكُمْ) فاعل يأمر ، وقوله : (عبادة العجل) هو المخصوص بالذم قدره المفسر وهذا من جملة التشنيع عليهم ، أي أنتم ادعيتم الإيمان بالتوراة ثم رأيناكم قد عبدتم العجل ، فإن كان إيمانكم بها أمركم وحملكم على عبادته فبئس إيمانكم وما يأمركم به فإنه كفر لا إيمان ، وقوله بالتوراة إن قلت إن عبادة العجل متقدمة على التوراة ، أجيب بأن موسى كان يأمرهم بالتوحيد وهو موافق لما في التوراة.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن إن شرطية وكنتم فعل الشرط وجوابه محذوف دل عليه قوله : (بئسما يأمركم به إيمانكم) ويحتمل أنها نافية نتيجة قوله : (بئسما يأمركم به إيمانكم) وكلام المفسر يحتملها. قوله : (المعنى إلخ) إشارة إلى قياس حملي من الشكل الأول ، وتقريره أن تقول اعتقادكم يأمركم بعبادة العجل ، وكل اعتقاد يأمر بعبادة العجل فهو كفر ينتج اعتقادكم كفر. قوله : (أي فكذلك أنتم إلخ) أشار بذلك إلى قياس آخر تقريره أن تقول اعتقادكم يأمركم بتكذيب محمد ، وكل اعتقاد يأمر بذلك فهو كفر ينتج اعتقادكم كفر.

قوله : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إلخ في هذه الآية أعاريب منها أن الدار اسم كانت ولكم جار ومجرور خبرها وعند الله ظرف وخالصة حال ، ومنها أن الخبر قوله خالصة وعند الله ظرف على كل حال ، ومنها أن الخبر هو الظرف وخالصة حال. قوله : (تعلق بتمنيه الشرطان) في العبارة قلب والأصل

٦٢

لكم ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها الموت فتمنوه (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٩٥) الكافرين فيجازيهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) لام قسم (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ) أحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) المنكرين للبعث عليها لعلمهم بأن مصيرهم النار دون المشركين لأنكارهم له (يَوَدُّ) يتمنى (أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) لو مصدرية بمعنى أن وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول يود (وَما هُوَ) أي أحدهم (بِمُزَحْزِحِهِ) مبعده (مِنَ الْعَذابِ) النار (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل مزحزحه أي تعميره (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦) بالياء والتاء فيجازيهم وسأل ابن صوريا النبي أو عمر عمن يأتي بالوحي من الملائكة فقال جبريل فقال هو عدونا يأتي بالعذاب ولو كان ميكائيل لآمنا لأنه يأتي بالخصب

____________________________________

تعلق تمنيه بالشرطين لأن تمنوا هو الجواب وهو متعلق بالشرطين. قوله : (قيد في الثاني) حاصله أنه إذا اجتمع شرطان وتوسط بينهما جواب كان الأول قيدا في الثاني بمعنى أنه من تمام معناه ويكون الجواب لذلك الثاني ، فتقدير الآية إن كنتم صادقين في زعمكم أن الدار الآخرة لكم خاصة فتمنوا الموت ، وقيل إن الجواب للأول وجواب الثاني محذوف دل عليه جواب الأول. قوله : (أي إن صدقتم) إشارة إلى الشرط الثاني ، وقوله إنها لكم إشارة للأول. قوله : (يؤثرها) أي يقدمها ويختارها. قوله : (بِما قَدَّمَتْ) الباء سببية وما يحتمل أنها اسم موصول وقدمت صلته والعائد محذوف أي قدمته ، ويحتمل أنها نكرة موصوفة والعائد محذوف على كل حال ، والحكمة في الإتيان هنا بلن وفي الجمعة بلا ، أن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك ، فانهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس ، فلا تفيد اختصاصهم بالجنة ، فناسب هنا التوكيد بلن وهناك بلا.

قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) عطف على قوله ولن يتمنوه من عطف اللازم على الملزوم. قوله : (أَحْرَصَ) مفعول ثان لتجدنهم حيث كانت بمعنى علم ، وأما إن كانت بمعنى أصاب أو صادف نصبت مفعولا واحدا فيكون أحرص حالا. قوله : (وأحرص من الّذين أشركوا) من عطف الخاص على العام زيادة في التقبيح عليهم ودفعا لتوهم أن المشركين أحرص منهم. قوله : (لو مصدرية) أي ولا تنصب الفعل فهي سابكة فقط. قوله : (وَما هُوَ) يحتمل أن ما حجازية وهو اسمها وبمزحزحه خبرها ، وإن يعمر فاعل مزحزحه وإن ما تميمة وهو مبتدأ وبمزحزحه خبره وإن يعمر فاعله على كل حال. قوله : (أي أحدهم الخ) وقيل إن هو ضمير شأن ورد بأن ضمير الشأن يفسر بجملة وهنا ليس كذلك قوله : (بالياء والتاء) ظاهره أنهما سبعيتان وليس كذلك بل التاء عشرية ، واختلف فيما زاد على السبعة هل يلحق بها فتجوز القراءة والصلاة بها أم بالشواذ فيمتنعان والمعتمد الأول.

قوله : (وسأل ابن صوريا إلخ) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية ، وابن صوريا اسمه عبد الله وكان من أحبار اليهود. قوله : (أو عمر) أشار بذلك إلى تنويع الخلاف ، فإن عمر كان له أرض بالعوالي وكان يمر على مدارسهم ليختبر صفات محمد من كتبهم ، فقالوا يا عمر لقد أحببناك فقال والله ما أحبكم وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ، فسأله بأن صوريا عمن يأتي بالوحي لمحمد فقال هو جبريل ، فقال : هو عدونا إلخ ، فأخبر النبي بذلك فنزلت الآية. قوله : (فقال) أي المسؤول وهو النبي أو عمر.

قوله : (يأتي بالعذاب) أي كالصواعق والخسف والمسخ. قوله : (بالخصب) بكسر الخاء أي الرخاء. قوله :

٦٣

والسلم فنزل (قُلْ) لهم (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) فليمت غيظا (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ) بأمر (اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب (وَهُدىً) من الضلالة (وَبُشْرى) بالجنة (لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) بكسر الجيم وفتحها بلا همز وبه بياء ودونها (وَمِيكالَ) عطف على الملائكة من عطف الخاص على العام وفي قراءة ميكائيل بهمز وياء وفي أخرى بلا ياء (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨) أوقعه موقع لهم

____________________________________

(والسلم) أي الصلح. قوله : (فليمت غيظا) جواب لاسم الشرط الذي هو من وهو مبتدأ خبره قيل فعل الشرط وقيل جوابه وقيل هما ، وأما قوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) فلا يصح أن يكون جوابا للشرط لمانعين الأول عدم الرابط والثاني عدم تسبب الجواب عن الشرط ، وقوله لجبريل الصحيح أنه اسم أعجمي علم على رئيس الملائكة فلا اشتقاق فيه ولا تصرف ، وقيل مشتق من الجبروت وهو عالم الأسرار ، وقيل مركب إضافي وقيل مزجي والصحيح الأول ، وورد عن ابن عباس أن جبر معناه عبد وإيل معناه الله ، وميكا معنها عبد إيل معناه الله. قوله : (فَإِنَّهُ) أي جبريل. قوله : (أي القرآن) وقيل الوحي أعم من يكون قرآنا أو غيره. قوله : (عَلى قَلْبِكَ) عبر بعلى إشارة لتمكنه وانصبابه ورسوخه ، فإن الشيء إذا صب من أعلى لأسفل رسخ وثبت. قوله : (بأمر الله) أشار بذلك إلى أن المراد بالإذن الأمر لا العلم. قوله : (مُصَدِّقاً) حال من الضمير في نزله وكذلك قوله : (هُدىً وَبُشْرى). قوله : (بالجنة) أي وما فيها من النعيم ورؤية وجه الله الكريم قوله : (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ونذير للكافرين بالنار ، وهذا رد أول لكلام ابن صوريا ، حاصله أن جبريل لا اختيار له في إنزال العذاب ولا في إنزال القرآن.

قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) قدم لأنه المنشىء للأشياء جميعها ، وثنى بالملائكة لأنهم المرسلون من حضرته ، وثلث بالرسل لنزول الملائكة عليهم. قوله : (وَجِبْرِيلَ) خص وهو وميكائيل زيادة في التشنيع عليهم ولأن حياة الأرواح والأشباح بواسطتهما وتنبيها على أن عداوتهما خسران وضلال. قوله : (بكسر الجيم) أي على وزن قنديل. قوله : (وفتحها) أي على وزن شمويل. قوله : (وبه بياء ودونها) هذا في المفتوح وهو على وزن سلسبيل وجحمرش ، فجملة القراءات السبعية أربعة وهي من جملة لغات أنهاها بعضهم لثلاث عشرة ، خامسها فتح الجيم مع الهمزة واللام مشددة على أنها اسم من اسماء الله ، وفي بعض التفاسير لا يرقبون في مؤمن إلا أي الله ، سادسها فتح الجيم والف بعد الراء وهمزة مكسورة بعدها ، سابعها مثلها إلا أنها بياء بعد الهمزة ، ثامنها فتح الجيم وياءان بعد الألف من غير همزة ، تاسعها فتح الجيم وألف بعد الراء ولام ، عاشرها فتح الجيم وياء بعد الراء مكسورة ولام ، حادي عشرها فتح الجيم وياء بعد الراء ونون ، ثاني عشرها كذلك إلا أنها بكسر الجيم ، ثالث عشرها فتح الجيم والف بعد الراء وهمزة وياء ونون وأكثرها قرىء به شاذا. قوله : (من عطف الخاص على العام) والنكتة شرفهما وعظمهما وكون النزاع فيهما. قوله : (وفي أخرى بلا ياء فتكون القراءات السبعية ثلاثا بالهمزة والياء معا وبإسقاط الياء فقط وبإسقاطهما وهي من جملة لغاته السبع ، رابعها مثل بيكعيل ، خامسها كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة مثل بيكعل ، سادسها بياءين بعد الألف سابعها بهمزة مفتوحة بعد الألف وقرىء بالجميع شاذا.

قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) هذا هو جواب الشرط ، والرابط موجود وهو الإسم الظاهر لقيامه

٦٤

بيانا لحالهم (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات حال رد لقول ابن صوريا للنبي ما جئتنا بشيء (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) (٩٩) كفروا بها (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) الله (عَهْداً) على الإيمان بالنبي إن خرج أو النبي أن لا يعاونوا عليه المشركين (نَبَذَهُ) طرحه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) بنقضه جواب كلما وهو محل الإستفهام الإنكاري (بَلْ) للإنتقال (أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٠) (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ) أي التوراة (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله (وَاتَّبَعُوا) عطف على نبذ (ما تَتْلُوا) أي تلت (الشَّياطِينُ عَلى) عهد (مُلْكِ سُلَيْمانَ) من

____________________________________

مقام الضمير وقيل الرابط العموم. قوله : (بيانا لحالهم) أي ولزيادة التقبيح عليهم ، والمراد بعدواتهم لله خروجهم عن طاعته وعدم امتثالهم أمره. قوله : (حال) المناسب أن يقول صفة لأن الحال لا يكون من النكرة إلا إذا وجد لها مسوغ. قوله : (إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي الكافرون. قوله : (أ) (كفروا بها) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف وهو أحد احتمالين تقدما.

قوله : (عاهَدُوا) (الله) قدر المفسر لفظ الجلالة إشارة إلى أن عاهدوا بمعنى أعطوا ، فالله مفعول أول وعهدا مفعول ثان. قوله : (على الإيمان بالنبي) أي فالعهد مأخوذ عليهم قديما في كتبهم وعلى أنبيائهم. قوله : (أو النبي) أشار إلى تفسير ثان فقد كانوا يأتون النبي ويقولون له إن كنت نبيا فائت لنا بكذا ، فيقيم عليهم الحجة فيعاهدونه أن لا يعاونوا عليه المشركين ثم ينقضونه. قوله : (بنقضه) الباء سببية. قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) دفع بذلك ما يتوهم من قوله فريق أن الفريق يصدق بالقليل والكثير ، فيتوهم أن المراد القليل فدفع ذلك بقوله بل أكثرهم إلخ ، وهو إما من عطف الجمل أو المفردات ، فعلى الأول جملة أكثرهم لا يؤمنون معطوفة على جملة نبذه فريق منهم ، وعلى الثاني أكثرهم معطوف على طريق الإشارة إلى أن النابذ للعهد أكثرهم ، وقوله لا يؤمنون إخبار عنهم بعدم الإيمان لرسوخ الشرك في قلوبهم.

قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) هذا من جملة التشنيع على بني إسرائيل. قوله : (لِما مَعَهُمْ) أي التوراة والمعنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بإثبات التوراة وأنها من عند الله ، فكان مقتضى ذلك اتباعه والعمل بشريعته ، ولكن الله طمس على قلوبهم وسمعهم وابصارهم. قوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) صفة لفريق وأوتوا ينصب مفعولين نائب الفاعل الذي هو الواو مفعول أول والكتاب مفعول ثان ، وقوله : (كِتابَ اللهِ) مفعول لنبذ وهو بمعنى طرح. قوله : (أي لم يعملوا بما فيها) أشار بذلك إلى أن قوله وراء ظهورهم ليس على حقيقته بل هو كناية عن عدم العمل بما في التوراة ، وإلا فهم يعظمونها إلى الآن. قوله : (من أنه نبي حقا) إشارة إلى مفعول يعلمون ، والمعنى أنهم أنكروا صفة رسول الله وبدلوها ولم يذعنوا للأحكام التي في التوراة كأنهم جاهلون بها مع أنهم عالمون بها.

قوله : (عطف على نبذ) استشكل بأن المعطوف على الجواب جواب ، وقوله : (اتَّبَعُوا) لا يصلح أن يكون جوابا لعدم ترتبه على الشرط لأنه سابق على بعثة رسول الله ، فالأحسن عطفه على جملة ولما

٦٥

السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدونونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه ورفضوا كتب أنبيائهم ، قال تعالى تبرئة لسليمان وردا على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي لم يعمل السحر لأنه كفر (وَلكِنَ) بالتشديد والتخفيف (الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الجملة حال من ضمير كفروا (وَ) يعلمونهم (ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي ألهماه من السحر ،

____________________________________

جاءهم رسول بيان لسوء حالهم. قوله : (أي تلت) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي ، لأن السماء محفوظة من استراقهم السمع من بعثة رسول الله وتلت بمعنى قرأت أو كذبت. قوله : (على عهد) على بمعنى في وعهد بمعنى زمن التقدير ، واتبعوا ما تلت الشياطين في زمن ملك سليمان ، ويحتمل أن تتلو بمعنى تتقول وعلى على بابها ومتعلقها محذوف تقديره على الله ، فيصير المعنى واتبعوا ما تتقوله الشياطين على الله زمن ملك سليمان ، وقوله : (من السحر) بيان لما وعائد الموصول محذوف تقديره تتلوه. قوله : (أو كانت تسترق السمع) أو لتنويع الخلاف لأنه اختلف في الذي اتبعته اليهود ، فقيل هو السحر الذي وضعته الشياطين تحت كرسيه لما نزع ملكه ، وسبب ذلك أن امرأة من نساء سليمان سجدت لصنم أربعين يوما فعاتبه الله بنزع ملكه تلك المدة ، وسبب عزله أنه كان خاتمه الذي نزل به آدم من الجنة يضعه إذ دخل الخلاء عند امرأة من نسائه تسمى الأمينة ، وكان كل من لبسه يملك الدنيا بما فيها ، فوضعه عندها مرة فجاءها شيطان يسمى صخر المارد ، وتشكل بشكل سليمان وطلب الخاتم فأعطته له ، ثم أتى الكرسي وجلس عليه أربعين يوما فجمعت الشياطين كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه ، ثم لما انقضت المدة وجاء الأمر بتولية سليمان ثانيا طار الشيطان فوقع الخاتم في البحر فحملته دابة من دواب الماء وأتته به ، فأمر سليمان الشياطين أن يأتوا بصخر المارد فأتوه به ، فأمرهم أن يفتحوا صخرة ففعلوا ثم أمرهم أن يضعوه فيها ويسدوا عليه بالرصاص والنحاس ويرموه في قعر البحر الملح ففعلوا فلما مات سليمان دلت الشياطين على تلك الكتب المدفونة الناس ، وقيل إنه ما استرقته الشياطين من السماء ، فكان الشيطان يسمع الكلمة الصدق ويضع عليها تسعة وتسعين كذبة ويلقيها إلى الكهنة ، إلى آخر ما قال المفسر. قوله : (دلت الشياطين) المراد الجنس لأن الذي دل شيطان منهم. قوله : (لأنه كفر) أي في شرعه وأما في شرعنا ففيه تفصيل ، فإن اعتقد صحته وأنه يؤثر بنفسه فهو كفر ، وأما إن تعلمه ليسحر به الناس فهو حرام ، وإن كان لا لشيء فمكروه ، وإن كان ليبطل به السحر فجائز ، وعرفه ابن العربي بأنه كلام مؤلف يعظم به غير الله وتنسب له المقادير ، فعليه هو كفر حتى في شرعنا ، وعبارة الغزالي تفيد ما قاله ابن العربي. قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) إما بدل من كفروا بدل فعل من فعل على حد إن تصل تسجد لله يرحمك ، أو خبر بعد خبر أو جملة مستأنفة أو حال من الشياطين أو حال من الواو في كفروا ، فهذه خمس احتمالات اختار المفسر آخرها. قوله : (ويعلمونهم) (ما أُنْزِلَ) أشار بذلك إلى أن ما اسم موصول معطوف على السحر من عطف الخاص على العام ، والنكتة قوة ما أنزل على الملكين وصعوبته ويحتمل أنه مغاير ، وأن ما أنزل على الملكين وإن كان سحرا إلا أنه نوع آخر منه غير متعارف بين الناس. قوله : (وقرىء) أي قراءة شاذة وفيها دليل لمن يقول إنهما ليسا

٦٦

وقرىء بكسر اللام الكائنين (بِبابِلَ) بلد في سواد العراق (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل أو عطف بيان للملكين قال ابن عباس هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ) زائدة (أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) له نصحا (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) بلية من الله للناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن (فَلا تَكْفُرْ) بتعلمه ، فإن أبى إلا التعليم علماه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) بأن يبغض كلّا إلى الآخر (وَما هُمْ) أي السحرة (بِضارِّينَ بِهِ) بالسحر (مِنْ) زائدة (أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَيَتَعَلَّمُونَ

____________________________________

ملكين حقيقيين وإنما هما رجلان صالحان ، وسميا بذلك لحسنهما وصلاحهما على حد ما قيل في يوسف (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم). قوله : (الكائنين) قدره إشارة إلى أن ببابل جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للملكين.

قوله : (بِبابِلَ) ممنوع من الصرف للعلمية ، أو العجمة مأخوذ من البلبلة لأن أهلها يتكلمون بثمانين لغة ، وأول من اختطها نوح وسماها ثمانين. قوله : (هارُوتَ وَمارُوتَ) هما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة ، ويجمعان على هواريت ومواريت ، أو على هوارية وموارية مأخوذان من الهرت والمرت وهو الكسر ، ولكن حيث قلنا إنهما أعجميان فلا يتصرف فيهما أحد ولا يعلم لهما اشتقاق. قوله : (هما ساحران) قدم هذا القول إشار لقوته وأنهما رجلان ساحران وليسا بملكين. قوله : (ابتلاء من الله) أي اختبارا وامتحانا ، وقصة هاروت وماروت على القول بثبوتها ، أن الملائكة لما رأوا أعمال بني آدم الخبيثة تصعد إلى السماء قالوا سبحانك يا ربنا خلقت خلقا وأكرمتهم وهم يعصونك ، فقال الله تعالى لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم فعلهم ، فقالوا سبحانك لا نعصيك أبدا ، فقال : اختاروا لكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم ، فركب الله فيهما الشهوة وأمرهما بالهبوط إلى الأرض والحكم بين الناس بالحق ، ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا وشرب الخمر ، وعلمهما الله الإسم الأعظم ، فكان إذا أمسى الوقت صعدا به إلى السماء ، ثم إنه جاءت إليهما امرأة تسمى الزهرة وكانت جميلة جدا ، فلما وقع نظرهما عليها أخذت بقلوبهما فراوداها فأبت إلا أن يقتلا ففعلا ، ثم راوداها فأبت إلا أن يشربا الخمر ففعلا ، ثم راوداها فأبت إلا أن يسجدا للصنم ففعلا ، ثم راوداها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء ففعلا ، فتلته فصعدت به إلى السماء فمسخها الله كوكبا فهي الزهرة المعروفة ، فلما علما ذلك أرادا تلاوة الاسم الأعظم فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فذهبا إلى إدريس وسألاه أن يشفع لهما عند الله ففعل ذلك ، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا لعلمهما بانقطاعه ، فهما ببابل معلقان بشعورهما يضربان بسياط من حديد إلى يوم القيامة ، مزرقة أعينهما مسودة جلودهما ، وما زالا يعلمان الناس السحر ، وقد اختلف في صحة هذه القصة وعدمها ، فاختار الحافظ ابن حجر الأول لورودها من عدة طرق عن الإمام أحمد بن حنبل ، واختار البيضاوي ومن تبعه الثاني لأنه لم تثبت روايتها إلا عن اليهود. قوله : (فمن تعلمه كفر) أي إن اعتقد صحته وتأثيره.

قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) معطوف على وما يعلمان من أحد إن قلت إن الأول منفي والثاني مثبت وكيف يصح عطف المثبت على المنفي ، أجيب بأنه في المعنى مثبت التقدير ويعلمون الناس السحر قائلين لهم إنما نحن فتنة فلا تكفر. قوله : (وَما هُمْ) إلخ يحتمل أن ما حجازية وهم اسمها وبضارين خبرها

٦٧

ما يَضُرُّهُمْ) في الآخرة (وَلا يَنْفَعُهُمْ) وهو السحر (وَلَقَدْ) لام قسم (عَلِمُوا) أي اليهود (لَمَنِ) لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصولة (اشْتَراهُ) اختاره أو استبدله بكتاب الله (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب في الجنة (وَلَبِئْسَ ما) شيئا (شَرَوْا) باعوا (بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي الشارين أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢) حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي اليهود (آمَنُوا) بالنبي والقرآن (وَاتَّقَوْا) عقاب الله بترك معاصيه كالسحر وجواب لو محذوف أي لأثيبوا دل عليه (لَمَثُوبَةٌ) ثوبا وهو مبتدأ واللام فيه للقسم (مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) خبره مما شروا به أنفسهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٣) أنه خير لما آثروه عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا) للنبي (راعِنا) أمر من المراعاة وكانوا يقولون له ذلك وهي بلغة اليهود سب من الرعونة فسروا بذلك وخاطبوا بها النبي فنهي المؤمنون عنها (وَقُولُوا) بدلها (انْظُرْنا) أي انظر إلينا (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) مؤلم وهو النار (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) من العرب عطف على أهل الكتاب ومن للبيان

____________________________________

والباء زائدة في خبرها ، ويحتمل أنها تميمية وما بعدها مبتدأ وخبر والباء زائدة في خبر المبتدأ. قوله : (أي اليهود) أي جميعهم لأنهم علموا ذلك في التوراة. قوله : (ومن موصولة) أي وهي مبتدأ واشتراه صلتها وجملة ما له في الآخرة إلخ خبرها والجملة منها ومن خبرها سادة مسد مفعولي علم. قوله : (باعوا) أشار بذلك إلى أنه يطلق الشراء على البيع. قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ). قوله : (أن تعلموه) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر هو المخصوص بالذم وقوله حيث أوجب لهم النار حيث تعليلية. قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لا منافاة بينه وبين قوله ولقد علموا إلخ لأنهم علموا أنهم ليس لهم نصيب في الآخرة ، ولكن لم يعلموا أنهم لا يفلتون من العذاب الدائم.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) صفة لمثوبة وأصلها مثوبة بوزن مفعلة نقلت ضمة الواو إلى الثاء. قوله : (لما آثروه عليه) أي لما قدموا السحر على ما عند الله ، وهو إشارة إلى جواب لو. قوله : (راعِنا) أي اشملنا بنظرك ليفتح الله علينا ، لأنهم كانوا يقولونها عند سماعهم الوحي منه. قوله : (أمر من المراعاة) أي وهي المبالغة في الرعي وحفظ الغير. قوله : (سب من الرعونة) أي الحمق والجهل وقلة العقل أو معناها اسمع لا سمعت وعليه فهي عبرانية أو سريانية وعلى ما قاله المفسر فهي عربية ، روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمع اليهود يقولونها لرسول الله ، فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه ، قالوا أو لستم تقولونها ، فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعا لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما في معناها ولا يقبل التدليس الذي هو انظرنا. قوله : (أي انظر الينا) أشار بذلك إلى أنه من باب الحذف والإيصال ، حذف الجار فاتصل الضمير. قوله : (سماع قبول) أي بحضور قلب عند تلقي الأحكام ، فإنه إذا وجدت القابلية من الطالب مع نظر المعلم حصل الفتح العظيم.

قوله : (ما يَوَدُّ) من المودة وهي المحبة أي ما يجب ، وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل يود و (مِنْ

٦٨

(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ) زائدة (خَيْرٍ) وحي (مِنْ رَبِّكُمْ) حسدا لكم (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) نبوته (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥) ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا إن محمدا يأمر وينهي عنه غدا نزل : (ما) شرطية (نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي نزل حكمها إما مع لفظها أو لا وفي قراءة بضم النون من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها (أَوْ نُنْسِها) نؤخرها فلا نزل حكمها ونرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وفي قراءة بلا همز من النسيان أي ننسكها أي نمحها من قلبك وجواب الشرط (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر

____________________________________

أَهْلِ الْكِتابِ) إلخ بيان للذين كفروا. قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) معطوف على أهل الكتاب ولا زائدة لتوكيد النفي. قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) في تأويل مصدر مفعول يود ومن زائدة وخير نائب فاعل ينزل ، والتقدير ما يحب الذين كفروا وهم أهل الكتاب والمشركون إنزال خير من ربكم عليكم. قوله : (حسدا لكم) تعليل للنفي وحسد اليهود بسبب زعمهم أن النبوة لا تليق إلا بهم لكونهم أبناء الأنبياء ، وحسد مشركي العرب بسبب ما عندهم من الرياسة والفخر فقالوا لا تليق النوبة إلا بنا. قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُ) يتسعمل متعديا ولازما فعلى الأولى فاعله ضمير مستتر فيه الموصول بصلته في محل نصب على المفعولية والمعنى والله يخص إلخ ، وعلى الثاني الفاعل هو الموصول بصلته والمعنى والله يميز برحمته من يشاؤه.

قوله : (الْعَظِيمِ) أي الواسع. قوله : (ولما طعن الكفار إلخ) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية ، والمقصود من ذلك بيان حكمة النسخ والرد على الكفار حيث قالوا إن القرآن افتراء من محمد فلو كان من عند الله لما بدل فيه وغير. ورد عليهم أيضا بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) الآية وقوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) قوله : (شرطية) أي وهي نكرة بمعنى شيء معمولة لننسخ وقوله من آية بيان لما. قوله : (نَنْسَخْ) من النسخ وهو لغة الإزالة والنقل ، يقال نسخت الشمس الظل أزالته ، ونسخت الكتاب نقلت ما فيه ، واصطلاحا بيان انتهاء حكم التعبد إما باللفظ أو الحكم أو بهما ، فنسخ اللفظ والحكم كعشر رضعات معلومات يحرمن. ونسخ اللفظ دون الحكم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ونسخ الحكم دون اللفظ كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) الآية نسخت بآية المواريث وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا وصية لوارث ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) الآية ، فنسخت بقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) إلى غير ذلك. قوله : (إما مع لفظها) أي كعشر رضعات إلخ. قوله : (أو لا) أي بأن نزيل حكمها فقط ، قوله : (أو جبريل) في الحقيقة بينهما تلازم. قوله : (فلا نزل حكمها) أي لا ننسخه بل نبقيه وقوله : (ونرفع تلاوتها) أي ننسخه ، فعلى هذا التفسير دخل تحت قوله ما ننسخ من آية حكمان من أحكام النسخ ، وهما نسخ الحكم واللفظ أو الحكم فقط وتحت قوله أو ننسأها الحكم الثالث وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قوله : (أو نؤخرها في اللوح المحفوظ) أي لا نطلعكم عليها ولا نعلمكم بها ، وعلى هذا التفسير فقد دخل تحت قوله ما ننسخ الأحكام الثلاثة. قوله : (في قراءة بلا همز) المناسب أن يقول وفي قراءة بضم النون من غير همز. قوله : (من النسيان) الأولى أن يقول من الإنساء لأنه مصدر الرباعي. قوله : (أي نمحها من قلبك) أي وقلب أمتك بأن يبقى الحكم دون اللفظ أو يمحيان. قوله : (في السهولة) أي كقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية. قوله : (أو كثرة الأجر) أي

٦٩

(أَوْ مِثْلِها) في التكليف والثواب (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦) ومنه النسخ والتبديل والإستفهام للتقرير (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يفعل فيهما ما يشاء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ) زائدة (وَلِيٍ) يحفظكم (وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧) يمنع عذابه عنكم إن أتاكم ونزل لما سأله أهل مكة أن يوسعها ويجعل الصفا ذهبا (أَمْ) بل أ(تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى) أي سأله قومه (مِنْ قَبْلُ) من قولهم أرنا الله جهرة وغير ذلك (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) أي يأخذه بدله بنرك النظر في الآيات البينات واقترح غيرهما (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٠٨) أخطأ الطريق الحق والسواء في الأصل الوسط (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ

____________________________________

كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) بعد قوله : (وعلى الذين يطيقونه فدية) فليس ثواب من خير بين الأمرين كثواب من تحتم عليه الصوم.

قوله : (أَوْ مِثْلِها) أي كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ، فإنه لا مشقة في كل ، وليس أحدهما أكثر ثوابا من الآخر. قوله : (والإستفهام للتقرير) أي أقر واعترف بكون الله قديرا على كل شيء. قوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ما حجازية ولكم خبرها مقدم ، ومن دون الله حال من ولي ومن زائدة وولي اسمها مؤخر ، ولا نصير معطوف على ولي ولا زائدة لتأكيد النفي ، ويحتمل أنها تميمية ، وما بعد مبتدأ وخبر ويحتمل أن من في قوله من دون الله زائدة أو أصلية متعلق بما تعلق به الخبر. قوله : (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الفرق بين الولي والنصير أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور ، فبينهما عموم وخصوص من وجه. قوله : (أن يوسعها) أي بإزالة الجبلين المحيطين بها. قوله : (ويجعل الصفا ذهبا) أي وغير ذلك مما ذكره الله في سورة الإسراء في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآية ، هكذا ذكر المفسر ، واستشكل ذلك بأن هذه السورة مدنية ، والسؤال من أهل مكة كان قبل المهاجرة ، فالحق أن يقال إن سبب نزولها سؤال يهود المدينة إنزال كتاب من السماء ، بدليل أن السورة مدنية وأن السياق في خطاب اليهود ، ووجود أم التي بمعنى بل التي للإضراب الإنتقالي ، المفيد أن له تعلقا بما قبله. قوله : (رَسُولَكُمْ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه رسول الخلق أجمعين.

قوله : (كَما سُئِلَ مُوسى) بني الفعل للمجهول للعلم بالفاعل. قوله : (وغير ذلك) أي من قولهم (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ومن قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ونحو ذلك قوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ) استئناف لبيان حال من تعنت على نبيه. قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ) من إضاف الصفة للموصوف أي السبيل السواء بمعنى المستوي. قوله : (أخطأ طريق الحق) أي فقد شبه الدين الحق بالطريق المستوي بجامع أن كلا يوصل للمقصود.

قوله : (وَدَّ كَثِيرٌ) سبب نزولها أن عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان لما رجعا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة أحد ، اجتمعا برهط من اليهود فقالوا لهما ألم نقل لكما إن دين اليهود هو الحق وغيره باطل ، فلو كان ما عليه محمد حقا ما قتلت أصحابه مع دعواه أنه يقاتل والله معه ، فقال عمار بن ياسر ما حكم نقض العهد عندكم ، فقالوا فظيع جدا ، فقال إني عاهدت محمدا على اتباعه إلى أن أموت فلا أنقضه أبدا ، فقالوا قد صبأ ، فقال حذيفة رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، والكعبة قبلة ، والقرآن إماما ، والمؤمنين

٧٠

الْكِتابِ لَوْ) مصدرية (يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً) مفعول له كائنا (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ) في التوراة (الْحَقُ) في شأن النبي (فَاعْفُوا) عنهم أي اتركوهم (وَاصْفَحُوا) أعرضوا فلا تجازوهم (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيهم من القتال (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٩) (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) طاعة كصلة وصدقة (تَجِدُوهُ) أي ثوابه (عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠) فيجازيكم به (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) جمع هائد (أَوْ نَصارى) قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قال اليهود لن يدخلها إلا اليهود وقال النصارى لن يدخلها إلا النصارى (تِلْكَ) القولة (أَمانِيُّهُمْ) شهواتهم الباطلة (قُلْ) لهم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١١١) فيه

____________________________________

إخوانا فلما رجعا أخبرا رسول الله بذلك فقال أصبتما الخير وأفلحتما فنزلت قوله : (وَدَّ كَثِيرٌ) من المودة وهي المحبة. قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي وهم اليهود. قوله : (لَوْ) (مصدرية) فتسبك مع ما بعدها بمصدر مفعول ود ، التقدير ود كثير ردكم إلخ ، ورد تنصب مفعولين لأنها بمعنى صير مفعولها الأول الكاف والثاني كفارا ويصح أن تكون لو شرطية وجوابها محذوف تقديره فيسرون ويفرحون بذلك. قوله : (كائنا) أشار بذلك إلى أن قوله من عند أنفسهم متعلق بمحذوف صفة لحسدا ومن ابتدائية.

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ) متعلق بود وما مصدرية أي من بعد تبين الحق لهم ، وهذا أبلغ قبيح منهم لأنهم عرفوا الحق فلم يهتدوا ، ومع ذلك وقعت المراودة لغيرهم على الضلال فقد ضلوا وأضلوا. قوله : (فَاعْفُوا) أي لا تؤاخذهم بهذه المقالة ، وقوله : (وَاصْفَحُوا) أي لا تلوموهم فبينهما مغايرة وقيل متحدان ، وعليه مشى المفسر ومعناهما عدم المؤخذة ، ولم يؤمر النبي وأصحابه بقتالهم مع أنهم ناقضون للعهد بتلك المقالة لأن الواقعة كانت بعد غزوة أحد فكان الأذن في القتال حاصلا ، فالجواب أن القتال المأذون فيه كان للمشركين ، وأما أهل الكتاب فلم يؤمروا بقتالهم إلا في غزوة أحد فكان الإذن في القتال حاصلا ، فالجواب أن القتال المؤذون فيه كان للمشركين ، وأما أهل الكتاب فلم يؤمروا بقتالهم إلا في غزوة الأحزاب ، قيل قبلها وقيل بعدها ، فقتل قريظة وأجلى بني النضير وغزا خيبر. قوله : (من القتال) أي الخاص بهم. قوله : (عِنْدَ اللهِ) العندية معنوية على حد لي عند زيد يد أي مصون ومحفوظ مدخر. قوله : (قال ذلك يهود المدينة إلخ) لف ونشر مرتب. قوله : (لما تناظروا) لما حينية ظرف لقالوا قوله : (لن يدخلها إلا اليهود) سميت اليهود بذلك لأنهم هادوا بمعنى رجعوا عن عبادة العجل ، وسميت النصارى بذلك لأنهم نصروا عيسى وهو جمع نصران أو نصرى.

قوله : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) مبتدأ وخبر وجمع الخبر مع كون المبتدأ مفردا لأنه جمع في المعنى لأنه عائد على القول وهي بمعنى المقالات. قوله : (هاتُوا) قيل هو اسم أمر وقيل فعل أمر وقيل اسم صوت ، والحق الوسط للحوق العلامة لها والمعنى أحضروا. قوله : (بُرْهانَكُمْ) قيل مأخوذ من البرهة أي القطعة لأن به قطع حجة الخصم وقيل من البرهن أي البيان ، فعلى الأول ممنوع من الصرف وعلى الثاني

٧١

(بَلى) يدخل الجنة غيرهم (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي انقاد لأمره وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فغيره أولى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) موحد (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ثواب عمله الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢) في الآخرة (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) معتد به وكفرت بعيسى (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) معتد به وكفرت بموسى (وَهُمْ) أي الفريقان (يَتْلُونَ الْكِتابَ) المنزل عليهم وفي كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى والجملة حال (كَذلِكَ) كما قال هؤلاء (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي المشركون من العرب وغيرهم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بيان لمعنى ذلك أي قالوا لكل ذي دين ليسوا على شيء (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣) من أمر الدين فيدخل المحق الجنة والمبطل النار (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم (مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بالصلاة والتسبيح (وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم أو التعطيل. نزلت إخبارا عن الروم الذين خربوا بيت المقدس أو في المشركين

____________________________________

مصروف. قوله : (بَلى) أي لا يدخلها أحد منكم. قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي دخل الإسلام بوجهه أي بذاته ومعناه انقاد بظاهره ، وقوله موحد أي بباطنه لا منافق بل منقاد بظاهره مؤمن موحد بباطنه. قوله : (معتد به) أي بل هم على باطل وقدره المفسر إشارة إلى أن صفة شيء محذوفة ، وهذه أصدق مقالة قالتها اليهود والنصارى. قوله : (وكفرت بعيسى) أي وزعمت أنها قتلته. قوله : (يَتْلُونَ الْكِتابَ) المراد به بالنسبة لليهود التوراة ، والنسبة للنصارى الأنجيل. قوله : (المشركون من العرب) أي فالمراد من ذلك تسلية رسول الله على ما وقع من المشركين ، فإن اليهود والنصارى كفروا وضلوا مع علمهم بالحق فكيف بمن لا علم عنده فلا يستغرب ذلك منهم. قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي الفرق المذكورة : اليهود والنصارى ومشركي العرب ومن أسلم وجهه لله وهو محسن.

قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) من اسم استفهام مبتدأ وأظلم خبره. قوله : (أي لا أحد أظلم) استشكل بأنه يقتضي أن من منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها لم يساوه أحد في الظلم ، فكيف ذلك مع قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) الآية ، المقتضى كل آية منها أنه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها ، وأجيب بأن هؤلاء الموجودين في الآيات ظلمهم زائد عن غيرهم ، وكون الظلم الواقع من بعضهم مساويا للبعض الآخر أم لا شيء آخر تأمل ، وأشار المفسر بقوله أي لا أحد أظلم إلى الإستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (مِمَّنْ مَنَعَ) يتعدى لمفعولين الأول بنفسه وهو مساجد ، والثاني قوله أن يذكر فهو في تأويل مصدر مجرور بمن ، التقدير لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها ، والمنع إما بغلقها أو تعطيل الناس عنها أو تخريبها أو أكل ربعها أو التفريط في حقوقها ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قوله : (مَساجِدَ اللهِ) جمع مسجد سمي باسم السجود لأنه أشرف أركان الصلاة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولأنه محل غاية الذل والخضوع لله عزوجل وإن كان القياس فتح عينه في المفرد لكنه لم يسمع إلا الكسر فالقراءة سنة متبعة. قوله : (بالصلاة والتسبيح) أشار بذلك إلى أن المراد بذكر اسم الله فيها ما يعم الصلاة وغيرها. قوله : (نزلت إلخ) هذا إشارة إلى بيان سبب نزولها. قوله :

٧٢

لما صدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية عن البيت (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحد آمنا (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هوان بالقتل والسبي والجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤) هو النار ، ونزل لما طعن اليهود في نسخ القبلة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الأرض

____________________________________

(إخبار عن الروم) أي قبل بعثة الرسول حين توجهت جيوش بختنصر مع نصارى الروم لتخريب بيت المقدس ، وكان بختنصر مجوسيا من أهل بابل وذلك حين قتل بنو إسرائيل يحيى بن زكريا ، ولم يزل كذلك حتى بناه المسلمون في خلافه عمر بن الخطاب. قوله : (عام الحديبية) أي وهو عام ست من الهجرة حين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ألف وأربعمائة بقصد العمرة ، قصده المشركون وهو بالحديبية فتحلل ورجع.

قوله : (أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) المعنى ليس لهم دخولها يعني البيت أو بيت المقدس في حال من الأحوال إلا في حال كونهم خائفين. قوله : (خبر بمعنى الأمر) أي فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى وقوله أي أخيفوهم بالجهاد أي فالمراد من الآية أن الله كلفنا بقتالهم ومنعهم عن المسجد الحرام وبيت المقدس ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا بعد الفتح ينادي في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، وفي خلافة عمر فتح الشام ومدينة بيت المقدس ومنع المشركين من دخول بيت المقدس ، ويحتمل أنه خبر لفظا ومعنى فهو إخبار من الله بما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن عمر وهو الأقرب كما قال المفسرون ، ويصح أن يكون المعنى ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها وقيل غير ذلك. قوله : (فلا يدخلها أحد آمنا) من ذلك اختلفت المذاهب في دخول الكافر المسجد فمنعه المالكية إلا لحاجة ، وفصل الشافعية فقالوا إن أذن له مسلم في غير المساجد الثلاثة جاز وإلا فلا ، وجوزه الحنفية مطلقا.

قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هذا عام لكل من منع مساجد الله من ذكر اسم الله فيها كان مسلما أو كافرا ، فخزي المسلم في الدنيا بالمصائب والفقر والعمى والموت على غير حالة مرضية وذكر المفسر خزي الكافر. قوله : (هو النار) أي على سبيل الخلود إن مات كافرا ، أو على سبيل التطهير إن مات مسلما ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل آية وردت في الكفار فإنها تجر ذيلها على عصاة المؤمنين. قوله : (لما طعن اليهود في نسخ القبلة) أي التي هي بين المقدس. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة أمر بالصلاة لجهة بيت المقدس تأليفا لليهود ، فأشاعوا أن محمدا تابع لهم في دينهم وشريعتهم ، ثم بعد مدة أمره الله بالإنتقال إلى الكعبة فقالوا إن محمدا يفعل على مقتضى هواه وليس مأمورا بشرع ، فنزلت الآية. قوله : (أو في صلاة النافلة) أي نزلت في شأن اعتراض اليهود على النبي حين شرعت صلاة النافلة على الدابة في السفر حيثما توجهت.

قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي مكان الشروق والغروب وهذا ظاهر ، وأما آية : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فباعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وأما آية : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) فباعتبار مشرق كل يوم ومغربه ، لأن للشمس طرقا في الشروق والغروب على قدر أيام السنة. قوله : (أي الأرض كلها) جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل ما وجه الإقتصار على المشرق والمغرب ، ويحتمل

٧٣

كلها لأنهما ناحيتاها (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) وجوهكم في الصلاة بأمره (فَثَمَ) هناك (وَجْهُ اللهِ) قبلته التي رضيها (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) يسع فضله كل شيء (عَلِيمٌ) (١١٥) بتدبير خلقه (وَقالُوا) بواو ودونها أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال تعالى (سُبْحانَهُ) تنزيها له عنه (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا والملكية تنافي الولادة وعبر بما تغليبا لما لا يعقل (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦) مطيعون كل بما يراد منه وفيه تغليب العاقل (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) موجدهما لا على مثال سبق (وَإِذا قَضى) أراد (أَمْراً) أي إيجاده (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) أي فهو يكون وفي قراءة بالنصب جوابا للأمر (وَقالَ الَّذِينَ لا

____________________________________

أن فيه حذف الواو مع ما عطفت أي وما بينهما. قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أينما اسم شرط جازم ظرف مكان وتولوا فعل الشرط ، وقوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) جواب الشرط وثم إشارة للمكان خبر مقدم ، ووجه الله مبتدأ مؤخر. قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي جهته يعني جهة رضاه وليس المراد بوجهه ذاته بل المراد (أين ما تولوا وجوهكم) في جهة أمركم الله بها تجدون جهة رضاه والصوفية يريدون بالوجه الذات وهم دليل على تنزه الله عن التخصيص بالجهة ، ومن هنا قال ابن العربي : مقتضى التوحيد أن الصلاة لأي جهة تصح وإنما أمرنا بجهة مخصوصة تعبدا ولم نعقل له معنى. قوله : (يسع فضله كل شيء) أي فصحة الصلاة ليست متوقفة على جهة بيت المقدس فقط كما زعمت اليهود ، بل خصنا الله بمزايا على حسب مزيد فضله لم تكن فيهم ، فمنها أمر القبلة ومنها جعل الأرض كلها مسجدا وتربتها طهورا وغير ذلك.

قوله : (وَقالُوا) هذا من جملة قبائح اليهود ومشركي العرب حيث قالت اليهود عزيز ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقال مشركو العرب الملائكة بنات الله. قوله : (بواو ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان فعلى الواو هو معطوف على منع مساجد الله التقدير (ومن أظلم ممن قال اتخذ الله ولدا) وعلى عدمها هو مستأنف لبيان حال الكفرة ، وأما آية يونس فبترك الواو لا غير لعدم ما يناسب العطف. قوله : (سُبْحانَهُ) أي تنزه عنه لأن الولدية تقتضي النوعية والجنسية والإفتقار والتشبيه والحدوث ، وهو سبحانه منزه عن كل ذلك كله. قوله : (لما لا يعقل) أي غير العاقل لكثرته وإنما غلبه لأن في سياق القهر ، وهو مناسب لغير العاقل بخلاف قانتون فإنه في سياق الطاعة. قوله : (مطيعون) أي نافذ فيهم مراده فالمراد بالطاعة هنا الإنقياد ونفوذ المراد. قوله : (وفيه تغليب العاقل) أي حيث جمعه بالواو والنون وإنما غلب العاقل هنا لشرفه ، ولأن شأن الطاعة أن تكون للعاقل ، وفيه مراعاة معنى كل ولو راعى لفظها لأفرد.

قوله : (بَدِيعُ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو وقرىء بالجر بدل من الضمير في له وبالنصب على المدح أي أمدح بديع. قوله : (لا على مثال سبق) أي فهما في غاية الإتقان ، قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) الآيات. قوله : (وَإِذا قَضى) يطلق القضاء على الوفاء يقال قضى دينه بمعنى وفاه ، ويطلق على الإرادة وهو المراد هنا. قوله : (أراد) أي تعلقت إرادته به وفسر القضاء بالإرادة للآية الأخرى وهي قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وخير ما فسرته بالوارد. قوله : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ليس المراد أنه إذا تعلقت إرادته بإيجاد أمر أتى بالكاف والنون ، بل ذلك كناية عن سرعة الإيجاد ، فمراده نافذ ولا يتخلف بل ما علمه أزلا تعلقت به الإرادة تعلقا تنجيزيا حادثا وأبرزه

٧٤

يَعْلَمُونَ) أي كفار مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ لا) هلا (يُكَلِّمُنَا اللهُ) بأنك رسوله (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) مما اقترحناه على صدقك (كَذلِكَ) كما قال هؤلاء (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) من التعنت وطلب الآيات (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الكفر والعناد فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨) يعلمون أنها آيات فيؤمنون فاقتراح آية معها تعنت (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد (بِالْحَقِ) بالهدى (بَشِيراً) من أجاب إليه بالجنة (وَنَذِيراً) من لم يجب إليه بالنار (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩) النار أي الكفار ما لهم لم يؤمنوا إنما عليك البلاغ وفي قراءة بجزم تسأل نهيا (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) دينهم (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) أي الإسلام (هُوَ الْهُدى) وما عداه ضلال (وَلَئِنِ) لام

____________________________________

بالقدرة سريعا. قوله : (أي فهو يكون) أشار بذلك إلى أنه مستأنف مرفوع خبر لمبتدأ محذوف. قوله : (بالنصب) أي بأن مضمرة بعد فاء السببية أي يحصل ويوجد في الخارج.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي الجاهلون الذين هم كالبهائم أو أضل. قوله : (أي كفار مكة) تقدم الأشكال بأن السورة مدنية وأن السائل له يهود المدينة ، ويمكن أن يجاب هنا بأن هذه الآية بخصوصها مكية وهو بعيد ، وأجاب أستاذنا الشيخ الدردير بأنه لا مانع أن كفار مكة أرسلوا ذلك السؤال له وهو بالمدينة. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أنها تحضيضية وهي بذلك المعنى في غالب القرآن. قوله : (يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي مشافهة أو على لسان جبريل فينزل علينا كما ينزل عليك. قوله : (مما اقترحناه) أي طلبناه والمقترح هو الشيء الذي لم يسبق إليه. قوله : (من التعنت إلخ) هذا هو وجه المماثلة لأن ما وقع من الأمم الماضية ليس عين ما وقع من كفار مكة. قوله : (فيه تسلية للنبي) أي من قوله كذلك. قوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي فلا تحزن على من كفر فإنا قد وضحنا آياتنا لقوم يؤمنون بك ولا يتعنتون عليك قال تعالى تسلية له : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). قوله : (تعنت) أي ممن كفر وعاند فلا تحزن عليه ويكفيك من آمن.

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أرسلناك للناس كافة. قوله : (بِالْحَقِ) الباء للملابسة أو المصاحبة أو السببية والأقرب الأولان. قوله : (بالهدى) أي دين الإسلام أو القرآن. قوله : (بَشِيراً) هو ونذيرا حالان إما من الكاف في أرسلناك أو من الحق. قوله : (من) اسم موصول معمول لبشيرا ، وقوله أجاب إليه صلتها والمعنى انقاد له ، وقوله من لم يجب إليه أي من لم ينقد إليه ولم يختر دينا. قوله : (النار) سميت النار جحيما لجحمها أي اضطرابها بأهلها من شدة لهيبها كاضطراب موج البحر. قوله : (ما لهم لم يؤمنوا) هذا هو صورة السؤال ، أي حيث بلغت الرسالة ونصحت الأمة وكشفت الغمة وجليت الظلمة ، فلا تخف من كفرهم ولا يسألك الله عنه. قوله : (إنما عليك البلاغ) علة للنفي. قوله : (بجزم تسأل) أي مع فتح التاء مبنيا للفاعل وهما قراءتان سبعيتان ، والمعنى على هذه القراءة لا تسألنا يا محمد عن صفاتهم وأحوالهم فإنها شنيعة فظيعة لا يسعك السؤال عنها لهولها ، أو المعنى لا تسألنا الشفاعة فيهم لأن كلمة العذاب حقت عليهم.

قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) هذه مقالة قالها الله له حين قالت اليهود لا نرضى عنك حتى تتبع ما نحن عليه ، وكذلك قالت النصارى. قوله : (وما عداه ضلال) أخذ ذلك من الجملة

٧٥

قسم (اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) التي يدعونك إليها فرضا (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الوحي من الله (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحفظك (وَلا نَصِيرٍ) (١٢٠) يمنعك منه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مبتدأ (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يقرؤونه كما أنزل والجملة حال وحق نصب على المصدر والخبر (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) نزلت في جماعة قدموا من الحبشة وأسلموا (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي بالكتاب المؤتى بأن يحرفه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٢٢) تقدم مثله (وَاتَّقُوا) خافوا (يَوْماً لا تَجْزِي) تغني (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) فيه (شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) فداء (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣)

____________________________________

المعرفة الطرفين فإنها تفيد الحصر. قوله : (لام قسم) أي محذوف تقديره وعزتي أو والله وعلامة كونها لام قسم وقوعها قبل إن الشرطية. قوله : (فرضا) أي على فرض وقوعه أو ذلك تخويف لأمته على حد ما قيل في لئن أشركت ليحبطن عملك. قوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) هذا جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور لتأخر الشرط عن القسم لقول ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

ولو كان جوابا للشرط لاقترن بالفاء لكونه منفيا بما. قوله : (مِنْ وَلِيٍ) من زائدة لتأكيد النفي. قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن وآتينا صلة الذين والهاء مفعول أول والكتاب مفعول ثان. قوله : (والجملة حال) أي إما مؤولة باسم الفاعل أو المفعول ، فعلى الأول هي حال من مفعول آتينا الأول الذي هو الضمير ، وعلى الثاني هي حال من الكتاب. قوله : (نصب على المصدر) في الحقيقة صفة لمصدر محذوف تقديره تلاوة حق التلاوة ، والمعنى يقرؤونه مجودا مرتلا بخشوع وخضوع ، كما نزل من جبريل لا ينقصون عما ورد ولا يزيدون عليه ، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه ويصدقون وعده ووعيده ويتدبرون معانيه يعملون بمحكمه ويفوضون علم متشابهه إلى الله. قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) مبتدأ وخبر والجملة خبر المبتدأ. قوله : (نزلت في جماعة) أي أربعين اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا الراهب ، مقدمهم جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وأسلموا) أي وصاروا يتلون القرآن حق التلاوة ، هكذا ذكر المفسر سبب نزولها ، وقيل نزلت في كل من اتصف بهذا الوصف ، وقيل في عبد الله بن سلام وأضرابه. قوله : (بأن يحرفه) أي متعمدا بأن يتلاعب بمعانيه والفاظه ويأخذ بظاهره ، والضمير عائد على القرآن ، وذلك كالخوارج الذين يأخذون بظاهره ولا يعرفون معانيه فضلوا واصلوا ، فإن من جملة أبواب الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة.

قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) تقدمت هذه الآية وكررها لمزيد التقبيح عليهم. قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أي بالشكر عليها والمراد بها الجنس. قوله : (تقدم مثله) أي من أن المراد عالمي زمانهم ، أو أن المراد آباؤهم الأنبياء ، أو المراد بالتفضيل المزايا ففيهم مزايا لم توجد في غيرهم كفلق البحر وتفجير الماء من الحجر والمن والسلوى.

قوله : (يَوْماً) أي عذاب يوم. قوله : (تغني) (نَفْسٌ) أي مؤمنة وقوله : (عَنْ نَفْسٍ) أي كافرة ، وهذه الجملة صفة ليوما وهو نكرة والجملة إذا وقعت صفة لنكرة فلا بد لها من رابط ، وقد قدره

٧٦

يمنعون من عذاب الله (وَ) اذكر (إِذِ ابْتَلى) اختبر (إِبْراهِيمَ) وفي قراءة إبراهام (رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) بأوامر ونواه كلفه بها قيل هي مناسك الحج وقيل المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء (فَأَتَمَّهُنَ) أداهن تامات (قالَ) تعالى له (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قدوة في الدين (قالَ وَمِنْ

____________________________________

المفسر بقوله فيه قوله : (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) أي لا شفاعة لها حتى يترتب عليها النفع ، قال تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) واتفقت القراءات السبع على الياء في يقبل ولم يقرأ أحد بالتاء ، والقراءة سنة متبعة.

قوله : (وَ) (اذكر) (إِذِ ابْتَلى) أشار بذلك إلى أن إذ ظرف لمحذوف قدره بقوله اذكر ، والخطاب لمحمد ، أي اذكر يا محمد لقومك وقت ابتلاء ابراهيم ، ويصح تقدير اذكروا ، ويكون خطابا لبني إسرائيل ، والمقصود من ذكر قصة إبراهيم إقامة الحجة على المخالف من اليهود والنصارى ومشركي العرب ، لأن الفرق جميعها يعترفون بفضل إبراهيم ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : انظروا التكاليف التي كلف بها ابراهيم هل هي موافقة لما جئت به أو مخالفة. قوله : (وفي قراءة إبراهام) هما قراءتان سبعيتان وهاتان لغتان من سبع ، والثالثة والرابعة والخامسة بغير ياء والهاء مثلثة ، والسادسة بغير ياء والف مع فتح الهاء ، والسابعة إبراهوم وهو اسم أعجمي وتعريبه أب رحيم وهو ابن تارخ بن آزر بن شاروخ بن أرغو بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وإبراهيم مفعول مقدم وربه فاعل مؤخر وتقديم المفعول هنا واجب لإتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول ، فلو قدم الفاعل لزم عليه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، قال ابن مالك :

وشاع نحو خاف ربه عمر

وشذ نحو زان نوره الشجر

والإختبار في الأصل الإمتحان بالشيء ، ليعلم صدق ذلك الشخص أو كذبه ، وهو مستحيل على الله لأنه علم بذلك قبل الإختبار ، وإنما المراد عامله معاملة المختبر ليظهر ذلك للخلق ، فاختبر ابراهيم صدقه ، وإبليس فظهر كذبه. قوله : (بِكَلِماتٍ) قيل ثلاثون من شريعتنا : عشرة في براءة وهي التائبون العابدون إلى وبشر المؤمنين ، وعشرة في الأحزاب وهي إن المسلمين والمسلمات إلى قوله أعد الله لهم مغفرة الآية ، وتسعة في المؤمنون من أولها إلى أولئك هم الوارثون ، وواحدة في سأل وهي والذين هم بشهاداتهم قائمون ، وقيل هي التكاليف بخدمة البيت ، وقيل ذبح ولده والرمي في النار ، وهجرته من الشام إلى مكة ، وانظر في الشمس والقمر والكواكب لإقامة الحجة على قومه ، وبضميمة ما ذكره المفسر تكون أقوالا خمسة ولا مانع من إرادة جميعها. قوله : (مناسك الحج) أي واجباته وسننه. قوله : (وقيل المضمضة إلخ) هذه عشرة أشياء الخمسة الأول في الوجه والرأس وما عداها في باقي الجسد. قوله : (والختان) ورد أنه أول من اختتن ، وأول من قص الشارب ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من رأى الشيب ، فلما رآه قال يا رب ما هذا قال الوقار قال يا رب زدني وقارا ، وقوله : (والإستنجاء) أي بالماء ، وأما بالحجر فهو من خصائص هذه الأمة. قوله : (فَأَتَمَّهُنَ) أي لم يفرط في شيء منها.

قوله : (قالَ) (تعالى) هذا كلام مستأنف واقع في جواب سؤال كأنه قيل ما فعل الله به بعد ذلك ،

٧٧

ذُرِّيَّتِي) أولادي اجعل أئمة (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي) بالامامة (الظَّالِمِينَ) (١٢٤) الكافرين منهم دل على أنه ينال غير الظالم (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الكعبة (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مرجعا يثوبون إليه من كل جانب (وَأَمْناً) مأمنا لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره كان الرجل يلقى قاتل أبيه فيه فلا يهيجه (وَاتَّخِذُوا) أيها الناس (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت

____________________________________

أجاب بقوله قال له إني جاعلك للناس إماما ، ومن ذلك أن العطايا الربانية تكون بعد التخلي عن الأغيار بالإختبار. قوله : (لِلنَّاسِ) يحتمل أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بجاعلك ، ويحتمل أنه حال من إماما لأنه نعت نكرة تقدم عليها وجاعل بمعنى مصير ، فينصب مفعولين الكاف مفعول أول وإماما مفعول ثان قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) هذا كعطف التلقين كما يقال لك سآمرك فتقول وزيدا ومن للتبعيض وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل وإن كانوا على الحق. قوله : (اجعل أئمة) أنبياء وملوكا عدولا أو علماء ، وقد اجتمع ذلك في ذريته. قوله : (عَهْدِي) فاعل ينال فهو مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة والظالمين مفعوله ، والمعنى أن عهدي لا يدرك الظالمين وقرىء بالعكس شذوذا ، لأنه إذا دار الأمر بين الإسناد للمعنى والذات فالإسناد للمعنى الأولى.

قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا) معطوف على وإذ ابتلى وما قدر هناك يقدر هنا ، وجعل إن كانت بمعنى خلق نصبت مفعولا واحدا وهو البيت ومثابة حال منه وإن كانت بمعنى صير نصبت مفعولين البيت أول ومثابة مفعول ثان ، وللناس جار ومجرور متعلق يجعلنا أو بمحذوف صفة لمثابة. قوله : (الكعبة) أشار بذلك إلى أن أل في البيت للعهد. قوله : (مَثابَةً) يحتمل أن يكون مصدرا ميميا وهو الذي درج عليه المفسر بقوله مرجعا ويحتمل أن يكون ظرف مكان أي محل رجوع يرجع إليه المرة بعد المرة ، أو المراد محل ثواب أي إن من لاذ به حصل له من الثواب ما لا يحصل له في غيره لما ورد ينزل من السماء مائة وعشرون رحمة على البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين وأصل مثابة مثوبة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. قوله : (وَأَمْناً) إما مصدر باق على مصدريته أو بمعنى اسم الفاعل أو ظرف مكان أي محل أمن وعليه درج المفسر ، وعلى كونه اسم فاعل فالإسناد مجاز أي آمنا من دخله. وخير ما فسرته بالوارد. قال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قوله : (فلا يهيجه) أي لا يزعجه ولا يؤاخذه بما فعل وكان البيت معظما في الجاهلية ففي الإسلام أولى ولذا قال ابن العباس : إن معصيته تضاعف لأنه يشدد على من في الحضرة ما لا يشدد على غيره ، قال بعضهم :

لقد أسرك من يرضيك ظاهره

ولقد أبرك من يعصيك مستترا

قوله : (وَاتَّخِذُوا) أمر إما معطوف على ما تضمنه قوله مثابة تقديره فتوبوا واتخذوا أو مستأنف مقول لقول محذوف تقديره وقال الله لهم اتخذوا قوله : (أَيُّهَا النَّاسُ) فيه حذف حرف النداء وهذا على قراءة الأمر. قوله : (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) يحتمل أن من تبعيضية أو زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش أو بمعنى في كل بعيد والأقرب أنها بمعنى عند ، والسنة سنت أن الصلاة خلفه بأن يكون الحجر بين المصلي والكعبة. قوله : (هو الحجر) ورد أن طوله ذراع وعرضه كذلك ، وقد نزل هو والحجر الأسود مع آدم من الجنة وهما ياقوتتان من يواقيتها ، ولو لا مس الكفار لهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب. قوله : (عند بناء

٧٨

مُصَلًّى) مكان صلاة بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف وفي قراءة بفتح الخاء خبر (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما (أَنْ) أي بأن (طَهِّرا بَيْتِيَ) من الأوثان (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) المقيمين فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥) جمع راكع وساجد المصلين (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) المكان (بَلَداً آمِناً) ذا أمن وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم إنسان ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) وقد فعل بنقل الطائف من الشام إليه وكان أقفر لا زرع فيه ولا ماء (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل

____________________________________

البيت) أي بناؤه كان متأخرا عن بناء مكة فجرهم بنوا مكة أولا وإبراهيم بنى البيت ثانيا ، وذلك أن إبراهيم لما جاء بأم اسماعيل وابنها وهي ترضعه وضعهما عند مكان البيت وليس هناك يومئذ بناء ولا أحد ، فعطشت واشتد عليها الأمر ، فجاءها جبريل فبحث بعقبه أو بجناحه موضع زمزم حتى ظهر الماء فصارت تشرب منه ، فاستمرت كذلك هي وولدها حتى مرت بهم طائفة من جرهم فقالوا لها أتأذنين أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم فنزلوا عندها وبنوا مكة ، فلما شب إسماعيل وأعجبهم زوجوه امرأة منهم. قوله : (بأن تصلوا خلفه) هذا تخصيص لكون الصلاة عنده ومعنى كون الصلاة خلفه باعتبار مقصورته وإلا فهو مربع لا خلف له ولا إمام ، وهذا بحسب ما سبق من الزمان فإنه كان الحجر مقصورة بابها لجهة البيت ، وأما الآن فقد حول الباب فالمصلي الآن يصلي لجهة الباب فهو قبالته ولا خلفه.

قوله : (وفي قراءة) هما سبعيتان. قوله : (خبر) أي جملة خبرية معطوفة على جعلنا مسلط عليها إذ أي اذكر جعلنا واذكر إذ اتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى. قوله : (وَإِسْماعِيلَ) فيه لغتان باللام والنون ويجمع على سماعل وسماعلة وأسامع ، قيل سمي بذلك لأن ابراهيم لما دعا الله أن يرزقه ولدا صار يقول اسمع إيل أي استجب يا الله. قوله : (أَنْ) يحتمل أنها تفسيرية وهو الأقرب لوجود ضابطها ، وهو أن تتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه وصحة حلول أي محلها ، ويحتمل أنها مصدرية وكلام المفسر يحتملها. قوله : (من الأوثان) إن قلت إنه لم يكن حين بناء البيت أوثان ، قلت أجيب بأن المراد طهره فيما يستقبل من الزمان لعلم الله أن المشركين ستتخذ أوثانا ، وليس المراد أن الأوثان كانت موجودة حينئذ وأمر بطهارته منها. قوله : (لِلطَّائِفِينَ) جمع طائف وهو الذي يطوف حوله الأشواط. قوله : (وَالْعاكِفِينَ) جمع عاكف وهو عرفا الملازم للمسجد للعبادة على وجه مخصوص ، ولكن المراد به هنا المقيم فيه يفسره قوله في الآية الأخرى ، (والقائمين) فالعاكفون والقائمون والمقيمون بمعنى واحد. قوله : (المصلين) أخذ ذلك من عدم عطف السجود على الركوع ، فالمراد جمعهما في عبادة ، لا أن الركوع قسم والسجود قسم آخر.

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) معطوف على وإذ ابتلى. قوله : (بَلَداً) نكره هنا وعرفه بأل في سورة إبراهيم لأنه قيل إن ما هنا كان قبل بنائها وما هناك بعد. قوله : (آمِناً) إن قلت إن الله قد امتن به من غير سؤال إبراهيم ، أجيب بأن المراد بالذي امتن الله به الأمن من إغارات الأعداء وبالذي طلبه إبراهيم الأمن من القحط والجوع. قوله : (خلاه) بالقصر أي حشيشه. قوله : (مِنَ الثَّمَراتِ) أي بعضها. قوله : (إليه) أي إلى قربه بنحو مرحلتين ، وقد نقل الموضع الذي كان بالحجاز موضع ما نقل من الشام

٧٩

من أهله وخصهم بالدعاء لهم موافقة لقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قالَ) تعالى (وَ) أرزق (مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) بالتشديد والتخفيف في الدناي بالرزق (قَلِيلاً) مدة حياته (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) ألجئه في الآخرة (إِلى عَذابِ النَّارِ) فلا يجد عنها محيصا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦) المرجع هي (وَ) اذكر (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) الأسس أو الجدر (مِنَ الْبَيْتِ) يبنيه متعلق بيرفع (وَإِسْماعِيلُ) عطف على إبراهيم يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) بناءنا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) للقول

____________________________________

بمكان يسمى الحرة أقفر مشهور بالشام كذا قيل. قوله : (وَ) (أرزق) (مَنْ كَفَرَ) هذا يسمى عطفا تلقينيا. قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جملة استئنافية لإنشاء الذم ، وليست معطوفة على ثم أضطره. قوله : (هي) هذا هو المخصوص بالذم ، والحاصل أن إبراهيم لما قال الله له إني جاعلك للناس إماما طلب أن يكون من ذريته من هو كذلك ، فأجابه الله بأنه لا ينال عهده الظالمين ، فلما بنى البيت ودعا لأهله بالرزق من الثمرات ، خصص دعوته بالمؤمن منهم قياسا منه الرزق على الإمامة وخوفا من رد دعوته إذا عم فلقنه الله قوله : (ومن كفر) أي فالمؤمن والكافر سواء في الرزق الدنيوي ، وأما في الإمامة فليسوا سواء.

قوله : (وَ) (اذكر) أي يا محمد وقت رفع إبراهيم القواعد. قوله : (الْقَواعِدَ) جمع قاعدة وهي حجارة كبار كل حجر قدر البعير ، والمراد برفع القواعد بناء البيت ورفعه عليها. قوله : (الأسس) جمع أساس وهي القواعد وقوله : (والجدر) جمع جدار وهي الأسس فالعطف مرادف. وقصة بناء البيت أن الله لما خلق الماء قبل الأرض بألفي عام ، كان ذلك البيت زبدة بيضاء على وجه الماء ، فدحيت الأرض وبسطت وامتدت من تلك الزبدة ، فلما أهبط آدم إلى الأرض استوحش إلى ذكر الله ، فأنزل الله البيت المعمور وهو من ياقوتة حمراء له بابان من زمردة خضراء ، باب بالمشرق وباب بالمغرب ، ووضع موضع الزبدة فكان يأتيه ماشيا من الهند ، ورد أنه حجه ماشيا أربعين عاما فلما فرغ قالت الملائكة : لقد بر حجك يا آدم ، فلما جاء الطوفان أمر برفعه إلى السماء السابعة فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ، وبعث الله جبريل حين رفعه فخبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق هكذا قيل ، والمشهور أن أول من بناه الملائكة ثم آدم ثم شيث ، واستمر حتى جاء طوفان نوح فأذهب رسومه الظاهرية لا قواعده لأنها ثابتة متصلة بالأرض السابعة ، ثم أتى جبريل بالحجر الأسود وألقمه جبل أبي قيس ، فلما أتى إبراهيم وأراد بناءه جاءه جبريل وحدده له وأعلمه بالحجر فبناه على طبق ما رأى من القواعد ، ثم بناه بعده العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ، وكان الواضع للحجر الأسود في محله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقصر بهم النفقة فلم يتموا بناءه على قواعد إبراهيم بل نقضوه وأخرجوا الحجر منه ، ثم ابن الزبير وقد رده لقواعد إبراهيم مستدلا بحديث عن عائشة : لو لا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت البيت على قواعد إبراهيم ، ثم لما تولى الحجاج عامله الله بعدله حارب ابن الزبير وقتله وهدم البيت بالمنجنيق وبناه كما بنته قريش وهو الآن على بنائه ، ونظمهم بعضهم فقال :

بنى بيت رب العرش عشر فخذهم

ملائكة الله الكرام وآدم

فشيث فإبراهيم ثم عمالق

قصي قريش قبل هذين جرهم

وعبد الإله بن الزبير بني كذا

بناء لحجاج وهذا متمم

٨٠