حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ألواح التوراة غضبا لربه فتكسرت (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) أي بشعره بيمينه ولحيته بشماله (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) غضبا (قالَ) يا (ابْنَ أُمَ) بكسر الميم وفتحها أراد أمي وذكرها أعطف لقلبه (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا) قاربوا (يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ) تفرح (بِيَ الْأَعْداءَ) بإهانتك إياي (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) بعبادة العجل في المؤاخذة (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) ما صنعت بأخي (وَلِأَخِي) أشركه في الدعاء إرضاء له ودفعا للشماتة فيه (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١) قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) عذاب (مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فعذبوا بالأمر بقتل أنفسهم وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة (وَكَذلِكَ) كما جزيناهم (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢) على الله بالإشراك وغيره (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا) رجعوا عنها (مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) بالله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي التوبة (لَغَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) (١٥٣) بهم (وَلَمَّا سَكَتَ) سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ فيها أي

____________________________________

موتي وغيرتم بعدي ، كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. قوله : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي وكان حاملا لها. قوله : (فتكسرت) هذا أحد الأقوال ، وقيل إنه تكسر البعض وبقي البعض ، وقيل المراد بإلقائها وضعها ليتفرغ لمكالمة أخيه ، فلما فرغ أخذها بعينها ولم يذهب منها بشيء ، كما حققه زاده على البيضاوي. قوله : (أي بشعره بيمينه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.

قوله : (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) حال من فاعل (أَخَذَ). قوله : (بكسر الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فأما قراءة الفتح ، فعند البصريين مبني على الفتح لتركبه تركيب خمسة عشر ، وعند الكوفيين (ابْنَ) منادى منصوب بفتحة ظاهرة ، وهو مضاف لأم ، مجرور بكسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفا المحذوفة للتخفيف ، وبقيت الفتحة لتدل عليها ، وأما على قراءة الكسر ، فعند البصريين هو منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة تخفيفا فهو كسر بناء ، وعند الكوفيين كسرة إعراب ، وحذفت الياء اكتفاء بالكسرة. قوله : (وذكرها أعطف) جواب عما يقال إن هارون شقيق موسى ، فلم اقتصر في خطابه على الأم ، وكان هارون كثير الحلم محببا في بني إسرائيل ، وهو أكبر من موسى بثلاث سنين. قوله : (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي بذلت وسعي في نصيحتهم ، حتى قهروني وقاربوا قتلي. قوله : (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) الشماتة فرح العدو بما ينال الشخص من المكروه.

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي لما تبين له عذر أخيه ، جمعه في الدعاء استعطافا وإرضاء له. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي وكانوا ستمائة ألف وثمانية آلاف ، وبقي اثنا عشر ألفا لم يعبدوه ، لأن جملة من عبر البحر مع موسى ستمائة ألف وعشرون ألفا. (قوله إلها) قدره إشارة إلى أن مفعول اتخذوا محذوف. قوله : (سَيَنالُهُمْ) الاستقبال بالنسبة لخطاب موسى به ، وأما بالنسبة لنزوله على نبينا فهو ماض. قوله : (رجعوا عنها) أي عن السيئات التي منها عبادة العجل.

قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أي بمراجعة هارون له ، حيث ألان له الكلام واعتذر له ، وفي الكلام استعارة بالكناية ، حيث شبه الغضب بأمير قام على موسى ، فأمره بالقاء الألواح والأخذ

٥٦١

كتب (هُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤) يخافون وأدخل اللام على المفعول لتقدمه (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً) ممن لم يعبد العجل بأمره تعالى (لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل فخرج بهم (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة قال ابن عباس لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل قال وهم غير

____________________________________

برأس أخيه ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السكوت ، فإثباته تخييل ، وفي السكوت استعارة تبعية ، حيث شبه السكون بالسكوت ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من السكوت سكت بمعنى سكن ، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ، وما وقع من موسى عليه‌السلام من الغضب ليس ناشئا عن سوء خلق وعدم حلم ، وإنما هو غضب لانتهاك حرمات الله ولا ينافي الحلم ، قال بعضهم :

إذا قيل حلم قل فللحلم موضع

وحلم الفتى في غير موضعه جهل

وما قيل إن موسى لما كان قليل الحلم ، أمره الله بإلانة الكلام لفرعون حيث قال له : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) ، ومحمد عليه‌السلام لما كان كامل الحلم ، أمره الله بالإغلاظ على الكفار حيث قال : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فهو باطل لا أصل له ، وإنما الذي يقال إن كلا كامل في الحلم ، وكلا إما مأمور بالإنة أو لا ، فإذا تقرر الدين وثبت وأمروا بالجهاد ، أمروا بالاغلاظ ، هذا هو الحق ، ومن نفى عن أحد منهم الحلم فقد كفر. قوله : (وَفِي نُسْخَتِها) أي كتابتها وتسميتها نسخة ، باعتبار كتابتها من اللوح المحفوظ ، وهذا على ما قاله ، زاده من أن الألواح لم تنكسر ، وأما على ما قاله ابن عباس من أنها تكسرت ، فصام موسى أربعين يوما فردت عليه في لوحين ، فمعنى قوله : (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ من الألواح التي كسرت في ألواح أخر ، فتسميتها نسخة ظاهر لأن نسخ الشيء نقله. قوله : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي وأما لغيرهم فليس فيه هدى ورحمة ، وإنما هو وبال وخسران ، فهي نظير القرآن مع المؤمن والمنافق ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ). قوله : (وأدخل اللازم على المفعول لتقدمه) أي فضعف عن العمل فقوي باللام ، والمعنى الذين هم يخافون ربهم ، أي يخافون عقابه. قوله : (أي من قومه) أشار بذلك إلى أن قوله : (مِنْ قَوْمِهِ) مفعول ثان مقدم منصوب بنزع الخافض ، والمفعول الأول قوله : (سَبْعِينَ). قوله : (سَبْعِينَ رَجُلاً) أي من شيوخهم ، روي أنه لم يجد إلا ستين شيخا ، فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا ، فأمرهم موسى عليه‌السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات هو طور سينا ، فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عامود من الغمام حتى أحاط بالجبل ودخل موسى فيه ، وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجدا ، وسمعوا الله وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فأخذتهم الصاعقة ، وهي المرادة بالرجفة هنا وماتوا يوما وليلة ، وسبب أخذ الصاعقة لهم سؤالهم الرؤية ، وهذا قول غير ابن عباس ، وقال ابن عباس : إن السبعين الذين سألوا الرؤية ، غير السبعين الذين ذهبوا للشفاعة ، فالأولى : أخذتهم الصاعقة بسبب سؤالهم الرؤية ، والثانية : أخذتهم الرجفة بسبب معاشرتهم لمن عبدوا العجل وسكوتهم

٥٦٢

الذين سألوا الرؤية وأخذتهم الصاعقة (قالَ) موسى (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي قبل خروجي بهم ليعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني (وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) استفهام استعطاف أي لا تعذبنا بذنب غيرنا (إِنْ) ما (هِيَ) أي الفتنة التي وقعت فيها السفهاء (إِلَّا فِتْنَتُكَ) ابتلاؤك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) إضلاله (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) هدايته (أَنْتَ وَلِيُّنا) متولي أمورنا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥) (وَاكْتُبْ) أوجب (لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) حسنة (إِنَّا هُدْنا) تبنا (إِلَيْكَ قالَ) تعالى (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) تعذيبه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ) عمت (كُلَّ شَيْءٍ) في الدنيا (فَسَأَكْتُبُها) في الآخرة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

____________________________________

عليه ، وإلى هذا القول يشير المفسر بقوله : (قال وهم غير الذين سألوا الرؤية) الخ. قوله : (ولم يزايلوا) أي لم يفارقوا قومهم. قوله : (وهم غير الذين سألوا الرؤية) أي لأنهم لم يكونوا في ذلك الميعاد ، بل كانوا مع موسى حين أخذ التوراة ، فلما سمعوا كلام الله لموسى أقبلوا عليه وقالوا : أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة.

قوله : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) مفعول المشيئة محذوف تقديره إهلاكهم. قوله : (استفهام استعطاف) أي طلب العفو والرحمة من الله. قوله : (ابتلاؤك) أي اختبارك ليتبين المطيع من العاصي. قوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) اسم التفضيل ليس على بابه أو على بابه باعتبار أن الغفر ينسب لغيره تعالى لكونه سببا ، وهو الغافر الحقيقي.

قوله : (وَاكْتُبْ) أي حقق وأثبت ، وهذا من جملة دعاء موسى ، فأوله : (أَنْتَ وَلِيُّنا) وآخره : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) ، وحينئذ فلا ينبغي جعل قوله : (وَاكْتُبْ لَنا) أول الربع. قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) أي ما تحمد عاقبته ، كالعافية والإيمان والمعرفة ، وقوله : (وَفِي الْآخِرَةِ) (حسنة) أي وهي الجنة ، وما احتوت عليه من اللقاء والمشاهدة. قوله : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) استئناف مسوق لتعليل الدعاء ، أي لأننا (هُدْنا إِلَيْكَ) أي رجعنا ، من هاد يهود ، إذا رجع ، ولذلك سميت اليهود بذلك ، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ، وبعد ذلك صار ذما. قوله : (قالَ عَذابِي) جواب من الله لموسى. قوله : (أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي في الدنيا ، كقتل الذين عبدوا العجل أنفسهم ، وفي الآخرة بالنار لمن كفر.

قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ورد أنه لما نزلت هذه الآية ، فرح إبليس وقال : قد دخلت في رحمة الله ، فلما نزل (فَسَأَكْتُبُها) الخ أيس من ذلك ، وفرحت اليهود وقالوا : نحن من المتقين الذين يؤتون الزكاة المؤمنين ، فأخرجهم الله منها وأثبتها لهذه الأمة بقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) الخ. قوله : (في الدنيا) أي فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو منقلب في الرحمة. قوله : (فَسَأَكْتُبُها) أي أثبتها. قوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي يمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي. قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) خصها بالذكر لمشتقها على النفوس ، من حيث إن المال محبوب.

قوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) أي بالإيمان به بعد بعثته ، والعمل بشريعته ، ورد أن الله قال

٥٦٣

(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه وصفته (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مما حرم في شرعهم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) من الميتة ونحوها (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) ثقلهم (وَالْأَغْلالَ) الشدائد (الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) كقتل النفس في التوبة وقطع أثر النجاسة (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) منهم (وَعَزَّرُوهُ) وقروه (وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧) (قُلْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا النّاس إنّى رسول الله إليكم جميعا الّذى له ملك السّماوات والأرض لا إله إلّا هو يحيى ويميت فآمنوا

____________________________________

لموسى : أجعل لك الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة ، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلب ، يحفظها الرجل والمرأة ، والحر والعبد ، والصغير والكبير ، فقال موسى ذلك لقومه فقالوا : لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلب ، ولا نقرؤها إلا نظرا ، قال : (فَسَأَكْتُبُها) إلى قوله : (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فجعل هذه الأمور لهذه الأمة.

قوله : (الْأُمِّيَ) أي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، نسب إما للأم لأنه باق على حالته التي ولد عليها ، أو لأم القرى وهي مكة لكونه ولد بها. قوله : (باسمه وصفته) أي من كونه محمدا ولد بمكة ، وهاجر إلى المدينة ، يقبل الهدية ، ويرد الصدقة ، وهكذا من أوصافه وأخلاقه العظيمة ، قال الخميس في تاريخه : إن محمدا مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ المنحمنا ، بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء وكسر الميم الثانية وبعدها نون مشددة بعدها ألف ، ومعناه محمد ، وذكر الحسن عن كعب الأحبار ، أن اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم ، وعند أهل النار عبد الجبار ، وعند أهل العرش عبد المجيد ، وعند سائر الملائكة عبد الحميد ، وعند الأنبياء عبد الوهاب ، وعند الشياطين عبد القاهر ، وعند الجن عبد الرحيم ، وفي الجبال عبد الخالق ، وفي البر عبد القادر ، وفي البحر عبد المهيمن ، وعند الهوام عبد الغياث ، وعند الوحوش عبد الرزاق ، وفي التوراة موذموذ ، وفي الإنجيل طاب طاب ، وفي الصحف عاقب ، وفي الزبور فاروق ، وعند الله طه ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اه بحروفه قوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الخ هذا وما بعده إلى (الْمُفْلِحُونَ) من جملة أوصافه المكتوبة في التوراة والإنجيل. قوله : (مما حرم في شرعهم) أي وهي لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر. قوله : (من الميتة ونحوها) أي كالدم ولحم الخنزير. قوله : (كقتل النفس) أي وتعيين القصاص في القتل ، وتحريم أخذ الدية ، وترك العمل يوم السبت ، وكون صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس ، ونحو ذلك من الأمور الشاقة التي كلفوا بها ، وتسميتها أغلالا ، لأن التحريم يمنع من الفعل ، كما أن الأغلال تمنع منه. قوله : (وقروه) أي عظموه. قوله : (وَنَصَرُوهُ) أي أيدوه. قوله : (الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي مقارنا لزمانه ومصحوبا به. قوله : (أي القرآن) تفسير للنور ، سمي القرآن بذلك ، لأنه ظاهر في نفسه مظهر لغيره ، يهدي من الضلال المعنوي ، كما أن النور يهدي من الضلال الحسي. قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الموصوفون بهذه الصفات ، فائزون ظافرون بالنجاة من الأهوال ، دنيا وأخرى.

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أتى بهذه الآية دفعا لما يتوهم أن الفوز مخصوص بمن تبعه من أهل الكتابين ، فأفاد هنا أن الفوز ليس قاصرا عليهم ، بل كل من تبعه حصل له الفوز ، كان من أهل الكتابين

٥٦٤

بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) القرآن (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨) ترشدون (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) جماعة (يَهْدُونَ) الناس (بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩) في الحكم (وَقَطَّعْناهُمُ) فرقنا بني إسرائيل (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) حال (أَسْباطاً) بدل منه أي قبائل (أُمَماً) بدل مما قبله (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) في التيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فضربه (فَانْبَجَسَتْ) انفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد الأسباط (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) سبط منهم (مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) في التيه من حر الشمس (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) هما

____________________________________

أو لا ، و (النَّاسُ) اسم جنس واحده إنسان. قوله : (جَمِيعاً) حال من ضمير (إِلَيْكُمْ).

قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) يصح رفع (الَّذِي) ونصبه على أنه نعت مقطوع ، وجره على أنه نعت متصل ، وقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ، وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان للصلة. وقوله : (يُحيِي وَيُمِيتُ) بيان لقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، فكل واحدة من هذه الجمل ، كالدليل لما قبلها ، ولا محل لكل من الإعراب ، لأن الصلة لا محل لها فكذا مبنيها. قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ) تفريع على ما تقدم ، أي فحيث علمتم أن محمدا مرسل لجميع الناس ، وأن الله له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ، وجب عليكم الإيمان بالله ورسوله ، وفيه التفات من التكلم للغيبة ، ونكتته التوطئة للاتصاف بقوله : (النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) الخ. قوله : (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أي لأنه مرسل لنفسه. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي تفلحون ، والترجي في القرآن بمنزلة التحقيق ، فهو بمعنى قوله فيما سبق. قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قوله : (ترشدون) من باب تعب ونصر.

قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) استئناف مسوق لدفع توهم أن قوم موسى لم يحصل لهم هدى ، بل استمروا على ضلالهم ، فدفع ذلك بأن بعضهم آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم شرذمة قليلة ، كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله : (وَقَطَّعْناهُمُ) الهاء مفعوله ، و (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) حال ، و (أَسْباطاً) بدل كما قال المفسر ، وتمييز العدد محذوف تقديره فرقة ، ويصح أن قطع بمعنى صير ، فالهاء مفعول أول ، و (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان ، و (أَسْباطاً) بدل ، وسبب تفرقهم كذلك ، أن أولاد يعقوب كانوا كذلك. فكل سبط ينتمي لواحد منهم ، والأسباط جمع سبط ، وهو ولد الوالد ، مرادف للحفيد ، هكذا في كتب اللغة ، وتفرقة بعض العلماء بين السبط والحفيد ، بأن السبط ولد البنت ، والحفيد ولد الولد اصطلاح. قوله : (أي قبائل) أي كالقبائل في التفرق والتعدد. قوله : (بدل مما قبله) أي فهو بدل من البدل.

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) أي حيث أمر بقتال الجبارين هو ومن معه من بني إسرائيل ، ونقب عليهم اثنى عشر نقيبا ، وأرسلهم يأتون له بأخبار الجبارين ، فاطلعوا على أوصاف مهمولة لهم ، فرجعوا وأخبروا موسى عليه‌السلام ، فأمرهم بالكتم عن قومهم ، فخانوا إلا اثنين منهم ، يوشع وكالب فجبنوا ، فحرم الله عليهم دخول القرية أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فلما طالت عليهم المدة في التيه عطشوا ، فطلبوا منه السقيا ، فدعا الله موسى ، فأمره بضرب الحجر بعصاه ، وهذا الحجر هو الذي فر بثوبه حين اتهموه بالإدرة خفيف مربع كرأس الرجل. قوله : (فانبجست) أي انفجرت. قوله : (مَشْرَبَهُمْ) أي عينهم الخاصة بهم. قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أي السحاب ، يسير بسيرهم ، ويضيء لهم بالليل

٥٦٥

الترنجبين والطير السماني بتخفيف الميم والقصر وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠) (وَ) اذكر (إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا) أمرنا (حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) سجود انحناء (نَغْفِرْ) بالنون والتاء مبنيا للمفعول (لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (١٦١) بالطاعة ثوابا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢) (وَسْئَلْهُمْ) يا محمد توبيخا (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) مجاورة لبحر القلزم وهي أيلة ما وقع بأهلها

____________________________________

يسيرون بضوئه. قوله : (الترنجبين) هو شيء حلو ، كان ينزل عليهم مثل الثلج ، من الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل إنسان صاعا. قوله : (والطير السماني) أي فكانت ريح الجنوب تسوقه إليهم ، فيأخذ كل منهم ما يكفيه. قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) وهو المن والسلوى. قوله : (وَما ظَلَمُونا) أي لم يصل لنا منهم ظلم بفعلهم ذلك ، فإن ذلك مستحيل.

قوله : (وَ) (اذكر) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) أي بعد خروجهم من التيه قوله : (بيت المقدس) وقيل أريحاء ، وقد ذكر القولين في البقرة ، فعلى الأول يكون القائل الله على لسان موسى وهم في التيه ، وعلى الثاني يكون على لسان يوشع ، وهو المعتمد كما تقدم في البقرة. قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قدر المفسر (أمرنا) إشارة إلى أن حطة خبر لمحذوف ، ومعنى : أمرنا حطة أي طلبنا حطة الذنوب ومغفرتها. قوله : (سجود انحناء) أي فالمراد السجود اللغوي ، بأن يكونوا على هيئة الراكعين. قوله : (بالنون والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، ولكن على النون يقرأ : خطايا وخطيئات ، وعلى التاء يقرأ : خطيئاتكم وخطيئتكم بالجمع والإفراد ، فالقراءات أربع. قوله : (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي ما أمروا به. قوله : (فقالوا حبة الخ) يحتمل أنه مجرد هذيان قصدوا به إغاظة موسى ، ويحتمل أن يكون له معنى صحيح ، كأنهم قالوا مطلوبنا حبة ، يعني قمح في زكائب من شعر ، وقد تقدم بسطه في البقرة. قوله : (على أستاههم) جمع ستة وهو الدبر. قوله : (عذابا) أي وهو الطاعون ، ومات منهم في وقت واحد سبعون الفا. قوله : (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) أي بسبب ظلمهم ، وقد غايرت هذه القصة ما في البقرة من عشرة أوجه قد تقدمت مفصلة ، فراجعه إن شئت.

قوله : (وَسْئَلْهُمْ) أي اليهود الذين في المدينة ، وسبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوبخ اليهود على كفرهم ، ويقول لهم أنتم قد تبعتم أصولكم في الكفر بأنبيائهم ، فكانوا يقولون إن أصولنا لم تقع منهم مخالفة لربهم ، ولا كفر بأنبيائهم ، وكانوا يعرفون ما وقع لهذه القرية ويخفونه ، ويعتقدون أنه لا علم لأحد غيرهم به ، فنزلت الآية ، فقصها رسول الله عليهم فبهتوا. إن قلت : إن السورة مكية ، وهذا خطاب لأهل المدينة ، فالجواب أنها مكية ما عدا تلك الآيات الثمانية التي أولها : (وَسْئَلْهُمْ) الخ فإنها مدنية كما تقدم. قوله : (توبيخا) أي تقريعا وتبكيتا. قوله : (عَنِ الْقَرْيَةِ) أي أهلها. وقوله : (مجاورة لبحر القلزم) أي عند العقبة بجانب القلعة.

٥٦٦

(إِذْ يَعْدُونَ) يعتدون (فِي السَّبْتِ) بصيد السمك المأمورين بتركه فيه (إِذْ) ظرف ليعدون (تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) ظاهرة على الماء (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) لا يعظمون السبت أي سائر الأيام (لا تَأْتِيهِمْ) ابتلاء من الله (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣) ولما صادوا السمك افترقت القرية أثلاثا ثلث صادوا معهم وثلث نهوهم وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي (وَإِذْ) عطف على إذ قبله (قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) لم تصد ولم تنه لمن نهى (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا) موعظتنا (مَعْذِرَةً) نعتذر بها (إِلى رَبِّكُمْ) لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤) الصيد (فَلَمَّا نَسُوا) تركوا (ما ذُكِّرُوا) ما وعظوا (بِهِ)

____________________________________

قوله : (إِذْ يَعْدُونَ) أي يتعدون الحدود ، وكانوا في زمن داود عليه‌السلام ، وسبب نهيهم عن الصوم يوم السبت ، أن الله أمرهم على لسان داود ، أن يتخذوا يوم الجمعة عيدا ينقطعون فيه لعبادة الله ، فكرهوا ذلك واختاروا السبت ، ومعناه في اللغة القطع ، فهو إشارة إلى أنهم منقطعون عن كل خير ، فلما شددوا امتحنهم الله بأن حرم عليهم صيد السمك يوم السبت ، وأحله لهم باقي الاسبوع ، فكانوا يوم السبت يجدون السمك متراكما ، وباقي الجمعة لم يجدوا منه شيئا ، ثم إن إبليس علمهم أن يصنعوا جداول البحر يوم السبت ، فإذا جاء العصر وملئت الجداول بالسمك سدوا عليه وأخذوه يوم الأحد فافترقت القرية ثلاث فرق ، وكانوا سبعين الفا ، ففرقة اصطادوا ، وفرقة نهتهم وضربوا بينهم وبينهم سورا ، وفرقة لم تصد ولم تنه ، فبعد أيام قلائل ، مسخ من اصطاد قردة وخنازير ، مكثوا ثلاثة أيام وماتوا ، وأنجى الله الفرقة الناهية ، والفرقة الثالثة وقع فيها خلاف بالإنجاء والإهلاك ؛ والصحيح نجاتهم. قوله : (حِيتانُهُمْ) جمع حوت ، وأصل حيتان حوتان ، وقعت الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء. قوله : (شُرَّعاً) حال من فاعل (تَأْتِيهِمْ) ، أي قريبة من الساحل.

قوله : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي لا يكون يوم سبت ، والمعنى تأتيهم حيتانهم يوم السبت ظاهرة وغير يوم السبت لا تأتيهم ، ولما كانت العبارة موهمة ، قال المفسر أي سائر الأيام ، أي باقيها. قوله : (ابتلاء من الله) علة لقوله : (تَأْتِيهِمْ) وقوله : (لا تَأْتِيهِمْ). قوله : (كَذلِكَ) أي الابتلاء المتقدم. قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي يتجاوزون الحد. قوله : (ثلث صادوا معهم) المناسب حذف قوله معهم. قوله : (عطف على إذ قبله) أي وهو : (إِذْ يَعْدُونَ). قوله : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) إنما قصدوا بذلك اللوم على الناهين ، حيث وعظوهم فلم يقبلوا منهم. قوله : (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أو مانعة خلو تجوز الجمع ، والمعنى مهلكهم في الدنيا ، ومعذبهم في الآخرة.

قوله : (قالُوا مَعْذِرَةً) قدر المفسر موعظتنا ، إشارة إلى أن (مَعْذِرَةً) خبر لمحذوف ، وفي قراءة النصب على المفعول من أجله ، أي وعظناهم لأجل المعذرة. قوله : (لئلا ننسب إلى تقصير) أشار بذلك إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهم ، ولذا ورد أنه مجمع عليه في جميع الشرائع. قوله : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إشارة إلى أنهم ظانون إفادة الموعظة ، وهو عطف على المعنى ، إذ التقدير موعظتنا للاعتذار : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) في الكلام حذف دل عليه قوله :

٥٦٧

فلم يرجعوا (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالاعتداء (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) شديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥) (فَلَمَّا عَتَوْا) تكبروا (عَنْ) ترك (ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦) صاغرين فكانوها وهذا تفصيل لما قبله قال ابن عباس ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة وقال عكرمة لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه وقالت لم تعظون الخ. وروى الحاكم عن ابن عباس أنه رجع إليه وأعجبه (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أعلم (رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) بالذل وأخذ الجزية فبعث عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية فكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربها عليهم (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) لأهل طاعته (رَحِيمٌ) (١٦٧) بهم (وَقَطَّعْناهُمْ) فرقناهم (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) فرقا (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ) ناس (دُونَ ذلِكَ)

____________________________________

(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ) الخ ، والتقدير فلما ذكر من تذكر ونسي من نسي أنجينا الخ. قوله : (بَئِيسٍ) فعيل من بؤس إذا اشتد ، وقرىء بيئس على وزن ضيغم ، وبئس بكسر الباء وسكون الهمزة أو قلبها ياء ، وبيس بفتح الباء وتشديد الياء مكسورة ، وبيس بفتح الباء وسكون الياء ، وبائس على وزن فاعل ، هكذا في البيضاوي ، وليست كلها سبعية.

قوله : (كُونُوا) أمر تكوين لا قول ، فهو كناية عن سرعة التصبير ، إذ لا يكلف الشخص إلا بما يقدر عليه ، وكونهم قردة ليس في طاقتهم. قوله : (فكانوها) أي : (قِرَدَةً) وقيل : إن شبابهم مسخوا قردة ، وشيوخهم خنازير ، وقيل : إن الذين مسخوا خنازير ، هم أصحاب المائدة. قوله : (وهذا) أي قوله : (فَلَمَّا عَتَوْا) تفصيل لما قبله ، وهو قوله : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) الخ. قوله : (لأنها كرهت ما فعلوه) أي فهي داخلة تحت قوله : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) فهي وإن لم تنه صريحا لكنها نهت ضمنا. قوله : (إنه رجع إليه) أي إلى قول عكرمة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ) إذ ظرف لمحذوف تقديره ذكر وقت إذ تأذن. قوله : (أعلم) مفعوله محذوف ، والتقدير أعلم ربك أسلافهم. قوله : (لَيَبْعَثَنَ) أي ليسلطن عليهم. قوله : (مَنْ يَسُومُهُمْ) أي يذيقهم. قوله : (بختنصر) علم مركب تركيبا مزجيا كبعلبك ، فإعرابه على الجزء الثاني ، والأول ملازم للفتح ، وهو غير منصرف للعلمية ، والتركيب المزجي. وبخت معناه في الأصل ابن ، ونصر اسم صنم ، سمي بذلك لأنه وجد وهو صغير مطروحا عند ذلك الصنم. قوله : (وسباهم) أي سبى نساءهم وصغارهم. قوله : (وضرب عليهم الجزية) أي عن من لم يقاتل منهم. قوله : (فضربها عليهم) أي لا تزال كذلك إلى نزول عيسى ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام. قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي إذا تعلقت إرادته به ، وإلا فهو واسع الحلم. قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ) أي بني إسرائيل الكائنين قبل زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) قدر المفسر (ناس) إشارة إلى أن (دُونَ) نعت لمنعوت محذوف ، وهو كثير إذا كان التفصيل بمن ، كقولهم : منا ظعن ومنا أقام ، أي منا فريق ظعن ، ومنا فريق أقام.

٥٦٨

الكفار والفاسقون (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) بالنعم (وَالسَّيِّئاتِ) بالنقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨) عن فسقهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة عن آبائهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي حطام هذا الشىء الدنيء أي الدنيا من حلال وحرام (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ما فعلناه (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الجملة حال أي يرجون المغفرة وهم عائدون إلى ما فعلوه مصرون عليه وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار (أَلَمْ يُؤْخَذْ) استفهام تقرير (عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) الإضافة بمعنى في (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا) عطف على يؤخذ قرؤوا (ما فِيهِ) فلم كذبوا عليه بنسبة المغفرة إليه مع الإصرار (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الحرام (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦٩) بالياء والتاء أنها خير فيؤثرونها على الدنيا (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) بالتشديد والتخفيف (بِالْكِتابِ) منهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي أجرهم (وَ)

____________________________________

قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي اختبرناهم بالعطايا : كالنعم والعافية ، والبلايا : كالنقم والأسقام والشدائد ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه من الكفر والمعاصي إلى طاعة ربهم ، فلم يرجعوا. قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بسكون اللام للشر ، وبفتحها للخير ، يقال خلف سوء ، وخلف صالح ، وهذه صفة من كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان صفات أسلافهم. قوله : (التوراة) أشار بذلك إلى أن أل في الكتاب للعهد. قوله : (عن آبائهم) أي أسلافهم سواء كانوا صلحاء أو لا. قوله : (عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) سمي عرضا لتعرضه للزوال ، ففي الكلام استعارة تصريحية ، حيث شبه متاع الدنيا بالعرض الذي لا يقوم بنفسه بجامع الزوال في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه.

قوله : (وَيَقُولُونَ) أي زيادة على طمعهم في الدنيا. قوله : (سَيُغْفَرُ لَنا) أي لأنا أبناء الله وأحباؤه ، وشأن الحبيب أن لا يعذب حبيبه. قوله : (مصرون عليه) أي لم يقلعوا عنه ، فقد طمعوا في المغفرة. مع فقد شروطها ، إذ من أكبر شروطها الندم والإقلاع. قوله : (مِيثاقُ الْكِتابِ) أي التوراة ، والمعنى أخذ عليهم الميثاق في التوراة ، أنهم لا يكذبون على الله ، ولا يقولون إلا الحق. قوله : (إِلَّا الْحَقَ) صفة لموصوف محذوف مفعول مطلق لقوله : (أَنْ لا يَقُولُوا) ، والتقدير أن لا يقولوا على الله إلا القول الحق. قوله : (فلم كذبوا عليه) أي الله.

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أتركوا التدبر والتفكر فلا يعقلون. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الياء يكون إخبارا عنهم ، وعلى التاء يكون خطابا لهم. قوله : (بالتشديد) أي يمسكون غيرهم بالكتاب ، ويدلونه على طريق الهدى. قوله : (والتخفيف) أي يمسكون : (بِالْكِتابِ) ، بمعنى يهتدون في أنفسهم. قوله : (منهم) أي من بني إسرائيل. قوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) خصها بالذكر لأنها أعظم أركان الدين بعد التوحيد. قوله : (وفيه وضع الظاهرة موضع المضمر) أشار بذلك إلى أن الرابط هو لفظ (الْمُصْلِحِينَ) ، لقيامه

٥٦٩

اذكر (إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) رفعناه من أصله (فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا) أيقنوا (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم بوعد الله إياهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة وكانوا أبوها لثقلها فقبلوا وقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) (وَ) اذكر (إِذْ) حين (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار (ذُرِّيَّتَهُمْ) بأن أخرج بعضهم من صلب آدم نسلا بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم

____________________________________

مقام الضمير على حد قول الشاعر : سعاد التي أضناك حب سعادا ، ونكتة ذلك الإشارة إلى شرفهم والاعتناء بهم.

قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا) إذ ظرف معمول لمحذوف ، قدره المفسر بقوله اذكر ، والمقصود من ذلك الرد على اليهود والتقبيح عليهم ، حيث قالوا : إن بني إسرائيل لم تصدر عنهم مخالفة الله. قوله : (الْجَبَلَ) قيل هو الطور ، وقيل هو جبل من جبال فلسطين ، وقيل من جبال بيت المقدس ، وفي آية النساء التصريح بالطور ، وسبب رفع الجبل فوقهم ، أن موسى لما جاءهم بالتوراة وقرأها عليهم ، فلما سمعوا ما فيها من التغليظ ، أبوا أن يقبلوا ذلك ، فأمر الله الجبل فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم مقدار عسكرهم ، وكان فرسخا في فرسخ وكان ارتفاعه على قدر قامتهم محاذيا لرؤوسهم كالسقيفة ، فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خروا سجدا ، فسجد كل واحد على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوف أن يسقط عليه ، ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر.

قوله : (فَوْقَهُمْ) الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس ، إما حال منتظرة أو ظرف لنتقنا. قوله : (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) حال من الجبل. قوله : (وَظَنُّوا) الجملة حالية من الجبل ، والتقدير ورفعناه فوقهم ، والحال أنه مظنون وقوعه عليهم ، ومعنى الظن اليقين كما قال المفسر. قوله : (وقلنا) قدره إشارة إلى أن قوله : (خُذُوا) معمول لمحذوف ، وهو معطوف على (نَتَقْنَا).

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تتصفون بالتقوى ، وهي امتثال المأمورات ، واجتناب المنهيات ، أو تجعلون بينكم وبين النار وقاية تحفظكم منها.

قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) عطف على قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا) عطف قصة على قصة ، وقدر المفسر اذكر إشارة إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف ، والحكمة في تخصيص بني إسرائيل بهذه القصة ، الزيادة في إقامة الحجة عليهم ، حيث أعلمهم الله بأن أعلم نبيه بمبدأ العالم ، فضلا عن وقائعهم. قوله : (بدل اشتمال) أي من قوله : (بَنِي آدَمَ) والأوضح أنه بدل بعض من كل ، لأن الظهور بعض بني آدم كضربت زيدا يده. قوله : (بأن أخرج بعضهم من صلب بعض) أي فأخرج أولاد آدم لصلبه من ظهره ، ثم أخرج من ظهر أولاده لصلبه أولادهم ، وهكذا على حسب الظهور الجسماني إلى يوم القيامة ، وميز المسلم من الكافر ، بأن جعل ذر المسلم أبيض ، وذر الكافر أسود. روي أنهم لما اجتمعوا قال لهم : اعلموا أنه لا إله غيري ، وأنا ربكم لا رب لكم غيري ، فلا تشركوا بي شيئا ، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن ، وإني مرسل إليكم

٥٧٠

عرفة نصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلا (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أنت ربنا (شَهِدْنا) بذلك والإشهاد ل (أَنْ) لا (تَقُولُوا) بالياء والتاء في الموضعين أي الكفار (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) التوحيد (غافِلِينَ) (١٧٢) لا نعرفه (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي قبلنا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم (أَفَتُهْلِكُنا) تعذبنا (بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣) من آبائنا بتأسيس الشرك ، المعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبينها مثل ما بينا الميثاق ليتدبروها (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤) عن كفرهم

____________________________________

رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ، ومنزل عليكم كتابا ، فتكلموا جميعا وقالوا : شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك ، فأخذ بذلك مواثيقهم ، ثم كتب الله آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ، فنظر إليهم آدم عليه‌السلام ، فرأى الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب هلا سويت بينهم؟ فقال : إني أحب أن أشكر ، فلما قررهم بتوحيده ، وأشهد بعضهم على بعض ، أعادهم ألى صلبه ، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق. قوله : (كالذر) قيل هو صغار النمار ، وقيل هو الهباء الذي يطير في الشمس ، وقيل غير ذلك. قوله : (بنعمان) مكان بجنب عرفة. قوله : (وركب فيهم عقلا) أي وسمعا وروحا.

قوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي قررهم ، فإن الشهادة على النفس معناها الإقرار. قوله : (بَلى) هي جواب للنفي ، ولكنها تفيد إثباته ، كان مجردا أو مقرونا بالاستفهام التقريري كما هنا ، ولذا قال عباس : لو قالوا نعم لكفروا ، لأن نعم لتقرير ما قبلها مثبتا أو منفيا ، فكأنهم أقروا بأنه ليس بربهم ، وإلى ذلك أشار العارف الأجهوري رضي الله عنه بقوله :

بل جواب النفي لكنه

يصير إثباتا كذا قرروا

نعم لتقرير الذي قبلها

إثباتا أو نفيا كذا حرروا

قوله : (شَهِدْنا) يحتمل أن يكون من كلام الملائكة الذين استشهدهم الله على ذلك ، فيكون الوقف على قول : (بَلى) ، ويحتمل أن يكون من كلام الذرية ، ويكون المعنى أقررنا بذلك ، وحينئذ فلا يصح الوقف على (بَلى). قوله : (في الموضعين) أي قوله : (أَنْ تَقُولُوا) ، (أَوْ تَقُولُوا) والمناسب تأخير قوله : (في الموضعين) فعلى الياء يكون إخبارا عنهم ، وعلى التاء يكون خطابا لهم. قوله : (فاقتدينا بهم) أي فهم مؤاخذون بذلك ونحن معذورون. قوله : (المعنى لا يمكنهم) أي معنى الجملتين. قوله : (مع إشهادهم على أنفسهم) أي إقرارهم عليها. قوله : (على لسان صاحب المعجزة) أي وهم المرسلون وهو جواب عما يقال إن هذا العهد لا يذكره أحد اليوم.

قوله : (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عطف على قدره المفسر.

ـ فائدة حسنة ـ ذكر القطب الشعراني في رسالة سماها القواعد الكشفية في الصفات الإلهية : قد ذكر العلماء في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية : اثني عشر سؤالا ، ونحن نوردها عليك مع الجواب عنها بما فتح الله به ، الأول : أين موضع أخذ الله تعالى هذا العهد؟ والجواب :

٥٧١

____________________________________

أن الله أخذ ذلك عليهم ببطن نعمان ، وهو واد بجنب عرفة ، قاله ابن عباس وغيره ، وقال بعضهم : أخذه بسرنديب من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة ، وقال الكلبي : كان أخذ العهد بين مكة والطائف ، وقال الإمام علي بن أبي طالب : كان أخذ العهد في الجنة ، وكل هذه الأمور محتملة ، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد. الثاني : كيف استخرجهم من ظهره؟ والجواب : ورد في الصحيح أنه تعالى مسح ظهر آدم ، وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر ، ثم اختلف الناس ، هل شق ظهره واستخرجهم منه؟ أو استخرجهم من بعض ثقوب رأسه ، وكلا الوجهين بعيد ، والأقرب كما قيل ، انه استخرجهم من مسام شعر ظهره ، إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها سم ، مثل سم الخياط في النفوذ لا في السعة ، فتخرج الذرة الضعيفة منها ، كما يخرج الصئبان من العرق السائل ، وهذا غير بعيد في العقل ، فيجب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله ، ولا يجوز اعتقاد أنه تعالى مسح ظهر آدم على وجه المماسة ، إذ لا اتصال بين الحادث والقديم. الثالث : كيف أجابوه تعالى : بلى ، هل كانوا أحياء عقلاء ، أم أجابوه بلسان الحال؟ والجواب أنهم أجابوه بالنطق وهم أحياء عقلاء ، إذ لا يستحيل في العقل ، أن الله يعطيهم الحياة والعقل والنطق مع صغرهم ، فإن بحار قدرته تعالى واسعة ، وغاية وسعنا في كل مسألة أن تثبت الجواز ، ونكل علم كيفيتها إلى الله تعالى. الرابع : فإذا قال الجميع بلى ، فلم قبل قوما ورد آخرين؟ والجواب كما قال الحكيم الترمذي : أن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة فقالوا : بل : مخافة ، فلم يكن ينفعهم إيمانهم ، فكان إيمانهم كإيمان المنافقين ، وتجلى للمؤمنين بالرحمة ، فقالوا : بلى ، مطيعين مختارين ، فنفعهم إيمانهم. الخامس : إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا ، فلأي شيء لا نذكره اليوم؟ والجواب : أنا لم نتذكر هذا العهد ، لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها ، بمرور الزمان عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، ثم استحال تصويرها في الأطوار الواردة عليها ، من العلقة والمضغة واللحم والعظم ، وهذا كله مما يوجب النسيان ، وكان علي كرم الله وجهه يقول : إني لأذكر العهد الذي عهد إلي ربي. وكان سهل التستري يقول : إني لأعرف تلامذتي من ذلك اليوم ، ولم أزل أربيهم في الأصلاب حتى وصلوا إلي ، السادس : هل كانت تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان أم لا؟ والجواب : لم يبلغا في ذلك دليل ، إلا أن الأقرب للعقول ، عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان ، إذ السمع والنطق لا يفتقران إلى الصورة ، بل يقتضيان محلا حيا لا غير. السابع : متى تعلقت الأرواح بالذوات التي هي الذرية ، هل قبل خروجها من ظهره ، أم بعد خروجها منه؟ والجواب : قال بعضهم إن الظاهر أنه تعالى استخرجهم أحياء ، لأنه سماهم ذرية ، والذرية هم الأحياء لقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ). فيحتمل أن الله تعالى أدخل فيهم الأرواح وهم في ظلمات ظهر أبيهم ، ثم أدخلها مرة أخرى وهم في ظلمات بطون أمهاتهم ، ثم أدخلها مرة ثالثة وهم في ظلمات بطون الأرض ، هكذا جرت سنة الله فسمى ذلك خلقا. الثامن : ما الحكمة في أخذ الميثاق منهم؟ والجواب : أن الحكمة في ذلك ، إقامة الحجة على من لم يوف بذلك. التاسع : هل أعادهم إلى ظهر آدم أحياء ، أم استرد أرواحهم ثم أعادهم إليه أمواتا؟ والجواب أن الظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره ، قبض أرواحهم ، قياسا على ما يفعله بهم إذا ردهم إلى الأرض بعد الموت ، فإنه يقبض أرواحهم ويعيدهم فيها. العاشر : أين رجعت الأرواح بعد

٥٧٢

(وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ) أي اليهود (نَبَأَ) خبر (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) خرج بكفره

____________________________________

رد الذرات إلى ظهره؟ والجواب : أن هذه مسألة غامضة ، لا يتطرق إليها النظر العقلي عندي بأكثر من أن يقال : رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذوات ، فمن رأى في ذلك شيئا فليلحقه بهذا الموضع. الحادي عشر : قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، والناس يقولون : إن الذرية أخذت من ظهر آدم؟ والجواب : أنه تعالى أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه ، فاستغنى عن ذكر إخراج بني آدم من آدم بقوله من بني آدم ، إذ من المعلوم أن بني بنيه لا يخرجون إلا من بنيه ، ومثال ذلك : من أودع جوهرة في صدفة ، ثم أودع الصدفة في خرقة ، ثم أودع الخرقة مع الجوهرة في حقه ، ثم أودع الحقة في درج ، ثم أودع الدرج في صندوق ، فأخرج منه تلك الأشياء بعضها من بعض ، ثم أخرج الجميع من الصندوق ، فهذا لا تناقض فيه. الثاني عشر : في أي مكان أودع كتاب العهد والميثاق؟ والجواب : قد جاء في الحديث ، أنه مودع في باطن الحجر الأسود ، وأن للحجر الأسود عينين وفما ولسانا ، فإن قال قائل : هذا غير متصور في العقل ، فالجواب : أن كل ما عسر على العقل تصوره يكفينا فيه الإيمان به ، ورد معناه إلى الله تعالى ا ه ملخصا.

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على (واسألهم) عطف قصة على قصة. قوله : (آياتِنا) أي وهي علوم الكتب القديمة ، ومعرفة الاسم الأعظم ، فكان يدعو به حيث شاء فيحصل بعينه ، وكان يرى العرش وهو جالس مكانه ، وكان في مجلس اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه ، وحاصل قصته على ما ذكره ابن عباس وغيره ، أن موسى عليه‌السلام ، لما قصد قتال الجبارين ، ونزل أرض الكنعانيين من أرض الشام ، أتى بلعم إليه وكان عنده الاسم الاعظم ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير ، وإنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويخليها لبني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ، فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون ، وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه ، فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام ، فآمر ربه في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي ، وإني نهيت أن أدعو عليهم ، فأهدوا إليه هدية فقبلها ، وراجعوه فقال : حتى أؤامر ربي ، فآمر فلم يؤمر بشيء ، فقال : قد آمرت ربي فلم يأمرني بشيء ، فقالوا له : ولو كره ربك أن تدعو لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن ، فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت ، فنزل عنها وضربها ، فقامت فركبها ، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها ، وهكذا مرارا ، فأذن الله تعالى لها في الكلام فأنطقها له ، فكلمته حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي ، ويحك تذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعوا عليهم ، فلم ينزجر ، فخلى الله سبيل الأتان ، فانطلقت حتى أشرف على جبل حسبان ، فجعل يدعو عليهم ، فلم يدع بشر إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو بخير لقومه إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا ، فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : الآن قد ذهب مني الدنيا والآخرة ، ولم يبق إلا المكر والخديعة ،

٥٧٣

كما تخرج الحية من جلدها وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل سئل أن يدعو على موسى وأهدي إليه شيء فدعا فانقلب عليه واندلع لسانه على صدره (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) فأدركه فصار قرينه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل العلماء (بِها) بأن نوفقه للعمل (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ) سكن (إِلَى الْأَرْضِ) أي الدنيا ومال إليها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في دعائه إليها فوضعناه (فَمَثَلُهُ) صفته (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) بالطرد والزجر (يَلْهَثْ) يدلع لسانه (أَوْ) إن (تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) وليس غيره من الحيوان كذلك وجملنا الشرط حال أي لاهثا ذليلا بكل حال والقصد التشبيه في الوضع والخسة بقرينة الفاء المشعرة بترتب ما بعدها على ما قبلها من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى وبقرينة قوله (ذلِكَ) المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) على اليهود (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) يتدبرون فيها فيؤمنون (ساءَ) بئس (مَثَلاً الْقَوْمُ) أي مثل القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧) بالتكذيب (مَنْ يَهْدِ

____________________________________

فسأمكر لكم واحتال ، احملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه ، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل راودها ، فإنه إن زنى رجل بواحدة كفيتموهم ، ففعلوا ، فلما دخل النساء العسكر ، مرت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل ، وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال : إني أظنك أن تقول هذا حرام عليك ، قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ، قال : فو الله لا نطيعك ، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله عليهم الطاعون في الوقت ، فهلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار. قوله : (من علماء بني إسرائيل) أي بل قيل بنبوته والحق خلافه. لأن الأنبياء معصومون من كل ما يغضب الله تعالى. قوله : (وأهدي إليه شيء) أي في نظير الدعاء عليهم ، وتسمى تلك الهدية رشوة ، وهي محرمة في شرعنا ، والذي ألجأه المنصب. قوله : (واندلع لسانه) أي تدلى. قوله : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) هذا مبالغة في ذمه ، حيث كان عالما عظيما ، ثم صار الشيطان من أتباعه. قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) مفعول المشيئة محذوف تقديره رفعته. قوله : (بِها) أي بسبب تلك الآيات. قوله : (ولكنه أخلد) أي مال واطمأن. قوله : (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي الذي هو أخس الحيوانات. قوله : (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) أي تشدد عليه وتجهده يلهث أي يخرج لسانه. قوله : (أَوْ تَتْرُكْهُ) أي من غير تشدد عليه. قوله : (وليس غيره من الحيوانات كذلك) أي بل غيره يلهث في حال التعب فقط. قوله : (ما بعدها) أي وهو الانسلاخ ، وقوله : (من الميل الخ) بيان لما قبلها.

قوله : (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) أي اليهود الذين أوتوا التوراة ، وفيها صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخلاقه وشمائله ، فغيروا وبدلوا. قوله : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي الذي أوحي إليك ، ليعلموا أنك علمته من الوحي فيؤمنون. قوله : (على اليهود) لا مفهوم له ، بل المراد اقصص القصص على أمتك ليتعظوا بذلك. قوله : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) ساء فعل ماض لإنشاء الذم ، و (مَثَلاً) تمييز (الْقَوْمُ) فاعل على حذف مضاف تقديره مثل القوم ، والخصوص بالذم محذوف تقديره مثلهم.

٥٧٤

اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨) (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الحق (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) دلائل قدرة الله بصر اعتبار (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والبصر والاستماع (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها وهؤلاء يقدمون على النار معاندة (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التسعة والتسعون الوارد بها الحديث والحسنى مؤنث الأحسن (فَادْعُوهُ) سموه (بِها وَذَرُوا) اتركوا (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) من ألحد ولحد يميلون عن الحق (فِي أَسْمائِهِ) حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم

____________________________________

قوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ) هذا رجوع للحقيقة وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) بإثبات الياء وصلا ووقفا باتفاق القراء هنا. قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) أي بحكم القبضة الإلهية حين قبض قبضة ، وقال : هذه للجنة ولا أبالي ، وقبض قبضة وقال : هذه للنار ولا أبالي ، وقوله : (كَثِيراً) يؤخذ منه أن أهل النار أكثر من أهل الجنة ، وهو كذلك ، لما تقدم من أن من كل ألف واحدا للجنة ، والباقي للنار. قوله : (الحق) قدره هو ، ونظيره في : (يُبْصِرُونَ) و (يَسْمَعُونَ) إشارة إلى أن مفعول كل محذوف. قوله : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) إضراب انتقالي ، ونكتة الاضراب أن الأنعام لا تدري العواقب ، والعقلاء تعرفها ، فقدومهم على المضار مع علمهم بعواقبها ، أضل من قدوم الأنعام على مضارها. قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي قلبا وسمعا وبصرا ، وهذه علامة أهل النار المخلدين فيها.

قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ذكرت في أربعة مواضع من القرآن : هنا ، وفي آخر الإسراء ، وفي أول طه ، وفي آخر الحشر. قوله : (الوارد بها الحديث) أي وقد ورد بطرق مختلفة منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد ، إنه وتر يحب الوتر وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة» ، ومنها : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة» ، ومنها : «إن لله عزوجل تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد ، إن الله وتر يحب الوتر ، من حفظها دخل الجنة» ، ومنها : «إن لله مائة اسم غير اسم ، من دعا بها استجاب الله له» وكلها مذكورة في الجامع الصغير عن علي وعن أبي هريرة. والأسماء جمع اسم ، وهو اللفظ الدال على المسمى ، إما على الذات فقط ، أو على الذات والصفات ، والأخبار بأنها تسع وتسعون ليس حصرا ، وإنما ذلك إخبار عن دخول الجنة بإحصائها أو استجابة الدعاء بها ، وإلا فأسماء الله كثيرة ، قال بعضهم : إن لله ألف اسم ، وقال بعضهم : إن أسماءه على عدد أنبيائه ، فكل نبي يستمد من اسم ، ونبينا يستمد من الجميع. قوله : (والحسنى مؤنث الأحسن) أي ككبرى وصغرى ، مؤنث الأكبر والأصغر ، وإنما كانت حسنى ، لأن الدال يشرف بشرف مدلوله. قوله : (سموه) (بِها) أي وقت دعائكم وندائكم وأذكاركم.

قوله : (وَذَرُوا) أمر للمكلفين. قوله : (من ألحد ولحد) أي رباعيا وثلاثيا ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (يميلون عن الحق) تفسير لكل من القراءتين ، ومنه لحد الميت لأنه يمال بحفره إلى جنب القبر ، بخلاف الضريح ، فإنه الحفر في الوسط. قوله : (حيث اشتقوا) أي اقتطعوا ، وهذا الإلحاد كفر ، ويطلق الإلحاد على التسمية بما لم يرد ، وهو بهذا المعنى حرام ، لأن أسماءه توقيفية ، فيجوز أن يقال يا جواد ، ولا

٥٧٥

كاللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة جزاء (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) وهذا قبل الأمر بالقتال (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الحديث (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن من أهل مكة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم قليلا قليلا (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢) (وَأُمْلِي لَهُمْ) أمهلهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣) شديد لا يطاق (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) فيعلموا (ما بِصاحِبِهِمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) جنون (إِنْ) ما (هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) بين الإنذار (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ) ملك (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَ) في (ما

____________________________________

يجوز أن يقال يا سخي ، ويقال يا عالم دون عاقل ، وحكيم دون طبيب ، وهكذا. قوله : (جزاء) (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، وقدر ليصح الكلام ، إذ لا معنى لكونهم يجزون الذي كانوا يعملونه من الإلحاد ، بل المراد جزاؤه. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) اسم الإشارة راجع لقوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) فهذه الآية منسوخة بآية القتال.

قوله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) الجار والمجرور خبر مقدم ، و (أُمَّةٌ) مبتدأ مؤخر. قوله : (بِالْحَقِ) الباء للملابسة أي يهدون الناس ويرشدونهم ملتبسين بالحق. قوله : (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي بالحق يجعلون الأمور متعادلة مستوية ، لا إفراط فيها ولا تفريط. قوله : (كما في الحديث) أي وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله» وعن معاوية وهو يخطب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» ، وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان ، ولا مكان دون مكان ، بل هم في كل مكان وفي كل زمان ، فالإسلام دائما يعلون ولا يعلى عليه ، وإن كثر الفساق وأهل الشر ، فلا عبرة بهم ، ولا صولة لهم ، وفي هذا بشارة لهذه الأمة المحمدية ، بأن الإسلام في علو وشرف ، وأهله كذلك إلى قرب يوم القيامة ، حتى تموت حملة القرآن والعلماء ، وينزع القرآن من المصاحف ، وتأتي الريح اللينة فيموت كل من كان فيه مثقال ذرة من الإيمان ، ولا يكون هذا الأمر ، إلا بعد وفاة عيسى عليه‌السلام.

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) مبتدأ خبره الجملة الاستقبالية بعده. قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الاستدراج هو الاستصعاد درجة فدرجة ، أو الاستنزال درجة بعد درجة. قوله : (نأخذهم قليلا قليلا) أي نمدهم بالعطايا شيئا فشيئا ، وهم مقيمون على المعاصي ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الهلاك ، فهم يظنون أنهم في نعم ، وهم في نقم ، ولذا قيل : إذا رأيت الله أنعم على عبده وهو مقيم على معصيته ، فاعلم أنه مستدرج له. قوله : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الكيد في الأصل المكر والخديعة ، وذلك مستحيل على الله ، بل المراد الاستدراج وكان شديدا ، لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.

قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أعموا ولم يتفكروا. قوله : (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) سبب نزولها ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذا فخذا ، يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله ، فقال بعضهم : إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح ، ومعنى يهوت يصوت ، وإنما نسبوه إلى الجنون لمخالفته لهم في الأقوال والأفعال ، فإنه كان موحدا مقبلا على الله بكليته ، معرضا عن الدنيا وشهواتها ، وهم ليسوا كذلك. قوله : (ملك) (السَّماواتِ

٥٧٦

خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) بيان لما فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته (وَ) في (أَنْ) أي أنه (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ) قرب (أَجَلُهُمْ) فيموتوا كفارا فيصيروا إلى النار فيبادروا إلى الإيمان (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي القرآن (يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) بالياء والنون مع الرفع استئنافا والجزم عطفا على محل ما بعد الفاء (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦) يترددون تحيرا (يَسْئَلُونَكَ) أي أهل مكة (عَنِ السَّاعَةِ) القيامة (أَيَّانَ) متى (مُرْساها قُلْ) لهم

____________________________________

وَالْأَرْضِ) إنما فسر الملكوت بالملك ، لأن الملكوت ما غاب عنا ، كالملائكة والعرش والكرسي ، والمأمور بالنظر فيه عالم الملك وهو ما ظهر لنا. قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ) قدر المفسر في إشارة إلى أنه معطوف على : (مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قوله : (وَأَنْ عَسى) قدر المفسر في إشارة إلى أن الجملة في محل جر عطفا على ما قبلها ، و (أَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) خبرها.

قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) الخ متعلق بيؤمنون ، وهو استفهام تعجبي ، والمعنى إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن الذي هو أعظم المعجزات ، فبأي آية ومعجزة يؤمنون بها. قوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) تذييل لما قبله ، خارج مخرج المثل. قوله : (بالياء والنون) أي مع الرفع ، وبالياء لا غير مع الجزم ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية ، فعلى النون يكون التفاتا من الغيبة للتكلم ، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله : (على محل ما بعد الفاء) أي وهو الجزم ، لأن جملة : (فَلا هادِيَ لَهُ) جواب الشرط في محل جزم.

قوله : (يَسْئَلُونَكَ) الضمير عائد على أهل مكة كما قال المفسر ، لأن السورة مكية إلا ما تقدم من الثمان آيات ، وهذا استئناف مسوق لبيان تعنتهم في كفرهم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم من الساعة وأهوالها. قوله : (القيامة) سميت ساعة إما لسرعة مجيئها ، قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو لسرعة حسابها ، لأن الخلق جميعا يحاسبون في قدر نصف يوم من نهار ، أو لأنها ساعة عند الله لخفتها ، وإن كانت في نفسها طويلة ، لأن الأزمان عنده مستوية ، ولها أسماء كثيرة ، منها القيامة القيام الناس لرب العالمين فيها ، والقارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها ، والحاقة لأنها ثابتة ، والخافضة والرافعة لأنها تخفض أقواما وترفع آخرين ، والطامة لأنه لا يمكن ردها ، والصامة لأنها تصم الآذان ، والزلزلة لتزلزل الأرض والقلوب ، ويوم الفرقة لتفرقهم في الجنة والنار ، واليوم الموعود لأن الله وعد فيه أقواما بالجنة ، وأوعد أقواما بالنار ، ويوم العرض لعرض الناس على ربهم ، ويوم المفر لقول الإنسان يومئذ أين المفر ، واليوم العسير لشدة الحساب فيه ، ورحمة الناس بعضهم على بعض ، حتى يكون على القدم ألف قدم ، وفي رواية سبعون ألف قدم على قدم ، وتدنو الشمس من الرؤوس حتى يكون بينها وبين الرؤوس قدر المرود ، إلى غير ذلك من أسمائها.

قوله : (أَيَّانَ مُرْساها) في الكلام استعارة بالكناية ، حيث شبه الساعة بسفينة في البحر ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإرساء فذكره تخييل ، وهذه الجملة من المبتدأ والخبر ، بدل من الجار والمجرور قبله ، والمعنى يسألونك عن وقت مجيء الساعة وهو في محل نصب ، لأن الجار والمجرور

٥٧٧

(إِنَّما عِلْمُها) متى تكون (عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها) يظهرها (لِوَقْتِها) اللام بمعنى في (إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ) عظمت (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على أهلهما لهولها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌ) مبالغ في السؤال (عَنْها) حتى علمتها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تأكيد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) أن علمها عنده تعالى (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً) أجلبه (وَلا ضَرًّا) أدفعه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما غاب عني (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) من فقر وغيره لاحترازي عنه باجتناب المضار (إِنْ) ما (أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) بالنار للكافرين

____________________________________

في محل نصب معمول ليسألونك. قوله : (متى تكون) أشار بذلك إلى أن الكلام فيه حذف مضاف ، والتقدير إنما علم وقتها عند الله. قوله : (على أهلهما) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، و (فِي) بمعنى على ، ويصح أن تبقى الآية على ظاهرها لأنه لا يطيقها شيء من السماوات لطيها ، ولا الأرض لتبدلها ، فهي شاقة مفزعة لكل ما سوى الله.

قوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي على حين غفلة ، والحكمة في اخفائها ليتأهب لها كل أحد ، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة ليعتنى باليوم كله ، وليلة القدر في سائر الليالي ، ليعتنى بجميع الليالي ، والرجل الصالح في جميع الخلق ليعتقد الجميع ، والصلاة الوسطى في جميع الصلوات للمحافظة على الجميع. قوله : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) عن بمعنى الباء ، والمعنى كأنك عالم بها ومتيقن لها. قوله : (تأكيد) أي لما قبله لبيان أنها من الأمر المكتوم الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه من الرسل ، والذي يجب الإيمان به ، أن رسول الله لم ينتقل من الدنيا حتى أعلمه الله بجميع المغيبات التي تحصل في الدنيا والآخرة ، فهو يعلمها كما هي عين يقين ، لما ورد : «رفعت لي الدنيا فأنا أنظر فيها كما أنظر إلى كفي هذه» ، وورد أنه اطلع على الجنة وما فيها ، والنار وما فيها ، وغير ذلك مما تواترت به الأخبار ، ولكن أمر بكتمان البعض. قوله : (لِنَفْسِي) معمول لا أملك. قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي تمليكه لي فأنا أملكه.

قوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الخ إن قلت : إن هذا يشكل مع ما تقدم لنا ، أنه اطلع على جميع مغيبات الدنيا والآخرة ، والجواب : أنه قال ذلك تواضعا أو أن علمه بالمغيب كلا ، علم من حيث إنه لا قدرة له على تغيير ما قدر الله وقوعه ، فيكون المعنى حينئذ ، لو كان لي علم حقيقي بأن أقدر على ما أريد وقوعه لاستكثرت الخ ، إن قلت : إن دعاءه مستجاب لا يرد. أجيب : بأنه لا يشاء إلا ما يشاؤه الله ، فلو اطلع على أن هذا الشيء مثلا لا يكون كذا لا يوفق للدعاء له ، إذ لا يشفع ولا يدعو إلا بما فيه إذن من الله ، واطلاع منه على أنه يحصل ما دعا به ، وهو سر قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، وفي ذلك المعنى قال العارف :

وخصك بالهدى في كل أمر

فلست تشاء إلا ما يشاء

وللخواص من أمته حظ من هذا المقام ، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي : إذا أراد الله أمرا ، أمسك ألسنة أوليائه عن الدعاء سترا عليهم ، لئلا يدعوا فلا يستجاب لهم فيفتضحوا. قوله : (للكافرين)

٥٧٨

(وَبَشِيرٌ) بالجنة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) (هُوَ) أي الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم (وَجَعَلَ) خلق (مِنْها زَوْجَها) حواء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ويألفها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) هو النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) ذهبت وجاءت لخفته (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) بكبر الولد في بطنها وأشفقا أن يكون بهيمة (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا) ولدا (صالِحاً) سويا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) لك عليه (فَلَمَّا آتاهُما) ولدا (صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) وفي قراءة بكسر الشين والتنوين أي شريكا (فِيما آتاهُما) بتسميته عبد الحرث ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله وليس بإشراك في العبودية لعصمة آدم ، وروى سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما ولدت حواء طاف بها إبليس

____________________________________

أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء. قوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصوا بذلك لأنهم المنتفعون بذلك. قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) الخطاب لأهل مكة المعارضين المعاندين. قوله : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي لأنه المالك المتصرف ، وهذا أعظم دليل على انفراده بالوحدانية. قوله : (أي آدم) أي وهو مخلوق من الماء والطين ، والماء والطين موجودان من عدم ، فآل الأمر إلى أن آدم وأولاده موجودان من عدم.

قوله : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي من الضلع الأيسر ، فنبتت منه كما تنبت النخلة من النواة. قوله : (حواء) تقدم أنها سميت حواء لأنها خلقت من حي وهي آدم. قوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) هذا هو حكمه كون حواء من آدم ، فالحكمة في كونها منه ، كونه يسكن إليها ويألفها لأنها جزء منه. قوله : (ويألفها) عطف تفسير. قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) التغشي كناية عن الجماع ، وعبر به تعليما لعباده الأدب. قوله : (هو النطفة) إن قلت : إن الجنة لا حمل فيها ولا ولادة. أجيب : بأن ذلك بعد هبوطهما إلى الأرض ، وأما جماعه لها في الجنة فبغير نطفة ولا حمل منها ولا ولادة.

قوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) أي ترددت بذلك الحمل لعدم المشقة الحاصلة منه. قوله : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل أو دخلت في الثقل ، كأصبح إذا دخل في الصباح. قوله : (وأشفقا) أي خافا ، ورد أنه لما جاءها إبليس وقال لها : ما هذا الذي في بطنك؟ فقالت : لا أدري ، فقال لها : يحتمل أن يكون كلبا أو حمارا أو غير ذلك ، ويحتمل أن يخرج من عينك أو فمك أو تشق بطنك لإخراجه فخوفها بهذا كله ، فعرضت الأمر على آدم ، فدعوا ربهما إلى آخر الدعاء المذكور. قوله : (لَئِنْ) اللام موطئة لقسم محذوف تقديره والله. قوله : (ولذا قدره) إشارة إلى أن صالحا صفة لموصوف محذوف مفعول ثان : لآتيتنا ، لأنه بمعنى أعطيتنا. قوله : (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي نزيد في الشكر لأن الشكر يزيد ويعظم بزيادة النعم.

قوله : (شُرَكاءَ) جمع شريك ، والمراد بالجمع المفرد ، بدليل القراءة الثانية. قوله : (أي شريكا) تفسير لكل من القراءتين. قوله : (بتسميته عبد الحرث) أي والحرث كان اسما لإبليس ، فقصد اللعين بذلك انتسابه له وأنه عبده. قوله : (وليس بإشراك في العبودية) المناسب أو يقول في العبادة أو في المعبودية ، وإنما هو إشراك في التسمية ، وهو ليس بكفر بل تعمده حرام ، لعدم تعظيمه شرعا ، وأما النسبة للمعظم شرعا ، كعبد النبي ، وعبد الرسول ، فقيل بالكراهة. والحاصل أن النسبة للمعظم شرعا لا حرمة فيها ، ولغيره حرام إن لم يعتقد المعبودية ، وإلا كان كفرا في الجميع. قوله : (وروى سمرة) الحكمة في ذكر

٥٧٩

وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ، رواه الحاكم وقال صحيح ، والترمذي وقال حسن غريب (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) أي أهل مكة به من الأصنام والجملة مسببة عطف على خلقكم وما بينهما اعتراض (أَيُشْرِكُونَ) به في العبادة (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (١٩١) (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) أي لعابديهم (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٢) بمنعها ممن أراد بهم سوءا من كسر أو غيره والاستفهام للتوبيخ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي الأصنام (إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) بالتخفيف والتشديد (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) إليه (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣) عن دعائهم ولا يتبعوه لعدم سماعهم (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ) مملوكة (أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) دعاءكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤) في أنها آلهة ثم بين غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم فقال (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ) بل أ(لَهُمْ أَيْدٍ) جمع يد (يَبْطِشُونَ بِها أَمْ) بل أ(لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ) بل أ(لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) استفهام إنكاري أي ليس لهم شيء من ذلك مما

____________________________________

هذه الرواية ، أن هذا المقام زلت فيه اقدام العلماء ، فمنهم من أصاب ، ومنهم من أخطأ ، فذكر هذه الرواية ليتضح المقام ويظهر الغث من السمين. قوله : (كان لا يعيش لها ولد) وذلك أنها ولدت قبل ذلك ، عبد الله وعبيد الله وعبيد الرحمن فأصابهم الموت ، وكان يلح عليها كل مرة ، فألح عليها في الأخير ، فسمته عبد الحرث كما أفادته رواية المفسر. قوله : (والجملة) أي قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). قوله : (مسببة) عطف على قوله : (خلقكم) أي وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلا ، ويؤيد ذلك الجمع بعد التثنية ، ولو كان راجعا لها لثنى الضمير وقال يشركان. وفي قوله : (يُشْرِكُونَ) التفات من الخطاب إلى الغيبة.

قوله : (أَيُشْرِكُونَ) شروع في توبيخ أهل مكة على الاشراك. قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) هذا بيان لعجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنها ، والخطاب للمشركين بطريق الالتفات اعتناء بمزيد التوبيخ ، وقوله : (إِلَى الْهُدى) أي لكم ، أي إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، أي سواء عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم عنه ، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين ، كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية. قوله : (مملوكة) دفع بذلك ما يقال إن الأصنام جمادات لا تعقل ، فكيف توصف بأنها مثلكم؟ وأجيب : بأن المراد بكونهم أمثالكم ، انهم مملوكون مقهورون ، لا يملكون ضرا ولا نفعا ، فالتشبيه من هذه الحقيقة لا بد من كل وجه. قوله : (وفضل عابديهم) إما بتشديد الضاد عطف على (بين) وبسكون الضاد عطف على (غاية) ومعنى فضلهم زيادتهم عليهم بهذه المنافع المذكورة. قوله : (أَمْ لَهُمْ) أشار المفسر إلى أن (أَمْ) منقطعة تفسر ببل ، والهمزة والاضراب انتقالي من توبيخ لتوبيخ آخر. قوله : (يَبْطِشُونَ) من باب ضرب ، وبها قرأ السبعة ، وقرىء شذوذا من باب قتل ، والبطش هو الأخذ بعنف. قوله : (استفهام إنكاري) أي في

٥٨٠