حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

من السماء (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧٨) باركين على الركب ميتين (فَتَوَلَّى) أعرض صالح (عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩) (وَ) اذكر (لُوطاً) ويبدل منه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي أدبار الرجال (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٠) الإنس والجن (إِنَّكُمْ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال الألف بينهما على الوجهين (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٨١) متجاوزون

____________________________________

ظاهر ، لأن الثلاثة أيام مقدمات الهلاك. قوله : (والصيحة من السماء) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء ، لأن عذابهم كان بهما معا. قوله : (فِي دارِهِمْ) أي أرضهم ، فالمراد بهم الجنس.

قوله : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي بعد أن هلكوا وماتوا توبيخا ، كما خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب ، فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أقواما قد جيفوا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون ، وقيل : خاطبهم قبل موتهم وقت ظهور العلامات فيهم ، عليه : يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. قوله : (وَ) (اذكر) خطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقدره ولم يقدر أرسلنا ، مع أنه يكون موافقا لما قبله وما بعده ، لأنه يوهم أن وقت الارسال قال لقومه ما ذكر ، مع أنه ليس كذلك ، بل أمرهم أولا بالتوحيد ، ثم بين لهم فروع شريعته ، ولوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، وكان إبراهيم ولوط ببابل بالعراق ، فهاجر إلى الشام فنزل إبراهيم بأرض فلسطين ، ونزل لوط بالأردن وهي قرية بالشام ، فأرسله الله إلى أهل سذوم ، بالذال المعجمة على وزن رسول ، وهي بلد بحمص.

قوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) استفهام توبيخ وتقريع لأنها من أعظم الفواحش ، ولذا كان حدها عند أبي حنيفة الرمي من شاهق جبل ، وعند مالك الرجم مطلقا فاعلا أو مفعولا أحصنا أو لم يحصنا. قوله : (ما سَبَقَكُمْ) الخ تأكيد للإنكار عليهم ، لأن مباشرة القبح قبيحة ، واختراعه أقبح. قوله : (الإنس والجن) أي وجميع البهائم ، بل هذه الفعلة لم توجد في أمة إلا في قوم لوط وفساق هذه الأمة المحمدية. وكان قوم لوط يتباهوان بالضراط في المجالس أيضا ، كما قال تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) وهو فاحشة عظيمة أيضا. قوله : (بتحقيق الهمزتين) حاصل ما أفاده المفسر ، أن القراءات أربع : تحقيق الهمزتين ، وتسهيل الثانية من غير إدخال ألف بين الهمزتين أو بإدخالها ، ولكن الحق أن إدخال الألف بين الهمزتين المحققتين غير سبعية ، وإنما هي لهشام ، وبقي قراءة سبعية أيضا وهي بهمزة واحدة على الخبر المستأنف بيان لتلك الفاحشة ، وهي لنافع وحفص عن عاصم ، فتحصل أن القراءات خمس ، أربع سبعية وواحدة غير سبعية.

قوله : (شَهْوَةً) أي لأجل الشهوة. قوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) إما حال من : (الرِّجالَ) أو من الواو في تأتون ، وحكمه التوبيخ على هذا الفعل القبيح ، أن الله تعالى خلق الإنسان ، وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا ، وجعل النساء محلا للشهوة والنسل ، فإذا تركهن الإنسان ، فقد عدل

٥٤١

الحلال إلى الحرام (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا وأتباعه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢) من أدبار الرجال (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٨٣) الباقين في العذاب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) هو حجارة السجيل فأهلكتهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤) (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) معجزة (مِنْ رَبِّكُمْ) على صدقي (فَأَوْفُوا) أتموا (الْكَيْلَ

____________________________________

ما أحل له وتجاوز الحد ، لوضعه الشيء في غير محله ، لأن الأدبار ليست محلا للولادة التي هي المقصودة بالذات.

قوله : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) القراءة على نصب جواب خبرا لكان ، واسمها أن وما دخلت عليه ، وقرأ الحسن بالرفع اسم كان ، وأن وما دخلت عليه خبرها ، وما مشى عليه الجماعة أفصح عربية ، لأن الأعراف وقع اسما ، والواو هنا للتعقيب لحلولها محل الفاء في النمل والعنكبوت ، لأن جوابهم لم يتأخر عن نصيحته والحصر نسبي ، والمراد أنه لم يقع منهم جواب عن نصح وموعظة ، فلا ينافي أنهم زادوا في الجواب من الكلام القبيح. قوله : (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي سذوم. قوله : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) قالوا ذلك استهزاء.

قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي ابنته ، لأنه لم ينج من العذاب إلا وهو وابنتاه لإيمانهما به ، فخرج لوط من أرضه ، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم ، وسيأتي تمام القصة في سورة هود ، وإنما ذكرت هنا اختصارا. قوله : (الباقين في العذاب) أي لأن الغبر من باب قعد ، يستعمل بمعنى البقاء في الزمان المستقبل ، وبمعنى المكث في الزمان الماضي ، والمراد الأول. قوله : (وَأَمْطَرْنا) يقال غالبا في الرحمة مطر ، وفي العذاب أمطر ، وعلى كل هو متعد ينصب المفعول. قوله : (هو حجارة السجيل) أي وكانت معجونة بالكبريت والنار ، وهلكوا أيضا بالخسف ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) ، ورد أن جبريل رفع مدائنهم إلى السماء ، وكانت خمسة ، وأسقطها مقلوبة إلى الأرض ، وأمطر عليهم الحجارة متتابعة في النزول عليها اسم كل من يرمي بها ، وقيل إن الحجارة لمن كان مسافرا منهم ، والخسف لمن كان في المدائن.

قوله : (فَانْظُرْ) لكل سامع يتأتى منه النظر والتأمل ، ليحصل الاعتبار بما وقع لهؤلاء القوم. قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ) معطوف على قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) عطف قصة على قصة ، ولذا قدر المفسر أرسلنا ومدين اسم قبيلة شعيب ، واسم لقريته أيضا ، بينها وبين مصر ثمانية مراحل ، سميت باسم أبيهم مدين ابن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وشعيب بن ميكائيل بن بشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل ، فشعيب أخوهم في النسب ، وليس من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله : (شُعَيْباً) بدل من أخاهم ، أو عطف بيان عليه ، وأرسل شعيب أيضا إلى أصحاب الأيكة ، وهي شجر ملتف بعضه ببعض بالقرب من مدين ، قال تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ). قوله : (معجزة) لم تذكر تلك المعجزة في القرآن ، وقيل المراد بها نفسه ، بمعنى أن أوصافه لا يمكن معارضتها ، وقيل المراد بها. قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الخ ، بمعنى ما يترتب عليها من العز للمطيع ، والذل والعقاب للمخالف.

٥٤٢

وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا) تنقصوا (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) ببعث الرسل (ذلِكُمْ) المذكور (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥) مريدي الإيمان فبادروا إليه (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) طريق (تُوعِدُونَ) تحرفون الناس بأخذ ثيابهم أو المكس منهم (وَتَصُدُّونَ) تصرفون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (مَنْ آمَنَ بِهِ) بتوعدكم إياه بالقتل (وَتَبْغُونَها) تطلبون الطريق (عِوَجاً) معوجة (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦) قبلكم بتكذيبهم رسلهم أي آخر أمرهم من الهلاك (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) به (فَاصْبِرُوا) انتظروا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) وبينكم بإنجاء المحق وإهلاك المبطل (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧) أعدلهم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)

____________________________________

قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أي وكانت عادتهم نقص الكيل والميزان. قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) هذا لازم لقوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) لأن الشخص إذا لم يوف الكيل والميزان لغيره فقد نقصه من الثمن ، وكذلك إذا استوفى الكيل والميزان لنفسه ، فقد نقص الغير من الثمن. قوله : (بَعْدَ إِصْلاحِها) ورد أنه قبل بعث شعيب لهم ، كانوا يفعلون المعاصي ، ويستحلون المحارم ، ويسفكون الدماء ، فلما بعث شعيب أصلح الله به الأرض ، وهكذا كل نبي بعث إلى قومه. قوله : (مريدي الإيمان) جواب عما يقال إنهم لم يكونوا مؤمنين إذ ذاك. قوله : (فبادروا اليه) جواب الشرط ، وما قبله دليل الجواب. قوله : (بِكُلِّ صِراطٍ) أي محسوس بدليل ما بعده. قوله : (تخوفون الناس) قدره إشارة إلى أن مفعول : (تُوعِدُونَ) محذوف. قوله : (بأخذ ثيابهم) ورد أنهم كانوا يجلسون على الطريق ، ويقولون لمن يريد شعيبا : إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك ، فإن آمنت به قتلناك.

قوله : (مَنْ آمَنَ) هذا مفعول : (تَصُدُّونَ). قوله : (تطلبون الطريق) أي المعبر عنه بالسبيل ، وهو الطريق المعنوي الذي هو الذين ، والمعنى تعدلوا عن الصراط المستقيم إلى الاعوجاج.

قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ إِذْ) ظرف معمول لقوله : (وَاذْكُرُوا) أي اذكروا وقت كونكم قليلا إلخ ، والمراد اذكروا تلك النعمة العظيمة. قوله : (قَلِيلاً) أي في العدة والعدد والضعف ، وقوله : (فَكَثَّرَكُمْ) أي فزاد عددكم وقوتكم ، فكانوا أغنياء أقوياء ذوي عدد كثير بوجود شعيب بينهم ، ولذا لما فر موسى هاربا من فرعون ، نزل عند شعيب فطمأنه وأمن روعه ، قال تعالى حكاية عن شعيب : (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قوله : (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي وأقربهم إليكم قوم لوط ، فانظروا ما نزل بهم. قوله : (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) في الكلام الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه ، والتقدير وطائفة منكم لم يؤمنوا بالذي أرسلت به.

قوله : (فَاصْبِرُوا) يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه ، وأن يكون للكافرين منهم ، وأن يكون للفريقين وهذا هو الظاهر ، فأمر المؤمنين بالصبر ليحصل لهم الظفر والغلبة ، والكافرين بالصبر لسوء عاقبة أمرهم ، وهو نظير قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ). قوله : (وبينكم) لا حاجة له ، لأن الضمير عائد على شعيب وعليهم ، والمعنى حتى يقضي الله بين الفريقين المؤمنين والكفار. قوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) التعبير باسم التفضيل ، باعتبار أنه الحاكم حقيقة ، وغيره حاكم مجازا ، ومن كان له

٥٤٣

عن الإيمان (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ) ترجعن (فِي مِلَّتِنا) ديننا وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط وعلى نحوه أجاب (قالَ أَ) نعود فيها (وَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٨٨) لها استفهام إنكار (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ) ينبغي (لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) ذلك فيخذلنا (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء ومنه حالي وحالكم (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ) احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) الحاكمين (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي قال بعضهم لبعض (لَئِنِ) لام قسم (اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٩٠) (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩١) باركين

____________________________________

الحكم بالأصالة والحقيقة ، خير ممن كان له الحكم مجازا.

قوله : (قالَ الْمَلَأُ) أي جوابا لما قاله لهم. قوله : (يا شُعَيْبُ) إنما وسطوا اسمه بين المعطوف والمعطوف عليه ، زيادة في القباحة والشناعة منهم. قوله : (وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد الخ) جواب عما يقال : إن شعيبا لم يسبق له الدخول في ملتهم ، وإنما حمل المفسر على هذا الجواب تفسيره العود بالرجوع ، وقال بعضهم إن عاد تأتي بمعنى صار ، وعلى هذا فلا إشكال ولا جواب. قوله : (وعلى نحوه) أي التغليب. قوله : (أَ) (نعود فيها) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف.

قوله : (وَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة لإنكار الوقوع ، وكلمة : (لَوْ) في مثل هذا المقام ، ليست لبيان انتفاء شيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه ، بل هي لمجرد الربط والمبالغة في انتفاء العود ، والمعنى لا تطمعوا في عودنا مختارين ولا مكرهين فتأمل. قوله : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) شرط حذف جوابه لدلالة قوله قد افترينا عليه. قوله : (وَما يَكُونُ لَنا) أي لا يصح ولا يليق لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله لنا. قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) يصح أن يكون متصلا ، والمستثنى منه عموم الأحوال أو منقطعا ، وهذا الاستثناء محض رجوع إلى الله وتفويض الأمر إليه ، وقد جازاهم الله بأن كفاهم شر أعدائهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. قوله : (أي وسع علمه) أشار بذلك إلى أن : (عِلْماً) تمييز محول عن الفاعل. قوله : (وَبَيْنَ قَوْمِنا) أي الكفار ، وإنما أعرض عن مكالمتهم ورجع لله متضرعا لما ظهره له من شدة عنادهم وتعنتهم في كفرهم.

قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ إنما قال بعضهم لبعض هذه المقالة ، خوفا على بعضهم من الميل لشعيب ، حيث توعدوه بما تقدم ، فلم يبال بهم. قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي في الدنيا بفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف ، وجملة : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه. قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ذكر هنا وفي العنكبوت الرجفة ، وذكر في سورة هود : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل عليهم من السماء ، وجمع بينهما بأن الرجفة في المبدأ ، والصيحة في الاثناء فتأمل ، وأما أهل الأيكة فأهلكوا بالظلة ، كما سيأتي في سورة الشعراء.

٥٤٤

على الركب ميتين (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ خبره (كَأَنْ) مخففة واسمها محذوف أي كأنهم (لَمْ يَغْنَوْا) يقيموا (فِيهَا) في ديارهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) (٩٢) التأكيد بإعادة الموصول وغيره للرد عليهم في قولهم السابق (فَتَوَلَّى) أعرض (عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) فلم تؤمنوا (فَكَيْفَ آسى) أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣) استفهام بمعنى النفي (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) فكذبوه (إِلَّا أَخَذْنا) عاقبنا (أَهْلَها بِالْبَأْساءِ) شدة الفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (٩٤) يتذللون فيؤمنون (ثُمَّ بَدَّلْنا) أعطيناهم (مَكانَ السَّيِّئَةِ) العذاب (الْحَسَنَةَ) الغنى والصحة (حَتَّى عَفَوْا) كثروا (وَقالُوا) كفرا للنعمة (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كما مسنا وهذه عادة الدهر وليست بعقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه قال تعالى (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب (بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥) بوقت مجيئه قبله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) المكذبين (آمَنُوا) بالله ورسلهم (وَاتَّقَوْا) الكفر والمعاصي (لَفَتَحْنا) بالتخفيف والتشديد (عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات (وَلكِنْ كَذَّبُوا)

____________________________________

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي كأنهم لم يلبثوا في ديارهم أصلا لأنهم استؤصلوا بالمرة. قوله : (وغيره) أي وهو ضمير الفصل.

قوله : (وَقالَ يا قَوْمِ) ما تقدم من كون القول بعد هلاكهم أو قبله في قصة صالح يجري هنا. قوله : (فَكَيْفَ آسى) أصله أأسى بهمزتين ، قلبت الثانية ألفا. قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) جملة مستأنفة قصد بها التعميم بعد ذكر بعض الأمم بالخصوص ، وإنما خص ما تقدم بالذكر لمزيد تعنتهم وكفرهم. قوله : (فكذبوه) قدره إشارة إلى أن الكلام فيه حذف لأن قوله : (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أصله يتضرعون قلبت التاء ضادا وأدغمت في الضاد ، وإنما قرىء بالفك في الأنعام لأجل مناسبة الماضي في قوله تضرعوا بخلاف ما هنا ، فجيء به على الأصل.

قوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا) أي استدراجا لهم. قوله : (العذاب) أي الفقر والمرض. قوله : (الغنى والصحة) لف ونشر مرتب. قوله : (كفرا للنعمة) أي تكذيبا لأنبيائهم. قوله : (وهذه عادة الدهر) هذا من جملة مقولهم. قوله : (فكونوا على ما أنتم عليه) هذا من جملة قول بعضهم لبعض. قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) مرتب على قوله : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا) الخ. قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لعدم تقدم أسبابه لهم ، وهذه الآية بمعنى آية الأنعام ، قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية.

قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) جمع قرية ، والمراد جميع القرى المتقدم ذكرهم وغيرهم. قوله : (ورسلهم) أي أهل القرى ، وفي نسخة ورسله أي الله. قوله : (وَاتَّقَوْا) عطف على : (آمَنُوا) عطف عام على خاص ، لأن التقوى امتثال المأمورات ، ومن جملتها الإيمان. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بَرَكاتٍ) جمع بركة ، وهي زيادة الخير في الشيء. قوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا)

٥٤٥

الرسل (فَأَخَذْناهُمْ) عاقبناهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٦) (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) المكذبون (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) (٩٧) غافلون عنه (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) نهارا (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٩٨) (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) استدراجه إياهم بالنعمة وأخذهم بغتة (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩) (أَوَلَمْ يَهْدِ) يتبين (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) بالسكنى (مِنْ بَعْدِ) هلاك (أَهْلِها أَنْ) مخففة واسمها محذوف فاعل أي أنه (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) بالعذاب (بِذُنُوبِهِمْ) كما أصبنا من قبلهم والهمزة في المواضع الأربعة للتوبيخ والفاء والواو الداخلة عليهما للعطف وفي قراءة بسكون الواو في الموضع الأول عطفا بأو (وَ) نحن (نَطْبَعُ) نختم (عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠) الموعظة سماع تدبر (تِلْكَ الْقُرى) التي مر ذكرها (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا محمد (مِنْ أَنْبائِها) أخبار أهلها (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الظاهرات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيئهم (بِما كَذَّبُوا) كفروا به (مِنْ قَبْلُ) قبل مجيئهم بل استمروا على الكفر (كَذلِكَ) الطبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١٠١) (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أي الناس (مِنْ عَهْدٍ) أي وفاء بعهدهم يوم أخذ الميثاق (وَإِنْ) مخففة

____________________________________

أي لم يؤمنوا ولم يتقوا. قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم من الكفر والمعاصي.

قوله : (أَفَأَمِنَ) الهمزة مقدمة من تأخير والفاء عاطفة على قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) وما بينهما اعتراض ، وهذه طريقة الجمهور ، وعند الزمخشري أن الهمزة داخلة على محذوف ، وما بعدها معطوف على ذلك المحذوف ، ولكنه في هذا الموضع وافق الجمهور في كشافه. قوله : (بَياتاً) حال من (بَأْسُنا) وجملة (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضمير (يَأْتِيَهُمْ). قوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي يشتغلون بما لا يعنيهم. قوله : (مَكْرَ اللهِ) المكر في الأصل الخديعة والحيلة ، وذلك مستحيل على الله ، وحينئذ فالمراد بالمكر أن يفعل بهم فعل الماكر ، بأن يستدرجهم بالنعم أولا ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

قوله : (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ) أي وهم كل قوم جاؤوا بعد هلاك من قبلهم ، كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين والأمة المحمدية ، فإن كل فرقة من هؤلاء تبين لها الإصابة بذنوبهم ، حيث شاء الله ذلك. قوله : (فاعل) أي المصدر المأخوذ منها ومن جواب لو هو الفاعل ، والتقدير أو لم يتبين بالعذاب لو شئنا الإصابة. قوله : (لَوْ نَشاءُ) أي إصابتهم ، فمفعول نشاء محذوف. قوله : (في المواضع الأربعة) أي وأولها (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) وآخرها (أَوَلَمْ يَهْدِ) فإنان بالفاء واثنان بالواو. قوله : (الداخلة) أي الهمزة ، وقوله : (عليهما) أي الفاء والواو. قوله : (في الموضع الأول) أي من موضعي الواو ، وقوله : (وَنَطْبَعُ) قدر المفسر : (نحن) إشارة إلى أنه مستأنف منقطع عما قبله.

قوله : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُ) اسم الإشارة مبتدأ ، و (الْقُرى) بدل أو عطف بيان و (نَقُصُ) خبره. قوله : (التي مر ذكرها) أي وهي قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب. قوله : (مِنْ أَنْبائِها) أي بعض أخبارها وما وقع لها. قوله : (لِيُؤْمِنُوا) اللازم زائدة لتوكيد النفي. قوله : (عند مجيئهم) أي الرسل. قوله : (قبل مجيئهم) أي بالمعجزات بعد إرسالهم للخلق. قوله : (أي للناس) أشار

٥٤٦

(وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢) (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الرسل المذكورين (مُوسى بِآياتِنا) التسع (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) قومه (فَظَلَمُوا) كفروا (بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣) بالكفر من إهلاكهم (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠٤) إليك فكذبه فقال أنا (حَقِيقٌ) جدير (عَلى أَنْ) أي بأن (لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وفي قراءة بتشديد الياء فحقيق مبتدأ خبره أن وما بعده (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ) إلى الشام (بَنِي

____________________________________

بذلك إلى أن هذه الجملة غير مرتبطة بما قبلها ، ويصح أن الضمير عائد على الأمم ، فيكون بينهما ارتباط.

قوله : (وَإِنْ وَجَدْنا) أي علمنا ، فأكثر مفعول أول ، وفاسقين مفعول ثان ، واللام فارقة ، والمراد : ليظهر متعلقي علمنا للخلق على حد لنعلم أي الحزبين أحصى. قوله : (لَفاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعتنا بترك الوفاء بالعهد. قوله : (أي الرسل المذكورين) أي وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. قوله : (مُوسى) وعاش مائة وعشرين سنة ، وبينه وبين يوسف أربعمائة سنة ، وبين موسى وإبراهيم سبعمائة سنة. قوله : (التسع) أي وهي : والعصا واليد البيضاء والسنون المجدبة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس ، وكلها مذكورة في هذه السورة إلا الطمس ففي سورة يونس ، قال تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ). قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) هذا لقبه ، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، ففرعون في الأصل علم شخص ، ثم صار لقبا لكل من ملك مصر في الجاهلية ، وعاش من العمر ستمائة وعشرين سنة ، ومدة ملكه أربعمائة سنة ، لم ير مكروها قط ، وكنيته أبو مرة ، وقيل أبو العباس ، وهو فرعون الثاني ، وفرعون الأول أخوه ، واسمه قابوس بن مصعب ملك العمالقة ، وفرعون إبراهيم النمرود ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل.

قوله : (فَظَلَمُوا) ضمن ظلموا معنى كفروا فعداه بالباء ويصح أن تكون الباء سببية ، والمفعول محذوف تقديره ظلموا أنفسهم بسببها ، أي بسبب تكذيبهم بها. قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) كيف اسم استفهام خبر كان مقدم عليها وعاقبة اسمها وإنما قدم لأن الاستفهام له الصدارة. قوله : (وَقالَ مُوسى) تفصيل لما أجمل أولا ، لأن التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس ، وهذا القول وما بعده ، إنما وقع بعد كلام طويل ، حكاه الله في سورة الشعراء بقوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الآيات ، وقوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) الآيات ، وفي طه أيضا. قوله : (فكذبه) قدره إشارة إلى أن جملة : (حَقِيقٌ) مرتبة على محذوف.

قوله : (حَقِيقٌ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : (أنا). قوله : (أي بأن) أشار بذلك إلى أن : (عَلى) بمعنى الباء. قوله : (إِلَّا الْحَقَ) مقول القول ، وهو مفرد في معنى الجملة ، ويصح أن يكون صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق تقديره إلا القول الحق. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (مبتدأ) أي وسوغ الابتداء به العمل في الجار والمجرور ، فإن على متعلق بحقيق. قوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ) (إلى الشام) أي وسبب سكناهم بمصر مع أن أصلهم من الشام ، أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر لأخيهم يوسف ، فمكثوا وتناسلوا في مصر ، فلما ظهر فرعون استعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة ،

٥٤٧

إِسْرائِيلَ) (١٠٥) وكان استعبدهم (قالَ) فرعون له (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) على دعواك (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٠٦) فيها (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١٠٧) حية عظيمة (وَنَزَعَ يَدَهُ) أخرجها من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) ذات شعاع (لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١٠٩) فائق في علم السحر وفي الشعراء أنه من قول فرعون نفسه فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠) (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخر أمرهما (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (١١١) جامعين (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ) وفي قراءة سحار (عَلِيمٍ) (١١٢) يفضل موسى في علم السحر فجمعوا (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال

____________________________________

فأحب موسى أن يخلصهم من ذلك الأسر. قوله : (استعبدهم) أي جعلهم عبيدا بسبب استخدامه إياهم.

قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله : (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الثعبان ذكر الحيات ، وصفت هنا بكونها ثعبانا ، وفي آية أخرى : (كَأَنَّها جَانٌّ) ، والجان الحية الصغيرة ، ووجه الجمع أنها كانت في العظم كالثعبان العظيم ، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة. ورد أنه لما ألقى العصا ، صارت حية عظيمة صفراء شقراء ، فاتحة فمها ، بين لحييها ثمانون ذراعا ، وارتفعت من الأرض ، قدر ميل ، وقامت على ذبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ، والأعلى على سور القصر ، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه ، فوثب هاربا وأحدث ، أي تغوط في ثيابه بحضرة قومه في ذلك اليوم أربعمائة مرة ، واستمر معه هذا المرض ، وهو الإسهال إلى أن غرق ، مع كونه لا يتغوط إلا في كل أربعين يوما مرة ، وقيل إنها أدخلت قبة القصر بين أنيابها ، وحملت على الناس فانهزموا ، ومات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ودخل فرعون البيت وصاح : يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها ، وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأمسكها بيده فعادت كما كانت.

قوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي اليمنى. قوله : (ذات شعاع) أي نور يغلب على ضوء الشمس. قوله : (من الأدمة) أي السمرة. قوله : (وفي الشعراء أنه) أي هذا القول. قوله : (فكأنهم قالوه معه) هذا بيان لوجه الجمع بين ما هنا وبين ما يأتي في الشعراء. قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) يصح أن يكون من كلام فرعون ويكون معناه تشيرون ، ويصح أن يكون من كلام الملأ له ، والجمع للتعظيم على عادة خطاب الملوك ، والأول أقرب. قوله : (أَرْجِهْ) فيه ست قراءات سبعية ، ثلاثة مع الهمز ، وهي كسر الهاء من غير إشباع وضمها مع الإشباع وعدمه ، وثلاث من غير همز ، وهي إسكان الهاء وكسرها بإشباع وبدونه.

قوله : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) أي مدائن صعيد مصر ، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر. قوله : (وفي قراءة سحار) أي بالامالة وتركها فتكون القراءات ثلاثا وكلها سبعية. قوله : (فجمعوا) أي وكانوا اثنين وسبعين ، وقيل اثنى عشر ألفا ، وقيل خمسة عشر ألفا ، وقيل سبعين ألفا ، وقيل ثمانين ألفا ، وقيل بضعا وثمانين ألفا. قوله : (بتحقيق الهمزتين الخ) كلامه يفيد أن هنا قراءتين فقط مع أنها أربع ،

٥٤٨

ألف بينهما على الوجهين (لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (١١٣) (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١١٤) (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥) ما معنا (قالَ أَلْقُوا) أمر للإذن بتقديم إلقائهم توصلا به إلى إظهار الحق (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) صرفوها عن حقيقة إدراكها (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) خوفوهم حيث خيلوها حيات تسعى (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) بحذف إحدى التاءين في الأصل تبتلع (ما يَأْفِكُونَ) (١١٧) يقلبون بتمويههم (فَوَقَعَ الْحَقُ) ثبت وظهر (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١٨) من السحر (فَغُلِبُوا) أي فرعون وقومه (هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا

____________________________________

فكان عليه أن يقول : وإدخال ألف بينهما وتركه ، وبقيت خامسة : وهي إن بهمزة واحدة. قوله : (قالَ نَعَمْ) أي لكم الأجر. قوله : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي في المنزلة عندي ، بحيث تكونون أول من يدخل عندي وآخر من يخرج.

قوله : (قالُوا يا مُوسى) الخ ، إما أن يكون ذلك تأدبا من السحرة مع موسى ، وقد جوزوا عليه بالإيمان والنجاة من النار ، وإما أن يكون ذلك على عادة أهل الصنائع أو عدم مبالاة بموسى ، لاعتمادهم على غلبتهم. قوله : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) الخ ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لمحذوف تقديره اختر إما لقاءك. قوله : (أمر للإذن) جواب عما يقال كيف أمرهم بالسحر وأقرهم عليه؟ فأجاب بأن ذلك للتوصل إلى إظهار الحق. قوله : (عن حقيقة إدراكها) أي عن إدراك حقيقتها.

قوله : (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أي عند السحر ، وفي باب السحر ، وإن كان حقيرا في نفسه ، وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا ، وطلوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا داخل تلك الأخشاب الزئبق أيضا. فلما أثر فيها حر الشمس تحركت والتوى بعضها على بعض ، حتى تخيل للناس أنها حيات ، وكانت سعة الأرض ميلا في ميل ، وكانت الواقعة في اسكندرية ، فلما ألقى موسى عصاه ، بلغ ذنبها وراء البحر ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا ، فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا ، حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجتمع ، ففزعوا ووقع الزحام ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت ، فلما رأى السحرة ذلك ، عرفوا أنه أمر من السماء وليس بسحر ، فخروا لله ساجدين ، وقالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ، وكانت حمل ثلثمائة بعير ، فعدمت بقدرة الله تعالى.

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) أي بعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ، أوحى الله إلى موسى على لسان جبريل حيث قال له كما في سورة طه : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) الآية. قوله : (تَلْقَفُ) أي تأخذ وتبتلع بسرعة. قوله : (في الأصل) أي وأصلها تتلقف ، حذفت إحدى التاءين تخفيفا ، وهذه قراءة الجمهور ، وفي قراءة بإدغام التاء في التاء ، وفي قراءة تلقف من لقف كعلم ، فتكون القراءات ثلاثا وكلها سبعية. قوله : (ما يَأْفِكُونَ) أي يكذبون ، فالإفك الكذب. قوله : (بتمويههم) أي تزيينهم الباطل بصورة الحق.

قوله : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ظهر بطلانه. قوله : (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان وهو

٥٤٩

صاغِرِينَ) (١١٩) صاروا ذليلين (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠) (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢١) (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢) لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا (بِهِ) بموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ) أنا (لَكُمْ إِنَّ هذا) الذي صنعتموه (لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (١٢٣) ما ينالكم مني (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٢٤) (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا) بعد موتنا بأي وجه كان (مُنْقَلِبُونَ) (١٢٥) راجعون في الآخرة (وَما تَنْقِمُ) تنكر (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) عند فعل ما توعده بنا لئلا نرجع كفارا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦) (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) له (أَتَذَرُ) تترك

____________________________________

اسكندرية. قوله : (انْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي فرعون وقومه غير السحرة ، فإنه لم يصبهم صغار ، بل أصابهم العز الأبدي بإيمانهم بالله وحده. قوله : (ساجِدِينَ) حال من السحرة ، وقوله : (قالُوا آمَنَّا) في موضع الحال من الضمير في ساجدين ، والتقدير قائلين في حال سجودهم : (آمَنَّا) الخ.

قوله : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بدل من رب العالمين ، أو عطف بيان ، أو نعت جيء به ، لدفع إيهام فرعون الناس أنه رب العالمين ، حيث قال للسحرة : إياي تعنون ، فدفعوا ذلك بقولهم : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ). قوله : (بتحقيق الهمزتين) أي همزة الاستفهام والهمزة الزائدة في الفعل ، وقوله : (وإبدال الثانية) أي في الفعل وإن كانت ثالثة فهي فاء الكلمة ، وفي قراءة سبعية أيضا بحذف همزة الاستفهام ، وفي قراءة بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وإبدال الثالثة ألفا ، وفي قراءة بقلب الأولى واوا في الوصل ، وتسهيل الثانية ، وقلب الثالثة ألفا ، فالقراءات أربعة وكلها سبعية.

قوله : (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أصله أأذن ، أبدلت الثانية ألفا على القاعدة المشهورة ، والمعنى أحصل منكم الإيمان قبل حصول الإذن مني؟ لا يليق منكم ذلك ، والفعل مضارع منصوب بأن. قوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ) أي حيلة وخديعة. قوله : (مَكَرْتُمُوهُ) أي تواطأتم عليه قبل مجيئكم إلينا ، وقصد بذلك اللعين ، تثبيت القبط بهاتين الشبهتين اللتين ألقاهما عليهم وهما قوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ) ، وقوله : (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها). قوله : (ما ينالكم مني) قدره إشارة إلى أن مفعول : (تَعْلَمُونَ) محذوف. قوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ) هذا بيان لوعيده الذي توعدهم به ، وهل فعل ما توعدهم به أو لا؟ خلاف ، بل قال بعضهم إنه لم يفعل بدليل قوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ، قوله : (مِنْ خِلافٍ) الجار والمجرور في محل نصب على الحال أي مختلفة. قوله : (بأي وجه كان) أي سواء كان بقتلك أو لا ، وفي آية طه : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا).

قوله : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) أي تكره منا فقوله : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به لتنقم ، والمعنى وما تكره منا إلا إيماننا ، ويصح أن يكون المعنى : وما تعذبنا بشيء من الأشياء إلا لأجل إيماننا ، فيكون مفعولا لأجله. قوله : (لَمَّا جاءَتْنا) أي حين أتتنا من عنده. قوله : (عند فعل ما توعده بنا) أي ما توعدنا به وهو القطع من خلاف والتصليب ، ففي العبارة قلب. قوله : (نرجع كفارا) علة لقوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً). قوله : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي ثابتين على الدين الحق غير مغيرين

٥٥٠

(مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالدعاء إلى مخالفتك (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وكان صنع لهم أصناما صغارا يعبدونها وقال أنا ربكم وربها ولذا قال أنا ربكم الأعلى (قالَ سَنُقَتِّلُ) بالتشديد والتخفيف (أَبْناءَهُمْ) المولودين (وَنَسْتَحْيِي) نستبقي (نِساءَهُمْ) كفعلنا بهم من قبل (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١٢٧) قادرون ففعلوا بهم ذلك فشكا بنو إسرائيل (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) على أذاهم (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها) يعطيها (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) (١٢٨) الله (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩) فيها (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) بالقحط (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠) يتعظون فيؤمنون (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) الخصب والغنى (قالُوا لَنا هذِهِ) أي نستحقها ولم يشكروا عليها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ

____________________________________

ولا مبدلين.

قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ) أي المصرون على الكفر ، فإنه حين آمنت به السحرة ، آمن من بني إسرائيل ستمائة ألف. قوله : (وَيَذَرَكَ) معطوف على : (لِيُفْسِدُوا) والمعنى أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليتركك وآلهتك ، والاستفهام إنكاري ، والمعنى لا يليق ذلك. قوله : (وَآلِهَتَكَ) بالجمع في قراءة الجمهور ، لأنه جعل آلهة يعبدها قومه ، وجعل نفسه هو الإله الأعلى ، قال تعالى : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقرىء شذوذا وآلهتك بتاء التأنيث ، لأنه كان يعبد الشمس. قوله : (أصناما صغارا) أي على صورة الكواكب. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (المولودين) أي الصغار. قوله : (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي للخدمة. قوله : (من قبل) أي قبل مولد موسى.

قوله : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي تسلية لهم. قوله : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) أي اطلبوا الإعانة منه سبحانه. قوله : (يُورِثُها) الجملة حالية من لفظ الجلالة ، وقوله : (مَنْ يَشاءُ) مفعول ثان ، والمفعول الأول الهاء. قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) (الله) قدره إشارة إلى أن مفعول المتقين محذوف. قوله : (قالُوا أُوذِينا) أي بالقتل للأولاد واستبقاء النساء للخدمة. قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) أي بالرسالة ، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة نصف النهار ، فلما بعث موسى وجرى بينهم ما جرى ، استعملهم جميع النهار ، وأعاد القتل فيهم. قوله : (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (فيها) أي من الإصلاح والإفساد.

قوله : (وَلَقَدْ) اللام موطئة لقسم محذوف تقديره والله لقد أخذنا أي ابتلينا ، وهذا شروع في تفصيل مبادي هلاك فرعون وقومه لتكذيبهم بالآيات البينات. قوله : (بِالسِّنِينَ) جمع سنة ، ومن المعلوم أنه يجري مثل جمع المذكر السالم في إعرابه بالواو رفعا ، وبالياء نصبا وجرا ، وتحذف نونه للإضافة ، ففي الحديث : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ويقل إعرابه كحين. قوله : (بالقحط) أي احتباس المطر. قوله : (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) أي إتلافها بالآفات.

قوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أشار بذلك إلى أنهم باقون في غيهم وضلالهم ، لم يتعظوا ولم

٥٥١

سَيِّئَةٌ) جدب وبلاء (يَطَّيَّرُوا) يتشاءموا (بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ) شؤمهم (عِنْدَ اللهِ) يأتيهم به (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١) أن ما يصيبهم من عنده (وَقالُوا) لموسى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) فدعا عليهم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام

____________________________________

ينزجروا عما هم عليه. قوله : (أي نستحقها) أي بحولنا وقوتنا. قوله : (يَطَّيَّرُوا) أصله يتطيروا ، أدغمت التاء في الطاء ، والتطير في الأصل : أن يفرق الشيء بين القوم ويطير لكل واحد ما يخصه ، فيشمل النصيب الحسن السيىء ، ثم غلب على الحظ ، والنصيب السيىء والحكمة في التعبير في جانب الحسنة بإذا المفيدة للتحقيق ، وتعريفها في جانب السيئة بأن المفيدة للشك ، وتنكيرها الإشارة إلى أن رحمة الله تغلب غضبه ، وأنها صادرة منه سبحانه وتعالى ، وإن لم يتأهل لها العبد ، بخلاف السيئة فصدورها منه نادر ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

قوله : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ) ألا أداة استفتاح يؤتى بها اعتناء بما بعدها للرد عليهم. قوله : (شؤمهم) أي عذابهم الذي تشاءموا به. قوله : (عِنْدَ اللهِ) أي لا عند موسى ، فليس له مدخل في إيجاد ذلك. قوله : (يأتيهم به) أي جزاء لأعمالهم السيئة. قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يفيد أن الأقل يعلم أن فرعون كاذب وموسى صادق ، وإنما كفرهم محض عناد. قوله : (قالُوا) أي فرعون وقومه. قوله : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ) الخ. مهما اسم شرط جازم ، وتأت فعل الشرط مجزوم بحذف الياء والكسرة دليل عليها ، ونا مفعول و (مِنْ آيَةٍ) بيان لمهما ، وبه متعلق بتأت ، وضميرها راجع لمهما ، و (لِتَسْحَرَنا) متعلق بتأتنا و (بِها) متعلق (لِتَسْحَرَنا) ، وقوله : (فَما) الفاء واقعة في جواب الشرط ، وما نافية و (نَحْنُ) مبتدأ و (بِمُؤْمِنِينَ) خبر مرفوع بواو مقدرة ، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفاء التي جلبها حرف الجر الزائد ، والجملة في محل جزم جواب الشرط. قوله : (فدعا عليهم) قال سعيد بن جبير : لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا ، أبي هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر ، فتابع الله عليهم الآيات ، فأخذهم الله أولا بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات ، وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا ، فدعا عليهم موسى وقال : يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا ، وإن قومه قد نقضوا العهد ، فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ، ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، ففعل الله بهم ما سيذكر.

قوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) أي ماء من السماء ، والحال أن بيوت القبط مشتبكة ببيوت بني إسرائيل ، فامتلأت بيوت القبط ، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، ومن جلس منهم غرق ، ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء ، وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا على الحرث ، ودام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، فاستغاثوا بموسى ، فأزال الله عنهم المطر ، وأرسل الريح فجفف الأرض ، وخرج من النبات ما لم ير مثله قط ، فقالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر ، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل ، فأقاموا شهرا في عافية. قوله : (إلى حلوق الجالسين) في كلام غيره إلى حلوق القائمين ، ومن جلس غرق كما علمت.

٥٥٢

(وَالْجَرادَ) فأكل زرعهم وثمارهم كذلك (وَالْقُمَّلَ) السوس أو هو نوع من القراد فتتبع ما تركه الجراد (وَالضَّفادِعَ) فملأت بيوتهم وطعامهم (وَالدَّمَ) في مياههم (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) مبينات (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣) (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) العذاب (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) من كشف العذاب عنا إن آمنا (لَئِنْ) لام قسم (كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٣٤) (فَلَمَّا كَشَفْنا) بدعاء موسى

____________________________________

قوله : (وَالْجَرادَ) أي واستمر من السبت إلى السبت ، يأكل زروعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم ، وابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم تصب بني إسرائيل ، فعظم الأمر عليهم ، فضجوا من ذلك وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فأشار موسى بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت الجراد من حيث جاءت ، فأقاموا شهرا في عافية ، ثم رجعوا إلى أعمالهم الخبيثة. قوله : (وَالْقُمَّلَ) مشى المفسر على أنه السوس أو نوع من القراد ، وقيل إنه القمل المعروف بدليل قراءة الحسن ، والقمل بفتح القاف وسكون الميم ، وقيل هو البراغيث ، فأكل ما أبقاه الجراد ، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه ، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلىء قملا ، فاستمر ذلك سبعة أيام من السبت إلى السبت ، فضجوا واستغاثوا فرفع عنهم ، ثم أقاموا شهرا في عافية ، ثم رجعوا لأخبث ما كانوا عليه.

قوله : (وَالضَّفادِعَ) جمع ضفدع كدرهم وزبرج. قوله : (فملأت بيوتهم وطعامهم) أي وكان الواحد منهم يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ، وكان يملأ قدورهم ويطفىء نيرانهم ، وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاما حتى لا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر ، ورد أن الضفادع كانت برية ، فلما أرسلها الله سمعت وأطاعت ، فجعلت تلقي نفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء ، فصارت من حينها تسكن الماء ، ثم ضجوا وشكوا لموسى وقالوا ارحمنا هذه المرة ، فما بقى إلا أن نتوب ولا نعود بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام ، من السبت إلى السبت ، فدعا الله موسى فكشف الله عنهم ذلك ، واستمروا شهرا في عافية ثم عادوا.

قوله : (وَالدَّمَ) أي وكان أحمر خالصا ، فصارت مياههم كلها دما ، فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دما ، فأجهدهم العطش جدا ، حتى أن القبطية تأتي للمرأة من بني إسرائيل فتقول لها استقيني من مائك ، فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما ، حتى كانت القبطية تقول للاسرائيلية اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ ، فتأخذه في فيها ماء ، وإذا مجته فيها صار دما ، واعترى فرعون العطش ، حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأحجار الرطبة ، فإذا مضعها صار دما ، فمكثوا على ذلك سبعة أيام ، من السبت إلى السبت ، فشكوا لموسى فكشف عنهم.

قوله : (آياتٍ) حال من الخمسة المذكورة. قوله : (مُفَصَّلاتٍ) أي مفرقات ، فكانت كل واحدة تمكث سبعة أيام ، وبين كل واحدة وأخرى شهرا. قوله : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) هذا موزع على الخمسة ، فكانوا كلما ضجوا قالوا هذه المقالة. قوله : (من كشف العذاب) بيان لما. قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا)

٥٥٣

(عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥) ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) البحر الملح (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦) لا يتدبرونها (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بالاستعباد وهم بنو إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر صفة للأرض وهي الشام (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) وهي قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض الخ (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) على أذى عدوهم (وَدَمَّرْنا) أهلكنا (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارة (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) بكسر الراء وضمها يرفعون من البنيان (وَجاوَزْنا) عبرنا (بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا) فمروا (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ) بضم الكاف وكسرها (عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) يقيمون على عبادتها (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) صنما نعبده (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ

____________________________________

أي في كل واحدة من الخمس. قوله : (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) أي وهو وقت إغراقهم. قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي أردنا الانتقام منهم ، لأن الانتقام هو الإغراق ، فلا يحسن دخول الفاء بينهما.

قوله : (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) أي نواحيها وجميع جهاتها. قوله : (صفة للأرض) فيه أنه يلزم عليه الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف وهو أجنبي ، والأولى أن يكون صفة للمشارق والمغارب. قوله : (وهو الشام) الحامل له على هذا التفسير قوله تعالى : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهذا الوصف لا يعين هذا المعنى ، بل يمكن تفسير الأرض بأرض مصر كما هو السياق ، وقد بارك الله فيها بالنيل وغيره ، ويؤيده قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إلى أن قال : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وكذلك آية الشعراء ، وقد اختار ما قلناه جملة من المفسرين ، وقال بعضهم : المراد بمشارق الأرض الشام ، ومغاربها مصر ، فإنهم ورثوا العمالقة في الشام ، وورثوا الفراعنة في مصر. قوله : (كَلِمَتُ) ترسم هذه بالتاء المجرورة لا غير وما عداها في القرآن بالهاء على الأصل. قوله : (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم.

قوله : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) أي أهلكنا وخربنا الذي كان يصنعه فرعون وقومه. قوله : (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) هذا آخر قصة فرعون وقومه. قوله : (بكسر الراء وضمها) قراءتان سبعيتان. قوله : (من البنيان) أي كصرح هامان وغيره من جميع ما أسسوه بأرض مصر.

قوله : (وَجاوَزْنا) شروع في قصة بني إسرائيل ، وما وقع من كفر النعمة والقبائح ، والمقصود من ذلك تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخويف أمته من أن يفعلوا مثل فعلهم. قوله : (عبرنا) العبر هو الانتقال من جانب لآخر ، لانتقالهم من الجانب الشرقي للغربي. قوله : (بضم الكاف وكسرها) أي من بابي نصر وضرب ، وهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) قيل هي حجارة على صور البقر ، وقيل بقر حقيقة ، وكان هؤلاء القوم العاكفون من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم بعد ذلك. قوله : (قالُوا يا مُوسَى) القائل بعضهم لا جميعهم. قوله : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) قيل إنهم مرتدون بهذه المقالة لقصدهم بذلك عبادة الصنم حقيقة ، وقيل ليسوا مرتدين ، بل هم جاهلون جهلا مركبا ، لاعتقادهم أن عبادة الصنم بقصد التقرب إلى الله

٥٥٤

تَجْهَلُونَ) (١٣٨) حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ) هالك (ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩) (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) معبودا وأصله أبغي لكم (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٤٠) في زمانكم بما ذكره في قوله (وَ) اذكروا (إِذْ أَنْجَيْناكُمْ) وفي قراءة أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) يكلفونكم ويذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشده وهم (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ) يستبقون (نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ) الانجاء أو العذاب (بَلاءٌ) إنعام أو ابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١) أفلا تتعظون فتنتهون عما قلتم (وَواعَدْنا) بألف ودونها (مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) نكلمه عند انتهائها بأن يصومها وهي ذو القعدة فصامها فلما تمت أنكر

____________________________________

تعالى لا تضرهم في الدين ، وعلى كل فهذه المقالة في شرعنا ردة ، والجار والمجرور مفعول ثان ، والهاء مفعول أول ، وقوله : (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) صفة لإلها ، وما اسم موصول ، ولهم صلتها ، وآلهة بدل الضمير المستتر في لهم ، والتقدير اجعل إلها لنا كالذي استقر لهم الذي هو آلهة. قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) جملة مستأنفة قصد بها توبيخهم وزجرهم. قوله : (ما هُمْ فِيهِ) أي من الدين الباطل ، وهو عبادة الأصنام.

قوله : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ. قوله : (أَبْغِيكُمْ) أي أطلب واقصد لكم. قوله : (وأصله أبغي لكم) أي فحذف الجار فاتصل الضمير. قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) الجملة حالية من لفظ الجلالة. قوله : (في زمانكم) أي بإنجائكم وإغراق عدوكم ، وإنزال المن والسلوى عليكم ، وليس تفضيلهم على جميع العالمين ، فإن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأمم. قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) هذا من كلام موسى ، فإسناد الإتجاه إليه مجاز ، لكونه على يده وسببا فيه حيث ضرب بعصاه البحر فانفلق. قوله : (وفي قراءة أنجاكم) أي وهي ظاهرة ، فإن الفاعل ضمير عائد على الله ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (يَسُومُونَكُمْ) من السوم وهو الآذاقة.

قوله : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) قدر المفسر (هم) إشارة إلى أن يقتلون بيان ليسومونكم. قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي لخدمتهم. قوله : (الانجاء أو العذاب) أشار بذلك إلى اسم الإشارة يصح عوده على الإنجاء ومعنى كونه بلاء أنه يختبرهم هل يشكرون فيؤجروا ، أو يكفرون فيعاقبوا ، وعوده على العذاب ظاهر ، فالابتلاء كما يكون في الشر ، يكون في الخير ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) فالشكر على النعمة موجب لزيادتها كما أن الصبر على البلايا ، موجب لرضا الله ، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). قوله : (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الألف من المواعدة ، وهي مفاعلة من الجانبين ، فمن الله الأمر ، ومن العبد القبول ، وعلى حذف الألف ، فالوعد من الله لا غير وهو ظاهر.

قوله : (ثَلاثِينَ لَيْلَةً) إنما عبر بالليالي دون الأيام ، مع أن الصيام في الأيام ، لأن موسى كان صائما تلك المدة ليلا ونهارا مواصلا وحرمة الوصال على غير الأنبياء ، فعبر بالليالي لدفع توهم اقتصاره على صوم النهار فقط ، قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسّلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم.

٥٥٥

خلوف فمه فاستاك فأمره الله بعشرة أخرى ليكلمه بخلوف فمه كما قال تعالى (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجة (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) وقت وعده بكلامه إياه (أَرْبَعِينَ) حال (لَيْلَةً) تمييز (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة (اخْلُفْنِي) كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) أمرهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢) بموافقتهم على المعاصي (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي وعدناه بالكلام فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة (قالَ رَبِّ أَرِنِي) نفسك (أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) أي لا تقدر على رؤيتي والتعبير به دون لن أرى يفيد

____________________________________

فرعون ، أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله فرعون ، سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها ، فلما تمت أنكر خلوف فمه ، فاستاك بعود خرنوب ، وقيل أكل من ورق الشجر ، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة ، فكان فتنة بني إسرائيل في تلك العشر قوله : (أنكر خلوف فمه) أي كره رائحة فمه من أثر الصوم ، وهو بضم الخاء واللام معنا والرائحة. قوله : (وَأَتْمَمْناها) أي المواعدة المأخوذة من قوله : (وَواعَدْنا). قوله : (أَرْبَعِينَ) (حال) أي من ميقات.

قوله : (وَقالَ مُوسى) الواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، لأن تلك الوصية كانت قبل ذهابه وصيامه. قوله : (وَأَصْلِحْ) (أمرهم) أي أمر بني إسرائيل ولا تغفل عنهم. قوله : (لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) قال أهل التفسير : لما جاء موسى لميقات ربه ، تطهر طهر ثيابه وصام ، ثم أتى طور سيناء ، فأنزل الله ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية ، وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض ، ونحى عنه المكلفين ، وكشط له السماء ، فرأى الملائكة قياما في الهواء ، ورأى العرش بارزا ، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه وكان جبريل معه ، فلم يسمع ذلك الكلام ، فاستحلى موسى كلام ربه ، فاشتاق إلى رؤيته ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي) الخ. قوله : (أي للوقت) أي وكان يوم الخميس يوم عرفة ، فكلمه الله فيه وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي أزال الحجاب عنه ، حتى سمع كلامه بجميع أجزائه من جميع جهاته ، لا أن الله أنشأ له الكلام ، لأن الله سبحانه وتعالى دائما متكلم يستحيل عليه السكوت والآفة ، ولم يصل لنا معنى ما فهمه موسى من تلك المكالمة.

قوله : (قالَ رَبِّ أَرِنِي) لما سمع الكلام هام واشتاق إلى رؤية الذات ، فسأل الله أن يزيل عنه حجاب البصر ، كما أزال الله عنه حجاب السمع ، إذ لا فرق بين الحاستين ، فقد سأل جائزا لأن كل من جاز سماع كلامه جازت رؤية ذاته. قوله : (نفسك) قدره إشارة إلى أن مفعول أرني محذوف. قوله : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) جواب الشرط ، ولا يقال إن الشرط قد اتحد مع الجواب ، لأن المعنى هيئني لرؤيتك ومكني منها ، فإن تفعل بي ذلك أنظر إليك. قوله : (لَنْ تَرانِي) أي لا طاقة لك على رؤيتي في الدنيا ، وهذا لا يقتضي أنها مستحيلة عقلا ، وإلا لما علقت على جائز وهو استقرار الجبل.

٥٥٦

إمكان رؤيته تعالى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) الذي هو أقوى منك (فَإِنِ اسْتَقَرَّ) ثبت (مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي تثبت لرؤيتي وإلا فلا طاقة لك (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي ظهر من نوره قدر نصف أنمله الخنصر كما في حديث صححه الحاكم (لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) بالقصر والمد أي مدكوكا مستويا بالأرض (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) مغشيا عليه لهول ما رأى (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ) تنزيها لك (تُبْتُ إِلَيْكَ) من سؤال ما لم أومر به (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) في زماني (قالَ) تعالى (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك (عَلَى النَّاسِ) أهل زمانك (بِرِسالاتِي) بالجمع والإفراد (وَبِكَلامِي) أي تكليمي إياك (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من الفضل (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) لأنعمي (وَكَتَبْنا

____________________________________

قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) هذا من تنزلات الحق لموسى ، وتسلية له على ما فاته من الرؤية ، وهذا الجبل كان أعظم الجبال واسمه زبير. قوله : (الذي هو أقوى منك) أي فحجبه عن الرؤية رحمة به ، لعدم طاقة الجبل على ذلك فضلا عن موسى. قوله : (أي ظهر من نوره) أي نور جلال عرشه ، وفي رواية أمر الله الملائكة السماوات السبع بحمل عرشه ، فلما بدا نور عرشه ، انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى. قوله : (نصف أنملة الخنصر) وفي رواية منخر الثور ، وفي رواية قدر سم الخياط ، وفي رواية قدر الدرهم. قوله : (بالقصر والمد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (مستويا بالأرض) أي بعد أن كان عليا مرتفعا ، وقيل تفرق ستة أجبل ، فوقع ثلاثة بالمدينة وهي أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة : ثبير وثور وحراء.

قوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي سقط مغشيا عليه ذاهبا عن حواسه ، ولذا لا يصعق عند النفحة. قوله : (فَلَمَّا أَفاقَ) أي برد حواسه. قوله : (من سؤال ما لم أومر به) أي وليس المراد طلب الرؤية معصية ، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (في زماني) دفع بذلك ما يقال : إن قبله من المؤمنين كثيرا من الأنبياء والأمم ، وفي القصة أن موسى عليه‌السلام ، كان بعد ما رجع من المكالمة ، لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات ، وقالت له زوجته أنا لم أرك منذ كلمك ربك ، فكشف لها عن وجهه ، فأخذها مثل شعاع الشمس ، فوضعت يدها على وجهها وخرجت ساجدة ، وقالت : ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة ، قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها ، وورد أيضا أنه مكث زمنا طويلا كلما سمع كلام الناس تقايأ.

قوله : (قالَ يا مُوسى) هذا تسلية على ما قاله من الرؤية. قوله : (أهل زمانك) دفع بذلك ما يقال : إن من جملة الناس سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبراهيم الخليل ، فيقتضي أنه مختار عليهما ، فأجاب : بأن المراد بالناس أهل زمانه أنبياء أو غيرهم ، ولذلك كانت أنبياء بني إسرائيل يتعبدون بالتوراة. قوله : (بالجمع) أي باعتبار تعدد الأحكام الموحى بها. قوله : (والأفراد) أي مرادا بها المعنى المصدري أي إرسالي ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَبِكَلامِي) اسم مصدر بمعنى التكليم ، أي تكليمي إياك مباشرة بلا واسطة ، ويصح أن يراد بالكلام التوراة ، كما يقال للقرآن كلام الله ، يقال للتوراة أيضا كلام الله ، لأنها أفضل كتاب أنزل من السماء بعد القرآن. قوله : (لأنعمي) جمع نعمة ويجمع أيضا على نعم.

٥٥٧

لَهُ فِي الْأَلْواحِ) أي ألواح التوراة وكانت من سدر الجنة أو زبرجد أو زمرد سبعة أو عشرة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) تبيينا (لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار والمجرور قبله (فَخُذْها) قبله قلنا مقدرا (بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥) فرعون وأتباعه وهي مصر لتعتبروا بهم (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) دلائل قدرتي من

____________________________________

قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) أي وكان طول اللوح منها اثني عشر ذراعا ، وقيل عشرة على طول موسى ، والكاتب لها هو الله بلا واسطة. قوله : (من سدر الجنة) أي خشبها المسمى بالسدر ، والشاقق لها هو الله بلا واسطة. قوله : (أو زمرد) وقيل من ياقوته حمراء. قوله : (سبعة أو عشرة) وقيل تسعة ، وقيل اثنان ، ويكون المراد بالجمع ما فوق الواحدة ، قال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيرا ، يقرأ الجزء منها في سنة ، ولم يحفظها إلا أربعة : موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم‌السلام ، وقال الحسن : هذه الآية في التوراة بألف آية. قوله : (بدل) أي قوله : (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) بدل من محل قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهو النصب ، وقوله : (لِكُلِّ شَيْءٍ) متعلق بتفصيلا. قوله : (قبله قلنا مقدرا) أشار بذلك إلى أن هذا المحذوف معطوف على (كَتَبْنا). قوله : (بجد واجتهاد) أي لا بتراخ وكسل ، فإن العلم لا يأتي إلا للمجد المشتاق ، كان كسبيا أو وهبيا فلا بد لمتعاطي العلم من الكد والتعب ومخالفة النفس ، قال بعضهم :

بقدر الكد تكسب المعالي

ومن طلب العلا سهر الليالي

تروم العز ثم تنام ليلا

يغوص البحر من طلب اللآلي

وقال بعض العارفين :

فجد بالروح والدنيا خليلي

كذا الأوطان كي تدرك سناه

وهذا الخطاب لموسى ، والمراد غيره ، لأنه هو آخذ بقوة واجتهاد. قوله : (بِأَحْسَنِها) أي بالأحوط منها ، لأن فيها عزائم ورخصا ، وفاضلا ومفضولا ، وجائزا ومندوبا ، فأمر قومك يأخذوا بأحوطها ، بأن يتبعوا العزائم ، ويتركوا الرخص ، وذلك كالقود والعفو الانتصار والصبر ، فالأخذ بالعفو أحسن من القود ، والصبر أحسن من الانتصار ، أو يقال إن اسم التفضيل ليس على بابه أي بحسنها ، والإضافة بيانية ، والمعنى يعملون بجميع ما فيها.

قوله : (سَأُرِيكُمْ) الخطاب لموسى ومن تبعه ، فالكاف مفعول أول ، و (دارَ) مفعول ثان ، والمعنى أملككم إياها ، بديل قراءة من قرأ سأورثكم بالثاء المثلثة. قوله : (وهي مصر) هذا هو الأقرب ، وقيل المراد بدار الفاسقين ، ديار عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح. قوله : (ليعتبروا بهم) أي ففي الآية إشارة إلى أنهم إن خالفوا فعل بهم كما فعل بفرعون وقومه ، وهكذا كل ظالم فاجر ، ولو من المسلمين ، إذ بغى واعتدى وتكبر وتجبر ، يمهل مدة ثم تصير دياره بلاقع ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويؤيده قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي أقسي قلوبهم وأطمسها عن فهم آياتي ، فلا يتفكرون ولا

٥٥٨

المصنوعات وغيرها (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بأن أخذلهم فلا يتفكرون فيها (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ) طريق (الرُّشْدِ) الهدى الذي جاء من عند الله (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) يسلكوه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ) الصرف (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦) تقدم مثله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) البعث وغيره (حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه (هَلْ) ما (يُجْزَوْنَ إِلَّا) جزاء (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧) من التكذيب والمعاصي (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد ذهابه إلى المناجاة (مِنْ حُلِيِّهِمْ) الذي استعاروه من قوم فرعون بعلة عرس فبقي عندهم (عِجْلاً) صاغه لهم منه السامري (جَسَداً)

____________________________________

يتدبرون. قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) حال من (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) أي حال كونهم متلبسين بالدين الغير الحق. قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي لوجود الطبع على قلوبهم ، وفي الآية إشارة إلى أن المتكبر المعترض ، لا يستفيد نورا ولا خيرا من الذي اعترض وتكبر عليه. قوله : (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا) أي بسبب تكذيبهم. قوله : (تقدم مثله) أي في قوله : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) ، (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) مبتدأ ، وجملة : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) خبره. قوله : (لعدم شرطه) أي الثواب وهو الإيمان ، فالإيمان شرط في الثواب لأنه مقدار من الجزاء ، يعطى للمؤمنين في مقابلة أعمالهم الحسنة ، فأعمال الكفار الحسنة ، لا تتوقف على نية يجازون عليها في الدنيا ، أو يخفف عنهم من العذاب غير الكفر ، لكنه لا يقال له ثواب ، كذا قرر الأشياخ. قوله : (هَلْ يُجْزَوْنَ) استفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذا أشار له المفسر بقوله : (ما).

قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) عطف قصة على قصة ، والواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، لأن عبادتهم العجل كانت زمن المكالمة في مدة العشرة الأيام الزائدة فوق الثلاثين. قوله : (مِنْ حُلِيِّهِمْ) جمع حلي بفتح فسكون ، وأصله حلوى ، اجتمعت الواو والياء وسبقت أحدهما بالسكون ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء ، وقلبت ضمة اللام كسرة لتصح الياء. قوله : (الذي استعاروه من قوم فرعون) أي قبل غرقهم. قوله : (فبقي عندهم) أي ملكا لبني إسرائيل ، كما ملكوا غيرهم من أموالهم وديارهم ، ولذا أضافه الله لهم ، وأما قول المفسر : (استعاروه) فهو باعتبار ما كان.

قوله : (عِجْلاً) وهذا العجل قد حرقه موسى عليه‌السلام ونسفه في البحر ، كما قصه الله تعالى في سورة طه. قوله : (صاغه لهم منه السامري) واسمه موسى ، كان ابن زنا ، وضعته أمه في جبل ، فأرسل الله إليه جبريل فصار يرضعه من أصبعه ، فكان يعرفه إذا نزل إلى الأرض ، فلما نزل جبريل يوم غرق فرعون ، وكان راكبا فرسا ، فكان كل شيء وطئته بحافرها يخضر ويثمر ، ففطن موسى السامري لذلك ، وعلم أن هذا التراب له أثر ، فأخذ شيئا منه وادخره ، فلما توجه موسى للمناجاة صنع لهم العجل ووضع التراب في فيه فصار له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى ، فنسي كما في سورة طه ، وكان موسى السامري منافقا ، وانظر إلى من رباه جبريل حيث كان منافقا ، وإلى من رباه فرعون حيث كان مرسلا ،

٥٥٩

بدل لحما ودما (لَهُ خُوارٌ) أي صوت يسمع انقلب كذلك بوضع التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل في فمه فإن أثره الحياة فيما يوضع فيه ومفعول اتخذ الثاني محذوف أي إلها (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) فكيف يتخذ إلها (اتَّخَذُوهُ) إلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨) باتخاذه (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا على عبادته (وَرَأَوْا) علموا (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) بها وذلك بعد رجوع موسى (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) بالياء والتاء فيهما (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩) (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ) من جهتهم (أَسِفاً) شديد الحزن (قالَ) لهم (بِئْسَما) أي بئس خلافة (خَلَفْتُمُونِي) ها (مِنْ بَعْدِي) خلافتكم هذه حيث أشركتم (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ

____________________________________

فإن هذا دليل على أن السعادة والشقاوة بيد الله ، فقد قال بعضهم :

إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل

فقد خاب من ربى وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

قوله : (بدل) أي من (عِجْلاً) أو عطف بيان. (لحما ودما) تفسيرا لجسدا. قوله : (لَهُ خُوارٌ) هذه قراءة العامة ، وقرىء شذوذا له جؤار بجيم فهمزة ، وهو الصوت الشديد. قوله : (فإن أثره الحياة) أي بتأثير الله له. قوله : (أَلَمْ يَرَوْا) استفهام توبيخ وتقريع. قوله : (اتَّخَذُوهُ) كرره لمزيد التشنيع عليهم. قوله : (وَكانُوا ظالِمِينَ) أي أنفسهم أشد الظلم ، حيث عبدوا غير الله. قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) فعل مبني للمجهول ، والجار والمجرور نائب فاعل ، وقرىء شذوذا بالبناء للفاعل ، فالفاعل ضمير يعود على الندم ، وقرىء شذوذا أيضا ، أسقط بضم الهمزة ، والضمير عائد على الندم ، والأصل على القراءة السبعية ، سقطت أفواههم على أيديهم ، ففي بمعنى على ، وذلك من شدة الندم ، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم على شيء عض بفمه على يده ، فسقوط الفم على اليد لازم للندم ، فأطلق اللازم ، وأريد الملزوم على سبيل الكناية ، ولم تعرف هذه الكناية في لغة العرب إلا في القرآن.

قوله : (وَرَأَوْا) الجملة حالية. قوله : (وذلك) أي الندم. قوله : (بعد رجوع موسى) أي وإنما قدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه. قوله : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) الخ فيها قراءتان سبعيتان بالياء والتاء ، فعلى قراءة الياء يكون ربنا مرفوعا على الفاعلية ، وعلى قراءة التاء يكون منصوبا على النداء. قوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) أي من المناجاة. قوله : (غَضْبانَ) أي لما فعلوه من عبادة العجل ، وقد أخبره بذلك المولى حيث قال له كما في طه : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) الآية. قوله : (أَسِفاً) حال وكذا (غَضْبانَ) فتكون حالا متداخلة.

قوله : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) بفعل ماض لإنشاء الذم ، وما تمييز وقيل فاعل ، وجملة (خَلَفْتُمُونِي) صفة لما ، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله خلافتكم هذه ، والمعنى : بئس خلافة خلفتمونيها خلافتكم هذه. قوله : (مِنْ بَعْدِي) متعلق بخلفتموني. قوله : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي تركتموه غير تام على تضمين عجل معنى سبق ، أو المعنى : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين ، وقدرتم

٥٦٠