حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

أَوْلِياءَ) أعوانا وقرناء (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧) (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) كالشرك وطوافهم بالبيت عراة قائلين لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها فنهوا عنها (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) فاقتدينا بهم (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أيضا (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) أنه قاله استفهام إنكار (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) العدل (وَأَقِيمُوا) معطوف على معنى بالقسط أي قال أقسطوا وأقيموا أو قبله فاقبلوا مقدرا (وُجُوهَكُمْ) لله (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أخلصوا له سجودكم (وَادْعُوهُ) اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك (كَما بَدَأَكُمْ) خلقكم ولم تكونوا شيئا (تَعُودُونَ) (٢٩) أي يعيدكم أحياء يوم القيامة (فَرِيقاً) منكم (هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) (يا

____________________________________

مجاهد : قال إبليس جعل لنا أربع نرى ولا نرى ، ونخرج من تحت الثرى ، ويعود شيخنا شابا. وقال مالك ابن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المجاهدة ، إلا من عصمه الله.

قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أي صيرناهم أعوانا لغير المؤمنين ومكناهم من إغوائهم. فتحرزوا منهم. قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) هذه الآية نزلت في كفار مكة ، كانوا يطوفون عراة رجالهم بالنهار ، ونساؤهم بالليل ، فكان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول : لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه ربي ، فيقول من يعيرني إزارا. فإن وجد وإلا طاف عريانا ، وإذا فرض وطاف في ثياب نفسه ، ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها على نفسه. قوله : (قالُوا وَجَدْنا) الخ أي محتجين بهذين الأمرين : تقليد الآباء ، والافتراء على الله. قوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي رد لمقالتهم الثانية ، وترك الأولى لوضوح فسادها.

قوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي لأنكم لم تسمعوه مشافهة ، ولم تأخذوه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وخلقه. قوله : (استفهام إنكاري) أي توبيخ وفيه معنى النهي. قوله : (معطوف على معنى بالقسط) دفع بذلك ما يقال إن قوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) خبر. وقوله : (وَأَقِيمُوا) إنشاء ولا يصح عطف الانشاء على الخبر. فأجاب بجوابين : الأول أن أقيموا معطوف على المعنى ، والتقدير قال أقسطوا وأقيموا. الثاني أن الكلام فيه حذف ، والتقدير قل أمر ربي بالقسط فاقبلوا وأقيموا. قوله : (أي أخلصوا له سجودكم) أي صلاتكم ، ففيه تسمية الكل باسم أشرف أجزائه ، لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

قوله : (وَادْعُوهُ) عطف عام. قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كلام مستأنف مسوق للرد على منكري البعث أي يعيدكم أحياء بالأرواح والأجساد بعينها. قوله : (فَرِيقاً هَدى) فريقا معمول لهدى ، وفريقا الثاني معمول لمقدر من قبيل الاشتغال موافق في المعنى ، والتقدير وأضل فريقا حق عليهم الضلالة ، أي ثبت في الأزل ضلالهم. قوله : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا) علة لقوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ) قوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي يظنون أنهم على هدى ، والحال أنه ليسوا كذلك.

٥٢١

بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي ما يستر عورتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عند الصلاة والطواف (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ما شئتم (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) (قُلْ) إنكارا عليهم (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من اللباس (وَالطَّيِّباتِ) المستلذات (مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالاستحقاق وإن شاركهم فيها غيرهم (خالِصَةً) خاصة بهم بالرفع والنصب حال

____________________________________

قوله : (يا بَنِي آدَمَ) الخ سبب نزولها كما قال ابن عباس : أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار والنساء بالليل ، يقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ، ولا يأكلون لحما ولا دسما ، يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم. قوله : (ما يستر عورتكم) راعى في هذا المحل سبب النزول ، وأصل الواجب وعموم اللفظ يفيد أن المطلوب في الصلاة والطواف ومشاهد الخير جميل الثياب كما هو المندوب شرعا تأمل. قوله : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) المسجد في الأصل موضع السجود ، ثم أطلق وأريد منه نفس الصلاة والطواف ، من باب تسمية الحال باسم المحل ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالذي ينبغي للأمة التجمل بالثياب عند حضور مشاهد الخير مع القدرة.

قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أي من الحلال فإنه رأس التقوى. قوله : (وَلا تُسْرِفُوا) أي بأن تحرموا الحلال كما كانوا يفعلون من امتناعهم من اللحم والدسم ، أو تحلوا الحرام أو تتجاوزوا الحد في الأكل والشرب ، كالتعمق في ذلك أو الإكثار المضر ، لما في الحديث : «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه» لأن ما زاد على ثلث البطن لا يعود على الشخص إلا بالضرر ، لما في الحديث : «أصل كل داء البردة وهي إدخال الطعام على الطعام» فالمناسب أن لا يأكل حتى يجوع ، وأن يقوم ونفسه تشتهي ، فإن ملك النفس عن الإسراف في المباح ، أكبر دليل على ملكها عن الحرام. قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يعاقبهم على ذلك ولا يرضى فعلهم. قوله : (إنكارا عليهم) أي وتوبيخا لهم ، وحيث كان إنكاريا فلا جواب له.

قوله : (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي التي خلقها لهم من النبات ، كالقطن والكتان. ومن الحيوان كالحرير والصوف. ومن المعادن ، كالدروع ، وكلها جائزة للرجال والنساء ، ما عدا الحرير الخالص للرجال فإنه يحرم عليهم إجماعا ، وأما ما اختلط بالحرير وغيره ففي خلاف بين العلماء بالكراهة والحرمة والجواز ، والمعتمد عدم الحرمة. قوله : (قُلْ هِيَ) أي الزينة من الثياب والطيبات من الرزق. قوله : (بالاستحقاق) أي الأصلي ، وأما مشاركة غيرهم لهم فهو بطريق التبع ، وهذا جواب عما يقال : إن المشاهد أن الكافر يستمتع بالزينة والمستلذات أكثر من المسلم ، فكيف يقال إنها : (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فأجاب بما ذكر ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) الآية ، ولذا لا يعاقبون عليها ، لأن الله خلقها لهم بطريق الأصالة ليستعينوا بها على طاعاته ، ولذا إذا عدمت المؤمنون في آخر الزمان تقوم القيامة ، إذ لم يبق مستحق للنعم. قوله : (خاصة بهم) أي لا يشاركهم فيها غيرهم. قوله : (بالرفع) أي خبر ثان. قوله : (والنصب حال) أي من الضمير في الخبر في المحذوف ، والتقدير هي كائنة : (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حال كونها خالصة لهم يوم القيامة ، وإنما كانت خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، لأن

٥٢٢

(يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبينها مثل ذلك التفصيل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢) يتدبرون فإنهم المنتفعون بها (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) الكبائر كالزنا (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي جهرها وسرها (وَالْإِثْمَ) المعصية (وَالْبَغْيَ) على الناس (بِغَيْرِ الْحَقِ) هو الظلم (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بإشراكه (سُلْطاناً) حجة (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) من تحريم ما لم يحرم وغيره (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مدة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) عليه (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة (يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى) الشرك (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

____________________________________

رحمة الله تنفرد بالمؤمنين ، وغضبه ينفرد بالكافرين ، قال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ). قوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبينها ونوضحها في غير هذا الموضع ، مثل ذلك التفصيل والتوضيح في هذا الموضع. قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إنه مستحق للعبادة. قوله : (فإنهم المنتفعون بها) أي وغيرهم لا يعبأ به ولا يخاطب. قوله : (كالزنا) أي والقتل وسلب الأموال وسائر أنواع الفسق بالجارحة. قوله : (أي جهرها وسرها) المراد بالجهر المعاصي الظاهرية ، كالقتل وشرب الخمر ، وسر المعاصي الباطنية القلبية ، كالعجب والكبر والرياء. قوله : (وَالْإِثْمَ) عطف عام على خاص ، وما بعده عطف خاص على عام لمزيد الاعتناء بشأنه. قوله : (هو الظلم) أي للناس ، إما بالقتل ، أو سلب الأموال ، أو التكلم في أعراضهم أو غير ذلك ، وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) إيضاح لمعنى : (الْبَغْيَ) فهو صفة كاشفة. قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ما نكرة بمعنى شيء ، أي شيئا سواه تعالى. قوله : (حجة) أي دليلا ، لأن دليل الوحدانية لله أبطل الشرك لغيره. قوله : (وغيره) أي كتحليل الحرام ، ويدخل في ذلك المفتي بالكذب. قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل فرد من أفراد الأمة. قوله : (مدة) أي وقت معين. قوله : (ساعَةً) أي شيئا قليلا من الزمن ، فالمراد بالساعة الساعة الزمانية ، وقوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) جواب إذا ، وقوله : (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) مستأنف أو معطوف على الجملة الشرطية ، ولا يصح عطفه على قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب إذا يشترط أن يكون مستقبلا ، والاستقدام بالنسبة لمجيء الأجل ماض ، فلا يصح ترتبه على الشرط.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ) هذا خطاب عام لكل من لآدم عليه ولادة من أول الزمان لآخره ، ولكن المقصود من كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذه الآية دليل على عموم رسالته ، لأن الله خاطب من أجله عموم بني آدم. قوله : (في ما المزيدة) أي للتأكيد. قوله : (يَأْتِيَنَّكُمْ) فعل الشرط مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم ، وجملة : (فَمَنِ اتَّقى) إلى (خالِدُونَ) جواب الشرط ، والرابط محذوف تقديره فمن اتقى منكم ، ومن يحتمل أن تكون شرطية ، واتقى فعل الشرط ، وجملة : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جوابه ، ويحتمل أنها موصولة ، واتقى صلتها ، وجملة : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبرها ، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى العموم. قوله : (مِنْكُمْ) أي من جنسكم يا بني آدم ، وإنما كان من جنسهم ، لأنه أقطع لعذرهم وحجتهم. قوله : (يَقُصُّونَ) أي يقرؤون ويتلون. قوله : (آياتِي) أي القرآنية وغيرها. قوله : (فَمَنِ اتَّقى) (الشرك) أشار بذلك إلى أن المراد بالتقوى هنا التقوى العامة ، وهي اتقاء الشرك

٥٢٣

يَحْزَنُونَ) (٣٥) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا) تكبروا (عَنْها) فلم يؤمنوا بها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦) (فَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك والولد إليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن (أُولئِكَ يَنالُهُمْ) يصيبهم (نَصِيبُهُمْ) حظهم (مِنَ الْكِتابِ) مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرزق والأجل وغير ذلك (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي الملائكة (يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا) لهم تبكيتا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا) غابوا (عَنَّا) فلم نرهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) عند الموت (أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧) (قالَ) تعالى لهم يوم القيامة (ادْخُلُوا فِي) جملة (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ

____________________________________

بالإيمان لقرينة. قوله : (وَأَصْلَحَ) وأعلى منها تقوى الخواص ، وهي ترك المعاصي ، وأعلى منها ترك الأغيار ، وهي كل مشغل عن الله ، ولهذه المرتبة أشار العارف بقوله :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري يوما حكمت بردتي

قوله : (وَأَصْلَحَ) (عمله) أي بأن ترك المعاصي أو كل مشغل عن الله فهو صادق بتقوى الخواص وخواص الخواص. قوله : (في الآخرة) أي وأما في الدنيا فلا يفارقهم الخوف ولا الحزن ، لتذكرهم الموت وأحوال الآخرة ، ولو جاءتهم البشرى من الله ، فالحزن دأب الصالحين في الدنيا لزيادة درجاتهم. قوله : (فلم يؤمنوا بها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، أي (تكبروا) عن الإيمان بها. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (بنسبة الشريك) الباء سببية ، والمعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، بسبب نسبة الشريك لله ، ككفار مكة حيث أشركوا مع الله الأصنام ، والنصارى واليهود حيث نسبوا له الولد. قوله : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) وإن لم ينسب الشريك له ، لأنه لا يلزم من التكذيب بالآيات نسبة الشريك له ، وأما نسبة الشريك فيلزم معها التكذيب بالآيات.

قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) أي في الدنيا. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) من ابتدائية متعلقة بمحذوف حال من نصيبهم ، وقوله : (مما كتب لهم) بيان للنصيب. قوله : (من الرزق) أي على حسبه من سعة وضيق ، وكونه من حلال أو حرام ، وقوله : (والأجل) أي من قصر أو من طول ، وقوله : (وغير ذلك) أي كالعمل ، وكما أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، مكتوب في صحف الملائكة وهو في بطن أمه ، فتحصل أن ما قسم له في الحياة الدنيا لا يغيره كفر ولا إسلام. قوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ) حتى إما ابتدائية أو جارة. قوله : (الملائكة) قيل إنهم عزرائيل وأعوانه ، لقبض أرواحهم ، وقيل إنهم ملائكة العذاب ، وتقدم أنهم سبع موكلون بأخذ روح الكافر بعد قبضها للعذاب. قوله : (تبكيتا) أي توبيخا وتقريعا. قوله : (ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا فتمنعكم الآن من العذاب. قوله : (فلم نرهم) أي مع شدة احتياجنا إليهم في هذا الوقت. قوله : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كلام مستأنف إخبار من الله بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ، ولا تعارض بين هذا وبين قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) لأن مواقف القيامة مختلفة.

قوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب وكذبوا بآياته. قوله : (فِي أُمَمٍ) في بمعنى مع ، أي ادخلوا مصاحبين لأمم ، وهو حال من فاعل ادخلوا ، وتسمى حالا منتظرة ،

٥٢٤

الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) متعلق بادخلوا (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي قبلها لضلالها بها (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) تلاحقوا (فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ) وهم الاتباع (لِأُولاهُمْ) أي لأجلهم وهم المتبوعون (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) مضعفا (مِنَ النَّارِ قالَ) تعالى (لِكُلٍ) منكم ومنهم (ضِعْفٌ) عذاب مضعف (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨) بالياء والتاء ـ ما لكل فريق (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لأنكم لم تكفروا بسببنا فنحن وأنتم سواء ، قال تعالى لهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩) (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا) تكبروا (عَنْها) فلم يؤمنوا بها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت فيهبط بها إلى سجين بخلاف المؤمن فتفتح له ويصعد بروحه إلى السماء السابعة كما ورد

____________________________________

لأنهم عند الدخول لم يكونوا مصاحبين للأمم ، وقوله : (قَدْ خَلَتْ) صفة أولى لأمم ، وقوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) صفة ثانية ، وقوله : (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) صفة ثالثة ، وقوله : (فِي النَّارِ) في للظرفية فاندفع ما يقال يلزم عليه تعلق حرفي جر متحدي اللفظ ، والمعنى بعامل واحد. قوله : (قَدْ خَلَتْ) أي سبقت ومضت. قوله : (فِي النَّارِ) المراد بها دار العقاب بجميع طباقها.

قوله : (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي في الدين. قوله : (التي قبلها) أي في التلبس بذلك الدين ، فالنصارى تلعن النصارى ، واليهود تلعن اليهود ، والمجوس تلعن المجوس ، وهكذا كل من اقتدى بغيره في دين باطل. قوله : (ادَّارَكُوا) أصله تداركوا ، قلبت التاء دالا وأدغمت في الدال ، وأتى بهمزة الوصل توصلا للنطق بالساكن. قوله : (أُخْراهُمْ) أي المتأخرون عنهم في الزمن ، فأخرى تأنيث آخر مقابل أول ، لا تأنيث آخر الذي بمعنى غير. قوله : (وهم الأتباع) أي كانوا في زمنهم أو تأخروا بعدهم. قوله : (أي لأجلهم) أشار بذلك إلى أن اللام في : (لِأُولاهُمْ) للتعليل وليست للتبليغ ، لأن الخطاب مع الله لا معهم. قوله : (وهم المتبوعون) أي الرؤساء. قوله : (ضِعْفاً) ضعف الشيء في الأصل أقل ما يتحقق فيه مثل ذلك الشيء ، والمراد هنا الزيادة إلى غير نهاية بدليل قول المفسر مضعفا.

قوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أما المتقدمون فلضلالهم وإضلالهم ، وأما المتأخرون فلكفرهم وتقليدهم. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى التاء يكون خطابا للأخرى ، أو للأحياء الذين في الدنيا ، وعلى الياء يكون إخبارا عن المتقدمين والمتأخرين. قوله : (ما لكل فريق) أشار بذلك إلى أن مفعول : (تَعْلَمُونَ) محذوف. قوله : (لِأُخْراهُمْ) اللام هنا للتبليغ ، لأن الخطاب معهم. قوله : (لأنكم لم تكفروا بسببنا) أي بل كفرتم اختيارا ، لا انا حملناكم على الكفر وأكرهناكم عليه ، لأنه لا يمكن الجبر على الكفر لتعلقه بالقلب. قوله : (قال تعالى لهم) هذه إحدى طريقتين ، والأخرى أنه من كلام الرؤساء للأتباع. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبكم من الكفر والمخالفة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي وماتوا على ذلك. قوله : (فلم يؤمنوا بها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير تكبروا عن الإيمان بها. قوله : (لا تُفَتَّحُ) بالبناء للمفعول إما بالتاء أو الياء مع التخفيف أو التشديد وكلها سبعية. قوله : (إذا عرج بأرواحهم) ومثلها دعاؤهم وأعمالهم. قوله : (إلى سجين) وهو واد في جهنم أسفل الأرض السابعة ، تسجن به أرواح الكفار ، وقيل : هو كتاب

٥٢٥

في حديث (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ) يدخل (الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) ثقب الإبرة وهو غير ممكن فكذا دخولهم (وَكَذلِكَ) الجزاء (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠) بالكفر (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) فراش (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أغطية من النار جمع غاشية وتنوينه عوض من الياء المحذوفة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً

____________________________________

جامع لأعمال الشياطين والكفرة ، وأما عليون فقيل : هو كتاب جامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين ، وقيل : هو مكان في الجنة في السماء السابعة تحت العرش. قوله : (ويصعد بروحه إلى السماء السابعة) أي وترى مقعدها في الجنة وترجع مسرورة ، فعند ذلك يرى البشر والنور على جسمها. قوله : (كما ورد في الحديث) أي وهو كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبض روح الكافر ، ويخرج معها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي يسمى بها في الدنيا ، فيستفتحون فلا يفتح لهم ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا : (تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ).

قوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي بعد الموت. قوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) الولوج الدخول بشدة ، والجمل : الذكر من الإبل ، وخص بذلك لأنه أعظم جسم عند العرب ، فجسم الجمل من أعظم الأجسام ، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ ، وهو تعليق جائز على مستحيل ، والمعلق على المستحيل مستحيل ، فاستفيد من ذلك أن دخول الكفار الجنة مستحيل. قوله : (فِي سَمِّ الْخِياطِ) السم مثلث السين ، لكن القراء السبعة على الفتح ، وقرىء شذوذا بالضم والكسر وجمعه سمام ، وأما ما يقتل فهو مثلث أيضا ، إلا أن جمعه سموم ، والخياط هو الآلة التي يخاط بها ، ويقال لها مخيط أيضا. قوله : (وَكَذلِكَ) (الجزاء) أي المتقدم ، وهو عدم فتح أبواب السماء لهم ، وعدم دخول الجنة. قوله : (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزينا هؤلاء ، نجزي كل من اتصف بالإجرام من مبدأ الزمان إلى منتهاه.

قوله : (لَهُمْ) أي للذين كذبوا واستكبروا. قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) الجار والمجرور خبر مقدم ، وغواش مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين ، منع من ظهورها الثقل ، والمعنى أن النار محيطة بهم من كل جانب ، وقد ورد أن سقف النار من نحاس ، وأرضها من رصاص ، وحيطانها من كبريت ، ووقودها الناس والحجارة. قوله : (وتنوينه عوض من الياء المحذوفة) هذا بناء على الصحيح من أن الإعلال مقدم على منع الصرف ، فأصله غواش بالتنوين ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فاجتمع ساكنان الياء والتنوين فحذفت لالتقائهما ، ثم لوحظ أن الكلمة ممنوعة من الصرف ، فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء ، فأتى بالتنوين عوضا عنها ، وأما تصريفها على أن منع الصرف مقدم على الإعلال ، فأصلها غواشي بترك التنوين ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم أتى بالتنوين عوضا عن الحركة التي هي الكلمة فالتقى ساكنان الياء والتنوين حذفت لالتقائهما. قوله : (وَكَذلِكَ) أي مثل الجزاء المتقدم. قوله : (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عبر عنهم أولا بالمجرمين ، وهنا بالظالمين ، إشارة إلى أنهم اتصفوا بالأمرين معا.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لما ذكر وكيد الكافرين ، أتبعه بذكر وعد المؤمنين على حكم عادته سبحانه

٥٢٦

إِلَّا وُسْعَها) طاقتها من العمل اعتراض بينه وبين خبره وهو (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢) (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) حقد كان بينهم في الدنيا (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) تحت قصورهم (الْأَنْهارُ وَقالُوا) عند الاستقرار في منازلهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) العمل الذي هذا جزاؤه (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) حذف جواب لو لا لدلالة ما قبله عليه (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ) مخففة أي إنه أو مفسرة في المواضع الخمسة (تِلْكُمُ

____________________________________

في كتابه ، والاسم موصول مبتدأ ، و (آمَنُوا) صلته (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) معطوف عليه ، وقوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) اعتراض بين المبتدأ والخبر وهو قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهذا ما مشى عليه المفسر تبعا لأكثر علماء المعاني ، وقال بعضهم : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) خبر ، والرابط محذوف ، أي لا نكلف منهم. قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي ما يسعها من الأعمال ، وما يسهل عليها ودخل في طوقها وقدرتها ، وكل هذا تفضل منه سبحانه وتعالى. قوله : (اعتراض) وحكمته تبكيت الكفار وتنبيههم على أن الجنة مع عظم قدرها ، يتوصل إليها بالعمل السهل من غير كلفة ولا مشقة. إن قلت ورد أن الجنة حفت بالمكاره ، فكيف تقولون إن الجنة يتوصل إليها بالعمل السهل؟ أجيب بأن المراد بالمكاره مخالفة شهوات النفس ، وهي في طاقة العبد ، فالمراد بالعمل السهل ما كان في طاقة العبد كان فعلا أو تركا.

قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي خلقناكم في الجنة مطهرين منه ، لا أنهم دخلوا الجنة به ثم نزع ، وحكمه نزع الغل من صدور أهل الجنة ، أن كل أحد منهم أعطي فوق أمانيه أضعافا مضاعفة. قوله : (حقد كان بينهم في الدنيا) الحقد هو ضيق الصدر من الغير ، وهو رأس الحسد ، وهو معصية قلبية تجب التوبة منه ، ومجاهدة النفس لتخلص منه ، ومن هنا افترق كبار الصالحين من صغارهم. واعلم أن الناس ثلاثة أقسام : قسم خلصت قلوبهم من الأمراض الباطنية ، فهم في الدنيا كأهل الجنة في الجنة ، يحبون للناس ما يحبونه لأنفسهم ، وهم الأنبياء ومن كان على قدمهم ، وقسم لم تخلص قلوبهم ، غير أنهم لم يرضوا لأنفسهم بذلك ، ويلومون أنفسهم على ما في قلوبهم ، وهؤلاء المجاهدون لأنفسهم ، ولا يؤاخذون بذلك حينئذ ، وقسم لم تخلص قلوبهم ، وهم راضون لأنفسهم بذلك ، وهؤلاء فساق يجب عليهم مجاهدة نفوسهم في تخليصهم من تلك الآفات. قوله : (تحت قصورهم) أي بجانب جدارها ، وليس المراد أنها تجري من تحت الجدار.

قوله : (الَّذِي هَدانا) أي أرشدنا ووفقنا. قوله : (العمل الذي هذا جزاؤه) كذا في نسخة ، وفي نسخة أخرى لعمل هذا جزاؤه ، وفي أخرى لهذا العمل هذا جزاؤه. قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) بالواو ودونها قراءتان سبعيتان ، والجملة إما مستأنفة أو حالية على كل. قوله : (لدلالة ما قبله عليه) أي وهو قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) والتقدير ولو لا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا.

قوله : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) هذا إقسام من أهل الجنة شكرا لنعم الله وتحدثا بها ، والمعنى أن ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب حق وصدق لمشاهدتنا له عيانا. قوله : (وَنُودُوا) يحتمل أن المنادي هو الله ويحتمل أنه الملائكة. قوله : (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن ، وخبرها الجملة بعدها. قوله : (أو مفسرة) أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه ، وهو قوله : (وَنُودُوا). قوله : (في

٥٢٧

الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) تقريرا وتبكيتا (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب (حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ) كم (رَبُّكُمْ) من العذاب (حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد (بَيْنَهُمْ) بين الفريقين أسمعهم (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤) (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَيَبْغُونَها) أي يطلبون السبيل (عِوَجاً) معوجة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥) (وَبَيْنَهُما) أي أصحاب الجنة والنار (حِجابٌ) حاجز قيل هو سور الأعراف (وَعَلَى الْأَعْرافِ) وهو سور الجنة (رِجالٌ) استوت حسناتهم وسيئاتهم كما في الحديث (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم

____________________________________

المواضع الخمسة) أي من هنا إلى قوله : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ). قوله : (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) اسم الإشارة مبتدأ ، والجنة خبر ، وقوله : (أُورِثْتُمُوها) حال من الجنة ، أو الجنة نعت لاسم الإشارة وأورثتموها خبره ، وأتى باسم الإشارة البعيدة إشارة لعظم رتبتها ومكانتها على حد ذلك الكتاب.

قوله : (أُورِثْتُمُوها) أي من الكفار ، لأن الله خلق في الجنة منازل للكفار بتقدير إيمانهم ، فمن لم يؤمن منهم جعل منزلة لأهل الجنة فكل واحد من أهل الجنة يأخذ منازل تسعمائة وتسعة وتسعين من أهل النار تضم لمنزله ، فيجتمع له ألف منزل ، فلما كان الغالب منها ميراثا أطلق على جميعها اسم الميراث ، وحكمة إطلاق اسم الارث عليها ، أن الكفار سماهم الله أمواتا بقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) المؤمنين أحياء ، ومن المعلوم أن الحي يرث الميت.

قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الباء سببية ، وما مصدرية ، أي بسبب عملكم. إن قلت ورد في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يدخل الجنة أحد بعمله ، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته». أجيب بأن الآية محمولة على العمل المصحوب بالفضل ، والحديث محمول على العمل المجرد عنه. قوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إن قلت : إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض ، فكيف يسمعون النداء؟ أجيب : بأن القيامة خارقة للعادة ، فلا مانع من وصول النداء لهم ، وهذا النداء من كل فرد من أفرد أهل الجنة ، لكل فرد من أفراد أهل النار ، لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة على الآحاد. قوله : (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) تسميته وعدا مشاكلة ، وإلا فالاخبار بالشر إيعاد لا وعد ، وقدر المفسر الكاف إشارة إلى أن مفعول وعد محذوف ، وقوله : (من العقاب) بيان لما. قوله : (نادى مناد) قيل هو إسرافيل ، وقيل غيره من الملائكة. قوله : (أسمعهم) تفسير لقوله : (بَيْنَهُمْ).

قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) نعت للظالمين. قوله : (معوجة) أي مائلة عن الحق ، والمعنى أنهم يغيرون دين الله وطريقته التي شرع لعباده. قوله : (حاجز) أي يمنع وصول كل منهما للآخر. قوله : (استوت حسناتهم وسيئاتهم) هذا قول من ثلاثة عشر قولا ، وقيل : أولاد المشركين الذين ماتوا صغارا ، وقيل : أناس خرجوا للغزو في سبيل الله من غير إذن آبائهم ثم قتلوا ، وقيل : ناس بروا آباءهم دون أمهاتهم وبالعكس ، وقيل إنهم عدول القيامة يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة. قوله : (كما في الحديث) أي وهو أن الله يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة ، ومن

٥٢٨

وهي بياض الوجوه للمؤمنين وسوادها للكافرين لرؤيتهم لهم إذ موضعهم عال (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قال تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها) أي أصحاب الأعراف الجنة (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦) في دخولها قال الحسن لم يطمعهم إلا لكرامة يريدها بهم ، وروى الحاكم عن حذيفة قال بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال قوموا ادخلوا الجنة فقد غفرت لكم (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) أي أصحاب الأعراف (تِلْقاءَ) جهة (أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا) في النار (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧) (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) من أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ) من النار (جَمْعُكُمْ) المال أو كثرتكم (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨) أي واستكباركم عن الإيمان ويقولون لهم مشيرين إلى ضعفاء المسلمين (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا

____________________________________

كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الأعراف ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلام عليكم ، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فهناك يقول الله تعالى : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكأن الطمع دخولا.

قوله : (وَنادَوْا) أي أصحاب الأعراف. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن الوقف على قوله : (عَلَيْكُمْ) وقوله : (لَمْ يَدْخُلُوها) كلام مستأنف جواب عن سؤال مقدر ، كأن قائلا قال : وما صنع بأهل الأعراف؟ فأجيب بأنهم لم يدخلوها. قوله : (إذ طلع عليهم ربك) أي أزال عنهم الحجب حتى رأوه وسمعوا كلامه. قوله : (فقال قوموا ادخلوا الجنة) أي فينطلق بهم إلى نهر الحياة ، حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك فيلفوا فيه ، فتصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، يسمون مساكين أهل الجنة.

قوله : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) عبر بالصرف دون النظر ، إشارة إلى أن نظرهم إلى أهل النار غير مقصود ، لأن رؤية العذاب وأهله تسيء للناظرين ، بخلاف النظر للنعيم وأهله ، ففيه مسرة للناظرين ، فلذا لم يعبر في جانبه بالصرف بل قيل : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ). قوله : (تِلْقاءَ) بالمد والقصر قراءتان سبعيتان ، وهي ظرف مكان بمعنى جهة ، ويستعمل مصدرا كالتبيان ، ولم يجىء من المصادر على التفعال بالكسر غير التلقاء والتبيان والزلزال ، وبعضهم ألحق التكرار بذلك. قوله : (في النار) أي لا ابتداء مع العصاة ، ولا دواما مع الكفار. قوله : (رِجالاً) أي كانوا عظماء في الدنيا ، كأبي جهل ، والوليد ابن المغيرة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأضرابهم. قوله : (بِسِيماهُمْ) أي علامتهم ، وتقدم أنها سواد الوجه للكفار.

قوله : (ما أَغْنى عَنْكُمْ) يحتمل أن ما استفهامية ، أي : أي شيء أغنى عنكم جمعكم ، ويحتمل أنها نافية ، أي لم يغن عنكم جمعكم ولا استكباركم شيئا من عذاب الله. قوله : (المال) أشار بذلك إلى أن جمع مصدر مضاف لفاعله ، ومفعوله محذوف قدره بقوله المال ، وقوله : (أو كثرتكم) إشارة لتفسير ثان لجمعكم ، فيكون معناه جماعتكم. قوله : (أي واستكباركم) سبك المصدر بما بعد كان جريا على قول من

٥٢٩

يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) قد قيل لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩) وقرىء ادخلوا بالبناء للمفعول ودخلوا فجملة النفي حال أي مقولا لهم ذلك (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام (قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) منعهما (عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ)

____________________________________

يقول إن كان تجردت عن معنى الحديث وصارت لمجرد الربط ، ولو مشى على مقابلة المشهور لقال وكونكم مستكبرين ، وإنما حمل المفسر على ذلك الاختصار. قوله : (مشيرين) أي أهل الأعراف. قوله : (إلى ضعفاء المسلمين) أي الذين كانوا يعذبون في الدنيا ، وكان المشركون يسخرون بهم ، كصبيب وبلال وسلمان وخباب ونحوهم.

قوله : (أَهؤُلاءِ) استفهام تقرير وتوبيخ. قوله : (أَقْسَمْتُمْ) أي باللات والعزى ، وقوله : (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) هذا هو المقسم عليه ، ويؤخذ من الآية أن أهل الأعراف ناظرون لأهل الجنة وأهل النار ، وأن أهل النار ناظرون لأهل الأعراف وأهل الجنة ، وهذا لمزيد الحسرة لهم ، فهم يعذبون بالنار والتبكيت من أهل الأعراف. قوله : (قد قيل لهم) قدره إشارة إلى أن قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) مقول لذلك القول المحذوف ليصح جعلها خبرا ثانيا ، لأن الجملة الطلبية لا يصح وقوعها خبرا إلا إذا أولت بخبر. قوله : (وقرىء ادخلوا الخ) هاتان شاذتان على عادته ، حيث يعبر عن الشاذ بقرىء ، وعن السبعي بوفي قراءة ، وعلى هاتين القراءتين فلا يحتاج لتقدير القول ، لأن الجملة خبرية. قوله : (جملة النفي) أي جنسها الصادق بالجملتين وهما : (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). قوله : (حال) أي معمول لحال محذوفة ، ففي كلامه تسمح ، وهذا على القراءتين الشاذتين ، وأما على القراءة السبعية فلا يحتاج لذلك.

قوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) قاله ابن عباس رضي الله عنهما : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة ، طمع أهل النار في الفرج عنهم فقالوا : يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة ، فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فيأذن لهم ، فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم ، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول : قد احترقت أفض علي من الماء ، فيقال لهم : أجيبوهم ، فيقولون : إن الله حرمهما على الكافرين. قوله : (من الطعام) أي الشامل للمشروب والمأكول ، وحينئذ فيضمن : (أَفِيضُوا) معنى ألقوا ، نظير علفتها تبنا وماء باردا ، و (أَوْ) بمعنى الواو بدليل قوله : (حَرَّمَهُما) وإلا لو بقيت على بابها من التخيير لأعيد الضمير مفردا. قوله : (منعهما) أي فالتعبير بالتحريم مجاز لانقطاع التكليف بالموت ، ويعلم من هذا أنه لا يتأثر أهل الجنة بعذاب أهل النار لتقطع الأسباب بينهم ، ونزع الرحمة من قلوب أهل الجنة لأهل النار لاستحقاقهم ما هم فيه من العذاب.

قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) هذا وصف للكافرين. قوله : (لَهْواً وَلَعِباً) اللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. قوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش. قوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) ليس من كلام أهل الجنة ، وإنما هو قول الرب جل جلاله ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره : فإذا كان حال الكافرين فاليوم

٥٣٠

نتركهم في النار (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) بتركهم العمل له (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١) أي وكما جحدوا (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) أي أهل مكة (بِكِتابٍ) قرآن (فَصَّلْناهُ) بيناه بالأخبار والوعد والوعيد (عَلى عِلْمٍ) حال أي عالمين بما فصل فيه (هُدىً) حال من الهاء (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) به (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينظرون (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) عاقبة ما فيه (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) هو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) تركوا الإيمان به (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ) هل (نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) نوحد الله ونترك الشرك فيقال لهم لا قال تعالى (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي صاروا إلى الهلاك (وَضَلَ) ذهب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣) من دعوى الشريك (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من

____________________________________

ننساهم. قوله : (نتركهم في النار) أشار بذلك إلى أن النسيان مستعمل في لازمه وهو الترك ، لأن حقيقته مستحيلة على الله ، فالمعنى نعاملهم معاملة الناسي من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار.

قوله : (كَما نَسُوا) الكاف تعليلية ، وما مصدرية ، أي لأجل نسيانهم. قوله : (بتركهم العمل له) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا. قوله : (أي وكما جحدوا) أشار بذلك إلى أن ما معطوف على الأولى مسلط عليه كاف التعليل ، والمعنى نتركهم في النار لتركهم العمل ولجحدهم آياتنا. قوله : (فَصَّلْناهُ) القراءة السبعية بالصاد ، وقرىء شذوذا بالضاد المعجمة ، أي فضلناه على غيره من الكتب السماوية : (قوله بالأخبار والوعد) أي وكذا بقية الأنواع التسعة التي جمعها بعضهم في قوله :

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصة عظة مثل

قوله : (حال) أي من الفاعل ، ويصح كونه حالا من المفعول ، والمعنى فصلناه حال كونه مشتملا على علم. قوله : (حال من الهاء) أي أو من كتاب ، وجاز ذلك لتخصيصه بالوصف. قوله : ((هَلْ يَنْظُرُونَ) أي أهل مكة. قوله : (عاقبة ما فيه) أي فهذا هو المراد بتأويله بمعنى ما يؤول إليه وعيد القرآن لهم. قوله : (الَّذِينَ نَسُوهُ) أي التأويل. قوله : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي تبين صدقهم فيما جاؤوا به واعترفوا بذلك لمعاينة العذاب. قوله : (فَيَشْفَعُوا) منصوب بأن مضمرة في جواب الاستفهام ، فهو عطف اسم مؤول على اسم صريح. قوله : (أَوْ) (هل) (نُرَدُّ) أشار بذلك أن جملة (نُرَدُّ) معطوفة على التي قبلها ، والاستفهام مسلط عليها. قوله : (فَنَعْمَلَ) منصوب بأن مضمرة ، جواب الاستفهام الثاني ، والمعنى نطلب أحد أمرين : إما الشفاعة لنا فيما سبق منا ، أو نرجع إلى الدنيا ونحسن العمل فيها. قوله : (من دعوى الشريك) أي من دعوى نفع الشريك ، لأنهم كانوا يدعون أن الأصنام تنفعهم.

قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) أي لا غيره. قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي وأولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، كما ورد أنه ابتدأ الخلق في يوم الأحد ، وأنه خلق الأرض في يومين : الأحد والاثنين ، والسماوات في يومين : الخميس والجمعة ، وأنه خلق الجبال والوحوش والأشجار والزرع في : الثلاثاء والأربعاء ، وروى مسلم والحاكم عن ابن عباس إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من منافع

٥٣١

أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثم شمس ولو شاء خلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو في اللغة سرير الملك استواه يليق به (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) مخففا ومشددا أي يغطي كلا منهما بالآخر (يَطْلُبُهُ) يطلب كل منهما الآخر طلبا (حَثِيثاً) سريعا (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) بالنصب عطفا على السماوات والرفع مبتدأ خبره (مُسَخَّراتٍ)

____________________________________

يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الصخر والماء والطين والعمران والخراب ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق الله في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال ، وفي الثانية ألقى الله الألفة على كل شيء مما ينتفع به الناس ، وخلق في الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة ، واستشكل ذلك بأنه لم يكن ثم شمس ، والجواب بأن المراد في قدرها لا يجدي نفعا إلا أن يقال : إن ذلك التقدير في علم الله ، بحيث لو كانت الأيام موجودة لكانت كذلك ، ثم اعلم أن ما هنا من الأحاديث موافق لما يأتي في سورة فصلت ، من أن خلق الأرض مقدم على السماء ، ولا تنافي بينه وبين ما يأتي في سورة النازعات في قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) المقتضى تقديم السماء على الأرض ، لأن الدحي غير الخلق ، فإن الأرض خلقت أولا كرة ، ثم بعد خلق السماء بسطت الأرض. قوله : (أي في قدرها) جواب عن سؤال مقدر أفاده المفسر بقوله : (لأنه لم يكن ثم شمس). قوله : (التثبت) أي التمهل في الأمور وعدم العجلة. قوله : (هو في اللغة سرير الملك) أي وتسميته عرشا ، إنما هو بالنسبة لما عدا الراكب عليه لعلوه عليهم ، وأما المراد به هنا فهو الجسم النوراني المرتفع على كل الأحسام المحيط بكلها. قوله : (استواء يليق به) هذه طريقة السلف الذين يفوضون علم المتشابه لله تعالى ، وهذا نظير ما وقع لمالك بن أنس أنه سأله رجل عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، أخرجوا عني هذا المبتدع ، وأما طريقة الخلف فيؤولون الاستواء بالاستيلاء بمعنى الملك والتصرف ، فالاستواء يطلق حقيقة على الركوب ، وهو مستحيل على الله وعلى الاستيلاء والتصرف وهو المراد ، قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقد أشار صاحب الجوهرة للطريقتين بقوله :

وكل نص أوهم التشبيها

أوله أو فوض ورم تنزيها

قوله : (مخففا ومشددا) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وعليهما فالليل فاعل والنهار مفعول لفظا ومعنى ، ووجب تقديم ما هو فاعل معنى لئلا يلتبس ، نحو أعطيت زيدا عمرا. قوله : (أي يغطى كلا منهما بالآخر) يشير إلى أن في الآية حذفا تقديره ويغشى النهار الليل ، ويؤيده آية : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ). قوله : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي ليس بينهما فاصل ، والحث والحض بمعنى واحد ، وهو الطلب بسرعة ، وحثيثا نعت مصدر محذوف ، أي طلبا حثيثا. قوله : (بالنصب عطفا على السماوات) أي ونصب : (مُسَخَّراتٍ) على الحال من : (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ). قوله : (والرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان.

٥٣٢

مذللات (بِأَمْرِهِ) بقدرته (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) جميعا (وَالْأَمْرُ) كله (تَبارَكَ) تعاظم (اللهُ رَبُ) مالك (الْعالَمِينَ) (٥٤) (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) حال تذللا (وَخُفْيَةً) سرا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥) في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالشرك والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) ببعث الرسل (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من عقابه (وَطَمَعاً) في رحمته (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) المطيعين وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لاضافتها إلى الله (وَهُوَ الَّذِي

____________________________________

قوله : (مذللات) أي مسيرات ، فحيث سيرها سارت ، وفي هذا رد على الفلاسفة القائلين بتأثير الكواكب في العالم السفلي ، فهي أسباب عادية توجد الأشياء عندها لا بها.

قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ألا للاستفتاح يؤتى بها مبدأ الكلام البليغ الذي يقصد به الرد على المنكر ، والمراد بالخلق الإيجاد ، وبالأمر التصرف ، فهو منفرد بالإيجاد والتصرف فلا شريك له فيهما ، وتصرف الحادث إنما هو بتصريف الله له ، وليس لمخلوق استقلال بتصريف أبدا ، وإنما العبيد مظاهر التصريف ، فمن أكرمه أجرى جلب الخير ودفع الضر على يديه ، كمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ، ومن أهانه أجرى الشرور على يده.

قوله : (تَبارَكَ) فعل ماض جامد لا يتصرف ، ومعناه تمجد وتنزه عن صفات الحدوث. قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أمر لجميع العباد بالتوجه في الدعاء لله سبحانه وتعالى ، أي فحيث علمتم أن الله هو المتصرف في خلقه إيجادا وإعداما وإعطاءا ومنعا ، فوجهوا إليه قلوبكم واسألوه بألسنتكم ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى للدعاء أربعة شروط : التضرع والخفية والخوف والطمع. قوله : (حال) أي من الفاعل في : (ادْعُوا) أي ادعوا حال كونكم متضرعين متذللين ، لأن الدعاء إذا كان مع التذلل كان للإجابة أقرب. قوله : (سرا) أي باسماع نفسه ، لأن الله تعبدنا بالدعاء كما تعبدنا بالقراءة ، فلا يكفي مرور الدعاء على قلبه. واعلم أن الإنسان إذا كان وحده ، فالسر أفضل له إن كان ينشط في ذلك إلا فالجهر أفضل له كالجماعة. قوله : (بالتشدق) هو كثرة الكلام من غير حضور في القلب فهو راجع لقوله : (تَضَرُّعاً) وقوله : (ورفع الصوت) هو راجع لقوله : (وَخُفْيَةً). قوله : (خَوْفاً) الخوف غم يحصل من أمر مكروه يقع في المستقبل.

قوله : (وَطَمَعاً) الطمع توقع أمر محبوب يحصل في المستقبل ، ومنه رجاء الإجابة ، ففي الحديث : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وفي الحديث أيضا : «ما من عبد يرفع يديه ويقول يا رب إلا ويستحي الله أن يردهما صفرين» فاستفيد من هذا أنه ينبغي للداعي الخوف والرجاء ، فيجعلهما كجناحي الطائر ، إن مال أحدهما سقط. قوله : (المطيعين) أي ولو بالتوبة ، فالمطلوب تقديم التوبة على الدعاء ليقع الدعاء من قلب طاهر ، فيكون أقرب للإجابة. قوله : (وتذكير قريب) جواب عما يقال إن : (قَرِيبٌ) في الأصل وصف في المعنى لرحمة وهي مؤنثة ، فكان حقه التأنيث. فأجاب بأنه اكتسب التذكير من المضاف إليه ، وهو لفظ الجلالة ، أو يقال : (إِنَّ رَحْمَتَ) مجازي التأنيث فيوصف بالمذكر ، أو يقال إن معنى الرحمة الثواب وهو مذكر فوصفه بالمذكر من حيث المعنى.

٥٣٣

يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي متفرقة قدام المطر وفي قراءة بسكون الشين تخفيفا وفي أخرى بسكونها وفتح النون مصدرا وفي أخرى بسكونها وضم الموحدة بدل النون أي مبشرا ومفرد الأولى نشور كرسول والأخيرة بشير (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) حملت الرياح (سَحاباً ثِقالاً) بالمطر (سُقْناهُ) أي السحاب وفيه التفات عن الغيبة (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لا نبات به أي لإحيائها (فَأَنْزَلْنا بِهِ) بالبلد (الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ) الإخراج (نُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم بالإحياء (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧) فتؤمنون (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) العذب التراب (يَخْرُجُ نَباتُهُ) حسنا (بِإِذْنِ رَبِّهِ) هذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها (وَالَّذِي خَبُثَ) ترابه (لا

____________________________________

قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) معطوف على قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) الآية ، والرياح جمع ريح ، وهي أربعة : الصبا والدبور والجنوب والشمال ، فالصبا تثير السحاب وهي من مطلع الشمس ، والشمال تجمعه وهي من تحت القطب ، والجنوب تدره وهي من جهة القبلة ، والدبور تفرقه وهي من مغرب الشمس ، وفي رواية الرياح ثمانية ، أربعة عذاب : العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربعة رحمة : الناشرات والمرسلات والنازعات والمبشرات. قوله : (متفرقة) هذا التفسير لم يوافقه عليه أحد ، بل بعض المفسرين قال : إن معنى نشرا منتشرة متسعة أو ناشرة للسحاب. قوله : (قدام المطر) في الكلام استعارة مكنية ، حيث شبهت الرحمة بمعنى المطر بسلطان يقدم وله مبشرات ، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو قوله : (بَيْنَ يَدَيْ) فإثباته تخييل. قوله : (تخفيفا) أي بحذف ضمة الشين ، وهي سبعية أيضا كاللتين بعدها. قوله : (بسكونها وفتح النون) أي وإفراد الريح. قوله : (نشرا) أي إما بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول ، أي ناشرة للسحاب أو منشورة. قوله : (ومفرد الأولى) أي ضم الشين ومثلها سكونها ، فمفرد الاثنين واحد.

قوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) غاية لإرسال الرياح. قوله : (سَحاباً) هو ثمر شجرة في الجنة. قوله : (بالمطر) متعلق بثقالا والباء للسببية. قوله : (عن الغيبة) أي إلى التكلم ، إذ كان مقتضى الظاهر فساقه. قوله : (لا نبات فيه) أي فموت الأرض كناية عن عدم النبات بها. قوله : (بالبلد) أشار بذلك إلى أن الضمير في : (به) عائد على البلد ، وتكون الباء بمعنى في ، وقوله : (بالماء) يشير إلى أن الضمير عائد على الماء ، والباء سببية ، ويصح عوده على البلد ، وتكون الباء بمعنى في. قوله : (كَذلِكَ) (الإخراج) أي فالتشبيه مطلق الإخراج من العدم ، فمن كان قادرا على إخراج الثمار من الأرض ، سيما أرض الجبال التي شأنها عدم إنبات شيء من الثمار ، قادر على إحياء الموتى من قبورهم فهو رد على منكري البعث.

قوله : (وَالْبَلَدُ) أي الأرض. قوله : (حسنا) أخذه من قوله : (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً). قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بإرادته ولم يذكر ذلك في المقابل وإن كان بإذنه أيضا تعليما لعباده الأدب ، حيث أسند لنفسه الخير دون الشر وإن كان منه أيضا لما ورد : إن الله جميل يحب الجمال ، ولقوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ولم يقل وبيدك الشر ، فلا يجوز أن يقال سبحان من خلق القرد ، ولا سبحان من دبب الشوك. قوله : (هذا مثل للمؤمن) أي ولعمله ، فمثل المؤمن كمثل الأرض الطيبة ، ومثل المواعظ والقرآن كمثل الماء ، فكما أن

٥٣٤

يَخْرُجُ) نباته (إِلَّا نَكِداً) عسرا بمشقة وهذا مثل للكافر (كَذلِكَ) كما بينا ما ذكر (نُصَرِّفُ) نبين (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨) الله فيؤمنون (لَقَدْ) جواب قسم محذوف (أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بالجر صفة لإله والرفع بدل من محله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عبدتم غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩) هو يوم القيامة (قالَ الْمَلَأُ) الأشراف (مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٠) بين (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) هي أعم من الضلال فنفيها أبلغ من نفيه (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦١) (أُبَلِّغُكُمْ) بالتخفيف والتشديد

____________________________________

الماء إذا نزل على الأرض الطيبة أنبتت طيبا ، كذلك المواعظ والقرآن إذا نزلت على قلب المؤمن أنبتت الطاعات والصفات الحميدة. قوله : (إِلَّا نَكِداً) أي إلا نباتا نكد عديم النفع ، ونصب نكدا على الحال ، أو نعت مصدر محذوف ، أي إلا خروجا نكدا وهو من باب تعب.

قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) المقصود من ذكر تلك القصص تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركت الواو هنا ، وذكرت في سورة هود والمؤمنون ، لعدم تقدم ما يعطف عليه هنا بخلاف ما يأتي ، ونوح اسمه عبد الغفار ابن ملك بفتح الميم وسكونها ابن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس ، بعث على رأس أربعين سنة على الصحيح ، وقيل على رأس خمسين ، وقيل مائتين وخمسين ، وقيل مائة سنة ، ومكث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين ، فجملة عمره ألف ومائتان وأربعون ، بناء على الصحيح من أنه بعث على رأس الأربعين ، وكان بحارا ، وصنع السفينة في عامين ، ولقب بنوح لكثرة نوحه على نفسه ، حيث دعا على قومه فهلكوا ، وقيل لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان ، وقيل لأنه مر على كلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقدم قصة نوح لأن قومه أول من كفر واستحق العذاب. قوله : (جواب قسم محذوف) إنما أتى بالقسم هنا للرد على المنكرين ومما يجب التأكيد فيه. قوله : (إِلى قَوْمِهِ) القوم في الأصل : قبيلة الرجل وأقاربه الذين اجتمعوا معه في جد واحد ، ويطلق القوم مجازا على من عاشرهم الرجل وسكن عندهم ، وإن لم يكونوا أقارب له. قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه. قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استئناف مسوق لبيان وجه إفراده بالعبادة. قوله : (صفة لإله) أي مراعاة للفظه. قوله : (بدل من محله) أي لأن محله رفع بالابتداء ومن زائدة.

قوله : (إِنِّي أَخافُ) علة ثانية للأمر بالعبادة ، والمعنى اعبدوا الله لأنه ليس لكم إله غيره ، ولأني أتحقق نزول عذاب الآخرة بكم إن خالفتم ذلك ، إما عاجلا في الدنيا أو آجلا في الآخرة. قوله : (قالَ الْمَلَأُ) بالهمز والقصر ، سموا بذلك لأنهم يملأون المجالس بأجسامهم ، والقلوب بهيبتهم ، والعيون بأبهتهم. قوله : (مِنْ قَوْمِهِ) لم يقل الذين كفروا مثل ما قيل في قوم هود ، لأن ذلك كان في مبدأ رسالته ولم يكن ثم مؤمن ، هكذا قيل ، والأحسن أن يقال حذفه منه لعلمه مما يأتي في الآية الأخرى. قوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي حيث عدل عن عبادة آلهتهم المجمعين عليها المذكورين في سورة نوح في قوله تعالى : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) الآية. قوله : (هي أعم من الضلال) أي لأن الضلال هو الخروج عن الحق من كل وجه ، والضلالة هي الخروج عن الحق ولو بوجه. قوله : (فنفيها أبلغ) أي لأنها نكرة في سياق النفي فتعم.

٥٣٥

(رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ) أريد الخبر (لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢) (أَ) كذبتم (وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) موعظة (مِنْ رَبِّكُمْ عَلى) لسان (رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) العذاب إن لم تؤمنوا (وَلِتَتَّقُوا) الله (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣) بها (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من الغرق (فِي الْفُلْكِ) السفينة (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤) عن الحق (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) الأولى (أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (ما لَكُمْ مِنْ

____________________________________

قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ) قد وقع الاستدراك أحسن موقع ، لكونه بين ضدين : نفي الضلالة المتوهم ثبوتها ، وثبوت الرسالة المتوهم نفيها. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (رِسالاتِ رَبِّي) الجمع باعتبار تعدد الأزمنة ، والمراد بالرسالات المرسل بها التي هي الأحكام. قوله : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) النصح يتعدى بنفسه باللام ، وهو إرادة الخير للغير كما يريده لنفسه. قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من الأحكام التي تأتيه عن الله أو من العذاب الذي يحل بهم إن لم يؤمنوا. قوله : (كذبتم) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف. قوله : (موعظة) أي تخوفكم من عذاب الله إن لم تؤمنوا. قوله : (لِيُنْذِرَكُمْ) علة للمجيء ، وقوله : (وَلِتَتَّقُوا) مرتب على الإنذار ، وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) مرتب على التقوى ، فهذا الترتيب في أحسن البلاغة ، وعبر في جانب الرحمة بالترجي ، إشارة إلى أن الرحمة أمرها عزيز لا تنال بالعمل ، بل بفضل الله. قوله : (العذاب) قدره إشارة إلى أن مفعول ينذر محذوف. قوله : (وَلِتَتَّقُوا) (الله) قدره إشارة إلى أن مفعول تتقوا محذوف أيضا.

قوله : (فَكَذَّبُوهُ) أي استمروا على تكذيبه. قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة ، وقيل تسعة : أولاده الثلاثة : سام وهو أبو العرب ، وحام وهو أبو السودان ، ويافث وهو أبو الترك ، وستة من غيرهم. قوله : (فِي الْفُلْكِ) يطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. ووزن المفرد قفل والجمع أسد. قوله : (السفينة) وكان طولها ثلثمائة ذراع ، وسمكها ثلاثين ذراعا وعرضها خمسين ، وطبقاتها ثلاث : السفلى للوحوش والدواب ، والوسطى للانس ، والعليا للطيور. وركبها في عاشر رجب ، واسترت على الجودي في عاشر المحرم. قوله : (بِآياتِنا) أي الدالة على التوحيد ، وهي معزات نوح. قوله : (عَمِينَ) أصله عمين حذفت الياء الأولى تخفيفا ، وهو جمع عم يقال لأعمى البصيرة ، وأما عميان فجمع أعمى يقال لأعمى البصر.

قوله : (وَإِلى عادٍ) جرت عادة الله في كتابه ، أنه إذا كان للمرسل اليهم اسم ذكرهم به ، وإلا عبر بقوله قومه ، وقدر المفسر : (أرسلنا) إشارة إلى أن : (أَخاهُمْ) معطوف على نوحا ، والعال فيه : (أرسلنا) المتقدم ، والجار والمجرور معطوف على قوله إلى قومه ، فتكون الواو عاطفة عطف قصة على قصة ، وهكذا يقال في باقي القصص. قوله : (الأولى) يحترز به عن عاد الثانية فإنها قوم صالح. قوله : (أَخاهُمْ هُوداً) سمى أخاهم لأنه من جنسهم واجتمع معهم في جد ، لأن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، فسميت القبيلة باسم جدهم ، وهود بن عبد الله بن رباج بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل ابن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، فعلى الأول قد اجتمع معهم في عاد ، وعلى الثاني لا ،

٥٣٦

إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥) تخافونه فتؤمنون (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) جهالة (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٦٦) في رسالتك (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٧) (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (٦٨) مأمون على الرسالة (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى) لسان (رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) قوة وطولا وكان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) نعمه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩) تفوزون (قالُوا أَجِئْتَنا

____________________________________

وإنما اجتمع معهم في سام ، وكان بين هود ونوح ثمانمائة سنة ، وبين القبيلتين مائة سنة ، وعاش أربعمائة وأربع وستين سنة ، وعاد يجوز صرفه باعتبار كونه اسما للحي ، ومنعه باعتبار كونه اسما للقبيلة ، وهذا من حيث العربية ، وأما في القرآن فلم يقرأ بمنع الصرف.

قوله : (قالَ يا قَوْمِ) أتى في قصة نوح بالفاء لأنه كان مسارعا في دعوتهم إلى الله غير متوان كما حكى في سورة نوح ، قال تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) بخلاف هود. قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي لأنه الخالق للعالم المتصرف فيه. قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أتركتم التفكر في مصنوعات الله أفلا تتقون. قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) صفة للملأ كاشفة ، لأن هذه المقالة لا تقع من مؤمن ، ولذا تركت من قصة نوح لعلمها مما هنا. قوله : (إِنَّا لَنَراكَ) رأى هنا علمية ، فمفعولها الأول الكاف ، والثاني متعلق بالجار والمجرور. قوله : (فِي سَفاهَةٍ) الحكمة في تعبير قوم هود بالسفاهة ، وقوم نوح بالضلال ، أن نوحا لما خوف قومه بالطوفان ، وجعل يصنع الفلك ، نسبوه للضلال ، حيث أتعب نفسه في عمل سفينة في أرض لا ماء بها ولا طين ، وهود لما نهاهم عن عبادة الأصنام صمودا وصمدا وهبا ونسب من يعبدها للسفه ، خاطبوه بمثل ما خاطبهم به.

قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ) تقدم أن مثل هذا الاستدراك وقع أحسن موقع ، لكنه وقع بين ضدين. قوله : (أُبَلِّغُكُمْ) بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان. قوله : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) الحكمة في تعبير هود بالجملة الاسمية ، ونوح بالجملة الفعلية ، أن هودا كان نصوحا مع التراخي ، ومعلوم أن ذلك يدل عليه بالجملة الاسمية ، ونوح كان مكررا للنصح ، وذلك يدل عليه بالجملة الفعلية ، لأن الفعل للتجدد. قوله : (مأمون على الرسالة) أي فلا أزيد ولا أنقص.

قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة داخلة على محذوف تقديره أكذبتموني وعجبتم. قوله : (ذِكْرٌ) أي موعظة تخوفكم من عذاب الله. قوله : (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) إذ ظرف مفعول لا ذكروا ، أي اذكروا وقت جعلكم ، والمقصود ذكر النعمة لا ذكر وقتها. قوله : (بَصْطَةً) بالسين والصاد قراءتان سبعيتان ومعناهما واحد. قوله : (قوة وطولا) أي ومالا. قوله : (مائة ذراع الخ) الذي قاله المحلي في سورة الفجر ، إن طويلهم كان أربعمائة ذراع بذراع نفسه ، وفي رواية خمسمائة ذراع ، وقصيرهم ثلاثمائة ذراع ، وكان رأس الواحد منهم قدر القبة العظيمة ، وكانت عينه بعد موته تفرخ فيها الضباع. قوله : (آلاءَ اللهِ) جمع إلى بكسر الهمزة وضمها ، كحمل وقفل ، أو بكسر ففتح كضلع ، أو بفتحتين كقفا. قوله : (تفوزون) أي

٥٣٧

لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ) نترك (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) به من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧٠) في قولك (قالَ قَدْ وَقَعَ) وجب (عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) عذاب (وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) أي سميتم بها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أصناما تعبدونها (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) أي بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) حجة وبرهان (فَانْتَظِرُوا) العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١) ذلكم بتكذيبكم لي فأرسلت عليهم الريح العقيم (فَأَنْجَيْناهُ) أي هودا (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين (بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ) القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلناهم (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢) عطف على كذبوا (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) بترك الصرف مرادا به القبيلة (أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) معجزة (مِنْ

____________________________________

برضا الله وزيادة النعم ، لأن شكر النعم مما يديمها ويزيدها.

قوله : (قالُوا أَجِئْتَنا) أي جوابا بالنصحة لهم. قوله : (وجب) أي حق وثبت ، والتعبير بالماضي إشارة إلى أنه واقع لا محالة. قوله : (وَغَضَبٌ) عطف سبب على مسبب. قوله : (فِي أَسْماءٍ) أي مسميات. قوله : (أصناما) قدره إشارة إلى مفعول سميتموها الثاني. قوله : (فأرسلت عليهم الريح العقيم) وكانت باردة ذات صوت شديد لا مطر فيها ، وكانت وقت مجيئها في عجز الشتاء وابتدأتهم صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام ، فأهلكت رجالهم ونساءهم وأولادهم وأموالهم ، بأن رفعت ذلك في الجو فمزقته ، وفي رواية بعث الله عزوجل الريح العقيم ، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فلما رأوها بادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ، ثم أخرجتهم من البيوت ، فلما أهلكتهم أرسل الله عليهم طيرا أسود فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه ، وقيل إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل. ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر. قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي وكانوا شرذمة قليلة يكتمون إيمانهم ، وسبب نجاتهم أنهم دخلوا في حظيرة فصار يدخل عليهم من الريح ما يلتذون به ، ثم بعد ذلك أتوا مكة مع هود ، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. قوله : (أي استأصلناهم) أي لم نبق منهم أحدا. قوله : (عطف على كذبوا) أي وفائدته وإن علم منه الإشارة إلى أن الله علم عدم إيمانهم ، وأنهم لو بقوا ما آمنوا ، أي فلا تحزن عليهم أيها السامع.

قوله : (وَإِلى ثَمُودَ) تقدم أنه معطوف على قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) عطف قصة على قصة ، وثمود قبيلة سموا باسم جدهم ثمود بن عابر بن سام بن نوح. قوله : (بترك الصرف) أي للعلمية والتأنيث. ولو أريد به الحي لصرف.

قوله : (أَخاهُمْ) أي في النسب لأنه ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود المتقدم ، وكان بين صالح وهود مائة سنة ، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة. قوله : (صالِحاً) بدل من أخاهم أو عطف بيان عليه. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) علة لقوله : (اعْبُدُوا اللهَ). وقوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ

٥٣٨

رَبِّكُمْ) على صدقي (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) حال عاملها معنى الإشارة وكانوا سألوه أن يخرجها لهم من صخرة عينوها (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) بعقر أو ضرب (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣) (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض (مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ) أسكنكم (فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) تسكنونها في الصيف (وَتَنْحِتُونَ) من (الْجِبالَ بُيُوتاً) تسكنونها في الشتاء ونصبه على الحال المقدرة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤) (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) تكبروا عن الإيمان به (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا

____________________________________

علة لمحذوف ، والتقدير امتثلوا ما أمرتكم به ، لأنه قد جاءتكم بينة على صدقي. قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) كلام مستأنف بيان للمعجزة ، والإضافة للتشريف واسم الإشارة مبتدأ و (ناقَةُ اللهِ) خبر ومضاف اليه و (لَكُمْ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من : (آيَةً) لأنه نعت نكرة تقدم عليها أو خبر ثان و (آيَةً) حال والعامل فيها محذوف تقديره أشير ، وقد أشار له المفسر بقوله : (حال عاملها معنى الإشارة) وهذا القول وقع من صالح بعد نصحهم ، كما قال تعالى في سورة هود : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) الآيات. قوله : (من صخرة عينوها) وكان يقال لها الكاثبة ، وكانت منفردة في ناحية الجبل ، فقالوا أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تكون على شكل البخت ، وتكون عشراء جوفاء وبراء ، أي ذات جوف واسع ووبر وصوف ، فدعا الله فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء كما وصفوا ، لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى ، فعند خروجها ولدت ولدا مثلها في العظم ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى وتشرب إلى أن عقروها.

قوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ) مرتب على كونها آية من آيات الله. قوله : (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي وتشرب. قوله : (فَيَأْخُذَكُمْ) بالنصب في جواب النهي ، والتعقيب ظاهر ، لأنهم لم يلبثوا إلا ثلاثة أيام ، رأوا فيها أمارات العذاب ، كما يأتي في سورة هود. قوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم. قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) تذكير لهم بنعم الله التي أنعمها عليهم. قوله : (في الأرض) قدره المفسر إشارة إلى أن في الآية الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.

قوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الحجر بكسر الحاء ، مكان بين الحجاز والشام. قوله : (تَتَّخِذُونَ) أي تعملون وتصنعون ، واتخذ يصح أن يكون متعديا لواحد ، فمن سهولها متعلق باتخذ ، أو لاثنين فمن سهولها متعلق بمحذوف مفعول ثان. قوله : (مِنْ سُهُولِها) جمع سهل وهو المكان المتسع الذي لا جبل به ، ومن بمعنى في ، أي تصنعون في الأرض السهلة القصور ، ويصح أن تكون من للابتداء ، أي تتخذون من السهول ، أي الأراضي اللينة القصور ، أي طوبها وطينها ، والأقرب الأول ، وسميت القصور بذلك لقصر أيدي الفقراء عن تحصيلها.

قوله : (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) يصح أن يكون المعنى على إسقاط الخالص أي من : (الْجِبالَ) و (بُيُوتاً) مفعول (تَنْحِتُونَ) ، ويصح أن يكون (الْجِبالَ) مفعولا به ، و (بُيُوتاً) حال مقدرة كما قال المفسر ، لأن الجبال لا تصير بيوتا إلا بعد نحتها ، وهو إن كان جامدا ، إلا أنه مؤول بالمشتق أي مساكن. قوله : (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لعاملها ، لأن العثو هو الفساد. قوله : (تكبروا) أشار بذلك إلى أن السين

٥٣٩

لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) أي من قومه بدل مما قبله بإعادة الجار (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) إليكم (قالُوا) نعم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٧٥) (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧٦) وكانت الناقة لها يوم في الماء ولهم يوم فملوا ذلك (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) عقرها قدار بأمرهم بأن قتلها بالسيف (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) به من العذاب على قتلها (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧٧) (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة

____________________________________

زائدة. قوله : (عن الإيمان به) أي بصالح. قوله : (بدل مما قبله بإعادة الجار) أي بدل كل من كل ، إن كان الضمير في : (مِنْهُمْ) عائدا على القوم ، ويكون جميع المستضعفين آمنوا وبدل بعض من كل ، إن كان الضمير عائدا على المستضعفين ، ويكون بعض المستضعفين آمنوا ، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله : (أَتَعْلَمُونَ) مفعول قول المستكبرين. قوله : (قالُوا) (نعم) قدره المفسر إشارة إلى أن هذا حق الجواب ، وإنما عدلوا عنه مسارعة إلى تحقيق الحق وإظهار إيمانهم ، وتنبيها على أن رسالته واضحة لا تخفى ، فلا ينبغي السؤال عنها فهذا الجواب تبكيت لهم.

قوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) إظهار في محل الإضمار تبكيتا لهم. قوله : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ) لم يقولوا إنا بما أرسل به ، إظهارا لمخالفتهم إياهم تعنتا وعنادا. قوله : (وكانت الناقة لها يوم في الماء) أي فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر ، فما ترفعه حتى تشرب جميع ما فيها ثم تتبجبج ، فيحلبون ما شاؤوا حتى يملأوا أوانيهم فيشربون ويدخرون.

قوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي في يوم الأربعاء ، فقال لهم صالح : تصبحون غدا وجوهكم مصفرة ثم تصبحون في يوم الجمعة وجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم السبت وجوهكم مسودة. فأصبحوا يوم الخميس قد اصفرت وجوههم ، فأيقنوا العذاب ، ثم احمرت في يوم الجمعة فازداد خوفهم ، ثم اسودت يوم السبت فتجهزوا للهلاك ، فأصبحوا يوم الأحد وقت الضحى ، فكفنوا أنفسهم تحنطوا كما يفعل بالميت وألقوا بأنفسهم إلى الأرض ، فلما اشتد الضحى ، أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت في ذلك الوقت كل شيء له صوت مما في الأرض ، ثم تزلزلت بهم الأرض حتى هلكوا جميعا ، وأما ولد الناقة فقيل إنه فر هاربا ، فانفتحت له الصخرة التي خرجت منها أمة فدخلها وانطبقت عليه ، قال بعض المفسرين : إنه الدابة التي تخرج قرب القيامة ، وقيل إنهم أدركوه وذبحوه. قوله : (عقرها قدار) أي ابن سالف ، وكان رجلا أحمر أزرق العينين قصيرا ، وكان ابن زانية ، ولم يكن لسالف ، وهو أشقى الأولين كما ورد في الحديث. قوله : (بأن قتلها بالسيف) أي فالمراد بالعقر النحر ، ففيه إطلاق السبب على المسبب ، لأن العقر ضرب قوائم البعير أو الناقة لتقع فتنحر.

قوله : (وَقالُوا يا صالِحُ) أي على سبيل التهكم والاستهزاء. قوله : (بِما تَعِدُنا) (به) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف ، وكان الأولى أن يقدر ضمير نصب ، بأن يقول تعدناه لئلا يلزم حذف العائد المجرور بالحرف من غير اتحاد متعلقهما. قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي بعد مضي ثلاثة أيام ، والتعقيب

٥٤٠