حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا) مفسرة (تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ) أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بالوأد (مِنْ) أجل (إِمْلاقٍ) فقر تخافونه (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) الكبائر كالزنا (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي علانيتها وسرها (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) كالقود وحد الردة ورجم المحصن (ذلِكُمْ) المذكور (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ

____________________________________

قوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ما اسم موصول ، وحرم صلته ، والعائد محذوف ، وربكم فاعل حرم ، وقوله : (عَلَيْكُمْ) تنازعه كل من أتل وحرم ، أعمل الثاني ، واضمر في الأول وحذف لأنه فضلة. وحاصل ما ذكر في هاتين الآيتين عشرة أشياء : خمسة بصيغ النهي ، وخمسة بصيغ الأمر ، وقدم المنهي عنه لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ولأن المنهي عنه مأمور باجتنابه مطلقا ، والمأمور به على حسب الاستطاعة لما في الحديث «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم». ووسط بينهما الأمر ببر الوالدين اعتناء بشأنه ، لكونه أعظم الواجبات بعد التوحيد ، وهذه العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار ، بل أجمع عليها جميع أهل الأديان ، قال ابن عباس : هذه آيات محكمات ، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب ، وهن محرمات على بني آدم كلهم ، وهن أم الكتاب ، من عمل بهن دخل الجنة ، ومن تركهن دخل النار. قوله : «أن» (مفسرة) أي وضابطها موجود ، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه ، واستشكل بأن هذا يقتضي أن جميع ما يأتي محرم ، مع أن بعضه مأمور بفعله على سبيل الوجوب. أجيب بأجوبة منها : أن التحريم في المنهي عنه ظاهر وفي المأمور به باعتبار أضدادها ، فالمعنى حرم فعلا وهي المنهيات ، أو تركا وهي المأمورات ، ومنها أن في الكلام حذف الواو مع ما عطفت ، والتقدير ما حرم ربكم عليكم وما أمركم به ، ثم فرع بعد ذلك على المذكور والمحذوف ، والأقرب الأول.

قوله : لا (تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي لا في الأقوال ، ولا في الأفعال ، ولا في الاعتقادات. قوله : (إِحْساناً) مفعول مطلق لفعل محذوف قدره المفسر بقوله : (أحسنوا) والمراد بالوالدين الأب والأم وإن عليا. قوله : (بالوأد) تقدم أنه الدفن بالحياة. قوله : (مِنْ إِمْلاقٍ) يطلق بمعنى الفقر والافلاس والإفساد ، والمراد هنا الأول. قوله : نحن (نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) هذا في مغنى التعليل للنهي المتقدم ، والمعنى لا تقتلوا أولادكم من أجل حصول فقر ، لأن رزقكم ورزقهم علينا لا على غيرنا ، وقال هنا : (مِنْ إِمْلاقٍ) ، وقال في الإسراء : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ، لأن ما هنا في الفقر الحاصل بالفعل ، وما في الإسراء في الفقر المتوقع ، فهو خطاب للأغنياء ، وقدم هنا خطاب الآباء ، وهناك ضمير الأولاد قيل تفننا ، وقيل قدم هنا خطاب الآباء تعجيلا لبشارة الآباء الفقراء بأنهم في ضمان الله ، وقدم هناك ضمير الأولاد ، لتطمئن الآباء بضمان رزق الأولاد ، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد ، وإن كانوا متلبسين بالفقر ، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا موسرين ، ولكن يخافون وقوع الفقر. قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) هذا أعم مما قبله ، لأن من جملة الفواحش قتل الأولاد. قوله : (أي علانيتها) أي كالقتل والزنا والسرقة وجميع المعاصي الظاهرية ، وقوله : (وسرها) أي كالرياء والعجب والكبر والحسد وجميع المعاصي القلبية.

قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) عطف خاص على عام ، ونكتته الاستثناء بعدة. قوله : (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) مفعول حرم محذوف أي قتلها. قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) في محل نصب على الحال ، أو صفة لمصدر

٥٠١

تَعْقِلُونَ) (١٥١) تتدبرون (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي) أي بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) وهي ما فيه صلاحه (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) بأن يحتلم (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بالعدل وترك البخس (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) طاقتها في ذلك فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحة نيته فلا مؤاخذة عليه كما ورد في حديث (وَإِذا قُلْتُمْ) في حكم أو غيره (فَاعْدِلُوا) بالصدق (وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) قرابة (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢) بالتشديد تتعظون والسكون (وَأَنَ) بالفتح على تقدير اللام والكسر استئنافا

____________________________________

محذوف ، والتقدير ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا ملتبسين بالحق ، أو قتلا ملتبسا بالحق ، وهو استثناء مفرع ، أي لا تقتلوها في حال من الأحوال ، إلا في حال ملابستكم بالحق. قوله : (كالقود) أي القصاص ، وقوله : (وحد الردة) أي لما في الحديث «من بدل دينه فاقتلوه». وقوله : (ورجم المحصن) أي بشروطه ، وهو وما قبله المذكورة في الفروع.

قوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) مبتدأ وخبر ، وقوله : (المذكور) إشارة إلى أن اسم الإشارة عائد على ما تقدم من الأمور. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ختم هذه الآية بذلك ، لأنها اشتملت على خمسة أشياء عظام ، والوصية فيها أبلغ منها في غيرها ، لعموم نفعها في الدين والدنيا ، فختمها بالعقل الذي هو مناط التكليف. قوله : (أي بالخصلة التي) (هِيَ أَحْسَنُ) أشار بذلك إلى أنه نعت لمصدر محذوف ، والمعنى لا تقربوا مال اليتيم في حالة من الحالات ، إلا في الحالة التي هي أحسن لليتيم.

قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) غاية لما يفهم من النهي ، كأنه قال : احفظوه إلى بلوغ أشده ، فسلموه له حينئذ. قوله : (بأن يحتلم) هذا تفسير لبلوغ الأشد ، باعتبار أول زمانه ، وسيأتي في الأحقاف تفسيره باعتبار آخره وهو ثلاث وثلاثون سنة ، لأن الأشد هو قوة الإنسان وشدته ومبدؤه البلوغ ، وينتهي لثلاث وثلاثين سنة. قوله : (بِالْقِسْطِ) متعلق بمحذوف إما حال من فاعل : (أَوْفُوا) ، أو من مفعوله أي أوفوهما حال كونكم مقسطين ، أو حال كونهما تامين. قوله : (وترك البخس) أي النقص في الكيل أو الوزن. قوله : (فلا مؤاخذة عليه) أي لا إثم ، ولكنه يضمن ما أخطأ فيه ، لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء.

قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ) المراد بالقول ما يعم الفعل ، وقوله : (فَاعْدِلُوا) (بالصدق) أي لا تتركوه في القول ولا في الفعل ، وإنما خص القول تنبيها بالأدنى على الأعلى. قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ) إما مضاف لفاعله أي ما عهده إليكم ، أو لمفعوله أي ما عاهدتم الله عليه. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ختمها بذلك لأن هذه الأمور خفية غامضة ، لا بد فيها من الاجتهاد والتذكر. قوله : (والسكون) صوابه والتخفيف ، إذ لم يقرأ بسكون الذال ، فمن شدد قلب التاء ذالا وأدغمها في الأخرى ، ومن خفف حذف إحدى التاءين. قوله : (بالفتح) أي مع التشديد أو التخفيف ، وقوله : (والكسر) أي مع التشديد لا غير ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية. قوله : (على تقدير اللام) أي على كل من الوجهين ، وحينئذ تكون الواو عاطفة من عطف العلة على المعلول ، والتقدير كلفتم بهذا الذي وصاكم به من أول الربع إلى هنا ، أو من أول السورة إلى هنا ، لأن هذا صراطي. قوله : (استئنافا) أي واقعا في جواب سؤال مقدر ، ومع ذلك فيها معنى التعليل ، كأن

٥٠٢

(هذا) الذي وصيتكم به (صِراطِي مُسْتَقِيماً) حال (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) الطرق المخالفة له (فَتَفَرَّقَ) فيه حذف إحدى التاءين تميل (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) دينه (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣) (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة وثم لترتيب الأخبار (تَماماً) للنعمة (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) بالقيام به (وَتَفْصِيلاً) بيانا (لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ) أي بني إسرائيل (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث (يُؤْمِنُونَ) (١٥٤) (وَهذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ

____________________________________

قائلا قال : لأي شيء كلفنا بما تقدم؟ فقيل في الجواب : أن هذا صراطي مستقيما ، ثم أعلم أنه على قراءة التشديد ، فاسم الإشارة اسم أن وصراطي خبرها ، وعلى قراءة التخفيف فاسمها ضمير الشأن ، واسم الإشارة مبتدأ ، وصراطي خبره ، والجملة خبر إن ، ومستقيما حال من صراطي على كل حال. قوله : (وَأَنَّ هذا) يصح أن يرجع اسم الإشارة إلى ما تقدم من أول الربع أو من أول السورة. قوله : (صِراطِي مُسْتَقِيماً) أي ديني لا اعوجاج فيه ، فشبه الدين القويم بالصراط ، بمعنى الطريق بجامع أن كلا يوصل للمقصود ، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية.

قوله : (فَاتَّبِعُوهُ) أي اسلكوه ولا تحودوا عنه فتقعوا في الهلاك ، روى الدارقطني عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية ، وفي رواية أنه خط خطا وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن شماله ، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال : هذا سبيل الله ثم تلا هذه الآية. قوله : (الطرق المخالفة) أي الأديان المباينة له ، فشبه الأديان الباطلة بالطرق المعوجة بجامع أن كلا يوصل صاحبه إلى المهالك ، واستعير اسم المشبه به للمشبه. قوله : (فَتَفَرَّقَ) بالنصب بأن مضمرة في جواب النهي.

قوله : (ذلِكُمْ) أي ما مر من اتباع دينه وترك غيره من الأديان. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تمتثلون المأمورات ، وتجتنبون المنهيات ، وأتى بالتقوى هنا ، لأن الصراط المستقيم جامع للتكاليف ، وقد أمر باتباعه ، ونهى عن الطرق المعوجة ، فناسب ذكر التقوى. قوله : (وثم لترتيب الأخبار) أي الترتيب في الذكر لا في الزمان ، وهو جواب عما يقال إن إيتاء موسى الكتاب ، كان قبل نزول القرآن ، فكيف يعطف بثم المفيدة للترتيب والتراخي؟ وأجيب أيضا : بأن ثم لمجرد العطف كالواو ، فلا ترتيب فيها ولا تراخي. قوله : (تَماماً) مفعول لأجله ، أي آتيناه الكتاب لأجل تمام النعمة الخ. قوله : (للنعمة) أي الدنيوية والأخروية.

قوله : (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) متعلق بتماما ، ومعنى أحسن قام به الحسن وهو الصفات الجميلة ، وقوله : (بالقيام به) سبب لكونه قام به الحسن ، والمعنى تماما على المحسن منهم بسبب قيامه به ، أي اتباعه له ، وامتثاله مأموراته واجتنابه منهياته. قوله : (وَتَفْصِيلاً) عطف على : (تَماماً). قوله : (أي بني إسرائيل) أي المدلول عليهم بذكر موسى والكتاب. قوله : (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) متعلق بيؤمنون ، قدم عليه للفاصلة.

قوله : (وَهذا كِتابٌ) مبتدأ وخبر ، وجملة (أَنْزَلْناهُ) نعت أول لكتاب ، و (مُبارَكٌ) نعت ثان

٥٠٣

فَاتَّبِعُوهُ) يا أهل مكة بالعمل بما فيه (وَاتَّقُوا) الكفر (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥) أنزلناه ل (أَنْ) لا (تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ) اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ) مخففة واسمها محذوف أي إنا (كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) قراءتهم (لَغافِلِينَ) (١٥٦) لعدم معرفتنا لها إذ ليست بلغتنا (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لجودة أذهاننا (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) بيان (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) لمن اتبعه (فَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ) أعرض (عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي أشده (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧) (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظر المكذبون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ) بالتاء والياء (الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ

____________________________________

له ، أي كثير الخير والمنافع دينا ودنيا ، والمعنى : هذا القرآن العظيم ، كتاب أنزلناه من اللوح المحفوظ ليلة القدر إلى سماء الدنيا في بيت العزة ، ثم نزل مفرقا على حسب الوقائع ، مبارك كثير الخير والمنافع في الدنيا بالشفاء به ، والأمن من الخسف والمسخ والضلال والآخرة ، بتلقي السؤال عن صاحبه وشهادته له ، وكونه ظلة على رأسه في حر الموقف ، والرقي به إلى الدرجات العلا. قوله : (يا أهل مكة) قصر الخطاب عليهم لأنهم هم المعاندون في ذلك الوقت. قوله : (بالعمل بما فيه) بيان لاتباعه.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي تصيبكم الرحمة في الدنيا والآخرة. قوله : (أَنْ تَقُولُوا) مفعول لأجله ، والعامل محذوف قدره المفسر بقوله : (أنزلناه) ، ولا يصح أن يكون العامل أنزلناه المذكور ، لأنه يلزم عليه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وهو لفظ مبارك ، وقدر المفسر لا ، لأن الإنزال علة لعدم القول لا للقول ، وقال بعضهم : إن الكلام على حذف مضاف أي كراهة أن تقولوا وكل صحيح. قوله : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) أي جنسه الصادق بالتوراة والإنجيل. قوله : (وَإِنْ) (مخففة) أي من الثقيلة. قوله : (واسمها محذوف) الخ فيه شيء ، وذلك لأن إن المكسورة إذا خففت ودخلت على فعل ناسخ مثل كنا أهملت ، فلا عمل لها ، ووجب اقتران الخبر باللام ، وذلك كما في هذه الآية. قوله : (قراءتهم) أي لكتبهم ، والمعنى لا نفهم معانيها ، لأنها بالعبرانية أو السريانية ، ونحن عرب لا نفهم إلا اللغة العربية. قوله : (لَغافِلِينَ) أي لا نعلمها ، والمقصود قطع حجتهم وعذرهم بانزال القرآن بلغتهم ، والمعنى نزلنا القرآن بلغتهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلغتهما فلم نفهم ما فيهما.

قوله : (أَوْ تَقُولُوا) عطف على المنفي وهو قطع لعذرهم أيضا. قوله : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي إلى الحق والطريق المستقيم. قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيىء بمعنى الشديد. قوله : (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) الباء سببية ، وما مصدرية ، أي بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات الله.

قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام إنكاري بمعنى النفي ، وهو مزيد تخويف وتحذير لمن بقي على الكفر. إن قلت : إن ظاهر الآية يقتضي أنهم مصدقون بهذه الأشياء حتى أثبت لهم انتظار أحدها ، أجيب بأن هذه الأشياء لما كانت محتمة ، عوملوا معاملة المنتظر ، ولم يعول على اعتقادهم ، فالمعنى لا مفر لهم من

٥٠٤

رَبُّكَ) أي أمره بمعنى عذابه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي علاماته الدالة على الساعة (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهي طلوع الشمس من مغربها كما في حديث الصحيحين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) الجملة صفة نفس (أَوْ) نفسا لم تكن (كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)

____________________________________

ذلك. قوله : (ما ينتظر المكذبون) أي من أهل مكة وغيرهم. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، لأن جمع التكسير يجوز تأنيثه وتذكيره ، تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال. قوله : (الْمَلائِكَةُ) أي عزرائيل وأعوانه ، أو ملائكة العذاب ، لما تقدم أن الكافر موكل بأخذ روحه سبع من ملائكة العذاب. قوله : (أي أمره) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، ودفع بذلك توهم حقيقة الإتيان ، وهو الانتقال من مكان إلى آخر ، إذ هو مستحيل على الله تعالى. قوله : (بمعنى عذابه) أي المعجل لهم ، إما بالسيف أو غيره. قوله : (الدالة على الساعة) أي على قربها ، والعلامات الكبرى عشرة وهي : الدجال ، والدابة ، وخسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، والدخان ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر.

قوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يوم معمول لينفع على الصحيح من أن ما بعد لا يعمل فيما قبلها. قوله : (وهو طلوع الشمس من مغربها) ورد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما : أتدرون أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت ، فتصبح طالعة من مطلعها ، وهكذا كل يوم ، فإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها ، فتقول يا رب إن مسيري بعيد ، فيقول لها اطلعي من حيث غربت ، فقال الناس : يا رسول الله ، هل لذلك من آية؟ فقال : آية تلك الليلة أن تطول قدر ثلاث ليال ، فيستيقظ الذين يخشون ربهم ، فيصلون ثم يقضون صلاتهم ، والليل مكانه لم ينقض ، ثم يأتون مضاجعهم فينامون ، حتى إذا استيقظوا والليل مكانه خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم ، فإذا أصبحوا أطال عليهم طلوع الشمس ، فبينما هم ينتظرونها ، إذا طلعت عليهم من قبل المغرب. قوله : (كما في حديث الصحيحين) أي وهو كما في البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها» وروي أن أول الآيات ظهور الدجال ، ثم نزول عيسى ، ثم خروج يأجوج ومأجوج ، ثم خروج الدابة ، ثم طلوع الشمس من مغربها ، وهو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي ، وذلك أن الكفار يسلمون في زمن عيسى ، فإذا قبض ومن معه من المسلمين ، رجع أكثرهم إلى الكفر ، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها.

قوله : ((لا يَنْفَعُ نَفْساً) أي كافرة أو مؤمنة عاصية ، ويكون قوله : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) راجعا للأولى ، وقوله : (أَوْ كَسَبَتْ) راجعا للثانية ، ويكون التقدير لا ينفع نفسا كافرة لم تكن آمنت من قبل إيمانها الآن ، ولا ينفع نفسا مؤمنة توبتها من المعاصي ، فقوله : (أَوْ كَسَبَتْ) معطوف على : (آمَنَتْ) ، وحينئذ فيكون في الكلام حذف قد علمته. قوله : (الجملة صفة نفس) أي جملة لم تكن آمنت من قبل ، وجاز الفصل بين الصفة والموصوف لأنه بالفاعل وهو ليس بأجنبي. قوله : (أَوْ) (نفسا لم تكن) (كَسَبَتْ) أشار بذلك إلى

٥٠٥

طاعة أي لا تنفعها توبتها كما في الحديث (قُلِ انْتَظِرُوا) أحد هذه الأشياء (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) ذلك (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) باختلافهم فيه فأخذوا بعضه وتركوا بعضه (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا في

____________________________________

أن المعطوف في الحقيقة محذوف هو معطوف على المنفي. قوله : (كما في الحديث) روي عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «باب من قبل المغرب ، مسيرة عرضه أربعون أو سبعون سنة ، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا للتوبة ، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه». وورد أن من الاشراط العظام ، طلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابة الأرض ، وهذان أيهما سبق الآخر ، فالآخر على أثره». وورد «صبيحة تطلع الشمس من مغربها ، يصير في هذه الأمة قردة وخنازير ، وتطوى الدواوين ، وتجف الأقلام ، لا يزاد في حسنة ، ولا ينقص من سيئة ، ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا». وورد «لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها ، حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده ، فتستأذن الشمس من أين تطلع ، ويستأذن القمر من أين يطلع ، فلا يؤذن لهما ، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس ، وليلتين للقمر ، فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس ، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن ، فينادي بعضهم بعضا ، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة ، ثم يرسل الله جبريل إلى الشمس والقمر ، فيقول إن الرب تعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه لا ضوء لكما عندنا ولا نور ، فتبكي الشمس والقمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت ، فترجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما ، فبينما الناس كذلك يتضرعون إلى الله ، والغافلون في غفلاتهم ، إذ نادى مناد : ألا إن باب التوبة قد أغلق ، والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما فينظر الناس وإذا بهما أسودين كالعكمين ، أي الغرارتين العظميتين ، لا ضوء لهما ولا نور ، فذلك قوله : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فيرتفعان مثل البعيرين المقرنين ، ينازع كل منهما صاحبه استباقا ، ويتصايح أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات عن أولادها ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فأما الصالحون والأبرار ، فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ، ويكتب لهم عبادة ، وأما الفاسقون والفجار ، فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ، ويكتب عليهم حسرة ، فإذا بلغت الشمس والقمر وس ط السماء ، جاءهما جبريل فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب ، فيغربهما في باب التوبة ، ثم يرد المصراعين فيلتئم ما بينهما وتصيران كأنهما لم يكن فيهما صدع ولا خلل ، فإذا أغلق باب التوبة ، لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة ، ولا تنفعه حسنة يعملها بعد ذلك إلا ما كان قبل ذلك ، فإنه يجري لهم». وورد : «أن الدنيا تمكث بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة ، يتمتع المؤمنون فيها أربعين سنة ، لا يتمنون شيئا إلا أعطوه ، ثم يعود فيهم الموت ويسرع ، فلا يبقى مؤمن ، ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم ، حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق ، يقوم واحد عنها وينزل واحد ، وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن ، فيكونون على مثل ذلك ، حتى لا يولد لأحد من نكاح ، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة ، ويكون كلهم أولاد زنا ، شرار الناس عليهم تقوم الساعة. قوله : (قُلِ انْتَظِرُوا) أمر تهديد على حد اعملوا ما شئتم.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الأقرب كما قال المفسر ، أنها نزلت في اليهود والنصارى لما ورد : قام فينا رسول الله فقال : «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ، اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة وهي الجماعة ، وفي رواية :

٥٠٦

ذلك وفي قراءة فارقوا أي تركوا دينهم الذي أمروا به وهم اليهود والنصارى (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) فلا تتعرض لهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) يتولاه (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) في الآخرة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩) فيجازيهم به وهذا منسوخ بآية السيف (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي لا إله إلا الله (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي جزاء عشر حسنات (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي جزاءه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠) ينقصون من جزائهم شيئا (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ويبدل

____________________________________

«من كان على ما أنا عليه وأصحابي». قوله : (فأخذوا بعضه) أي كما حكاه الله عنهم بقوله في سورة النساء : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لست مأمورا بقتالهم ، وهذا ما مشى عليه المفسر من أنها منسوخة ، وقيل إنها محكمة ، والمعنى أنت بريء منهم ومن أفعالهم ، لقطع نسبهم منك بكفرهم. قوله : (فيجازيهم به) أي بفعلهم. قوله : (وهذا) أي قوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي يوم القيامة. قوله : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) هذا إخبار بأقل المضاعفة ، وإلا فقد جاء مضاعفة الحسنة بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ، واعلم أن المضاعفة تابعة للإخلاص ، فكل من عظم إخلاصه ، كانت مضاعفة حسناته أكثر ، ومن هنا قوله عليه الصلاة والسّلام : «الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا من بعدي ، فو الذي نفسي بيده ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». وفسر الحسنة بلا إله إلا الله ، وهو أحد تفسيرين ، والآخر أن المراد بها كل ما أمر الله به ، فيشمل الذكر والصلاة والصدقة ، وغير ذلك من أنواع البر ، وهو الأولى ، لأنه أراد خصوص ما ينجي من الشرك ، فذلك جزاؤه دخول الجنة ، وإن أراد الذكر بها فلا مفهوم لها ، لأن العبرة بعموم اللفظ ، وأفرد في الحسنة والسيئة ، لأنه لو جمع لربما توهم أن الجزاء إجمالي ، بحيث يعطي في نظير حسناته كلها عشرة أمثالها ، بل الجزاء لكل فرد من أفراد الحسنات والسيئات ، لأن الحسنات تتفاوت ، فربما جوزي على بعضها عشرا وعلى بعضها أكثر. قوله : (أَمْثالِها) جمع مثل إن قلت : إنه مذكر ، فكان مقتضاه تأنيث العدد ، قال ابن مالك :

ثلاثة بالتاء قل للعشرة

في عد ما آحاده مذكره

في الضدد جرد الخ.

وأجيب بأنه جرد التاء مراعاة لإضافة مثل لضمير الحسنة ، فكأنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه ، أو يقال إن أمثال صفة لموصوف محذوف تقديره عشر حسنات أمثالها ، فجرد العدد من التاء مراعاة الموصوف المحذوف ، وإلى هذا الثاني أشار المفسر بقوله : (أي جزاء عشر حسنات). قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي الشرك على ما قال المفسر ، حيث فسر الحسنة بلا إله إلا الله ، أو ما هو أعم وهو الأولى. قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي إن مات غير تائب وجوزي ، وإلا فأمره مفوض لربه ، فإن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ، وأما ان مات تائبا فلا سيئة له ، لأنه من المحبوبين لله والمحبوب لا سيئة له ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ، وقال عليه الصلاة والسّلام : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي العاملون للحسنات والسيئات. قوله : (ينقصون من جزائهم) هذا بالنظر لجزاء الحسنات ، أي ولا يزاد في سيئات أهل العقاب ، فالظلم نقص المحسن والزيادة في المسيء ، وتسميته ظلما

٥٠٧

من محله (دِيناً قِيَماً) مستقيما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١) (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) عبادتي من حج وغيره (وَمَحْيايَ) حياتي (وَمَماتِي) موتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢) (لا شَرِيكَ لَهُ) في ذلك (وَبِذلِكَ) أي التوحيد (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣) من هذه الأمة (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) إلها أي لا أطلب غيره (وَهُوَ رَبُ) مالك (كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ذنبا (إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ) تحمل نفس (وازِرَةٌ) آثمة (وِزْرَ) نفس (أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ

____________________________________

تنزل منه سبحانه وتعالى ، وإلا فالظلم التصرف في ملك الغير ، ولا ملك لأحد منه تبارك وتعالى ، وأما الزيادة في الحسنات فليس بظلم ، بل هو تفضل منه وإحسان ، واعلم : أن الحسنة تتفاوت ، والسيئة كذلك ، فليس من تصدق بدرهم كمن تصدق بدينار وهكذا ، وليس من فعل صغيرة كمن فعل كبيرة وهكذا ، فعشرة أمثال الحسنة من شكلها ، ومثل السيئة من شكلها ، واعلم أيضا : أن هذا الجزاء لمن فعل الحسنة والسيئة ، وأما من هم بحسنة ولم يعملها ، كتبت له حسنة واحدة ، ومن هم بسيئة ولم يعملها ، فإن تركها خوف الله كتبت حسنة ، وإن تركها لا لذلك ، لم تكتب شيئا ، لما في الحديث : «قال الله تعالى : إذا تحدث عبدي بحسنة ولم يعملها ، فأنا أكتبها له حسنة حتى يعملها ، فإن عملها ، فأنا اكتبها له بعشر حسنات ، وإذا تحدث عبدي بسيئة ولم يعملها ، فأنا أغفرها له حتى يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها». قوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي) إن حرف توكيد ونصب ، والياء اسمها ، وجملة هداني ربي خبرها ، وهدى فعل ماض ، والياء مفعول أول ، و (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مفعول ثان ، و (رَبِّي) فاعل ، والمعنى : قل يا محمد لكفار مكة ، إنني أرشدني ربي ووصلني إلى دين مستقيم لا اعوجاج فيه. قوله : (ويبدل من محله) أي محل : إلى صراط مستقيم ، وهو النصب ، لأنه المفعول الثاني. قوله : (قِيَماً) نعت لدينا ، أي لا اعوجاج فيه. قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل (دِيناً) أي دينه وشريعته وما أوحي به إليه. قوله : (حَنِيفاً) حال من إبراهيم ، أي مائلا عن الضلال إلى الاستقامة. قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف حال على أخرى ، وفيه تعريض بخروج جميع من خالف دين الإسلام عن إبراهيم. قوله : (عبادتي) أشار بذلك إلى أن قوله : (وَنُسُكِي) عطف عام على خاص.

قوله : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) قرأ نافع بسكون ياء محياي ، وفتح ياء مماتي ، والباقون بالعكس. قوله : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن ، ولكن يقدر بالنسبة للعبادة خالصة ، وبالنسبة للحياة والموت مخلوقة. قوله : (في ذلك) أي الصلاة والنسك والمحيا والممات. قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لله ، واستشكل بأنه تقدمه الأنبياء وأممهم ، وأجاب المفسر بأن الأولية بالنسبة لأمته. وأجيب أيضا بأن الأولية بالنسبة لعالم الذر فهي حقيقة.

قوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ) نزلت لما قال الكفار : يا محمد ارجع إلى ديننا ، وغير منصوب بأبغي ، و (رَبًّا) تمييز ، وقوله : (إلها) تفسير لربا. قوله : (أي لا أطلب) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الجملة حالية ، والمعنى لا يليق أن أتخذ إلها غير الله ، والحال أنه مالك كل شيء. قوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) رد لقولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ،

٥٠٨

مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا فيها (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بالمال والجاه وغير ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي أعطاكم إياه ليظهر المطيع منكم والعاصي (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) (١٦٥) بهم.

____________________________________

أي يكتب علينا ما عملتم من الخطايا. قوله : (إِلَّا عَلَيْها) أي إلا في حال كونه مكتوبا عليها لا على غيرها.

قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي ولا غير وازرة ، وإنما قيد بالوازرة موافقة لسبب النزول ، وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين : اتبعوا سبيلي أحمل عليكم أوزاركم ، وهو وازر. قوله : (وِزْرَ أُخْرى) إن قلت : كيف هذا مع قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»؟ أجيب بأن ما هنا محمول على من لم يتسبب فيه بوجه ، وفي الآية الأخرى والحديث محمول على من تسبب فيه ، فعليه وزر المباشرة ، ووزر التسبب ، ووزر الفاعل لا يفارقه. قوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم ويعلمكم. قوله : (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من الأديان والملل. قوله : (أي يخلف بعضكم بعضا فيها) أشار بذلك إلى أن إضافة خلائف للأرض على معنى في.

قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) أي خالف بين أحوالكم ، حيث جعل منكم الحسن والقبيح ، والغني والفقير ، والعالم والجاهل ، والقوي والضعيف ، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) وليس عجزا عن مساواتكم ، فإنه منزه عنه سبحانه. قوله : (ليختبركم) أي يعاملكم معاملة المختبر ، وإلا فلا يخفى عليه شيء. قوله : (أي أعطاكم إياه) أي من الغنى والفقر ، ليتبين الصابر والشاكر من غيرهما. قوله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) إن قلت : إن الله حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه ، فكيف وصف بكونه سريع العقاب؟ أجيب : بأن كل آت قريب ، أو المعنى سريع العقاب إذا جاء وقته ، وأكد الجملة الثانية هنا باللام ، وفي الأعراف الجملتين ، لأن الوعيد المتقدم هنا ، أخف من الوعيد المتقدم هناك ، فالوعيد هنا هو قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، وأما في الأعراف فهو قوله : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) ، وقوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ، فالمقام هنا لغلبة الرحمة ، فلذلك أكدت دون العقاب ، وأما هناك فالمقام لهما ، فلذلك أكدا معا. قوله : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) جعل خبر إن في هذه الآية من الصفات الذاتية الواردة على بناء المبالغة ، وأكده باللام ، وجعل خبر إن السابقة ، صفة جارية على غير من هي له ، للتنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيهما ، ومعاقب بالعرض ، مسامح في العقوبة ، ومعنى بالذات مغفرته ورحمته لا تتوقف على تأهل من العبد ، ومعنى بالعرض أن عقابه لا يكون إلا بعد صدور ذنب فتأمل.

٥٠٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعراف

مكيّة

إلا (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) الثمان أو الخمس آيات وهي مائتان وخمس أو ست آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص) (١) الله أعلم بمراده بذلك هذا (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) ضيق (مِنْهُ) أن تبلغه مخافة أن تكذب (لِتُنْذِرَ) متعلق بأنزل أي للانذار (بِهِ وَذِكْرى) تذكرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) به قل لهم (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعراف مكية

إلا (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) الثمان أو الخمس آيات وهي مائة وخمس أو ست آيات

سميت بذلك لذكر أهل الأعراف فيها من باب تسمية الشيء يجزئه. قوله : (مكية) تقدم أن المكي ما نزل قبل الهجرة وإن بأرض المدينة. قوله : (الثمان) أي ومنتهاها : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، وقوله : (أو الخمس) أي ومنتهاها : (إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) هذا أحد أقوال تقدم جملة منها ، وقد ذكر هذا القول في الخازن بقوله هي حروف مقطعة استأثر الله بعلمها ، وهي سره في كتابه العزيز. قوله : (هذا) (كِتابٌ) قدره إلى أن كتاب خبر لمحذوف ، واسم الإشارة عائد على القرآن بمعنى القدر الذي نزل منه ، وجملة : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) نعت لكتاب قصد به تشريف النازل والمنزل عليه. قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) لا ناهية ، و (يَكُنْ) مجزوم بها ، و (فِي صَدْرِكَ) خبرها مقدم ، و (حَرَجٌ) اسمها مؤخر ، و (مِنْهُ) صفة لحرج ، وهو نهي عن السبب ، وفي الحقيقة النهي عن أسباب الحرج ، والمعنى : لا تتعاط أسبابا توجب الحرج. قوله : (أن تبلغه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، أي من تبليغه ، ويصح أن الضمير عائد على المنزل أو الانزال أو الانذار.

قوله : (لِتُنْذِرَ) من الإنذار ، وهو التخويف من عذاب الله بسبب مخالفته. قوله : (متعلق بأنزل) أي واللام للتعليل ، فهو مفعول لأجله ، وإنما جر باللام لفقد بعض الشروط ، لأنه اختلف مع عامله في الزمان والفاعل ، لأن زمن الإنزال غير زمن الإنذار ، فاعل الإنزال : الله تعالى ، وفاعل الإنذار : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وَذِكْرى) إما في محل نصب عطف على تنذر ، أو في محل رفع خبر لمحذوف

٥١٠

مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن (وَلا تَتَّبِعُوا) تتخذوا (مِنْ دُونِهِ) أي الله أي غيره (أَوْلِياءَ) تطيعونهم في معصيته تعالى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) بالتاء والياء تتعظون وفيه إدغام التاء في الأصل في الذال وفي قراءة بسكونها وما زائدة لتأكيد القلة (وَكَمْ) خبرية مفعول (مِنْ قَرْيَةٍ) أريد أهلها (أَهْلَكْناها) أردنا إهلاكها (فَجاءَها بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) نائمون بالظهيرة والقيلولة استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم أي مرة جاءها ليلا ومرة نهارا (فَما

____________________________________

تقديره هو ذكرى ، أو في محل جر عطف على المصدر المنسبك من أن المقدرة بعد اللام والفعل ، والتقدير أنزل للإنذار والتذكير. ولما كان النبي مكلفا بالتبليغ للكفار ، وإن لم يتعظوا به ، أسند الإنذار له ، ولما كانت الموعظة والتذكر قائمة بالمؤمنين عند سماعه ، أسندت لهم ، فالواعظ للكفار من غيرهم ، والواعظ للمؤمنين من أنفسهم ، وحيث كان القرآن منزلا لإنذار الكفار واتعاظ المؤمنين ، فلا يحل إخراجه عما أنزل له ، كأن يقرأه الشخص في الطرقات لطلب الدنيا ، أو ليتغنى به حيث يكون المقصود من القرآن الدنيا أو التلذذ بالصوت الحسن كما يتلذذ بالغناء ، فإن ذلك من الضلال المبين الموجب للعقوبة.

قوله : (اتَّبِعُوا) أمر لجميع المكلفين أو للكافرين. قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) إما متعلق بأنزل أو بمحذوف حال من الموصول. قوله : (مِنْ دُونِهِ) إما متعلق بقوله : (لا تَتَّبِعُوا) ، والمعنى لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين أو الكهان ، أو حال من (أَوْلِياءَ) ، لأنه نعت نكرة قدم عليها ، والمعنى لا تتولوا من دونه أحدا من شياطين الإنس والجن ، ليحملوكم على الأهواء والبدع. قوله : (بالتاء) أي مع تشديد الذال بعدها ، وقوله : (والياء) أي قبل التاء مع تخفيف الذال ، وقوله : (وفيه إدغام التاء) راجع إلى القراءة الأولى ، وقوله : (وفي قراءة بسكونها) صوابه بتخفيفها وفيه حذف إحدى التاءين فالقراءات ثلاث ، وكلها سبعية. قوله : (وما زائدة لتأكيد القلة) أي وقليلا نعت مصدر محذوف ، أي تذكرا قليلا أو نعت ظرف زمان محذوف ، أي زمانا قليلا ، والمصدر أو الظرف منصوب بالفعل بعده. قوله : (وَكَمْ) (خبرية) أي بمعنى كثيرا ، ولم ترد في القرآن إلا هكذا ، ويجب لها الصدارة لكونها على صورة الاستفهامية. قوله : (مفعول) أي لفعل محذوف يفسره قوله : (أَهْلَكْناها) من باب الاشتغال ، والتقدير وكم من قرية أهلكناها ، ويصح أن يكون كم مبتدأ ، وجملة (أَهْلَكْناها) خبر و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز لكم على كل حال. قوله : (أريد أهلها) أي فأطلق المحل ، وأريد الحال فيه ، فهو مجاز مرسل. قوله : (أردنا إهلاكها) جواب عما يقال إن الإهلاك مسبب عن البأس الذي هو العذاب ، وظاهر الآية يقتضي أن العذاب مسبب عن الإهلاك ، فأجاب بأن الكلام فيه حذف. قوله : (بَياتاً) يحتمل أنه حال ، والتقدير جاءها بأسنا حال كونه بياتا أي في البيات بمعنى الليل ، أو ظرف وهو المتبادر من عبارة المفسر.

قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أو للتنويع ، والجملة حالية معطوفة على ما قبلها ، والواو مقدرة وإنما حذفت لدفع الثقل باجتماع حرفي عطف في الصورة ، وقائلون من قال يقيل ، كباع يبيع ، فألفه منقلبة عن ياء ، بخلاف قال من القول ، فهي منقلبة عن واو. قوله : (والقيلولة استراحة نصف النهار) هذا قول ثان في تفسيرها فتحصل أن القيلولة فيها قولان : النوم وقت الظهر ، أو الاستراحة في وسط النهار ، وإن لم يكن معها نوم. قوله : (أي مرة جاءها ليلا) الخ هذا تفسير مراد للآية ، وقوله : (جاءها) أي جاء بعضها ليلا

٥١١

كانَ دَعْواهُمْ) قولهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥) (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي الأمم عن إجابتهم الرسل وعملهم فيما بلغهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦) عن الإبلاغ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) لنخبرنهم عن علم بما فعلوه (وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧) عن إبلاغ الرسل والأمم الخالية فيما عملوا (وَالْوَزْنُ) للأعمال أو لصحائفها بميزان له لسان وكفتان كما ورد في حديث ، كائن (يَوْمَئِذٍ) أي يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة (الْحَقُ) العدل صفة لوزن (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالحسنات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨) الفائزون (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بالسيئات

____________________________________

كقوم لوط ، وقوله : (ومرة نهارا) أي كقوم شعيب. قوله : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي استغاثتهم وتضرعهم ، أو المراد قولهم على سبيل التحسر والتندم. قوله : (إِذْ جاءَهُمْ) ظرف لقوله : (دَعْواهُمْ). قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي إلا قولهم : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) والمعنى أنهم لم يقدروا على دفع العذاب عنهم ، وإنما ذلك تحسر وندامة طمعا في الخلاص.

قوله : (فَلَنَسْئَلَنَ) اللام موطئه لقسم محذوف ، والتقدير والله لنسألن ، وهذا إشارة لعذابهم في الآخرة ، إثر بيان عذابهم في الدنيا ، والمقصود من سؤال الأمم زيادة الأمم الافتضاح لهم ، ومن سؤال الرسل : رفع قدرهم ، وزيادة شرفهم ، وتبكيت الأمم حيث كذبوهم. قوله : (بِعِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال من فاعل نقصن ، والتقدير فلنقصن عليهم حال كوننا مصحوبين بعلم ، وهذا حيث سكتت الرسل عن الجواب ، (وقالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب). قوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) توكيد لما قبله. قوله : (فيما عملوا) في بمعنى عن ، أي عملوا. قوله : (وَالْوَزْنُ) مبتدأ ، وقوله : (يَوْمَئِذٍ) خبره ، و (الْحَقُ) نعته ، وهذا هو إعراب المفسر ، ويصح أن يكون (الْحَقُ) خبر المبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرف منصوب على الظرفية ، وهذا الوزن بعد أخذ الصحف والحساب ، ثم بعد الوزن يكون المرور على الصراط ، وهو مختلف باختلاف أحوال العباد. قوله : (للأعمال أو لصحائفها) هذا إشارة لقولين : فعلى الأول تصور الأعمال الصالحة بصورة نيرة حسنة وتوضع في كفة الحسنات ، وتصور الأعمال السيئة بصورة مظلمة قبيحة وتوضع في كفة السيئات ، وبقي قول ثالث : وهو أن الوزن للذوات لما في الحديث : «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة». قوله : (وكفتان) بكسر الكاف وفتحها في المثنى والمفرد والجمع ، كفف بالكسر لا غير.

قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الخ ، اعلم أن الناس في القيامة ثلاث فرق : متقون لا كبائر لهم ، ومخلطون ، وكفار ، فأما المتقون فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة ، وصغائرهم إن كانت لهم في الكفة الأخرى ، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنا ، وتكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر ، ويؤمر بهم إلى الجنة ، وينعم كل على حسب أعماله. وأما الكفار فإنهم يوضع كفرهم في الكفة المظلمة ، ولا توجد لهم حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة ، فيأمر الله بهم إلى النار ، وهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن صراحة في آيات الوزن. وأما الذين خلطوا ، فقد ثبت في السنة أن حسناتهم توضع في الكفة النيرة ، وسيئاتهم في الكفة المظلمة ، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بأقل قليل أو ساوت أدخلوا الجنة ، وإن كانت

٥١٢

(فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتصييرها إلى النار (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩) يجحدون (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) يا بني آدم (فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) بالياء أسبابا تعيشون بها جمع معيشة (قَلِيلاً ما) لتأكيد القلة (تَشْكُرُونَ) (١٠) على ذلك (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أي أباكم آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي صورناه أو أنتم في ظهره (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحية بالإنحناء

____________________________________

السيئات أثقل ولو بأقل قليل أدخلوا النار إلا أن يعفو الله ، هذا إن كانت كبائرهم فيما بينهم وبين الله. وأما إن كانت عليهم تبعات ، وكانت لهم حسنات كثيرة ، فإنه يؤخذ من حسناتهم فيرد على المظلوم ، وإن لم يكن لهم حسنات أخذ من سيئات المظلوم ، فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه ، ثم يعذب إلا أن يرضي الله عنه خصماءه. قوله : (بالحسنات) أي بسبب ثقلها في الميزان ، ورجحانها على السيئات. قوله : (بالسيئات) أي بسبب رجحانها على الحسنات. قوله : (بِما كانُوا) متعلق بخسروا ، وما مصدرية ، و (بِآياتِنا) متعلق بيظلمون قدم عليه للفاصلة ، وقوله : (يجحدون) أشار بذلك إلى أنه ضمن الظلم معنى الجحد فعداه بالباء.

قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) الخ لما بين سبحانه وتعالى عاقبة من استمر على الكفر ، ومن استمر على الإيمان ، ذكر ما أفاض عليهم من النعم الموجبة للشكر. قوله : (مَعايِشَ) (بالياء) أي باتفاق السبعة ، لأن الياء أصلية إذ هي جمع معيشة ، وأصلها معيشة بسكون العين وكسر الياء أو ضمها ، نقلت كسرة الياء إلى الساكن قبلها ، أو قلبت ضمة الياء كسرة ثم نقلت إلى ما قبلها ، وحيث كانت الياء في المفرد أصلية فإنها تبقى في الجمع ، وقرىء شذوذا بالهمزة تخريجا على زيادة الياء وأصالة الميم ، وأما إن كانت الياء في المفرد زائدة ، فإنها تكون في الجمع همزة ، كصحائف وصحيفة. قال ابن مالك :

والمد زيد ثالثا في الواحد

همزا يرى في مثل كالقلائد

قوله : (أسبابا تعيشون بها) أي تحيون فيها كالمأكل والمشرب وما به تكون الحياة. قوله : (لتأكيد القلة) أي زائدة لتأكيد القلة ، والمعنى أن الشاكر قليل ، قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) الخ تذكير لنعمة عظيمة على آدم ، سارية إلى ذريته موجبة لشكرها. قوله : (أي أباكم آدم) أي حين كان طيبا غير مصور. قوله : (أي صورناه) أي حين كان بشرا بتخطيطه وشق حواسه ، وإنما جعل المفسر الكلام على حذف مضاف لأجل أن يصح الترتيب بثم ، وإنما ينسب الخلق والتصوير للخاطبين إعطاء لمقام الامتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم بالرمز ، إلى أن لهم حظا من خلق أبيهم وتصويره ، لأنهما من الأمور السارية في الذرية جميعا. قوله : (أو أنتم في ظهره) هكذا في نسخة بأو ، وفي أخرى بالواو ، فعلى الأول يكون جوابا ثانيا. والحاصل أن الناس اختلفوا في (ثُمَ) في هذين الموضعين ، فمنهم من لم يلتزم فيها ترتيبا ، وجعلها بمنزلة الواو ، وأبقى الآية على ظاهرها ، ومنهم من قال هي للتريث الزماني ، وجعل الكلام على حذف مضاف في الخلق والتصوير. قوله : (سجود تحية بالانحناء) أشار بذلك إلى أن المراد السجود اللغوي وهو الانحناء ، كسجود إخوة يوسف وأبويه له ، وقد كان تحية للملوك في الأمم السابقة ، وعليه فلا إشكال ، وقال بعضهم : إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله وآدم قبلة كالكعبة ، ويحتمل أن السجود على ظاهره لآدم ، وقولهم إن السجود لغير الله كفر محله

٥١٣

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) أبا الجن كان بين الملائكة (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١) (قالَ) تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا) زائدة (تَسْجُدَ إِذْ) حين (أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي من الجنة وقيل من السماوات (فَما يَكُونُ) ينبغي (لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ) منها (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣) الذليلين (قالَ أَنْظِرْنِي) أخرني (إِلى يَوْمِ

____________________________________

إن كان من هوى النفس لا بأمر الله ، ونظير ذلك تعظيمنا مشاعر الحج فتأمل.

قوله : (فَسَجَدُوا) أي قبل دخول الجنة ، وأول من سجد : جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون ، واختلف في مدة السجود ، فقيل مائة سنة ، وقيل خمسمائة سنة ، وقيل غير ذلك. قوله : (أبا الجن) هذا أحد قولين ، والثاني هو أبو الشياطين ، فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد. قوله : (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، وأنه ليس من الملائكة ، قال في الكشاف : لما اتصف بصفات الملائكة جمع معهم في الآية واحتيج إلى استثنائه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وقال بعضهم إنه من الملائكة ، فالاستثناء متصل وقوله تعالى كان من الجن أي في الفعل ، والمعول عليه الأول.

قوله : (ما مَنَعَكَ) ما استفهامية للتوبيخ في محل رفع بالابتداء ، والجملة بعدها خبر ، و «أن» في محل نصب أو جر ، لأنها على حذف حرف الجر و (إِذْ) منصوب بتسجد ، والتقدير أي شيء منعك من السجود حين أمرتك. قوله : (زائدة) أي لتأكيد معنى النفي في منعك ، فهو كما في ص بحذفها وهو الأصل ، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا. قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) هذه الجملة لا محل لها من الإعراب ، لأنها كالتفسير والبيان لما قبلها من دعوى الخيرية.

فائدة : قال هنا : (ما مَنَعَكَ) ، وفي سورة الحجر قال : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) وفي سورة ص (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) الآية ، اختلاف العبارات عند الحكاية ، دل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاثة معاص : مخالفة الأمر ، ومفارقة الجماعة ، والاستكبار مع تحقير آدم ، وشبهة الخيرية أن النار جسم لطيف نوراني ، والطين جسم كثيف ظلماني ، وما كان لطيفا نورانيا ، خير مما كان كثيفا ظلمانيا ، ولما كان ما احتج به على ربه باطلا ، لكون الطين فيه منافع كثيرة وفوائد جمة ، ويتوقف عليه نظام العالم لاحتياجه اليه ، ولما ينشأ عنه من النبات والماء اللذين هما غذاء العالم السفلي ، والنار منافعها قليلة ، ولا يتوقف عليها نظام العالم ، لوجود كثير منه غير محتاج لها ، ولا لما يسوى بها ، رد عليه المولى بأشنع رد ، وأجابه بجواب السائل المتعنت المتكبر بقوله : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) الآية.

قوله : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) الفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من مخالفة اللعين. قوله : (أي من الجنة) أي وعليه فبقي في السماوات خارج الجنة. قوله : (وقيل من السموات) أي فلم يبق له استقرار في العالم العلوي أصلا. قوله : (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي ولا في غيرها ، ففي الكلام اكتفاء ، لأن الكبر مذموم مطلقا. قوله : (الذليلين) تفسير للصاغرين من الصغار ، وهو بالفتح الذل والضيم. قوله : (قالَ أَنْظِرْنِي) لما كره اللعين إذاقة الموت ، طلب البقاء والخلود إلى يوم البعث ، ومن المعلوم أن لا موت بعد ، فقصد استمرار

٥١٤

يُبْعَثُونَ) (١٤) أي الناس (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥) وفي آية أخرى (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي وقت النفخة الأولى (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي باغوائك لي والباء للقسم وجوابه (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي لبني آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) أي على الطريق الموصل إليك (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي من كل جهة فأمنعهم عن سلوكه قال ابن عباس ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) مؤمنين (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) بالهمزة معيبا أو ممقونا (مَدْحُوراً) مبعدا عن الرحمة (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) من الناس واللام للابتداء أو موطئة للقسم وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨) أي منك بذريتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب وفي الجملة معنى

____________________________________

الحياة في الدنيا والآخرة ، فأجابه الله لا على مراده ، بل أمهله إلى النفخة الأولى ، ولا نجاه له من الموت ولا من العذاب. قوله : (أي وقت النفخة الأولى) أي لا وقت النفخة الثانية التي طلبها اللعين.

قوله : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الخ غرضه بهذا أخذ ثأره منهم ، لأنه لما طرد ومقت بسببهم ، أحب أن ينتقم منهم أخذا بالثأر. قوله : (والباء للقسم) أي وما مصدرية ، وما بعدها مسبوك بها ، يشير له قول المفسر بإغوائك لي ، ويصح أن تكون للسببية. قوله : (أي على الطريق الخ) أشار به إلى أن صراط منصوب على نزع الخافض. قوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي من الجهات التي يعتاد الهجوم منها ، وهي الجهات الأربع ، ولذلك لم يذكر الفوق والتحت ، وأما الفوق فلكونه لما يمكنه أن يحول بين العبد ورحمة ربه ، كما قال ابن عباس ، وأما التحت فلكبره لا يرضى أن يأتي من ذلك ، ويكثر إتيانه من أمام وخلف ، ويضعف في اليمين واليسار لحفظ الملائكة ، وذكر بعضهم حكمة أخرى لعدم مجيئه من تحت ، لكون الآتي من تحت إنما يريد الازعاج ، وهو يريد التأليف للغاوية ، والأول أقرب ، وإنما عدى الفعل في الأولين بمن الابتدائية ، لأن شأن التوجه منهما بخلاف الأخيرين ، فالآتي منهما كالمنحرف لليسار. قوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) يحتمل أنه من الوجدان بمعنى اللقاء فيتعدى لواحد ، وشاكرين حال ، ويحتمل أنه بمعنى العلم فيتعدى لاثنين.

قوله : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) تأكيد لما تقدم ، ومذؤوم بالهمزة من ذأمه يذأمه ذأما إذا عابه ومقته ، أي أخرج ممقوتا معابا عليك. قوله : (مبعدا عن الرحمة) أي لأن الدحر الطرد والإبعاد ، يقال دحره يدحره دحرا ودحورا ، ومنه قوله تعالى : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً) وهما حالان من فاعل أخرج. قوله : (واللام للابتداء) أي داخلة على المبتدأ ، فمن اسم موصوف مبتدأ ، و (تَبِعَكَ) صلته ، و (مِنْهُمْ) متعلق بتبعك ، وقوله : (لَأَمْلَأَنَ) جواب قسم محذوف بعد قوله : (مِنْهُمْ) والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ. قوله : (أو موطئة للقسم) والتقدير والله لمن تبعك ، ومن اسم شرط مبتدأ ، ولأملأن جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة ، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. قوله : (وفيه تغليب الحاضر) أي وهو إبليس ، وقوله : (على الغائب) أي وهو الناس. قوله : (وفي الجملة) أي وهي : (لَأَمْلَأَنَ) وقوله : (معنى جزاء من) أي على كونها شرطية ، وتقديره أعذبه.

٥١٥

جزاء من الشرطية أي من تبعك أعذبه (وَ) قال (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ) تأكيد للضمير في اسكن ليعطف عليه (وَزَوْجُكَ) حواء بالمد (الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل منها وهي الحنطة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) إبليس (لِيُبْدِيَ) يظهر

____________________________________

قوله : (وَيا آدَمُ) تقدير المفسر قال يفيد أنه معطوف على : (اخْرُجْ) مسلط عليه عامله ، عطف قصة على قصة ، ويصح عطفه على قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) فيكون مسلطا عليه ، قلنا وربما كان هذا أقرب من حيث المناسبة ، والأول أقرب من حيث قرب المعطوف من المعطوف عليه ، وهذا القول يحتمل أنه واقع من الله مباشرة أو على لسان ملك. قوله : (تأكيد للضمير في اسكن) أي وليس هو الفاعل ، لأن فاعل فعل الأمر واجب الاستتار ، وقوله : (ليعطف عليه) (وَزَوْجُكَ) جواب عما يقال لم أتى بالضمير المنفصل. قوله : (حواء) سميت بذلك لأنها خلقت من حي وهو آدم ، وذلك أن آدم لما أسكن الجنة ، مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت من ضلعه القصير من شقه الأيسر ، ليسكن إليها ويأنس بها ، فلما استيقظ ورآها مال إليها ، فقالت له الملائكة : يا آدم حتى تؤدي مهرها ، فقال : وما مهرها؟ فقالوا : ثلاث صلوات أو عشرون صلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إن قلت : إن شرط المهر أن يكون متمولا ، وهذا ليس بمتمول. أجيب : بأن هذا الشرط في شرع محمد ، ولم يكن في شرع آدم ، وأيضا الآمر هو الله وهو يحكم لا معقب لحكمه ، وأيضا من خصائص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوج بلا مهر أصلا ، فلما كان هو الواسطة في ذلك ، عد كأنه هو العاقد لهما ، وإنما كان خصوص الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لكل أحد ، حتى أبيه آدم ، وأمر الله آدم بالسكون في الجنة ، قيل قبل دخول الجنة ، فتوجيه الخطاب لحواء باعتبار تعلق علم بها ، فإنها لم تكن خلقت إذ ذاك ، وقيل بعد الدخول وهو المعتمد ، وعليه فيكون المراد من الأمر بالسكون الاستمرار.

قوله : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي في أي مكان ، وفي الكلام حذف بعد من ، والأصل فكلا من ثمارها حيث شئتما ، وترك رغدا من هذا اكتفاء يذكره في البقرة ، وأتى بالفاء هنا ، وفي البقرة بالواو وتفننا وإشارة إلى أن كلا من الحرفين بمعنى الآخر ، وقيل إن الواو تفيد الجمع المطلق ، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب ، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو فلا منافاة ، وما ذكره شيخ الإسلام من الجواب بعيد ، كما تقدم لنا في البقرة فانظره. بقي شيء آخر وهو أنه وجه الخطاب أولا لآدم ، وثانيا لهما ، وحكمة ذلك أن حواء في السكنى تابعة لآدم ، فوجه الخطاب في السكنى لآدم ، وأما في الأكل من حيث شاءا ، والنهي عن قربان الشجرة فقد اشتركا فيه ، فلذا وجه الخطاب لهما معا.

قوله : (وَلا تَقْرَبا) يقال قربت الأمر أقربه من باب تعب ، وفي لغة من باب قتل ، قربانا بالكسر فعلته أو داينته ، وحينئذ يكون النهي عن القربان ، أبلغ من النهي عن الأكل بالفعل. قوله : (وهي الحنطة) وقيل الكرم ، وقيل التين ، وقيل البلح ، وقيل الأترج ، والمشهور ما قاله المفسر. قوله : (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي لأنفسهما. قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) الوسوسة : الحديث الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب الانسان على سبيل التكرار. إن قلت : إن الأنبياء معصومون من وسوسة الشيطان ، وظاهر الآية يقتضي أن الشيطان وسوس لآدم. أجيب : بأنه لم يباشر آدم بالوسوسة ، وإنما باشر حواء ، وهي باشرت آدم بذلك ، قال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال : أطعمتني

٥١٦

(لَهُما ما وُورِيَ) فوعل من المواراة (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا) كراهة (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) وقرىء بكسر اللام (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) أي وذلك لازم عن الأكل منها كما في آية أخرى (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (وَقاسَمَهُما) أي أقسم لهما بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١) في ذلك (فَدَلَّاهُما) حطهما عن منزلتهما (بِغُرُورٍ) منه

____________________________________

حواء ، قال لحواء : لم أطعمتيه؟ قالت : أمرتني الحية ، قال للحية : لم أمرتيها؟ قالت : أمرني إبليس ، قال الله : أما أنت يا حواء فلأدمينك كل شهر كما أدميت الشجرة ، وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وليشدخن رأسك كل من لقيك ، وأما أنت يا إبليس فملعون. إن قلت : كيف وسوس لهما وهو خارج الجنة؟ أجيب : بأن وسوسته وإن كانت خارج الجنة ، إلا أنها وصلت لهما بقوة جعلها الله له على ذلك ، أو أنه تحيل على دخول الجنة بدخوله في جوف الحية ووسوس لهما ، وقوله : (الشَّيْطانُ) من شاط بمعنى احترق ، أو من شطن بمعنى بعد ، قوله : (إبليس) أي من أبلس إبلاسا بمعنى يائس ، لأنه آيس من رحمة الله ، وقد تقدم في البقرة جملة أسمائه فانظرها.

قوله : (لِيُبْدِيَ لَهُما) هذا من جملة أغراضه في الوسوسة ، فتكون اللام للتعليل ، ويحتمل أنها للعاقبة ، وأن غرضه في الوسوسة خصوص غضب الله عليهما وطردهما من الجنة. قوله : (ما وُورِيَ عَنْهُما) أي غطى وستر عنهما ، واختلف في ذلك اللباس ، فقيل غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الأظفار في اليدين والرجلين ، تذكرة وزينة وانتفاعا ، ولذلك قالوا إن النظر للأظفار في حال الضحك يقطعه ، وقيل كان نورا ، وقيل كان من ثياب الجنة. قوله : (فوعل) أشار بذلك إلى أن الواو الثانية زائدة ، وحينئذ فلا يجب قلب الأولى همزة ، وإنما يجب لو كانت الثانية أصلية. قوله : (مِنْ سَوْآتِهِما) عورتهما سميت بذلك لأن كشفها يسيء صاحبها.

قوله : (وَقالَ ما نَهاكُما) معطوف على وسوس بيان له. قوله : (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بفتح اللام أي لم ينهكما عن الأكل منها إلا كراهة أن تكونا من الملائكة ، أو تكونا من الخالدين في الجنة فالمعنى الذي أدعاه لهما ، أن الأكل منها سبب لأن يكونا من الملائكة وسبب للخلود فيها. قوله : (كراهة) أفاد المفسر أن الاستثناء مفرغ وهو مفعول من أجله ، قدره البصريون : (إِلَّا) (كراهة) (أَنْ تَكُونا) الخ ، وقدره الكوفيون أن لا تكونا ، وتقدير البصريين أولى ، لأن إضمار الاسم أحسن من اضمار الحرف. قوله : (وقرىء بكسر اللام) أي شذوذا ، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فالملك بالضم يناسب الملك بالكسر. قوله : (أي وذلك) أي أحد الأمرين. وقوله : (لازم) أي ناشىء (عن الأكل منها) ، وقضية هذه الآية على قراءة الكسر ، عدم اجتماع الأمرين ، وقضية الآية الأخرى وهي (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) اجتماعهما ، وأجيب بأن أو بمعنى الواو ، وحكمة ترغيبهما في الملكية ، أن الملائكة خصوا بالقرب من العرش ، ولهم المنزلة عند الله.

قوله : (وَقاسَمَهُما) معطوف على (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) وإنما أقسم لهما لأجل تأكيد إضلاله ، فهو أول من حلف كاذبا ، بل هو أول من عصى الله مطلقا. قوله : (أي أقسم لهما بالله) أي وقبلا منه القسم ، فالمفاعلة باعتبار ذلك ، وإلا فالواقع أنها ليست على بابها ، لأن الحالف هو فقط. قوله : (في ذلك)

٥١٧

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي أكلا منها (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره وسمى كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) أخذا يلزقان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ليستترا به (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) بين العداوة والاستفهام للتقرير (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بمعصيتنا (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) (قالَ اهْبِطُوا) أي آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما

____________________________________

أي ما ذكر من كونهما يلحقان بالملائكة ويكونان من الخالدين. قوله : (فَدَلَّاهُما) التدلي النزول من أعلى لأسفل. قوله : (حطهما عن منزلتهما) أي الحسنة ، لأن غروره تسبب عنه نزولهما من الجنة إلى الأرض لا المعنوية ، بل رتبتهما عند الله لم تنقص بل ازدادت. قوله : (بِغُرُورٍ) الباء سببية ، والغرور تصوير الباطل بصورة الحق.

قوله : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) من الذواق وهو تناول الشيء ليعرف طعمه ، وفيه إشارة إلى أنهما لم يتناولا منها كثيرا ، لأن شأن من ذاق الشيء أن يقتصر على ما قل منه. قوله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي سقط عنهما لباسهما فبدت الخ. قوله : (ودبره) أي الآخر ، وأما دبر نفسه فلا يظهر له ، إلا إن التفت له وتعاناه. قوله : (يسوء صاحبه) أي يوقعه في السوء. قوله : (وَطَفِقا) من باب طرب ، أي شرعا وأخذا. قوله : (يَخْصِفانِ) من خصف النعل خرزه والمراد يلزقان بعضه على بعض لأجل الستر. قوله : (عَلَيْهِما) أي القبل والدبر. قوله : (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل ورق التين وقيل ورق الموز.

قوله : (ناداهُما رَبُّهُما) يحتمل على لسان ملك أو مباشرة. قوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما) إما تفسير للنداء فلا محل له من الاعراب ، أو مقول لقول محذوف ، والتقدير قائلا : (أَلَمْ أَنْهَكُما) الخ ، قوله : (وَأَقُلْ لَكُما) أي كما في آية طه : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الآية. قوله : (بين العداوة) لكما حيث امتنع من السجود له ، ورضي بالطرد والبعد. قوله : (استفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار ، والمعنى أقر بذلك على حد : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).

قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) هذا إخبار من الله عن آدم وحواء باعترافهما وندمهما على ما وقع منهما ، وإنما عاتبهما الله على ذلك ، وإن كان ليس بمعصية حقيقة ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وليس ذلك بقادح في عصمة آدم ، لأن المستحيل على الأنبياء تعمد المخالفة ، وأما الخطأ في الاجتهاد والنسيان الرحماني فهو جائز عليهم ، ونظير ذلك ما وقع في قصة ذي اليدين ، حيث سلم رسول الله من ركعتين ، فقال له ذي اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال : كل ذلك لم يكن ، فقال : بل بعض ذلك قد كان الحديث ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أنس ولكن أنسي لأسن» وحكمة الأكل من الشجرة ما ترتب على ذلك من وجود الخلق وعمارة الدنيا ، فأنساه الله لأجل حصول تلك الحكمة البالغة ، فمن نسب التعمد والتجرؤ لآدم فقد كفر ، كما أن من نفى عنه اسم العصيان فقد كفر لمصادمة آية : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فالمخلص من ذلك أن يقال إن معصيته ليست كالمعاصي ، وتقدم تحقيق هذا المقام في سورة البقرة فانظره.

قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) شرط حذف جوابه اكتفاء بجواب القسم. قوله : (بما اشتملتما عليه

٥١٨

(بَعْضُكُمْ) بعض الذرية (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) من ظلم بعضهم بعضا (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) مكان استقرار (وَمَتاعٌ) تمتع (إِلى حِينٍ) (٢٤) تنقضي فيه آجالكم (قالَ فِيها) أي الأرض (تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥) بالبعث بالبناء للفاعل والمفعول (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي خلقناه لكم (يُوارِي) يستر (سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) هو ما يتجمل به من الثياب (وَلِباسُ التَّقْوى) العمل الصالح والسمت الحسن بالنصب عطف على لباسا والرفع مبتدأ خبره جملة (ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) دلائل قدرته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) فيؤمنون فيه التفات

____________________________________

من ذريتكما) أي فهذا هو وجه الجمع في الآية ، وقيل إن الجمع باعتبار آدم وحواء والحية وإبليس. ويكون قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) باق على ظاهره لأن إبليس والحية عدو لآدم وحواء. قوله : (مكان استقرار) أي وهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان ، والمكان الذي يدفن فيه. قوله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) أصله تحييون كترضيون ، تحركت الياء الثانية وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. قوله : (بالبناء للفاعل الخ) أي في (تُخْرَجُونَ) وأما (تَحْيَوْنَ) و (تَمُوتُونَ) فللفاعل لا غير.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ) لما قدم قصة آدم وحواء وما أنعم به عليهما ، وفتنة الشيطان لهما خاطب أولاد آدم عموما بتذكير نعمه عليهم وحذرهم من اتباع الشيطان لأنه عدو لأبيهم ، والعداوة للآباء متصلة للأبناء. قوله : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي أنزلنا أسبابه من السماء وهو المطر ، فينشأ عنه النبات الذي يكون منه اللباس كالقطن والكتان ، وتعيش به الحيوانات التي يكون منها الصوف والشعر والوبر والحرير. قوله : (سَوْآتِكُمْ) أي عوراتكم ، أي فهو نعمة. قوله : (وَرِيشاً) معطوف على (لِباساً) وعبر عنه بالريش ، لأن الريش زينة الطائر ، كما أن اللباس زينة الآدميين ، والمعنى أن الله تعالى منّ على بني آدم بلباسين : لباسا يواري سوآتهم ، ولباسا ريشا أي زينة ، ويصح أن يكون معطوفا على : (يُوارِي) فيكون وصف اللباس بشيئين : كونه يواري سوآتكم ، وكونه زينة لكم ، ويؤخذ من الآية أن لبس لباس الزينة غير مذموم ، والمراد الزينة التي لم تخالف الشرع وهذا إن صح القصد بأن لم يقصد الفخر ولا العجب بها ، كما أن التقشف في اللباس غير مذموم إن كان خاليا من الأغراض الفاسدة ، بأن لم يقصد به دعوى الولاية أو إظهار الفقر لأجل أن يتصدق عليه ، وبالجملة فالمدار على حسن القصد تجمل بالثياب أو تخشن فيها ، وفي هذا المعنى قال بعضهم :

ليس التصوف لبس الصوف والخلق

بل التصوف حسن الصمت والخلق

فالبس من اللبس ما تختار أنت وقم

جنح الظلام وأجر الدمع في الغسق

قرب لابس الديباج مشغله

حب الذي خلق الإنسان من علق

وكم فتى لابس للخيش تحسبه

تاج وذلك عند العارفين شقي

فإن ذلك لم يحجبه ملبسه

وذا مع اللبس مأسور فلم يفق

قوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) أي الناشىء عنها أو الناشئة عنه. قوله : (العمل الصالح) أي المنجي من العذاب ، لأن الإنسان يكسى من عمله يوم القيامة. قوله : (خبره جملة) (ذلِكَ خَيْرٌ) أي فاسم الإشارة مبتدأ ثان ، وخير خبره ، والجملة من المبتدأ الثاني ، وخبره خبر الأول ، واسم الإشارة عائد على قوله :

٥١٩

عن الخطاب (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ) يضلكم (الشَّيْطانُ) أي لا تتبعوه فتفتنوا (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) بفتنته (مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ) حال (عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ) أي الشيطان (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) جنوده (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) للطافة أجسادهم أو عدم ألوانهم (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ

____________________________________

(وَلِباسُ التَّقْوى) وإنما كان خيرا لأنه يستر من فضائح الآخرة ، وفي الحديث : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» فإذا كان كذلك ، فينبغي للإنسان أن يشتغل بتحسين ظاهره بالأعمال الصالحة ، وباطنه بالإخلاص ، فإنه محل نظر الله منه ، ولذلك قال العارف البكري : إلهي زين ظاهري بامتثال ما أمرتني به ونهيتني عنه ، وزين سري بالأسرار وعن الأغيار فصنه. قوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) اسم الإشارة عائد على اللباس المنزل بأقسامه. قوله : (فيه التفات عن الخطاب) أي وكان مقتضى الظاهر لعلكم تذكرون ، ونكتته دفع الثقل في الكلام.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ) لما ذكرهم نعمة اللباس ، نبههم على أن الشيطان حسود وعدو لهم ، كما أنه عدو لأبيهم. قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) هو نهي له صورة ، وفي الحقيقة نهي لبني آدم عن الاصغاء لفتنته واتباعه ، فليس المراد النهي عن تسلطه ، إذ لا قدرة لمخلوق على منع ذلك ، لأنه قضاء مبرم ، بل المراد النهي عن الميل إليه ، وإلى ذلك أشار المفسر بقوله : (أي لا تتبعوه فتفتنوا). قوله : (كَما أَخْرَجَ) الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف ، وما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر ، والتقدير فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ، والجامع بينهما زوال النعم في كل. قوله : (أَبَوَيْكُمْ) أي آدم وحواء. قوله : (بفتنته) الباء سببية. قوله : (حال) أي من (أَبَوَيْكُمْ) أو من ضمير (أَخْرَجَ) وكل صحيح ، فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان ، وإسناد النزع اليه باعتبار كونه سببا فيه ، والنزع أخذ الشيء بسرعة وقوة ، ومنه قوله تعالى : (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) ، وفيه إشارة إلى أن من اتبع الشيطان ، تزول نعمه بسرعة وقوة. وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضارا للصورة العجيبة.

قوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ) تعليل للتحرز من الشيطان اللازم للنهي ، كأنه قيل : فاحذروه لأنه يراكم الخ. قوله : (وَقَبِيلُهُ) معطوف على الضمير المتصل في (يَراكُمْ) واتى بالضمير المنفصل ، وإن كان قد حصل الفصل بالكاف زيادة في الفصاحة ، والقبيل اسم لما اجتمع من شتات الخلق ، ولذلك فسره بالجنود ، والقبيلة الجماعة من أب واحد. قوله : (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ مِنَ) ابتدائية ، و (حَيْثُ) ظرف مكان ، التقدير إنه يراكم رؤية مبتدأة من مكان لا ترونهم فيه. قوله : (للطافة أجسادهم) فأجسامهم كالهواء ، نعلمه ونتحققه ولا نراه للطافته وعدم تلونه ، هذا وجه عدم رؤيتنا لهم. وأما وجه رؤيتهم لنا فكثافة أجسادنا وتلوننا ، وأما رؤية بعضهم لبعض فحاصلة لقوة في أبصارهم. وهذا حيث كانوا بصورتهم الأصلية ، وأما إذا تصوروا بغيرها فتراهم ، لأن الله جعل لهم قدرة على التشكيل بالصورة الجميلة أو الخسيسة ، وتحكم عليهم الصورة كما في الأحاديث الصحيحة. فالآية ليست على عمومها والفرق بينهم وبين الملائكة ، أن الملائكة لا يتشكلون إلا في الصور الجميلة ولا تحكم عليهم بخلاف الجن وقد ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وجعلت صدر بني آدم مساكن لهم ، إلا من عصمه الله ، كما قال تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) فهم يرون بني آدم ، وبنو آدم لا يرونهم. قال

٥٢٠