حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) القرآن (مُفَصَّلاً) مبينا فيه الحق من الباطل (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) التوراة كعبد الله بن سلام وأصحابه (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ) بالتخفيف والتشديد (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤) الشاكين فيه والمراد بذلك التقرير للكفار أنه حق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالأحكام والمواعيد (صِدْقاً وَعَدْلاً) تمييز (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) بنقض أو خلف (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقال (الْعَلِيمُ) (١١٥) بما يفعل (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي الكفار (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (إِنْ) ما (يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في مجادلتهم لك في أمر الميتة إذا قالوا ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم (وَإِنْ) ما (هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١١٦) يكذبون في

____________________________________

بمرة ، أو لأن الحكم لا يجوز أصلا ، والحاكم قد يجور. قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) الجملة حالية كأنه قال : أفغير الله أطلب حكما ، والحال أن الله هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، فالذي يشهد لي هو القرآن ، وأما الكتب القديمة فإنها وإن كانت تشهد له أيضا ، لكن لما غيروا وبدلوا ، صارت غير معول عليها. قوله : (وأصحابه) أي ممن أسلم من علماء اليهود.

قوله : (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي الكتاب. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان ، قوله : (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف حال ، والتقدير أنه منزل من ربك حال كونه متلبسا بالحق. قوله : (والمراد بذلك التقرير الخ) دفع بذلك ما يقال إن الشك مستحيل على النبي ، فكيف ينهى عما يستحيل وصفه به ، فأجاب بما ذكر ، وأجيب أيضا بأنه من باب التعريض للكفار بأنهم هم الممترون ، فالخطاب له والمراد غيره.

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي القرآن وفيها قراءتان : الجمع والإفراد ، فالجمع ظاهر ، والإفراد على إرادة الجنس والماهية ، وترسم بالتاء المجرورة على كل من القراءتين ، وهكذا كل ما قرىء بالجمع والإفراد إلا موضعين : أحدهما في يونس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وثانيهما في غافر في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) فاختلف فيها المصاحف ، فبعضهم بالتاء المجرورة ، وبعضهم بالتاء المربوطة. قوله : (بالأحكام والمواعيد) راجع لقوله : (صِدْقاً وَعَدْلاً) على سبيل اللف والنشر المشوش ، ولو أخره لكان أحسن ، والمعنى : تمت كلمات ربك من جهة الصدق ، كالأخبار والمواعيد ، والعدل كالأحكام فلا جور فيها ، وهذا إخبار من الله بحفظ القرآن من التغيير والتبديل ، كما وقع في الكتب المتقدمة ، وذلك سر قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ). قوله : (تمييز) أي على التوزيع ، أي صدقا في مواعيده وعدلا في أحكامه ، ويصح أن يكون حالا من ربك ، ويؤول المصدر باسم الفاعل ، أي حال كونه صادقا وعادلا. قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) هذا كالتوكيد لقوله : (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، وقوله : (بنقض أو خلف) راجع لقوله : (صِدْقاً وَعَدْلاً) على سبيل اللف والنشر المرتب. قوله : (أي الكفار) تفسير للأكثر.

قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) قدر المفسر ما إشارة إلى أن إن نافية بمعنى ما. قوله : (إذ قالوا الخ) إشارة لسبب نزول هذه الآية وما بعدها ، وذلك أن المشركين قالوا للنبي : أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال :

٤٨١

ذلك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) أي عالم (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧) فيجازي كلا منهم (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي ذبح على اسمه (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (١١٨) (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) من الذبائح (وَقَدْ فَصَّلَ) بالبناء للمفعول وللفاعل في الفعلين (لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) في آية حرمت عليكم الميتة (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) منه فهو أيضا حلال لكم المعنى لا مانع لكم من أكل ما ذكر وقد بين لكم المحرم أكله وهذا ليس منه (وَإِنَ

____________________________________

الله قتلها. قالوا : أنت تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتلها الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام ، فكيف تدعون أنكم تعبدون الله ولا تأكلون ما قتله ربكم؟ فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم. قوله : (إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص في الأصل الحزر والتخمين ، ومنه خرص النخلة ، وقوله : (يكذبون) سمى الخرص كذبا لأن فيه تتبع الظنون الكاذبة. قوله : (في ذلك) أي في قولهم ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم. قوله : (أي عالم) دفع بذلك ما يقال إن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه ، فأجاب : بأن اسم التفضيل مؤول اسم الفاعل. وأجيب أيضا : بأن قوله : (مَنْ يَضِلُ) مفعول لمحذوف تقديره يعلم من يضل ، أو منصوب بنزع الخافض ، والتقدير بمن يضل يدل عليه قوله بعد (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هذا رد لقولهم المتقدم ، فإن الميتة لم يذكر عليها اسم الله ، فعند مالك الوجوب مع الذكر ، وعند الشافعي السنية ، والمراد بذكر اسم الله هنا ، عدم ذكر اسم غيره كالأصنام ، ليدخل ما إذا نسي التسمية فإنها تؤكل ، وسيأتي إيضاح ذلك. قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) هذا تأكيد لإباحة ما ذبح على اسم الله ، وما اسم استفهام مبتدأ ، ولكم خبره ، والتقدير أي شيء ثبت لكم في عدم أكلكم الخ.

قوله : (وَقَدْ فَصَّلَ) أي بين وميز ، والواو للحال. قوله : (بالبناء للمفعول وللفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وبقي ثالثة ، وهي بناء الأول للفاعل ، والثاني للمفعول. قوله : (في الفعلين) أي فصل وحرم. قوله : (في آية حرمت عليكم الميتة) أي التي ذكرت في المائدة ، وفي المقام إشكال أورده فخر الدين الرازي ، وهو أن سورة الأنعام مكية ، وسورة المائدة مدنية ، من آخر القرآن نزولا بالمدينة. وأجيب : بأن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول ، فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة عليها لسبقية علم الله بذلك ، وقال بعضهم : الأولى أن يقال وقد فصل لكم الخ. أي في قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية ، وهذه وإن كانت مذكورة بعد ، إلا أنه لا يمنع الاستدلال بها للاتحاد في وقت النزول.

قوله : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء منقطع ، لأن ما اضطر إليه ليس داخلا في المحرم. قوله : (فهو أيضا حلال لكم) أي وهل يشبع ويتزود منها ، ويقتصر على ما يسد الرمق ، خلال بين العلماء. قوله : (المعنى لا مانع الخ) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (وهذا ليس منه) أي من المحرم ، وأما ما لم ينص على حرمته ولا حله من قبيل الحل ، لأنه ذكر أشياء واستثنى الحرام منها ، فالحرام معدود معروف ، فمثل القهوة والدخان غير محرم ، إلا أن يطرأ له ما يحرمه ، كالاسراف وتغييب العقل. وحاصل

٤٨٢

كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) بفتح الياء وضمها (بِأَهْوائِهِمْ) بما تهواه أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعتمدونه في ذلك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩) المتجاوزين الحلال إلى الحرام (وَذَرُوا) اتركوا (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) علانيته وسره والإثم قيل الزنا وقيل كل معصية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١٢٠) يكتسبون (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) بأن مات أو ذبح على اسم غيره وإلا فما ذبحه المسلم ولم يسم فيه عمدا أو

____________________________________

ذلك أن يقال : إن اعتاد ذلك وصار دواء فهو جائز ، ولكن بقدر الضرورة ، وإن كان يضر جسمه أو يسرف فيه فهو حرام ، وإن اشتغل به عن عبادة مندوبة فهو مكروه ، فكثرته إما حرام أو مكروه. قوله : (بفتح الياء) أي من ضل اللازم ، بمعنى قام به الضلال في نفسه ، وقوله : (وضمها) أي من أضل الرباعي ، بمعنى أوقع غيره في الضلال. قوله : (بِأَهْوائِهِمْ) الباء سببية ، وفي قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال ، والمعنى يضلون في أنفسهم ، أو يوقعون غيرهم في الضلال ، بسبب اتباعهم أهواءهم ، ملتبسين بغير علم. قوله : (وغيرها) أي كالدم ولحم الخنزير ، إلى آخر ما ذكر في آية المائدة. قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي فيجازيهم على اعتدائهم.

قوله : (وَذَرُوا) الأمر للمكلفين من الإنس والجن وهو للوجوب. قوله : (علانيته وسره) لف ونشر مرتب. قوله : (قيل الزنا) أي وكان العرب يحبونه ، وكان الشريف منهم يستحي من إظهاره فيفعله سرا ، وغير الشريف لا يستحي من ذلك فيظهره ، فأنزل الله تحريمه ظاهرا وباطنا. قوله : (وقيل كل معصية) أي فالظاهر منها : كالزنا والسرقة وبقية معاصي الجوارح الظاهرية ، والباطن منها : كالكبر والحقد والحسد والعجب والرياء وحب الرياسة وغير ذلك من المعاصي القلبية ، وهذا التفسير هو الأقرب ، وإن كان الأول موافقا لسبب النزول ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (سَيُجْزَوْنَ) (في الآخرة) أي بالعذاب الدائم إن كان مستحلا ، أو بالعذاب مدة ، ويخرج إن لم يكن مستحلا ، ومات من غير توبة ولم يعف الله عنه ، فإن تاب الكافر قبل قطعا ، وإن تاب المسلم فقيل كذلك ، وقيل تقبل ظنا. إن قلت : لأي شيء اختلف في توبة المسلم دون الكافر؟ وأجيب : بأن رحمة الله سبقت غضبه ، فلو جاز عدم القبول لتوبة الكافر ، لكان مخلدا في النار ، مع أن رحمته غلبت غضبه. وأما المؤمن فهو مقطوع له بالجنة ، فلو لم يقبل توبته وعذبه ، فلا بد له من الرحمة ، انتهاء غاية ما هناك عذابه تطهير له.

قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اختلف في تفسير هذه الآية ، فقال بعض المجتهدين غير الأربعة : الآية عامة في كل شيء ، فأي شيء لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله ، وقال بعضهم : الآية مخصوصة بالذبيحة ، فمن ترك التسمية عمدا أو نسيانا لا تؤكل ذبيحته ، وقال بعضهم : إن تركها عمدا لا تؤكل ، وإن تركها نسيانا أو عجزا كخرس أكلت ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، وقال بعضهم : التسمية سنة ، فإن تركها عمدا أو نسيانا أكلت ، وبه قال الإمام الشافعي ، وعن الإمام أحمد روايتان : الأولى يوافق فيها مالكا ، والثانية يوافق فيها الشافعي ، إذا علمت ذلك فمحمل الآية ما أهل به لغير الله فقط ، لأنه المفسر به الفسق فيما يأتي في قوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ). وأما حكم الميتة فمعلوم من غير هذا الموضع ، وحملها المفسر عليهما معا وهما طريقتان. قوله : (أو ذبح على اسم غيره) أي

٤٨٣

نسيانا فهو حلال قاله ابن عباس وعليه الشافعي (وَإِنَّهُ) أي الأكل منه (لَفِسْقٌ) خروج عما يحل (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) يوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الكفار (لِيُجادِلُوكُمْ) في تحليل الميتة (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) فيه (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١) ونزل في أبي جهل وغيره (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالكفر (فَأَحْيَيْناهُ) بالهدى (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان (كَمَنْ مَثَلُهُ) مثل زائدة أي كمن هو (فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) وهو الكافر لا (كَذلِكَ)

____________________________________

وإن لم يذكر اسم غير الله ، وأما الكتابي إذا لم يذكر اسم الله ولم يهل به لغيره ، فإنها تؤكل ، فإن جمع الكتابي بين اسم الله واسم غيره أكلت ذبيحته عند مالك ، لأن اسم الله يعلو ولا يعلى عليه ، وأما المسلم إن جمع بينهما على وجه التشريك في العبودية ، فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته. قوله : (وعليه الشافعي) أي فالتسمية عنده سنة. قوله : (أي الأكل منه) أي المفهوم من لا تأكلوا على حد (أعدلوا هو الأقرب للتقوى) أي العدل المفهوم من اعدلوا.

قوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ) أي إبليس وجنوده من الجن. قوله : (الكفار) أي وهم شياطين الإنس. قوله : (لِيُجادِلُوكُمْ) تعليل (لَيُوحُونَ) وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال : الله قتلها ، قال : أتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتله الله حرام فنزلت. قوله : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي لأن من أحل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك ، لأنه أثبت حاكما غير الله ، ولا شك أنه إشراك. قوله : (وغيره) أي كعمر بن الخطاب أو حمزة أو عمار بن ياسر أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن العبرة بعموم اللفظ فهذا المثل للكافر والمسلم ، وسبب نزولها على القول بأنها في أبي جهل وحمزة ، أن أبا جهل رمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفرث ؛ فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس ، وحمزة لم يكن مؤمنا إذ ذاك ، فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل وجعل يضربه بالقوس ، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول : يا أبا يعلى ألا ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، وخالف أباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم عقولا تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فأسلم حمزة يومئذ فنزلت الآية.

قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف تقديره أيستويان ، ومن كان ميتا الخ ، ومن اسم شرط مبتدأ ، وكان فعل الشرط واسمها مستتر ، وميتا خبرها وقوله : (فَأَحْيَيْناهُ) جواب الشرط ، وقوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ) خبر المبتدأ. قوله : (بالهدى) أي الإيمان. قوله : (مثل زائدة) أي لأن المثل هو الصفة ، والمستقر في الظلمات ذواتهم لا صفاتهم. قوله : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) هذا إخبار من الله بعدم إيمان أبي جهل رأسا ، ولكن تقدم أن العبرة بعموم اللفظ. قوله : (لا) أي لا يستويان ، وأشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (كما زين للمؤمنين الإيمان) أي لقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ). قوله : (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والمزين لهم حقيقة هو الله ، ويصح نسبة التزيين إلى الشياطين من حيث الإغواء والوسوسة.

قوله : (وَكَذلِكَ) الكاف اسم بمعنى مثل ، والمعنى ومثل ما جعلنا في مكة كبراءها وعظماءها المجرمين ، جعلنا في كل قرية كبراءها وعظماءها مجرميها ، فذلك سنة الله أنه جعل أول من يقتدي بالرسل

٤٨٤

كما زين للمؤمنين الإيمان (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) من الكفر والمعاصي (وَكَذلِكَ) كما جعلنا فساق مكة أكابرها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) بالصد عن الإيمان (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن وباله عليهم (وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣) بذلك (وَإِذا جاءَتْهُمْ) أي أهل مكة (آيَةٌ) على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) به (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من الرسالة والوحي إلينا لأنا أكثر مالا وأكبر سنا قال تعالى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ

____________________________________

الضعفاء والمعارضين المنكرين الكبراء ، ليكون عز الرسل بربهم ظاهرا وباطنا ، وكل آية وردت في ذم الكفار تجر بذيلها على عصاة المؤمنين ، فإن المباشر للظلم والفجور أكابر كل قرية ومدينة كما هو مشاهد. قوله : (فساق مكة) هو معنى مجرميها ، وحل المفسر يفيد أن مجرميها مفعول أول مؤخر ، وأكابر مفعول ثان مقدم ، وفي كل قرية ظرف لغو متعلق بجعلنا ، وهو أحد أعاريب أربعة ، الثاني : أن قوله في كل قرية مفعول ثان مقدم ، وأكابر مفعول أول مؤخر وهو مضاف لمجرميها ، وأخر المفعول الأول لأن فيه ضميرا يعود على المفعول الثاني ، فلو قدم لعاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، وقد أشار ابن مالك لذلك بقوله :

كذا إذا عاد عليه مضمر

مما به عنه مبينا يخبر

فيصير المعنى وكذلك جعلنا عظماء المجرمين كائنين في كل قرية. الثالث : أن في كل مفعول ثان ، وأكابر مفعول أول ، ومجرميها بدل من أكابر ، ولم يضف لئلا يلزم عليه إضافة الصفة للموصوف وهو لا يجوز عند البصريين. الرابع : أن أكابر مفعول أول مضاف لمجرميها ، وفي كل قرية ظرف لغو متعلق بجعلنا ، والمفعول الثاني محذوف تقديره فساقا ، ورد بأن هذا التقدير لا فائدة فيه ولا محوج له ، فالأحسن الثلاثة الأول. قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) اللام إما لام العاقبة والصيرورة نظير (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، أو لام العلة بمعنى الحكمة ، وأما قولهم تنزه الله عن العلة ، فمعناه العلة الباعثة على الفعل ليتكمل به ، وأما الحكم فلا تخلو أفعال الله عنها ، (سبحانك ما خلقت هذا عبثا) والمكر والخديعة والحيلة والغدر والفجور وترويج الباطل ، وهذه الأشياء لا تقبل عادة إلا من الكبراء. قوله : (بالصد عن الإيمان) أي لما ورد أن كل طريق من طرق مكة كان يجلس عليه أربعة ، يصرفون الناس عن الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقولون هو كذاب ساحر كاهن. قوله : (لأن وباله عليهم) أي وبال مكرهم لاحق بهم ، قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وقال أيضا : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) الآية. قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) (بذلك) أي لم يعلموا بأن وباله عليهم.

قوله : (إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) نزلت في الوليد بن المغيرة حيث قال للنبي : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك ، لأني أكبر سنا وأكثر منك مالا ، وقيل في أبي جهل حيث قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف ، حتى صرنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. قوله : (آيَةٌ) أي معجزة ، كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، ونبع الماء. قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ) أي نصدق برسالته. قوله : (مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال بعضهم : يسن الوقف عليه هنا ، ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين ، وذكر بعضهم له دعاء مخصوصا وهو : اللهم من الذي دعاك فلم تجبه ، ومن الذي استجارك فلم تجره ، ومن الذي سألك فلم تعطه ، ومن الذي استعان بك فلم تعنه ،

٤٨٥

رِسالَتَهُ) بالجمع والإفراد وحيث مفعول به لفعل دل عليه أعلم أي يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه فيضعها وهؤلاء ليسوا أهلا لها (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بقولهم ذلك (صَغارٌ) ذل (عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤) أي بسبب مكرهم (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بأن يقذف في قلبه نورا فينفسح له ويقبله كما ورد في حديث (وَمَنْ يُرِدْ) الله

____________________________________

ومن الذي توكل عليك فلم تكفه ، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه ، بك أستغيث ، أغثني يا مغيث ، واهدني هداية من عندك ، واقض حوائجنا ، واشف مرضانا ، واقض ديوننا ، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ، بحق القرآن العظيم ، والرسول الكريم ، برحمتك يا أرحم الراحمين اه. قوله : (قال تعالى) أي ردا عليهم. قوله : (لفعل دل عليه أعلم) دفع بذلك ما يقال من أن حيث مفعول به وليست ظرفا ، لأنها كناية عن الذات التي قامت بها الرسالة ، واسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، فأجاب بما ذكر. وأجيب أيضا : بأن اسم التفضيل ليس على بابه بل هو مؤول باسم الفاعل وهذا أولى ، لأن ما لا تقدير فيه خير مما فيه تقدير ، وأيضا يدفع توهم المشاركة بين علم القديم والحادث ، والحاصل أن اسم التفضيل في أسماء الله وصفاته ، كأكرم وأعلم وأعظم وأجل ليس على بابه. قوله : (والموضع الصالح لوضعها فيه) أي الذات تستحق الرسالة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي وماتوا على الكفر.

قوله : (صَغارٌ) كسحاب مصدر صغر كتعب ، معناه الذل والهوان ، وأما الصغر ضد الكبر ، فيقال فيه صغر بالضم فهو صغير. قوله : (عِنْدَ اللهِ) إما ظرف ليصيب أو لصغار ، والعندية مجازية كناية عن الحشر ، والوقوف بين يديه ، والحساب والجزاء. قوله : (أي بسبب مكرهم) أشار بذلك إلى أن الياء سببية وما مصدرية.

قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) أعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل خلقه في الأزل قسمين : شقي وسعيد ، وجعل لكل أمة علامة تدل عليه ، فعلامة السعادة شرح الصدر للإسلام ، وقبوله لما يرد عليه من النور والأحكام ، وعلامة الشقاوة ضيق الصدر ، وعلامة قبوله لذلك ، وجعل لكل قسم في الآخرة دار يسكنونها ، فلأهل السعادة الجنة ونعيمها ، ولأهل الشقاوة النار وعذابها ، لما في الحديث «إن الله خلق خلقا وقال هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وخلق خلقا وقال هؤلاء للنار ولا أبالي» فذكر في هذه الآية علامة كل قسم ، فإذا رزق الله العبد شرح الصدر وأسكنه حلاوة الإيمان ، فليعلم أن الله أعظم عليه النعمة. وبضدها تتميز الأشياء. ومن اسم شرط ، ويرد فعل الشرط ، ويشرح جوابه. قوله : (يَهْدِيَهُ) أي يوصله للمقصود ، وليس المراد الدلالة لأنها هي شرح الصدر.

قوله : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) الشرح في الأصل التوسيع ، والمراد هنا لازمه ، وهو أن يقذف الله في قلب الشخص النور ، حتى تكون أحواله مرضية لله ، لأنه يلزم من الوسع قبول ما يحل فيه. قوله : (كما ورد في حديث) أي وهو أنه لما نزلت هذه الآية ، سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرح الصدر فقال : هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له وينفتح ، قيل فهو لذلك أمارة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ، وفي رواية قبل لقى الموت.

٤٨٦

(أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) بالتخفيف والتشديد عن قبوله (حَرَجاً) شديد الضيق بكسر الراء صفة وفتحها مصدر وصف به مبالغة (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) وفي قراءة يصاعد وفيهما إدغام التاء في الأصل في الصاد في أخرى بسكونها (فِي السَّماءِ) إذا كلف الإيمان لشدته عليه (كَذلِكَ) الجعل (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) العذاب أو الشيطان أي يسلطه (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥) (وَهذا) الذي أنت عليه يا محمد (صِراطُ) طريق (رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه ونصبه على الحال المؤكدة للجملة والعامل فيها معنى الإشارة (قَدْ فَصَّلْنَا) بينا (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) فيه إدغام

____________________________________

قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي يمنعه عن الوصول ، ويسكنه دار العقاب ، ويطرده عن رحمته ومن اسم شرط ، ويرد فعل الشرط ، ويجعل جوابه ، وجعل بمعنى صير ، فصدره مفعول أول ، وضيقا مفعول ثان ، وحرجا صفته. والمعنى : أن من أراد الله شقاوته ، وطرده عن رحمته ، ضيق قلبه ، فلا يقبل شيئا من أصول الإسلام ولا من فروعه ، ولو قطع إربا إربا ، وعلامة ذلك إذا ذكر التوحيد نفر قلبه واشمأز ، وإن نطق بلسانه كأهل النفاق ، قال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الآية. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي كميت وميت قراءتان سبعيتان. قوله : (شديد الضيق) أي زائدة ، فلا يقبل شيئا من الهدى أصلا. قوله : (بكسر الراء صفة) أي اسم فاعل كفرح فهو فرح. قوله : (وصف به مبالغة) أي أو على حذف مضاف ، أي ذا حرج على حد زيد عدل.

قوله : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) أي يتكلف الصعود فلا يستطيعه. قوله : (وفيهما إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها صادا فأصل الأولى يتصعد ، وأصل الثانية يتصاعد ، وهاتان القراءتان مع تشديد ضيقا ، وكسر راء حرجا أو فتحها. وأما قوله : (وفي أخرى بسكونها) فهي قراءة من خفف ضيقا ويفتح حرجا فالمخفف للمخفف ، والمشدد للمشددة. قوله : (لشدته عليه) أي لتعسر الإيمان عليه ، فإن القلب بيد الله يسكن فيه أي الأمرين شاء ، وليس مملوكا لصاحبه ، وحينئذ فلا ينبغي له أن يأمن لما هو في قلبه من الإيمان ومحبة الله ورسوله ، ومن هنا علمنا الله طلب الهداية على سبيل الدوام مع كونها حاصلة بقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)وبقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الآية ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». ولذا خاف العارفون ولم يسكنوا إلى علم ولا عمل ، لما علموا أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، ولا يأمنون حتى تقبض أرواحهم على الإيمان ، ولكن شأن الكريم ، أن من تمم له نعمة الإيمان لا يسلبها منه ، لأنه وعد منه وهو لا يخلف. قوله : (أي يسلطه) أي الشيطان وهو تفسير للجعل على التفسير الثاني ، وأما تفسيره على الأول فمعناه يلقى ويصيب. قوله : (الذي أنت عليه) أي وهو الإسلام. قوله : (صِراطُ رَبِّكَ) شبه دين الإسلام بالصراط المستقيم لا اعوجاج فيه ، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. قوله : (ونصبه على الحال المؤكدة للجملة) المناسب أن يقول المؤكدة لصراط ، لأن الحال المؤكدة للجملة عاملها مضمر ، قال ابن مالك :

وإن تؤكد جملة فمضمر

عاملها ولفظها يؤخر

فينافيه قوله : (والعامل فيها معنى الإشارة). قوله : (معنى الإشارة) المناسب أن يقول : والعامل

٤٨٧

التاء في الأصل في الذال أي يتعظون وخصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أي السلامة وهي الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧) (وَ) اذكر (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) بالنون والياء أي الله الخلق (جَمِيعاً) ويقال لهم (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)

____________________________________

فيها اسم الإشارة ، باعتبار ما فيه من معنى الفعل وهو أسير. قوله : (فيه إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها ذالا. قوله : (وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون) أي المؤتمرون بأمره ، المنتهون بنهيه ، وهم الصالحون المتقون ، فبقاء القرآن دليل على بقاء جماعة على قدم النبي بدليل هذه الآية (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) ولا عبرة بمن يقول عدمت الصالحون ، وربما قال أنا لم أر أحدا منهم. فقد قال ابن عطاء الله : أولياء الله عرائس مخدرة ، ولا يرى العرائس المجرمون.

قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) الجار والمجرور خبر مقدم ، ودار السّلام مبتدأ مؤخر ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره وما جزاء من ينتفع بالذكرى ، فأجاب بقوله لهم دار السّلام ، ويحتمل أن يكون حالا من القوم أو صفة لهم ، والتقدير قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ، حال كونهم لهم دار السّلام ، أو موصوفين بكونهم لهم دار السّلام. قوله : (أي السلامة) أي من جميع المخاوف والمكاره ، لأن بدخولها يحصل الأمن التام من جميع المكاره حتى الموت ويصح المراد بالسلام التحية الواقعة من الله والملائكة ، قال تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) وقال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). قوله : (وهي الجنة) أشار بذلك إلى أن المراد بدار السّلام ما يعمل باقي الجنان ، وليس المراد خصوص الدار المسماة بدار السّلام.

قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) العندية عندية شرف ، بمعنى أنها منسوبة لله خاصة وليس لأحد فيها منة ، أو المعنى أن من دخلها كان في حضرة ربه ، لا يشهد شيئا سواه ، ولا يحجب بنعيمها عن مولاه ، بل كلما ازداد من الجنة نعيما ، ازداد قربا من الله ، وزالت الحجب عن قلبه بخلاف الدنيا ، إذا اشتغل بشيء من زينتها بعد عن الله ، فلكما ازداد فيها شغلا ، ازداد فيها بعدا عن الله ، فلا يخلص منها إلا من جاهد نفسه وخرج عن هواه. قوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) الجملة حالية ، والمعنى ناصرهم ومتولي أمورهم ، وقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الباء سببية وما مصدرية ، والتقدير بسبب عملهم السابق ، تولاهم وأدخلهم حضرة قربه. قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) يوم ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر. قوله : (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي الله) تفسير للضمير على قراءة الياء والنون على القراءة الأخرى. قوله : (الخلق) أي جميع الحيوانات عقلاء وغيرهم. قوله : (جَمِيعاً) توكيد للضمير أو حال منه.

قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) معمول المحذوف قدره المفسر بقوله : (ويقال لهم) وليس معمولا لنحشرهم بل هما جملتان ، وهذا الخطاب بعد جمع الخلائق في الموقف ، وتصيير غير العاقل ترابا ، وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) المعشر الجماعة والجمع معاشر ، والمراد بالجن الشياطين. قوله : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ) السين والتاء لتأكيد الكثرة. قوله : (باغوائكم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير قد استكثرتم من إغواء الإنس.

٤٨٨

باغوائكم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) الذين أطاعوهم (مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) انتفع الإنس بتزيين الجن لهم الشهوات والجن بطاعة الإنس لهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) وهو يوم القيامة وهذا تحسر منهم (قالَ) تعالى لهم على لسان الملائكة (النَّارُ مَثْواكُمْ) مأواكم (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من الأوقات التي يخرجون فيها لشرب الحميم فإنه خارجها كما قال ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم وعن ابن عباس أنه فيمن علم الله أنهم يؤمنون فما بمعنى من (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) (١٢٨) بخلقه (وَكَذلِكَ) كما متعنا عصاة الإنس والجن بعضهم ببعض (نُوَلِّي) من الولاية (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي على بعض (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٩) من

____________________________________

قوله : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) لعل وجه الاقتصار على كلام الإنس ، الإشارة إلى أن الجن بهتوا فلم يردوا جوابا ، وقوله من الإنس في محل نصب على الحال. قوله : (رَبَّنَا) منادى حذف منه حرف النداء. قوله : (انتفع الإنس بتزيين الجن لهم الشهوات) أي التي تنوعت فيها الإنس من سحر وكهانة ، ودعوى ألوهية ، ودعوى نبوة ، وسائر الأديان والعقائد الباطلة ، ومن ذلك كان الرجل في الجاهلية ، إذا سافر فنزل بأرض قفراء ، خاف على نفسه من الجن فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوارهم. قوله : (بطاعة الإنس لهم) أي في هذه الأمور المزينة ، فاستمتاع الجن بالإنس بالسلطنة التي تولوها عليهم حيث امتثلوا أوامرهم ، وكانوا من حزبهم ودخلوا في جاههم. قوله : (الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي الذي قدرته لنا. قوله : (وهذا تحسر منهم) أي ما وقع منهم من تلك المقالة تحسر وتحزن على ما سلف منهم ، من طاعة الشيطان واتباع الهوى قوله : (على لسان الملائكة) مرور على القول بأن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلا.

قوله : (خالِدِينَ فِيها) حال من الكاف في مثواكم. قوله : (من الأوقات التي يخرجون فيها) تبع المفسر في ذلك شيخه الجلال المحلي في تفسير سورة الصافات ، وهو مخالف لظاهر قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) والأحسن أن يقال إلا ما شاء الله من الأوقات التي ينقلون في فيها من النار إلى الزمهرير ، فينقلون من عذاب النار ، ويدخلون واديا فيه الزمهرير ، وهو شدة البرد ، ما يقطع بعضهم من بعض ، فيطلبون الرد إلى الجحيم ، كما ذكر في حواشي البيضاوي. قوله : (لشرب الحميم) أي وهو ماء شديد الحرارة يقطع الأمعاء ، وذلك حين يستغيثون من شر النار ، يطلبون الماء ليبرد عنهم تلك الحرارة ، قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ). وقوله : (وعن ابن عباس الخ) أي فيحمل على من مات مؤمنا وهو مصر على المعاصي ، ونفذ فيه الوعيد ، ويكون المراد من النار دار العذاب ، وإن لم تكن دار خلود كجهنم لعصاة المؤمنين. قوله : (حَكِيمٌ) (في صنعه) أي يضع الشيء في محله. قوله : (عَلِيمٌ) (بخلقه) أي فيجازي كلا على عمله.

قوله : (نُوَلِّي) أي نسلط ونؤمر. قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الباء سببية ، وما مصدرية ، والمعنى كما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض ، نسلط بعض الظالمين على بعض ، بسبب كسبهم من المعاصي ، فيؤخذ الظالم بالظالم ، لما في الحديث «ينتقم الله من الظالم بالظالم ثم ينتقم من كليهما» ولما في الحديث أيضا «كما تكونوا يولى عليكم» ومن هذا المعنى قول الشاعر :

٤٨٩

المعاصي (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من مجموعكم أي بعضكم الصادق بالإنس أو رسل الجن نذرهم ، الذين يستمعون كلام الرسل فيبلغون قومهم

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أن قد بلغنا قال تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلم يؤمنوا (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠) (ذلِكَ) أي إرسال الرسل (أَنْ) اللام مقدره وهي مخففة أي لأنه (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى

____________________________________

وما من يد إلا يد الله فوقها

وما ظالم إلا سيبلى بظالم

قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هذا زيادة في التوبيخ عليهم ، لأن الله سبحانه وتعالى أولا وبخ الفريقين بتوجيه الخطاب للجن ، وثانيا خاطبهم جميعا ووبخهم. قوله : (أي من مجموعكم) دفع بذلك ما يقال إن ظاهر الآية يقتضي أن من الجن رسلا ، مع أن الرسالة مختصة بالإنس ، فليس من الجن بل ولا من الملائكة رسل ، فأجاب : بأن المراد من مجموعكم الصادق بالإنس ، ونظير ذلك قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي من أحدهما وهو الملح ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي في إحداهن وهي سماء الدنيا. قوله : (أو رسل الجن نذرهم) أشار بذلك إلى جواب آخر ، وهو تسليم أن هناك رسلا من الجن ، لكنهم رسل الرسل الذين يسمعون من النبي المواعظ والأحكام ، ويبلغون قومهم ذلك ، قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) الآية ، وقال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) الآيات ، فيكون المعنى على ذلك : ألم يأتكم رسل منكم ، أي من الإنس يبلغونكم عن الله ، ومن الجن يبلغونكم عن الرسل؟ والمراد جنس الرسل الصادق بالواحد ، وهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يرسل لهم غيره ، وأما حكم سليمان فيهم ، فحكم سلطنة وملك لا حكم رسالة ، وأما قوله تعالى حكاية عن الجن : (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) فلا يلزم من علمهم بموسى وسماعهم لكتابه ، أن يكونوا مكلفين به.

قوله : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) القص معناه الحديث ، أي يحدثونكم بآياتي على وجه البيان. قوله : (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يخوفونكم يوم القيامة ، والمعنى يحذرونكم من مخالفة الله توجب الخوف يوم القيامة. قوله : (أن قد بلغنا) يصح بناؤه للفاعل والمفعول. قوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عطف سبب على مسبب ، أو علة على معلول.

قوله : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كرر شهادتهم على أنفسهم لاختلاف المشهود به ، فأولا شهدوا بتبليغ الرسل لهم ، وثانيا شهدوا بكفرهم زيادة في التقبيح عليهم ، والمقصود من ذكر ذلك الاتعاظ به ، والتحذير من فعل مثل ذلك. إن قلت : إن شهادتهم بكفرهم تدل على أنهم أقروا به ، وهو مناف لقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أجيب : بأن مواقف القيامة مختلفة فأولا حين يرون المؤمنين توزن أعمالهم ، ويمشون على الصراط لدخول الجنة ، ينكرون الاشراك ، طمعا في دخولهم في زمرة المؤمنين ، فحينئذ يختم على أفواههم ، وتنطق أعضاؤهم قهرا عليهم وتقر بالكفر. قوله : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) اسم الاشارة مبتدأ ، وأن لم يكن خبره ، واللام محذوفة ، وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن كما قال

٤٩٠

بِظُلْمٍ) منها (وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١) لم يرسل إليهم رسولا يبين لهم (وَلِكُلٍ) من العاملين (دَرَجاتٌ) جزاء (مِمَّا عَمِلُوا) من خير وشر (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢) بالياء والتاء (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) عن خلقه وعبادتهم (ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يا أهل مكة بالإهلاك (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من الخلق (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣) أذهبهم ولكنه أبقاكم رحمة لكم (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من الساعة والعذاب (لَآتٍ) لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٣٤) فائتين عذابنا (قُلْ) لهم (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم (إِنِّي عامِلٌ) على حالتي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ) موصولة مفعول العلم (تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي العاقبة

____________________________________

المفسر ، والتقدير ذلك ثابت لأنه لم يكن الخ. قوله : (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي لغلبة رحمته ، لا ينزل العذاب على من خالف وعصى ، حتى يتكرر عليهم الانذار والتخويف. قوله : (بِظُلْمٍ) (منها) الباء سببية ، وقدر المفسر قوله منها إشارة إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من القرى ، والمعنى لم يكن مهلك أهل القرى بسبب وقوع ظلم منها ، والحال أن أهلها لم يرسل لهم رسول. قوله : (من العاملين) أي طائعين أو عاصين. قوله : (جزاء) دفع بذلك ما يقال إن الدرجات بالجيم للطائعين فينا في العموم المتقدم. فأجاب بأن المراد بالدرجات الجزاء ، وهو صادق بالدرجات والدركات. وأجيب أيضا : بأن في الكلام اكتفاء أي ودركات على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) هذا مرتب على ما قبله ، جواب عما يقال حيث كان لكل من الطائعين والعاصين جزاء لا مفر لهم منه ، فما وجه إمهالهم وعدم تعجيل ذلك لهم؟ فأجاب : بأنه الغني ، فلا ينتفع بطاعة الطائع ، ولا تضره معصية العاصي ، وربك مبتدأ ، والغني خبره ، و (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر ثان ويصح أن يكون الغني وذو الرحمة صفتين له ، وجملة : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) خبره. قوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) أي ومن أجل ذلك بقاء الخلق من غير استئصال الهلاك لهم. قوله : (بالإهلاك) أي جملة واحدة ، بحيث لم يبق منهم أحد كعاد وثمود.

قوله : (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أي ينشىء ويوجد بعد إذهابكم ما يشاء. قوله : (مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي وهم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم. قوله : (ولكنه أبقاكم رحمة لكم) أي لوجود نبيكم ، لأنه بعث رحمة لا عذابا. قوله : (من الساعة) بيان لما. قوله : (لَآتٍ) خبر إن مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين كقاض.

قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فارين من عذابنا ، بل هو مدرككم لا محالة. قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) هذا أمر تهديد وزجر ، نظير قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) ، وقوله عليه الصلاة والسّلام «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» والمكانة إما من التمكن وهو الاستطاعة فتكون الميم أصلية ، أو من الكون بمعنى الحالة فتكون زائدة ، والمفسر جعلها بمعنى الحالة. قوله : (مَنْ) (موصولة مفعول العلم) أي (تَكُونُ) صلتها ، و (عاقِبَةُ الدَّارِ) اسمها ، و (لَهُ) خبرها ، وعلم عرفانية متعدية لواحد ، ويصح أن

٤٩١

المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) يسعد (الظَّالِمُونَ) (١٣٥) الكافرون (وَجَعَلُوا) أي كفار مكة (لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) خلق (مِنَ الْحَرْثِ) الزرع (وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) بالفتح والضم (وَهذا لِشُرَكائِنا) فكانوا إذا سقط في نصيب الله من نصيبها التقطوه أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا كما قال تعالى (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي لجهته (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ) بئس (ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦) حكمهم هذا (وَكَذلِكَ) كما زين لهم ما ذكر (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ)

____________________________________

تكون من استفهامية مبتدأ ، وجملة تكون مع اسمها وخبرها المبتدأ ، والمبتدأ والخبر في محل نصب سدت مسد مفعول : (تَعْلَمُونَ). قوله : (أي العاقبة المحمودة في الدار) أشار بذلك إلى أن الإضافة على معنى في ، والمراد بالعاقبة المحمودة الراحة التامة والسرور الكامل. قوله : (أنحن أم أنتم) هذا يناسب كون من استفهامية لا موصولة ، وإلا لو جعلها موصولة لقال فسوف تعلمون الفريق الذي له عاقبة الدار. قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) استئناف كأنه واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما عاقبتهم ، فقال إنه لا يفلح الظالمون.

قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) هذا من جملة قبائحهم وخسران عقولهم ، وجعل فعل ماض ، والواو فاعل ، و (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان مقدم ، (نَصِيباً) مفعول أول مؤخر ، (مِمَّا ذَرَأَ) متعلق بجعلوا. قوله : (مِنَ الْحَرْثِ) متعلق بمحذوف حال من مما ذرأ. قوله : (الزرع) أي ما يزرع كان حبا أو غيره. قوله : (وَالْأَنْعامِ) أي الإبل والبقر والغنم. قوله : (ولشركائهم) متعلق بمحذوف تقديره وجعلوا لشركائهم ، وأشار المفسر بذلك إلى أن في الآية اكتفاء بدليل التفصيل بعد ذلك بقوله وهذا لشركائنا. قوله : (إلى سدنتها) أي خدمتها.

قوله : (فَقالُوا) هذا تفريع على الشق المذكور والشق المطوي. قوله : (بِزَعْمِهِمْ) الزعم الكذب ومصبه قوله بعد : (وَهذا لِشُرَكائِنا) فمحط الكذب التنصيف ، حيث جعلوا نصف ما خلق الله وأنشأه من الحرث والأنعام له ، ونصفه لشركائهم ، وحق الجميع أن يكون لله ، ويحتمل أن الزعم من حيث ادعائهم الملك وإنشاء الجعل من عندهم ، والملك في الحقيقة لله. قوله : (بالفتح والضم) أي فهما قراءتان سبعيتان : الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية لغة بني أسد ، وفي لغة بالكسر ، لكن لم يقرأ بها ، والكل بمعنى واحد. قوله : (فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه) أي وكانوا إذا رأوا ما عينوه لله أزكى ، بدلوه بما لآلهتهم ، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه حبا لها ، وإذا هلك ما جعلوه لها ، أخذوا بدله مما جعلوه لله ، ولا يفعلون ذلك فيما جعلوه لله. قوله : (أي لجهته) أي لجهة مراضيه ، وإلا فيستحيل على الله الوصول والجهة. قوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ساء فعل ماض ، وما اسم موصول فاعل ، ويحكمون صلته ، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله حكمهم ، وقوله : (هذا) بدل من حكمهم ، لأن حكمهم مبتدأ ، والجملة قبله خبره.

قوله : (وَكَذلِكَ) الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، والكاف بمعنى مثل. قوله : (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ

٤٩٢

بالوأد (شُرَكاؤُهُمْ) من الجن بالرفع فاعل زين وفي قراءة ببنانه للمفعول ورفع قتل ونصب الأولاد به وجر شركائهم بإضافته وفيه الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ولا يضر وإضافة القتل إلى الشركاء لأمرهم به (لِيُرْدُوهُمْ) يهلكوهم (وَلِيَلْبِسُوا) يخلطوا (عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧) (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) حرام (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) من خدمة الأوثان وغيرهم (بِزَعْمِهِمْ) أي لا حجة لهم فيه (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) فلا تركب كالسوائب

____________________________________

الْمُشْرِكِينَ) زين بالبناء للفاعل ، ولكثير متعلق بزين ، ومن المشركين صفة لكثير ، و (قَتْلَ) بالنصب مفعول لزين ، وهو مضاف لأولادهم ، وشركاؤهم بالرفع فاعل زين ، وقرأ ابن عامر من السبعة زين بالبناء للمفعول ، وقتل بالرفع نائب فاعل زين ، و (أَوْلادِهِمْ) بالنصب مفعول المصدر الذي هو قتل ، وقتل مضاف ، وشركائهم مضاف إليه ، ولا يضر الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف ، لأنه ليس أجنبيا ، والمضر الفصل بالأجنبي ، وهذه القراءة متواترة صحيحة موافقة للنحو ، خلافا لمن شذ وعاب على من قرأ بها ، كيف وهو أعلى القراءة سندا ، وأقدمهم هجرة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي زين مبنيا للمفعول ، وقتل نائب الفاعل ، وأولادهم بالجر مضاف لقتل ، وشركاؤهم بالرفع فاعل ، قال ابن مالك :

وبعد جره الذي أضيف له

كمثل بنصب أو برفع عمله

وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر ، إلا أنهم خفضوا الأولاد أيضا ، على أن شركاءهم صفة لهم ، بمعنى أنهم يشركونهم في المال والنسب ، وقرأ فرقة من أهل الشام ، زين بكسر الزاي بعدها ياء ساكنة مبني للمفعول كقيل ربيع ، وقتل نائب الفاعل ، وأولادهم بالنصب ، وشركائهم بالجر ، وتوجيهها معلوم مما تقدم ، فجملة القراءات خمس : اثنتان سبعيتان وهما اللتان مشى عليهما المفسر ، وثلاثة شواذ. قوله : (بالوأد) هو دفن الإناث بالحياة مخافة الفقر والعار ، قال تعالى (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). قوله : (من الجن) أي الملابسين للأصنام. قوله : (ولا يضر) رد على من منع ذلك وعاب على ابن عامر. قوله : (وإضافة القتل) مبتدأ ، وقوله : (لأمرهم به) خبره ، ومباشر القتل هو كثير من المشركين. قوله : (لِيُرْدُوهُمْ) علة للتزيين ، وقوله : (وَلِيَلْبِسُوا) معطوف على ليردوهم ، وهو من لبس بفتح الباء يلبس بكسرها لبسا بمعنى خلط. قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) مفعول محذوف تقديره عدم فعلهم ، والمعنى لو أراد الله عدم التزيين والقتل ما فعلوه ، لأن الله هو الموجد للخير والشر ، وإنما الخلق أسباب ظاهرية في الخير والشر ، وإلا فمرجع الكل إلى الله ، ومن هنا قول سيدي إبراهيم الدسوقي : من نظر للخلق بعين الشريعة مقتهم ، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم ، وقال بعض العارفين :

الكل تقديره مولانا وتأسيسه

فاشكر لمن قد وجب حمده وتقديسه

وقل لقلبك إذا زادت وساويسه

إبليس لما طغى من مكان إبليسه

قوله : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي اتركهم وافتراءهم. قوله : (وَقالُوا) هذا نوع آخر من أنواع قبائحهم ، وقوله : (هذِهِ أَنْعامٌ) الخ الإشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم. قوله : (حِجْرٌ) بمعنى محجور ، كذبح بمعنى مذبوح أي ممنوعة. قوله : (لا يَطْعَمُها) أي لا يأكلها ، والضمير عائد على الأنعام والحرث. قوله : (وغيرهم) أي من الرجال دون النساء. قوله : (بِزَعْمِهِمْ) حال من فاعل قالوا. قوله :

٤٩٣

والحوامي (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) عند ذبحها بل يذكرون اسم أصنامهم ونسبوا ذلك إلى الله (افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣٨) عليه (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) المحرمة وهي السوائب والبحائر (خالِصَةٌ) حلال (لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) النساء (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) بالرفع والنصب مع تأنيث الفعل وتذكيره (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ) الله (وَصْفَهُمْ) ذلك بالتحليل والتحريم أي جزاءه (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) (١٣٩) بخلقه (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا) بالتخفيف والتشديد (أَوْلادَهُمْ) بالوأد (سَفَهاً) جهلا (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) مما ذكر (افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) خلق (جَنَّاتٍ) بساتين (مَعْرُوشاتٍ) مبسوطات على الأرض كالبطيخ (وَغَيْرَ

____________________________________

(كالسوائب والحوامي) أي والبحائر. قوله : (ونسبوا ذلك) أي التقسيم إلى الأقسام الثلاثة ، بأن قالوا : قسم حجر أي ممنوع منه بالكلية ، وقسم لا يركب وإن كان يجوز أخذ لبه وأولاده ، وقسم لا يذكر اسم الله عليه عند الذبح ، وإنما يذكر اسم الصنم ، وقوله : (افْتِراءً) معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله ونسبوا ذلك. قوله : (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بسبب افترائهم.

قوله : (وَقالُوا) هذا إشارة لنوع آخر من أنواع قبائحهم. قوله : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) أي نتاج الأنعام والسوائب والبحائر ، فما ولد منها حيا فهو حلال للذكور خاصة ، وما ولد منها ميتا فهو حلال للذكور والإناث. قوله : (خالِصَةٌ) خبر عن ما باعتبار معناها ، وقوله : (وَمُحَرَّمٌ) خبر عنها باعتبار لفظها. قوله : (مع تأنيث الفعل) أي باعتبار معنى ما وهو الأجنة ، وهذا على النصب ، وأما على الرفع فباعتبار تأنيث الميتة ، وقوله : (وتذكيره) أي باعتبار لفظ ما على قراءة النصب ، وباعتبار أن تأنيث الميتة مجازي على قراءة الرفع ، فالقراءات أربع وكلها سبعية ، وكان ناقصة في النصب ، واسمها ضمير يعود على ما ، وتامة في الرفع فاعلها ميتة. قوله : (فَهُمْ فِيهِ) أي ذكورهم وإناثهم يأكلون منه جميعا. قوله : (وَصْفَهُمْ) أي جزاء وصفهم ، والمراد بوصفهم التحليل والتحريم الذي اخترعوه ، فالباء في قوله : (بالتحليل والتحريم) لتصوير الوصف. قوله : (إِنَّهُ حَكِيمٌ) تعليل لمجازاته إياهم ، أي فمن أجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم.

قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا) أي في الدنيا باعتبار السعي في نقص عددهم وإزالة ما أنعم الله به عليهم ، وفي الآخرة باستحقاق العذاب الأليم. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (جهلا) روى البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من الأنعام : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ) إلى قوله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). قوله : (وَحَرَّمُوا) معطوف على قتلوا ، فهو صلة ثانيه. قوله : (افْتِراءً) معمول لحرموا. قوله : (قَدْ ضَلُّوا) أي عن الطريق المستقيم ، وقوله : (ما كانُوا مُهْتَدِينَ) فيه إعلام بأن هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل ، يموتون على الضلال ، كأن الله يقول لنبيه : لا تعلق آمالك بهداهم.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) هذا امتنان من الله على عباده وبيان أن كل نعمة منه. قوله : (جَنَّاتٍ) المراد بها جميع ما ينبت أعم من أن يكون بساتين ، أو لا بدليل ما بعده من باب تسمية الكل

٤٩٤

مَعْرُوشاتٍ) بأن ارتفعت على ساق كالنخل (وَ) أنشأ (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) ثمره وحبه في الهيئة والطعم (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) ورقهما حال (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) طعمهما (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) قبل النضج (وَآتُوا حَقَّهُ) زكاته (يَوْمَ حَصادِهِ) بالفتح والكسر من العشر أو نصفه (وَلا تُسْرِفُوا) بإعطاء كله فلا يبقى لعيالكم شيء (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١)

____________________________________

باسم جزئه الأشرف ، أو أطلق الخاص وأراد العام ، فلا مفهوم لقول المفسر : (بساتين). قوله : (كالبطيخ) أي والعنب إذا لم يوضع على عريش. قوله : (كالنخل) أي وغيره مما له ساق يرتفع به ، كالجميز والنبق والعنب إذا وضع على عريش والحبوب ، وقيل المعروشات المرتفعات على ساق ، وغير المعروشات ما لا ساق له ، عكس ما ذكر المفسر.

قوله : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) قدر المفسر : (أنشأ) إشارة إلى أنه معطوف على جنات ، عطف خاص على عام ، والنكتة عموم النفع بالنخل والزرع لإقامتهما بنية الآدمي ، فهما يغنيان عن غيرهما ، وغيرهما لا يغني عنهما ، والمراد بالزرع جمع الحبوب التي يقتات بها. قوله : (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) فالمعنى أنشاء مقدرا في علمه سبحانه أن أكله مختلف ، والأكل بالضم المأكول ، أي مأكول لكل منهما ، مختلف في الصفة والطعم واللون والرائحة. قوله : (ثمره وحبه) لف ونشر مرتب.

قوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) معطوف أيضا على جنات ، وخصهما لأنهما أشرف الثمار بعد النخل. قوله : (مُتَشابِهاً) هو بمعنى مشتبها المتقدم ، إلا أن القراءة سنة متبعة. قوله : (طعمهما) أي ولونهما وريحهما وجرمهما. قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) هذا أمر إباحة. قوله : (قبل النضج) أي استوائه ووجوب الزكاة فيه ، فلا تتوقف إباحة الأكل على الوصول إلى حد وجوب الزكاة فيه ، وهو النضج أو التهيؤ له ، ولا يحسب عليه شيء للفقراء ، أما بعد النضج فكل ما أكله حسبت عليه زكاته. قوله : (زكاته) هذا تفسير ابن عباس وأنس بن مالك ، واستشكل بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة كان المدينة في السنة الثالثة من الهجرة. وأجب بأن الآية مدنية ، وقيل المراد بالحق إطعام من حضر ، وترك ما سقط من الزرع والثمر للفقراء ، وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد ، وعلى هذا القول فقيل الأمر للوجوب ، ويكون منسوخا بآية الزكاة ، وقيل للندب ويكون محكما.

قوله : (يَوْمَ حَصادِهِ) أي زمن تيسر الاخراج منه ، وهو ظاهر فيما لا يتوقف على تصفية ، كالعنب والزيتون والنخل ، وأما ما يحتاج إلى تصفية كالحبوب فيقال إن يوم ظرف متسع ، فيشمل مدة الحصاد والدراس ، أو يقال إن يوم متعلق بمحذوف تقديره وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده ، وهو لا ينافي أن إخراج الحق بعد التصفية إن توقف عليها. قوله : (بالفتح والكسر) أي فهما قراءتان سبعيتان بمعنى واحد. قوله : (من العشر) أي فيما سقي بالسيح ، أو نصفه أي فيما سقي بآلة.

قوله : (وَلا تُسْرِفُوا) أي تتجاوزوا الحد بإخراجه كله للفقراء أو بعد الاخراج من أصله ، أو بإنفاقه في المعاصي ، والأقرب الأول الذي اقتصر عليه المفسر ، لأن سبب نزولها : أن ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أحد ففرقها ولم يترك لأهله شيئا. قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يعاقبهم.

٤٩٥

المتجاوزين ما حد لهم (وَ) أنشأ (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) صالحة للحمل عليها كالإبل الكبار (وَفَرْشاً) لا تصلح له كالإبل الصغار والغنم سميت فرشا لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) طرائقه في التحريم والتحليل (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٤٢) بين العداوة (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أصناف بدل من حمولة وفرشا (مِنَ الضَّأْنِ) زوجين (اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى (وَمِنَ الْمَعْزِ) بالفتح والسكون (اثْنَيْنِ قُلْ) يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ونسب ذلك إلى الله (آلذَّكَرَيْنِ) من الضأن والمعز (حَرَّمَ) الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ذكرا كان أو أنثى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) عن كيفية تحريم ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣) فيه المعنى من أين جاء التحريم فإن كان من قبل الذكورة

____________________________________

قوله : (وَمِنَ الْأَنْعامِ) معطوف على (جنات) ، وإليه يشير المفسر حيث قدر (أنشأ) ، وفي الحقيقة قوله : (مِنَ الْأَنْعامِ) متعلق بمحذوف حال من : (حَمُولَةً) ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، وحمولة هو المعطوف على جنات. قوله : (صالحة للحمل عليها) مشى المفسر على أن المراد بالحمولة الصالح للحمل والفرش وما عداه ، والأحسن تفسير الحمولة بالكبار ، أعم من أن تكون إبلا أو بقرا أو غنما ، والفرش بالصغار منها ، ويدل عليه قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وغيرها ، والفرش ما اتخذ من الصوف والوبر والشعر. قوله : (سميت) أي الإبل الصغار والغنم.

قوله : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ) أي من جمع الثمار والأنعام والحرث. قوله : (في التحريم والتحليل) أي في الحرث والأنعام ، بأن تحللوا شيئا وتحرموا آخر ، كما تقول المشركون. قوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ) تعليل لما قبله. قوله : (بين العداوة) أي ظاهرها لوجود عداوته لأبينا آدم من قبل ، واتصالها بأبنائه من بعده ، ولذلك قيل : إن المولود في حال ولادته ينخسه الشيطان ، فيصرخ عند ذلك من شدة عداوته.

قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) يطلق الزوج على الشيئين المتلازمين اللذين يحصل بينهما التناسل ، وعلى أحدهما ، وهو المراد هنا. قوله : (بدل من حمولة وفرشا) أي بدل مفصل من مجمل. قوله : (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من ثمانية أزواج على جواز الابدال من البدل. قوله : (اثْنَيْنِ) أي وهما الكبش والنعجة. وقوله : (مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) أي التيس والمعز. قوله : (بالفتح والسكون) أي فهما قراءتان سبعيتان قوله : (لمن حرم ذكور الأنعام) أي بعض ذكورها. وقوله : (وإناثها) أي بعض إناثها. قوله : (آلذَّكَرَيْنِ) بمد الهمزة الثانية مدا لازما قدر ثلاث ألفات أو تسهيلها ، وهو منصوب بالعامل الذي بعده وهو : (حَرَّمَ) قدم لأن مدخول الاستفهام له الصدارة. قوله : (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أم عاطفة على الذكرين ، وكذلك أم الثانية عاطفة على الموصولة على ما قبلها ، ومحلها نصب أيضا تقديره أم الذي اشتملت عليه ، وأم في كل منهما متصلة مقابلة لهمزة الاستفهام.

قوله : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أي أخبروني خبرا ملتبسا بعلم ناشىء عن إخبار من الله بأنه حرم ما ذكره وهي جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، قصد بها إلزام الحجة لهم. قوله : (عن كيفية تحريم ذلك) أي جهته وسببه. قوله : (فإن كان من قبل الذكورة الخ) أي فإن كان سبب التحريم الذكورة ، لزمكم تحريم

٤٩٦

فجميع الذكور حرام أو الأنوثة فجميع الإناث أو اشتمال الرحم فالزوجان فمن أين التخصيص والاستفهام للإنكار (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ) بل (كُنْتُمْ شُهَداءَ) حضورا (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) التحريم فاعتمدتم ذلك لا بل أنتم كاذبون فيه (فَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بذلك (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤) (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) شيئا (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ) بالياء والتاء (مَيْتَةً) بالنصب وفي قراءة بالرفع مع التحتانية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) سائلا بخلاف غيره كالكبد والطحال (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) حرام (أَوْ) إلا

____________________________________

جميع الذكور ، وإن كانت الأنوثة ، لزمكم تحريم جميع الإناث ، وإن كان ما اشتملت عليه الأرحام لزمكم تحريم الجميع ، فلأي شيء خصصتم التحريم ببعض الذكور والإناث ، فمن أين التخصيص ، أي تخصيص تحريم البحائر والسوائب بالإبل ، دون بقية النعم من البقر والغنم. قوله : (والاستفهام للإنكار) أي في المواضع الثلاثة. قوله : (أَمْ كُنْتُمْ) أم منقطعة ، فلذا فسرها ببل والهمزة ، فمدخولها جملة مستقلة ، والمقصود بها التهكم بهم ، حيث نسبهم إلى الحضور في وقت الإبصار. قوله : (حضورا) أي حاضرين ومشاهدين تحريم البعض وتحليل البعض. قوله : (لا) أي لم تكونوا حاضرين ، ولم يدل دليل على تحريم البعض وتحليل البعض. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

قوله : (لِيُضِلَّ النَّاسَ) متعلق بافترى. قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى ، أي افترى حال كونه ملتبسا بغير علم بل جاهلا. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل لما قبله ، والمعنى لا يرشد الذين تعدوا حدود الله بالتحليل والتحريم إلى الصراط المستقيم لسابق الشقاوة لهم. قوله : (قُلْ لا أَجِدُ) لما ألزمهم الله الحجة بأن التحريم عند أنفسهم لا من عند الله ، أخبرهم بما ثبت تحريمه عن الله ، فهو نتيجة ما قبله وثمرته ، والمعنى قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحي إلي الخ. قوله : (فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) ما اسم موصول ، وأوحي صلته ، والعائد محذوف ، والتقدير في الذي أوحاه الله إلي وهو القرآن. قوله : (شيئا) (مُحَرَّماً) قدره المفسر إشارة إلى أن محرما صفة لموصوف محذوف. قوله : (عَلى طاعِمٍ) متعلق بمحرما. وقوله : (يَطْعَمُهُ) من باب لهم ، ومعنى طاعم آكل ، ويطعمه يأكله. قوله : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) اسمها ضمير مستتر عائد على الشيء المحرم ، و (مَيْتَةً) بالنصب خبرها ، فذكر باعتبار ما عاد عليه الضمير ، وهذا على قراءة الياء ، وأما على التاء فالتأنيث باعتبار خبر يكون وهو ميتة ، وهاتان قراءتان على نصب ميتة ، وأما رفعها ففيه قراءة واحدة بالفوقانية فتكون تامة وميتة فاعل. إذا علمت ذلك فقول المفسر : (وفي قراءة بالرفع مع التحتانية) سبق قلم ، والصواب الفرقانية ، وهذا الاستثناء يصح أن يكون متصلا باعتبار عموم الأحوال أو منقطعا ، لأنه مستثنى من محرما وهو ذات ، والمستثنى كونه ميتة ، وهو معنى ، قيس من جنس المستثنى منه ، والأقرب كونه متصلا.

قوله : (أَوْ دَماً) بالنصب عطف على ميتة في قراءة النصب ، وعلى المستثنى في قراءة الرفع. قوله : (مَسْفُوحاً) من السفح هو السيلان أو الصب ، والدم المسفوح نجس من سائر الحيوانات ، ولو من سمك وذباب ، وعند أبي حنيفة لا دم للسمك أصلا ، بدليل أنه إذا نشف صار أبيض. قوله : (كالكبد

٤٩٧

أن يكون (فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذبح على اسم غيره (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى شيء مما ذكر فأكله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ) له ما أكل (رَحِيمٌ) (١٤٥) به ويلحق بما ذكر بالسنة كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنعام (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الثروب وشحم الكلى (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي ما علق بها منه (أَوِ) حملته (الْحَوايا) الامعاء جمع

____________________________________

والطحال) أي فإنهما طاهران ، لما في الحديث «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال». قوله : (فَإِنَّهُ) أي لحم الخنزير ، وخص اللحم بالذكر ، وإن كان باقيه كذلك لاعتنائهم به أكثر من باقيه. قوله : (حرام) الأوضح أن يقول نجس ، لأن التحريم علم من الاستثناء.

قوله : (أَوْ فِسْقاً) عطف على ميتة ، وهو على حذف مضاف ، أي ذا فسق ، أو جعل نفس الفسق مبالغة ، على حد زيد عدل. وقوله : (لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة لفسقا. قوله : (أي ذبح على اسم غيره) أي قربانا كما يتقرب إلى الله ، كان ذلك الغير صنما أو غيره. قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أصابته الضرورة. قوله : (مما ذكر) أي من الميتة وما بعدها. قوله : (غَيْرَ باغٍ) تقدم في سورة البقرة ، أنه فسر لنا الباغي بالخارج على المسلمين ، والعادي بقاطع الطريق ، لأن مع كل مندوحة وهي التوبة ، فإذا تاب كل جاز له الأكل ، وتقدم الخلاف في المضطر ، هل له أن يشبع ويتزود ، وهو مشهور مذهب مالك ، أو يقتصر على سد الرمق ، وهو مشهور مذهب الشافعي.

قوله : (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ) تعليل لجواب الشرط المحذوف تقديره فلا إثم عليه. قوله : (ويلحق بما ذكر) كان المناسب قديمه على قوله : فمن اضطر. قوله : (كل ذي ناب) أي كالسبع والضبع والثعلب والهر والذئب ، وقوله : (ومخلب من الطير) كالصقر والنسر والوطواط ، وهذا مذهب الإمام الشافعي ، وأما عند مالك : فجميع الطيور يجوز أكلها ما عدا الوطواط فيكره أكله ، وجميع السباع مكروهة ما عدا الكلب الأنسي والقرد ، ففيهما قولان بالحرمة والكراهة ، وأما الخيل والبغال والحمير الانسية ، فمشهور مذهب مالك أنها محرمة ، ومشهور مذهب الشافعي إباحة الخيل دون البغال والحمير.

قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) الجار والمجرور متعلق بحرمنا ، وهادوا صلة الذين سموا بذلك ، لأنهم هادوا بمعنى رجعوا عن عبادة العجل. قوله : (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) القراء السبعة على ضم الظاء والفاء ، وقرىء شذوذا بسكون الفاء وبكسر الظاء والفاء وبسكون الفاء ، وبقي في الظفر لغة خامسة لم يقرأ بها : أظفور وجمع الأولى أظفار ، والأخيرة أظافير قياسا ، وأظافر سماعا. قوله : (كالإبل) أدخلت الكاف الأوز والبط. قوله : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) متعلق بحزمنا. قوله : (الثروب) جمع ثرب كفلس ، شحم رقيق يغشى الكرش والامعاء ، ولكن المراد بها هنا الشحم الذي على الكرش فقط ، وإلا ناقض ما بعده. قوله : (وشحم الكلى) جمع كلوة أو كلية. قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) ما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء أو نكرة موصولة وجملة حملت ظهورهما صلة أو صفة ، والعائد محذوف.

قوله : (أَوِ الْحَوايا) معطوف على ظهورهما ، وسميت بذلك لأنها محتوية على الفضلات لأنها تنحل في الكرش ، ثم إذا صفيت استقرت في الأمعاء ، أو لأنها محتوية بمعنى ملتفة كالحلقة. قوله : (الأمعاء) أي

٤٩٨

حاوياء أو حاوية (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) منه هو شحم الألية فإنه أحل لهم (ذلِكَ) التحريم (جَزَيْناهُمْ) به (بِبَغْيِهِمْ) بسبب ظلمهم بما سبق في سورة النساء (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦) في إخبارنا ومواعيدنا (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما جئت به (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة وفيه تلطف بدعائهم إلى الإيمان (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) عذابه إذا جاء (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧) (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) نحن (وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) فإشراكنا وتحريمنا بمشيئته فهو راض به قال تعالى (كَذلِكَ) كما كذب هؤلاء (كَذَّبَ الَّذِينَ

____________________________________

المصارين ، والمعنى أن الشحم الذي تعلق بالظهور ، أو احتوت عليه المصارين ، أو اختلط بعظم كلحم الألية جائز لهم. قوله : (جمع حاوياء) أي كقاصعاء وقواصع ، وقوله : (أو حاوية) أي كزاوية وزوايا ، وقيل جمع حوية كهدية. قوله : (وهو شحم الألية) بفتح الهمزة. قوله : (بما سبق في سورة النساء) أي في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) إلى أن قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). قوله : (في إخبارنا ومواعيدنا) أي بأن سبب ذلك التحريم هو بغيهم ، لا كما قالوا حرمها إسرائيل على نفسه فنحن مقتدون به ، فقد كذبوا في ذلك ، بل لم يطرأ التحريم إلا بعد موسى ، ولم يكن ذلك محرما على أحد قبلهم ، لا في شرع إبراهيم ولا غيره ، وإنما حرم إسرائيل على نفسه بالخصوص الإبل من أجل شفائه من عرق النساء الذي كان به ، وقد تقدم الرد عليهم أيضا في قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ). قوله : (حيث لم يعاجلكم بالعقوبة) أي فإمهاله للكافر من سعة رحمته ، فإذا تاب خلده في الرحمة. قوله : (وفيه تلطف الخ) دفع ذلك ما يقال : إن مقتضى الظاهر فقل ربكم ذو عقاب شديد ، فأجاب : بأنه تلطف بدعائهم إلى الإيمان ليطمع النائب ولا ييأس.

قوله : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) هذا من جملة المقول أيضا ، والمعنى لا يرد عذابه عمن لم يتب ومات على الكفر ، فأطمعهم في الرحمة بالجملة الأولى ، وبقي الاغترار بالجملة الثانية. قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هذا اخبار من الله لنبيه بما يقع منهم في المستقبل ، وقد وقع كما حكاه الله عنهم في سورة النحل بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) الخ ، وإنما قالوه إظهارا لكونهم على الحق ، لا اعتذارا من ارتكاب هذه القبائح ، مدعين أن المشيئة لازمة للرضا ، فلا يشاء إلا ما يرضاه ، وقد وقع الكفر بمشيئته فهو راض به ، فكيف تقول يا محمد إنا نعذب على شيء أراده الله منا ورضيه؟ وحاصل رد تلك الشبه ، أن تقول لا يلزم من المشيئة الرضا ، بل يشاء القبيح ولا يرضاه ، ويشاء الحسن ويرضاه ، فكل شيء بمشيئته تعالى.

قوله : (لَوْ شاءَ اللهُ) أي عدم إشراكنا ، فمفعول المشيئة محذوف ، وهذه المقدمة صادقة ، لكنهم توصلوا بها إلى مقدمة كاذبة قدرها المفسر بقوله : (فهو راض به) قوله : (وَلا آباؤُنا) معطوف على الضمير في إشراكنا ، والفاصل موجود وهو لا النافية ، وتقدير المفسر نحن بيان للضمير في إشراكنا لا لصحة العطف ، إذ يكفي أي فاصل ، قال ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متصل

عطف فافصل بالضمير المنفصل

أو فاصل ما. قوله : (فهو راض به) هذا هو نتيجة قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا). قوله : (قال

٤٩٩

مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) عذابنا (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) بأن الله راض بذلك (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي لا علم عندكم (إِنْ) ما (تَتَّبِعُونَ) في ذلك (إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ) ما (أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) تكذبون فيه (قُلْ) إن لم تكن لكم حجة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) التامة (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) (قُلْ هَلُمَ) أحضروا (شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) الذي حرمتموه (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠) يشركون (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) أقرأ (ما حَرَّمَ

____________________________________

تعالى) أي تسلية له عليه الصلاة والسّلام. قوله : (كما كذب هؤلاء) أي مثل ما كذبوك ولم يصدقوك بما جئت به ، كذب الأمم السابقة أنبياءهم. قوله : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) غاية للتكذيب أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا الخ. قوله : (مِنْ عِلْمٍ) من زائدة ، وعلم مبتدأ مؤخر ، وعند ظرف خبر مقدم ، والمعنى هل عندكم من شيء تحتجون به على ما زعمتم من أن الله راض بأفعالكم فتظهروه لنا؟. قوله : (أي لا علم عندكم) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) جواب شرط مقدر ، قدره المفسر بقوله : (إن لم يكن لكم حجة). قوله : (التامة) أي وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ومعنى التامة الكاملة التي لا يعتريها نقص ولا خفاء. قوله : (هدايتكم) قدره إشارة إلى أن مفعول شاء محذوف. قوله : (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي ولكنه لم يشأ ذلك فلم يحصل ، ومحط التعليق على هداية الجميع ، وأما هداية البعض فقد حصلت.

قوله : (قُلْ هَلُمَ) فيها لغتان : لغة أهل الحجاز عدم إلحاقها شيئا من العلامات ، فهي بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمثنى والمجموع والقرآن جاء عليها ، وعلى ذلك فهي اسم فعل بمعنى احضروا ، ولغة تميم وهي إلحاقها العلامات ، فتقول هلموا وهلمي وهلما وهلمن ، وعليها فهي فعل أمر ، وهذا الأمر لمزيد التبكيت لهم ، وإقامة الحجة عليهم. قوله : (فَإِنْ شَهِدُوا) أي بعد مجيئهم وحضورهم. قوله : (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي لا تصدقهم ولا تمل لقولهم ، وهذا خطاب له والمراد غيره لاستحالته عليه. قوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) معطوف على قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا). قوله : (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الجملة حالية ومعنى يعدلون يسوون به غيره ، والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بآيات الله ، وبين الكفر بالآخرة ، وبين الإشراك بالله في أهوائهم.

قوله : (قُلْ تَعالَوْا) لما أقام الله سبحانه وتعالى الحجة على الكفار ، بأنه لا تحليل ولا تحريم إلا بما أحله الله أو حرمه كأن سائلا قال : وما الذي حرمه وأحله؟ فقال سبحانه : (قُلْ تَعالَوْا) الخ ، وتعالوا فعل أمر مبني على حذف النون ، والواو فاعل ، وهو في الأصل موضوع لطلب ارتفاع من مكان سافل إلى مكان عال ، ثم استعمل في الاقبال والحضور مطلقا ، وآثرها إشارة إلى أنهم في أسفل الدركات ، وهو يطلبهم للرفع والعلو من أخس الأوصاف إلى أكملها وأعلاها ، كأنه قال اقبلوا إلى المعالي ، لأن من سمع أحكام الله وقبلها بنصح ، كان في أعلى المراتب. قوله : (أَتْلُ) جواب الأمر مجزوم بحذف الواو ، والضمة دليل عليها ، وقيل جواب لشرط محذوف تقديره إن تأتوا أتل ، أي أقرأ ما حرم الله عليكم.

٥٠٠