حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

لذهاب ملكك (وَفِي ذلِكُمْ) العذاب أو الإنجاء (بَلاءٌ) ابتلاء أو إنعام (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩) اذكروا (وَإِذْ فَرَقْنا) فلقنا (بِكُمُ) بسببكم (الْبَحْرَ) حتى دخلتموه هاربين من عدوكم (فَأَنْجَيْناكُمْ) من الغرق (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) قومه معه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٠) إلى انطباق البحر عليهم (وَإِذْ واعَدْنا) بألف ودونها (مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) نعطيه عند انقضائها

____________________________________

على الياء الأولى فحذفت فالتقى ساكنان حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وقيل حذفت الياء الثانية تخفيفا ، وضمت الأولى لمناسبة الواو ، فعلى الأولى وزنه يستفلون وعلى الثاني وزنه يستفعون. قوله : (لقول بعض الكهنة) أي حين دعاهم ليقص عليهم ما رآه في النوم ، وهو أن نارا أقبلت من بين المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فشق عليه ذلك ودعا الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا له ما ذكر. قوله : (أو الإنجاء) أي من حيث عدم الشكر عليه فصار الإنجاء بلاء ، فالبلاء يطلق عليه الخير والشر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). قوله : (ابتلاء) راجع للعذاب ، وقوله أو إنعام راجع للإنجاء فهو لف ونشر مرتب.

قوله : (وَ) (اذكروا) (إِذْ فَرَقْنا) هذا من جملة المعطوف على نعمتي أو على اذكروا ، فالمقصود تعداد النعم عليهم وفرق من باب قتل ميز الشيء من الشيء ، قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أي ميزنا به الحق من الباطل. قوله : (فلقنا) الفلق والفرق بمعنى واحد ، قال تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). قوله : (الْبَحْرَ) هو الماء الكثير عذبا أو ملحا ، لكن المراد هنا الملح ، والمراد به بحر القلزم. قوله : (آلَ فِرْعَوْنَ) يطلق آل الرجل عليه وعلى آله. قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) والمراد محمد وآله (ولقد كرمنا بني آدم) المراد آدم وبنوه. قوله : (إلى انطباق البحر) إشارة إلى أن المتعلق محذوف. قوله : (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الألف المواعدة من الله بإعطاء التوراة ، ومن موسى برياضته الأربعين يوما وإتيانه جبل الطور لأخذ التوراة وعلى عدمها فالأمر ظاهر.

قوله : (مُوسى) هو اسم عجمي غير منصرف وهو في الأصل مركب والأصل موشى بالشين لأن الماء بالعبرانية يقال له مو. والشجر يقال له شيء ، فغيرته العرب وقالوه بالسين سمي بذلك ، لأن فرعون أخذه من بين الماء والشجر حين وضعته أمه في الصندوق وألقته في اليم كما سيأتي في سورة القصص ، وهذا بخلاف موسى الحديد فإنه عربي مشتق من أوسيت رأسه إذا حلقته ، وعاش موسى مائة وعشرين سنة. قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إشارة إلى غاية المدة ، وأما في سورة الأعراف فبين المبدأ والمنتهى ، قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وهي ذو العقدة وعشر ذي الحجة ، واقتصر على ذكر الليالي مع أن النهار تبع لها لأن الليل محل الصفا والأنس والعطايا الربانية. قوله : (عند انقضائها أي فراغها فبعد تمام الخدمة من العبد العطايا من الرب ، قال عليه الصلاة والسّلام : «تمام الرباط أربعون يوما». قوله : (التوراة) أي في ألواح من زبرجد فيها الأحكام التكليفية من خرج عنها فهو ضال مضل لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) الآية ، وأعطاه أيضا ألواحا أخر فيها مواعظ وأسرار ومعارف ، قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) يخص بها من شاء فلما رجع بها ووجدهم قد عبدوا العجل ألقى الألواح فتكسر ما عدا التوراة ، كذا قالوا هنا ، وسيأتي تحقيق

٤١

التوراة لتعلموا بها (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) الذي صاغه لكم السامري إلها (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد ذهابه إلى ميعادنا (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٥١) باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) محونا ذنوبكم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الإتخاذ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢) نعمتنا عليكم (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (وَالْفُرْقانَ) عطف تفسير أي الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٥٣) به من الضلال (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) خالقكم من عبادته (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ليقتل البريء منكم المجرم (ذلِكُمْ) القتل (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) فوفّقكم لفعل ذلك وأرسل عليكم سحابة سوداء لئلا يبصر بعضكم بعضا فيرحمه حتى قتل منكم نحو سبعين ألفا (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤) (وَإِذْ قُلْتُمْ) وقد خرجتم مع موسى لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل وسمعتم كلامه (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) عيانا (فَأَخَذَتْكُمُ

____________________________________

ذلك في الأعراف. قوله : (السامري) واسمه موسى وكان ابن زنا ولدته أمه في الجبل وتركته لخوفها من قومها ، فرباه جبريل وكان يسقيه من أصبعه لبنا فصار يعرف جبريل ، ويعرف أن أثر حافر فرس جبريل إذا وضع على ميت يحيا ، فاستعار حليا منهم وصاغة عجلا ووضع التراب في أنفه وفمه فصار له خوار ، وكان السامري منافقا من بني إسرائيل فعكفوا على عبادته جميعا إلا اثني عشر ألفا قال بعضهم :

إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل

قد خاب من ربى وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

قوله : (إلها) قدره إشارة للمفعول الثاني لاتخذ هذا إذا كانت بمعنى جعل ، وأما إن كانت بمعنى عمل نصبت مفعولا واحدا. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي تتدبرون في معانيه فتعلموا الحق من الباطل قوله : (بِاتِّخاذِكُمُ) من إضافة المصدر لفاعله ، والعجل مفعول أول وإلها مفعول ثان. قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) البارىء هو الخالق للشيء على غير مثال سابق. قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هذا بيان لتوبتهم. قوله : (أي ليقتل البريء إلخ) ورد أنهم أمروا جميعا بالإحتباء ، فصار الواحد منهم يقتل أخاه أو ابنه فشق عليهم ذلك ، فشكوا لموسى ذلك فتضرع موسى لربه فأرسل عليهم سحابة سوداء مظلمة كما قال المفسر.

قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي لما تضرع موسى وهارون وبكيا ، فأرسل الله جبريل يأمرهم بالكف عن الباقي وأخبرهم أن الله قبل توبة من قتل ومن لم يقتل ، وقوله فتاب عليكم الفاء سببية مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله : فوفقكم لفعل ذلك إلخ ، وقوله حتى قتل منكم نحو سبعين ألفا أي في يوم واحد. قوله : (التَّوَّابُ) أي الذي يقبل التوبة كثيرا. قوله : (الرَّحِيمُ) أي المنعم المحسن. قوله : (وقد خرجتم إلخ) بيان للسبب ، وحاصل ذلك أنه بعد قبول توبتهم ، أوحى الله إلى موسى أن خذ من قومك سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل ومرهم بطهارة الثياب والأبدان والذهاب معك إلى جبل الطور ليعتذروا عمن عبدوا العجل ويستغفروا ويتوبوا ، فاختارهم وذهبوا معه إلى جبل الطور فسمعوا كلام الله ورد أن الله قال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدون ولا تعبدوا غيري ، فقالوا : (يا موسى لن نؤمن لك الآية). قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك في أن المخاطب لنا

٤٢

الصَّاعِقَةُ) الصيحة فمتم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥) ما حل بكم (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أحييناكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦) نعمتنا بذلك (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) فيه (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) هما الترنجبين والطير السمانى بتخفيف الميم والقصر وقلنا (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ولا تدخروا فكفروا النعمة وادخروا فقطع عنهم (وَما ظَلَمُونا) بذلك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥٧) لأن وباله عليهم

____________________________________

ربنا. قوله : (الصيحة) قيل صاح عليهم ملك ، وقيل نزلت عليهم نار فأحرقتهم ، وجمع بأنه أصابهم كل منهما. قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فماتوا مترتبين واحدا بعد واحد ومكثوا ميتين يوما وليلة والحي ينظر للميت. قوله : (ما حل بكم) إشارة إلى مفعول تنظرون.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي واحدا بعد واحد لتعتبروا وهذا الموت حقيقي وإنما أحيوا بشفاعة موسى ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم ، وما ذكره المفسر من أن السائل لرؤية الله جهرة هم السبعون المختارون للمناجاة أحد طريقتين والثانية أن السائل غيرهم ، وأما المختارون فصعقوا من هيبة الله ولم يسألوا رؤية ولم يكن منهم انكار ، فتضرع موسى لربه وقال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فأحياهم الله بعد ذلك ، ويشهد لذلك ما في آية النساء فإن ما فيها يدل على أن طلب الرؤية كان قبل عبادة العجل. وأما السبعون المختارون للمناجاة فكانوا بعد عبادة العجل قالت تعالى في سورة النساء : (فقالوا أرنا الله جهرة) الآية ، وأما ما هنا فالواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا فإن ما هنا بصدد تعداد ما قالوا ، ويشهد لذلك أيضا أنه عبر في جانب من طلب الرؤية بالصاعقة وهي أخذة غضب ، وفي جانب من يسمع الكلام بالرجفة وهي أخذة هيبة ، ولا تقتضي الغضب إذ علمت ذلك ، فما مشى عليه المفسر مشكل من وجوه والأقرب الطريقة الثانية. قوله : (سترناكم بالسحاب) حاصله أن الله أوحى إلى موسى أن في أريحا قوما جبارين فتجهز لقتالهم ، فخرج في ستمائة ألف فلما وصل التيه واد بين الشام ومصر وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين ، وكانوا يبتدئون السير من أول النهار فإذا جاء الليل وجدوا أنفسهم في المبتدأ وهكذا ، وسيأتي بسطه في المائدة ، ومات هارون قبل موسى بسنة وكانت بالتية ، ولما توفي هارون وذهب موسى لدفنه أشاعوا أنه قتل أخاه فذهب إلى قبره ودعاهم وسأله عن سبب موته فبرأه ، ولما حضرت موسى الوفاة تمنى أن يدفن بمحل قريب من الأرض المقدسة قدر رمية الحجر فأجابه الله ، ثم لما مات ومات كبارهم نبىء يوشع بن نون عليهم فوقفوا بعد تمام الأربعين سنة لقتال الجبارين ، فتوجه مع من بقي من بني اسرائيل فكان النصر على يديه. قوله : (الترنجين) شيء يشبه العسل الأبيض وقيل هو هو. قوله : (والطير السمانى) أي بإرسال ريح الجنوب به ، قيل كان يأتيهم مطبوخا ، وقيل كانوا يطبخونه بأيديهم ، قيل هو الطير المعروف وقيل طير يشبهه. قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي مستلذات الذي رزقناكموه ، فما اسم موصول وما بعده صلة والعائد محذوف ، ويصح أن تكون نكرة والجملة بعدها صفة ، وأن تكون مصدرية والجملة صلتها ولم تحتج إلى عائد ويكون المصدر واقعا موقع المفعول أي من طيبات مرزوقنا. قوله : (فقطع عنهم) هذا أحد تفسيرين أن القطع بسبب الإدخار ، وقيل إن القطع بسبب تمني غيره كما يأتي في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ). قوله : (وَلكِنْ كانُوا) جمع في هذه الآية وآية الأعراف بين لكن وكانوا واقتصر على لكن ، ولم يذكر كانوا في آل عمران ، لأن ما هنا

٤٣

(وَإِذْ قُلْنَا) لهم بعد خروجهم من التية (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس أو أريحا (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) واسعا لا حجر فيه (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي بابها (سُجَّداً) منحنين (وَقُولُوا) مسألتنا (حِطَّةٌ) أي أن تحط عنا خطايانا (نَغْفِرْ) وفي براءة بالياء والتاء مبنيا للمفعول فيهما (لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) بالطاعة ثوابا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم

____________________________________

والأعراف حكاية عن بين إسرائيل ، وأما آل عمران فمثل ضربه الله فهو مستمر إلى الآن فناسب عدم التعبير بكان.

قوله : (قُلْنَا) (لهم) القائل الله سبحانه وتعالى على لسان موسى وهم في التية بطريق الكشف والمعنى إذا خرجتم من التيه بعد مضي الأربعين سنة فادخلوا إلخ ، وأما إن كان بعد الخروج من التيه فيكون ذلك على لسان يوشع وهو المعتمد. قوله : (هذِهِ الْقَرْيَةَ) هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف ، وعند الأخفش على المفعولية ، والقرية نعت لهذه أو عطف بيان وهي مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها لأهلها ، وهي في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم ، وقد تطلق عليهم مجازا ، وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يحتمل الوجهين. قوله : (بيت المقدس) هو قول مجاهد ، وقوله أو أريحا هو قول ابن عباس المقدس وهي بفتح الهمزة وكسر الراء والحاء المهملة قرية بالغور بغين معجمة مكان منخفض بين بيت المقدس وحوران ، وعبارة الخازن قال ابن عباس القرية هي أريحا قرية الجبارين ، قيل كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق.

قوله : (فَكُلُوا) أتى بالفاء لأن الأكل منها إنما يكون بعد الدخول فحسن الترتيب ، ولم يأت بالفاء في الأعراف بل أتى بالواو لتعبيره هناك اسكنوا وهو بجامع الأكل ، فلم يحصل بينهما ترتيب فلذا أتى بالواو بخلاف الدخول فيعقبه الأكل عادة فلذلك أتى بالفاء. قوله : (أي بابها) أي أريحا وهو المعتمد والمراد أي باب من أبوابها وكان لها سبعة أبواب أو بيت المقدس ، ومن قال بذلك فالمراد باب من أبواب المسجد يسمى الآن بباب حطة. قوله : (منحنين) أي على صورة الراكع ، وقيل إن السجود حقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض ، وقيل المراد بالسجود التواضع والذل لله والأمر بالسجود قيل لصغر الباب وقيل تعبدي. قوله : (مسألتنا) إشارة إلى أن حطة خبر لمحذوف قدره المفسر ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وحطة بوزن قعدة أو جلسة ومعناها حطيطة الذنوب عنا. قوله : (خطايانا) جمع خطيئة وهي الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ، وقولهم أرنا الله جهرة إلى غير ذلك ، وفي قراءة شاذة بنصب حطة إما مفعول مطلق أي حط عنا الذنوب حطة أو مفعول لمحذوف أي نسألك حطة ومعنى حطها إزالتها ومحوها.

قوله : (نَغْفِرْ) هذه القراءة تناسب ما قبلها وما بعدها لأنه تكلم. قوله : (وفي قراءة بالياء والتاء) أي وهما مناسبان لمعنى الخطايا والخطايا مجازي التأنيث ، فلذلك جاز تذكير الفعل وتأنيثه. قوله : (خَطاياكُمْ) جمع خطيئة وأصله خطائي بياء قبل الهمزة فقلبت تلك الياء همزة مكسورة فاجتمع همزتان فقلبت الثانية ياء وقلبت كسرة الهمزة الأولى فتحة ، ثم يقال تحركت الياء التي بعد الهمزة وانفتح ما قبلها فقلبت الفا فصار خطاءا بألفين بينهما همزة فاستثقل ذلك لأن الهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث

٤٤

(قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فيه وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقبيح شأنهم (رِجْزاً) عذابا طاعونا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩) بسبب فسقهم أي خروجهم عن الطاعة فهلك منهم في

____________________________________

الفات متواليات فقلبت الهمزة ياء للخفة هنا ، ففيه خمس إعمالات قلب الياء التي قبل الهمزة همزة ثم قلب الهمزة الثانية ياء ثم قلب كسرة الأولى فتحة ثم قلب الثانية الفا ثم قلب الأولى ياء تأمل ، وخطايا هنا باتفاق القراء ، وأما في الإعراف فيقرأ خطيئات ، وحكمة ذلك أنه هنا أسند القول لنفسه فهو يغفر الذنوب وإن عظمت فناسب التعبير بخطايا الذي هو جمع كثرة ، وفي الأعراف بنى الفعل للمجهول فعبر بجمع القلة ، وقوله نغفر مجزوم في جواب قوله ادخلوا المقيد بالسجود وبالقول. قوله : (وَسَنَزِيدُ) عبر بالسين والمضارع إشارة إلى أن المحسن لا ينقطع ثوابه بل دائما يتجدد شيئا فشيئا.

قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) حكمة الإتيان بذلك الزيادة في التقبيح عليهم. قوله : (منهم) قدرها هنا لأنه ذكرها في الأعراف ، والقصة واحدة فما تركه هنا قدره هناك وبالعكس. قوله : (قَوْلاً) أي وفعلا ففيه اكتفاء على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد ، أو المراد بالقول الأمر الإلهي وهو يشمل القول والفعل كأنه قال فبدل الذين ظلموا أمرا غير الذي أمروا به. قوله : (فقالوا حبة في شعرة إلخ) لف ونشر مشوش لأن هذا راجع إلى حطة ، وقوله : (ودخلوا إلخ) راجع لقوله سجدا ، وما فسر به المفسر هو الصحيح لأنه حديث البخاري ، وقيل قالوا حنطة في شعرة أو شعيرة أو حنطة حمراء في شعرة سوداء أو حنطة بيضاء في شعرة سوداء ، ومعنى حبة في شعرة جنس الحب وجنس الشعر أي نسألك حبا في زكائب من شعر. قوله : (ودخلوا يزحفون) وقيل إنهم مستلقين على ظهورهم. قوله : (على أستاههم) جمع سته وهو الدبر أي أدبارهم. قوله : (رِجْزاً) هو في الأصل فناء ينزل بالإبل أطلق وأريد منه مطلق الفناء. قوله : (بسبب فسقهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر ، ومشى المفسر على أن كان تتصرف فسبكه من الخبر ، وقيل إن كان متصرفة يأتي منها المصدر لقول الشاعر :

ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إياه عليك يسير

فعليه أن ما تسبك بها بمصدر أي بكونهم فاسقين وهو المعتمد. قوله : (فهلك منهم إلخ) أي فالطاعون عذاب لهم بخلاف الأمة المحمدية فإنه رحمة لهم من مات به أو في زمنه كان شهيدا ، وقد ذكروا أن في الآية سؤالات ، الأول : قوله هنا وإذ قلنا ، وفي الأعراف وإذ قيل ، وأجيب بأنه صرح هنا بالفاعل لإزالته الإبهام وحذفه في الأعراف للعلم به مما هنا. الثاني : قال هنا ادخلوا وهناك اسكنوا ، وأجيب بأن الدخول مقدم على السكنى فذكر الدخول في السورة المتقدمة ، والسكنى في المتأخرة على حسب الترتيب الطبيعي. الثالث : قال خطاياكم باتفاق السبعة وهناك خطيئاتكم في بعضها وتقدم جوابه. الرابع : ذكر هنا رغدا وحذفه من هناك ، والجواب أن القصة ذكرت هنا مبسوطة وهناك مختصرة. الخامس : قدم هنا دخول الباب على قولوا حطة وعكس هناك ، وأجيب بأن ما هنا هو الأصل في الترتيب وعكس فيما يأتي اعتناء بحط الذنوب. السادس : إثبات الواو في وسنزيد هنا وحذفها هناك ، وأجيب بأنه لما تقدم أمران كان المجيء بالواو مؤذنا بأن مجموع الغفران والزيادة جزء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت الواو أفاد

٤٥

ساعة سبعون ألفا أو أقل (وَ) اذكر (إِذِ اسْتَسْقى مُوسى) أي طلب السقيا (لِقَوْمِهِ) وقد عطشوا في التية (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وهو الذي فر بثوبه خفيف مربع كرأس الرجل رخام أو كذان فضربه (فَانْفَجَرَتْ) انشقت وسالت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد الأسباط

____________________________________

توزيع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع : لم يذكر هنا منهم وذكرها هناك ، واجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من حيث قال ومن قوم موسى أمة فذكر لفظ منهم آخرا ليطابق الآخر الأول. الثامن : ذكر هنا انزلنا وهناك أرسلنا وأجيب بأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث في آخر الأمر. التاسع : هنا يفسقون وهناك يظلمون ، وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقا ، اكتفى بذكر الظلم هناك لأجل ما تقدم من البيان هنا. العاشر : قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً) فيه إخبار بالمجازاة عن المخالفة في القول دون الفعل ، وجوابه ما تقدم فلتحفظ.

قوله : (وَ) (اذكر) أي يا محمد ، والمناسب لما تقدم وما يأتي أن يقدر اذكروا ويكون خطابا لبني إسرائيل بتعداد النعم عليهم ، والأول وإن كان صحيحا إلا أنه خلاف النسق. قوله : (أي طلب السقيا) أشار بذلك إلى أن السين والتاء للطلب ، والفعل إما رباعي أو ثلاثي ، يقال سقى وأسقى قال تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) والمصدر سقيا والإسم السقيا. قوله : (وقد عطشوا في التية) أشار بذلك إلى أن المراد بقومه من كان معه في التية لا جميعهم ، وتقدم أنهم ستمائة ألف غير دوابهم ، وقدر مسافة الأرض التي تكفيهم اثنا عشر ميلا ، وعطش من باب ضرب وعلم. قوله : (فَقُلْنَا) القائل الله على لسان جبريل أو غيره. قوله : (بِعَصاكَ) كانت من آس الجنة طولها عشرة اذرع وطول موسى كذلك ، وكان لها شعبتان تضيئان له في الظلام وتظلانه في الحر ، وكانت تسوق له الغنم وتطرد عنها الذئاب. قوله : (وهو الذي فر بثوبه) أي حين رموه بالإدرة وهي انتفاخ الخصية ، وكان بنو اسرائيل لا يبالون بكشف العورة ، فأراد موسى الغسل فوضع ثوبه على ذلك الحجر ففر بذلك الثوب فخرج موسى من الماء وقال ثوبي حجر ثوبي حجر ، فنظر بنو إسرائيل لعورته فلم يروه كما ظنوا. قال تعالى : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) وهذا الحجر قيل أخذه هو والعصا من شعيب ، وقيل إن الحجر أخذه من وقت فراره بثوبه وكان طوله ذراعا وعرضه كذلك وله جهات أربع في كل جهة ثلاثة أعين ، فكان يضربه بالعصا عند طلب السقيا فتخرج منه اثنتا عشرة عينا بعدد فرق بني إسرائيل ، وتلك العصا كانت من الجنة خرجت مع آدم مع عدة أشياء نظمها سيدي على الأجهوري بقوله :

وآدم معه أنزل العود والعصا

لموسى من الآس النبات المكرم

وأوراق تين واليمين بمكة

وختم سليمان النبي المعظم

قوله : (أو كذان) بفتح الكاف وتشديد الذال المعجمة الحجر اللين. قوله : (فضربه) أشار بذلك إلى أن الفاء في قوله فانفجرت عاطفة على محذوف.

قوله : (فَانْفَجَرَتْ) عبر هنا بالإنفجار ، وفي الأعراف بالإنبجاس إشارة إلى أن ما هنا بيان للغاية ، وما في الأعراف بيان للمبدأ فإن مبدأ خروج الماء الرشح الذي هو الإنبجاس ، ثم إذا قوي سمي انفجارا

٤٦

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) سبط منهم (مَشْرَبَهُمْ) موضع شربهم فلا يشركهم فيه غيرهم وقلنا لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠) حال مؤكدة لعاملها من عثى بكسر المثلثة أفسد (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ) أي نوع منه (واحِدٍ) وهو المن والسلوى (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا) شيئا (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ) للبيان (بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها) حنطتها (وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ) لهم موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أخس (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أشرف أي أتأخذونه بدله والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا الله تعالى فقال تعالى (اهْبِطُوا) انزلوا (مِصْراً) من الأمصار (فَإِنَّ لَكُمْ) فيه (ما سَأَلْتُمْ) من النبات (وَضُرِبَتْ) جعلت (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الذل والهوان (وَالْمَسْكَنَةُ) أي أثر الفقر من السكون والخزي فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته (وَباؤُ) رجعوا

____________________________________

وقيل معناهما واحد. قوله : (اثْنَتا) فاعل انفجرت مرفوع بالألف لأنه ملحق بالمثنى وعشرة بمنزلة النون في المثنى. قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي فكانت كل عين تأتي لقبيلة واعظم من هذه المعجزة نبع الماء من اصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) تنازعه كل من كلوا واشربوا ، فأعمل الأخير ، وأضمر في الأول ، وحذف ، والمراد بالرزق المرزوق ، وهو بالنسبة للأكل المن والسلوى. قوله : (مؤكدة لعاملها) وحكمة ذلك عظم بلادتهم ، فنزلوا منزلة الساهي والغافل. قوله : (من عثى) أي والمصدر عثيا بضم العين وكسرها.

قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ) أي واذكروا إذ قالت أصولكم. قوله : (أي نوع منه) جواب عن سؤال كيف يقولون واحد مع أنهما اثنان ، فأجاب المراد وحدة النوع الذي هو الطعام المستلذ. قوله : (شيئا) قدره إشارة إلى أن مفعول يخرج محذوف. قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) بيان لذلك الشيء. قوله : (بيان) أي بيان ما تنبته الأرض. قوله : (بَقْلِها) هو ما لا ساق له ، كالكراث والفجل والملوخية وشبهها. قوله : (وَقِثَّائِها) هي الخضراوات ، كالبطيخ والخيار وغير ذلك. قوله : (حنطتها) قيل هو الثوم ، لأن الثاء تقلب فاء في اللغة ، والأقرب ما قاله المفسر. قوله : (قال لهم موسى) وقيل القائل الله على لسان موسى. قوله : (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) الباء داخلة على المتروك. قوله : (للإنكار) أي التوبيخي. قوله : (فدعا الله) أشار بذلك إلى أن قوله اهبطوا مرتب على محذوف. قوله : (اهْبِطُوا) يطلق الهبوط على النزول من أعلى لأسفل ، وعلى الإنتقال من مكان لمكان ، وهو المراد. إن قلت : ظاهر الآية أنهم متمكنون من الإنتقال ، مع أن الأمر ليس كذلك ـ أجيب : بأن ذلك على سبيل التوبيخ واللوم عليهم في ذلك تقدير الكلام ، أن مطلوبكم يكون في الأمصار ، فإن كنتم متمكنين منها فلكم ما سألتم ، وإلا فاصبروا على حكم الله. قوله : (مِصْراً) بالتنوين لجمهور القراء ، ولم يقرأ بعدمه إلا الحسن وأبي للعلمية والتأنيث ، ونظيرها يجوز فيه الصرف وعدمه ، لأنه اسم ثلاثي ساكن الوسط. قوله : (عَلَيْهِمُ) أي على ذرياتهم إلى يوم القيامة وكل من نحا نحوهم. قوله : (أي أثر الفقر) أي القلبي ولو كثرت أمواله ، قال عليه الصلاة والسّلام : «الفقر سواد الوجه في الدارين». قوله : (لزوم الدرهم إلخ) الكلام على القلب أي لزوم السكة للدرهم ، والمراد بالسكة أثرها ، لأن السكة اسم للحديدة المنقوشة يضرب عليها الدراهم ، فكذلك لا يخلو يهودي من آثار

٤٧

(بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ) أي الضرب والغضب (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) كزكريا ويحيى (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ظلما (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١) يتجاوزون الحد في المعاصي وكرره للتأكيد (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالأنبياء من قبل (وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) طائفة من اليهود أو النصارى (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في زمن نبينا (وَعَمِلَ صالِحاً) بشريعته (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ)

____________________________________

الفقر ، قال المفسرون : مبدأ زيادة الذلة والغضب من وقت إشاعتهم قتل عيسى. قوله : (بِآياتِ اللهِ) أي المعجزات التي أتى بها موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. قوله : (كزكريا) أي بالنشر حين أوى إلى شجرة الأثل فانفتحت له فدخلها فنشروها معه. قوله : (ويحيى) أي قتلوه على كلمة الحق ، ورد أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا وأقاموا سوقهم. قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) من المعلوم أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق ، وإنما ذكره إشارة إلى أن اعتقادهم موافق للواقع ، فهم يعتقدون أنه بغير الحق كما هو الواقع. قوله : (بما عصوا) أصله عصيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ثم حذفت لإلتقاء الساكنين وبقيت الفتحة لتدل عليها. قوله : (وكرره) أي اسم اشارة وهو لفظ ذلك ، قال بعضهم : وفي تكرير الإشارة قولان أحدهما أنه مشار به إلى ما أشير إليه بالأول على سبيل التأكيد ، والثاني أنه مشار به إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيها ، وما مصدرية والباء للسببية ، وأصل يعتدون يعتديون استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان ، حذفت الياء لإلتقائهما وضمت الدال لمناسبة الواو.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هذه الآية معترضة بين قصص بني إسرائيل. قوله : (من قبل) أي قبل بعثة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كبحيرا الراهب وأبي ذر الغفاري وورقة بن توفل وسلمان الفارسي وقس بن ساعدة وغيرهم ممن آمن بعيسى ولم يغير ولم يبدل حتى أدرك محمدا وآمن به ، وأما من آمن بعيسى وأدرك محمدا ولم يؤمن به فذلك مخلد في النار ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، والذين اسم إن وآمنوا صلته والذين معطوف عليه وهادوا صلته. قوله : (هم اليهود) من هاد إذا رجع سموا بذلك لرجوعهم من عبادة العجل على أنه عربي ، وأما على أنه عبراني فعرب فاصله يهوذا اسم أكبر أولاد يعقوب فأبدلت المعجمة مهملة.

قوله : (وَالنَّصارى) جمع نصران والياء للمبالغة كأحمرى ، سموا بذلك لأنهم نصروا عيسى على كلمة الحق ، كما سمي الأنصار أنصارا لنصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل نسبة لناصرة قرية بالشام. قوله : (وَالصَّابِئِينَ) أي المائلين عن دينهم. قوله : (أو النصارى) إشارة إلى تنويع الخلاف أي صبؤوا عن دينهم وعبدوا النجوم والملائكة ، وقيل فرقة ادعوا أنهم على دين صابىء بن شيث بن آدم. والأرجح ما قاله المفسر. قوله : (من) اسم موصول مبتدأ وآمن صلته والعائد محذوف ، قدره المفسر بقوله منهم وبالله متعلق بآمن ، وقوله : فلهم أجرهم خبر المبتدأ وقرن بالفاء لما في المبتدأ من العموم ، ويصح أن يكون من اسم شرط مبتدأ وآمن فعل الشرط ، وقوله فلهم أجرهم جواب الشرط وخبر المبتدأ فيه خلاف ، قيل فعل الشرط رقيل جوابه وقيل هما والجملة خبر إن ، ويصح أن يكون من بدل من اسم إن وجملة فلهم أجرهم خبر إن. قوله : (أَجْرُهُمْ) في الأصل مصدر بمعنى الإيجار ، والمراد به هنا الثواب وهو مقدار من الجزاء أعده

٤٨

أي ثواب أعمالهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) روعي في ضمير آمن وعمل لفظ من وفيما بعده معناها (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) عهدكم بالعمل بما في التوراة (وَ) قد (رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل اقتعلناه من أصله عليكم لما أبيتم قبولها وقلنا (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) النار أو المعاصي (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الميثاق عن الطاعة (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لكم بالتوبة أو تأخير العذاب (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤) الهالكين (وَلَقَدْ) لام قسم (عَلِمْتُمُ) عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) تجاوزوا الحد (مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) بصيد السمك وقد نهيناهم عنه وهم

____________________________________

الله لعباده في نظير أعمالهم الحسنة بمحض الفضل. قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي في الآخرة.

قوله : (مِيثاقَكُمْ) الخطاب لبني إسرائيل. قوله : (وَ) (قد) (رَفَعْنا) قدر المفسر لفظ قد إشارة إلى أن الجملة حالية. قوله : (الطُّورَ) في الأصل اسم لكل جبل ، لكن المراد به هنا جبل معروف بفلسطين. قوله : (وقلنا) (خُذُوا) قدره المفسر إشارة إلى أن خذوا مقول لقول محذوف ، وحاصل ذلك أن الله لما آتى موسى التوراة وأمرهم بالسجود شكرا لله أبوا من قبول التوراة ومن السجود ، فرفع الله جبل الصور فوق رؤوسهم كأنه سحابة قدر قامتهم وكان على قدرهم ، فسجدوا على نصف الجبهة الأيسر فصار ذلك فيهم إلى الآن ثم لما رفع عنهم أبوا. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الترجي بالنسبة للمخاطبين. قوله : (الميثاق) أشار بذلك إلى مرجع اسم الإشارة ، وقال البيضاوي : إنه راجع لرفع الجبل وإيتاء التوراة.

قوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) لو حرف امتناع لوجود أي امتنع خسرانكم لوجود فضل الله ورحمته ، وجوابها يقترن باللام غالبا إن كان مثبتا فإن كان منفيا بما فالغالب الحذف أو بغيرها فالجواب الحذف وتختص بالجمل الإسمية ومدخولها المبتدأ يجب حذف خبره لإغناء جوابها عنه ، قال ابن مالك : وبعد لو لا غالبا حذف الخبر ختم. قوله : (بالتوبة) هذا في حق المؤمنين أو قوله وتأخير العذاب في حق الكافرين. قوله : (الهالكين) أي في الدنيا والآخرة. قوله : (عرفتم) أي فتنصب مفعولا واحدا والعلم والمعرفة قيل مترادفان ، ولكن يقال في الله عالم لا عارف لأن السماء توقيفية ، وقيل العلم أوسع دائرة من المعرفة لتعلقه بالجزئيات والكليات والبسائط والمركبات بخلاف المعرفة ، فلذلك يقال في الله عالم لعموم ما تعلق به علمه لا عارف لأنه يوهم القصور والمعتمد الأول ، وقوله لام قسم أي محذوف تقديره والله لقد عرفتم.

قوله : (الَّذِينَ) مفعول علمتم واعتدوا صلته وأصله اعتديوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين. قوله : (مِنْكُمْ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل اعتدوا. قوله : (فِي السَّبْتِ) هو لغة القطع وهو أصل وضعه لأنه ورد أن الدنيا ابتدئت بالأحد وختمت بالجمعة فكان يوم السبت يوم انقطاع عمل خصت اليهود به لقطعهم عن رحمة الله ، أو مأخوذ من السبوت وهو السكون لأن بانقطاع العمل السكون. قوله : (وهو أهل أيلة) حاصله أن سبعين الفا من قوم داود كانوا بقرية تسمى أيلة عند العقبة في أرغد عيش ، فامتحنهم الله بأن حرم عليهم اصطياد السمك يوم السبت وأحل لهم باقي الجمعة ، فإذا كان يوم السبت وجدوا السمك بكثرة على وجه الماء وفي باقيها لم يجدوا شيئا ، ثم إن إبليس علمهم حيلة يصطادون بها فقال لهم اصنعوا جداول حول البحر فإذا جاء السمك ونزل في

٤٩

أهل أيلة (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) مبعدين فكانوها وهلكوا بعد ثلاثة أيام (فَجَعَلْناها) أي تلك العقوبة (نَكالاً) عبرة مانعة من ارتكاب مثل ما عملوا (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي للأمم التي في زمانها وبعدها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٦٦) الله خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم (وَ) اذكر (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) وقد قتل لهم قتيل لا يدري قاتله وسألوه أن يدعو الله أن يبينه لهم فدعاه (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) مهزوءا بنا حيث تجيبنا بمثل ذلك (قالَ أَعُوذُ) امتنع (بِاللهِ) من (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧) المستهزئين فلما علموا أنه عزم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ماسنها (قالَ) موسى (إِنَّهُ) أي الله (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) مسنة (وَلا بِكْرٌ) صغيرة (عَوانٌ) نصف (بَيْنَ ذلِكَ) المذكور من السنين (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) (٦٨) به من ذبحها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) شديدة الصفرة (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (٦٩) إليها بحسنها أي تعجبهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أسائمة أم عاملة (إِنَّ الْبَقَرَ) أي جنسه المنعوت

____________________________________

الجداول فسدوا عليه وخذوه في غير يوم السبت ، فافترقوا ثلاث فرق ، فاثنا عشر ألفا فعلوا ذلك واصطادوا وأكلوا فمسخوا قردة ، ومكثوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ثم ماتوا ، وأما ما وجد من القردة الآن فلم يكونوا من ذريتهم بل خلق آخر ، وقيل مسخت شبابهم قردة وشيوخهم خنازير ، وقيل الذين مسخوا خنازير أهل المائدة ، وفرقة نهوهم وجعلوا بينهم سدا ، وفرقة أنكروا بقلوبهم ولم يتعرضوا لهم ، فمن نهى نجاى وكذا من لم ينه على المعتمد.

قوله : (فَقُلْنا) المراد بالقول تعلق الإرادة. قوله : (مبعدين) أي عن رحمة الله. قوله : (نَكالاً) هو في الأصل القيد الحديد أطلق وأريد لازمه وهو المنع ، لأن المقيد ممنوع فكذا تلك العقوبة مانعة. قوله : (مثل ما عملوا) المماثلة في مطلق المخالفة. قوله : (واذكروا) أي يا بني إسرائيل قوله : (قتيل) اسمه عاميل. قوله : (بَقَرَةً) واحدة البقر يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف ، تقول بقرة أنثى وبقرة ذكر ، فالتاء للوحدة وقيل للتأنيث فالأنثى بقرة والذكر ثور ، وسمي البقر بقرا لأنه يبقر الأرض بحافره أي يشقها. وأول القصة قوله فيما يأتي (وإذ قتلتم نفسا) الآية : قوله : (مهزوءا بنا) أشار بذلك إلى أنه مصدر بمعنى اسم المفعول ، ويصح أن يبقى على مصدريته مبالغة أو على حذف مضاف أي ذوي هزء ، على حد ما قيل في زيد عدل والهزؤ هو الكلام الساقط الذي لا معنى له. قوله : (مِنَ الْجاهِلِينَ) أي المبلغين عن الله الكذب. قوله : (إنه عزم) أي مفروض وحق لا هزل فيه. قوله : (أي ما سنها) أي فيما واقعة على الأوصاف ، وقولهم إن ما يسأل بها عن الماهية والحقيقة أغلبي. قوله : (لا فارِضٌ) من الفرض وهو القطع سميت بذلك لقطعها عمرها. قوله : (نصف) بالتحريك يقال للمرأة والبقرة ، قال الشاعر :

وإن أتوك وقالوا إنها نصف

قل إن أحسن نصفيها الذي ذهبا

وكرر لا لوقوع النعت بعدها ، وكذا إذا وقع بعدها الحال والخبر. قوله : (به) هو عائد الموصول وقوله من ذبحها بيان لما قوله : (قالَ) أي موسى وقوله : (إِنَّهُ) أي الله. قوله : (فاقع) صفة لصفراء وهو مبالغة في الصفرة ، يقال أحمر قانىء وأسود حالك وأبيض ناصع وأصفر فاقع. قوله : (بحسنها) أي

٥٠

بما ذكر (تَشابَهَ عَلَيْنا) لكثرته فلم نهتد إلى المقصودة (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) (٧٠) إليها في الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) غير مذللة بالعمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) تقلبها للزراعة والجملة صفة ذلول داخلة في النفي (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) الأرض المهيأة للزراعة (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب وآثار العمل (لا شِيَةَ) لون (فِيها) غير لونها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) نطقت بالبيان التام فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه فاشتروها بملء مسكها ذهبا (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١) لغلاء ثمنها ، وفي الحديث «لو ذبحوا أي بقرة

____________________________________

لجمال خلقتها وحيث شددوا شدد عليهم ، إذ لو أتوا أولا بأي بقرة لكفت ، ثم لو أتوا بما في السؤال الثاني. لكفت ، ثم ما في الثالث لكفت ، ولكن شددوا فشدد عليهم. قوله : (أسائمة) أي متروكة في الجبال ترعى من كلئها. قوله : (أم عاملة) أي يعلفها ربها ويشغلها.

قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ) تعليل للإسئلة الثلاثة. قوله : (لو لم يستثنوا) أي بالمشيئة. قوله : (آخر الأبد) أي إلى انقضاء الدنيا. قوله : (لا ذَلُولٌ) من الذلة وهي السهولة بل فيها الصعوبة. قوله : (داخلة في النفي) أي فالمعنى ليست مذللة لعمل ولا مثيرة للأرض. قوله : (الأرض المهيأة إلخ) المناسب أن يقول الحرث أي الزرع لأن الحرث يطلق على الزرع. قوله : (الْآنَ) ظرف زمان للوقت الحاضر. قوله : (جِئْتَ بِالْحَقِ) أي بصفات البقر التي لا تخفى ولا تلتبس ، فلا تنافي بين الآية وقول المفسر فطلبوها. قوله : (نطقت بالبيان التام) جواب عن سؤال ورد على الآية ، وهو أن ظاهر مفهوم الآية يقتضي أنهم كفار ، فأجاب المفسر بأن فيه حذف النعت مع بقاء المنعوت وهو جائز لقول ابن مالك :

وما من المنعوت والنعت عقل

يجوز حذفه وفي النعت يقل

قوله : (فطلبوها) أي بحثوا عنها. قوله : (عند الفتى البار بأمه) وحاصل ذلك أن أبا الفتى المذكور كان رجلا صالحا من بني إسرائيل قد حضرته الوفاة ، وكان عنده بقرة قد ولدت انثى ، فأخذ تلك الأنثى ووضعها في غيضة واوصى أم الغلام أن تعطيه تلك البقرة حين يكبر ومات ، ثم إن الولد صار يحتطب ويبيع الحطب ويقسم اثلاثا : يصرف ثلثه على نفسه والثلث الآخر على أمه والثلث الآخر يتصدق به ، ويقسم ليله أثلاثا : ينام ثلثه ويخدم أمه ثلثه ويقوم لطاعة الله ثلثه ، فما كبر الغلام قالت له أمه اذهب إلى الغيضة الفلانية فإن فيها بقرة تركها لك أبوك ، واوصاني إذا كبرت أن اعطيها لك ، واقسم عليها بابراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب فإنها تأتي لك طائعة ، ففعل كما أمرته فجاءت له طائعة وقالت له اركب على ظهري ، فقال لها إن أمي لم تأمرني بالركوب ، فقالت له لو ركبت على ظهري ما قدرتني إلى الأبد ، فأخذها وذهب إلى أمه فقالت له اذهب إلى السوق فبعها بثلاثة دنانير على مشورة ، فذهب فأتاه ملك على صورة رجل وقال له بكم تبيعها فقال بثلاثة دنانير على مشورة أمي ، فقال له بعها بستة دنانير من غير مشورة فقال لا ثم ذهب إلى أمه واخبرها بذلك فقالت له بعها بستة على مشورتي ، فذهب فأتاه ثانيا واعطاه فيها اثني عشر على غير مشورة فأبى ، فذهب إلى أمه واخبرها فقالت له إن هذا ملك من عند الله فاذهب إليه واقرئه السّلام وقل له أنبيع البقرة أم لا ، فذهب إليه وأخبره بذلك فقال له إن بني إسرائيل يقتل لهم قتيل ويتوقف بيان قاتله على تلك البقرة فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهبا ففعل ما أمر به ، والفتى هو الشاب السخي ولا شك أنه كان كذلك. قوله : (مسكها) بفتح الميم الجلد.

قوله : (فَذَبَحُوها) مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله فطلبوها إلخ. قوله : (وَما كادُوا

٥١

كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ) فيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي تخاصمتم وتدافعتم (فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ) مظهر (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٧٢) من أمرها وهذا اعتراض وهو أول القصة (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) أي القتيل (بِبَعْضِها) فضرب بلسانها أو عجب ذنبها فحيي وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ومات فحرما الميراث وقتلا. قال تعالى : (كَذلِكَ) الإحياء (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أيها اليهود صلبت عن قبول الحق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في القسوة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) منها (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ) فيه إدغام التاء في الأصل في الشين (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) ينزل من علو إلى أسفل (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقلوبكم لا تتأثر ولا

____________________________________

يَفْعَلُونَ) أي ما قاربوا الفعل (قوله لغلاء ثمنها) أي أو للتعنت في أوصافها. قوله : (فيه إدغام التاء في الأصل إلخ) أي اصله تدار أتم قلبت التاء دالا وأدغمت فيها وأتى بهمزة الوصل توصلا للنطق بالساكن. قوله : (أي تخاصمتم) أي اتهم بعضكم بعضا. قوله : (وهذا اعتراض) أي جملة معترضة بين المعطوف وهو فقلنا اضربوه إلخ والمعطوف عليه وهو فذبحوها. قوله : (وهو أول القصة وإنما أخره ليواصل قبائح بني إسرائيل بعضها ببعض. قوله : (فَقُلْنا) معطوف على فذبحوها والقائل الله على لسان موسى. قوله : (بلسانها) أي لأنه محل الكلام. قوله : (أو عجب ذنبها) إشارة لتنويع الخلاف ، والحكمة في ذلك أنه محل حياة ابن آدم ، وقيل ضربوه بفخذها اليمنى وقيل بقطعة لحم منها. قوله : (فحيي) ورد أنه قام واوداجه تشخب دما. قوله : (ومات) أي سريعا بلا مهلة. قوله : (فحرما الميراث) أي لأن القاتل لا يرث من تركة المقتول شيئا حتى في شرع موسى ، وسبب قتله إياه أن المقتول كان غنيا والقاتل كان فقيرا فلما طال عمر المقتول قتله ليرثه ، وقيل غير ذلك. قوله : (كَذلِكَ) هذه الجملة معترضة بين قصص بني أسرائيل ردا على منكري البعث ، فإن بني إسرائيل لم يكونوا منكرين له ، فالخطاب لمشركي العرب المنكرين للبعث.

قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) نزل استبعاد قسوة قلوبهم لظهور الخوارق للعادات العظيمة منزلة التراخي ، فأتى بثم وأكده بالظرف بعده. قوله : (أيها اليهود) دفع بذلك ما يقال إنه خطاب لغير بني إسرائيل كالذي قبله. قوله : (صلبت عن قبول الحق) أشار بذلك إلى أن في قست استعارة تصريحية تبعية حيث شبه عدم الإذعان بالقسوة بجامع عدم قبول التأثير في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه واشتق من القساوة قست بمعنى لم تذعن فلم تقبل المواعظ ولم تؤثر فيها. قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) لم يشبههم بالحديد لوجود اللين فيه في الجملة. قوله : (أَوْ أَشَدُّ) هذ ترق في ذكر قسوتهم فأو بمعنى بل. قوله : (فيه إدغام التاء إلخ) أي فأصله يتشقق فأبدلت التاء شيئا ثم أدغمت فيها. قوله : (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي أنهارا أو غيرها كالعيون فهو من عطف العام على الخاص. قوله : (ينزل من علو إلى أسفل) أي كجبل الطور ، وورد ما من حجر يسقط من علو إلى أسفل إلا من خشية الله. قوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أخذ أهل السنة من ذلك ومن قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ومن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ

٥٢

تلين ولا تخشع (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) وإنما يؤخركم لوقتكم وفي قراءة بالتحتانية وفيه التفات عن الخطاب (أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي اليهود (لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) طائفة (مِنْهُمْ) أحبارهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) في التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يغيرونه (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) أنهم مفترون والهمزة للإنكار أي لا تطمعوا فلهم سابقة في الكفر (وَإِذا لَقُوا) أي منافقو اليهود (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بأن محمدا نبي وهو المبشر به في كتابنا (وَإِذا خَلا) رجع (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) أي رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لمن نافق (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي المؤمنين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي عرفكم في التوراة من

____________________________________

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، أن كل شيء يعرف الله ويسبحه ويخشاه إلا الكافر من الإنس والجن. قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) ما نافية ولفظ الجلالة اسمها وبغافل خبرها ، وقوله عما تعملون يحتمل أن ما اسم موصول وتعملون صلته والعائد محذوف أي عن الذي تعملونه ، ويحتمل أنها مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر أي عن عملكم.

قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) سيأتي للمفسر أن الهمزة للإنكار ، فيحتمل أنها مقدمة من تأخير والأصل فاتطمعون قدمت لأن لها الصدارة وهو مذهب الجمهور ، وقال الزمخشري إن الهمزة داخلة على محذوف والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، التقدير اتسمعون كلامهم وتعرفون احوالهم فتطمعون إلخ أي لا يكون منكم ذلك ، واعلم أن الهمزة لا تدخل إلا على ثلاثة من حروف العطف الواو والفاء وثم. قوله : (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي يستبعد ذلك منهم لافتراقهم أربع فرق في كل فرقة صفة مانعة له من الإيمان ، الأول كونهم يحرفون كلام الله ، الثاني النفاق ، الثالث التوبيخ من غير المنافق المنافق على ملاطفة المسلمين ، الرابع كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، فهذه يستبعد معها الإيمان لرسوخ الكفر في قلوبهم.

قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) الجملة حالية وقد قربت الماضي من حال ، والمراد من كان النسبة لأن هذا الكلام فيمن كان موجودا زمن النبي لا فيمن كان قبلهم. قوله : (أحبارهم) علماؤهم جمع حبر بالكسر ويقال بالفتح وجمعه حبور كفلس وفلوس. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي من بعد تعقلهم إياه وتحريفهم في الكلام كأوصاف النبي من كونه اكحل العينين جعد الشعر ، فغيروه إلى أزرق العينين سبط الشعر ، وآية الرجم غيروها إلى الجلد وغير ذلك. قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الجملة حالية من فاعل يحرفون. قوله : (أنهم مفترون) أشار بذلك إلى أن مفعول يعلمون محذوف ، والإفتراء هو الكذب الذي لا شك فيه. قوله : (للإنكار) أي الإستبعادي. قوله : (أي لا تطمعوا) عبر بالطمع دون الرجاء ، إشارة إلى فقد أسباب الإيمان منهم وعدم قابليتهم له. قوله : (فلهم سابقة في الكفر) أي كفر سابق قبل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اياهم للإيمان ، وهذا الجملة علة لقوله لا تطمعوا.

قوله : (وَإِذا لَقُوا) شروع في ذكر الفرقة الثانية وهم المنافقون ورئيسهم عبد الله بن سلول. قوله : (وَإِذا خَلا) شروع في الفرقة الثالثة وهم الموبخون للمنافقين. قوله : (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ما اسم موصول وجملة فتح صلته والعائد محذوف ، التقدير بالذي فتح الله عليكم به وما واقعة على أوصاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (من نعت محمد) بيان لما. قوله : (واللام للصيرورة) أي عاقبة أمرهم أنهم يحاجونكم

٥٣

نعت محمد (لِيُحَاجُّوكُمْ) ليخاصموكم واللام للصيرورة (بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) في الآخرة ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٧٦) أنهم يحاجونكم إذا حدثتموهم فتنتهوا قال تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) الإستفهام للتقرير والواو الداخل عليها للعطف (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٧) ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره فيرعووا عن ذلك (وَمِنْهُمْ) أي اليهود (أُمِّيُّونَ) عوام (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) التوراة (إِلَّا) لكن (أَمانِيَ) أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها (وَإِنْ) ما (هُمْ) في جحد نبوة النبي وغيره مما يختلقونه (إِلَّا يَظُنُّونَ) (٧٨) ظنا ولا علم لهم (فَوَيْلٌ) شدة عذاب (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أي مختلقا من عندهم (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا

____________________________________

عند ربكم ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها. قوله : (في الآخرة) إشارة إلى معنى العندية وهو متعلق بيحاجوكم. قوله : (أنهم يحاجونكم) أشار بذلك إلى مفعول تعقلون وأنه من كلام الرؤساء الذين لم ينافقوا. قوله : (الإستفهام للتقرير) أي على سبيل التوبيخ ، حيث اعتقدوا أن المنافق يؤاخذ والكافر الأصلي لا حجة عليه وله عذر قائم عند ربه وهذه الجملة حالية. قوله : (الداخل) نعت سببي للواو فكان عليه أن يظهر فاعله ويقول ، والواو الداخل الإستفهام عليها للعطف لوجود اللبس. قوله : (للعطف) أي على محذوف تقديره أيلومونهم ولا يعلمون ، وتقدم أن هذا مذهب الزمخشري.

قوله : (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) هذه الجملة سدت مسد مفعولي يعلمون إن كانت على بابها أو مفعولها إن كانت بمعنى يعرفون قوله : (فيرعووا) أي فينكفوا وينزجروا وهو مرتب على قوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) كما أن قوله فتنتهوا مرتب على قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ). قوله : (وَمِنْهُمْ) شروع في ذكر الفرقة الرابعة. قوله : (أُمِّيُّونَ) أي منسوبون للأم لعدم انتقالهم عن حقيقتهم الأصلية التي ولدتهم عليها ، قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) والأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب. قوله : (إِلَّا) (لكن) (أَمانِيَ) اشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع والأماني جمع امنية وهو ما يتمناه الشخص ، ويطلق على القراءة وعلى الأكاذيب وهو المراد هنا. قوله : (فاعتمدوها) أي ثبتوا عليها ورسخت في قلوبهم. قوله : (ما) (هُمْ) اشار بذلك إلى أن إن نافية بمعنى ما ، والغالب وقوعها بعد إلا التي بمعنى لكن ، وهل تعمل عمل ما الحجازية فتنصب الاسم وترفع الخبر ، أو لا عمل لها فما بعدها مبتدأ وخبر خلاف بين الجمهور وسيبويه فاختار سيبويه الأول مستدلا بقول الشاعر :

إن هو مستوليا على أحد

إلا على اضعف المجانين

واختار الجمهور الثاني. قوله : (ولا علم لهم) أي ليس عندهم جزم مطابق الواقع ، وإنما أخر الأميون لأنهم اقرب للإيمان بخلاف من قبلهم فإنهم وأضلوا افرأيت من اتخذ إلهه هواه واضله الله على علم. قوله : (فَوَيْلٌ) شروع في ذكر ما يستحقونه. قوله : (شدة عذاب) وقيل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لا نماعت من حره. قوله : (الْكِتابَ) أي المكتوب. قوله : (بِأَيْدِيهِمْ) دفع بذلك ما يتوهم أن المراد املوه لغيرهم. قوله : (لِيَشْتَرُوا) علة لقوله يكتبون قوله : (غيروا صفة النبي) أي من كونه ربعة جعد الشعر اكحل العينين ، فغيروها وقالوا طويل سبط الشعر ازرق العينين. قوله : (وآية الرجم) أي

٥٤

وهم اليهود غيروا صفة النبي في التوراة وآية الرجم وغيرهما وكتبوها على خلاف ما أنزل (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من المختلق (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٧٩) من الرشا (وَقالُوا) لما وعدهم النبي النار (لَنْ تَمَسَّنَا) تصيبنا (النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قليلة أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول (قُلْ) لهم يا محمد (أَتَّخَذْتُمْ) حذفت منه همزة الوصل استغناء بهمزة الإستفهام (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) ميثاقا منه بذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) به لا (أَمْ) بل (تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٠) (بَلى) تمسكم وتخلدون فيها (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) شركا (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) بالأفراد والجمع أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨١) روعي فيه معنى من (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢) واذكر (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ

____________________________________

فغيروها إلى الجلد. قوله : (وغيرهما) أي كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وكدعواهم أنهم من أهل الجنة. قوله : (من الرشا) بكسر الراء وبضمها جمع رشوة بتثليث الراء ، وهو من باب تقديم السبب على المسبب لأن أخذ الرشوة سبب للتبديل. وقوله : (مِمَّا كَتَبَتْ) يحتمل أن ما اسم موصول وكتبت صلتها والعائد محذوف أي كتبته ، ويحتمل أن ما مصدرية ، التقدير من كتبهم وكذا قوله : (مِمَّا يَكْسِبُونَ) قوله : (اربعين يوما) وقيل سبعة أيام ، وقوله قليلة تفسير باللازم لمعدودة لأن معنى المعدودة التي يسهل عدها ، وشأن القليلة سهولة عدها. قوله : (استغناء بهمزة الاستفهام) أي لأنه يحصل بها التوصل للنطق بالساكن مع إفادة المراد من الإستفهام ، وفي اتخذتم قراءتان سبعيتان الأولى بالفك والثانية بالإغام ، وطريقته أن تقلب الذال دالا ثم تاء وتدغمها في التاء ، وهذا الاستفهام يحتمل أن يكون تقريريا فتكون الجملة انشائية وأم متصلة معادلة للهمزة التي لطلب التعيين ، التقدير اتخذتم عند الله عهدا أم لم تتخذوا ، ويحتمل أن يكون انكاريا بمعنى النفي فتكون الجملة خبرية وأم منقطعة بمعنى بل ، التقدير لم تتخذوا عند الله عهدا بل تقولون على الله ما لا تعلمون وهذا هو الأقرب ولذا اختاره المفسر. قوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) هذه الجملة في محل جزم جواب الإستفهام ، وقيل إنها جواب شرط مقدر تقديره أن اتخذتم فلن يخلف الله عهده وقرن بالفاء لوجود لن في حيزه. قوله : (بل) (تَقُولُونَ) أشار بذلك إلى أنها منقطعة والإضراب انتقالي.

قوله : (بَلى) هو حرف جواب للنفي لكنه يصير اثباتا ، وأما نعم وجير وأجل وأي فلتقرير ما قبلها اثباتا أو نفيا. قوله : (تمسكم) رد لقولهم لن تمسنا وقوله وتخلدون فيها رد لقولهم إلا اياما معدودة. قوله : (مَنْ كَسَبَ) يحتمل أن تكون من شرطية وكسب فعل الشرط ، وجوابه فأولئك اصحاب النار وأن تكون موصولة وكسب صلتها وقرن خبرها بالفاء لما في الموصل من معنى العموم ، ولم يقرن خبر التي بعدها بالفاء إشارة إلى أن خلود النار مسبب عن الكفر بخلاف خلود الجنة فلا يتسبب عن الإيمان بل بمحض فضل الله ، كذا قاله بعض الأشياخ. قوله : (سَيِّئَةً) اصلها سيوئة اجتمعت الواو والياء وسبقت احداهما بالسكون ، قلبت الواو ياء وادغمت في الياء على حد ما قيل في سيد وميت. قوله : (بالإفراد) أي باعتبار ذات الشرك ، وقوله : (والجمع) أي باعتبار انواعه. قوله : (واحدقت به من كل جانب) أي فلم يجد ملجأ لكفره. قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي وأما من آمن ولم يعمل صالحا غير الإيمان فمخلد في الجنة

٥٥

بَنِي إِسْرائِيلَ) في التوراة وقلنا (لا تَعْبُدُونَ) بالتاء والياء (إِلَّا اللهَ) خبر بمعنى النهي وقرىء لا تعبدوا (وَ) أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) برا (وَذِي الْقُرْبى) القرابة عطف على الوالدين (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ) قولا (حُسْناً) من الأمر بالمعروف ولنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد والرفق بهم وفي قراءة بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فقبلتهم ذلك (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الوفاء به فيه

____________________________________

أيضا وتحت المشيئة في الإبتداء ، وقد جرت عادة الله في كتابه أنه إذا ذكر آية الكفار وعاقبة امرهم يتبعها بذكر آية المؤمنين وعاقبة امرهم.

قوله : (وَ) (اذكر) أي يا محمد والمناسب للسياق اذكروا ويكون خطابا لبني إسرائيل ، الفروع تذكيرا لهم بقبائح أصولهم. قوله : (وقلنا) (لا تَعْبُدُونَ) قدر ذلك إشارة إلى أن جملة لا تعبدون في محل نصب مقول لقول محذوف ، وذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل أخذنا ، التقدير ، وأذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل حال كوننا قائلين لا تعبدون إلخ ، ويحتمل أن جملة لا تعبدون إلا الله مفسرة للميثاق لا محل لها من الإعراب ولا حذف وهو الأقرب. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ولا التفات في ذلك على ما قرره المفسر من تقدير القول ، وعلى الإحتمال الثاني ففيه التفات على قراءة التاء من الغيبة إلى الخطاب فإن الإسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله : (خبر بمعنى النهي) أي فهي جملة خبرية لفظا لعدم جزم الفعل إنشائية معنى لأن القصد النهي عن عبادة غير الله! لا الإخبار عنهم بأنهم لا يعبدون غير الله ، والحكمة في التعبير عن الإنشاء بالخبر استبعاد ذلك منهم وتقوية للإنشاء ، كأنه قيل لا ينبغي أن تعبدوا غير الله حتى ننهاكم عنه ، بل أخبر عنهم بأنهم لا يعبدون إلا الله كأنه لم يقع منهم عبادة لغيره أبدا. قوله : (وقرىء) أي قراءة شاذة لأن قاعدة المفسر يشير للشاذة بقرىء وللسبعية بأي قراءة غالبا. قوله : (وأحسنوا) قدر ذلك إشارة إلى أنه من عطف الجمل على جملة لا تعبدون ، وأتى بحق الوالدين عقب حق الله ، إشار إلى أنه آكد الحقوق بعد عبادة الله. قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) فإنهما السبب في وجود الشخص ويجب برهما ولو كافرين ، وبالجملة فلم يشدد الله على أمر كتشديده على برهما. قوله : (عطف على الوالدين) أي من عطف المفردات ، وأحسنوا مسلط عليه التقدير ، واحسنوا بذي القربى لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان اليهم إنما هو بواسطتهما.

قوله : (وَالْيَتامى) جمع يتيم وهو من الآدميين من فقد أباه ، ومن غيرهم من فقد أمه. قوله : (وَالْمَساكِينِ) المراد ما يشمل الفقراء فإن الفقير والمسكين متى اجتمعا افترقا ومتى افترقا اجتمعا قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ) أي عموما ومنه الحديث «وخالق الناس بخلق حسن». قوله : (قولا) (حُسْناً) أشار بذلك إلى أن حسنا بفتحتين صفة مشبهة لموصوف محذوف. قوله : (والنهي عن المنكر) أي على حسب مراتبه من النهي باليد ثم اللسان ثم القلب. قوله : (والرفق بهم) أي بالناس بأن يوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية. قوله : (مصدر) أي على غير قياس إن كان فعله أحسن وهو المتبادر ، وقياسي إن كان فعله حسن كظرف وكرم. قوله : (وصف به مبالغة) أي أو على حذف مضاف على حد ما قيل في زيد عدل.

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي المفروضات عليهم في مثلهم ، وما نزل بقارون من

٥٦

التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣) عنه كآبائكم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) وقلنا (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) تريقونها بقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من داره (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) قبلتم ذلك الميثاق (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٨٤) على أنفسكم (ثُمَّ أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) بقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ) فيه إدغام التاء في الأصل في

____________________________________

الخسف به وبداره سببه منع الزكاة. قوله : (فقبلتم ذلك) قدر ذلك لأجل العطف بثم عليه. قوله : (فيه التفات) وحكمته الإستلذاذ للسامع وعدم الملل منه ، فإن الإلتفات من المحسنات للكلام. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أي من أجدادكم وهو من أقام اليهود على وجهها قبل النسخ ، أي ومنكم أيضا وهو من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) خطاب للفروع ويلاحظ قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) هنا كما علمت فتغاير معنى الجملتين فلا تكرار.

قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) المقدر اذكروا فهو خطاب لبني إسرائيل وهو معطوف على الجملة الأولى المتعلقة بحقوق الله ، وهذه الجملة متعلقة بحقوق العباد ، فخانوا كلا من العهدين. وهي متضمنة لأربعة عهود : الأول لا يسفك بعضهم دماء بعض ، الثاني لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، الثالث لا يتظاهر بعضهم على بعض بالإثم والعدوان ، الرابع أن وجد بعضهم بعضا أسيرا فداه ولو بجميع ما يملك. قوله : (مِيثاقَكُمْ) أي ميثاق آبائكم في التوراة ، فإن هذا خطاب لقريظة وبني النضير الكائنين في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (وقلنا) (لا تَسْفِكُونَ) قدر القول إشارة إلى أن الجملة في محل نصب مقول لقول محذوف ، والجملة حالية من فاعل أخذنا ، التقدير أخذنا ميثاقكم حال كوننا قائلين ، ويحتمل أن الجملة لا محل لها من الإعراب تفسير للميثاق وتقدم ذلك في نظيره.

قوله : (لا تَسْفِكُونَ) مضارع سفك من باب ضرب وقتل أراق الدم أو الدمع. قوله : (بقتل بعضكم بعضا) أشار بذلك إلى أنه من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، لأنه يلزم من القتل إراقة الدم غالبا والإضافة في دمائكم لأدنى ملابسة ، فإن دم الأخ كدم النفس أو باعتبار أن من قتل يقتل ، أي فلا تتسببوا في قتل أنفسكم بقتلكم غيركم ، وهنا حذف يعلم بما يأتي أي ظلما وعدوانا. قوله : (مِنْ دِيارِكُمْ) أصله دوار وقعت الواو إثر كسرة قلبت ياء ، وأسند الإخراج لأنفسهم مع أنهم يخرجون غيرهم ، لأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله. قوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) لم يذكر هنا بقية العهود لأن عهد عدم التظاهر بالإثم والعدوان ملاحظ في العهدين الأولين ، أما الرابع فقد وفوا به فلم يعاتبهم الرب عليه. قوله : (على أنفسكم) أشار بذلك إلى أن الجملة مؤكدة لجملة ثم أقررتم لأن الشهادة على النفس هي الإقرار بعينه ، ويحتمل أن قوله ثم أقررتم خطاب لبني إسرائيل الأصول ، وقوله وأنتم تشهدون خطاب للفروع ، فتغاير معنى الجملتين ولا تأكيد.

قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أنتم مبتدأ وجملة تقتلون خبره ، وهؤلاء منادى وحرف النداء محذوف والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر ، قوله : (تَظاهَرُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل تخرجون وهو من باب الحذف من الأوائل لدلالة الأواخر ، التقدير تقتلون أنفسكم متظاهرين وتخرجون فريقا كذلك

٥٧

الظاء وفي قراءة بالتخفيف على حذفها تتعاونون (عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ) بالمعصية (وَالْعُدْوانِ) الظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) وفي قراءة أسرى (تُفادُوهُمْ) وفي قراءة تفادوهم تنقدوهم من الأسر بالمال أو غيره وهو مما عهد إليهم (وَهُوَ) أي الشأن (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) متصل بقوله وتخرجون والجملة بينهما اعتراض أي كما حرم ترك الفداء وكانت قريظة حالفوا الأوس والنضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم وكانوا إذا سئلوا لم تقاتلونهم وتفدونهم قالوا أمرنا بالفداء فيقال فلم تقاتلونهم فيقولون حياء أن تستذل حلفاؤنا ، قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو الفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) هوان وذل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد خزوا بقتل قريظة ونفي النضير إلى الشام وضرب الجزية (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥) بالياء والتاء (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ

____________________________________

قوله : (في الأصل) أي بعد قلبها ظاء ، قوله : (بالتخفيف) أي بحذف التاء الثانية التي ليست للمضارعة ، ولم تحذف التي للمضارعة لأنه أتى بها المعنى. قوله : (بِالْإِثْمِ) يجمع على آثام قوله : (وفي قراءة اسرى) أي بالإمالة وهي لحمزة وكل منهما جمع لأسير ، قوله : (وفي قراءة تفادوهم) الحاصل أن القراءات خمس أسرى بالإمالة مع تفدوهم فقط أسارى بالإمالة وعدمها مع تفدوهم وتفادوهم. وقوله : (أي الشأن) ويقال ضمير القصة يفسره ما بعده ، قال ابن هشام ويختص بخمسة اشياء كونه مفردا ولو كان مرجعه مثنى أو مجموعا ، وتأخير مرجعه وكونه جملة ولا يعمل فيه إلا الابتداء أو الناسخ ولا يتبع.

قوله : (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) مبتدأ وخبر والجملة خبر ضمير الشأن ولم تحتج لرابط لأنها عين المبتدأ في المعنى. قوله : (والنضير) معطوف على قريظة والعامل فيه كانت ، وقوله الخزرج معطوف على الأوس والعامل فيه حالفوا ففيه العطف على معمولي عاملين مختلفين قصدا للإختصار ، ويحتمل أن الخزرج معمول لمحذوف التقدير حالفوا والحاصل أن الأوس والخزرج فرقتان في المدينة وهم الأنصار وكان بينهما عداوة ولم يرسل لهم نبي غير رسول الله ، وأما قريظة وبنو النضير فكانوا مكلفين بشريعة موسى وكانوا اذلاء ، فاستعز قريظة بالأوس وبنو النضير بالخزرج ، فكان إذا اقتتل الأوس مع الخزرج قاتل مع كل حلفاؤه ، فإذا أسر حلفاء قريظة أسيرا من بني النضير افتداه قريظة وبالعكس فإذا سئلوا عن القتال أجابوا بأنهم قاتلوا خشية أن يستذل من استعزوا به ، وعن الفداء أجابوا بأننا أمرنا به. قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ) أي تصدقون بالعمل به قوله : (وقد خزوا) أصله خزيوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان الياء والواو حذفت الياء لالتقاء الساكنين وقلبت كسرة الزاي ضمة لمناسبة الواو. قوله : (بقتل قريظة) أي حين دخل النبي المدينة وأسلم الأوس والخزرج ، فعزاهم النبي وأصحابه إلى أن نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بقتل شجعانهم وسبي ذراريهم ونسائهم فقتل منهم سبعمائة ، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة. قوله : (ونفي النضير إلى الشام) أي مع كل واحد حمل بعير من طعام لا غير. قوله : (وضرب الجزية) أي على من بقي من قريظة وسكن خيبر ، وعلى بني النضير بعد ذهابهم إلى الشام. قوله : (يُرَدُّونَ) وقرىء شاذ بالتاء. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بأن

٥٨

الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) بأن آثروها عليها (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦) يمنعون منه (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أتبعناهم رسولا في أثر رسول (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص (وَأَيَّدْناهُ) قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار فلم تستقيموا (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى) تحب (أَنْفُسُكُمُ) من الحق (اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه جواب كلما وهو محل الإستفهام والمراد به التوبيخ (فَفَرِيقاً) منهم

____________________________________

آثروها) بالمد بمعنى قدموها.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) شروع في ذكر نعم أخرى لبني إسرائيل قابلوها بقبائح عظيمة ، وصدر الجملة بالقسم زيادة في الرد عليهم. قوله : (وَقَفَّيْنا) من التقفية وهي المشي خلف القفا أطلق ، وأريد به مطلق الإتباع. قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) يحتمل أن الضمير عائد على موسى أو الكتاب. قوله : (أي أتبعناهم رسولا في أثر رسول) ظاهره أنه لا يجتمع رسولان في زمن واحد ، وليس كذلك ، فإن زكريا ويحيى كانا في زمن واحد ، وكذا دواد وسليمان ، وورد أنهم قتلوا سبعين نبيا في يوم واحد واقاموا سوقهم ، وأجيب بأن مراد التبع في العمل بالتوراة ، فكل الأنبياء الذين بين موسى وعيسى يعملون بالتوراة بوحي من الله لا تقليدا لموسى. إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقول أي اتبعنا بعضهم بعضا في العمل بالتوراة كانوا في زمن واحد أو لا ، وقوله بالرسل مراده ما يشمل الأنبياء وعدة الأنبياء والرسل الذين بين موسى وعيسى سبعون ألفا وقيل أربعة آلاف.

قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى) معطوف على آتينا موسى وخصه بالذكر ، وإن كان داخلا في قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) لعظم شرفه ومزيته ، ولكون رسولا مستقلا بشرع يخصه لأنه نسخ بعض ما في التوراة ، وللرد على اليهود حيث ادعوا أنهم قتلوه ، وعيسى لغة عبرانية معناه السبوح. قوله : (ابْنَ مَرْيَمَ) معنى مريم خادمة لله ، وفي اصطلاح العرب المرأة التي تكره مخالطة الرجال. قوله : (الْبَيِّناتِ) أل للعهد أي المعجزات المعهودة له. قوله : (وإبراء الأكمة) هو من ولد أعمى. قوله : (أي الروح القدس) أي المطهرة. قوله : (جبريل) وجه تسميته روحا أن الروح جسم نوراني به حياة الأبدان ، وجبريل جسم نوراني به حياة القلوب. قوله : (لطهارته) أي من المعاصي والمخالفات والأقذار ، وقد مدحه الله بقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الآية. قوله : (يسير معه حيث سار) أي ولم يزل معه حتى رفعه إلى السماء. قوله : (فلم تستقيموا) قدره المفسر لعطف قوله أفكلما جاءكم رسول عليه. قوله : (بِما لا تَهْوى) ماضيه هوى من باب تعب وضرب ، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، وهو تذكير للفروع بقبائح أصولهم.

قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) السين زائدة والتقدير تكبرتم كلما جاءكم رسول بالذي لا تحبه أنفسكم. قوله : (والمراد به التوبيخ) أي اللوم والتقريع عليهم. قوله : (فَفَرِيقاً) معمول لكذبتم وقدم مراعاة للفواصل ، وقدم التكذيب على القتل مع أن القتل أشنع لأن التكذيب مبدأ القتل. قوله : (كعيسى) أي كذبوه ولم يتمكنوا من قتله بل رفعه الله إلى السماء. قوله : (المضارع لحكاية الحال الماضية) أي فنزل وقوعه

٥٩

(كَذَّبْتُمْ) كعيسى (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧) المضارع لحكاية الحال الماضية أي قتلتم كزكريا ويحيى (وَقالُوا) للنبي استهزاء (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أي مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول قال تعالى (بَلْ) للإضراب (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته وخذلهم عن القبول (بِكُفْرِهِمْ) وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨) ما زائدة لتأكيد القلة أي إيمانهم قليل جدا (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة هو القرآن (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل مجيئه (يَسْتَفْتِحُونَ) يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق وهو بعثة النبي (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب الثانية (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) باعوا (بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي حظها من الثواب وما نكرة بمعنى شيئا تمييز لفاعل بئس والمخصوص بالذم (أَنْ يَكْفُرُوا) أي كفرهم (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن (بَغْياً) مفعول له

____________________________________

منهم فيما مضى منزلة وقوعه الآن استعظاما له. قوله : (كزكريا) أي حيث نشروه حين هرب منهم وأوى إلى شجرة أثل فانفتحت له ودخلها. قوله : (ويحيى) أي قتلوه من أجل امرأة فاجرة ، أردا محرمها التزوج بها فمنعه من ذلك.

قوله : (وَقالُوا) أي الموجودون في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (أي مغشاة بأغطية) أي حسية. قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) المراد بالقلة الإستبعاد أي فايمانهم مستبعد لطرد الله إياهم عن رحمته وسبق شقاوتهم ، ويحتمل أن تبقى القلة على بابها ، أي فمن آمن منهم قليل كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ويحتمل أن القلة باعتبار الزمن أي أن الزمن الذي يؤمنون فيه قليل جدا ، قال تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)

قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) هذه الجملة من تعلقات الجملة التي قبلها ، وكل منهما حكاية عن اليهود الذين كانوا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله من عند الله صفة أولى لكتاب ، وقوله مصدق صفة ثانية له وجملة وكانوا من قبل حال من الضمير في جاءهم. قوله : (مِنْ قَبْلُ) مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله : (يستنصرون) السين والتاء للطلب. قوله : (وهو بعثة النبي) في الحقيقة بعثة النبي والكتاب. قوله : (دل عليه جواب الثانية) أي والأصل ولما جاءكم كتاب من عند الله مصدق لما معهم كفروا بذلك الكتاب وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا وهو النبي الكريم كفروا به ، فبين الجملتين تغاير لفظا وإن كان بينهما تلازم معنى. قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) الخ ، بئس فعل ماض لإنشاء الذم وفاعلها مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود على الشيء ، يفسره قوله ما اشتروا فما تمييز لذلك الفاعل وما بعدها صفة لها ، وإن يكفروا في تأويل مصدر المخصوص بالذّم وهو يعرب مبتدأ والجملة التي قبله خبر عنه أو خبر لمبتدأ محذوف ، قال ابن مالك :

ويعرب المخصوص بعد مبتدأ

أو خبر اسم ليس يبدو أبدا

قوله : (من القرآن) بيان لما. قوله : (مفعول له ليكفروا) أي مفعول لأجله والعامل فيه يكفروا.

٦٠