حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

أظلم (عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) قيل هو الزهرة (قالَ) لقومه وكانوا نجامين (هذا رَبِّي) في زعمكم (فَلَمَّا أَفَلَ) غاب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) أن أتخذهم أربابا لأن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال لأنهما من شأن الحوادث فلم ينجع فيهم ذلك (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) طالعا (قالَ) لهم (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يثبتني على الهدى (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧) تعريض لقومه بأنهم على ضلال فلم ينجع فيهم ذلك (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً

____________________________________

قوله : (فَلَمَّا جَنَ) من الجنة وهي الستر ، وحاصل ذلك أن نمروذ بن كنعان كان يدعو الناس إلى عبادته ، وكان له كهان ومنجمون ، فقالوا له إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة ، وأمر بعزل النساء عن الرجال ، وجعل على كل عشرة رجلا يحفظهم ، فإذا حاضت المرأة خلوا بينها وبين زوجها ، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما ، فخرج نمروذ بالرجال في البرية وعزلهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود ، فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر ، فبعث إليه فأحضره عنده وقال له : إن لي إليك حاجة أحب أوصيك بها ، ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك ، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ، فقال آزر أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك ، ثم دخل على أهله فلم يتمالك نفسه حتى واقع زوجته فحملت من ساعتها بإبراهيم ، فلما دنت ولادتها خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها ، فلما وضعته جعلته في نهر يابس ، ثم لفته في خرقة وتركته ، قيل أخبرت أباه به ، وقيل لا ، وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل ، فتجده حيا وهو يمص من أصبع ماء ، ومن أصبع لبنا ، ومن أصبع سمنا ، ومن أصبع عسلا ، ومن أصبع تمرا ، وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر ، وفي الشهر كالسنة ، فمكث خمسة عشر شهرا ، قالوا فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه من ربي قالت أنا ، قال فمن ربك قالت أبوك ، قال فمن رب أبي قالت اسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض ، ثم أخبرته بما قال ، فأتاه أبوه آزر فقال إبراهيم : يا أبتاه من ربي قال أمك ، قال فمن رب أمي قال أنا ، قال فمن ربك قال نمروذ قال فمن رب نمروذ فلطمه لطمة وقال له اسكت. (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) الآية ، واختلف في وقت هذا القول ، هل كان قبل البلوغ والرسالة أو بعدهما ، والصحيح أنه بعد البلوغ وإيتاء الرسالة ، وما وقع من إبراهيم إنما هو مجاراة لقومه واستدراج لهم ، لأجل أن يعرفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله ، وليس إثباته الربوبية لهذه الأجرام على حقيقة حاشاه من ذلك ، لأن الأنبياء معصومون من الجهل قبل النبوة وبعدها ، لأن توحيدهم بالشهود على طبق ما جبلت عليه أرواحهم من يوم ألست بربك. قوله : (قيل هو الزهرة) خصها لأنها أضوأ الكواكب وهي في السماء الثالثة. قوله : (وكانوا نجامين) أي عالمين بالنجوم أو عابدين لها. قوله : (في زعمكم) أي فالجملة خبرية على حسب زعمهم ، لا على حسب الواقع واعتقاد إبراهيم. قوله : (غاب) يقال أفل الشيء أفولا. قوله : (التغير والانتقال) أي لأن الأفول حركة ، الحركة تقتضي حدوث المتحرك وإمكانه ، فيمتنع أن يكون إلها. قوله : (فلم ينجع) أي لم يؤثر ويفد ، وهو من باب خضع ، يقال نجع نجوعا ظهر أثره. قوله : (بازِغاً) حال

٤٦١

قالَ هذا) ذكره لتذكير خبره (رَبِّي هذا أَكْبَرُ) من الكوكب والقمر (فَلَمَّا أَفَلَتْ) وقويت عليهم الحجة ولم يرجعوا (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث فقالوا له ما تعبد قال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) قصدت بعبادتي (لِلَّذِي فَطَرَ) خلق (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي الله (حَنِيفاً) مائلا إلى الدين القيم (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) به (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) جادلوه في دينه وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها (قالَ أَتُحاجُّونِّي) بتشديد النون وتخفيفها بحذف إحدى النونين وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند القراء

____________________________________

من القمر والبزغ الطلوع.

قوله : (قالَ هذا رَبِّي) أي بزعمكم كما تقدم. قوله : (يثبتني على الهدى) إنما قال ذلك لأن أصل الهدى حاصل للأنبياء بحسب الفطرة والخلقة فلا يتصور نفيه. قوله : (تعريض لقومه) إنما عرض بضلالهم في أمر القمر ، لأنه أيس منهم في أمر الكوكب ، ولو قاله في الأول لما أنصفوه ، ولهذا صرح في الثالثة بالبراءة منهم وأنهم على شرك ، أي فالتعريض هنا لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم ، قوله : (فلم ينجع فيهم ذلك) أي الدليل المذكور. قوله : (لتذكير خبره) أي وهو ربي وهذا كالمتعين ، لأن المبتدأ والخبر عبارة عن شيء واحد ، والرب سبحانه وتعالى مصان عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفته علام ولم يقولوا علامة ، وإن كان علامة أبلغ تباعدا عن علامة التأنيث.

قوله : (هذا أَكْبَرُ) أي جرما وضوءا ، وسعة جرم الشمس مائة وعشرون سنة كما قاله الغزالي وفي رواية أنها قدر الأرض مائة وستين مرة ، والقمر قدرها مائة وعشرين مرة. قوله : (مِمَّا تُشْرِكُونَ) ما مصدرية ، أي بريء من إشراككم ، أو موصولة أي من الذي تشركونه مع الله فحذف العائد. قوله : (والأجرام) عطف عام لأنها تشمل الأصنام والنجوم. قوله : (قصدت بعبادتي) أي فليس المراد بالوجه الجسم المعروف ، بل المراد به القلب ، وإنما عبر المفسر بالقصد ، لأن القصد والنية محلهما القلب ، وإنما انتفى الوجه الحسي لاستحالة الجهة على الله. قوله : (خلق) (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي وما فيهما ، ومن جملته معبوداتكم العلوية والسفلية ، لقد أبطل السفلية بقوله إني. أراك وقومك في ضلال مبين ، والعلوية بقوله لما جن عليه الليل الخ. قوله : (حَنِيفاً) حال من التاء في وجهت.

قوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) روي أنه لما شب إبراهيم وكبر ، جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها له ليبيعها ، فيذهب بها وينادي يا من يشتري ما يضره ولا ينفعه ، فلا يشتريها أحد ، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه ، حتى إذا فشا فيهم استهزاؤه جادلوه ، وذلك قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) الخ. قوله : (وهددوه) عطف تفسير على (جادلوه) أي فمحاجتهم كانت بالتهديد لا بالبرهان لعدمه عندهم ومحاجة إبراهيم كانت بالبرهان ففرق بين المقامين. قوله : (أن تصيبه بسوء) أي كخبل وجنون.

قوله : (قالَ أَتُحاجُّونِّي) الخ ، استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من حكاية محاجتهم ، كأنه قيل فماذا قال حين حاجوه. قوله : (بتشديد النون) أي لإدغام نون الرفع في نون الوقاية. وقوله : (تخفيفها) أي تخلصا من اجتماع مشددين في كلمة واحدة وهما الجيم والنون. قوله : (عند النحاة) أي كسيبويه وغيره من

٤٦٢

أتجادلونني (فِي) وحدانية (اللهِ وَقَدْ هَدانِ) تعالى اليها (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ) ه (بِهِ) من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء (إِلَّا) لكن (أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) من المكروه يصيبني فيكون (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠) هذا فتؤمنون (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) بالله وهي لا تضر ولا تنفع (وَلا تَخافُونَ) أنتم من الله (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) في العبادة (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بعبادته (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) حجة وبرهانا وهو القادر على كل شيء (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أنحن أم أنتم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١) من الأحق به أي وهو نحن فاتبعوه قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا) يخلطوا (إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي شرك كما فسر بذلك في حديث الصحيحين (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) من العذاب (وَهُمْ

____________________________________

البصريين ، مستدلين بأنها نائبة عن الضمة ، وهي قد تحذف كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويأمركم بالإسكان ، فكذا ما ناب عنها. قوله : (عند القراء) أي مستدلين بأن الثقل إنما حصل بها. قوله : (وَقَدْ هَدانِ) يرسم بلاياء لأنها من ياءات الزوائد ، وفي النطق يجب حذفها في الوقف ، ويجوز إثباتها وحذفها في الوصل ، وجملة وقد هدان في محل نصب على الحال من الياء في أتحاجوني ، والمعنى أتحاجوني في الله حال كوني مهديا من عنده ، وحجتكم لا تجدي شيئا لأنها داحضة.

قوله : (ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أشار إلى أن ما موصولة ، فالهاء في به تعود على ما ، والمعنى ولا أخاف الذي تشركون الله به أو تعود على الله ، والمحذوف هو العائد على ما. قوله : (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، لأن المشيئة ليست مما يشركون به. قوله : (يصيبني) صفة ليشاء وهو إشارة إلى تقدير مضاف ، أي إلا أن يشاء ربي إصابة شيء لي ، وقوله : (فيكون) بالنصب عطف على مدخول أن أو بالرفع استئناف ، أي فهو يكون محول عن الفاعل كما يفيده المفسر نحو (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) والجملة كالتعليل. قوله : (عِلْماً) تمييز محول عن الفاعل كما يفيده المفسر نحو (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) كالتعليل للاستثناء قوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الهمزة داخلة على محذوف والفاء عاطفة عليه ، أي أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع فلا تتذكرون بطلانها.

قوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف مسوق لنفي الخوف عنه بالطريق الإلزامي بعد نفيه بحسب الواقع في سابقا (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) والاستفهام للتعجب. قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) مفعول لأشركتم. قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي من الموحد والمشرك. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وجوابها محذوف ، قدره المفسر بقوله فاتبعوه.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم ، أو من كلام قومه ، أو من كلام الله تعالى ، أقوال للعلماء ، فإن قلنا إنها من كلام إبراهيم ، كان جوابا عن السؤال في قوله فأي الفريقين الخ وكذا قلنا إنها من كلام قومه ، ويكونون أجابوا بما هو حجة عليهم ، وعلى هذين الاحتمالين فهو خبر لمحذوف ، وإن كان من كلام الله تعالى لمجرد الإخبار ، كان الموصول مبتدأ ، وأولئك مبتدأ ثان ، والأمن مبتدأ ثالث ، ولهم خبره ، والجملة خبر أولئك ، وأولئك وخبره خبر الأول. قوله : (في حديث الصحيحين) أي ففيهما عن ابن مسعود قال : لما نزلت الذين (آمَنُوا) الخ ، شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لم يظلم

٤٦٣

مُهْتَدُونَ) (٨٢) (وَتِلْكَ) مبتدأ ويبدل منه (حُجَّتُنا) التي احتج بها إبراهيم على وحدانية الله من أفول الكواكب وما بعده والخبر (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه لها حجة (عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالإضافة والتنوين في العلم والحكمة (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) (٨٣) بخلقه (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ابنه (كُلًّا) منهما (هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي قبل

____________________________________

نفسه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس ذلك إنما هو للشرك ، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهذا ما ذهب إليه أهل السنة ، وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك ، بناء على أن خلط أحد الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما ، ولا يتصور خلط الإيمان بالشرك ، لأنهما ضدان لا يجتمعان ، وأجاب أهل السنة بأن الإيمان قد يجامع الشرك ، ويراد بالإيمان مطلق التصديق ، سواء كان باللسان أو بغيره ، وكذا إن أريد به تصديق القلب ، لجواز أن يصدق المشرك بوجود الصانع دون وحدانيته ، كما قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أفاده زاده على البيضاوي.

قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) أعرب المفسر اسم الاشارة مبتدأ ، وحجتنا بدل منه ، وجملة (آتَيْناها) خبر المبتدأ. وقوله : (عَلى قَوْمِهِ) متعلق بمحذوف حال من الهاء في آتيناها ، وهو أحسن الأعاريب وقيل إن تلك حجتنا مبتدأ وخبر ، وآتيناها خبر ثان ، وعلى قومه متعلق بحجتنا ، واسم الإشارة عائد على قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى هنا ، أو من قوله (كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) إلى هنا. وقوله : (من أفول الكواكب) أي التي هي الزهرة والقمر والشمس. قوله : (وما بعده) أي وهو قوله (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) الخ.

قوله : (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي بوحي أو الهام. قوله : (حجة) (عَلى قَوْمِهِ) قدره المفسر إشارة إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الهاء في آتيناها. قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) مفعول نشاء محذوف تقديره رفعها. قوله : (بالإضافة والتنوين) أي فهما قراءتان سبعيتان فعلى الإضافة المفعول به هو درجات وعلى التنوين هو من نشاء ، ودرجات ظرف لنرفع ، والتقدير نرفع من نشاء في درجات. قوله : (في العلم والحكمة) قيل هي النبوة ، فالعطف مغاير ، وقيل العلم النافع ، فالعطف خاص على عام اعتناء بشرف نفع العلم وإظهارا لفضله. قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) أي يضع الشيء في محله ، وهو كالدليل لما قبله ، والمعنى أن الله لا معقب لحكمه ، فيرفع من يشاء ، ويضع من يشاء ، لا اعتراض عليه ، فإنه (حَكِيمٌ) يضع الشيء في محله ، (عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء.

قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) الخ ، لما أنعم الله على إبراهيم عليه‌السلام بالنبوة والعلم ، ورفع درجاته حيث جاهد في الله حق جهاده ، أتم الله عليه النعمة ، بأن وهب له إسحاق ويعقوب وإسماعيل وجعل في ذريته النبوة إلى يوم القيامة ، واسحاق هو من سارة ، وجملة وهبنا معطوفة على قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) عطف فعلية على اسمية ، والمقصود من تلاوة هذه النعم على محمد تشريفه ، لأن شرف الوالد يسري للولد. قوله : (كُلًّا هَدَيْنا) أي للشرع الذي أوتيه. قوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) نوح هو ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم وبالكاف ، وقيل ملكان بفتح الميم وسكون اللام ، وبالنون بعد الكاف ابن

٤٦٤

إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نوح (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ابنه (وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ) بن يعقوب (وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ) كما جزيناهم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤) (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى) ابنه (وَعِيسى) ابن مريم يفيد أن الذرية تتناول أولاد البنت (وَإِلْياسَ) ابن أخي هارون أخي موسى (كُلٌ) منهم (مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٥) (وَإِسْماعِيلَ) بن إبراهيم (وَالْيَسَعَ) اللام زائدة (وَيُونُسَ وَلُوطاً) بن هاران أخي إبراهيم (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦) بالنبوة (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على كلا أو نوحا ومن للتبعيض لأن بعضهم لم يكن له ولد وبعضهم كان في ولده كافر (وَاجْتَبَيْناهُمْ) اخترناهم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧) (ذلِكَ) الدين الذي هدوا إليه (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) فرضا (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

____________________________________

متوشلخ ، بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو ، وسكون الشين المعجمة وكسر اللام ، وبالخاء المعجمة ابن ادريس.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يحتمل أن الضمير عائد على نوح ، لأنه أقرب مذكور واختاره المفسر ، ويحتمل أنه عائد على إبراهيم ، لأنه المحدث عنه ، ويبعده ذكر لوط في الذرية ، مع أنه ليس ذرية إبراهيم ، بل هو ابن هارون وهو أخو إبراهيم. قوله : (وَأَيُّوبَ) هو ابن أموص بن رازح بن عيص بن اسحاق. قوله : (وَمُوسى) هو ابن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب ، وقوله : (وَهارُونَ) أي وهو أخو موسى وكان أسن منه بسنة.

قوله : (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي المؤمنين ، أي فمن اتبعهم في الإيمان ألحق بهم ورفع الله درجاته. قوله : (يفيد أن الذرية الخ) أي لأن عيسى لا أب له.

قوله : (وَإِلْياسَ) (ابن أخي هرون) وقيل هو إدريس فله اسمان وهو خلاف الصحيح ، لأن إدريس أحد أجداد نوح وليس من الذرية ، والياس بهمز أوله وتركه وهو ابن ياسين بن فنحاص بن عيزار ابن هارون بن عمران ، وهذا هو الصحيح ، فالصواب للمفسر حذف لفظة أخي. قوله : (وَالْيَسَعَ) الجمهور على أنه بلام واحدة ساكنة وفتح الياء ، وقرئ بلام مشددة وياء ساكنة ، وهو ابن أخطوب ابن العجوز.

قوله : (وَيُونُسَ) هو ابن متى وهي أمه. قوله : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي على سائر الأولين والآخرين. قوله : (عطف على كلا) أي والعامل فيه فضلنا ، وقوله : (أو نوحا) أي العامل فيه هدينا ، والأقرب الأول. قوله : (ومن للتبعيض) هذا ظاهر في الآباء والأبناء لا الإخوان فإنهم كلهم مهديون. قوله : (لأن بعضهم لم يكن له ولد الخ) هذا تعليل لكون من للتبعيض ، وقد خصه المفسر بالذرية ، ويقال مثله في الآباء. والحاصل أنه ذكر في هذه الآيات من الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا ثمانية عشر ، وبقي سبعة وهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدريس وشعيب وصالح وهود ذو الكفل وآدم ، فتكون الجملة خمسة وعشرين مذكورين في القرآن يجب الإيمان بهم تفصيلا ، وبقي ثلاثة مذكورون في القرآن واختلف في نبوتهم ، لقمان وذو القرنين والعزيز ، من أنكر وجودهم كفر ، ومن أنكر نبوتهم لا يكفر. قوله : (الذي هدوا إليه) أي وهو التوحيد. قوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا) (فرضا) أشار بذلك إلى الشرك مستحيل

٤٦٥

يَعْمَلُونَ) (٨٨) (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) بمعنى الكتب (وَالْحُكْمَ) الحكمة (وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة (هؤُلاءِ) أي أهل مكة (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أرصدنا لها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٨٩) هم المهاجرون والأنصار (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى) هم (اللهُ فَبِهُداهُمُ) طريقهم من التوحيد والصبر (اقْتَدِهْ) بهاء السكت وقفا ووصلا وفي قراءة بحذفها وصلا (قُلْ) لأهل مكة (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي القرآن (أَجْراً) تعطونيه (إِنْ هُوَ) ما القرآن (إِلَّا ذِكْرى) عظة (لِلْعالَمِينَ) (٩٠) الإنس والجن (وَما قَدَرُوا) أي اليهود (اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق

____________________________________

عليهم ، فلو غير مقتضيه للوقوع أو هو خطاب لهم والمراد غيرهم.

قوله : (أُولئِكَ) أي الأنبياء المتقدمون وهم الثمانية عشر. قوله : (الحكمة) أي العلم النافع أي المراد بالحكم الفصل بين الناس والقضاء بينهم. قوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا) أي وفقنا وأعددنا للقيام بحقوقها ، وهذا التعليل لجواب الشرط محذوف تقديره فلا ضرر عليك لأننا قد وكلنا الخ ، وفي هذه وعد من الله بنصره وإظهار دينه. قوله : (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي بل هم مستمرون على الإيمان بها ، والمعنى لا تحزن يا محمد على كفر أهل مكة ، فإن من كفر منهم وباله على نفسه ، وأما آيات الله فقد جعل لها أهلا يؤمنون بها ويعملون إلى يوم القيامة. قوله : (من التوحيد الخ) دفع ذلك ما يقال إن هذه الآية تقتضي أن رسول الله تابع لغيره من الأنبياء ، مع أن شرعه ناسخ لجميع الشرائع ، وأن كلهم ملتمسون منه ، فأجاب بأن الاقتداء في التوحيد الصبر على الأذى ، لا في فروع الدين. قوله : (وقفا ووصلا) أما الوقف فظاهر ، وأما الوصل فإجراء له مجرى الوقف ، قال ابن مالك :

وربما أعطى لفظ الوصل ما

للوقف نثرا وفشا منتظما

قوله : (الإنس والجن) أي ففي الآية دليل على عموم رسالته للعالمين إلى يوم القيامة ، وقد احتج العلماء بهذه على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ، وبيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم ، فكان نوح صاحب احتمال أذى على قومه وإبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة في سبيل الله عزوجل ، وإسحاق ويعقوب وأيوب وأصحاب صبر على البلاء والمحن ، وداود وسليمان أصحاب شكر على النعم ، ويوسف جمع بين الصبر والشكر ، وموسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة ، وزكريا ويحيى وعيسى والياس من أصحاب الزهد في الدنيا ، واسماعيل صاحب صدق الوعد ، ويونس صاحب تضرع وإخبات ، ثم إن الله أمر نبيه أن يقتدي بهم في جميع تلك الخصال المحمودة المتفرقة فيهم ، فثبت بهذا أنه أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال والله أعلم ا ه من الخازن.

لكن قد يقال إن المزية لا تقتضي الأفضلية ، ولذا قال أشياخنا المحققون إنه وإن كان جامعا لجميع ما تفرق في غيره ، لتفضيله من الله لا بتلك المزايا ، فقد فاقهم فضلا ومزايا.

ـ تتمة ـ بين آدم ونوح ألف ومائة سنة وعاش آدم تسعمائة وستين سنة وكان بين إدريس ونوح ألف سنة ، وبعث نوح لأربعين سنة ، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ،

٤٦٦

عظمته أو ما عرفوه حق معرفته (إِذْ قالُوا) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خاصموه في القرآن (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ) لهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ) بالياء والتاء في المواضع الثلاثة (قَراطِيسَ) أي يكتبونه في دفاتر مقطعة (تُبْدُونَها) أي ما يحبون إبداءه

____________________________________

وقيل بعث نوح وهو ابن ثلاثمائة وخمس وخمسين ، وإبراهيم ولد على رأس ألفي سنة من آدم ، وبينه وبين نوح عشرة قرون ، وعاش إبراهيم مائة وخمسا وسبعين ، وولده إسماعيل عاش مائة وثلاثين سنة ، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة ، وأخوه إسحاق ولد بعده بأربع عشر سنة ، وعاش مائة وثمانين سنة ، ويعقوب بن اسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين ، ويوسف بن يعقوب بن اسحاق عاش مائة وعشرين سنة ، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة ، وبين موسى وإبراهيم خمسمائة وخمس وستون سنة ، وولده سليمان عاش نيفا وخمسين سنة ، وبينه وبين مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ألف وسبعمائة سنة ، وأيوب عاش ثلاثا وستين سنة ، وكانت مدة بلائه سبع سنين انتهى من التحبير في علم التفسير للسيوطي.

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) استئناف مسوق لبيان أوصاف اليهود ، وقدر من باب نصر ، يقال قدر الشيء إذا سبره وحرزه ليعرف مقداره ، والمعنى لم يعترفوا بقدر الله ، وهذا الكلام إنما هو تنزل مع اليهود ، وإلا فالخلائق لم يعظموا الله حق تعظيمه ولم يعرفوه حق معرفته. واعلم أن هنا معنيين : الأول أن معنى وما قدروا الله حق قدره ، أي ما عرفوه المعرفة التي تليق به ، وهذه لا يصل إليها أحدا أبدا ، ففي الحديث : «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف لا أحصى ثنا عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا منتف في حق كل مخلوق ، فلا خصوصية لليهود ، الثاني أن معنى وما قدروا الله حق قدره ، أنهم لم يعظموه ولم يعرفوه على حسب ما أمروا به ، وهذا لم يقع من اليهود ، وإنما هو واقع من المؤمنين وهذا هو المراد هنا.

قوله : (إِذْ قالُوا) إما ظرف لقدروا أو تعليل له. قوله : (وقد خاصموه في القرآن) أي كفنحاص ابن عازوراء ومالك بن الصيف ، فقد جاء يخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين أي العالم الجسيم ، وكان مالك المذكور كذلك ، وكان فيها ما ذكر ، فقال نعم ، وكان يجب إخفاء ذلك ، لكن أقر لإقسام النبي عليه‌السلام ، فقال له النبي أنت حبر سمين ، فغضب وقال ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى ، فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فلما سمعت اليهود تلك المقالة غضبوا عليه وقالوا أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا ، قال اغضبني محمد فقلته ، فقالوا وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ، فعزلوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

قوله : (نُوراً) حال إما من به والعامل فيها جاء ، أو من الكتاب والعامل فيه أنزل ، ومعنى نورا بينا في نفسه ، وهدى مبينا لغيره ، وللناس متعلق بهدى. قوله : (تَجْعَلُونَهُ) حال ثانية ، وجعل بمعنى صير ، فالهاء مفعول أول ، وقراطيس مفعول ثان على حذف مضاف ، أي ذا قراطيس أو في قراطيس أو بولغ فيه. قوله : (بالياء والتاء) فعلى التاء يكون خطابا لليهود ، وعلى الياء التفات من الخطاب للغيبة. قوله : (في المواضع الثلاثة) أي يجعلون ويبدون ويخفون. قوله : (مقطعة) أي مفصولا بعضها من بعض ،

٤٦٧

منها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) مما فيها كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود في القرآن (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه (قُلِ اللهُ) أنزله إن لم يقولوه لا جواب غيره (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) باطلهم (يَلْعَبُونَ) (٩١) (وَهذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب (وَلِتُنْذِرَ) بالتاء والياء عطف على معنى ما قبله أي أنزلناه للبركة والتصديق ولتنذر به (أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي أهل مكة وسائر الناس (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢) خوفا من عقابها (وَمَنْ) أي لا أحد

____________________________________

ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه. قوله : (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي لم يظهروه ، بمعنى لم يكتبوه أصلا أو كتبوه وأخفوه عن ملوكهم وسفلتهم ، وجعلوا ذلك سرا بينهم. قوله : (كنعت محمد) أي وكآية الرجم ، وآية إن الله يبغض الحبر السمين.

قوله : (وَعُلِّمْتُمْ) يحتمل أن الخطاب لليهود كما قال المفسر ، وتكون الجملة حالية ، والمعنى تبدونها وتخفون كثيرا. والحال أن محمدا أعلمكم في القرآن بأشياء في التوراة ، ما لم تكونوا تعلموها أنتم ولا آباؤكم ، ويحتمل أن الخطاب لقريش ، وتكون الجملة مستأنفة معترضة بين السؤال والجواب. قوله : (قُلِ اللهُ) يحتمل أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره أنزله ، وعليه درج المفسر وهو الأولى ، لأن السؤال جملة اسمية ، فيكون الجواب كذلك ، ويحتمل أنه فاعل بفعل محذوف تقديره أنزله الله ، وقد صرح بالفعل في قوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). قوله : (فِي خَوْضِهِمْ) إما متعلق بذرهم أو بيلعبون ، ومعنى يلعبون يستهزؤون ويسخرون.

قوله : (وَهذا كِتابٌ) مبتدأ وخبر ، و (أَنْزَلْناهُ) صفة أولى ، و (مُبارَكٌ) صفة ثانية ، و (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) صفة ثالثة. قوله : (القرآن) لغة من القرء وهو الجمع ، واصطلاحا اللفظ المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته ، وهذا رد عليهم حيث قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قوله : (مُبارَكٌ) أي كله خير لمن آمن به ، وشر على من كفر به ، ومن بركته بقاء الدنيا ، وإنبات الأرض ، وإمطار السماء ، ولذا إذا رفع القرآن تأتي ريح لينة فيموت بها كل مؤمن ويبقى الكفار ، فبقاء الخير في الأرض مدة بقاء القرآن فيها.

قوله : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد والتنزيه ، والمعنى أنه دال على صدقها وأنها من عند الله. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى التاء يكون خطابا للنبي ، وعلى الياء يكون الضمير عائد على القرآن. قوله : (أي أنزلناه للبركة) هذه العلة مأخوذة من الوصف بالمشتق ، لأن تعليق الحكم به يؤذن بالعلية. قوله : (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، أي أهل أم القرى وهي مكة. قوله : (وسائر الناس) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بمن حولها ما قال ربها من البلاد ، بل المراد جميع البلاد ، لأن مكة وسط الدنيا ، واقتصر على الانذار لأنه هو الموجود في صدر الإسلام ، إذا ليس ثم مؤمن يبشر.

قوله : (وَالَّذِينَ) مبتدأ ، و (يُؤْمِنُونَ) صلته ، و (بِالْآخِرَةِ) متعلق بيؤمنون ، وقوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبره ، ولم يتحد المبتدأ والخبر لتغاير متعلقيهما ، والمعنى والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا معتدا به ،

٤٦٨

(أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادعاء النبوة ولم ينبأ (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزلت في مسيلمة (وَ) من (مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وهم المستهزئون قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الظَّالِمُونَ) المذكورون (فِي غَمَراتِ) سكرات (الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) اليهم بالضرب والتعذيب يقولون لهم تعنيفا (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إلينا

____________________________________

محصورون في الذين يؤمن بالقرآن ، فخرجت اليهود فلا يعتد بإيمانهم بالآخرة لعدم إيمانهم بالقرآن قوله : (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) جملة حالية من فاعل يؤمنون ، وخص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات. قوله : (خوفا من عقابها) أي الآخرة. قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) من اسم استفهام مبتدأ ، وأظلم خبره ، و (كَذِباً) تمييز ، وأشار بقوله : (أي لا أحد) إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

قوله : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) أو للتنويع والعطف مغاير ، وليس من عطف الخاص على العام ، ولا من عطف التفسير ، لأن ذلك لا يكون بأو. قوله : (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أي من قبل الله ، بل استهوته الشياطين ، وسلب الله عقله ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة حيث قال لما نزلت سورة الكوثر ، أنزلت علي سورة مثلها ، إنا أعطيناك العقعق فصل لربك وازعق إن شانئك هو الأبلق ، وغير ذلك من الخرافات التي قالها مسيلمة الكذاب ، فإن الآية نزلت فيه كما قال المفسر ، وقد ورد أنه أرسل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا مع رسولين يذكر فيه : من عند مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإن الأرض بيننا نصفين ، فلما وصله الكتاب قال للرسولين أتشهدان له بالرسالة؟ فقالا نعم ، فقال رسول الله : لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ، وكتب له : من عند محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

قوله : (وَ) (من) (مَنْ قالَ) قدره المفسر إشارة إلى أنه معطوف على المجرور بمن. قوله : (وهم المستهزئون) أي كعقبة بن أبي معيط وأبي جهل وأضرابهما ، وما ذكره المفسر هو المشهور ، وقيل نزلت في عبد الله بن أبي سرح ، كان من كتبة الوحي ثم ارتد وقال سأنزل مثل ما أنزل الله ، ثم رجع للإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نازل بمر الظهران ، وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في أي زمان إلى يوم القيامة. قوله : (وَلَوْ تَرى) لو حرف شرط وجوابها محذوف ، قدره المفسر فيما يأتي بقوله لرأيت أمرا فظيعا ، وترى بصرية ومفعولها لمحذوف تقديره الظالمين ، وإذ ظرف لترى ، والتقدير ولو ترى الظالمين وقت كونهم في غمرات الموات الخ. قوله : (المذكورون) أي مسيلمة الكذاب المستهزئون ، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله : (فِي غَمَراتِ) جمع غمرة من الغمر وهو الستر ، يقال غمرة الماء إذا ستره ، سميت السكرة بذلك لأنها تستر العقل وتدهشه.

قوله : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) تقدم أن الكافر موكل به سبع من الملائكة يعذبونه عند خروج روحه ، لأن الكافر يكره لقاء الله ، فتأبى روحه الخروج فيخرجونها كرها. إن قلت : إن المؤمن يكره الموت أيضا. أجيب : بأن المؤمن وإن أحب الحياة وكره الموت لكن ذلك قبل احتضاره ومعاينته ما أعد الله له من النعيم الدائم ، وأما إذا شاهد ذلك هانت عليه الدنيا وأحب الموت ولقاء الله ، وأما الكافر فعند خروج روحه حين يشاهد ما أعد له من العذاب الدائم يزداد كراهة في الموت ، وعلى ذلك يحتمل ما ورد : من

٤٦٩

لنقبضها (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) بدعوى النبوة والإيحاء كذبا (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣) تستكبرون عن الإيمان بها وجواب لو : لرأيت أمرا فظيعا (وَ) يقال لهم إذا بعثوا (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) منفردين عن الأهل والمال والولد (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي حفاة عراة غرلا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أعطيناكم من الأموال (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في الدنيا بغير اختياركم (وَ) يقال لهم توبيخا (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) الأصنام (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) أي في استحقاق عبادتكم (شُرَكاءُ) لله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وصلكم أي تشتت جمعكم وفي قراءة بالنصب ظرف أي وصلكم بينكم (وَضَلَ) ذهب (عَنْكُمْ

____________________________________

أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قوله : (يقولون لهم تعنيفا) أي لأن الإنسان لا يقدر على إخراج روحه ، وإنما ذلك لأجل تعنيفهم ، ويحتمل أن معنى (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) نحوها من العذاب الذي حل بكم تهكما بهم.

قوله : (الْيَوْمَ) ظرف لقوله : (تُجْزَوْنَ) فالوقف ثم على قوله أنفسكم ، وأل في اليوم للعهدي اليوم المعهود وهو يوم خروج أرواحهم ، ويحتمل أن المراد باليوم يوم القيامة ، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله : (الهوان) أي الذل والصغار ، لا عذاب التطهير كما يقع لبعض عصاة المؤمنين ، لأن كل عذاب يعقبه عفو ، فلا يقال له هون ، وإنما يقال لعذاب الكافر. قوله : (بِما كُنْتُمْ) الباء سببية ، وما مصدرية ، أي بسبب كونكم تقولون الخ. قوله : (بدعوى النبوة الخ) هذا راجع لقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ). قوله : (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي وبسبب كونكم تستكبرون عن آياته ، فالجار والمجرور متعلق بتستكبرون ، وهو راجع لقوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، ففيه لف ونشر مرتب ، وهذا باعتبار سبب النزول ، وإلا فكل كافر يقال له ذلك عند الموت.

قوله : (وَ) (يقال لهم) اختلف في تعيين القائل ، فقيل الله سبحانه ، وقيل الملائكة ترجمانا عن الله وهذا مرتب على الخلاف هل الله يكلمهم أو لا. قوله : (فُرادى) جمع فردا وفريدا وفردان بمعنى منفردين خالين عن الدنيا ومتاعها. قوله : (حفاة عراة) أي وذلك عند الحساب ، فلا ينفي أنهم يخرجون من القبور بالأكفان ، فإذا حشروا ودنت الشمس من الرؤوس تطايرت الأكفان. قوله : (غرلا) بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة ، جمع أغرل كحمر جمع أحمر ، أي غير مقطوعين القلفة.

قوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) الجملة حالية من فاعل جئتمونا ، وقوله : (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) متعلق بتركتم. قوله : (أي في استحقاق عبادتكم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضافين. قوله : (بَيْنَكُمْ) على قراءة الرفع هو فاعل تقطع ، والبين بمعنى الوصل وهو المراد هنا ، ويراد منه البعد من باب تسمية الأضداد. قوله : (وفي قراءة بالنصب) أي وهي سبعية أيضا ، والفاعل على هذه القراءة ضمير يعود على الوصل المفهوم من قوله : (شُفَعاءَكُمُ) و (شُرَكاءُ) لأن بين الشفيع والمشفوع له إيصال ، و (بَيْنَكُمْ) ظرف له ، والتقدير تقطع الوصل فيما بينكم فقول المفسر (أي وصلكم) تفسير للضمير

٤٧٠

ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤) في الدنيا من شفاعتها (إِنَّ اللهَ فالِقُ) شاق (الْحَبِ) عن النبات (وَالنَّوى) عن النخل (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) النطفة والبيضة (مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ) الفالق المخرج (اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٩٥) فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان (فالِقُ الْإِصْباحِ) مصدر بمعنى الصبح أي شاق عمود الصبح وهو أول ما يبدو من نور النهار عن ظلمة الليل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن فيه الخلق

____________________________________

المستتر. قوله : (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ما اسم موصول فاعل (ضَلَ) ، وكنتم تزعمون صلته ، والعائد محذوف تقديره وضل عنكم الذي كنتم تزعمونه شفيعا ونافعا.

قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) لما تقدم ذكر التوحيد ، وما يتعلق به أتبعه بذكر ما يدل على ذلك ، والمراد بالحب ما لا نوى له يرمى ، كالقمح والشعير والفول ، وبالنوى ضد الحب ، كالرطب والمشمش والنبق ، فانحصر ما يخرج من الأرض في هذين النوعين ، وإضافة فالق للحب يحتمل أنها محضة ، ففالق بمعنى فلق ، فهو بمعنى الصفة المشبهة وهو الأقرب ، ويحتمل أنها لفظية ، والمراد فالق في الحال والاستقبال. قوله : (شاق) فسر الفلق بالشق لأنه المشهور في اللغة ، ولأنه أقرب عبرة وأكثر فائدة ، وقال ابن عباس إن فالق بمعنى خالق. قوله : (عن النخل) مراده به كل ما له نوى.

قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) يحتمل أنه خبر ثان لأن ، ويحتمل أنه كلام مستأنف كالعلة لما قبله ، والمراد بالحي كل ما ينمو كان ذا روح أو لا كالحيوان والنبات ، وبالميت ما لا ينمو كان أصله ذا روح أم لا كالنطفة والحبة ، فتسمية النبات حيا مجاز بجامع قبول الزيادة في كل. قوله : (من النطفة والبيضة) لف ونشر مرتب ، وأدخلت الكاف جميع ما يخرج من النطفة والبيضة ، فجميع الحيوانات لا تخلو عن هذين الشيئين ، فجميع الطيور من البيض وما عداها من النطفة.

قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) إنما عبر باسم الفاعل مع العطف ، إشارة إلى أنه كلام آخر معطوف فالق وليس بيانا له ، وإلا لأتى بالفعل. قوله : (مِنَ الْحَيِ) أي كالإنسان والطائر ، ويشمل عموم هذه الآية المسلم والكافر ، فيخرج الحي كالمسلم من الميت كالكافر وبالعكس. قوله : (ذلِكُمُ اللهُ) أتى بذلك وإن علم من قوله إن الله فالق لأجل الرد على من كفر بقوله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). قوله : (فكيف تصرفون عن الإيمان) أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بالله مع اعترافكم بأنه الخالق لجميع الأشياء ، فهو استفهام انكاري بمعنى النفي. قوله : (مصدر) أي لأصبح بمعنى الدخول في الصباح وليس مرادا ، بل المراد الصبح نفسه ، فلذا فسره حيث أطلق المصدر وهو الإصباح ، وأراد أثره وهو الصبح ، والإصباح بكسر الهمزة وقرىء شذوذا بفتحها ، وعليه يكون جمع صبح نحو قفل وأقفال ، ويرد وأبراد ، وظاهر الآية مشكل ، لأن الانفاق يكون للظلمة لا للصبح. وأجيب : بأن الكلام على حذف مضاف ، والأصل فالق ظلمة الإصباح بمعنى الصبح ، أو يراد فالق الإصباح بمعنى عمود الصبح ، وهو الفجر الكاذب عن ظلمة الليل ، ثم يعقبه الفجر الصادق ، فهو فالق الإصباح الأول عن ظلمة آخر الليل ، وعن بياض النهار أيضا ، ويفيد هذا المفسر أو يفسر فالق بخالق ، وسماه فلقا مشاكلة لما قبله ، وكل صحيح. قوله : (وهو أول ما يبدو من النهار) أي وهو الفجر الكاذب. قوله : (عن ظلمة الليل) متعلق بشاق.

٤٧١

من التعب (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بالنصب عطفا على محل الليل (حُسْباناً) حسابا للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي يجريان كما في آية الرحمن (ذلِكَ) المذكور (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) (٩٦) بخلقه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في الأسفار (قَدْ فَصَّلْنَا) بينا (الْآياتِ) الدلالات على قدرتنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧) يتدبرون (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم (فَمُسْتَقَرٌّ) منكم في الرحم (وَمُسْتَوْدَعٌ) منكم في الصلب وفي قراءة بفتح القاف أي مكان قرار لكم (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) ما يقال لهم (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا) فيه التفات عن الغيبة

____________________________________

قولنا : (سَكَناً) أي محل واستراحة. قوله : (يسكن فيه الخلق) أي جميعها حتى الهوام والمياه. قوله : (عطفا على محل الليل) أي وهو النصب حسبانا معطوف على سكنا ففيه العطف على معمولي عامل واحد وهو جاعل ، والتقدير : وجاعل الشمس والقمر حسبانا وذلك جائز باتفاق. قوله : (حُسْباناً) مصدر حسب وكذا الحسبان بكسر الحاء والحساب فله ثلاثة مصادر. قوله : (حسابا للأوقات) أي ضبطا لها ، أي علامة ضبط ، لكن الشمس يتم دورانها في سنة والقمر في شهر ، وذلك لنفع العباد دنيا ودينا ، قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ). قوله : (أو الباء محذوفة) أي فهو منصوب بنزع الخافض. قوله : (وهو حال من مقدر) لو قال متعلق بقدر لكان أحسن ، لأنك إذا تأملت تجد المحذوف هو الحال ، على أن جاعل بمعنى خالق ، وأما إن جعل بمعنى صير فهو مفعول ثان ، وهو إشارة لتقدير ثان في الآية. قوله : (الْعَزِيزِ) أي الغالب على أمره. قوله : (الْعَلِيمِ) أي ذو العلم التام.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) أي خلق ، و (لَكُمُ) متعلق بجعل ، و (لِتَهْتَدُوا) بدل من لكم بدل اشتمال ، فلم يلزم عليه تعلق جر في جر متحدي اللفظ ، والمعنى بعامل واحد ، ونظيره قوله تعالى (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) فلبيوتهم بدل من لمن يكفر بإعادة العامل. قوله : (أَنْشَأَكُمْ) إنما عبر به لموافقة ما يأتي في قوله (وأنشأنا من بعدهم) ، وقوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ). قوله : (هي آدم) أي فكل أفراد النوع الإنساني منه.

قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ) بالكسر اسم فاعل وصف ، والمعنى منكم من استقر في الرحم ، وعبر في جانبه بالاستقرار ، لأن زمن بقاء النطفة في الرحم أكثر من زمن بقائها في الصلب. قوله : (وفي قراءة بفتح القاف) أي وأما مستودع فليس فيه إلا فتح الدال ، لكن على قراءة الكسر يكون معنى مستودع شيء مودوع وهو النطفة ، وعلى الفتح مكان استيداع وهو الصلب. قوله : (يَفْقَهُونَ) أي يفهمون الأسرار والدقائق ، وعبر هنا يفقهون إشارة إلى أن أطوار الإنسان وما احتوى عليه الإنسان أمر خفي تتحير فيه الألباب ، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد ، فعبر فيها بيعلمون.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لما امتن سبحانه وتعالى على عباده أولا : بالإيجاد حيث قال (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) امتن ثانيا بإنزال الماء الذي به حياة كل شيء ونفعه ، وهو الرزق المشار إليه بقوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ). قوله : (فيه التفات) أي ونكتته الاعتناء بشأن ذلك المخرج ،

٤٧٢

(بِهِ) بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) ينبت (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي النبات شيئا (خَضِراً) بمعنى أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها (وَمِنَ النَّخْلِ) خبر ويبدل منه (مِنْ طَلْعِها) أول ما يخرج منها والمبتدأ (قِنْوانٌ) عراجين (دانِيَةٌ) قريب بعضها من بعض (وَ) أخرجنا به (جَنَّاتٍ) بساتين (مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً) ورقهما حال (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) ثمرهما (انْظُرُوا) يا مخاطبين نظر اعتبار (إِلى ثَمَرِهِ) بفتح الثاء والميم وبضمهما وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب (إِذا أَثْمَرَ) أول ما يبدو كيف هو (وَ) إلى (يَنْعِهِ) نضجه إذا أدرك كيف يعود (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى

____________________________________

إشارة إلى أن نعمه عظيمة. قوله : (بِهِ) الباء للسببية. قوله : (فَأَخْرَجْنا) بيان لما أجمل أو لا. قوله : (خَضِراً) يقال خضر الشيء فهو خضر وأخضر ، كعور فهو عور وأعور ، وقدر المفسر (شيئا) إشارة إلى أن خضرا صفة لموصوف محذوف.

قوله : (وَمِنَ النَّخْلِ) شروع في تفصيل حال الشجر ، بعد ذكر عموم النبات ، لمزيد الرغبة فيه. قوله : (ويبدل منه) أي بدل بعض من كل. قوله : (أول ما يخرج منها) أي قبل انفلاق الكيزان عنه ، فإذا انفلقت عنه سمي عذقا. قوله : (قِنْوانٌ) جمع قنو كصنو وصنوان ، وهذا الجمع يلتبس بالمثنى دون حالة الوقت ، ويتميز المثنى بكسر نونه ، والجمع بتوارد حركات الإعراب عليه وبالإضافة ، فتحذف نون المثنى دون الجمع ، فنقول هذا قنواك ، وفي الجمع هذه قنوانك ، وبالنسب فإذا نسبت إلى المثنى رددته إلى المفرد فقلت قنوي ، وإذا نسبت إلى الجمع أبقيته على حاله فقلت قنواني. قوله : (عراجين) جمع عرجون قيل هي الشماريخ ، وقيل هي السائط ، ولا شك أن الشماريخ قريب بعضها من بعض ، والسبائط كذلك ، واعلم أن أطوار النخل سبع كالإنسان ، يجمعها قولك طاب زبرت ، فأولها الطلع ، ثم الاغريض ، ثم البلح ، ثم الزهو ، ثم البسر ، ثم الرطب ، ثم التمر ، وفي الحديث «أكرموا عمتكم النخلة» ولهذه الأمور قدم على ما بعده.

قوله : (وَجَنَّاتٍ) معطوف على نبات ، من عطف الخاص على العام ، والنكتة مزيد الشرف لكونها من أعظم النعم ، وكذا قوله : (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) معطوفان على النبات. ويكون قوله : (وَمِنَ النَّخْلِ) الخ معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه اعتناء بشأن النخل لعظم منته ، ويصح عطف جنات على خضر ، وهذا على قراءة الجمهور ، وقرى شذوذا برفع جنات والزيتون والرمان ، وخرج على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره ومن الكرم جنات. قوله : (مُشْتَبِهاً) يقال مشتبه ومتشابه بمعنى. قوله : (نظر اعتبار) أي تفكروا في مصنوعاته لتعلموا أن ربكم هو القادر المريد لما يشاء ، فتفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا. قوله : (وهو جمع ثمرة) أي المفتوح والمضموم ، وقوله : (كشجرة وشجر) راجع للمفتوح ، وقوله : (وخشبة وخشب) راجع للمضموم ، فهو لف ونشر مرتب. قوله : (وَيَنْعِهِ) مصدر ينع بكسر النون يينع بفتحها كتعب يتعب ويصح العكس ، وقرىء بضم الياء ، والمعنى تفكروا وتأملوا ابتداء الثمر ، حيث يكون بعضه مرا وبعضه ملحا لا ينتفع بشيء منه ، وانتهاؤه إذا نضج فإنه يعود حلوا تسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل.

٤٧٣

على البعث وغيره (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩) خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الايمان بخلاف الكافرين (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) مفعول ثان (شُرَكاءَ) مفعول أول ويبدل منه (الْجِنَ) حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان (وَ) قد (خَلَقَهُمْ) فكيف يكونون شركاءه (وَخَرَقُوا) بالتخفيف والتشديد أي اختلقوا (لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حيث قالوا عزير ابن الله والملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيها له (وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠) بأن له ولدا هو (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما من غير مثال سبق (أَنَّى) كيف (يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) زوجة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من شأنه أن يخلق (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١) (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ)

____________________________________

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) الإشارة إلى جميع ما تقدم من قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) إلى هنا. قوله : (لأنهم المنتفعون بها) أشار بذلك إلى أن ظهور الأدلة لا تفيد ولا تنفع ، إلا إذا كان العبد مؤمنا ، وأما من سبق له الكفر ، فلا تنفعه الآيات ولا يهتدي بها. قوله : (وَجَعَلُوا) الضمير لعبدة الأصنام ، وهذا إشارة إلى أنهم قابلوا نعم الله العظيمة بالإشراك. قوله : (مفعول ثان) هذه طريقة في الإعراب ، وهناك طريقة أخرى وهي أن (لِلَّهِ) متعلق بمحذوف حال ، والجن مفعول أول مؤخر ، و (شركاء) مفعول ثان مقدم. قوله : (الْجِنَ) قيل المراد بهم الشياطين ، وإلى هذا يشير المفسر بقوله : (حيث أطاعوهم الخ). وقيل المراد بهم نوع من الملائكة كانوا يعبدونهم ، لاعتقادهم أنهن بنات الله.

قوله : (وَخَلَقَهُمْ) الضمير يصح أن يكون عائدا على الجن ، وعليها المفسر ، ويصح أن يعود على الجميع ، والجملة حال من الجن ، ولذا قدر المفسر (قد). قوله : (وَخَرَقُوا) الضمير عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب ، فاليهود والنصارى نسبوا له البنين ، ومشركو العرب نسبوا له البنات ، فالكلام على التوزيع. قوله : (اختلفوا) يقال اختلق وخلق وخرق وافترى وافتعل وخرص بمعنى كذب ، وقرىء شذوذا بالحاء المهملة والفاء من التحريف وهو التزوير لأن المحرف مزور مغير للحق بالباطل. قوله : (حيث قالوا عزير ابن الله) كان عليه أن يقول والمسيح ابن الله ليكون قد جمع مقالة الفرق الثلاثة ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون قالوا الملائكة بنات الله. قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هو.

قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أنى منصوبة على التشبيه بالحال ، وله خبر يكون مقدم وولد اسمها مؤخر ، ويصح أن تكون تامة وولد فاعلها ، والمعنى : كيف يوجد له ولد ، والحال أنه لم تكن له صاحبة ، مع كونه الخالق لكل شيء. قوله : (من شأنه أن يخلق) دفع بذلك ما يقال إن من جملة الشيء ذاته وصفاته ، فيقتضي أنها مخلوقة مع أن ذلك مستحيل. فأجاب المفسر : بأن ذلك عام مخصوص بما من شأنه أن يخلق ، وهو ما عدا ذاته وصفاته. قوله : (ذلِكُمُ) مبتدأ ، و (اللهُ) خبر أول ، و (رَبُّكُمْ) خبر ثان ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثالث ، و (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) خبر رابع ، وقوله : (فَاعْبُدُوهُ) مفرع على ما ذكر من هذه الأوصاف ، فالمعنى أن المتصف بالألوهية ، الخالق لكل شيء ، هو أحق بالعبادة وحده. فقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) توطئة لقوله : (فَاعْبُدُوهُ). وأما قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فهو رد لما زعموه من

٤٧٤

وحدوه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢) حفيظ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه وهذا مخصوص لرؤية المؤمنين له في الآخرة لقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وحديث الشيخين إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وقيل المراد لا تحيط به (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أو يدرك البصر وهو لا يدركه أو يحيط به علما (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بأوليائه

____________________________________

الولد له سبحانه وتعالى. قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي متصرف في خلقه ومتولي أمورهم ، فالواجب قصر العبادة عليه ، وتفويض الأمور إليه.

قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جمع بصر وهو حاسة النظر ، أي القوة الباصرة ، ويطلق على العين نفسها من إطلاق الحال وإرادة المحل. قوله : (وهذا مخصوص) أي نفي الرؤية عام مخصوص برؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ، لأن الفعل إذا دخل عليه النفي يكون من قبيل العام. قوله : (لرؤية المؤمنين) علة لقوله مخصوص ، وقوله : (لقوله تعالى) علة للعلة. قوله : (ناصرة) أي قامت بها النضارة ، وهي البهجة والحسن ، وقوله : (ناظرة) أي باصرة للذات المقدس. قوله : (ليلة البدر) أي ليلة أربعة عشر. قوله : (وقيل المراد الخ) أي وعلى هذا فالنفي باق على عمومه فلا يحيط به بصر أحد أبدا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فلا ينافي أن المؤمنين يرونه في الآخرة ، لكن بلا كيف ولا انحصار لوجود أدلة عقلية ونقلية ، أما النقلية فالكتاب والسنة والإجماع ، والعقلية منها أن الله علق رؤيته على استقرار الجبل وهو جائز ، والمعلق على الجائز جائز ، ومنها لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها موسى عليه‌السلام ، إذ لا يجوز على النبي سؤال المحال إذ هو جهل ، ويستحيل على النبي الجهل ، ومنها أن يقال الله موجود ، فكل موجود يصح أن يرى ، فالله يصح أن يرى ، خلافا للمعتزلة والمرجئة والخوارج حيث أحالوا الرؤية ، مستدلين بظاهر هذه الآية وبقولهم إن الرؤية تستلزم المقابلة واتصال أشعة بصر الرائي بالمرئي ، فيلزم أن يكون المرئي جسما ، وتعالى الله عن الجسمية ، ورد كلامهم بما علمت ، وبأن هذا التلازم عادي لا عقلي ، ويجوز تخلف العادة. قوله : (لا تحيط به) أي لا تبلغ كنه حقيقة ذاته وصفاته أبصار ولا بصائر.

قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فيه تفسيران أيضا ، الأول يراها ، والثاني يحيط بها على أسلوب ما تقدم. قوله : (ولا يجوز في غيره الخ) أي لأن رؤية كل منهما لصاحبه غير مستحيلة ، وما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر. قوله : (أو يحيط به علما) هذا هو التفسير الثاني. قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ) من لطف بمعنى احتجب ، فلا يحيط به بصر ولا بصيرة ، فقوله راجع لقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وقوله : (الْخَبِيرُ) راجع لقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فهو لف ونشر مرتب ، وهذا هو المناسب هنا ، فقول المفسر (بأوليائه) يقتضي أن معنى (اللَّطِيفُ) الرؤوف المحسن ، وهو وإن كان مناسبا في نفسه ، إلا أنه غير ملائم هنا. فتحصل مما تقدم أن الرؤية بالبصر في الآخرة للمؤمنين ، وقع فيها خلاف بين المعتزلة وأهل السنة ، وتقدم أن الحق مذهب أهل السنة ، وأما رؤية قلوب العارفين له في الدنيا بمعنى شهود القلب له في كل شيء فهو جائز ، بل هو مطلبهم وغاية مقصودهم ومناهم قال العارف :

أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي

إليها قلوب الأولياء تسارع

٤٧٥

(الْخَبِيرُ) (١٠٣) بهم قل يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) حجج (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ) ها فآمن (فَلِنَفْسِهِ) أبصر لأن ثواب إبصاره له (وَمَنْ عَمِيَ) عنها فضل (فَعَلَيْها) وبال إضلاله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤) رقيب لأعمالكم إنما أنا نذير (وَكَذلِكَ) كما بينا ما ذكر (نُصَرِّفُ) نبين (الْآياتِ) ليعتبروا (وَلِيَقُولُوا) أي الكفار في عاقبة الأمر (دَرَسْتَ) ذاكرت أهل الكتاب وفي قراءة درست أي كتب الماضين وجئت بهذا منها (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥) (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦) (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا

____________________________________

وكذا رؤياه في المنام. قوله : (بَصائِرُ) جمع بصيرة وهي النور الباطني الذي ينشأ عنه العلوم والمعارف. قوله : (حجج) جمع حجة وهي الأدلة ، وسميت الحجج بصائر ، لأنها تنشأ عنها من باب تسمية المسبب باسم السبب. قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ) (ها) قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن المفعول محذوف. قوله : (فَلِنَفْسِهِ) (أبصر) قدر المفسر متعلق الجار والمجرور فعلا ماضيا مؤخرا ، وهو غير مناسب للزوم زيادة الفاء ، بل المناسب تقديره اسما مبتدأ ، والجار والمجرور خبره ، والتقدير فابصاره لنفسه ، وكذا يقال في قوله : (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). قوله : (لأن ثواب إبصاره) أي نفعه فلا يعود على الله من الطاعة نفع ، ولا يصل له من المعصية ضر. قوله : (وَمَنْ عَمِيَ) (عنها) أي عن البصائر بمعنى الحجج.

قوله : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف تقديره نصرف الآيات في غير هذه السور تصريفا ، مثل التصريف في هذه السورة. قوله : (كما بينا ما ذكر) أي الأحكام المذكورة. قوله : (نبين) (الْآياتِ) هذا وعد من الله بإكمال الدين وإظهاره ، فلذا كان نزول قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) من مبشرات الوفاء لرسول الله. قوله : (ليعتبروا) أي لتقوم بهم العبرة أي الاتعاظ ، فيميزوا الحق من الباطل ، وقدره المفسر لعطف قوله : (وَلِيَقُولُوا) عليه. قوله : (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام في (وَلِيَقُولُوا) لام العاقبة والصيرورة نظير قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، وقيل إن اللام للعلة حقيقة ، والمعنى نصرف الآيات ليعتبر الذين آمنوا ويزدادوا بها إيمانا ، وليقول الذين كفروا درست ليزدادوا كفرا ، ونظيره قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ). قوله : (دارست) كقاتلت ، من المدارسة ، والمعنى تذاكرت مع أهل الكتاب فتعلمت منهم تلك القصص. قوله : (وفي قراءة درست) أي قرأت الكتب ، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضا : وهي درست بفتح الدال والراء والسين ، أي عفت وبليت وتكررت على الأسماع. قوله : (وجئت بهذا منها) راجع لكل من القراءتين.

قوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي الآيات ، وذكر باعتبار معناها وهو القرآن. قوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح المشركين وتكذيبهم لرسول الله ، أخذ يسلي رسوله بقوله : اتبع ، أي دم على ذلك ، ولا تبال بكفرهم ، ولا تلتفت لقولهم ، وما اسم موصول ، والعائد محذوف ، ونائب فاعل أوحي ضمير مستتر عائد على ما ، وإليك متعلق بأوحي ، ومن ربك متعلق بمحذوف حال ، ومن لابتداء الغاية ، والتقدير اتبع الذي أوحي إليك هو أي القرآن ، حال كونه ناشئا وصادرا من ربك ، ويصح أن تكون

٤٧٦

وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) رقيبا فنجازيهم بأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٧) فتجبرهم على الإيمان وهذا قبل الأمر بالقتال (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ) هم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) اعتداء وظلما (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جهلا منهم بالله (كَذلِكَ) كما زينا لهؤلاء ما

____________________________________

مصدرية ، ونائب الفاعل هو الجار والمجرور ، والتقدير اتبع الإيحاء الجائي إليك من ربك.

قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتأكيد التوحيد. قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تتعرض لهم ولا تقاتلهم ، وهذا على أنها منسوخة كما يأتي للمفسر ، وقيل إن الآية محكمة ، والمعنى لا تلتفت إلى رأيهم ، ولا تغتظ من أقوالهم وإشراكهم ، لأن ذلك بمشيئة الله ، ومثل ذلك يقال : إذا أجمع خلق على ضلالة لا يستطاع ردها ، ففي الحديث «إذا رأيتم الأمر لا تستطيعون رده فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره». قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مفعول ثان محذوف تقديره عدم إشراكهم. قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) تأكيد لما قبله ، أي لست حفيظا مراقبا لهم فتجبرهم على الإيمان. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أشار بذلك إلى أن الآية منسوخة ، واسم الإشارة عائد على قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الخ.

قوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) كثر سب المسلمين للأصنام ، فتحزب المشركون على كونهم يسبون الله نظير سب المسلمين لأصنامهم ، فنزلت الآية ، وقيل : إن أبا طالب حضرته الوفاة ، فقالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستخي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه ، فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحرث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن أبي البحتري ، إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، وندعه وإلهه ، فدعاه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبو طالب : إن هؤلاء قومك وبنو عمك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال له أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم ، فقال النبي : أرأيتم إن أعطيتم هذا ، فهل أنتم معطي كلمة ، إن تكلمتم بها ملكتم العرب ، ودانت لكم العجم ، وأدت لكم الخراج؟ قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فأبوا ونفروا ، فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي ، فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ، فقالوا لتكفن عن شتمك آلهتنا أو نسبن من يأمرك فنزلت. قوله : (الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي يعبدون ، وقدر المفسر الضمير إشارة إلى أن مفعول يدعون محذوف. قوله : (فَيَسُبُّوا اللهَ) أي فيترتب على ذلك سب الله فسب الأصنام وإن كان جائزا ، إلا أنه عرض له النهي بسبب ما ترتب عليه من سب الله ، ففي الحقيقة النهي عن سب الله. قوله : (اعتداء) أشار بذلك إلى أن (عَدْواً) مصدر ، ويصح أن يكون حالا مؤكدة ، لأن السب لا يكون إلا عدوانا. قوله : (أي جهلا منهم بالله) أي بما يجب في حقه.

٤٧٧

هم عليه (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من الخير والشر فأتوه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) في الآخرة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) فيجازيهم به (وَأَقْسَمُوا) أي كفار مكة (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي غاية اجتهادهم فيها (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) مما اقترحوا (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ) لهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها كما يشاء وإنما أنا نذير (وَما يُشْعِرُكُمْ) يدريكم بإيمانهم إذا جاءت أي أنتم لا تدرون ذلك (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٩) لما سبق في علمي وفي قراءة بالتاء خطابا للكفار وفي أخرى بفتح أن بمعنى لعل أو معمولة لما قبلها (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) نحول قلوبهم عن الحق فلا يفهمونه

____________________________________

قوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا) نعت لمصدر محذوف ، أي زينا لهؤلاء أعمالهم تزيينا مثل تزييننا لكل أمة عملهم. قوله : (من الخير والشر) أشار بذلك إلى أن الآية رد على المعتزلة الزاعمين أن الله لا يريد الشرور ولا القبائح. قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله : (فأتوه).

قوله : (وَأَقْسَمُوا) أي حلفوا. قوله : (غاية اجتهادهم) أي لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم ، فإذا أرادون تغليظ اليمين حلفوا بالله. قوله : (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) حكاية عنهم ، وإلا فلفظهم لئن جاءتنا آية. قوله : (مما اقترحوا) أي طلبوا ، وذلك أن قريشا قالوا : يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان له عصا يضرب بها الحجر ، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، فائتنا بآية حتى نصدقك ونؤمن بك ، فقال رسول الله : أي شيء تحبون : قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا نسأله عنك ، أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك ، فقال رسول الله : إن فعلت ما تقولون تصدقونني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يرضوا ، فقام رسول الله يدعو أن يجعل الصفا ذهبا فقال جبريل : لك ما شئت إن شئت يصبح ذهبا ، ولكن إن لم يصدقوك لنعذبنهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يتوب تائبهم ، فنزلت الآية.

قوله : (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) جواب القسم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه. قوله : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي لا عندي ، فالقادر على إنزالها هو الله ، وينزلها على حسب ما يريد. قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ما اسم استفهام مبتدأ ، وجملة يشعر خبرها ، والكاف مفعول أول ، والثاني محذوف قدره المفسر بقوله : «بإيمانهم» والخطاب للمؤمنين ، أي وما يعلمكم أيها المؤمنون بإيمانهم ، وقوله : (أَنَّها إِذا جاءَتْ) بكسر استئناف مسوق لقطع طمع المؤمنين من إيمان المشركين ، وتكذيب للمشركين في حلفهم. قوله : (أي أنتم لا تدرون) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (وفي قراءة بالتاء) ظاهره أن هذه القراءة مع كسر إن وليس كذلك بل هي مع الفتح ، فالمناسب تأخيرها عن قوله : (وفي أخرى بفتح أن) ، فالقراءات ثلاث : الكسر مع الياء لا غير ، والفتح إما مع الياء أو التاء. قوله : (بمعنى لعل) أي ومجيء أي بمعنى لعل كثير شائع في كلام العرب ، والترجي في كلام الله مثل التحقيق ، فهي مساوية لقراءة الكسر. قوله : (أو معمولة لما قبلها) أي على أنها المفعول الثاني ، ولا إما صلة أو داخلة على محذوف ، والتقدير إذا جاءت لا تعلمون أنهم يؤمنون أو المقابل محذوف ، والتقدير إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، وهو إخبار عن الكفار عن قراءة الياء ،

٤٧٨

(وَأَبْصارَهُمْ) عنه فلا يبصرونه فلا يؤمنون (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بما أنزل من الآيات (أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ) نتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) ضلالهم (يَعْمَهُونَ) (١١٠) يترددون متحيرين (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) كما اقترحوا (وَحَشَرْنا) جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) بضمتين جمع قبيل أي فوجا فوجا وبكسر القاف وفتح الباء أي معاينة فشهدوا بصدقك (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لما سبق في علم الله (إِلَّا) لكن (أَنْ يَشاءَ اللهُ) إيمانهم فيؤمنون (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) ذلك (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) كما جعلنا هؤلاء أعداءك ويبدل منه (شَياطِينَ) مردة

____________________________________

وخطاب لهم على قراءة التاء.

قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) باستئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره ، فمن أراد له الهدى حول قلبه له ، ومن أراد الله شقاوته حول قلبه لها. قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) مرتبط بمحذوف قدره المفسر بقوله فلا يؤمنون ، والمعنى تحول قلوبهم عن الإيمان ثانيا ، كما حولناها أولا عند نزول الآيات لو نزلت ، أي فهم لا يؤمنون على كل حال. قوله : (نَذَرُهُمْ) عطف على لا يؤمنون. قوله : (يَعْمَهُونَ) إما حال أو مفعول ثان ، لأن الترك بمعنى التصيير ، وعمه من باب تعب إذا ترددت متحيرا ، مأخوذ من قولهم أرض عمهاء ، إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة.

قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا) هذه زيادة في الرد عليهم ، وتفصيل ما أجمل في قوله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. قوله : (كما اقترحوا) أي طلبوا بقولهم : لو لا أنزل علينا الملائكة ، وقولهم : فاتوا بآياتنا قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) أي من أصناف المخلوقات ، كالوحوش والطيور. قوله : (بضمتين جمع قبيل) أي كنصيب ونصب ، وقضيب وقضب. قوله : (أي فوجا فوجا) تفسير لقبيل ، وأما قبلا فمنعناه أفواجا أفواجا ، وعلى هذه القراءة فنصب قبلا على الحال. قوله : (وبكسر القاف وفتح الباء) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (أي معاينة) أي فيقال فلان قبل فلان ، أي مواجهه ومعاينه وهو مصدر منصوب على الحال ، أي معاينين ومشافهين لكل شيء ، وصاحب الحال الهاء في عليهم.

قوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) جواب لو ، واللام في ليؤمنوا لام الجحود ، ويؤمنوا منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجهود ، وخبر كان محذوف تقديره ما كانوا أهلا للإيمان. قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قدر المفسر (لكن) إشارة إلى أن الاستثناء منقطع كما هو عادته ، وذلك لأن المشيئة ليست من جنس إرادتهم ، وقال بعضهم : إن الاستثناء متصل ، والمعنى ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله لهم بالإيمان. قوله : (يَجْهَلُونَ) (ذلك) أي يجهلون أن ظهور الآيات يوجب الإيمان ، لو لم تصحبه مشيئة الله ، وهو توبيخ لهم حيث أقسموا بالله جهد أيمانهم ، أنه إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ، مع أنه سبق في علم الله شقاؤهم ، ومن هنا لا ينبغي ترك المشيئة والاعتماد على الأسباب ، فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب.

قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) هذا تسلية لرسول الله على ما وقع منهم من العداوة ، والكاف داخلة على المشبه وهي بمعنى مثل. والمعنى مثل ما جعلنا لك أعداء من قومك ، جعلنا لكل نبي عدوا الخ ، فتسل ولا تحزن ، وجعل بمعنى صير ، فتنصب مفعولين : الأول (عَدُوًّا) مؤخرا ، والثاني (لِكُلِّ نَبِيٍ) مقدم ،

٤٧٩

(الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي) يوسوس (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) مموهة من الباطل (غُرُوراً) أي ليغروهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي الايحاء المذكور (فَذَرْهُمْ) دع الكفار (وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢) من الكفر وغيره مما زين لهم وهذا قبل الأمر بالقتال (وَلِتَصْغى) عطف على غرورا أي تميل (إِلَيْهِ) أي الزخرف (أَفْئِدَةُ) قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) يكسبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣) من الذنوب فيعاقبوا عليه. ونزل لما طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل بينه وبينهم حكما قل (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي) أطلب (حَكَماً) قاضيا بيني وبينكم

____________________________________

و (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) بدل ، وهذا ما درج عليه المفسر ، وقيل إن عدوا مفعول ثان ، وشياطين مفعول أول ، ولكن نبي متعلق بمحذوف حال من عدوا. قوله : (لِكُلِّ نَبِيٍ) أي وإن لم يكن رسولا ، ولذا ورد أن الكفار قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا. قوله : (مردة) جمع ما رد وهو المتمرد المستعد للشر ، وقدم شياطين الإنس لأنها أقوى في الإيذاء ، قال ابن مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن ، وذلك إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي. وقال الغزالي : كن من شياطين الجن في أمان ، واحذر من شياطين الإنس ، فإن شياطين الإنس أراحوا شياطين الجن من التعب. وهذا على أن المراد شياطين من الإنس وشياطين من الجن ، وقيل إن الشياطين كلهم من إبليس ، وذلك أنه فرق أولاده فرقتين. ففرقة توسوس للإنس ، وتسمى شياطين الإنس ، وفرقة توسوس لصلحاء الجن ، وتسمى شياطين الجن ، وكل صحيح.

قوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ) أي وهو شيطان الجن ، وقوله : (إِلى بَعْضٍ) أي وهو شيطان الإنس ، قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ). قوله : (من الباطل) بيان لزخرف القول ، وأشار به إلى أن المراد بالزخرف المموه الظاهر الفاسد الباطل. قوله : (أي ليغروهم) أشار بذلك إلى أن قوله : (غُرُوراً) مفعول لأجله. قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مفعول شاء محذوف تقديره عدم فعلهم.

قوله : (وَما يَفْتَرُونَ) ما اسم موصول أو نكرة موصوفة ، وجملة يفترون صلة أو صفة ، والعائد محذوف تقديره فذرهم والذي يفترونه ، أو مصدرية والتقدير فذرهم وافتراءهم. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهي منسوخة. قوله : (عطف على غرورا) أي فاللام للتعليل ، وما بين الجملتين اعتراض ، والتقدير يوحي بعضهم إلى بعض للغرور قوله : (وَلِيَرْضَوْهُ) أي يحبوه لأنفسهم. قوله : (من الذنوب) بيان لما ، وقوله : (فيعاقبوا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير وليقترفوا عقاب ما هم مقترفون. قوله : (لما طلبوا) (أن يجعل بينه وبينهم حكما) أي من أحبار اليهود ، أو من أساقفة النصارى ، ليخبرهم بما في كتابهم من أوصاف النبي وأمره.

قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أميل لزخارفكم التي زينها الشيطان. فغير الله أبتغي حكما ، وغير مفعول لأبتغي ، وحكما حال أو تمييز ، أو حكما مفعول وغير حال ، والحكم أبلغ من الحاكم لأن الحكم من تكرر منه الحكم ، وأما الحاكم فيصدق ولو

٤٨٠