حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

هذا أوانك فاحضري (عَلى ما فَرَّطْنا) قصرنا (فِيها) أي الدنيا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) بأن تأتيهم عند البعث في أقبح صورة وأنتنه ريحا فتركبهم (أَلا ساءَ) بئس (ما يَزِرُونَ) (٣١) يحملون حملهم ذلك (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الاشتغال بها (إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) وفي قراءة ولدار الآخرة أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الشرك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) بالياء والتاء ذلك فيؤمنون (قَدْ) للتحقيق (نَعْلَمُ إِنَّهُ) أي الشأن (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) لك من التكذيب (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في

____________________________________

وحسرتنا منادى منصوب بفتحة ظاهرة لأنه مضاف لنا. قوله : (هي شدة التألم) أي التلهف والتحسر على ما فات. قوله : (ونداؤها مجاز) أي تنزيلا لها منزلة العاقل ، لأنه لا ينادى حقيقة إلا العاقل ، والمقصود التنبيه على أن هذا الكافر من شدة هوله لم يفرق بين خطاب العاقل وغيره ، ومثله ، يا ويلنا فتأمل.

قوله : (عَلى ما فَرَّطْنا) أي من الأعمال الصالحة في الدنيا. قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) لجملة حالية من الواو في قالوا. قوله : (بأن تأتيهم الخ) ورد أن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول لا ، فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طال ما ركبتك في الدنيا ، فذلك قوله تعالى (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) يعني ركبانا ، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك فذلك قوله تعالى (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ). قوله : (أي الاشتغال فيها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والمعنى أن الاشتغال في الحياة الدنيا عن خدمة الله وطاعته لعب ولهو ، وليس المراد أن مطلق الحياة الدنيا لعب ولهو ، بل ما قرب منها إلى الله فهو مزرعة للآخرة ، وما أبعد منها عنه فهو حسرة وندامة.

قوله : (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي لأن منافعها خالصة من الكدورات وعزها دائم. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير ألا يتفكرون فلا يعقلون. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (قَدْ نَعْلَمُ) المقصود من هذه الآية وما بعدها تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما وقع من الكفار من التكذيب وغيره ، وتهديد لهم لعلهم يرجعون ، وقد للتحقيق ، نظير قوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ). قوله : (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) بكسر الهمزة لدخول اللام المعلقة لنعلم عن العمل في حيزها ، قال ابن مالك :

وكسروا من بعد فعل علقا

باللام كاعلم إنه لذو تقى

وإن حرف توكيد ، والهاء اسمها ، واللام لام الابتداء زحلقت للخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد ، ويحزنك خبرها ، و (الَّذِي) فاعل يحزن و (يَقُولُونَ) صلتها ، والعائد محذوف تقديره يقولونه ، والجملة من إن واسمها وخبرها في محل نصب سدت مسد مفعولي نعلم ، فإن التعليق إبطال العمل لفظا لا محلا كما هو مقرر. قوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) الفاء للتعليل ، والمعنى لا تحزن من تكذيبهم لك ، واصبر ولا تكن في ضيق مما يمكرون ، فإنهم لا يكذبونك في الباطن ، بل يعتقدون صدقك ، وإنما تكذيبهم عناد

٤٤١

السر لعلمهم أنك صادق وفي قراءة بالتخفيف أي لا ينسبونك إلى الكذب (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) وضعه موضع المضمر (بِآياتِ اللهِ) القرآن (يَجْحَدُونَ) (٣٣) يكذبون (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) بإهلاك قومهم فاصبر حتى يأتيك النصر بإهلاك قومك (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) مواعيده (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤) ما يسكن به قلبك (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) عظم (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عن الإسلام

____________________________________

وجحود. قوله : (في السر) دفع بذلك ما يقال إن بين ما هنا وبين قوله : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) تنافيا ، وحاصل الجواب أن المنفي التكذيب في السر ، والمثبت التكذيب في العلانية. قوله : (وفي قراءة بالتخفيف) أي مع ضم الياء وسكون الكاف وهي سبعية أيضا. قوله : (أي لا ينسبونك إلى الكذب) هذا يناسب كلا من القراءتين ، والمعنى لا يعتقدون تكذيبك باطنا ، ولذا قال أبو جهل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب الذي جئت به. قوله : (وضعه موضع المضمر) أي زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. قوله : (يَجْحَدُونَ) الجحد الإنكار مع العلم ، والمعنى أنهم أنكروا آيات الله مع علمهم بأن ما جاء به صدق. قوله : (يكذبونك) أي في العلانية قوله : (فيه تسلية) وذلك لأن البلوى إذا عمت هانت.

قوله : (فَصَبَرُوا) الفاء سببية ، وصبروا معطوف على (كُذِّبَتْ). قوله : (عَلى ما كُذِّبُوا) متعلق بصبروا ، والمعنى صبروا على تكذيبهم. قوله : (وَأُوذُوا) يصح عطفه على كذبت ، والمعنى كذبت وأوذوا فصبروا ، ويصح عطفه على صبروا ، والمعنى كذبت رسل فصبروا وأوذوا مع حصول الصبر منهم ، ويصح عطفه على قوله ما كذبوا ، والمعنى صبروا على تكذيبهم وإيذائهم. قوله : (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) غاية في الصبر ، والمعنى غاية صبرهم نصر الله لهم. قوله : (مواعيده) أي مواعيد الله بالنصر ، قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ، وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

قوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ) اللام موطئة لقسم محذوف ، وجاء فعل ماض ، والفاعل محذوف يعلم من السياق قدره المفسر بقوله ما يسكن به قلبك ، وقوله (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) بيان للمحذوف ، ويحتمل أن من زائدة على مذهب الأخفش ونبأ المرسلين فاعل ، ويحتمل أن من اسم بمعنى بعض هي الفاعل ، والمعنى ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كذبوا أوذوا فصبروا ، فتسل ولا تحزن فإن الله ناصرك كما نصرهم.

قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) سبب نزولها : أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من قريش ، فقالوا يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدقك ، فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عنه ، فشق ذلك عليه لما أنه شديد الحرص على إيمان قومه ، فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله طمعا في إيمانهم فنزلت. وإن حرف شرط ، وكان فعل ماض فعل الشرط ، واسمها ضمير الشأن ، وكبر فعل ماض ، وإعراضهم فاعله ، والجملة خبر كان ، والأقرب أن إعراضهم اسم كان مؤخرا ، وجملة كبر خبرها مقدم ، وفاعل كبر ضمير يعود على إعراضهم ، وهو وإن كان مؤخرا لفظا إلا أنه مقدم رتبة.

٤٤٢

لحرصك عليهم (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) سريا (فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً) مصعدا (فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) مما اقترحوا فافعل المعنى أنك لا تستطيع ذلك فاصبر حتى يحكم الله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) هدايتهم (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ولكن لم يشأ ذلك فلم يؤمنوا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) بذلك (إِنَّما يَسْتَجِيبُ) دعاءك إلى الإيمان (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واعتبار (وَالْمَوْتى) أي الكفار شبههم بهم في عدم السماع (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في الآخرة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦) يردون

____________________________________

قوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) هذه الجملة شرطية ، وجوابها محذوف تقديره فافعل ، والشرط وجوابه جواب الشرط الأول ، والمعنى إن عظم عليك إعراضهم ، ولم تكتف بالمعجزات التي ظهرت على يديك فإن استطعت أن تأتيهم بآية فافعل. قوله : (سربا) بفتحات شق في الأرض ، والنفق السرب النافذ في الأرض ، ومنه النافقاء أحد أبواب حجرة اليربوع ، وذلك أن اليربوع يحفر في الأرض سربا ويجعل له بابين أو ثلاثة ، النافقاء والقاصعاء والرامياء ، ثم يدقق بالحفر ما يقارب وجه الأرض ، فإذا نابه أمر ، دفع تلك القشرة الدقيقة وخرج. والمعنى إن شئت أن تتحيل على إتيان آية لقومك على طبق ما اقترحوا فافعل ، وهذا عتاب لرسول الله على التعلق بإيمانهم ، وترق له إلى المقام الأكمل الذي هو التسليم له.

قوله : (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي من تحت الأرض أو من فوق السماء. قوله : (هدايتهم) أي جمعهم على الهدى. قوله : (ولكن لم يشأ ذلك) هذا استثناء نقيض المقدم ، فينتج نقيض التالي إن كان بينهما تساو كما هنا ، نظير لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا ، وقد أشار لمعنى النتيجة بقوله فلم يؤمنوا ، وإلا فالنتيجة فلم يجمعهم على الهدى. قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي الذين لا تسليم لهم ، فلا تتعب نفسك في تطلب ما اقترحوه فإنهم لا يؤمنون.

قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) هذا من جملة التسلية لرسول الله ، والمعنى لا تحزن على عدم إيمانهم ، فإنما يستجيب لك ويمتثل أمرك ، ويقبل المواعظ الذين يسمعون سماع قبول ، والذين لا يسمعون يبعثهم الله فيجازيهم على ما صدر منهم ، فللنار أهل ، وللجنة أهل ، فمن خلق الله فيه الهدى انتفع بالمواعظ وآمن ، ومن خلق فيه الضلال فلا تزيده المواعظ والآيات إلا ضلالا ، وهذه الآية في الحقيقة استدراك على قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى). فالمعنى لم يشأ جمعهم على الهدى ، بل قسم الخلق قسمين : قسم للجنة ، وقسم للنار. قوله : (دعاءك إلى الإيمان) هذا هو مفعول يستجيب ، والسين والتاء لتأكيد الإجابة ، والمراد بالذين يسمعون من سبقت لهم السعادة في الأزل ، فما يظهر منهم من الإيمان هو على طبق ما سبق. قوله : (أي الكفار) أشار بذلك إلى أن قوله (وَالْمَوْتى) مقابل قوله (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ).

قوله : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي يحييهم ، وقوله (في الآخرة) إشارة للحشر ، أن المراد بالبعث الإحياء بعد الموت ، وهذا هو الأقرب ، وقيل معنى يبعثهم يحيي قلوبهم بالإيمان ، فهو بشارة لرسول الله بأن أعداءه يؤمنون ، ولكن يرده الحصر المتقدم ، وأيضا من آمن فهو داخل في قوله الذين يسمعون. قوله : (بأعمالهم) الباء إما سببية أو بمعنى على ، والمراد بالأعمال الكفر والمعاصي ، وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي يوقفون

٤٤٣

فيجازيهم بأعمالهم (وَقالُوا) أي كفار مكة (لَوْ لا) هلا (نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كالناقة والعصا والمائدة (قُلْ) لهم (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ) بالتشديد والتخفيف (آيَةٌ) مما اقترحوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٧) أن نزولها بلاء عليهم لوجوب هلاكهم إن جحدوها (وَما مِنْ) زائدة (دَابَّةٍ) تمشي (فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ) في الهواء (بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها (ما فَرَّطْنا) تركنا (فِي الْكِتابِ) اللوح المحفوظ (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) فلم

____________________________________

للحساب والجزاء ، وأما البعث فهو الإحياء بعد الموت فتغايرا. قوله : (وَقالُوا) هذا إنكار منهم لما جاء به من المعجزات الباهرة ، حيث جعلوا ما جاء به سحرا وكهانة وطلبوا غيره. قوله : (كالناقة والعصا) أي والنار لإبراهيم ، وإلانة الحديد لداود ، وغير ذلك من معجزات الأنبياء الظاهرة ، فنزلوا معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة العدم ، حتى طلبوا معجزة على صدقه ، ولكنهم من عمى قلوبهم ، لم يفرقوا بين معجزاته ومعجزات غيره ، فإن معجزاته أعلى وأجل ، قال العارف البرعي :

وإن قابلت لفظه لن تراني

بما كذب الفؤاد فهمت معنى

وقال أيضا :

وإن يك خاطب الأموات عيسى

فان الجذع حق له وأنّ

إلى آخر ما قال. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أن نزولها الخ) هذه الجملة في محل نصب مفعول يعلمون. قوله : (بلاء عليهم) أي لعدم إيمانهم وانتفاعهم بها. قوله : (لوجوب هلاكهم) أي بحسب جري عادة الله ، بأن من اقترح آية وجاءته ولم يؤمن بها أهلكه الله ، فعدم إجابتهم لما اقترحوا رحمة بالأمة المحمدية جميعا لأن الله منّ على نبيه ببقائها إلى يوم القيامة ، ولو أجاب المتعنتين بعين ما طلبوا ، لانقرضت الأمة كما انقرض من تعنت قبلهم.

قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته تعالى وسعة علمه وتدبيره. قوله : (تمشي) قدره خاصا لدلالة مقابلة وهو قوله يطير عليه ، قال العلماء : جميع ما خلقه الله عزوجل لا يخرج عن المشي والطيران ، وألحقوا حيوان البحر بالطير لأنه يسبح في الماء ، كما أن الطير يسبح في الهواء. قوله : (فِي الْأَرْضِ) خصها بالذكر لأن المشاهد أقطع لحجة الخصم ، وإلا فسكان السماء كذلك. قوله : (بِجَناحَيْهِ) صفة كاشفة ، نظير قوله : نظرت بعيني وسمعت بأذني.

قوله : (إِلَّا أُمَمٌ) أي طوائف وجماعات أمثالكم ، أي كل نوع على صفة وطريقة وشكل كما أنكم كذلك ، فمن الدواب العزيز والذليل والمرزوق بسهولة وبتعب والقوي والضعيف والكبير والصغير والمتحيل في الرزق وغير المتحيل كبني آدم. قوله : (في تدبير خلقها) أي وتصريفه فيها في كل لحظة ، بجلب المنافع لها ، ودفع المضار عنها ، ولطفه بها ، فلا يشغله شأن عن شأن ، قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ). قوله : (وأحوالها) أي من إحيائها وإماتتها وإعزازها وإذلالها ونحو ذلك ، وكذلك تعرف ربها وتوحده ، كما أنتم تعرفونه وتوحدونه ، ولم يوجد كافر إلا من الجن والآدميين ، وإلا فجميع المخلوقات عقلاء ، وغيرهم مجبولون على التوحيد ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)

٤٤٤

نكتبه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) فيقضي بينهم ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول لهم كونوا ترابا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن (صُمٌ) عن سماعها سماع قبول (وَبُكْمٌ) عن النطق بالحق (فِي الظُّلُماتِ) الكفر (مَنْ يَشَأِ اللهُ) إضلاله (يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ) هدايته (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ) طريق (مُسْتَقِيمٍ) (٣٩) دين الإسلام (قُلْ) يا محمد لأهل مكة (أَرَأَيْتَكُمْ) أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدنيا (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) القيامة المشتملة عليه بغتة (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) لا (إِنْ

____________________________________

وإنما كفر من كفر من الجن والإنس عنادا. قوله : (اللوح المحفوظ) أي من الشيطان ، ومن التغيير والتبديل ، وهو من درة بيضاء فوق السماء السابعة ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، فحيث أريد بالكتاب اللوح المحفوظ ، فالعموم ظاهر ، فإن فيه تبيان كل شيء ما كان وما يكون وما هو كائن ، وقيل المراد بالكتاب القرآن ، وعليه فالمراد بقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ويحتاج إليه الخلق في أمورهم.

قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون ، وهذا بيان لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالهم في الدنيا. قوله : (فيقضي بينهم) أي الأمم عقلاء أو غيرهم. قوله : (للجماء) أي وهي معدومة القرون ، وهذا كله لإظهار العدل ، فحيث لم يترك غير العقلاء فكيف بالعقلاء ، فلا بد من الحشر والحساب والجزاء ، إما بالعدل ، وإما بالفضل. قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها. قوله : (فِي الظُّلُماتِ) هو معنى قوله في الآية الأخرى ، عمي فهم صم القلوب عميها بكمها ، فلا يتأتى منهم انتفاع ولا اعتبار ، ولا يصل إليهم نور أبدا. قوله : (الكفر) أي فهو ظلمات معنوية ، فمثل الكافر كمثل رجل أعمى أصم أبكم في ظلمات فلا يهتدي إلى مقصوده ، كما أن الكافر كذلك.

قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) هذا دليل لما قبله ، ومفعول يشأ في كل محذوف قدره المفسر بقوله إضلاله وبقوله هدايته ، والمعنى أن الاضلال والاهتداء بتقدير الله ، فمن أراد الله هدايته ، سهل له أسبابها ، وجعله منهمكا في طاعته ، وإن وقعت منه معصية وفق للتوبة منها ، ومن أراد الله إضلاله ، حجبه عن نوره ، وتعسرت عليه أسباب الطاعة ، حتى لو وقعت منه طاعة ، تكون معلولة غير مقبولة ، وما في هذه الآية هو معنى قوله تعالى في الآية الأخرى (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الآية. (قُلْ) (يا محمد) أي على سبيل التخويف والتوبيخ على الكفر بالله. قوله : (أخبروني) هكذا فسرت الرؤية في هذه الآية ونظائرها بالإخبار ، والأصل في الرؤية العلم أو الإبصار ، فأطلق العلم أو الإبصار ، وأريد لازمه وهو الإخبار ، لأن الإنسان لا يخبر إلا بما علمه أو أبصره ، واستعملت الهمزة التي هي. في الأصل لطلب العلم أو الإبصار في طلب الإخبار ففيه مجازان ، ورأى فعل ماض ، والتاء فاعل ، والكاف مفعول أول على حذف مضاف ، والجملة الاستفهامية في محل المفعول الثاني ، والتقدير أرأيتم عبادتكم غير الله هل تنفعكم ، والمعنى أخبروني يا أهل مكة ، إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بسرعة ، أتدعون إلها غير الله يكشف عنكم ما نزل بكم ، وجواب الاستفهام لا يدعون غير الله ، فإذا كان كذلك فهو أحق بأن يفرد بالعبادة.

قوله : (إِنْ أَتاكُمْ) جواب الشرط محذوف تقديره فمن تدعون. قوله : (في الدنيا) أي كالصاعقة

٤٤٥

كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠) في أن الأصنام تنفعكم فادعوها (بَلْ إِيَّاهُ) لا غيره (تَدْعُونَ) في الشدائد (فَيَكْشِفُ) الله (ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه (إِنْ شاءَ) كشفه (وَتَنْسَوْنَ) تتركون (ما تُشْرِكُونَ) (٤١) معه من الأصنام فلا تدعونه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ) زائدة (قَبْلِكَ) رسلا فكذبوهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) شدة الفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (٤٢) يتذللون فيؤمنون (فَلَوْ لا) فهلا (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا (تَضَرَّعُوا) أي لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضي له (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فلم تلن للإيمان (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣) من المعاصي فأصروا عليها (فَلَمَّا نَسُوا) تركوا (ما ذُكِّرُوا) وعظوا وخوفوا (بِهِ) من البأساء والضراء فلم يتعظوا (فَتَحْنا) بالتخفيف والتشديد (عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النعم استدراجا لهم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) فرح بطر (أَخَذْناهُمْ) بالعذاب (بَغْتَةً)

____________________________________

والصيحة. قوله : (المشتملة عليه) أي على العذاب ، لأن الكافر لا يشاهد من حين موته إلا العذاب الدائم ، وأسهله خروج الروح. قوله : (بغتة) أي سرعة.

قوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وغير معمول لتدعون وهو صفة لموصوف محذوف والتقدير أتدعون إلها غير الله. قوله : (فادعوها) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف. قوله : (بَلْ إِيَّاهُ) اضراب انتقالي عن النفي الذي علم من الاستفهام. قوله : (في الشدائد) أي كالمرض والفقر وغير ذلك.

قوله : (إِنْ شاءَ) جوابه محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه ، أي إن شاء أن يكشفه كشفه ، وإن لم يشأ كشفه فلا يكشفه ، فليست إجابة الدعاء وعدا لا يخلف ، وهذا مخصوص بدعاء الكفار ، وأما دعاء المؤمنين فهو مجاب بالوعد الذي لا يخلف ، لكن على ما يريد الله ، إما بعين المطلوب أو بغيره ، فلا منافاة بين ما هنا وبين قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). قوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي حين نزول الشدائد بهم لا يلتفتون إلى أصنامهم ، بل لا يدعون إلا الله.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فكذبوهم) قدره إشارة إلى أن قوله (فَأَخَذْناهُمْ) مرتب على محذوف. قوله : (يَتَضَرَّعُونَ) من التضرع وهو التذلل والخضوع. قوله : (فهلا) أشار بذلك إلى أن لو لا للتحضيض. قوله : (أي لم يفعلوا ذلك) أي التضرع ، وأشار بذلك إلى أن التحضيض بمعنى النفي. قوله : (مع قيام المقتضى له) أي وهو البأساء والضراء. قوله : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي لم يقع منهم تضرع ولا خضوع ، بل ظهر منهم خلاف ذلك بسبب قسوة قلوبهم. قوله : (فلم تلن للإيمان) أشار إلى أن القسوة نشأ عنها الكفر ، كما أن التضرع ينشأ عنه الإيمان.

قوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي الذين كانوا يعملونه أو عملهم. قوله : (فأصروا عليها) أي على المعاصي ، ولم يتعظوا بما نزل بهم من الباساء والضراء. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) غاية للفتح ، والمعنى أن من خالف أمر الله وطغى يستدرجه الله بالنعم ويمده بالعطايا الدنيوية ، فإذا فرح بذلك كان عاقبة أمره أخذه أخذ عزيز

٤٤٦

فجأة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) آيسون من كل خير (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي آخرهم بأن استؤصلوا (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) على نصر الرسل وإهلاك الكافرين (قُلْ) لأهل مكة (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ) أصمكم (وَأَبْصارَكُمْ) أعماكم (وَخَتَمَ) طبع (عَلى قُلُوبِكُمْ) فلا تعرفون شيئا (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) بما أخذه منكم بزعمكم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) نبين (الْآياتِ) الدلالات على وحدانيتنا (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٤٦) يعرضون عنها فلا يؤمنون (قُلْ) لهم (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) ليلا أو نهارا (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧) الكافرون أي ما يهلك إلا هم (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) من آمن

____________________________________

مقتدر. قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) إذا فجائية أي فاجأهم الإبلاس بمعنى اليأس من كل خير. قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) الدابر التابع من خلف ، يقال دبر الولد ، والده ، ودبر فلان القوم ، تبعهم ، فمعنى دابرهم آخرهم ، وهو كناية عن الاستئصال ، فلذلك قال بأن استؤصلوا ، أي فلم يبق منهم أحد. قوله : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا حمد من الله لنفسه على هلاك الكفار ونصر الرسل ، وفيه تعليم للمؤمنين أنهم يشكرون الله على ذلك ، إذ هو نعمة عظيمة.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) هذا تنزل من الله سبحانه وتعالى لكفار مكة لإقامة الحجة عليهم قبل أخذهم. قوله : (أخبروني) تقدم أن استعمال رأى في الإخبار مجاز ، وأصل استعمالها في العلم أو في الإبصار ، وتقدم أنها تطلب مفعولين : الأول محذوف لدلالة مفعولي أخذ وهو سمعكم وأبصاركم عليه ، فهو من باب التنازع أعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف لأنه فضلة ، والمفعول الثاني هو قوله (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) الخ. قوله : (سَمْعَكُمْ) أفرده وجمع ما بعده ، لأن السمع مصدر لا يثنى ولا يجمع كما تقدم في البقرة. قوله : (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) المراد بالقلوب العقول أي أذهب عقولكم وصيركم كالبهائم فلا تعقلون شيئا. قوله : (بما أخذه) أشار بذلك إلى أنه أفرد باعتبار ما ذكر ، والمعنى من إله غير الله بزعمكم يأتيكم بأي واحد مما أخذ منكم. قوله : (بزعمكم) متعلق بقوله من إله غير الله فالمناسب تقديمه.

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) هذا تعجيب لرسول الله من عدم اعتبارهم بتلك الآيات الباهرة وكيف منصوب على التشبيه بالحال ، والمعنى أنظر يا محمد تصريفنا الآيات على أي كيفية. قوله : (أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني ، والمفعول الأول الكاف على حذف مضاف أي أنفسكم ، والمفعول الثاني جملة الاستفهام. قوله : (عَذابُ اللهِ) أي كالصيحة والصواعق. قوله : (ليلا أو نهارا) لف ونشر مرتب ، وهذا التفسير لابن عباس ، وقيل البغتة الذي يأتي من غير سبق علامة ، والجهر الذي يأتي مع سبق علامة كان كل بالليل أو النهار. قوله : (الكافرون) أشار بذلك إلى أن المراد هلاك سخط وغضب ، فاندفع ما يقال إن المصيبة إذا أتت فلا تخص الكافر بل تعم الطائع ، فالجواب أن هلاك الكفار سخط وغضب ، وهلاك المؤمن إثابة ورفع درجات ، والاستثناء مفرغ ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي كما أشار له المفسر.

قوله : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) هذا بيان لوظائف المرسلين ، والمعنى أن المرسلين منصبهم البشارة لمن آمن ، والنذارة لمن كفر ، وليسوا قادرين على إيجاد نفع أو ضر ، وإنما جعلهم الله سببا لذلك. قوله :

٤٤٧

بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالنار (فَمَنْ آمَنَ) بهم (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤٨) في الآخرة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩) يخرجون عن الطاعة (قُلْ) لهم (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) التي منها يرزق (وَلا) أني (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما غاب عني ولم يوح إلي (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة (إِنْ) ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) الكافر (وَالْبَصِيرُ) المؤمن لا (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) في ذلك فتؤمنون (وَأَنْذِرْ) خوف (بِهِ) أي القرآن (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي غيره (وَلِيٌ) ينصرهم (وَلا شَفِيعٌ) يشفع لهم وجملة النفي حال من ضمير يحشروا وهي محل الخوف والمراد بهم المؤمنون العاصون (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥١) الله بإقلاعهم عما هم فيه وعمل الطاعات (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ) بعبادتهم (وَجْهَهُ)

____________________________________

(في الآخرة) احتراز لبيان أن عدم الخوف والحزن هو في الآخرة فقط ، وأما الدنيا فهي محل الخوف والحزن لأنها سجن المؤمن. قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) مقابل قوله فمن آمن كأنه قال فالذين آمنوا وأصلحوا الخ ، وهذا يؤيد أن من موصولة. قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الباء سببية وما مصدرية ، أي بسبب فسقهم ، والفسق الخروج عن الطاعة كلا أو بعضا ، فالكافر فاسق لخروجه عن طاعة الله بالكلية.

قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ) هذا مرتب على قوله (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) كأنه قال ليس على الرسول إلا البشارة والنذارة ، وليس من وظيفته إجابتهم عما سألوه عنه ولا فعل ما طلبوه منه لأنه ليس عنده خزائن الله الخ. قوله : (خَزائِنُ اللهِ) أي لا أدعي أن مقدرات الله من أرزاق وغيرها مفوضة إلي حتى تطلبوا مني قلب الجبال ذهبا وغير ذلك. قوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ما غاب عني من أفعال الله حق تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب.

قوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي حتى تكلفوني بصفات الملائكة ، كالصعود للسماء ، وعدم المشي في الأسواق ، وعدم الأكل والشرب. وهذه الآية نزلت حين قالوا له : إن كنت رسولا فاطلب منه أن يوسع علينا ويغني فقرنا ، فأخبر أن ذلك بيد الله لا بيده بقوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، وقالوا له أيضا : أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نتهيأ لذلك ، فنحصل المصالح وندفع المضار ، فقال لهم : ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون ، وقالوا له : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء ، فقال لهم : ولا أقول لكم إني ملك. قوله : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) الهمزة داخلة على المحذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير ألا تسمعون الحق فلا تتفكرون. قوله : (فتؤمنون) معطوف على تتفكرون وليس جوابا للنفي وإلا لنصب.

قوله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ) محط الأمر قوله لعلهم يتقون ، والمعنى أن إنذارك لا ينفع إلا المؤمن العاصي الخائف ، وأما الكافر المعاند فلا ينفع فيه إلا الإنذار ، فلا ينافي أنه مأمور بإنذار كل مخالف أفاد الإنذار أو لا ، وإنما ذلك بيان للذين ينفع فيهم الإنذار. قوله : (والمراد بهم) أي بالذين يخافون.

قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي لا تبعدهم عن مجلسك ولا عن القرب منك. قوله :

٤٤٨

تعالى لأشياء من أعراض الدنيا وهم الفقراء وكان المشركون طعنوا فيهم وطلبوا أن يطردهم ليجالسوه وأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك طمعا في إسلامهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) إن كان باطنهم غير مرضي (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٢) إن فعلت ذلك (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) ابتلينا (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي الشريف

____________________________________

(يَدْعُونَ) أي يعبدون. قوله : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) خص هذين الوقتين لأن في الأول صلاة الصبح وفي الثاني صلاة العصر ، وقد قيل إن كلا هي الصلاة الوسطى. قوله : (لأشياء) مفعول لمحذوف تقديره لا يريدون شيئا. قوله : (من أعراض الدنيا) يصح ضبطه بالعين المهملة وبالغين المعجمة ، والثاني أولى لشموله للأموال وغيرها. قوله : (وهم الفقراء) أي كعمار بن ياسر وبلال وصهيب. قوله : (وكان المشركون طعنوا فيهم) هذا إشارة لسبب نزولها. وحاصلة كما قال الخازن : إنه جاء الأقرع بن حابس التيمي ، وعتبة بن حصن الفزاري ، وعباس بن مرداس ، وهم من المؤلفة قلوبهم ، فوجدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين ، كعمار بن ياسر وصهيب وبلال ، فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المسجد وأبعدت عنا هؤلاء ورائحة جبابهم ، وكانت عليهم جبب من صوف ولها رائحة كريهة لمداومة لبسها لعدم غيرها ، لجالسناك وأخذنا عنك ، فقال النبي ما أنا بطارد المؤمنين ، قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا مجلسا تعرف به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال نعم ، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا ، فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، فنزل جبريل بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) الآية ، فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيفة ثم دعانا وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، فكنا نقعد معه ، وإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية ، فكان يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه ، حتى كادت ركبنا تمس ركبته ، فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ا ه.

قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) هذا كالتعليل لما قبله ، والمعنى لا تؤاخذ بذنوبهم ولا بما في قلوبهم إن أرادوا بصحبتك غير وجه الله ، وهذا على فرض تسليم ما قاله المشركون ، وإلا فقد شهد الله أولا لهم بالإخلاص ، وما نافية مهملة ، وعليك جار ومجرور خبر مقدم ، وشيء مبتدأ مؤخر ، ومن صلة ، ومن حسابهم متعلق بمحذوف حال ، وهذا نظير قوله في الآية الأخرى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يقال في إعرابها ما قيل فيما قبلها ، إلا أن قوله من حسابك بيان لقوله من شيء وليس حالا ، وفي هاتين الجملتين من أنواع البديع رد الصدر على العجز ، كقولهم : عادات السادات سادات العادات والتتميم ، وإلا فأصل التعليل قد حصل بالجملة الأولى. قوله : (جواب النفي) أي المرتب على النهي ، وقوله : (فَتَكُونَ) معطوفا على قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ). قوله : (إن فعلت ذلك) أي طردهم.

قوله : (وَكَذلِكَ) الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف ، والتقدير ومثل ذلك الفتون المتقدم

٤٤٩

بالوضيع والغني بالفقير بأن قدمناه بالسبق إلى الإيمان (لِيَقُولُوا) أي الشرفاء والأغنياء منكرين (أَهؤُلاءِ) الفقراء (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) بالهداية أي لو كان ما هم عليه هدى ما سبقونا إليه قال تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) له فيهديهم بلى (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ) لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ) قضى (رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ) أي الشأن وفي قراءة بالفتح بدل من الرحمة (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) منه حيث ارتكبه (ثُمَّ تابَ) رجع (مِنْ بَعْدِهِ) بعد عمله عنه (وَأَصْلَحَ) عمله (فَأَنَّهُ) أي والله (غَفُورٌ) له (رَحِيمٌ) (٥٤) به وفي قراءة بالفتح أي فالمغفرة له (وَكَذلِكَ) كما بينا ما ذكر (نُفَصِّلُ) نبين (الْآياتِ) القرآن ليظهر الحق فيعمل به (وَلِتَسْتَبِينَ) تظهر (سَبِيلُ) طريق (الْمُجْرِمِينَ) (٥٥) فتجتنب وفي قراءة بالتحتانية وفي أخرى

____________________________________

من أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمة ببعض. قوله : (والغني بالفقير) أي ففتنة الغني بالفقير لسبق الفقير إلى الإيمان ، وفتنة الفقير بالغني زينة الدنيا يتمتع فيها مع كفره. قوله : (بأن قدمناه بالسبق إلى الإيمان) بيان لفتنة الأغنياء بالفقراء. قوله : (لِيَقُولُوا) اللام يصح أن تكون لام كي أو لام الصيرورة والعاقبة. قوله : (منكرين) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي على سبيل التهكم. قوله : (قال تعالى) أي ردا عليهم. قوله : (بلى) جواب الاستفهام التقريري.

قوله : (وَإِذا جاءَكَ) هذا من تتمة ما نزل في الفقراء. قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) وصفهم أولا بالعبادة وثانيا بالإيمان إظهارا لمزاياهم. قوله : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الخ ، أي اذكر لهم هذه الآية إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) في وقت مجيئهم إليك ، وهذا السّلام يحتمل أنه سلام التحية أمر أن يبدأهم به إذا قدموا عليه خصوصية لهم ، وإلا فسنة السّلام أن تكون أولا من القادم ، وعليه فتكون الجملة إنشائية ، ويحتمل أنه سلام الله عليهم إكراما لهم أمر بتبليغه لهم ، وعليه فتكون الجملة خبرية لفظا ومعنى ، وسلام مبتدأ ، وعليكم خبره ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه دعاء ، والدعاء من المسوغات.

قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ) أي ألزم نفسه تفضلا منه وإحسانا. قوله : (وفي قراءة بالفتح) أي وهي سبعية أيضا ، والحاصل أن القراءات ثلاث ، فتحهما وكسرهما ، وفتح الأولى وكسر الثانية ، وكلها سبعية فأما الفتح فيهما فالأولى بدل من الرحمة ، والثانية في محل رفع مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي فغفرانه ورحمته حاصلان له ، وأما الكسر فيهما فالأولى مستأنفة جيء بها كالتفسير لما قبلها ، والثانية مستأنفة أيضا بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبرا لمن الموصولة ، وأما على فتح الأولى وكسر الثانية ، فالأولى بدل ، والثانية استئناف ، فتأمل فإنه زبدة احتمالات كثيرة. قوله : (بدل من الرحمة) أي بدل شيء من شيء. قوله : (بِجَهالَةٍ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل (عَمِلَ) ، والتقدير عمل سوءا حال كونه جاهلا بما يترتب على معاصيه من العقاب غافلا عن جلال الله ، وفيه إشارة إلى أن المؤمن لا يقع منه الذنب إلا في حال جهله وغفلته ، وهذه الآية لا تخص الفقراء الذين كانوا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هي عامة لكل من تاب إلى يوم القيامة ، ولعموم بشارتها افتتح بها أبو الحسن الشاذلي حزبه.

قوله : (وَلِتَسْتَبِينَ) معطوف على محذوف قدره المفسر بقوله ليظهر الحق ، فطريق الهدى واضحة ،

٤٥٠

بالفوقانية ونصب سبيل خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) في عبادتها (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) إن اتبعتها (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٥٦) (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) بيان (مِنْ رَبِّي وَ) قد (كَذَّبْتُمْ بِهِ) بربي حيث أشركتم (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (إِنِ) ما (الْحُكْمُ) في ذلك وغيره (إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُ) القضاء (الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧) الحاكمين وفي قراءة يقص أي يقول (قُلْ) لهم (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بأن أعجله لكم واستريح ولكنه عند الله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (٥٨) متى يعاقبهم (وَعِنْدَهُ) تعالى (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائنه أو الطرق الموصلة إلى

____________________________________

وطريق الضلال واضحة ، لما في الحديث «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يضل عنها إلا هالك». قوله : (وفي قراءة بالتحتانية) أي ورفع سبيل ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية ، ففي الفوقانية الرفع والنصب ، وفي التحتانية الرفع لا غير. قوله : (خطاب للنبي) أي والمعنى لتعلم سبيلهم فتعاملهم بما يليق بهم.

قوله : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) هذا أمر من الله لنبيه أن يخاطب الكفار الذين طمعوا في دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دينهم ويرد عليهم بذلك. قوله : (نُهِيتُ) أي نهاني ربي بواسطة الدليل العقلي والسمعي ، لدلالة كل منهما على أن الله واحد لا شريك له ، متصف بكل كمال مستحيل عليه كل نقص. قوله : (تعبدون) هذا أحد إطلاقات الدعاء ، وبه فسر في غالب القرآن لأنه يشمل الطلب وغيره. قوله : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) جمع هوى سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه إلى المهالك ، وهذه الجملة تأكيد لما قبلها. قوله : (إِذاً) حرف جواب وجزاء ، ولا عمل لها لعدم وجود فعل تعمل فيه. قوله : (إن اتبعتها) أي الأهواء وهو بيان لمعنى إذا. قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تأكيد لما قبلها. قوله : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) هذا زيادة في قطع طمعهم الفاسد ، والمعنى لا تطمعوا في دخولي دينكم لأني على بينة من ربي ، ومن كان كذلك كيف يخدع ويتبع الضلال ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) قوله : (بيان) أي دليل واضح. قوله : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بوحدانيته ، والجملة حالية ، ويشير لذلك تقدير المفسر قد.

قوله : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) ما الأولى نافية والثانية موصولة ، وقوله : (من العذاب) بيان لما الثانية. وسبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم ، وكانوا يستعجلون به استهزاء كما في آية الأنفال (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية. قوله : (يَقُصُّ الْحَقَ) قدر المفسر القضاء إشارة إلى أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، ويحتمل أنه ضمنه معنى ينفذ فعداه إلى المفعول به ، ويحتمل أنه منصوب بنزع الخافض أي بالحق. قوله : (وفي قراءة يقص) من قص الأثر تتبعه ، وقص الحديث قاله.

قوله : (لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي لو كان الأمر مفوضا إليّ. قوله : (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب. قوله : (بأن أعجله) بيان قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) والضمير عائد على ما تستعجلون. قوله : (متى يعاقبهم)

٤٥١

علمه (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وهي الخمسة التي في قوله : (إن الله عنده علم الساعة) الآية كما رواه البخاري (وَيَعْلَمُ ما) يحدث (فِي الْبَرِّ) القفار (وَالْبَحْرِ) القرى التي على الأنهار (وَما تَسْقُطُ

____________________________________

أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضافين ، والتقدير والله أعلم بوقت عقوبة الظالمين ، فلا يستعجلوا ذلك ، فإنه لا حق بهم إن لم يتوبوا ، وإنما تأخيره من حلم الله عليهم ، فلو لا حلمه ما بقي أحد ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) فمن القبيح بعض العامة حلم الله يفتت الأكباد. إن قلت مقتضى هذه الآية أنه لو كان الأمر مفوضا له في تعذيبهم لعجله واستراح ، ومقتضى ما ورد من إتيان ملك الجبال يستشيره في أنه يطبق عليهم الأخشبين أنه لم يرض وقال أرجو أن يخرج من ذريتهم من يؤمن بالله فحصل التنافي. أجيب : بأن ما في الآية بالنظر لأصل البشرية ، لأن البشر يتأثر بالضر والنفع ، وما في الحديث إنما هو رحمة من الله ألقاها عليه فرحمهم‌الله بها ، قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) فرجع الأمر لله فتدبر.

قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) لما بين سبحانه وتعالى أولا أنه منفرد بايجاد كل شيء خيرا كان أو شرا لقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الآية ، بين ثانيا أنه منفرد بعلم الغيب بقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) فهو كالدليل لما قبله كأنه قال العذاب والرحمة بقدرة الله ، ولا يعلم وقت مجيء ذلك إلا الله لأن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، وعنده خبر مقدم ، ومفاتح الغيب مبتدأ مؤخر ، وتقديم الظرف يؤذن بالحصر وهو منصب على الجميع ، فلا ينافي أن بعض الأنبياء والأولياء يطلعه الله على بعض المغيبات الحادثة ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وأما من قال إن نبينا أو غيره أحاط بالمغيبات علما كما أحاط علم الله بها فقد كفر. قوله : (خزائنه) أشار بذلك إلى أن مفاتح جمع مفتح بفتح فكسر كمخزن وزنا ومعنى العلوم المخزونة ، وقوله : (أو الطرق) أي فهو جمع مفتح بكسر ففتح بمعنى الطرق التي توصل إلى تلك العلوم المخزونة الغيبية (لا يَعْلَمُها) أي الخزائن أو الطرق تفصيلا إلا هو ، وأما علمنا فيها فهو على سبيل الإجمال ، وهو تأكيد لما علم من تقديم الظرف. قوله : (علم الساعة) أي وقت مجيئها وتفصيل ما يحصل فيها. قوله : (الآية) أي وهي : (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر ، أي لا يعلم وقت مجيئه وعدد قطراته ونفع الناس به إلا الله ، (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) ، أي من كونه ذكرا أو أنثى شقيا أو سعيدا يعيش أو يموت. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي لا تعلم نفس ما يعرض لها في المستقبل من خير أو شر ، وغير ذلك من الأحوال التي تطرأ على الأنفس ، قال الشاعر :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمى

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي بأي محل يكون قبض روحها فيه أو دفنها فيه ، إن الله عليم خبير ببواطن الأشياء كظواهرها ، وهذا التفسير لابن عبّاس ، وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب خزائنه الخفية في الأرض ، والأقرب والأتم أن المراد بمفاتح الغيب الأمور المغيبة الخفية جميعها كانت الخمسة أو غيرها. قوله : (ما) (يحدث) (فِي الْبَرِّ) أي من خير أو شر. قوله : (القرى التي على الأنهار) أي فيعلم رزق أهلها وعددهم وغير ذلك ، وقال جمهور المفسرين : المراد البر والبحر المعروفان ، لأن جميع الأرض إما بر أو بحر ، وفي كل عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته.

٤٥٢

مِنْ) زائدة (وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على ورقة (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) هو اللوح المحفوظ والاستثناء بدل اشتمال من الاستثناء قبله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) يقبض أرواحكم عند النوم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) كسبتم (بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي النهار برد أرواحكم (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) هو أجل الحياة (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠) فيجازيكم به (وَهُوَ الْقاهِرُ) مستعليا (فَوْقَ عِبادِهِ

____________________________________

قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي من الشجر إلا يعلمها ، أي وقت سقوطها والأرض التي تسقط عليها. قوله : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أي هي والتي يضعها والزارع للنبات فيعلم موضعها وهل تنبت أو لا ، وقيل المراد بالحبة التي في الصخرة التي في الأرض التي قال فيها الله يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله وكل صحيح. قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف عام ، لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة. فإن قلت : إن جميع هذه الأشياء داخل تحت قوله وعنده مفاتح الغيب ، فلم أفردها بالذكر؟ أجيب : بأنه من التفصيل بعد الإجمال ، وقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من جنس العجائب ثم الورقة لأنه يراها كل أحد ، لكن لا يعلم عددها إلا الله ، ثم ما هو أضعف من الورقة وهو الحبة ، ثم ذكر مثالا يجمع الكل وهو الرطب واليابس. قوله : (عطف على ورقة) أي الثلاثة معطوفة على ورقة ، لكن لا يناسب تسليط السقوط عليها فيضمن السقوط بالنسبة للحبة والرطب واليابس معنى الثبوت. قوله : (بدل اشتمال من الاستثناء قبله) أي وهو قوله إلا يعلمها ، وذلك لأن دائرة العلم أوسع من دائرة اللوح ، فذات الله وصفاته أحاط بها العلم لا اللوح ، والكائنات وما يتعلق بها أحاط بها اللوح والعلم ، وهذا على أن المراد بالكتاب اللوح كما أفاده المفسر ، وإن أريد بالكتاب علم الله يكون بدل كل من كل لزيادة التأكيد والإيضاح. قوله : (يقبض أرواحكم) ما ذكره المفسر بناء على أن الإنسان له روحان ، روح تقبض بالنوم وتبقى روح الحياة فإذا أراد الله موته قبضهما جميعا وعليه جملة من المفسرين ويشهد له آية الزمر ، قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية ، ويقرب هذا أحوال الأولياء لأن لهم حالة تسرح فيها أرواحهم وترى العجائب كالنائم ، والمشهور أنها روح واحدة ، ويكون معنى يتوفاكم يذهب شعوركم لأنهم عرفوا النوم بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهرا عليه ، تمنع حواسه الحركة وعقله الإدراك. قوله : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي لأنه الخالق للأفعال والحركات والسكنات ، فهو المغير للأشياء ولا يتغير ، قال العارف :

ولي في خيال الظل أكبر عبرة

لمن كان في بحر الحقيقة راقي

شخوص وأشكال تمر وتنقضي

فتفنى جميعا والمحرك باقي

قوله : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) ثم في كل للترتيب الرتبي ، لأن بعد النوم البعث بالإيقاظ إلى انقضاء الأجل ثم بعده البعث بالإحياء من القبور ثم الإخبار بما وقع من العباد. قوله : (لِيُقْضى أَجَلٌ) الجمهور على بناء يقضى للمجهول ، وأجل نائب فاعل والفاعل محذوف إما عائد على الله أو على الشخص ، ومعنى قضاء الشخص أجله استيفاؤه إياه ، وقرىء بالبناء للفاعل ، وأجلا مفعوله ، والفاعل مستتر عائدة على الله. قوله : (فيجازيكم به) أي إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ) أي المستعلي الغالب على

٤٥٣

وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ملائكة تحصي أعمالكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ) وفي قراءة توفاه (رُسُلُنا) الملائكة الموكلون بقبض الأرواح (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١) يقصرون فيما يؤمرون به

____________________________________

أمره الحاكم فلا معقب لحكمه ، يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويضر وينفع ، فلا راد لما قضى ، ولا ملجأ منه إلا إليه ، فهو المتصرف في خلقه بجميع أنواع التصرفات ، من إيجاد وإعدام ، وإعزاز وإذلال ، وغير ذلك. قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) أي فوقية مكانة أي شرف رفعة وعلو قدر تليق به ، لا فوقية مكان لاستحالة اتصافه به.

قوله : (وَيُرْسِلُ) معطوف على صلة أل كأنه قال وهو الذي يقهر ويرسل ، وهذا من جملة قهره سبحانه وتعالى. قوله : (ملائكة تحصي أعمالكم) أي من خير وشر ، لما ورد أن كل إنسان له ملكان ، ملك عن يمينه ، وملك عن شماله ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين حالا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال أصبر لعله يتوب منها ، فإن لم يتب منها كتبها صاحب الشمال ، قال العلماء يؤخر ست ساعات فلكية فإن تاب فيها لم تكتب هكذا ، قال المفسر : وقيل المراد بالحفظة الملائكة الموكلون بحفظ ذوات العبيد من الحوادث والآفات ، وهم عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وقيل المراد ما هو أعم وهو الأتم. إن قلت : إن الله هو الحافظ فلم وكلت الملائكة بحفظ الشخص أجيب : بأن ذلك تكرمة لبني آدم وإظهارا لفضلهم ، والحكمة في كون الملائكة تكتب على الشخص ما صدر منه أنه إذا علم ذلك ، ربما كان داعيا للخوف والانزجار عن فعل القبائح والمعاصي.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ) حتى ابتدائية ، والمعنى ينتهي حفظ الملائكة للأشخاص عند فراغ الأجل ، فالملائكة مأمورون بحفظ ابن آدم حيا ، فإذا فرغ أجله فقد انتهى حفظهم له. قوله : (الْمَوْتُ) أي أسبابه. قوله : (وفي قراءة توفاه) أي بالامالة المحضة ، وهي ما كانت للكسر أقرب ، وهو إما ماض وحذفت التاء لأنه مجازي التأنيث ، أو مضارع ويكون فيه حذف إحدى التاءين. قوله : (رُسُلُنا) أي أعوان ملك الموت الموكلون بقبض الأرواح. إن قلت : قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) وقال في الآية الأخرى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وهذه ، أجيب : بأن الله هو المتوفى حقيقة ، فإذا حضر أجل العيد ، اشتغلت أعوان ملك الموت بانتزاعها من الجسد ، فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت بيده ، فهو القابض لجميع الأرواح ، إن قلت : ورد في بعض الأحاديث وتول قبض أرواحنا عند الأجل بيدك أجيب : بأن معناه شهود الرب واستيلاء محبته على قلبه حتى يغيب عن إحساسه ، فلا يشاهد ملك الموت حين قبض الروح ، وإن كان هو القابض لها ، وذلك في أهل محبة الله ، ومن يموت شهيد حرب أو غريقا أو حريقا ونحوهم.

قوله : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) هذه الجملة حالية من رسلنا ، أي والحال أنهم لا يقصرون في ذلك. فقد ورد : ما من أهل بيت شعر ولا مدر ، إلا وملك الموت يطوف بهم مرتين. وورد : أن الدنيا كلها بين ركبتي ملك الموت ، وجميع الخلائق بين عينيه ، ويداه يبلغان المشرق والمغرب ، وكل من نفد أجله يعرفه بسقوط صحيفته من تحت العرش عليها اسمه ، فعند ذلك يبعث أعوانه من الملائكة ويتصرفون بحسب ذلك. وورد : أن ملك الموت يقبض الروح من الجسد ويسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا ، أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا ويقال معه سبعة من ملائكة الرحمة ، وسبعة من ملائكة العذاب ، فإذا قبض

٤٥٤

(ثُمَّ رُدُّوا) أي الخلق (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ) مالكهم (الْحَقِ) الثابت العدل ليجازيهم (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ فيهم (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢) يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك (قُلْ) يا محمد لأهل مكة (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أهوالهما في أسفاركم حين (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) علانية (وَخُفْيَةً) سرا تقولون (لَئِنْ) لام قسم (أَنْجانا) وفي قراءة أنجانا أي الله (مِنْ هذِهِ) الظلمات والشدائد (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٣) المؤمنين (قُلِ) لهم (اللهُ يُنَجِّيكُمْ) بالتخفيف والتشديد (مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) غم سواها (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (٦٤) به (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) من السماء كالحجارة والصيحة (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم (شِيَعاً) فرقا مختلفة الأهواء (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالقتال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذا أهون وأيسر ولما نزل

____________________________________

نفسا مؤمنة ، دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدن بها إلى السماء ، وإذا قبض نفسا كافرة ، دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها ، ثم يصعدون بها إلى السماء ، ثم ترد إلى سجين ، وروح المؤمن إلى عليين.

قوله : (ثُمَّ رُدُّوا) معطوف على توفته ، وأفرد أولا لأن التوفي يكون لكل شخص على حدة ، وجمع ثانيا لأن الرد يكون للجميع. قوله : (مالكهم) دفع بذلك ما يقال إن بين هذه الآية وآية (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) تنافيا فأجاب بأن المراد بالمولى هنا المالك وبه هناك الناصر. قوله : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) أي لا لغيره. قوله : (لحديث بذلك) وفي رواية أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة. قوله : (قُلْ) (يا محمد) أي توبيخا لهم وردعا. قوله : (أهوالهما) أي فالظلمات كناية عن الأهوال والشدائد التي تحصل في البر والبحر ، وما مشى عليه المفسر أتم لشمولها للحقيقة وغيرها ، وقيل المراد بالظلمات حقيقتها ، فظلمات البر هي ما اجتمع من ظلمة الليل وظلمة السحاب ، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة. قوله : (وَخُفْيَةً) الجمهور على ضم الخاء ، وقرأ أبو بكر بكسرها ، وقرأ الأعمش خيفة كالأعراف.

قوله : (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) الجملة في محل نصب مقول القول كما قدره المفسر. قوله : (والشدائد) عطف تفسير. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي وكل منهما مع قراءة أنجيتنا بالتاء ، وأما من قرأ أنجانا فيقرأ بالتشديد هنا لا غير ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية.

قوله : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ) هذا بيان لكونه قادرا على الإهلاك إثر بيان أنه المنجي من المهالك. قوله : (كالحجارة) أي التي نزلت على أصحاب الفيل ، وقوله (والصيحة) أي صرخة جبريل التي صرخها على ثمود قوم صالح. قوله : (كالخسف) أي الذي وقع لقارون. قوله : (شِيَعاً) منصوب على الحال جمع شيعة وهي من يتقوى بهم الإنسان ويجمع على أشياع. قوله : (فرقا) جمع فرقة وهي الجماعة. قوله : (لما نزلت) أي آية (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). قوله : (أهون وأيسر) أي مما قبله وهو

٤٥٥

ما قبله أعوذ بوجهك رواه البخاري. وروى مسلم حديث سألت ربي أن لا يجعل بأس أمتي بينهم فمنعنيها. وفي حديث لما نزلت قال أما انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) نبين لهم (الْآياتِ) الدلالات على قدرتنا (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦٥) يعلمون أن ما هم عليه باطل (وَكَذَّبَ بِهِ) بالقرآن (قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) الصدق (قُلْ) لهم (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (٦٦) فأجازيكم إنما أنا منذر وأمركم إلى الله وهذا قبل الأمر بالقتال (لِكُلِّ نَبَإٍ) خبر (مُسْتَقَرٌّ) وقت يقع فيه ويستقر ومنه عذابكم (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٦٧) تهديد لهم (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ

____________________________________

رضا بقضاء الله ، وإلا فقد استعاذ منه أولا فلم يفد. قوله : (ولما نزل ما قبله) أي قوله : (عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ) الخ. قوله : (أعوذ بوجهك) أي فقال مرتين : مرة عند نزول قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) ، ومرة عند نزول قوله : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ). قوله : (فمنعنيها) أي منعني هذه المسألة ، بمعنى أنه لم يجبني في هذه الدعوة لما سبق في علمه من حصولها ، فكان أول ابتداء إذاقة البعض بأس البعض بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس وعشرين سنة في وقعة علي ومعاوية ، وما زالت الفتن تتزايد إلى يوم القيامة. قوله : (لما نزلت) أي هذه الآية. قوله : (قال أما إنها) أما أداة استفتاح ، وإنها بكسر الهمزة ، والضمير عائد على الأمور الأربعة : عذابا من فوقكم ، وعذابا من تحت أرجلكم ، وتفريقكم شيعا ، ونصب القتال بينكم ، فهذه الأربعة كائنة قبل يوم القيامة ، لكن الأخيران قد وقعا من منذ عصر الصحابة ، والأولان تفضل الله بتأخير وقوعهما إلى قرب قيام الساعة ، هكذا ورد ، ولكن قال العلماء وإن كان الأخيران يقعان قرب قيام الساعة ، لكن العذاب بهما ليس عاما كما وقع في الأمم الماضية. قوله : (ولم يأت تأويلها) الضمير يعود على الآية أو الأمور الأربعة ، أي صرفها عن ظاهرها ، بل هي باقية على ظاهرها ، لكن بالوجه الذي علمته.

قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي أنكره حيث قالوا : إنه سحر أو شر أو كهانة أو غير ذلك ، وما ذكره المفسر من أن الضمير عائد على القرآن هو أحد أقوال وهو أقربها ، وقيل الضمير عائد على العذاب ، وقيل على الحق ، وقيل على النبي وهو بعيد. قوله : (الصدق) أي لأنه منزل من عند الله وما كان من عند الله فهو صدق لا محالة. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أشار بذلك إلى أنه منسوخ بآيات القتال ، ولكن المناسب للمفسر أن يقول فأقاتلكم بدل قوله فأجازيكم. والحاصل أن في الآية تفسيرين الأول أن الآية محكمة ، والمعنى لست مجازيا على أعمالكم في الآخرة ، والثانية أنها منسوخة ، والمعنى لست مقاتلا لكم إن حصلت منكم المخالفة ، إذا علمت ذلك فالمفسر لفق بين التفسيرين.

قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) نزلت ردا لاستعجالهم العذاب الذي كان يعدهم به ، والمعنى لكل خبر من الأخبار رحمة وعذابا ، زمن يقع فيه إما الدنيا أو الآخرة أو فيهما لا يعلمه إلا الله : قوله : (وقت يقع فيه) أشار بذلك إلى أن مستقر اسم زمان ، ويصح أن يكون مصدرا أو اسم مكان. قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ) رأى بصرية والذين مفعولها ، ويبعد كونها علمية ، لأنه يقتضي أن المفعول الثاني محذوف ، وحذفه إما شاذ أو ممنوع. قوله : (يَخُوضُونَ) الخوض في الأصل الدخول في الماء فيستعار للشروع والدخول في الكلام ، فشبه آيات الله بالبحر ، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الخوض ، فإثباته تخييل ، والجامع بينهما التعرض للهلاك في كل ، فإن الخائض للبحر الغريق متعرض للهلاك ، فكذلك المتعرض

٤٥٦

فِي آياتِنا) القرآن بالاستهزاء (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة (يُنْسِيَنَّكَ) بسكون النون والتخفيف وفتحها والتشديد (الشَّيْطانُ) فقعدت معهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي تذكره (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) فيه وضع الظاهر موضع المضمر وقال المسلمون إن قمنا كلما خاضوا لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف فنزل (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) الله (مِنْ حِسابِهِمْ) أي الخائضين (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) إذا جالسوهم (وَلكِنْ) عليهم (ذِكْرى) تذكرة لهم وموعظة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩) الخوض (وَذَرِ) اترك (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذي كلفوه (لَعِباً وَلَهْواً) باستهزائهم به (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا تتعرض لهم وهذا قبل الأمر بالقتال (وَذَكِّرْ) عظ (بِهِ) بالقرآن الناس ل (أَنْ) لا (تُبْسَلَ نَفْسٌ) تسلم إلى الهلاك (بِما كَسَبَتْ) عملت (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلِيٌ) ناصر (وَلا شَفِيعٌ) يمنع عنها العذاب (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) تفد كل

____________________________________

للأباطيل في كلام الله.

قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الخطاب له ولأصحابه ، فالنهي عام وهو منسوخ بآية القتال. قوله : (فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الضمير عائد على الآيات وذكر باعتبار كونها حديثا. قوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) الخطاب له والمراد غيره ، لأن إنساء الشيطان له مستحيل عليه. قوله : (بسكون النون والتخفيف) أي للسين من أنساه أوقعه في النسيان ، وقوله (وفتحها) أي النون وقوله (والتشديد) أي للسين من نساه فيتعدى بالهمزة والتضعيف ، وهما قراءتان سبعيتان ، ومفعول ينسينك محذوف تقديره النهي أو ما أمرك الله به. قوله : (فيه وضع الظاهر الخ) أي زيادة في التشنيع عليهم ، وأتى في جانب الرؤية بإذا المفيدة للتحقيق ، وفي جانب الانساء بإن المفيدة إشارة إلى أن خوضهم في الآيات محقق ، وإنساء الشيطان غير محقق ، بل قد يقع وقد لا يقع. قوله : (وقال المسلمون) بيان لسبب نزول الآية.

قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) الجار والمجرور خبر مقدم ؛ و (مِنْ شَيْءٍ) مبتدأ مؤخر. قوله : (إذا جالسوهم) أي فالجلوس مع الخائضين غير ممنوع لكن بشرط عدم مسايرتهم لما هم عليه وبشرط وعظهم ونهيهم عن المنكر ، فهو تخصيص للنهي المتقدم. قوله : (وَلكِنْ) (عليهم) (ذِكْرى) أشار بذلك إلى أن ذكرى مبتدأ خبره محذوف ، ويصح أن يكون مفعولا لمحذوف تقديره ولكن يذكرونهم ذكرى. قوله (الذي كلفوه) أي وهو دين الإسلام ، ودفع بذلك ما يقال المشركون لا دين لهم من الأديان المشروعة ، فكيف أضيف إليهم دين ، وأخبر عنه أنهم اتخذوه لعبا ولهوا. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ بآياته ، ويدخل في عموم هذه الآية ، من اتخذ دين الإسلام لهوا ولعبا ، وأحدث فيه ما ليس منه ، كالخوارج وبعض من يدعي الانتساب إلى الصالحين ، حيث جعلوا الطريقة الموصلة إلى الله طبلا وزمرا ، وأحدثوا أمورا لا تحل في دين الله. قوله : (أَنْ تُبْسَلَ) علة لقوله : (وَذَكِّرْ بِهِ) على حذف لام العلة قدرها المفسر ولا مقدرة ، والابسال هو تسليم النفس في الحرب للقتال ، والباسل الشجاع الذي يلقي بنفسه للهلاك. قوله : (لَيْسَ لَها) إما استئناف أو حال من نفس أو صفة لها. قوله : (وَلِيٌ) اسم ليس ، و (لَها) خبر مقدم و (مِنْ دُونِ اللهِ) حال من ولي. قوله : (تفد كل فداء) أي تفتد بكل فداء

٤٥٧

فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها) ما تفدى به (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء بالغ نهاية الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠) بكفرهم (قُلْ أَنَدْعُوا) أنعبد (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا) بعبادته (وَلا يَضُرُّنا) بتركها وهو الأصنام (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) نرجع مشركين (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) إلى الإسلام (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) أضلته (الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) متحيرا لا يدري أين يذهب حال من الهاء (لَهُ أَصْحابٌ) رفقة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) أي ليهدوه إلى الطريق يقولون له (ائْتِنا) فلا يجيبهم فيهلك والاستفهام للإنكار وجملة التشبيه حال من ضمير نرد (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) وما عداه ضلال (وَأُمِرْنا

____________________________________

قوله : (ما تفدى به) أشار بذلك إلى أن الضمير في لا يؤخذ عائد على الفداء بمعنى المفدى به ، فهو مصدر أريد به اسم المفعول.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) اسم الإشارة مبتدأ خبره الاسم الموصول ، و (لَهُمْ شَرابٌ) مبتدأ وخبر والجملة إما خبر ثان أو حال من الضمير في أبسلوا ، أو مستأنف بيان للإبسال. قوله : (ماء بالغ نهاية الحرارة) أي يقطع الأمعاء كما قال في الآية الأخرى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). قوله : (بكفرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية ، والفعل في تأويل مصدر مجرور بالباء. قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا) قيل سبب نزولها أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه دعا والده إلى عبادة الأصنام ، فنزلت الآية أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد على عبد الرحمن ومن يقوله بقوله ، وفيه اعتناء بشأن الصديق وإظهار لفضله ، حيث وجه الأمر إلى رسول الله ، وفي الواقع الأمر لأبي بكر ، والمعنى لا يليق منا عبادة من لا ينفعنا إذا عبدناه ، ولا يضرنا إذا تركناه. قوله : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) معطوف على أندعوا ، فهو داخل في حيز الاستفهام. قوله : (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أي بعد وقت هداية الله لنا.

قوله : (كَالَّذِي) صفة لموصوف محذوف ، أي نرد ردا مثل الذي استهوته ، والاستهواء من الهوى وهو السقوط من علو إلى سفل ، سمى الاضلال بذلك ، لأن من سقط من علو إلى سفل ولم يجد محلا يستند عليه هلك ، فكذلك من ترك الدين القويم ولم يتبعه هلك ولا يجد ناصرا وقد صرح بالمراد من هذا التشبيه في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) والحاصل أن المشرك بالله مع وجود من يدله على التوحيد ، مثله مثل من اختطفته الشياطين وسارت به في المفاوز والمهالك ، مع سماعه مناداة من يأخذ بيده ويخلصه منهم وهو مفرط وراض لنفسه بذلك ، والمراد بالشياطين ما يشمل شياطين الإنس. قوله : (فِي الْأَرْضِ) متعلق باستهوته. قوله : (حال من الهاء) أي في استهوته.

قوله (لَهُ أَصْحابٌ) جملة في محل نصب صفة لحيران قوله : (والاستفهام الخ) أي وهو قوله أندعوا ، والمعنى لا ينبغي غير الله بعد هدايته لنا ، لأن من عبد غير الله بعد إيمانه بالله ، كان كمثل من أخذته الشياطين فصار حيران لا يدري أين يتوجه ، مع كون أصحابه يدعونه إلى الطريق المستقيم فلا يجيبهم. قوله : (هُوَ الْهُدى) أي التوفيق والاستقامة والجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر ، فهو بمعنى إن

٤٥٨

لِنُسْلِمَ) أي بأن نسلم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١) (وَأَنْ) أي بأن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) تعالى (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٢) تجمعون يوم القيامة للحساب (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي محقا (وَ) اذكر (يَوْمَ يَقُولُ) للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) هو يوم القيامة يقول للخلق قوموا فيقوموا (قَوْلُهُ الْحَقُ) الصدق الواقع لا محالة (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) القرن النفخة الثانية من إسرافيل لا ملك فيه لغيره لمن الملك اليوم لله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما شوهد (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في خلقه (الْخَبِيرُ) (٧٣) بباطن الأشياء كظاهرها (وَ) اذكر (إِذْ

____________________________________

الدين عند الله الإسلام.

قوله : (وَأُمِرْنا) أي أمرنا الله بأن نسلم بمعنى نوحد ونتقاد لرب العالمين. قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) قدر المفسر الباء إشارة إلى أنه معطوف على أن نسلم ، فهو داخل تحت الأمر أيضا ، وفيه التفات من التكلم للخطاب ، وعطف التقوى عليه من عطف العام ، وخص الصلاة بعد الإسلام لأنها أعظم أركانه. قوله : (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هذا دليل للأمر المتقدم وموجب لامتثاله ، والمعنى امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه ، لأنكم تجمعون إليه ويحاسبكم. قوله : (أي محقا) أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال ، أي حال كونه محقا أي موصفوفا بالحقية وهو وجوب الوجود الذي لا يقبل الزوال ، ويحتمل أن يكون المعنى محقا لا هازلا ولا عابثا ، بل خلقهما لحكم ومصالح لعباده ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

قوله : (يَوْمَ يَقُولُ) معمول محذوف قدره المفسر بقوله اذكر والواو للاستئناف. قوله : (يَقُولُ كُنْ) هذا كناية عن سرعة الإيجاد ، وهو تقريب للعقول ، وإلا فلا كاف ولا نون ، قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). قوله : (فَيَكُونُ) كل من كن ويكون تام يكتفي بالمرفوع ، و (هو) ضمير يعود على جميع ما يخلقه الله. قوله : (يقول للخلق) أي جميعهم من مبدأ الدنيا إلى منتهاها ، من العالم العلوي والسفلى. قوله : (الْحَقُ) يصح أن يكون مبتدأ وخبرا أو مبتدأ ، والحق نعته خبره قوله يوم يقول. قوله : (لا محالة) أي لا بد من وقوعه وهو بفتح الميم مصدر ميمي ، وأما بضم الميم فمعناه الباطل ، وليس مرادا هنا. قوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ) إما ظرف لقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) وخص بذلك وإن كان الملك لله مطلقا ، لأنه في ذلك الوقت لا يملك أحد شيئا مما كان يملكه في الدنيا ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أو خبر عن الملك والتقدير ينفخ في الصورة له أو بدل من يوم يقول.

قوله : (فِي الصُّورِ) هو نائب الفاعل. قوله : (القرن) أي المستطيل ، قال مجاهد : الصور قرن كهيئة البوق ، وفيه جميع الأرواح وفيه ثقب بعددها ، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبة ووصلت لجسدها فتحله الحياة ، فالإحياء يحصل بإيجاد الله عند النفخ لا بالنفخ ، فهو سبب عادي. قوله : (النفخة الثانية) أي وأما الأولى فعندها يموت كل ذي روح. قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ). قوله : (وما غاب وما شوهد) أي بالنسبة ، وإلا فالكل عند الله شهادة ولا يغيب عليه شيء ، بل ما في تخوم الأرضين والسماوات بالنسبة له كما على ظهرها سواء بسواء. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) كالدليل لما قبله.

٤٥٩

قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) هو لقبه واسمه تارخ (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) تعبدها استفهام توبيخ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) باتخاذها (فِي ضَلالٍ) عن الحق (مُبِينٍ) (٧٤) بين (وَكَذلِكَ) كما أريناه إضلال أبيه وقومه (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ) ملك (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليستدل به على وحدانيتنا (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) بها وجملة وكذلك وما بعدها اعتراض وعطف على قال (فَلَمَّا جَنَ)

____________________________________

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر ، والجملة معطوفة على جملة (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) ، والمعنى قل يا محمد لكفار مكة أندعوا من دون الله ما ينفعنا ولا يضرنا ، واحتج عليهم بما وقع لإبراهيم مع قومه حيث شنع على عبادة الأصنام. قوله : (واسمه تاريخ) يقرأ بالخاء المعجمة والحاء المهملة ، وقيل إن آزر اسمه تارخ لقبه ، وهو جمع بين قولين ، وتارخ بدل أو عطف بيان ، وآزر من الأزر وهو العيب ، لأنه قام به العيب حيث عبد الأصنام أو العوج ، ولا شك أنه قام به الأمران العيب والعوج. قوله : (أَصْناماً) المراد بها ما صور على هيئة الإنسان وعبد من دون الله ، كانت من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك ، وأصناما مفعول أول لتتخذ ، وآلهة مفعول ثان. قوله : (تعبدها) أي أنت وقومك الذين هم الكنعانيون. قوله : (استفهام توبيخ) أي على سبيل الإنكار. قوله : (إِنِّي أَراكَ) أي أعلمك ، فالكاف مفعول أول ، وفي ضلال مبين مفعول ثان ، ومقتضى هذه الآية وآية مريم ، أن آزر أبا إبراهيم كان كافرا ، وهو يشكل على ما قاله المحققون أن نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محفوظا من الشرك ، فلم يسجد أحد من آبائه من عبد الله إلى آدم لصنم قط ، وبذلك قال المفسر في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وقال البوصيري في الهمزية :

وبدا للوجوه منك كريم

من كريم آباؤه كرماء

وأجيب عن ذلك بأن حفظهم من الإشراك ما دام النور المحمدي في ظهرهم ، فإذا انتقل جاز أن يكفروا بعد ذلك ، كذا قال المفسرون هنا ، وهذا على تسليم أن آزر أبوه ، وأجاب بعضهم أيضا بمنع أن آزر أبوه بل كان عمه وكان كافرا وتارخ أبوه مات في الفترة ولم يثبت سجوده لصنم ، وإنما سماه أبا على عادة العرب من تسمية العم أبا ، وفي التوراة اسم أبي إبراهيم تارخ. قوله : (بين) أي ظاهر لا شك فيه. قوله : (كما أريناه إضلال أبيه قومه) أي بسبب تعليمه التوحيد وكونه مجبولا عليه ، لما ورد أنه حين نزل من بطن أمه قام على قدميه وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت ، الحمد لله الذي هدانا لهذا. قوله : (ملك) أشار بذلك إلى أن المراد بالملكوت الملك ، والتاء فيه للمبالغة كالرغبوت والرهبوت والرحموت ، من الرغبة والرهبة والرحمة ، وعلى هذا فالملكوت والملك واحد ، وللصوفية فرق بين الملك والملكوت ، فالملك ما ظهر لنا ، والملكوت ما خفي عنا كالسماوات وما فيها إذ علمت ذلك ، فالأولى إبقاؤه على ظاهره لما ورد أنه أقيم على صخرة وكشف له من السماوات حتى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب ، وحتى رأى مكانه في الجنة ، فذلك قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب ، وهذا يفيد أن الرؤية بصرية لا علمية. قوله : (ليستدل به على وحدانيتنا) أي ليعلم قومه كيفية الاستدلال على ذلك لا لتوحيد نفسه ، فإن توحيده بالمشاهدة لا بالدليل. قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) معطوف على محذوف قدره المفسر بقوله ليستدل الخ. قوله : (اعتراض) أي بين قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وبين الاستدلال عليهم.

٤٦٠