حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

لشدة هول يوم القيامة وفزعهم ثم يشهدون على أممهم لما يسكتون اذكر (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) بشكرها (إِذْ أَيَّدْتُكَ) قويتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل (تُكَلِّمُ النَّاسَ) حال من الكاف في أيدتك (فِي الْمَهْدِ) أي طفلا (وَكَهْلاً) يفيد نزوله قبل الساعة لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ

____________________________________

جانب علمك كل شيء ، لأنك تعلم ما غاب عنا وما ظهر ، وأما علمنا فهو قاصر على بعض ما ظهر ، قوله : (وذهب عنهم علمه الخ) جواب عما يقال كيف يقولون لا علم لنا مع أنهم عالمون بذلك ، فيلزم عليه الإخبار بخلاف الواقع. فأجاب : بأن في ذلك الوقت يتجلى الله بالجلال على كل أحد حتى ينسى الرسل العصمة والمغفرة ، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وأما قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي انتهاء ، وأما في ابتداء الموقف فلشدة الهول يكونون جثيا على الركب يقولون رب سلم سلم ثم يحصل لهم ذهول ونسيان لما أجيبوا به ، فإذا آمنوا وسكن روعهم شهدوا على أممهم فلا منافاة ، وأجيب أيضا : بأن معنى قولهم : (لا عِلْمَ لَنا) تفويض الحكم والعلم لله تعالى ، كأنهم يقولون : أنت الحكم العدل وهم عبيدك فلا علاقة لنا بهم ، وأجيب أيضا : بأن المراد نفي العلم الحقيقي ، إذ هو لا يكون إلا لله تعالى ، لأنه المطلع على السرائر والظواهر ، وأما نحن فإنما نعلم منهم ما ظهر ، وما ذكره المفسر من أن الأنبياء يحصل لهم الفزع ابتداء حتى يذهلوا عن جواب أممهم لهم ثم يسكنون أحد الطريقين ، والطريق الثانية وعليها المحققون أن الرسل ومن كان على قدمهم آمنون ابتداء وانتهاء ، وإنما الفزع والهول للكفار والفساق ، وأما قول الرسل حينئذ نفسي نفسي لا أملك غيرها ، فلا يقتضي حصول الفزع ، وإنما معنى ذلك أنه يقول ليست الشفاعة العظمى لي وإنما هي لغيري ، فلا أملك إلا نفسي ، ولم يجعل الله لي الشفاعة العامة ، وذهاب الأمم للرسل وردهم إياهم إنما هو إظهار لفضله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك هو المقام المحمود ، فالأحسن الجواب الثاني أو الثالث. قوله : (اذكر) قدره إشارة إلى أن إذ ظرف متعلق بمحذوف وليس متعلقا بما قبله ، لأن هذه قصة مستقلة.

قوله : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) يا حرف نداء ، وعيسى منادى مبني على ضم مقدر على الألف منع من ظهوره التعذر في محل نصب ، وابن نعت له باعتبار المحل. قوله : (اذْكُرْ نِعْمَتِي) المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا ، وليس المراد تكليفه بالشكر في ذلك اليوم لانقطاع التكليف بالموت. قوله : (قويتك) (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي فكان يسير معه حيث سار ، يعينه على الحوادث التي تقع ويلهمه العلوم والمعارف. قوله : (فِي الْمَهْدِ) تقدم أن المهد فراش الصبي ، ولكن المراد منه الطفولية ، فتكلم بقوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) إلى آخر ما في سورة مريم. قوله : (وَكَهْلاً) إنما ذكر ذلك إشارة إلى أن كلامه على نسق واحد في ذكاء العقل وغزارة العلم. قوله : (كما سبق في آل عمران) الذي سبق له فيها أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو سن الكهولة ، لأن من الثلاثين للأربعين هو سن الكهولة ، فقول الله تعالى : (وَكَهْلاً) صادق بكلامه قبل الرفع وبعده ، فلا يصح قوله هنا لأنه رفع قبل الكهولة ، ولكن الذي تقدم لنا أنه بعث على رأس الأربعين كغيره ، ومكث ثمانين بعد البعثة ، ورفع وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فإذا نزل عاش أربعين ، فيكون مدة عمره مائة وستين سنة ، فيكون معنى قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) صغيرا أو كبيرا ، فعلى هذا ليس في الآية دليل على نزوله ، وإنما نزوله مأخوذ من غير هذا المحل. قوله : (الْكِتابَ)

٤٢١

وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ) كصورة (الطَّيْرِ) والكاف اسم بمعنى مثل مفعول (بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) بإرادتي (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين هموا بقتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ) ما (هذا) الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١١٠) وفي قراءة ساحر أي عيسى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على لسانه (أَنْ) أي بأن (آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى (قالُوا آمَنَّا) بهما (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (١١١) اذكر (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ) أي يفعل (رَبُّكَ) وفي قراءة بالفوقانية ونصب ما بعده أي تقدر أن تسأله (أَنْ يُنَزِّلَ

____________________________________

أي الكتابة ، وقوله : (وَالْحِكْمَةَ) أي العلم النافع ، وقوله : (وَالتَّوْراةَ) أي كتاب موسى (وَالْإِنْجِيلَ) كتابه هو ، وهو ناسخ لبعض ما في التوراة ، وهو مكلف بالعمل بما في التوراة ، ما عدا ما نسخه الإنجيل منها ، فيكون العمل بما في الإنجيل. قوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) تقدم أنه الخفاش. قوله : (الْأَكْمَهَ) هو من خلق من غير بصر.

قوله : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) تقدم أنه أحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة قيل وجارية ، فيكون جميع من أحياهم خمسة. قوله : (حين هموا) أي اليهود بقتلك ، فرفعتك إلى السماء ، وألقيت شبهك على صاحبهم فقتلوه. قوله : (الذي جئت به) أي ويحتمل أن اسم الإشارة عائد على عيسى مبالغة على حد زيد عدل. قوله : (أمرتهم على لسانه) دفع بذلك ما يقال إن الإيحاء لا يكون إلا للرسل ، والحواريون ليسوا رسلا ، فأجاب بأن المراد بالوحي الأمر على لسان عيسى ، وأجاب غيره بأن المراد بالوحي الإلهام على حد وأوحينا إلى أم موسى. قوله : (أَنْ آمِنُوا) أن تفسيرية بمعنى أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه.

قوله : (إِذْ قالَ) ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر ، وهو كلام مستأنف لا ارتباط له بما قبله ، لأن المقصود مما تقدم تعداد النعم على عيسى ، والمقصود مما هنا إعلام هذه الأمة بما وقع لأمة عيسى من التعنّت في السؤال وما ترتّب عليه ، وإن كان فيها نعمة لعيسى أيضا ، لكنها غير مقصودة بالذكر. قوله : (الْحَوارِيُّونَ) هم أول من آمن بعيسى. قوله : (أي يفعل) أي فأطلق اللازم وهو الاستطاعة ، وأراد الملزوم وهو الفعل ، ودفع بذلك ما يقال إن الحواريين مؤمنون ، فكيف يشكون في قدرة الله تعالى. وشذ من قال بكفرهم كالزمخشري. قوله : (وفي قراءة) وهي سبعية أيضا. قوله : (ونصب ما بعده) أي على التعظيم. قوله : (أي تقدر أن تسأله) أي فالكلام على حذف مضاف في هذه القراءة الثانية ، والتقدير هل تستطيع سؤال ربك ، وإنما قالوا ذلك خوفا من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤية فلم تحصل ، وكسؤال قومه الرؤية أيضا فأخذتهم الصاعقة ، وهذه القراءة للكسائي وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بها وتقول جل الحواريون عن كونهم يشكون في قدرة الله تعالى.

قوله : (مائِدَةً) هي ما يبسط على الأرض من المناديل ونحوها ، وأما الخوان فهو ما يوضع على

٤٢٢

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ) لهم عيسى (اتَّقُوا اللهَ) في اقتراح الآيات (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١١٢) (قالُوا نُرِيدُ) سؤالها من أجل (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَ) تسكن (قُلُوبُنا) بزيادة اليقين (وَنَعْلَمَ) نزداد علما (أَنْ) مخففة أي أنك (قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوة (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١١٣) (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا) أي يوم نزولها (عِيداً) نعظمه ونشرفه (لِأَوَّلِنا) بدل من لنا بإعادة الجار (وَآخِرِنا) ممن يأتي بعدنا (وَآيَةً مِنْكَ) على قدرتك ونبوتي (وَارْزُقْنا) إياها (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١٤) (قالَ اللهُ) مستجيبا له (إِنِّي مُنَزِّلُها) بالتخفيف والتشديد (عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أي بعد نزولها (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥) فنزلت الملائكة بها من السماء عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات

____________________________________

الأرض وله قوائم ، وأما السفرة فهي ما كانت من جلد مستدير ، فالخوان فعل الملوك ، والمناديل فعل العجم ، والسفرة فعل العرب ، والمقصود هنا الطعام الذي يؤكل كل على خوان أو غيره ، والمائدة إما من الميد وهو التحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام ، وعليه فهي اسم فاعل على أصلها ، أو من مادة بمعنى أعطاه فهي فاعلة بمعنى مفعولة أي معطاة. قوله : (اتَّقُوا) أي تأدبوا في السؤال ، ولا تخترعوا أمورا خارجة عن العادة ، فإن الأدب في السؤال أن تسأل أمرا معتادا ، ومن هنا حرم العلماء الدعاء بما تحيله العادة. قوله : (في اقتراح الآيات) أي اختراعها. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جواب الشرط محذوف دل عليه قوله : (اتَّقُوا اللهَ). قوله : (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) قيل اقتياتا وقيل تبركا وهو المتبادر. قوله : (بزيادة اليقين) أي لأن الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين أقوى في الإيمان. قوله : (أي أنك) (قَدْ صَدَقْتَنا) قدر المفسر اسم أن غير ضمير شأن وهو شاذ ، فالمناسب أن يقول أي أنه أن أن إذا خففت كان اسمها ضمير شأن. قوله : (عَلَيْها) متعلق بالشاهدين والمعنى ونكون من الشاهدين عليها عند من لم يحضرها ليزداد من آمن بشهادتنا يقينا وطمأنينة. قوله : (قالَ عِيسَى) أي حين أبدوا هذه الأمور ، فقام واغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال اللهم ربنا الخ ، وهذه الآداب لا تخص عيسى ، بل ينبغي لكل داع فعلها ، لأن إظهار الذل والفاقة في الدعاء من أسباب الإجابة. قوله : (أي يوم نزولها) أي وقد نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا. قوله : (عِيداً) هو مشتق من العود وهو الرجوع لأنه يعود ، وجمعه أعياد ، وتصغيره عييد ، وكان قياسه أعوادا وعويدا ، وإنما فعلوا ذلك فرقا بينه وبين عود الخشب. قوله : (بدل من لنا) أي بدل كل من كل. قوله : (وَارْزُقْنا) أي انفعنا بها ، وهو مغاير لما قبله لأنه لا يلزم من الإنزال انتفاعهم بها. قوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تتميم لما قبله على وجه الاستدلال ، كأنه قال وارزقنا لأنك خير الرازقين ، واسم التفضيل على بابه من حيث إن أسباب الرزق كثيرة والله خير من يأتي بالرزق لأنه الخالق والموجد له ، وأما غيره فهو رازق باعتبار أنه سبب في الرزق وجار على يديه. قوله : (قالَ اللهُ) أي على لسان ملك أو إلهاما له. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بَعْدُ) مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله : (بعد نزولها) إشارة إلى تقدير المضاف إليه. قوله : (لا أُعَذِّبُهُ) الضمير عائد على العذاب ، والمعنى لا يكون ذلك العذاب لأحد من العالمين من حيث شدته وقبحه ، والجملة صفة لعذابا. قوله : (مِنَ الْعالَمِينَ) أي

٤٢٣

فأكلوا منها حتى شبعوا قاله ابن عباس وفي حديث أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير (وَ) اذكر (إِذْ قالَ) أي يقول (اللهُ) لعيسى في القيامة توبيخا لقومه (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ) عيسى وقد أرعد (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عما لا يليق بك من الشريك وغيره

____________________________________

عالمي زمانهم أو مطلقا ، والشدة في الدنيا والآخرة ، لما قيل إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون. قوله : (فنزلت الملائكة) روي أنها نزلت سفرة حمراء مدورة وعليها منديل بين غمامتين : غمامة من فوقها ، وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين كلوا مما سألتم ، فقالوا يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها ، فقال معاذ الله أن آكل منها يأكل منها ما سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال : كلوا من رزق الله ، لكم الهناء ولغيركم البلاء ، فأكلوا منها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة ، وفي رواية سبعة آلاف وثلثمائة ، فلما أتموا الأكل طارت المائدة وهم ينظرون حتى توارت عنهم ، ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلي إلا عوفي ، ولا فقيرا إلا استغنى ، وندم من لم يأكل منها ، فمكثت تنزل أربعين صباحا متوالية ، وقيل يوما بعد يوم. قوله : (عليها سبعة أرغفة الخ) هذه أشهر الروايات ، وفي رواية خمسة أرغفة ، على واحد زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد وسمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك ، تسيل دسما ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من أصناف البقول ما خلا الكراث ، فقال شمعون رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، وفي رواية نزلت سمكة من السماء فيها طعم كل شيء. قوله : (خبزا ولحما) جمع بأن اللحم لحم سمك. قوله : (فخانوا وادخروا الخ) أي فسبب مسخهم خيانتهم وادخارهم أي مع كفرهم ، وفي رواية إن سبب مسخهم أنه بعد تمام الأربعين يوما من نزولها ، أوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء ، فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء. قوله : (فمسخوا) أي فمسخ الله منهم ثلثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم ثم أصبحوا خنازير ، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكت وجعل يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل أربعة ثم هلكوا. قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ) معطوف على قوله : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) عطف قصة على قصة ، وفي الحقيقة هو من أفراد سؤال الرسل فهو داخل تحت قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) الخ ، وإنما خصه بالذكر تقبيحا وتشنيعا عليهم لبشاعة عقيدتهم في نبيهم. قوله : (في القيامة) مشى المفسر والجمهور على أن ذلك القول إنما يقع يوم القيامة ، وعليه فإذا بمعنى إذا ، وقال بمعنى يقول ، وإنما عبر بالماضي لاستواء الأزمان في علمه حالها وماضيها ومستقبلها ، لأنه أحاط بكل شيء علما ، فلذا أتى بالماضي الذي يدل على تحقق الحصول ، وقيل إن السؤال وقع في الدنيا بعد رفعه إلى السماء ، وعليه فإذ ، وقال على بابهما. قوله : (توبيخا لقومه) جواب عما يقال إن الله تعالى عالم بكل شيء ، فلم كان هذا السؤال؟ فأجاب بأن المقصود منه توبيخ من كفر ، وهذا يؤيد ما قاله الجمهور ، ويضعف الاحتمال الثاني. قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بمحذوف صفة

٤٢٤

(ما يَكُونُ) ما ينبغي (لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) خبر ليس ولي للتبيين (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما) أخفيه (فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي ما تخفيه من معلوماتك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١١٦) (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وهو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا أمنعهم مما يقولون (ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني بالرفع إلى السماء

____________________________________

لإلهين ، أي إلهين كائنين من غير الله ، فالله ثالثهما ، وليس المعنى أن عيسى وأمه إلهان فقط ، والله ليس بإله ، فإنهم لم يقولوا ذلك. قوله : (قد أرعد) أي أخذته الرعدة حتى خرج من كل شعرة عين دم كما في رواية. قوله : (من الشريك وغيره) أي كالصاحبة والولد. قوله : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ما نافية ، ويكون فعل مضارع ، ولي جار ومجرور خبرها مقدم ، وأن أقول في محل رفع اسمها مؤخر ، وما اسم موصول وليس فعل ماض ناقص ، واسمها مستتر هو عائد الموصول تقديره هو ، وبحق خبرها ، ولي للتبيين على حد سقيا لك ورعيا ، والمعنى لا ينبغي ولا يجوز علي لأنك عصمتني أن أقول ما ليس حقا منسوبا لي ، وهذا أحسن الأعاريب. قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) إن قلت : إن مدخول إن لا بد من كونه مستقبلا ، والقول والعلم متعلقهما ماض. أجيب : بأن الكلام على التقدير والمعنى أن يثبت أني قلته فقد تبين وظهر أن علمك متعلق به ، لأنه يستحيل وقوع شيء لم يتعلق علم الله به ، فحيث لم يتعلق علمه بما قال فلم يحصل ذلك منه ، لأنه لا يقع شيء في ملكه إلا وهو عالم به. قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ليست علم هنا عرفانية ، لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل فهي هنا على بابها ، ومفعولها الثاني محذوف تقديره منطويا وثابتا ، والنفس بمعنى الذات ، والمعنى تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه. قوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي لا أعلم حقيقة ذاتك وما احتوت عليه من الصفات ، لأن من جهل ما قام بالذات فقد جهل الذات ، فلا يعلم الله إلا الله ، واعلم أنهم اختلفوا في إطلاق النفس على الله تعالى ، فقيل لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة ، والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة ، إذ ورد إطلاقها في غير المشاكلة ، قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ). قوله : (أي ما تخفيه من معلوماتك) أي كذاتك وصفاتك ، فإن معلومات الله منها ما هو ظاهر لنا كالحوادث ، ومنها ما هو خفي عنا ، ولا يحيط بجميع ذلك إلا الله تعالى. قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) دليل للدليل ، لأن قوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) دعوى من عيسى ثم استدل عليها بقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ودليل هذا أنه علام الغيوب ، وأكد هذه الجملة بأن والضمير المنفصل وصيغة المبالغة والجمع مع أل الاستغراقية. قوله : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) هذا استثناء مفرغ ، وما اسم موصول في محل نصب هي وصلتها بالقول. قوله : (وهو) (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أشار بذلك إلى أن قوله أن اعبدوا الله في محل رفع خبر لمحذوف تقديره وهو أن اعبدوا. قوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) الجملة حالية. قوله : (أمنعهم مما يقولون) أي فلم تقع هذه المقالة منهم وهو بينهم وإنما ابتدعوها بعد رفعه. قوله : (ما دُمْتُ فِيهِمْ) ما مصدرية ظرفية تقدر بمصدر مضاف إلى زمان وصلتها دام ، ويجوز فيها التمام والنقصان ، فإن كانت تامة كان معناها الإقامة ، وفيهم متعلق بها وإن كانت ناقصة يكون قوله فيهم خبرها ، فعلى الأول يصير المعنى وكنت عليهم شهيدا مدة إقامتي فيهم ، وعلى الثاني وكنت عليهم شهيدا مدة دوامي مستقرا فيهم. قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) يستعمل التوفي في أخذ الشيء وافيا أي كاملا ، والموت

٤٢٥

(كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) الحفيظ لأعمالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من قولي لهم وقولهم بعدي وغير ذلك (شَهِيدٌ) (١١٧) مطلع عالم به (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي من أقام على الكفر منهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي لمن آمن منهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) (١١٨) في صنعه (قالَ اللهُ هذا) أي يوم القيامة (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) في الدنيا كعيسى (صِدْقُهُمْ) لأنه يوم الجزاء (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١٩) ولا ينفع الكاذبين في الدنيا صدقهم فيه كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها (وَما فِيهِنَ) أتى بما تغليبا لغير

____________________________________

نوع منه ، قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) وليس المراد الموت ، بل المراد الرفع كما قال المفسر. قوله : (قبضتني بالرفع إلى السماء) حاصل ما في المقام ، أن هذه العقيدة ، وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله ، ولم تقع منهم قبل رفعه ، وأما بعد نزوله فلم يبق نصراني أبدا ، بل إما الإسلام أو السيف ، فتعين أن يكون معنى توفيتني رفعتني إلى السماء ، ولو على القول بأن هذا السؤال واقع يوم القيامة ، بل ذلك مما يؤيده تأمل. قوله : (أي لمن آمن منهم) دفع بذلك ما يقال إن المغفرة لا تكون للمشركين ، فأجاب بأن المعنى وإن تغفر لمن آمن منهم ، ولذا قال عيسى فيما تقدم : بأنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. قوله : (يَوْمُ يَنْفَعُ) قرأ الجمهور برفعه من غير تنوين ، وقرأ نافع بنصبه من غير تنوين ، ونقل عن الأعمش النصب مع التنوين ، وعن الحسن الرفع مع التنوين ، فتوجيه القراءة الأولى : أن هذا مبتدأ ، ويوم خبره ، وجملة ينفع الصادقين صدقهم في محل جر بإضافة يوم إليها ، وكذا القراءة الثانية ، غير أن الظرف مبني لإضافته إلى الجملة الفعلية ، وهو مذهب الكوفيين ، ومذهب البصريين أنه منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف خبره تقديره يقع يوم ينفع ، وأما قراءة التنوين فالرفع على الخبرية والنصب على الظرفية كما قال البصريون ، والجملة في محل رفع على الأول أو نصب على الثاني صفة لما قبلها. قوله : (الصَّادِقِينَ) (في الدنيا) أي فالصدق في الدنيا نافع في الآخرة ، وأما الصدق في الآخرة فلا يفيد شيئا ، لتقدم الكذب في الدنيا كما سيأتي. قوله (بطاعته) أي بإقامته لهم في الطاعة ، أو بسبب تلبسهم بامتثال مأموراته واجتناب منهياته ، فالطاعة سبب لرضا الله ودليل عليه. قوله : (وَرَضُوا عَنْهُ) أي بأن شكروا على نعمائه وصبروا على بلوائه ، فرضا الله على عبد ، توفيقه لخدمته في الدنيا وإدخاله جنته في الآخرة ، ورضا العبد عن ربه في الدنيا صبره على أحكام ربه ، وفي الآخرة قناعته بما أعطاه له من النعيم الدائم. قوله : (بثوابه) أي برؤية ثوابه لهم في الجنة ، حيث أعطاهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. قوله : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اسم الإشارة يعود على الجنات وما بعدها. قوله : (لما يؤمنون الخ) أي كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ).

قوله : (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنبيه على فساد زعم الكفار أن لله شريكا ، فالمعنى أن الله مالك للسماوات والأرض وما فيهن فأين الشريك له ، ولا يليق أن يكون شيء من ملكه شريكا له. قوله :

٤٢٦

العاقل (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠) ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر.

____________________________________

(تغليبا لغير العاقل) أي وإشارة إلى أن ما سواه في رتبة العبودية سواء (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) فلا فرق بين عاقل وغيره في كونه مملوكا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. قوله : (وخص العقل ذاته الخ) دفع بذلك ما يقال إن من جملة الأشياء ذاته فيقتضي أنه قادر على ذاته. فأجاب بذلك لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات لا بالواجبات ولا بالمستحيلات ، فالمراد بالشيء الموجود الممكن.

٤٢٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنعام

مكيّة

إلا (وَما قَدَرُوا اللهَ) الآيات الثلاث وإلا (قُلْ تَعالَوْا) الآيات الثلاث

وهي مائة وخمس أو ست وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ) وهو الوصف بالجميل ثابت (لِلَّهِ) وهل المراد

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام مكية

إلا (وَما قَدَرُوا اللهَ) الآيات الثلاث وإلا (قُلْ تَعالَوْا) الآيات الثلاث

وهي مائة وخمس أو ست وستون آية

سميت بذلك لذكر الأنعام فيها ، من باب تسمية الكل باسم الجزء ، وهذه السورة نزلت جملة واحدة ما عدا الست آيات ، ونزل معها سبعون ألف ملك ، ولهم زجل بالتسبيح ، ونزلت ليلا فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابتها حينئذ ، وحين نزولها صار صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسبح ويسجد حينئذ وكل ذلك تعظيما لشأنها ، لأن ما اشتملت عليه من التوحيد ، وعدة جملة من الرسل تبين الحلال من الحرام في الأنعام لم يوجد في غيرها وورد أنها فاتحة التوراة ، وخاتمتها قيل آخر هود ، وقيل آخر الإسراء ، وفيها آية نزلت ومعها أربعون ألف ملك وهي (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) الآية. وعن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ، وكل الله له أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة ، وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله : امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ، وكل من ثمار جنتي ، واشرب من الكوثر ، واغتسل من السلسبيل ، فأنت عبدي وأنا ربك. قوله : (الآيات الثلاث) أي إلى قوله (تَسْتَكْبِرُونَ). قوله : (وإلا) (قُلْ تَعالَوْا) أي إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هكذا مشى المفسر.

(الْحَمْدُ). قوله : (وهو) أي الحمد بالمعنى اللغوي ، وأما بالمعنى الاصطلاحي ، فهو فعل ينبىء

٤٢٨

الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما احتمالات أفيدها الثالث قاله الشيخ في سورة الكهف (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين (وَجَعَلَ) خلق (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها وهذا من دلائل وحدانيته (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) مع قيام هذا الدليل (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) يسوون غيره في العبادة (هُوَ الَّذِي

____________________________________

عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره. قوله : (الوصف بالجميل) زاد بعضهم على جهة التعظيم والتبجيل لإخراج التهكم كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). قوله : (ثابت) قدره إشارة إلى أن (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الذي هو الحمد. قوله : (وهل المراد به الإعلام بذلك) أي فتكون الجملة خبرية لفظا ومعنى ، وقوله (أو الثناء به) أي فهي خبرية لفظا إنشائية معنى. قوله : (أو هما) أي فهي مستعملة في حقيقتها ومجازها ، فالقصد إعلام العبيد للإيمان به ، وإنشاء الثناء به ، وهذا هو حمد القديم للقديم ، وأل في الحمد يصح أن تكون للاستغراق أو الجنس أو العهد ، واللام في لله للاستحقاق. قوله : (قاله الشيخ) أي الجلال المحلي.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ) صفة لله ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلية ، كأنه قيل الوصف بالجميل ثابت له لأنه الخالق للسماوات والأرض ، والمراد بالسماوات ما علا ، فيشمل العرش ، والمراد بالأرض ما سفل ، فيشمل ما تحتها ، وقدم السماوات لأنها أشرف من الأرض ، لكونها مسكن المطهرين لا غير ، والأرض وإن كان فيها الأنبياء لكنها احتوت على الأشرار والمفسدين ، ولأنها سابقة على الأرض كما في سورة النازعات ، قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) إلى أن قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولا منافاة بين آية فصلت ، وبين آية النازعات ، فإن الأرض خلقت أولا كرة ، ثم خلقت السماوات من دخان كما دلت عليه آية فصلت ، ثم بنى السماء ورفعها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، والأرض بعد ذلك دحاها ، وإنما جمع السماوات لاختلاف أجناسها ، فإن الأولى من موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب والسابعة من ياقوتة حمراء. وأما الأرض وإن كانت سبعا أيضا إلا أنها من جنس واحد. واختلف هل الأرض مداد وهو الصحيح ، فالتعداد باعتبار أقطارها ، وقيل طباق كالسماء ، وأما السماء فهي طباق باتفاق. قوله : (خلق) أشار بذلك إلى أن (جَعَلَ) بمعنى خلق ، فتنصب مفعولا واحدا. قوله : (أي كل ظلمة) أي حسية كظلمة الليل والأجرام الكثيفة أو معنوية كالشرك والمعاصي. قوله : (ونور) أي حسي كالشمس والقمر والنجوم ومعنوي كالإسلام. قوله : (لكثرة أسبابها) أي الظلمة وأما النور فسببه واحد لا يتعدد ، لأنه إما معنوي وسببه الإسلام ، أو حسي وسببه النار.

قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم للترتيب الرتبي أي فبعد أن عرفوا الحق سووا به غيره فهو استبعاد لما وقع منهم. قوله : (بِرَبِّهِمْ) يحتمل أنه متعلق بكفروا ، وقوله (يَعْدِلُونَ) مفعوله محذوف قدره المفسر بقوله غيره ومعناه التسوية كما قاله المفسر ، ويحتمل أن بربهم متعلق بيعدلون والياء بمعنى عن ، والتقدير يميلون عن ربهم لغيره ، من العدول وهو الميل عن طريق الهدى.

٤٢٩

خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) بخلق أبيكم آدم منه (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) لكم تموتون عند انتهائه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مضروب (عِنْدَهُ) لبعثكم (ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها الكفار (تَمْتَرُونَ) (٢) تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الإبتداء فهو على الإعادة أقدر (وَهُوَ اللهُ) مستحق للعبادة

____________________________________

قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) هذا من جملة الأدلة على كونه مستحقا للحمد ، كأنه قيل الوصف بالجميل لله لا لغيره ، لأنه خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ، ولأنه خلقكم الخ. قوله : (مِنْ طِينٍ) من لابتداء الغاية ، أي مبتدئا نشأتكم من الطين. قوله : (بخلق أبيكم آدم منه) دفع بذلك ما يقال إنهم مخلوقون من النطفة لا من الطين ، فأجاب بأن الكلام على حذف مضاف ، وذلك الطين الذي خلق منه آدم فيه من كل لون ، وعجن بكل ماء ، فخلق الله أولاده مختلفة الألوان والأخلاق ، فاختلاف الألوان من اختلاف ألوان طينة أبيهم ، واختلاف الأخلاق من اختلاف المياه التي عجنت بها تلك الطينة ، فما من أحد إلا وله جزء سرى له من أبيه ، فالطبائع والأخلاق أصلها من آدم ، فنسبة الطين لأولاده باعتبار نشأتها منه وسريانها فيهم ، وقيل لا حذف في الآية بل كل إنسان مخلوق من الطين ، لأنه ورد ما من مولود إلا ويذر على نطفته شيء من تراب تربته ، فالنطفة عجنت بذلك التراب ، فصدق على كل إنسان أنه مخلوق من الطين ، وقيل إنه من الطين باعتبار أن النطفة ناشئة عن الغذاء ، وهو ناشىء عن الطين.

قوله : (ثُمَّ قَضى) يصح أن يكون بمعنى أظهر ، فثم للترتيب الزماني ، أي فبعد تمام خلقه يظهر أجله للملك الموكل بالرحم ، أو بمعنى قدر فثم للترتيب الذكري ، لأن للتقدير هو الإرادة المتعلقة بالأجل أزلا فهي متقدمة على وجوده فالترتيب في الذكر فقط ، واعلم أن كل إنسان له أجلان ، أجل ينقضي بموته ، وأجل ينقضي ببعثه ، فابتداء أجل الموت من حين وجوده ، وابتداء أجل البعث من حين موته ، ومجموع الأجلين محتم لا يزيد ولا ينقص ، وما ورد من زيادة العمر للبار الواصل للرحم ، ونقصه للعاصي القاطع للرحم ، قيل محمول على البركة وعدمها ، وقيل بتداخل أحدهما في الآخرة ، فالطائع يزداد له في أجل الدنيا وينقص من أجل البرزخ ، وبالعكس للعاصي ، وبه فسر قوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) ويؤيد ذلك ما حكي أن داود عليه‌السلام كان له صديق قد دنا أجله ، فأخبره جبريل بأنه لم يبق من أجله إلا خمسون يوما ، فأخبر داود صديقه بذلك ، فتأهب حتى إذا جاء اليوم المتمم للخمسين ، أخذ غذاءه وذهب لداود ليودعه ، فمر بفقير فأعطاه غذاءه ، فنزل جبريل على داود وأخبره بأن الله زاد في عمره خمسين سنة بسبب صدقته في ذلك اليوم ، فلما ذهب إليه وجده مسرورا فأخبره بذلك.

قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل مبتدأ ومسمى صفته وعنده خبره ، وأضيف له سبحانه لأنه لا يعلم انتهاءه أحد غيره ، وأما أجل الدنيا فهو في علم الملك ، وبانقضائه يظهر للمخلوقات أيضا. قوله : (لبعثكم) أي ينتهي إليه ، وراء ذلك لا نهاية له. قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي ثم بعد ظهور تلك الآيات العظيمة ، تشكون في البعث وتنكرونه ، وأفاد المفسر أن هذه الآية رد لما أنكروه من البعث ، وما قبلها رد للشرك الواقع من الكفار. قوله : (فهو على الإعادة أقدر) هذا بحسب العادة الجارية بأن القادر على الإبتداء قادر على الإعادة بالأولى ، وإلا فالكل في قبضة قدرته سواء لا مزية للإعادة على الابتداء ، لأنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.

٤٣٠

(فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ما تسرون وما تجهرون به بينكم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) تعملون من خير وشر (وَما تَأْتِيهِمْ) أي أهل مكة (مِنْ) زائدة (آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من القرآن (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤) (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) عواقب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥) (أَلَمْ يَرَوْا) في أسفارهم إلى الشام وغيرها (كَمْ) خبرية بمعنى كثيرا (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أمة من الأمم الماضية (مَكَّنَّاهُمْ)

____________________________________

قوله : (وَهُوَ اللهُ) مبتدأ وخبر ، والضمير عائد على المتصف بالأوصاف المتقدمة ، و (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بوصف تضمنه ذلك العلم ، لأن الله موضوع للذات الواجبة الوجود المستحقة لجميع المحامد ، فيكون المعنى والله المستحق للعبادة في السموات الخ ، وهذا ما درج عليه المفسر ، وبذلك يجاب عن آية (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وقيل متعلق بنعت محذوف تقديره وهو الله المعبود في السماوات الخ ، على حد قول ابن مالك : ومن المنعوت والنعت عقل.

يجوز حذفه. وقيل متعلق بيعلم والتقدير : يعلم سركم في السماوات والأرض وقيل متعلق بسركم وجهركم ، ولكن يلزم عليه تقديم معمول المصدر عليه ، إلا أن يقال يغتفر في الظروف والمجرورات ما لا يغتفر في غيرها. قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) إن قلت إن الكسب لا يخرج عن السر والجهر والعطف يقتضي المغايرة أجيب : بأن المراد بالكسب ما يترتب عليه من الثواب والعقاب ، والمعنى يعلم أفعالكم وأقوالكم السرية والجهرية ، ويعلم جزاءها من ثواب وعقاب.

قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) كلام مستأنف بيان لزيادة قبحهم وكفرهم بعد ظهور الآيات البينات. قوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من تبعيضية والآيات يحتمل أن يكون المراد بها القرآن ، فإتيانها نزولها على رسول الله وعليه اقتصر المفسر أو الكونية كالمعجزات فالمراد بإتيانها ظهورها ، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الجملة حالية من الضمير في تأتيهم ، وقوله معرضين ضمنه معنى غافلين فعداه بعن ، وإلا فالإعراض بمعنى الترك لا يتعدى بعن. قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا) تفريع على ما قبله وتفصيل لبعضه. قوله (بالقرآن) أي وغيره من بقية المعجزات.

قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) ظرف لقوله كذبوا. قوله : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) وعيد عظيم مرتب على تكذيبهم وهو لا يتخلف ، لأن وعيد الكفار وعد حسن للمؤمنين فهو وعد باعتبار ، ووعيد باعتبار آخر فعدم تخلفه باعتبار كونه وعدا ، قال تعالى (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). قوله : (أَنْباءُ) جمع نبأ وهو الخبر العظيم المزعج ، وجمعه إشارة إلى تكرر الجزاء لهم في الدنيا ويوم القيامة. قوله : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ما اسم موصول وكانوا صلته ، والمعنى فسوف يأتيهم جزاء الذي كانوا يستهزؤون به في العاجل بالقتل والأسر ، والآجل بالعذاب الدائم في النار.

قوله : (أَلَمْ يَرَوْا) هذا إخبار من الله ببذل النصح لهم ، ومع ذلك فلم يهتدوا ، والهمزة داخلة على محذوف تقديره أعموا ورأى إما بصرية ، وعليه درج المفسر حيث قال في أسفارهم إلى الشام وغيرها ، وعليه فقوله (كَمْ أَهْلَكْنا) سدت مسد مفعولها أو علمية فتكون الجملة سدت مسد مفعوليها ، والأحسن

٤٣١

أعطيناهم مكانا (فِي الْأَرْضِ) بالقوة والسعة (ما لَمْ نُمَكِّنْ) نعط (لَكُمْ) فيه التفات عن الغيبة (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) متتابعا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تحت مساكنهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) بتكذيبهم الأنبياء (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦) (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) رق كما اقترحوه (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) ما (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) تعنتا وعنادا (وَقالُوا لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَلَكٌ) يصدقه (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما اقترحوا فلم يؤمنوا

____________________________________

الأول. قوله : (وغيرها) أي كاليمن ، فإنه كان لهم رحلتان : رحلة في الصيف للشام ، ورحلة في الشتاء لليمن ، كما يأتي في سورة قريش. قوله : (خبرية) أي وهي مفعول مقدم لأهلكنا. قوله : (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل وجودهم أو قبل زمانهم ، فالكلام على حذف مضاف. قوله : (مِنْ قَرْنٍ) بيان لكم ، والقرن يطلق على الأمة وعليه درج المفسر ، ويطلق على الزمان ، واختلف في حده ، فقيل مائة سنة وهو الأشهر ، وقيل مائة وعشرون ، وقيل ثمانون ، وقيل ستون ، وقيل أربعون ، وقيل غير ذلك.

قوله : (مَكَّنَّاهُمْ) وصف للقرن ، وجمعه باعتبار معناه ، لأن القرن اسم جمع كرهط ، وقوم لفظه مفرد ، ومعناه جمع. قوله : (بالقوة والسعة) أي في الدنيا حتى صاروا ذوي شهامة وغنى عظيم ، ومع ذلك فلم تغن عنهم أموالهم ولا أنفسهم من الله شيئا. قوله : (فيه التفات عن الغيبة) أي ونكتته الاعتناء بشأن المخاطبين حيث خاطبهم مشافهة. قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) وصف ثان للقرن. قوله : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) وصف ثالث له ، والمعنى أن من مضى من قبلكم من الأمم أعطيناهم القوة الشديدة في الجسم والسعة في الأموال والأولاد ومع ذلك فلم ينفعهم من ذلك شيء ، فلا تأمنوا سطوتي بالأولى منهم. وقال الشاعر :

لا يأمن الدهر ذو بغى ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السهل والجبل

قوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً) كلام مستأنف دفع به ما يقال حيث هلك من هلك فقد خرب الكون ، فأجاب بأنه كلما أهلك جماعة أتى بغيرهم ، فإنه قادر على ذلك والقادر لا يعجزه شيء. قوله : (قَرْناً) هنا بالأفراد ، وفي بعض الآيات بالجمع ، والمعنى واحد ، فإن المراد به الجنس وجمع آخرين باعتبار معنى القرن. قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا) شروع في بيان زيادة كفرهم وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم إيمانهم به ، وهو رد لقول النضر بن الحرث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد (لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه) ومعه أربعة من الملائكة يشهدون بأنك صادق. قوله : (مكتوبا) إشارة إلى أنه أطلق المصدر ، وأراد اسم المفعول. قوله : (قِرْطاسٍ) القراءة بكسر القاف لا غير ، ويجوز في غير القرآن فتح القاف وضمها ؛ ويقال قرطس كجعفر ودرهم ، ما يكتب فيه مطلقا رقا أو غيره ، فتفسيره له بالرق بفتح الراء على الأفصح تفسير بالأخص. قوله : (كما اقترحوه) أي اخترعوه من الآيات. قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) إن نافية بمعنى ما ، وهذا مبتدأ ، وسحر خبره ، ومبين صفته ، والجملة مقول القول.

قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هذا من جملة عنادهم وكفرهم. قوله : (فلم يؤمنوا) مرتب على قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا) فهو من تتمة الشرط ، والمعنى أن الله لو أجابهم بإنزال ملك ولم يؤمنوا لأهلكهم

٤٣٢

(لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بهلاكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) يمهلون لتوبة أو معذرة كعادة الله فيمن قبلهم من إهلاكهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي المنزل إليهم (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ) أي الملك (رَجُلاً) أي على صورته ليتمكنوا من رؤيته إذ لا قوة للبشر على رؤية الملك (وَ) لو أنزلناه وجعلناه رجلا (لَلَبَسْنا) شبهنا (عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) على أنفسهم بأن يقولوا ما هذا إلا بشر مثلكم (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَحاقَ) نزل (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك (قُلْ) لهم (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١) الرسل من هلاكهم بالعذاب ليعتبروا (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) إن لم يقولوه لا جواب غيره (كَتَبَ) قضى (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)

____________________________________

كمن قبلهم مع أنه قال (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فعدم إجابتهم رحمة بهم. قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) رد لقوله هلا كان رسولنا من الملائكة لا من البشر. قوله : (أي على صورته) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف أي صورة رجل ، فالشبه في الصورة فقط. قوله : (إذ لا قوة للشر على رؤية الملك) أي ولذلك كان يأتي الأنبياء على صورة رجل ، ولم ير الملك على صورته الأصلية أحد من البشر إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين : مر في الأرض عند غار حراء ، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء. قوله : (وَلَلَبَسْنا) جعله المفسر جواب شرط محذوف والواو داخلة على فعل الشرط المحذوف قدره بقوله : (ولو جعلناه رجلا) والمناسب للمفسر الاقتصاد على ذلك ، ويحذف قوله (وَ) (لو أنزلناه) ولبس بفتح الباء يلبس بكسرها ، خلط يخلط والتبس اختلط واشتبه ، وأما لبس بكسر الباء يلبس بفتحها سلك الثوب في العنق.

قوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فلا تحزن واصبر على أذاهم ، فإن الله كافيك شرهم. قوله : (فكذا يحيق بمن استهزأ بك) أي لكن لا على الوجه الذي حاق بهم من عموم العذاب ، بل بأخذ المتمرد بخصوصه ، وقد فعل الله له ذلك. قال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ). قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا استشهاد على ما تقدم ، كأنه قيل إن لم تصدقوا خبر ربكم بأنه حاق بالذين سخروا وكذبوا أنبياءهم العذاب فسيروا وعاينوا آثارهم. قوله : (ثُمَّ انْظُرُوا) أتى بثم لأنه لا يحسن التفكر والاستدلال ، ولا بثم إلا بعد تمام السير ومعاينة الآثار. قوله : (كَيْفَ) اسم استفهام خبر كان وعاقبة اسمها ، وإنما قدم الخبر عليها وعلى اسمها ، لأن اسم الاستفهام له الصدارة. قوله : (ليعتبروا) أي يتعظوا فبالسير والتفكر يحصل الاستدلال والنور التام ، ومن هنا أخذت الصوفية السياحة ، لأن من جملة ما يعين على الوصول إلى الله والترقي إلى المعارف النظر والتفكر في مصنوعاته ، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجار والمجرور خبر مقدم ، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وفي السماوات والأرض صلة الموصول والأصل قل ما في السماوات والأرض لمن ، وإنما قدم الخبر لأن اسم الاستفهام له الصدارة ، وهذه حجة قاطعة لا يمكن ردها أبدا. قوله : (قُلْ لِلَّهِ) أي تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالإتفاق لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ

٤٣٣

فضلا منه وفيه تلطف في دعائهم إلى الإيمان (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ليجازيكم بأعمالكم (لا رَيْبَ) شك (فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتعريضها للعذاب مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢) (وَلَهُ) تعالى (ما سَكَنَ) حل (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي كل شيء فهو ربه وخالقه ومالكه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقال (الْعَلِيمُ) (١٣) بما يفعل (قُلْ) لهم (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أعبده (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما (وَهُوَ يُطْعِمُ) يرزق (وَلا يُطْعَمُ) يرزق ، لا (قُلْ إِنِّي

____________________________________

اللهُ). قوله : (لا جواب غيره) في معنى التفريع أو التعليل ، فالمناسب أن يقول فلا ، أو لأنه لا جواب غيره.

قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي ألزم الرحمة لأنه وعد بها ، ووعده لا يتخلف ، فهي واجبة شرعا لا عقلا والرحمة هي النعمة ، وهي عامة لكل مخلوق في الدنيا ، قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فمن رحمته إمهال العصاة والكفار ، وترادف الرزق عليهم ، وأما بعد استقرار الخلق في الدارين فتختص الرحمة بأهل الجنة ، ويختص غضب الله بأهل النار. قوله : (فضلا منه) رد بذلك على المعتزلة القائلين بأن الرحمة واجبة عقلا على الله يستحيل تخلفها ، إذ هو نقص ، والنقص عليه محال. قوله : (وفيه تلطف في دعائهم إلى الإيمان) أي في ذكر الرحمة بهذا العنوان ، فلا تقنطوا بل إذا تبتم قبلكم.

قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللام موطئة لقسم محذوف ، وهو كلام مستأنف مؤكد بالقسم والنون إشارة إلى أن ذلك الأمر لا بد منه. قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يحتمل أن إلى على بابها متعلقة بمحذوف تقديره ليجمعنكم في القبور ويحشرنكم إلى يوم القيامة ، ويحتمل أنها بمعنى اللام أو في أو زائدة. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في الجمع يوم القيامة ، أو في يوم القيامة الذي يحصل فيه الجمع. قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الذين مبتدأ ، وخسروا صلته ، وأنفسهم مفعول لخسروا ، وقوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر المبتدأ. إن قلت : إن ظاهر الآية أن عدم الإيمان مسبب عن الخسران ، مع أن الخسران مسبب عن عدم الإيمان. أجيب : بأن المعنى الذين خسروا أنفسهم في علم الله أي قضى عليهم بالخسران أزلا ، فهم لا يؤمنون فيما لا يزال ، فالآية باعتبار ما في علم الله ، وأما تسبب الخسران عن عدم الإيمان فبحسب ما يظهر للعباد. قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ) هذا أيضا من جملة أدلة التوحيد ، زيادة في التشنيع على من كفر. قوله : (حل) أشار بذلك إلى أنه لا حذف في الآية ، وعليه جمهور المفسرين ، فمعنى حل وجد فيشمل الساكن والمتحرك ، وقيل إن سكن من السكون ضد الحركة ، وعليه ففي الآية حذف تقديره وما تحرك.

قوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ) رد لقولهم له كيف تترك دين آبائك ، وغير مفعول أول لاتخذوا قدمه اعتناء بنفي الغيرية ، ووليا مفعول ثان. قوله : (أعبده) تفسير لأتخذ ، فالمراد بالولي هنا المعبود ، ويطلق باشتراك على معان منها المعبود ولا يكون إلا الله ، وهو قوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) ، (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ويطلق على القريب والصاحب وعلى المنهمك في طاعة الله.

قوله : (فاطِرِ) بدل من لفظ الجلالة أو نعت. إن قلت إن فاطر اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده التعريف ، ولفظ الجلالة أعرف المعارف ، وشرط النعت موافقته لمنعوته في التعريف. أجيب بأن محل كون

٤٣٤

أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله من هذه الأمة (وَ) قيل لي (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤) به (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بعبادة غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) هو يوم القيامة (مَنْ يُصْرَفْ) بالبناء للمفعول أي العذاب وللفاعل أي الله والعائد محذوف (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) تعالى أي أراد له الخير (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦) النجاة الظاهرة (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) بلاء كمرض وفقر (فَلا كاشِفَ) رافع (لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) كصحة وغنى (فَهُوَ عَلى كُلِ

____________________________________

إضافته لفظية إن كان معناه التجدد والحدوث ، وأما هنا فهو من قبيل الصفة المشبهة ، فيكون وصفا ثابتا له ، وهذه الجملة كالدليل لما قبلها. قوله : (مبدعهما) أي موجدهما على غير مثال سبق ، ففاطر من الفطرة وهي الخلقة ، وفطر خلق وأنشأ ، قال ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر ، حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنشأتها وابتدأتها. قوله : (أي يرزق) تفسير بالأعم ، لأن المعنى يرزق مطعوما أو غيره ، فليس المراد من الآية قصره على المطعوم.

قوله : (وَلا يُطْعَمُ) أي لأن المرزوق محتاج لمن يرزقه ، وتنزه الله عن الاحتياج. قوله : (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) يحتمل أن من نكرة موصوفة ، فجملة أسلم صفة. والمعنى أن أكون أول فريق أسلم ، أو اسم موصول وما بعدها صلة ، والتقدير أول الفريق الذي أسلم. وقوله : (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) الخ أي أمرني ربي أن أكون أول المسلمين ، لأنه يجب عليه الإيمان بأنه رسول ، وبما جاء به من الشرع والأحكام ، فهو أول المسلمين على الاطلاق. قوله : (وَ) (قيل لي الخ) أشار بذلك إلى أن قوله (وَلا تَكُونَنَ) معمول لقول محذوف ، والجملة معطوفة على جملة أمرت ، والمعنى أمرني ربي بأن أكون أول من أسلم ، ونهاني بقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهذه الجملة لازمة لما قبلها. قوله : (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) معمول لأخاف ، وجملة (إِنْ عَصَيْتُ) شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله : (أَخافُ) وهي معترضة بين الفعل وهو أخاف ، ومعموله وهو عذاب.

قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) من اسم شرط ، ويصرف فعل الشرط ، ونائب الفاعل مستتر يعود على العذاب على القراءة الأولى ، والفاعل الله على القراءة الثانية ، وعنه جار ومجرور متعلق بيصرف. وقوله : (فَقَدْ رَحِمَهُ) جواب الشرط ، وهو معنى قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). قوله : (وللفاعل) أي والمفعول محذوف تقديره العذاب ، والمعنى من يصرف الله العذاب عنه يوم القيامة فقد رحمه ، في ذلك تعريض بأن الكفار لا يرحمون لأنه لا يصرف عنهم العذاب قوله : (والعائد محذوف) الأوضح أن يقول والمفعول محذوف ، وهو ضمير يعود على العذاب ، لأن الضمير العائد على من مذكور بقوله عنه ، وأيضا لا يحتاج للعائد إلا الموصول ، ومن ها شرطية لا موصولة. قوله : (وَذلِكَ) أي النجاة يوم القيامة.

قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) هذا تأييد من الله لرسوله ، فالمعنى لا تخش لومهم بل بلغ ما انزل اليك من ربك ، فإن الله متولي أمرك ، بيده الضر والنفع والمنع والإعطاء ، فهم عاجزون ولا يقدرون على إيصال ضر ولا جلب نفع. قوله : (كمرض وفقر) أي وغلبة واحتياج. قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ) جواب الشرط ، وفعله قوله يمسسك ، ولا نافية للجنس ، وكاشف اسمها مبني معها على الفتح في محل نصب ،

٤٣٥

شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) ومنه مسك به ولا يقدر على رده عنك غيره (وَهُوَ الْقاهِرُ) القادر الذي لا يعجزه شيء مستعليا (فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ) في خلقه (الْخَبِيرُ) (١٨) ببواطنهم كظواهرهم. ونزل لما قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيتنا بما يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروك (قُلْ) لهم (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) تمييز محول عن المبتدأ (قُلِ اللهُ) إن لم يقولوه لا جواب غيره هو (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على صدقي (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ) أخوفكم يا أهل مكة (بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير أنذركم أي بلغه القرآن من الإنس والجن (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى)

____________________________________

وخبرها محذوف تقديره أحد. قوله : (إِلَّا هُوَ) إلا أداة حصر وهو بدل من الضمير المستتر. قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) جواب الشرط محذوف تقديره فلا راد لفضله ، كما في آية يونس وإن يردك بخير فلا راد لفضله.

قوله : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دليل لكل من الجملتين. قوله : (ومنه مسك به) أي من النبوة وغيرها. قوله : (مستعليا) أشار بذلك إلى أن قوله (فَوْقَ عِبادِهِ) ظرف متعلق بمحذوف حال من القاهر. قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) أي فوقية مكانة لا مكان ، والمعنى أن صفاته فوق صفات غيره ، لأن أوصافه كمالية ، وأوصاف غيره ناقصة ، فوصفه العز والعلم والاقتدار ، ووصف غيره الذل والجهل والعجز ، فكل وصف شريف كامل فهو لله ، وكل وصف خسيس ناقص فهو لغيره. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ) (في خلقه) أي يضع الشيء في محله. قوله : (الْخَبِيرُ) أي فيعامل كل شخص بما يليق به. قوله : (ونزل لما قالوا) أي أهل مكة ، فقالوا يا محمد ارنا من يشهد لك بالرسالة ، فإننا سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر. قوله : (إيتنا) بقلب الهمزة الثانية ياء ، قال ابن مالك :

ومدا ابدل ثاني الهمزين من

كلمة إن يسكن كآثر وائتمن

قوله : (تمييز محول عن المبتدأ) أي والأصل شهادة أي شيء ما أكبر ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وجعل مبتدأ وجعل المضاف تمييزا. قوله : (قُلِ اللهُ) مبتدأ خبره محذوف أي أكبر شهادة. وقوله : (شَهِيدٌ) خبر لمحذوف قدره المفسر فالكلام جملتان ، ويحتمل أن الله مبتدأ خبره شهيد ، فالكلام جملة واحدة. قوله : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) المراد بشهادة الله إظهار المعجزات على يده ، فإن المعجزات منزلة منزلة قول الله صدق عبدي في كل ما يبلغ عني.

قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) هذا دليل لشهادة الله ، والمعنى أن الله شهيد ، لأن القرآن ناطق بالحجج القاطعة ، وهو من عنده فلا يرد كيف اكتفى منه عليه الصلاة والسّلام بقوله الله شهيد ، مع أن ذلك لا يكفي من غيره والاقتصار على الانذار لأن الكلام مع الكفار ، وبنى اوحي للمجهول للعلم بفاعله. قوله : (عطف على ضمير أنذركم) أي (وَمَنْ) موصولة ، و (بَلَغَ) صلتها ، والتقدير وأنذر الذي بلغه القرآن. (من الانس والجن) أي إلى يوم القيامة ، وفيه دلالة على عموم رسالته ، واستمرارها من غير ناسخ إلى يوم القيامة.

٤٣٦

استفهام إنكاري (قُلْ) لهم (لا أَشْهَدُ) بذلك (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) معه من الأصنام (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) أي محمدا بنعته في كتابهم (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) منهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) به (وَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١) بذلك (وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا)

____________________________________

قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) اللام لام الابتداء زحلقت الخبر. قوله : (استفهام إنكاري) أي والمعنى لا يصح منكم هذه الشهادة لأن المعبود واحد. قوله : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) إنما أداة حصر ، وما كافة ، وهو مبتدأ ، وإله خبره ، وواحد صفته ، وهو زيادة في الرد عليهم ، وهو من حصر المبتدأ في الخبر.

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى ، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل. قوله : (أي محمدا) تفسير للضمير في (يَعْرِفُونَهُ) ، ويصح أن يرجع الضمير للقرآن أو لجميع ما جاء به رسول الله من التوحيد وغيره. قوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي معرفة كمعرفتهم لأبنائهم ، وهذا من التنزلات الربانية ، وإلا فهم يعرفونه أشد من معرفتهم لأبنائهم لما روي أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله ابن سلام بعد إسلامه عن هذه المعرفة ، فقال : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني ، فقال عمر : كيف ذلك؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما تصنع النساء. قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مبتدأ والجملة نعت للذين آتيناهم الكتاب ، ويؤيده قول المفسر منهم.

قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) خبر المبتدأ وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط وهو العموم ، والمعنى أن من سبق في علم الله خسرانه ، فلا يتأتى له الإيمان في الدنيا ، وذلك أن الله جعل لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وقد علمت مما تقدم أن المؤمن واحد من ألف ، فتكون منازل الكفار التي يرثها المؤمنون في الجنة لكل واحد تسعمائة منزل وتسعة وتسعون تضم لمنزله ، ومنازل المؤمنين التي تركت لأهل النار منزل من ألف يزاد لهم ، فيؤخذ منه أن الجنة واسعة جدا ، وأن النار ضيقة جدا لا سيما مع عظم جسم الكافر فيها ، حيث يكون ضرسه كأحد. قال تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقال تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ). قوله : (به) أي بمحمد أو بالله أو بالقرآن أو بما جاء به محمد. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى ليس أحد أظلم ممن فعل واحدا من الأمرين الافتراء والتكذيب ، فما بالك بمن جمع بينهما كالمشركين وأهل الكتاب ، فإن كلا منهما وقع منه الأمران. قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزون بمطلوبهم. وقوله : (بذلك) أي بسبب ما ذكر وهو الافتراء أو التكذيب.

قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) ظرف متعلق بمحذوف قدره المفسر ، والضمير في نحشرهم عائد على الخلق مسلمهم وكافرهم ، ويصح عوده على المشركين ، فقوله بعد ذلك (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) إظهار في محل الإضمار زيادة في التشنيع عليهم. قوله : (جَمِيعاً) حال من ضمير نحشرهم. قوله : (ثُمَّ نَقُولُ) أتى

٤٣٧

توبيخا (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٢) أنهم شركاء لله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بالتاء والياء (فِتْنَتُهُمْ) بالنصب والرفع أي معذرتهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي قولهم (وَاللهِ رَبِّنا) بالجر نعت والنصب نداء (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) قال تعالى (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي الشرك عنهم (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) ه على الله من الشركاء (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) إذا قرأت (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية ل (أَنْ) لا (يَفْقَهُوهُ) يفهموا

____________________________________

بثم إشارة إلى أن السؤال بعد الحشر ، والحشر يطول على الكفار قدر خمسين ألف سنة والمقصود من ذلك ردعهم وزجرهم لعلهم يؤمنون في الدنيا فتأمنون من ذلك اليوم وهوله ، والقول إن كان على ألسنة الملائكة فظاهر ، وإن كان من الله مباشرة ورد علينا قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقد يجاب بأن المعنى لا يكلمهم كلام رضا ورحمة. قوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) إن قلت : مقتضى هذه الآية أن الشركاء ليسوا حاضرين معهم ، ومقتضى قوله تعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أنهم حاضرون معهم ، فكيف الجمع بينهما؟ اجيب بأن السؤال واقع بعد التبري الكائن من الجانبين ، وانقطاع ما بينهم من الأسباب والعلائق وأضيفوا لهم ، لأن شركتها بتسميتهم وتقولهم. قال تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الآية. قوله : (أنهم شركاء لله) قدره إشارة إلى أن مفعولي (تَزْعُمُونَ) محذوفان ، وهذه الجملة سدت مسدهما. قوله : (بالتاء والياء) فعلى قراءة التاء يصح رفع (فِتْنَتُهُمْ) اسم تكن ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) خبرها ونصبها خبر تكن مقدم ، وإلا أن قالوا اسمها مؤخر ، ويتعين جر (رَبِّنا) وعلى قراءة الياء إلا نصب فتنتهم خبر يكن مقدم ، وإلا أن قالوا اسمها مؤخر ، ويتعين نصب ربنا ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية ، خلافا لما توهمه المفسر. قوله : (أي معذرتهم) أي جوابهم ، وسماه فتنة لأنه كذب محض لا نفع به ، بل به الفضائح.

قوله : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إن قلت : كيف الجمع بين ما هنا وبين قوله ولا يكتمون الله حديثا. قلت : أولا ينكرون الإشراك ويحلفون على عدم وقوعه منهم ، ثم يستشهد الله الأعضاء فتنطق الجوارح ، فحينئذ يودون لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ، فهم أولا يظنون أن إنكارهم نافع ، فحين تشهد أعضاؤهم يتمنون أن لو كانوا أترابا ولم يكتموا شيئا. قوله : (عَلى أَنْفُسِهِمْ) إنما نسبه لهم وإن كان في الحقيقة كذبا على الله ، لأن ضرره عاد إليهم. قوله : (من الشركاء) بيان لما.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) سبب نزولها : أنه اجتمع أبو سفيان وأبو جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف والحرث بن عامر ، يستمعون القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال ما أدري ما يقول ، غير أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها ، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل : كلا لا نقر بشيء من هذا ، وفي رواية الموت أهون علينا من هذا. وأفرد يستمع مراعاة للفظ من ، وسيأتي في يونس مراعاة معناها ، والحكمة في مراعاة لفظها هنا ، أن ما هنا في قوم قليلين ، وفيما يأتي في الكفار جميعا. قوله : (أَكِنَّةً) جمع كنان وهو الوعاء

٤٣٨

القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) صمما فلا يسمعونه سماع قبول (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) ما (هذا) القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ) أكاذيب (الْأَوَّلِينَ) (٢٥) كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطور بالضم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ) الناس (عَنْهُ) عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَنْأَوْنَ) يتباعدون (عَنْهُ) فلا يؤمنون به وقيل نزلت في أبي طالب كان ينهى عن أذاه ولا يؤمن به (وَإِنْ) ما (يُهْلِكُونَ) بالنأي عنه (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن ضرره عليهم (وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦) بذلك (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ وُقِفُوا) عرضوا (عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا) للتنبيه (لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧) برفع الفعلين استئنافا

____________________________________

الجامع الذي يحفظ فيه الشيء ويجمع على أكنان ، والمراد بها هنا الغطاء الساتر. قوله : (فلا يسمعونه) أي القرآن. قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ) حتى ابتدائية. وقوله : (يُجادِلُونَكَ) حال من الواو في جاؤوك. وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب إذا. قوله : (كالأضاحيك) جمع أضحوكة بالضم ، وكذا (الأعاجيب) أي فالمشهور أن أساطير في جمعه ومفرده كالأضاحيك والأعاجيب. قوله : (هُمْ يَنْهَوْنَ) أي الكفار ينهون عن اتباع النبي ، أو عن سماع القرآن. قوله : (أي عن اتباع النبي) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (وقيل نزلت في أبي طالب) أي وعليه فجمع الضمير باعتبار اتباعه. قوله : (كان ينهى عن أذاه) أي وكان يخاطب النبي عليه الصلاة والسّلام بقوله :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خيز أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

حتى أوسد في التراب رهينا

وهذا القول لابن عباس وعمرو بن دينار وسعيد بن جبير ، والقول بأنها نزلت في المشركين لجماعة منهم الكلبي والحسن ؛ والأقرب لسياق ما قبلها وما بعدها المعنى الأولى فتأمل. قوله : (بذلك) أي بإهلاكهم أنفسهم ، قوله : (وَلَوْ تَرى) المقصود من ذلك حكاية ما سيقع من الكفار يوم القيامة وتسلية للنبي وأصحابه ، والمعنى لو تبصر بعينك يا محمد ما يقع لهؤلاء في الآخرة ، لرأيت أمرا عظيما تتسلى به عن الدنيا ، فالخطاب لسيدنا محمد كما قال المفسر. إن قلت : هذا يقتضي أن رسول الله لم يطلع على ذلك ، مع أنه لم يخرج من الدنيا حتى أحاط بوقائع الدنيا والآخرة. أجيب : بأن هذا قبل إعلام الله له بالآخرة. وأجيب أيضا بأن الخطاب له والمراد غيره ، ورأى إما بصرية وهو الأقرب أو قلبية ، والمعنى لو صرفت فكرك الصحيح في تدبير حالهم لازددت يقينا ، ولو يحتمل أنها حرف امتناع ، فيكون قوله ترى بمعنى رأيت ، وإذ على بابها من المعنى ، فيكون عبر بالماضي لتحقق الحصول ، ويحتمل أنها بمعنى إن الشرطية وإذ بمعنى إذا ، فيكون مستقبلا ، والأقرب الأول. قوله : (للتنبيه) أي لدخولها على الحرف.

قوله : (لَيْتَنا نُرَدُّ) ليت حرف تمن ، ونا اسمها ، وجملة نرد خبرها. قوله : (برفع الفعلين استئنافا) أي واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ماذا تفعلون لو رددتم ، فقوله (وَلا نُكَذِّبَ) خبر محذوف تقديره

٤٣٩

ونصبهما في جواب التمني ورفع الأول ونصب الثاني وجواب لو رأيت أمرا عظيما قال تعالى (بَلْ) للإضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني (بَدا) ظهر (لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) يكتمون بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين بشهادة جوارحهم فتمنوا ذلك (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا فرضا (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الشرك (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨) في وعدهم بالإيمان (وَقالُوا) أي منكر والبعث (إِنْ) ما (هِيَ) أي الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩) (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) عرضوا (عَلى رَبِّهِمْ) لرأيت أمرا عظيما (قالَ) لهم على لسان الملائكة توبيخا (أَلَيْسَ هذا) البعث والحساب (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إنه لحق (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠) به في الدنيا (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) بالبعث (حَتَّى) غاية للتكذيب (إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) القيامة (بَغْتَةً) فجأة (قالُوا يا حَسْرَتَنا) هي شدة التألم ونداؤها مجاز أي

____________________________________

ونحن لا نكذب ، وكذا قوله (وَنَكُونَ). قوله : (وبنصبهما في جواب التمني) أي بأن مضمرة بعد واو المعية ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على مصدر مصيد من الكلام السابق ، وتقدير الكلام فقالوا نتمنى على الله ردنا مع عدم تكذيب منا وحصول إيمان. قوله : (ورفع الأول) أي على الاستئناف. وقوله : (ونصب الثاني) أي بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية في جواب التمني ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على مصدر مصيد من الكلام السابق ، تقديره نتمنى على الله مع كوننا من المؤمنين ، وجملة ولا نكذب معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فهذه قراءات ثلاث وكلها سبعية ، وقرىء شذوذا بنصب الأول ورفع الثاني وتوجيهه كما علمت. قوله : (للإضراب) أي الإبطالي ، والمعنى ليس الأمر كما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا ، بل إنما حملهم على ذلك فضيحتهم بشهادة أعضائهم. قوله : (ما كانُوا يُخْفُونَ) أي وهو الشرك. قوله : (بقولهم) الباء سببية. قوله : (بشهادة جوارحهم) متعلق ببدا. قوله : (فتمنوا ذلك) أي فرارا من العذاب لا محبة في الإيمان.

قوله : (لَعادُوا) جواب لو. قوله : (في وعدهم بالإيمان) أي الذي وقع منهم بالتمني. قوله : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) يحتمل أنه معطوف على لعادوا ، فهو من جملة جواب له ، ويحتمل أنه كلام مستأنف في خصوص منكري البعث وهذا هو المتبادر من المفسر ، وإن نافية بمعنى ما ، وهي مبتدأ ، وحياتنا خبره والمعنى أنهم قالوا ليس لنا حياة غير هذه الحياة التي نحن فيها ، وما نحن بمبعوثين بعد الموت. قوله : (عَلى رَبِّهِمْ) أي على حسابه وسؤاله ، فالكلام على حذف مضاف.

قوله : (قالَ) (لهم) أي لمنكري البعث الذين قالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا). قوله : (على لسان الملائكة) دفع بذلك ما يقال إن الله لا ينظر اليهم ولا يكلمهم. قوله : (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) جواب مؤكد باليمين. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب الذي كنتم تكفرون به أو بسبب كفركم. قوله : (غاية للتكذيب) أي لا للخسران فإنه لا غاية له. قوله : (السَّاعَةُ) المراد بها مقدمات الموت ، فالمراد أن حزنهم الدائم يحصل لهم عند خروج أرواحهم. قوله : (بَغْتَةً) حال من فاعل جاءتهم ، والتقدير جاءتهم مباغتة ، أو من مفعوله ، والتقدير جاءتهم حال كونهم مبغوتين. قوله : (يا حَسْرَتَنا) يا حرف نداء ،

٤٤٠