حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

فوق حقه (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) بغلوهم وهم أسلافهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧) عن طريق الحق والسواء في الأصل الوسط (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ) بأن دعا عليهم فمسخوا قردة وهم أصحاب أيلة (وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير وهم أصحاب المائدة (ذلِكَ) اللعن (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٧٨) (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) أي لا ينهى بعضهم بعضا (عَنْ) معاودة (مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٧٩) ه فعلهم هذا (تَرى) يا محمد (كَثِيراً

____________________________________

على النفس ، بأن يصوم النهار ويقوم الليل مثلا فليس بحرام ولا ضلال. قوله : (بأن تضعوا عيسى) أي تنقصوه عن مرتبته ، كقول اليهود إنه ابن زنا. وقوله : (أو ترفعوه فوق حقه) كقول النصارى إنه ابن الله ، أو هو الله ، فكل من الفريقين قد غلا في دينه غير الحق. قوله : (أَهْواءَ قَوْمٍ) الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه ، وما ذكر في القرآن إلا على وجه الذم ، لأنه لا يقال فلان يهوى الخير ، وإنما يقال يحبه ويريده. قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخطاب لمن كان في زمنه. قوله : (بغلوهم) الباء سببية أي بسبب غلوهم في عيسى حيث رفعوه جدا ووضعوه جدا. قوله : (وهم أسلافهم) جمع سلف وهو المتقدم عليهم في الزمن وهم اليهود والنصارى.

قوله : (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي بهذا الاعتقاد الفاسد. قوله : (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) السواء في الأصل الوسط ، والسبيل الطريق ، والمراد الدين الحق ، فشبه التمسك بالدين الحق بالمشي في وسط الطريق بجامع أن كلا سالم من العطب. قوله : (عن طريق الحق) أي وهو دين الإسلام. إن قلت : إنه قد تقدم ضلالهم في قوله : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أجيب : بأنه يحمل الضلال الأول على الكفر بموسى وعيسى ، والضلال الثاني على الكفر بمحمد.

قوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اليهود والنصارى ، فلعن اليهود على لسان داود ، ولعن النصارى على لسان عيسى. قوله : (عَلى لِسانِ داوُدَ) اختلف في المراد باللسان ، فقيل هو الجارحة فداود وعيسى صرحا بلعنهم وقيل هو الكتاب ، والمعنى أنزل الله لعنتهم في كتاب داود وعيسى وهو الأقرب ، وكلام المفسر يفيد الأول. قوله : (فمسخوا قردة) أي وخنازير. وقوله : (وهم أصحاب أيلة) الذين اعتدوا في السبت واصطادوا السمك فيه ، وستأتي قصتهم في سورة الأعراف. قوله : (فمسخوا خنازير) أي وقردة ، فقد حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر ، وهذا على المشهور من أن كلا مسخوا قردة وخنازير ، وقيل أصحاب السبت مسخوا قردة ، وأصحاب المائدة مسخوا خنازير وهو ظاهر المفسر. قوله : (وهم أصحاب المائدة) أي وسيأتي أنهم ثلثمائة وثلاثون رجلا. قوله : (بِما عَصَوْا) الباء سببية وما مصدرية ، وقوله : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) معطوف على عصوا ، والمعطوف على الصلة صلة ، والمعنى ذلك بسبب عصيانهم وكونهم معتدين. قوله : (عَنْ) (معاودة) (مُنكَرٍ) إنما قدر المفسر هذا المضاف لدفع ما أورد بأن المنكر الذي فعل لا معنى للنهي عنه ، لأن رفع الواقع محال ، فأجاب بأن المعنى النهي عن المعاودة. قوله : (فعلهم) هذا هو المخصوص بالذم.

٤٠١

مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة بغضا لك (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) من العمل لمعادهم الموجب لهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (٨٠) (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) محمد (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي الكفار (أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١) خارجون عن الإيمان (لَتَجِدَنَ) يا محمد (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) من أهل مكة لتضاعف كفرهم وجهلهم وانهماكهم في اتباع الهوى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ) أي قرب مودتهم للمؤمنين (بِأَنَ) بسبب أن (مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) علماء (وَرُهْباناً) عبادا (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢) عن

____________________________________

قوله : (تَرى) أي تبصر وقوله : (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي أهل الكتاب. قوله : (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يوالونهم ويصادقونهم. قوله : (بغضا لك) مفعول لأجله أي من أجل بغضك. قوله : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ) اللام موطئة للقسم وبئس كلمة ذم وما فاعل قدمت صلته ، والعائد محذوف أي قدمته ، وأنفسهم فاعل قدمت ، وقوله : (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذم ، لكن على حذف مضاف تقديره موجب أن سخط الله ، والمعنى أن ما قدمت لهم أنفسهم من الضلال تسبب عن سخط الله ، وتسبب عن سخط الله الخلود في النار. قوله : (من العمل) بيان لما. قوله : (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) هذه الجملة معطوفة على جملة أن سخط الله عليهم ، فهي من جملة المخصوص بالذم ، فالمعنى موجب سخط الله والخلود في النار.

قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) أي وهو القرآن. قوله : (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) أي أنصارا يوالونهم وقد فعلوا ذلك ، فكانوا يأخذون الهدايا لكفار مكة ويصادقونهم ويتوددون إليهم خوفا من زوال عزهم ورياستهم. قوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً) كلام مستأنف سيق للتقبيح على اليهود والتشنيع عليهم ، واللام موطئة لقسم محذوف ، وأشد مفعول أول لتجدن ، وعداوة منصوب على التمييز ، و (لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلق بعداوة أو بمحذوف صفة لعداوة ، واليهود مفعول ثان هكذا أعربوا ، والأقرب أن أشد مفعول ثان مقدم ، واليهود مفعول أول مؤخر. قوله : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) معطوف على اليهود. وقوله : (لتضاعف كفرهم) علة لقوله أشد. وقوله : (وجهلهم) أي وتضاعف جهلهم. قوله : (وانهماكهم في اتباع الهوى) عطف على تضاعف عطف علة على معلول ، والهوى بالقصر ما تهواه النفس وتميل إليه.

قوله : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ) يقال في إعرابه ما قيل في الذي قبله من أن أقرب مفعول ثان ، والذين قالوا مفعول أول ، ومودة تمييز ، وللذين صفة للمودة أو متعلق به. قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي أنصار دين الله. إن قلت : مقتضى الآية مدح النصارى وذم لليهود ، مع أن كفر النصارى أشد لأنهم ينازعون في الربوبية واليهود أخف منهم لأنهم ينازعون في النبوة ، أجيب بأن مدح النصارى من جهة قرب مودتهم للمسلمين ، وذم اليهود من حيث إنهم أشد عداوة للمسلمين ، وذلك لا يقتضي شدة الكفر ولا عدمها ، وأيضا الحرص في اليهود دون النصارى ، وأيضا مذهب اليهود أن إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين قربة ، ومذهب النصارى أنه حرام. قوله : (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ ، و (بِأَنَّ مِنْهُمْ) خبر ، و (قِسِّيسِينَ) اسم إن ، ومنهم متعلق بمحذوف خبر إن (وَرُهْباناً) معطوف على قسيسين

٤٠٢

اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة نزلت في وفد النجاشي القادمين عليهم من الحبشة قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة

____________________________________

وقوله : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) معطوف على قسيسين. قوله : (أي قرب مودتهم) أشار بذلك إلى مرجع اسم الإشارة. قوله : (بسبب) أشار بذلك إلى أن الباء سببية.

قوله : (قِسِّيسِينَ) جمع قسيس من يقيس الشيء إذا تتبعه ، يقال قس الأثر وقصه فهو أعجمي معرب ، ويقال قس ، وقس بفتح القاف وكسرها وهو عالم النصارى. قوله : (وَرُهْباناً) جمع راهب وهو الزاهد التارك للدنيا وشهواتها. قوله : (نزلت في وفد النجاشي) أي واسمه أصحمة وقيل صحمة. وحاصل ذلك : أنه سنة خمس من البعثة ، اشتد أذى الكفار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن أسلم ، ولم يكن أمر بجهاد ، فأمر الصحابة الذين لا غزوة لهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وهي الهجرة الأولى ، وقال إن بها ملكا صالحا لا يظلم عنده أحد ، فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا ، فخرج إليها أحد عشر رجلا وأربع نسوة سرا ، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة ، وذلك في رجب ، ثم تتابع المسلمون فكانوا اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان ، فلما كانت وقعة بدر وقتل فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي ، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده لتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر ، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة ، فقالا له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامهم وزعم أنه نبي ، وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم ، وإن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم ، فقال : حتى نسألهم ، فأمر بهم فاحضروا ، فلما أتوا باب النجاشي قالوا يستأذن أولياء الله فقال : ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله ، فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين أيها الملك ألا ترى أنا صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ، فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة ، فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول ، قال فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم ، فقال : هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا نعم ، قال : اقرؤوا فقرأ جعفر سورة مريم ، وهناك قسيسون ورهبانيون وسائر النصارى ، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، فأنزل الله تعالى فيهم (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) الخ الآيتين ، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه : اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون ، وفي بعض الروايات أن عمرا أسلم على يد النجاشي. وبذلك يلغز فيقال صحابي أسلم على يد تابعي ، لأن النجاشي لم يجتمع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمرو اجتمع به بعد مقدمه من الحبشة ، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار ، إلى أن هاجر رسول الله إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه ، وذلك سنة ست من الهجرة ، وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها ومات عنها ، فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحا كانت لها ، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحها لرسول الله على

٤٠٣

يس فبكوا وأسلموا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى قال تعالى (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) من القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) صدقنا بنبيك وكتابك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣) المقرين بتصديقهما (وَ) قالوا في جواب من غيرهم بالإسلام من اليهود (ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) القرآن أي لا مانع لنا من الإيمان مع وجود مقتضيه (وَنَطْمَعُ) عطف على نؤمن (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٨٤) المؤمنين الجنة قال تعالى (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ

____________________________________

صداق مبلغه أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله النجاشي ، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة ، فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين دينارا فلم تأخذها وقالت إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئا ، وقالت أنا صاحبة ذهب الملك وثيابه ، وقد صدّقت بمحمد وآمنت به ، وحاجتي إليك مني أن تقرئيه مني السّلام ، قالت : نعم ، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحاصر خيبر ، قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله بخيبر ، فخرج من قدم معي وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله فدخلت عليه ، فكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه‌السلام من أبرهة جارية الملك ، فرد رسول الله عليهاالسّلام ، وأنزل الله (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول الله أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان تزوج رسول الله بأم حبيبة قال : ذلك الفحل لا يجدع أنفه ، وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى رسول الله ابنه أزهى في ستين من أصحابه وكتب إليه : يا رسول الله ، إني أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرا وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت ، والسّلام عليك يا رسول الله ، فركبوا في سفينة في أثر جعفر. حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله وهو بخيبر ، ووافى جعفر في سبعين رجلا ، عليهم الثياب الصوف ، منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة وثمانية من الشام ، فقرأ عليهم رسول الله سورة يس إلى آخرها ، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه‌السلام ، فأنزل الله هذه الآية فيهم ، ولذلك قال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء بها عيسى عليه‌السلام ، فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى الله عليهم.

قوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) صنيع المفسر يقتضي أنه مستأنف حيث قال : قال تعالى ولذلك جعله بعضهم أول الربع ، ويصح أن يكون عطفا على لا يستكبرون. قوله : (تَفِيضُ) أي تمتلىء بالدمع حتى يسيل. قوله : (مِنَ الدَّمْعِ) من ابتدائية. قوله : (مِمَّا عَرَفُوا) من تعليلية و (مِنَ الْحَقِ) بيانية. قوله : (يَقُولُونَ) استئناف مبني على سؤال ، كأنه قيل فماذا يقولون. قوله : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) جملة مستأنفة جوابا للسؤال الوارد عليهم. قوله : (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) معطوف على لفظ الجلالة ، أي لا مانع لنا من الإيمان بالله وبما جاءنا من الحق ، ويراد بالحق القرآن. قوله : (عطف على نؤمن) أي مسلطة عليه لا على سبيل الاستفهام الإنكاري ، والمعنى أي شيء ثبت لنا في كوننا لا نؤمن بالله ولا بالقرآن ، ولا نطمع في أن يدخلنا ربنا الخ ، مع وجود مقتضى ما ذكر. قوله : (بِما قالُوا) أي بسبب

٤٠٤

الْمُحْسِنِينَ) (٨٥) بالإيمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٨٦) ونزل لما هم قوم من الصحابة أن يلازم الصوم والقيام ولا يقربوا النساء والطيب ولا يأكلوا اللحم ولا يناموا على الفراش (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) تتجاوزوا أمر الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) مفعول والجار والمجرور قبله حال متعلق به (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨) (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) الكائن (فِي

____________________________________

قولهم ، ورتب الثواب على القول ، لأنه قد سبق بما يدل على إخلاصهم فيه.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) لما ذكر الله تعالى الوعد لمؤمني النصارى ، وذكر الوعيد لمن بقي منهم على الكفر جمعا بين الترغيب والترهيب. قوله : (ونزل لما هم قوم) أي وهم عشرة اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وسبب اجتماعهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعظ الناس يوما حتى أبكاهم ، فرقت أفئدتهم وعزموا على الترهب ، وهم : أبو بكر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون ، فتشاوروا واتفقوا على أنهم يلبسون المسوح ، ويجبون مذاكيرهم ، ويصومون الدهر ، ويقومون الليل ، ولا ينامون على الفراش ، ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ، وأن يسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادقه ، فقال لامرأته : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب ، وكرهت أن تفشي سر زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : ألم أخبر أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ فقالوا : يا رسول الله وما أردنا إلا الخير ، فقال رسول الله : «إني لم أؤمر بذلك ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وافطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا ، وإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي ورهبانيتهم الجهاد ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الديارات والصوامع» ، فنزلت تلك الآية.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا هو فاعل نزل. قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي لا تجعلوها حراما على أنفسكم ، فمن حرم حلالا فلا يحرم عليه إلا الزوجة ، لأن الله جعل بيده تحريمها وتحليلها دون ما سواها ، واعتقاد التحريم من غير إنشاء منه كفر. قوله : (تتجاوزوا أمر الله) أي ونهيه فلا تفعلوا ما نهى الله عنه ، ولا تفرطوا فيما أمر به. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين الحد ، ومن جملة ذلك قطع المذاكير والشهوة والإسراف في المطاعم والمشارب قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا). قوله : (حال) أي من حلالا لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها وطيبا صفته.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه ، فتقوى الله لا تتوقف على الرهبانية كما كان

٤٠٥

أَيْمانِكُمْ) هو ما يسبق اليه اللسان من غير قصد الحلف كقول الإنسان لا والله وبلى والله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ) بالتخفيف والتشديد وفي قراءة عاقدتم (الْأَيْمانَ) عليه بأن حلفتم عن قصد (فَكَفَّارَتُهُ) أي اليمين إذا حنثتم فيه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لكل مسكين مد (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) منه (أَهْلِيكُمْ) أي أقصده وأغلبه لا أعلاه ولا أدناه (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار ولا يكفي دفع ما ذكر إلى مسكين واحد وعليه الشافعي (أَوْ تَحْرِيرُ) عتق

____________________________________

في الأمم السابقة. قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) هذا مرتب على قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) لأن بعض الصحابة حلف على الترهب لظن أنه قربة ، فلما نزلت الآية شكوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليمين ، فنزلت هذه الآية. قوله : (هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف) أي بل بقصد التبرر أو لا قصد له وهذا مذهب الشافعي ، وأما عند مالك وأبي حنيفة فاللغو أن يحلف على ظنه فيتبين خلافه. وهذا في غير الطلاق ، وأما هو فلا ينفع فيه اللغو واللغو عند مالك وأبي حنيفة تكفر إن تعلقت بمستقبل فقط ، لا إن تعلقت بحال أو ماض. والحاصل أنه إن قصد باليمين التبرر فهو لغو عند الشافعي لا عند مالك وأبي حنيفة ، وأما إن سبق لسانه باليمين من غير قصد أصلا فهو لغو اتفاقا ، والحلف على ظن شيء فتبين خلافة اتفاقا أيضا. قوله : (وفي قراءة عاقدتم) والثلاث سبعيات ، فالتخفيف ظاهر ، والتشديد للمبالغة ، وما مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان.

قوله : (فَكَفَّارَتُهُ) مبتدأ ، و (إِطْعامُ) خبره وهو مضاف لمفعوله الأول ، والمفعول الثاني قوله : (مِنْ أَوْسَطِ) والفاعل محذوف قياسا يعود على الحالف تقديره إطعامه عشرة مساكين. قوله : (أي اليمين) إن قلت : إن اليمين مؤنثة فلم عاد الضمير عليها مذكرا؟ أجيب : بأنها تذكر بمعنى الحلف. قوله : (إذا حنثتم فيه) أي وهو الحلف بالله أو بصفة من صفاته القديمة ، وأما الحلف بغير ذلك فلا حنث فيه ، ثم هو إن كان مما يعظم شرعا كالكعبة والنبي فقيل مكروه وقيل حرام ، وإلا فهو ممنوع لما في الحديث : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». قوله : (عَشَرَةِ مَساكِينَ) المراد ما يشمل الفقراء ، والفقير هو من لا يملك قوت عامه ، والمسكين من التصقت يده بالتراب عند مالك. قوله : (لكل مسكين مد) أي وهو رطل وثلث بالبغدادي ، وبالمصري رطل وأوقيتان وربع أوقية.

قوله : (ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قدر المفسر المفعول الثاني بقوله منه والأوضح أن يقدره متصلا به وأهليكم مفعوله الأول. قوله : (أغلبه) هذا تفسير لأوسط ، فإن كان القمع غالب اقتياتهم مثلا أخرج منه. ولو كان هو يفتات ذرة مثلا. وهل المراد بالغالب وقت الإخراج وهو مذهب مالك أو في السنة وهو مذهب الشافعي. وقوله : (لا أعلاه ولا أدناه) أي لا تفهم أن المراد بالأوسط ما قابل الأعلى كالقمح. والأدنى كالدخن. بل المراد به الغالب في الاقتيات. كان هو في نفسه أعلى أو أدنى أو أوسط. ويكفي بدل الإمداد عند مالك ، لكل واحد رطلان من خبز ، أو إطعام العشرة غداء وعشاء. أو غداءين أو عشاءين. قوله : (بما يسمى كسوة) أي وإن لم يكن من غالب كسوة الناس لأن قيد الأوسطية مخصوص بالإطعام. واشترط مالك كون الكسوة تستر البدن للرجل ثوب ، وللمرأة درع وخمار. قوله : (وعمامة وإزار) الواو

٤٠٦

(رَقَبَةٍ) أي مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار حملا للمطلق على المقيد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) واحدا مما ذكر (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) كفارته وظاهره أنه لا يشترط التتابع وعليه الشافعي (ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس كما في سورة البقرة (كَذلِكَ) أي مثل ما يبين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩) ه على ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) المسكر الذي يخامر العقل (وَالْمَيْسِرُ) القمار (وَالْأَنْصابُ) الأصنام (وَالْأَزْلامُ) قداح الاستقسام (رِجْسٌ) خبيث مستقذر

____________________________________

بمعنى أو ، ويكفي المنديل عند الشافعي. قوله : (وعليه الشافعي) أي ومالك. قوله : (كما في كفارة القتل والظهار) أي كما ثبت عند الفقهاء في كفارة القتل بالتصريح بمؤمنة ، والظهار بحمل المطلق على المقيد ، وهذا مذهب مالك والشافعي ، وعند أبي حنيفة لا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد السبب ، وأما هنا فقد اختلف السبب فلا حمل فيكفي في اليمين والظهار عنده عتق الكافرة.

قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي بأن لم يكن عنده ما يباع على المفلس بأن لم يكن عنده أزيد من قوت يومه ، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم ، وقال في الجديد ينتقل للصيام إن لم يكن عنده ما يكفيه العمر الغالب. قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فالكفارة مخير فيها ابتداء في الثلاثة مرتب انتهاء في الصيام ، وأفضلها في التخيير عند مالك الإطعام ثم الكسوة ثم العتق ، وعند الشافعي العتق ثم الكسوة ثم الإطعام. قوله : (كفارته) أشار بذلك إلى أن صيام مبتدأ خبره محذوف ، والأوضح أن يقدر المحذوف هو المبتدأ. قوله : (وعليه الشافعي) أي ومالك خلافا لأبي حنيفة في اشتراطه التتابع. قوله : (ما لم يكن على فعل بر) أي فالحنث أفضل. قوله : (كما في سورة البقرة) أي في قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) فمن حلف على شيء ، وكان فعله خيرا من تركه ، فالأفضل حنثه كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك. قوله : (ما ذكر) أي وهو حكم اليمين. قوله : (على ذلك) أي البيان فإنه من أعظم النعم.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) سبب نزولها دعاء عمر رضي الله عنه بقوله : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية أحضر رسول الله عمر وقرأها عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ثم نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فأحضره رسول الله وقرأها عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية ، فأحضره وقرأها عليه فقال : انتهينا يا رب ، وذكرت عقب ما قبلها ، لأنه لما نهي فيما قبلها عن تحريم الطيبات مما أحلّ الله ، وكانت الخمر والميسر مما يستطاب عندهم ، ربما يتوهم أنهما داخلان في جملة الطيبات ، فأفاد أنهما ليسا كذلك. قوله : (الذي يخامر العقل) أي يستره ويغطيه ولو كان متخذا من غير العنب. قوله : (القمار) من المقامرة وهي المغالبة ، لأن كلا يريد المغالبة لصاحبه ، والمراد بالقمار اللعب بالملاهي ، كالطاب والطولة والمنقلة ، فيحرم اللعب بذلك إذا كان بمال إجماعا ، وبغيره ففيها الخلاف بين العلماء بالكراهة والحرمة ما لم يضيع بسببها الفرائض ، وإلا فحرام إجماعا ، وسمي ميسرا ، لأن فيه أخذ المال بيسر.

٤٠٧

(مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) الذي يزينه (فَاجْتَنِبُوهُ) أي الرجس المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٩٠) (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إذا أتيتموهما لما يحصل فيهما من الشر والفتن (وَيَصُدَّكُمْ) بالاشتغال بهما (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) خصها بالذكر تعظيما لها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٩١) عن إتيانهما أي انتهوا (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) المعاصي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢) الإبلاغ البين وجزاؤكم علينا (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم (إِذا مَا اتَّقَوْا) المحرمات (وَآمَنُوا وَعَمِلُوا

____________________________________

قوله : (وَالْأَنْصابُ) جمع نصب ، سميت بذلك لأنها تنصب وترفع للعبادة. قوله : (قداح الاستقسام) تقدم أنها سبعة. قوله : (رِجْسٌ) خبر عن كل واحد مما تقدم من الخمر وما بعده ، وحيث قرن الخمر والميسر بالأنصاب والأزلام ، فهو دليل على أنهما من الكبائر ، وقوله : (خبيث مستقذر) تفسير للرجس ، وأما الرجز فهو العذاب ، وأما الركس فهو العذرة والشيء النتن. قوله : (الذي يزينه) أي يأمر به ويحسنه ، وليس المراد من عمل يده. قوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الترجي في كلام الله تعالى للتحقيق. قوله : (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إنما أعادهما ثانيا لأنها اللذان كانا في المسلمين ، بخلاف الأنصاب والأزلام ، وذكرهما أولا لمزيد التنفير عنهما ، وأكد التحريم بأمور ، وإنما جمعهما مع الأنصاب والأزلام ، وكونهما رجسا من عمل الشيطان ، وكون اجتنابهما موجبا للفلاح ، وكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقعان في العداوة والبغضاء والاستفهام التهديدي. قوله : (خصها بالذكر) أي الصلاة مع دخولها في الذكر. قوله : (أي انتهوا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام بمعنى الأمر ، وهو استفهام تهديدي ، وهو أبلغ من الأمر صريحا كأنه قيل : قد بينت لكم ما في هذه الأمور من القبائح ، فهل أنتم منتهون عنها ، أم أنتم مقيمون عليها فلكم الوعيد.

قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ) معطوف على معنى الاستفهام ، أي انتهوا وأطيعوا. قوله : (وَاحْذَرُوا) (المعاصي) أي فإنها تجر إلى الكفر. قوله : (أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وقد فعله ، فلم ينتقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرفيق الأعلى ، حتى بلغ ما أمر بتبليغه ، ففي الحديث : «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، ونهارها كليلها ، لا يضل عنها إلا هالك». قوله : (وجزاؤكم علينا) أشار بذلك إلى أن جواب الشرط محذوف.

قوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) سبب نزولها أنه لما نزل تحريم الخمر والميسر ، قال أبو بكر وبعض الصحابة : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت. قوله : (أكلوا من الخمر والميسر) أي تناولوا ذلك شربا للخمر وانتفاعا بمال القمار عاشوا أو ماتوا. قوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا) ظرف لقوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) والحاصل أنه كرر سبحانه وتعالى قوله اتقوا ثلاثا ، فقيل الأول محمول على مبدأ العمر ، والثاني على وسطه ، والثالث على آخره ، وقيل الأول اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر ، والثاني الشبهات خوف الوقوع في المحرمات ، والثالث بعض المباحات

٤٠٨

الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثبتوا على التقوى والإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) العمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣) بمعنى أنه يثيبهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ليختبرنكم (اللهُ بِشَيْءٍ) يرسله لكم (مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ) أي الصغار منه (أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) الكبار منه وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم (لِيَعْلَمَ اللهُ) علم ظهور (مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) حال أي غائبا لم يره فيجتنب الصيد (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) النهي عنه فاصطاده (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) محرمون بحج أو عمرة (وَمَنْ

____________________________________

خوف الوقوع في الشبهات. وقيل الأول تقوى العبد بينه وبين ربه ، والثاني تقوى العبد بينه وبين نفسه ، والثالث تقوى العبد بينه وبين الناس ، لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعا فيما بينه وبين ربه ، مجاهدا فيما بينه وبين نفسه ، محافظا على حقوق العباد. قوله : (ثبتوا على التقوى) هذا إشارة للمعنى الأول ، وهو أن المراد بالأول التقوى في أول العمر الخ.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت عام الحديبية حين أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وكانوا ألفا وأربعمائة بالعمرة من ذي الحليفة ، وأرسل عثمان لأهل مكة يخبرهم بأن رسول الله قاصد زيارة بيت الله ، فجلسوا ينتظرون عثمان ، فكانت وحوش البر والطيور تأتي إليهم من كل فج ، فنزلت الآية. قوله : (ليختبرنكم) أي يعاملكم معاملة المختبر. قوله : (مِنَ الصَّيْدِ) أي المصيد وهو وحوش البر والطيور ، وهذا الابتلاء نظير ابتلاء قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت ، ولكن الله حفظ الأمة المحمدية من الوقوع فيما يخالف أمر ربهم ، فتم له السعد والعز في الدنيا والآخرة ، وأما أمة موسى فتعدوا واصطادوا فمسخوا قردة وخنازير ، قوله : (أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) هو على التوزيع ، فالأيدي راجع للصغار والرماح راجع للكبار. قوله : (بالحديبية) أي سنة ست ، وقوله : (وهم محرمون) أي بالعمرة ، وأشيع قتل عثمان فبايع النبي أصحابه تحت الشجرة على أنهم يدخلون مكة حربا ثم حصل صلح بين الكفار وبين رسول الله ، فأمرهم رسول الله بالتحلل من العمرة بالحلاق وذبح الهدايا. قوله : (علم ظهور) أي للخلق أي ليظهر لهم المطيع من العاصي. قوله : (حال) أي من فاعل يخاف ، أي حال كون العبد غائبا عن الله أي محجوبا عنه لم يره. قوله : (بَعْدَ ذلِكَ) (النهي) أي المستفاد من قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) مع علته التي هي قوله : (لِيَعْلَمَ اللهُ).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لما كان قتل الصيد في حال الإحرام مشددا في النهي عنه ، كرر في هذه الصورة أربع مرات أولها في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثانيها (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) الآية. ثالثها (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). رابعها (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) الآية. قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) أتى به وإن علم من قوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ليرتب عليه قوله : (مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) الآية. قوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الجملة حالية من فاعل تقتلوا ، وحرم جمع حرام ، يقع على المحرم وإن كان في الحل ، وعلى من في الحرام وإن كان حلالا ، فهما سيان في النهي عن قتل الصيد.

٤٠٩

قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ) بالتنوين ورفع ما بعده أي فعليه جزاء هو (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي شبهه في الخلقة وفي قراءة بإضافة جزاء (يَحْكُمُ بِهِ) أي بالمثل رجلان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة ، وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة ، وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة ، وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العب (هَدْياً) حال من جزاء (بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان ونصبه نعتا لما قبله وإن أضيف لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته (أَوْ) عليه (كَفَّارَةٌ) غير الجزاء وإن وجده هي (طَعامُ مَساكِينَ) من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مد وفي قراءة بإضافة كفارة لما بعده وهي للبيان (أَوْ) عليه (عَدْلٍ) مثل (ذلِكَ) الطعام (صِياماً) يصومه عن كل مد يوما وإن وجده

____________________________________

قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ) من اسم شرط جازم ، وقتل فعل الشرط ، وقوله : (فَجَزاءٌ) مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله : (فعليه) وقوله : (مِثْلُ) خبر لمحذوف تقديره هو مثل ، والجملة جواب الشرط ، والمعنى أن ما قتله المحرم أو من في الحرم ، أو له مدخل في قتله ، فعليه جزاؤه ، وهو ميتة لا يجوز أكله ، ويقدم المضطر ميتة غيره عليه. قوله : (مُتَعَمِّداً) سيأتي للمفسر أنه لا مفهوم وله ، بل الخطأ والنسيان كذلك ، إلا أن الحرمة مختصة بالمتعمد. قوله : (مِنَ النَّعَمِ) أي الإنسية وهي الإبل والبقر والغنم ، والجار والمجرور حال من مثل أو صفة له. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بإضافة جزاء) إن قلت على هذه القراءة يقتضي أن الجزاء لمثل المقتول لا للمقتول نفسه مع أنه ليس كذلك. أجيب بأجوبة منها : أن الإضافة بيانية ، ومنها أن مثل زائدة ، ومنها أن جزاء مصدر مضاف لمفعوله ، أي أن يجازى القاتل مثل المقتول حال كون المثل من النعم. قوله : (رجلان) قدره إشارة إلى أن ذوا صفة لموصوف محذوف.

قوله : (ذَوا عَدْلٍ) أي عدل شهادة. قوله : (يميزان بها) أي بتلك الفطنة أي العقل الزكي قوله : (وقد حكم ابن عباس) أي وحكم الصحابة المذكور بين أصول المماثلة ، وأما جزئيات الوقائع ، فلا بد لكل واحدة من حكم إلى يوم القيامة ، لاختلاف الصيد بالكبر والصغر ، ولا بد من كون الجزاء المحكوم به يجزىء ضحية عند مالك. قوله : (في النعامة) أي ومثلها الزرافة والفيل ، وقوله : (في الظبي) أي ومثله الضب. قوله : (لأنه يشبهها في العب) أي شرب الماء بلا مص ، وهذا التعليل للإمام الشافعي ، وقال مالك بوجوب الشاة في خصوص حمام مكة ويمامة تعبدا ، فإن لم يكن شاة فصيام عشرة أيام من غير تقويم ولا حكم ، وحمام غيرها وسائر الطيور ليس فيه إلا قيمته طعاما أو عدله صياما. قوله : (حال من جزاء) ويصح أن يكون تمييزا ، وأن يكون مفعولا مطلقا والتقدير يهديه هديا. قوله : (فعليه) أي طعاما لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوما ، فهو مخير بين أمرين فيما لا مثل له ، وبين ثلاثة فيما له مثل. قوله : (وإن وجده) أي الجزاء وهو مبالغة في الكفارة ، أي الكفارة عليه ، هذا إذا لم يجد الجزاء ، بل وإن وجده. قوله : (لكل مسكين) أي من مساكين المحل الذي هو به ، وأما الصيام فلا يختص بزمان ولا مكان. قوله :

٤١٠

وجب ذلك عليه (لِيَذُوقَ وَبالَ) ثقل جزاء (أَمْرِهِ) الذي فعله (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد قبل تحريمه (وَمَنْ عادَ) إليه (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره (ذُو انْتِقامٍ) (٩٥) ممن عصاه وألحق بقتله متعمدا فيما ذكر الخطأ (أُحِلَّ لَكُمْ) أيها الناس حلالا كنتم أو محرمين (صَيْدُ الْبَحْرِ) أن تأكلوه وهو ما لا يعيش إلا فيه كالسمك بخلاف ما يعيش فيه وفي البر كالسرطان (وَطَعامُهُ) ما يقذفه ميتا (مَتاعاً) تمتيعا (لَكُمْ) تأكلونه (وَلِلسَّيَّارَةِ) المسافرين منكم يتزودونه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) وهو ما يعيش فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (ما دُمْتُمْ حُرُماً) فلو صاده حلال فللمحرم أكله كما بينته السنة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩٦) (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) المحرم (قِياماً لِلنَّاسِ) يقوم به أمر دينهم بالحج إليه ودنياهم

____________________________________

(وجب ذلك) أي الجزاء بأقسامه الثلاثة ، وقوله : (لِيَذُوقَ) متعلق بقوله : (وجب) وكان المناسب أن يأتي بالواو ليفيد أنه كلام مستأنف ، وليس جوابا لقوله فإن وجده لفساد ذلك. قوله : (وَبالَ أَمْرِهِ) أي جزاء ذنبه الصادر منه ، ويؤخذ من ذلك أن قتل الصيد متعمدا للمحرم أو من في الحرم كبيرة ، ولو أخرج الجزاء فيحتاج لتوبة. قوله : (ثقل جزاء) (أَمْرِهِ) أي لأن إخراج المال ثقيل على النفس ، والصوم فيه إنهاك للبدن فهو ثقيل أيضا.

قوله : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي لا يؤاخذ به ، فلا يرد أن ما قبل التحريم لا ذنب في قتله. قوله : (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي يعاقبه. قوله : (فيما ذكر) أي في لزوم الجزاء ، وإن كان لا إثم فيه. قوله : (الخطأ) أي والغلط والنسيان. قوله : (كالسمك) أي وغيره من دواب البحر ، وإن كان على صورة آدمي أو خنزير. قوله : (كالسرطان) أي والضفدع والتمساح. قوله : (وهو ما يعيش فيه) الأولى ما لا يعيش إلا فيه. قوله : (من الوحش) استثنى الشارع الفأرة والحية والعقرب والكلب العقور والحدأة والعادي من السباع. قوله : (فلو صاده حلال) أي لنفسه أو لحلال ، وأما ذبحه لمحرم من غير دلالة من المحرم عليه ، فميتة عند مالك ، وعند الشافعي ليس بميتة. قوله : (كما بينته السنة) أي كما روي عن أبي قتادة الأنصاري قال : كنت جالسا مع رجال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزل في طريق مكة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامنا ، والقوم محرمون ، وأنا غير محرم ، وذلك عام الحديبية ، فأبصروا حمارا وحشيا ، وأنا مشغول أخصف النعل ، فلم يؤذنوني وأحبوا لو أبصرته ، فالتفت فأبصرته ، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ، ونسيت السوط والسرع والرمح ، فقلت لهم : ناولوهما لي ، فقالوا : لا والله لا نعينك عليه ، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت ، فشددت على الحمار فعقرته ، ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلون ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم ، فرحنا وخبأت العضد ، فأدركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن ذلك فقال : هل معكم شيء منه؟ فقلت نعم ، فناولته العضد فأكل منها وهو محرم ، زاد في رواية أن النبي قال لهم إنما هي طعمة أطعمكموها الله. قوله : (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي لا إلى غيره ، فلا أحد غير الله يلتجأ إليه حتى يتوهم الفرار من وعيد الله.

قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) يحتمل أن جعل بمعنى صير ، فيكون قوله الكعبة مفعول أول ، وقياما مفعول ثاني ، ويحتمل أنها بمعنى خلق فيكون قياما حالا ، والبيت الحرام عطف

٤١١

بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه ، وفي قراءة قيما بلا ألف مصدر قام غير معل (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) بمعنى الأشهر الحرام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب قياما لهم بأمنهم القتال فيها (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) قياما لهم بأمن صاحبهما من التعرض له (ذلِكَ) الجعل المذكور (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٩٧) فإن جعله

____________________________________

بيان على الكعبة. إن قلت .. إن عطف البيان إنما يكون مبينا أو موضحا ، وهنا ليس كذلك ، إذ من المعلوم أن الكعبة هي البيت الحرام. أجيب بأنه للاحتراز عن بيت خثعم الذي سموه الكعبة اليمانية ، فهو هنا للتوضيح لدفع الإلباس بغيره. وأجيب أيضا بأنه جيء به لمجرد المدح ، إذ الكعبة عند العرب لا تنصرف إلّا للبيت الحرام على حد «الحمد لله رب العالمين» إذ من المعلوم أن الله هو رب العالمين. إن قلت : إن البيت جامد والمدح لا يكون إلا بمشتق. أجيب بأنه وصف بمشتق وهو الحرام ، والكعبة لغة بيت مربع ، فسميت الكعبة بذلك.

قوله : (قِياماً) أصله قواما وقعت الواو بعد كسرة قلبت ياء. قوله : (بالحج إليه) أي فهو أحد أركان الدين ، فلا يكمل إلا به ، لأن من أتى بأركان الدين ما عداه مع القدرة عليه ، فلم يكمل دينه ، وقد حرم نفسه من الرحمات المشار إليها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل من السماء كل يوم وليلة مائة وعشرون رحمة ، ستون للطائفين ، وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين». قوله : (بأمن داخله) أي الحرم لا خصوص الكعبة. قوله : (وعدم التعرض له) أي للداخل عاقلا أو غيره. قوله : (وجبى ثمرات كل شيء إليه) أي نقلها له وذلك بدعوة ابراهيم عليه‌السلام حين قال : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وقال تعالى في مقام الامتنان (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ). قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (قيما) أي على وزن عنب. قوله : (مصدر قام) أي أيضا إذ قياما مصدر له أيضا. قوله : (غير معل) أي الآن بقلب واوه ياء ، فلا ينافي أن أصله معل وهو قياما ، فالياء الثابتة في قياما هي الموجودة في قيما غير أن ألفه حذفت ، فيلاحظ أن قيما فرع عن قياما ، فلم يحصل فيه تغير إلا حذف الألف.

قوله : (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) معطوف على الكعبة ، وأل فيه للجنس فيشمل الأشهر الأربعة ، ولهذا أشار المفسر بقوله : (يعني الأشهر الخ). قوله : (قياما) قدره إشارة إلى أنه محذوف من الثاني لدلالة الأول عليه. قوله : (بأمنهم القتال فيها) أي فكانت العرب يغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، إلا في الأشهر الحرم. قوله : (وَالْهَدْيَ) أي فهو من مصالح الدين لجبره نقص الحج ، والدنيا لحصول البركة فيما بقي من ماله بسبب إنفاقه الهدي في سبيل الله ، وهكذا كل صدقة بها مصالح الدين بتكفير الذنوب ، ومصالح الدنيا بنمو المال ، ووقاية صاحبها مصارع السوء. قوله : (وَالْقَلائِدَ) أي التي كانوا يقلدون بها أنفسهم إذا خرجوا من مكة لمصالحهم ، فكانوا يأخذون من شجر الحرم شيئا ويضعونه في عنقهم إذا خرجوا ، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.

قوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) اسم الإشارة مبتدأ ، ولتعلموا خبره ، وأن واسمها وخبرها في محل نصب سدت مسد مفعولي تعلموا ، وقوله : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معطوف على أن الأولى من عطف العام

٤١٢

ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لأعدائه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لأوليائه (رَحِيمٌ) (٩٨) بهم (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) الإبلاغ لكم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) تظهرون من العمل (وَما تَكْتُمُونَ) (٩٩) تخفون منه فيجازيكم به (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) الحرام (وَالطَّيِّبُ) الحلال (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أي سرك (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ) في تركه (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠٠) تفوزون. ونزل لما أكثروا سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ) تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي في زمن

____________________________________

على الخاص. قوله : (فإن جعله ذلك) أي المتقدم ذكره وهو الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد. قوله : (لجلب المصالح) علة لما قبله ، وقوله : (دليل الخ) خبر إن. قوله : (وما هو كائن) أي الآن أو في المستقبل. قوله : (شَدِيدُ الْعِقابِ) (لأعدائه) أي الذين بطروا نعمته ، وسماهم أعداء لمخالفتهم أمره ، فكل من خالفه فهو كالعدو له ، والمعنى يعامله معاملة العدو. قوله : (لأوليائه) أي أحبابه الذين يشكرون نعمه ، وإنما قدم شديد العقاب لأنه تقدم ذكر النعم ، فحذر من الاغترار بها والطغيان فيها ، لأن الفقر مع الشكر خير من الغنى مع البطر.

قوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) هو بالرفع فاعل لفعل محذوف ، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله ، والمعنى ليس على الرسول إلا تبليغ أمر دينكم لا جزاؤكم. قوله : (الإبلاغ) أشار بذلك إلى أنه استعمل مصدر المجرد موضع المزيد في الآية لمزيد البلاغة ، لأن زيادة البنية تدل على زيادة المعنى ، ففيه الإشارة إلى أنه بلغ البلاغ الكامل. قوله : (فيجازيكم به) أي إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) معطوف على محذوف تقديره هذا إذا لم يعجبك بل ولو أعجبك ، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا يستويان ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، والمقصود من ذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطب بذلك أمته ، فليس الخطاب له ، لأنه قد زهد الحلال ، فضلا عن كونه يعجبه كثرة الحرام.

قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) (في تركه) أي ولا تتعرضوا لأخذ الحرام ، فإنه يورث غضب الله ، ولا لأخذ الشبهات أيضا ، فإنها تورث قسوة القلب. قوله : (تفوزون) أي تظفرون برضا الله ، فإن العز كل العز للمتقي. قوله : (ونزل لما أكثروا سؤاله) أي عن أمور لو أجابهم عنها لشق عليهم ، وعن أمور لو أجابهم بها لساءتهم. فالأول كسؤالهم عن الحج ، هل هو واجب في العمر مرة أو كل عام مرة؟ والثاني كسؤال رجل عن أبيه بعد موته أين هو؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه في النار. قوله : (عَنْ أَشْياءَ) أصله شياء على وزن فعلاء كحمراء استثقلت العرب النطق في كلمة يكثر استعمالها بألف بين همزتين ، خصوصا قبل الهمزة الأولى ياء فقلبوها قلبا مكانيا ، فقدموا الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قبل الشين فصار وزنه لفعاء ، وهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة. قوله : (لما فيها من المشقة) علة لقوله : (تَسُؤْكُمْ) والمشقة إما لحصول التكليف بها ، أو لحصول الإساءة والفضيحة بها ففي الحديث : «إن الله أحل لكم أشياء وحرم أشياء وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها».

قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) إن حرف شرط ، وتسألوا فعل الشرط ، وعنها متعلق بتسألوا ، والضمير

٤١٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تُبْدَ لَكُمْ) المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا عنها قد (عَفَا اللهُ عَنْها) عن مسألتكم فلا تعودوا (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٠١) (قَدْ سَأَلَها) أي الأشياء (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أنبياءهم فأجيبوا ببيان أحكامها (ثُمَّ أَصْبَحُوا) صاروا (بِها كافِرِينَ) (١٠٢) بتركهم العمل بها (ما جَعَلَ) شرع (اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كما كان أهل الجاهلية يفعلونه روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل

____________________________________

عائد على الأشياء المتقدمة ، وقوله : (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) ظرف متعلق بتسألوا ، وقوله : (تُبْدَ لَكُمْ) جواب الشرط. قوله : (المعنى إذا سألتم الخ) حاصل ما أفاده المفسر أن هنا جملتين شرطيتين ونهي ، فالأصل تأخير النهي عن الجملتين ، وتأخير الجملة الأولى عن الثانية ، وإنما قدم النهي ونتيجته وهي الإساءة اعتناء بزجر عباده ، وهذا التقديم والتأخير باعتبار المعنى ، وإلا قالوا ولا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا. قوله : (إذا سألتم عن أشياء) هو معنى الجملة الثانية ، وقوله : (متى أبداها ساءتكم) هو معنى الجملة الأولى ، وقوله : (فلا تسألوا عنها) هو معنى النهي ، وما ذكره المفسر أحد احتمالات في الآية وهو أحسنها ، قوله : (عَفَا اللهُ عَنْها) أي لم يؤاخذكم بذلك. قوله : (عن مسألتكم) أي عن جوابها ، والمعنى لم يجبكم بالتشديد مع استحقاقكم إياه بالسؤال عما لا يعنيكم ، فضلا منه ولطفا بكم. قوله : (فلا تعودوا) أي لمثل هذه الأسئلة.

قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) في معنى العلة لقوله (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عفا عنها ، لأنه غفور يستر الذنوب ويمحوها ، حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. قوله : (قد سألها) هذا امتنان من الله تعالى على هذه الأمة ، حيث لم يشدد عليهم كما شدد على من قبلهم ، رحمة منه وزجرا لهم عن وقوع مثل ذلك منهم. قوله : (أي الأشياء) أي نوع الأشياء وهو ما فيه الإساءة ، كسؤال قوم صالح أن يأتي لهم من الجبل بناقة ، وكسؤال قوم عيسى المائدة ، وكسؤال قوم موسى رؤية الله جهرة ، فأجاب سؤالهم بالتشديد عليهم في التكاليف فخالفوا فحل بهم ما حل من العذاب ، وإنما قال هنا قد سألها ولم يقل عنها إشارة إلى أن السؤال كما يتعدى بالحرف يتعدى بنفسه. قوله : (بيان أحكامها) أي أحكام الأشياء التي سألوها مع التشديد عليهم. قوله : (بتركهم العمل) أشار بذلك إلى أن الكفر إنما هو بترك العمل لا بنفس تلك الأشياء ، فالكلام على حذف مضاف.

قوله : (ما جَعَلَ اللهُ) رد إبطال لما كان عليه الجاهلية. قوله : (شرع) إن قلت إنه لم يرد في اللغة بمعنى شرع ، فالمناسب أن يفسرها بصير ، ويكون المفعول الثاني محذوفا ، والتقدير مشروعا. قوله : (مِنْ بَحِيرَةٍ) من زائدة في المفعول ، ووجد شرطها ، وهو كون مدخولها نكرة في سياق نفي. قوله : (درها) أي لبنها ، وقوله : (للطواغيت) أي خدمتها وهذا أحد أقوال في تفسير البحيرة وما بعدها وهو أصحها ، وقيل البحيرة هي الناقة متى تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر ، فتشق أذنها وتترك ، فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء ، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها ، وقيل هي الأنثى الخامسة في النتاج ، وقيل هي بنت السائبة ، وسبب هذا الاختلاف اختلاف العرب في البحيرة ، فبعضهم يطلقها على واحد من الأمور

٤١٤

عليها شيء والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر ، والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه فلا يحمل عليه شيء وسموه الحامي (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في ذلك ونسبته إليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٣) أن ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم (قالُوا حَسْبُنا) كافينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من

____________________________________

المتقدمة ، وبعضهم على واحد آخر منها وهكذا. قوله : (والسائبة كانوا الخ) وقيل هي الناقة تنتج عشر إناث ، فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ضعيف أو ولد ، وقيل هي الناقة تترك ليحج عليها حجة. قوله : (والوصيلة الناقة البكر الخ) وقيل هي الشاة التي تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين ، فإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة وقيل هي الشاة تنتج سبعة أبطن ، فإذا كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت ، فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه جميعا ، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فيتركونها معه ، فلا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء ، وقالوا خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وقيل هي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن ، ثم ما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث ، وقيل غير ذلك. قوله : (والحام فحل الإبل) وقيل هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره ، وقيل هو الفحل الذي ينتج من بين أولاده ذكورها وإناثها عشر إناث ، وقيل غير ذلك ، وقد علمت أن اختلاف تلك الأقوال لاختلاف اصطلاح الجاهلية فيها ، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى شيئا منها في دين الإسلام على جميع الأقوال. قوله : (الضراب المعدود) أي وهو عشر مرات ينشأ عن كل مرة حمل.

قوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي علماؤهم ، وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي عوامهم ، فهم كالأنعام بل هم أضل. قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) الضمير عائد على قوله وأكثرهم الذين هم عوامهم ، والقائل يحتمل أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أصحابه. قوله : (تَعالَوْا) فعل أمر بمعنى أقبلوا ، وأصله تعالوون ، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار تعالاون التقى ساكنان حذفت الألف لالتقائهما ، وحذفت النون لأن فعل الأمر يبنى على ما يجزم به مضارعه وهو يجزم بحذف النون ، وهو بفتح اللام لكل مخاطب ولو أنثى ، قال تعالى : (فَتَعالَيْنَ). قوله : (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) أي إلى الذي أنزله الله وهو القرآن ، وقوله : (وَإِلَى الرَّسُولِ) معطوف على ما ، أي وتعالوا إلى الرسول ، أي ليبين لكم أحكام الله. قوله : (أي إلى حكمه) أشار بذلك إلى أن قوله : (وَإِلَى الرَّسُولِ) على حذف مضاف ، وقوله : (من تحليل ما حرمتم) بيان لحكمه ، وهو البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ومثل ذلك في الحرمة ما يفعله بعض سفهاء العوام ، من كونهم يرسلون عجلا أو شاة على اسم ولي من الأولياء تأكل من أموال الناس ولا يتعرض لهما أحد ، فإذا نصحهم إنسان وقال لهم إن ذلك حرام ، أساؤوا الظن وقالوا إنه لا يحب الأولياء ، فإذا اعتقدوا أن ذلك قربة وطاعة فقد كفروا ، وإلا فهو من جملة المحرمات ويحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون.

٤١٥

الدين والشريعة قال تعالى (أَ) حسبهم ذلك (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٠٤) إلى الحق والاستفهام للأنكار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي احفظوها وقوموا بصلاحها (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قيل المراد لا يضركم من ضل من أهل الكتاب وقيل المراد غيرهم لحديث أبي ثعلبه الخشني سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ائتمروا

____________________________________

قوله : (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا) حسبنا مبتدأ وما وجدناه خبره. قوله : (أَ) (حسبهم ذلك) (وَلَوْ كانَ) الخ الواو في ولو للحال ، وهمزة الإنكار الواقعة قبلها داخلة على محذوف قدره المفسر والمعنى أكافيهم دين آبائهم ولو كانوا الخ ، ويصح أن تكون للعطف على جملة شرطية مقدرة قبلها ، والتقدير أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم يعلمون شيئا ويهتدون ، بل ولو كانوا لا يعلمون الخ ، نظير أحسن إلى فلان وإن أساء إليك ، أي أحسن إليه في حال عدم إساءته ، بل ولو في حال إساءته. قوله : (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) عبر هنا بيعملون ، وفي البقرة بيعقلون ، وقال هنا ما وجدنا ، وهناك ما ألفينا تفننا. قوله : (للإنكار) أي والتوبيخ.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قيل إنه مرتبط بما قبله فيكون قوله لا يضركم من ضل يعني من أهل الكتاب ، والمعنى أن الله كلفنا بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤيدوا الجزية ، فإذا أدوها كففنا أنفسنا عنهم ولا يضرنا كفرهم ، وقيل مستأنفة نزلت في العصاة ، فالمعنى عليك بحفظ نفسك ولا تتعرض لغيرك ، فلا يضرك ضلال من ضل. إن قلت : إن هذا يوهم أن المدار على هدى الإنسان في نفسه ، ولا يلزمه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ، وهو خلاف النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث النبوية. وأجيب : يحمل ذلك على من عجز عن ذلك ، وإلى هذين القولين أشار المفسر فيما يأتي بقوله قيل المراد الخ ، وفي الحقيقة المراد ما هو أعم ، فإذا امتثل العبد ما أمره الله به وترك ما نهاه عنه فلا يضره مخالفة من خالف.

قوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بنصب أنفسكم على الإغراء ، لأن عليكم اسم فعل بمعنى الزموا ، والفاعل مستتر وجوبا تقديره أنتم ، والمعنى الزموا حفظ أنفسكم وهدايتها ووقايتها من النار ، والكاف في عليكم ونظيره من أسماء الأفعال كإليك ولديك ، قيل في محل جر بعلى بحسب الأصل ، وقيل في محل نصب ولا وجه له ، وقيل في محل رفع توكيد للضمير المستتر ، وذهب ابن بأبشاذ إلى أنها حرف خطاب ، وقرىء شذوذا برفع أنفسكم ، وخرجت على أحد وجهين : الأول كونها مبتدأ وعليكم خبر مقدم ، والمعنى على الإغراء على كل حال ، فإن الإغراء جاء بالجملة الابتدائية ، ومنه قراءة بعضهم (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها). والرفع الثاني أنه توكيد للضمير المستتر في عليكم وإن كان خلاف القياس ، لأن القياس لا يؤكد بالنفس الضمير المتصل إلا بعد الضمير المنفصل لقول ابن مالك :

وإن تؤكّد الضّمير المتّصل

بالنّفس والعين فبعد المنفصل

قوله : (وقيل المراد غيرهم) أي غير أهل الكتاب من العصاة ، ليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ قد ورد أن الصديق قال يوما على المنبر : يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية ، وتضعونها في غير موضعها ، ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا

٤١٦

بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك رواه الحاكم وغيره (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) فيجازيكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) خبر بمعنى الأمر أي ليشهد وإضافة شهادة لبين على الإتساع وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي غير ملتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ) سافرتم

____________________________________

رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب ، فامروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر ، ولا تغتروا بقول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فيقول أحدكم علي نفسي ، والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من قوم عمل فيهم منكر وسن فيهم قبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلا وحق الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم». وقال الصديق أيضا إن هذه الآية تعدونها رخصة ، والله ما أنزل آية أشد منها. قوله : (سألت عنها) أي عن هذه الآية ، وقوله : (فقال) أي في بيان معناها. قوله : (شحا مطاعا) الشح نهاية البخل ، وقوله مطاعا أي يطيعه صاحبه. قوله : (وهوى) بالقصر ما تميل إليه النفس من القبائح. قوله : (متبعا) أي يتبعه صاحبه. قوله : (ودنيا مؤثرة) بهمزة ودونها ، أي يقدمها صاحبها على الآخرة. قوله : (وإعجاب كل ذي رأي برأيه) أي فلا يعجبه رأي غيره ، ولا يقبل نصيحته ، زاد الخائن في تلك الرواية بعد قوله فعليك بنفسك : ردع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ا ه. قوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فيه وعد لمن أطاع ووعيد لمن اغتر وعصى.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لما بين سبحانه ما يتعلق بمصالح الدين شرع يبين ما يتعلق بمصالح الدنيا ، إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يضبط مصالح دينه ودنياه لأنه مكلف بحفظهما. قوله : (شَهادَةُ) مبتدأ ، وبينكم مضاف إليه ، إذا ظرف بشهادة ، وحضر فعل ماض ، واحكم مفعول مقدم ، والموت فاعل مؤخر ، وحين بدل من الظرف قبله ، وقوله اثنان خبره. إن قلت : إن الذات لا يخبر بها عن المعنى ولا عكسه. أجيب : بأن الكلام على حذف مضاف ، أما في الأول تقديره ذوا شهادة أحدكم اثنان أو في الثاني تقديره شهادة اثنين ، وقوله ذوا عدل صفة لاثنان ، والعدل هو الذكر البالغ غير مرتكب كبيرة ولا صغيرة خسة وغير مصر على صغيرة غيرها. قوله : (خبر بمعنى الأمر) أي فهي جملة خبرية لفظا إنشائية معنى. قوله : (أي ليشهد) بضم الياء من أشهد الرباعي ، وتلك الشهادة يحتمل أن تكون حقيقية ، واشتراط العدالة ظاهرة ، ويحتمل أن المراد بالشهادة الوصية ، المعنى إذا حضر أحدكم الموت فليوص اثنين ، وعلى هذا فاشتراط العدالة من حيث الوصية ، أي كونه عدلا في الوصية ، بأن يحسن التصرف فيما ولي عليه ، وأما كونهما اثنين فشرط كمال ، ولكون سبب النزول كذلك كما سيأتي. قوله : (على الاتساع) أي التسمح والتجوز ، وكان حقها أن تضاف إلى الأموال ، وإنما أضيفت إلى البين لأن الشهادة على الأموال تمنع فساد البين. قوله : (بدل من إذا) أي فكل منهما ظرف لشهادة ، وقوله : (أو ظرف لحضر) أي فقوله إذا ظرف لشهادة ، أي فعلى هذا تغاير متعلق الظرفين.

قوله : (أَوْ آخَرانِ) معطوف على اثنان ، أي فإن لم يجد العدلين لكون رفقته في السفر كفارا كما هو

٤١٧

(فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما) توقفونهما صفة آخران (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم فيها ويقولان (لا نَشْتَرِي بِهِ) بالله (ثَمَناً) عوضا نأخذه بدله من الدنيا بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله (وَلَوْ كانَ) المقسم له أو المشهود له (ذا قُرْبى) قرابة منه (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) التي أمرنا بها (إِنَّا إِذاً) إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ) (١٠٦) (فَإِنْ عُثِرَ) اطلع بعد حلفهما (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فعلا ما يوجبه من خيانة أو كذب في الشهادة بأن وجد عندهما مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) في توجه اليمين عليهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الوصية وهم

____________________________________

سبب النزول فليشهد أو يوص آخرين ، وحاصله لأجل اتضاح المعنى ، أن بزيلا السهمي مولى عمرو بن العاص وقيل بديل بالدال ، وعدي بن بداء ، وتميما الداري ، سافروا من المدينة إلى الشام بتجارة ، فحضرت بزيلا السهمي الوفاة وكان مسلما ، وعدي وتميم نصرانيان ، فكتب متاعه في وثيقة ، ومن جملة ما كتب في الوثيقة : جام من الفضة قدره ثلثمائة مثقال مخوص بالذهب ، وأمرهما أن يسلما متاعه لورثته ، ثم قضي عليه ، ففتشا متاعه فوجدا ذلك الجام فأخذاه وباعاه بألف درهم ، فلما حضرا سلما متاعه لورثته فوجدوا فيه صحيفة مكتوبا فيها جميع المتاع ، ومن جملته جام من فضة ، ففتشوا عليه فلم يجدوه ، فجاؤوهما فقالوا لهما صاحبنا قد تمرض وأنفق على نفسه ، قالا لا ، قالوا : فهل باع من متاعه شيئا ، قالا : لا قالوا : فأين الجام؟ قالا : لا علم لنا به ، فارتفع أقارب بزيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بالواقعة ، فأحضر عديا وتميما فسألهما عنه فقالا : لا علم لنا به ، فنزلت الآية ، فأحضرهما بعد صلاة العصر عند المنبر وحلفهما ، ثم بعد ذلك ظهر الجام ، قيل بمكة مع رجل وقيل بيدهما ، فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فنزلت الآيتان الأخيرتان ، فأحضر رسول الله عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة وحلفهما ، فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، فأعطي الجام لهما.

قوله : (إِنْ أَنْتُمْ) شرط في المعطوف ، وقوله أنتم فاعل بفعل محذوف يفسره قوله : (ضَرَبْتُمْ) فجملة ضربتم لا محل لها من الإعراب ، لأنهما مفسرة للمحذوف ، وقوله : (فَأَصابَتْكُمْ) معطوف على ضربتم. قوله : (صفة آخران) أي وجملة الشرط ، وجوابه معترضة بين الصفة والموصوف. قوله : (أي صلاة العصر) أي فأل للعهد لأن وقت العصر معظم في جميع الملل ، وإنما كان معظما لأنه وقت نزول ملائكة الليل وصعود ملائكة النهار. قوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شرط في تحليفهما. قوله : (ويقولان) (لا نَشْتَرِي) الخ ، بيان لكيفية يمينهما. قوله : (بأن نحلف به أو نشهد الخ) أشار بذلك إلى قولين : قيل قالوا لا علم لنا به ، وقيل قالوا أوصى به لغيركم وأعطيناه له ، وسياق الآية في يمينهما يشهد للثاني. قوله : (كاذبا) المناسب كذبا.

قوله : (وَلا نَكْتُمُ) معطوف على لا نشتري. قوله : (بأن وجد عندهما) أي وقيل عند رجل مكي باعاه له بألف درهم كما سيأتي. قوله : (وادعيا أنهما ابتاعاه الخ) إشارة لوجهين في دعواهما ، وسيأتي الثالث في قوله ودفعه إلى شخص زعما أن الميت أوصى له به. قوله : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي لهم ونائب

٤١٨

الورثة ويبدل من آخران (الْأَوْلَيانِ) بالميت أي الأقربان إليه وفي قراءة الأولين جمع أول صفة أو بدل من الذين (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) على خيانة الشاهدين ويقولان (لَشَهادَتُنا) يميننا (أَحَقُ) أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما) يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) تجاوزنا الحق في اليمين (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٧) المعنى ليشهد المحتضر على وصيته اثنين أو يوصي إليهما من أهل دينه أو غيرهم إن فقدهم لسفر ونحوه فإن ارتاب الورثة فيهما فادعوا أنهما خانا بأخذ شيء أو دفعه إلى شخص زعما أن الميت أوصى له به فليحلفا إلى آخره فإن اطلع على امارة تكذيبهما فادعيا دافعا له حلف أقرب الورثة على كذبهما وصدق ما ادعوه والحكم ثابت في الوصيين منسوخ في الشاهدين وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة واعتبار صلاة العصر للتغليظ وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها وهي ما رواه البخاري أن رجلا من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي ابن بداء أي وهما نصرانيان فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فرفعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فأحلفهما ثم وجد الجام بمكة فقال ابتعناه من تميم وعدي فنزلت الآية الثانية فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا وفي رواية الترمذي فقام عمرو ابن العاص ورجل آخر منهم فحلفا وكانا أقرب إليه وفي رواية فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله فلما مات أخذا الجام ودفعا إلى أهله ما بقي (ذلِكَ) الحكم المذكور من رد

____________________________________

الفاعل قدره المفسر بقوله الوصية أي الإيصاء. قوله : (الْأَوْلَيانِ) تثنية أولى بمعنى أقرب كما قال المفسر. قوله : (جمع أول) بمعنى أسبق وهي بمعنى أسبق ، وهي بمعنى القراءة الأولى من حيث إنهم أقارب الميت. قوله : (فَيُقْسِمانِ) عطف على (يَقُومانِ). قوله : (يميننا) أي فالمراد بالشهادة اليمين.

قوله : (وَمَا اعْتَدَيْنا) هذا من جملة اليمين. قوله : (المعنى) أي معنى الآيتين. قوله : (أو يوصي) إشارة إلى التفسير الثاني. قوله : (إن فقدهم) أي أهل دينه. قوله : (بأخذ شيء) أي وقد ادعيا أنهما اشترياه من الميت أو أنه أوصى لهما به. قوله : (دافعا له) أي لما الشهود ادعى عليهما به من الخيانة. قوله : (منسوخ في الشاهدين) أي عند من يشترط الشاهد في الإسلام ، ولو عند فقد المسلمين ، وأما عند من لم يشترط ذلك عند الفقد فلا نسخ. قوله : (للتغليظ) أي لأن اليمين تغلظ بالزمان ككونها بعد العصر ، والمكان ككونها في المسجد في الحقوق المهمة من الأموال وغيرها. قوله : (وتخصيص الحلف في الآية باثنين) أي مع أنه يصح من واحد أو أكثر ممن يظن به العلم من المستحقين. قوله : (أنّ رجلا) تقدم أن اسمه بزيل وقيل بديل بالزاي أو الدال. قوله : (مع تميم) أي وقد أسلم بعد ذلك ، وصار من مشاهير الصحابة ، وكان يحدث بالواقعة. قوله : (وعدي بن بداء) ولم يثبت إسلامه ، وبداء بفتح الموحدة والدال المشددة بعدها ألف ثم همزة. قوله : (جاما) الجام في الأصل الكأس ، ولكن المراد به هنا إناء كبير من فضة وزنه ثلثمائة مثقال. قوله : (مخوصا بالذهب) أي منقوشا به. قوله : (فأحلفهما) أي بعد العصر عند المنبر. قوله : (فقال) أي الرجل ، وقوله : (ابتعناه) أي بألف درهم. قوله : (فقام رجلان) سيأتي في الرواية الأخرى

٤١٩

اليمين على الورثة (أَدْنى) أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا) أي الشهود أو الأوصياء (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة (أَوْ) أقرب إلى أن (يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) على الورثة المدعين فيحلفون على خيانتهم وكذبهم فيفتضحون ويغرمون فلا يكذبوا (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك الخيانة والكذب (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١٠٨) الخارجين عن طاعته إلى سبيل الخير اذكر (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) هو يوم القيامة (فَيَقُولُ) لهم توبيخا لقومهم (ما ذا) أي الذي (أُجِبْتُمْ) به حين دعوتم إلى التوحيد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) بذلك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١٠٩) ما غاب عن العباد وذهب عنهم علمه

____________________________________

اسم أحدهما وهو عمرو بن العاص ، والثاني هو المطلب بن وداعة. قوله : (من رد اليمين على الورثة) أي توجهها عليهم بعد أن حلف تميم وعدي وظهر كذبهما.

قوله : (أَنْ يَأْتُوا) المقام للتثنية ، وكذا قوله : (أَوْ يَخافُوا) أيضا وإنما جمع لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما ، وإنما ردت اليمين على الوارث ، مع أن حقها أن تكون من الوصي لا غير ، لأنه مدعى عليهما ، إما لظهور خيانتهما فبطل تصديقهما باليمين ، أو لتغير الدعوى أي انقلابها لأنه صار المدعى عليه مدعيا حيث ادعى الملك. قوله : (فلا يكذبوا) أي فلا يأتوا باليمين كاذبة ، والمعنى أنه إنما شرع الله رد اليمين على الورثة في مثل هذه الواقعة ، ليتحفظ الشاهد أو الوصي من اليمين الكاذبة أو يبنى على حصول الفضيحة. قوله : (إلى سبيل الخير) متعلق بيهدي ، وفي بعض النسخ إلى سبيل الشر ، فيكون متعلقا بالخارجين.

ـ تنبيه ـ ما كتبناه في تفسير تلك الآيات الثلاث هو جهل المقل ، وإلا فلم يزل العلماء يستشكلونها ، إعرابا وتفسيرا وأحكاما ، وقالوا إنها من أصعب آي القرآن وأشكله.

قوله : (اذكر) قدره المفسر إشارة إلى أن يوم ظرف متعلق بمحذوف. قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) أي الثلثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر ، أو خمسة ، والحق أنه لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قوله : (فَيَقُولُ) مقتضى الآية أنه يجمعهم في سؤال واحد ، ولكن يرى كل واحد منهم أنه المسؤول لا غيره ، وترى كل أمة أن رسولها هو المسؤول ، ولا مانع من ذلك ، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. قوله : (توبيخا لقومهم) دفع بذلك ما يقال : كيف يسأل الله الرسل مع أنه العالم بالحقيقة؟ فأجاب : بأن حكمة السؤال توبيخ الأمم على ما وقع منهم من الكفر والعصيان ، وليس المقصود أن الله يعلم شيئا لم يكن عالما به من قبل ، تنزه الله عن ذلك ، يوضح هذا الجواب قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلى أن قال : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). قوله : (أي الذي) أشار بذلك إلى أن ما اسم استفهام مبتدأ ، وذا اسم موصول خبر ، وأجبتم صلته ، والعائد محذوف قدره المفسر بقوله به ، قال ابن مالك :

ومثل ماذا بعد ما استفهام

أو من إذا لم تلغ في الكلام

قوله : (بذلك) أي بما أجبنا به. قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) علة لما قبله ، أي فعلمنا في

٤٢٠