حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

وهم المنافقون (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) قوم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الذي افترته أحبارهم سماع قبول (سَمَّاعُونَ) منك (لِقَوْمٍ) لأجل قوم (آخَرِينَ) من اليهود (لَمْ يَأْتُوكَ) وهم أهل خيبر زنى فيهم محصنان فكرهوا رجمهما فبعثوا قريظة ليسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حكمهما (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) الذي في التوراة كآية الرجم (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) التي وضعه الله عليها أي يبدلونه (يَقُولُونَ) لمن أرسلوهم (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) الحكم المحرف أي الجلد أي أفتاكم به محمد (فَخُذُوهُ) فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أفتاكم بخلافه (فَاحْذَرُوا) أن تقبلوه (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) إضلاله (فَلَنْ

____________________________________

أي لا بآمنا ، والمعنى أن إيمانهم لم يجاوز أفواههم ، وقوله : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) الجملة حالية. قوله : (وهم المنافقون) أي ويسمون الآن زنادقة.

قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يحتمل أنه معطوف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا) فيكون بيانا للذين يسارعون في الكفر أيضا وهو الأقرب ، وعليه فقوله : (سَمَّاعُونَ) حال من الذين (هادُوا) ويحتمل أنه خبر مقدم ، وقوله (سَمَّاعُونَ) صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر ، فيكون كلاما مستأنفا ، وقد مشى عليه المفسر ، وعلى كل فقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) الخ راجع للفريقين.

قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي من أحبارهم ، وسبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وقع بينه وبين قريظة صلح ، فصاروا يترددون عليه ، وبينه وبين يهود خيبر حرب ، فاتفق أنه زنى منهم محصنان شريف بشريفة ، فأفتوهم الأحبار بأنهما يجلدان مائة سوط ، ويسودان بالفحم ، ويركبان على حمار مقلوبين ، ثم إنهم بعثوا قريظة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه عن ذلك ، وقالوا لهم : إن قال لكم مثل ذلك فهو صادق ، وقوله حجة لنا عند ربنا ، وإلا فهو كذاب. فأتوه فأخبرهم بأنهما يرجمان ، وفي التوراة كذلك ، فقالوا إن أحبارنا أخبرونا بأنهما يجلدان ، فقال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تعرفون شابا أبيض أعور يقال له ابن صوريا؟ قالوا : نعم هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة ، قال : فأرسلوا إليه فأحضروه ، ففعلوا فأتاهم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت ابن صوريا؟ قال : نعم ، قال : وأنت أعلم اليهود؟ قال : كذلك يزعمون ، قال النبي : أترضون به حكما؟ قالوا : نعم ، قال النبي : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ؛ هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال : نعم والذي ذكرتني به لو لا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت ، فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : أنا خفت إن كذبت ينزل علينا العذاب ، ثم سأل النبي عن أشياء كان يعرفها من أعلامه ، فأجابه عنها فأسلم ، وأمر النبي بالزانيين فرجما عند باب المسجد. هكذا ذكر شيخنا الشيخ الجمل عن أبي السعود ولم نرها فيه ، ولكن تقدم لنا أن ابن صوريا أتى بالتوراة وقرأ ما قبل آية الرجم وما بعدها ووضع يده عليها ولم يقرأها ، فنبهه عليها عبد الله بن سلام فافتضح هو وأصحابه ، فلعلهما روايتان في إسلامه وعدمه. قوله : (أي يبدلونه) أي بأن يضعوا مكانه غيره.

قوله : (يَقُولُونَ) أي يهود خيبر ، وقوله : (لمن أرسلوهم) أي وهم قريظة. قوله : (الحكم المحرف)

٣٨١

تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في دفعها (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الكفر ولو أراده لكان (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ذل بالفضيحة والجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١) هم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) بضم الحاء وسكونها أي الحرام كالرشا (فَإِنْ جاؤُكَ) لتحكم بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) هذا التخيير منسوخ بقوله وأن احكم بينهم الآية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا وهو أصح قولي الشافعي فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب إجماعا (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ) بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢) العادلين في الحكم أي يثيبهم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) بالرجم استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق بل ما هو أهون عليهم (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التحكيم (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣) (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) من الضلالة (وَنُورٌ) بيان للأحكام (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) من بني إسرائيل (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) انقادوا لله (لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ)

____________________________________

أي في الواقع وليس المراد أنهم يقولون لهم ذلك ، بل التحريف واقع من الأحبار سرا. قوله : (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فيه رد على المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه. قوله : (ذل بالفضيحة) أي للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين ، وقوله : (والجزية) أي لليهود.

قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هم وكرره تأكيدا. قوله : (بضم الحاء وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وسمي سحتا لأنه يسحت البركة أي يمحقها ويذهبها. قوله : (كالرشا) أي والربا. قوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي بأن تردهم لأهل دينهم. قوله : (منسوخ الخ) وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا ، وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ). قوله : (وهو أصح قولي الشافعي) أي ومقابله التخيير باق وليس بمنسوخ ، وهو مشهور مذهب مالك. قوله : (مع مسلم) أي بأن كانت الدعوى بين مسلم وكافر. قوله : (وجب إجماعا) أي بإجماع الأئمة. قوله : (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس. قوله : (وَعِنْدَهُمُ) خبر مقدم ، و (التَّوْراةُ) مبتدأ مؤخر ، والجملة حال من الواو في (يُحَكِّمُونَكَ). قوله : (استفهام تعجيب) أي إيقاع للمخاطب في العجب. قوله : (بل ما هو أهون عليهم) أي وهو الجلد. قوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا بكتابهم لإعراضهم عنه وتحريفه ، ولا بك لعدم الانقياد لك في أحكامك. قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان فضل التوراة ، وأنها كتاب عظيم كله هدى ونور. قوله : (فِيها هُدىً) أي لمن أراد الله هدايته ، وأما من أراد الله شقاوته فلا تنفعه التوراة ولا غيرها ، قال البوصيري :

وإذا ضلت العقول على عل

م فماذا تقوله النصحاء

قوله : (وَنُورٌ) في الكلام استعارة مصرحة ، حيث شبهت الأحكام بالنور بجامع الاهتداء في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، وحيث أريد بالنور الأحكام ، فالمراد بالهدى التوحيد ، فالعطف مغاير. قوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) كلام مستأنف لبيان المنتفع بالتوراة ، وهم الأنبياء والعلماء والمراد بالأنبياء ما

٣٨٢

العلماء منهم (وَالْأَحْبارُ) الفقهاء (بِمَا) أي بسبب الذي (اسْتُحْفِظُوا) استودعوه أي استحفظهم الله إياه (مِنْ كِتابِ اللهِ) أن يبدلوه (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أنه حق (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرجم غيرهما (وَاخْشَوْنِ) في كتمانه (وَلا تَشْتَرُوا) تستبدلوا (بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا تأخذونه على كتمانها (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) به (وَكَتَبْنا) فرضنا (عَلَيْهِمْ فِيها) أي التوراة (أَنَّ النَّفْسَ) تقتل (بِالنَّفْسِ) إذا قتلتها (وَالْعَيْنَ) تفقأ (بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ) يجدع (بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ)

____________________________________

يشمل المرسلين ، فحكم المرسلين ظاهر ، وحكم الأنبياء بالقضاء بها لا على أنها شرع لهم. قوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي كمل إسلامهم ، وهو وصف كاشف ، لأن كل نبي منقاد لله ، وحكمة الوصف بذلك التعريض باليهود ، حيث افتخروا بأصولهم ولم يسلموا ، بل حرفوا التوراة وبدلوها.

قوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) اللام للاختصاص ، أي أحكام التوراة مختصة بالذين هادوا ، أعم من أن تكون أحكاما لهم أو عليهم. قوله : (وَالرَّبَّانِيُّونَ) معطوف على (النَّبِيُّونَ). قوله : (العلماء منهم) وقيل الزهاد ، وقيل الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره ، وهذا لا ينافي كلام المفسر ، بل يقال سموا ربانيين لكونهم منسوبين للرب لزهدهم ما سواه ، أو للتربية لكونهم يربون الخلق.

قوله : (وَالْأَحْبارُ) جمع حبر بالفتح والكسر ، وأما المداد فبالكسر لا غير من التحبير وهو التحسين ، يقال حبره إذا حسنه ، سموا بذلك لأنهم يزينون الكلام ويحسنونه ، وهو عطف على النبيون أيضا ، وقد وسط بين المعطوفات الذين هم الحكام بالمحكوم لهم ، وذكر الأحبار بعد الربانيين من ذكر العام بعد الخاص ، لأن الحبر العالم كان ربانيا أو لا. قوله : (أي بسبب الذي) أشار بذلك إلى أن الباء سببية ، وما اسم موصول بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي بسبب الذي استحفظوه ، وفاعل الحفظ هو الله أي بسبب الشرع الذي أمرهم الله بحفظه ، وقوله : (مِنْ كِتابِ اللهِ) بيان لما فالأنبياء والعلماء أمناء الله على خلقه ، يحكمون بين الناس بأحكام الله التي علمها الله لهم ، ومن لم يحكم بذلك فقد خان الله في أمانته وكذب على ربه ، فحينئذ يستحق الوعيد.

قوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) تفريع على قوله : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) والخطاب لعلماء اليهود الذين في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وغيرهما) أي كقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فغيروها وقالوا ما لم يكن القاتل شريفا وإلا فلا يقتل بالوضيع. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) نزلت في قريظة وبني النضير ، فكان الواحد من بني النضير إذا قتل واحدا من قريظة أدى إليهم نصف الدية ، وإذا قتل الواحد من قريظة واحدا من بني النضير أدى إليهم الدية كاملة ، فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة ، وكل آية وردت في الكفار تجرّ بذيلها على عصاة المؤمنين.

قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) هذا شرع من قبلنا وهو شرع لنا ولم يرد ما ينسخه ، ففي هذه الآية دليل لمذهب مالك حيث قال : شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. قوله : (أَنَّ النَّفْسَ) أن حرف توكيد ونصب ، والنفس اسمها ، وقوله : (بِالنَّفْسِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر أن ، قدره المفسر بقوله : (تقتل) وهو حل معنى لا حل إعراب ، لأن الخبر يقدر كونا عاما لا خاصا ، فالمناسب تقديره

٣٨٣

تقطع (بِالْأُذُنِ وَالسِّنَ) تقلع (بِالسِّنِ) وفي قراءة بالرفع في الأربعة (وَالْجُرُوحَ) بالوجهين (قِصاصٌ) أي يقتص فيها إذا أمكن كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وما لا يمكن فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بالقصاص بأن مكن من نفسه (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) لما أتاه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) في القصاص وغيره (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) (وَقَفَّيْنا) أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ) أي النبيين (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله (مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً) من الضلالة (وَنُورٌ) بيان للأحكام

____________________________________

تؤخذ ليصلح للجميع ، والجملة من أن واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية بكتبنا ، واعلم أنه قرىء بنصب الجميع وهو ظاهر لأنه معطوف على اسم أن ، وقرىء برفع الأربعة مبتدأ وخبر معطوف على جملة أن واسمها وخبرها ويؤول كتبنا بقلنا ، فالجمل كلها في محل نصب مقول القول وهو الأحسن ، وقرىء بنصب الجميع ما عدا الجروح فبالرفع مبتدأ وخبر معطوف على أن واسمها وخبرها.

قوله : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) بضم الذال وسكونها قراءتان سبعيتان. قوله : (بالوجهين) أي الرفع والنصب عند نصب الجميع ، وأما عند رفع ما قبله فبالرفع لا غير. قوله : (وما لا يمكن) ما اسم موصول مبتدأ ، وقوله : (فيه الحكومة) خبر قوله : (فيه الحكومة) أي بأن يقدر رقيقا سالما من العيوب ، ثم ينظر لما نقصه فيؤخذ بنسبته من الدية ، وظاهر المفسر أن كل ما لا يمكن فيه القصاص فيه الحكومة ولعله مذهبه ، وإلا فمذهب مالك الحكومة في كل ما لم يرد فيه شيء مقرر في الخطأ ، وإلا ففيه ما قرر في الخطأ كرض الأنثيين وكسر الصلب ففيه الدية كاملة ، وفي نحو الجائفة والآمة ثلثها على ما هو مبين في المذاهب. قوله : (بأن مكن) أي القاتل من نفسه للقصاص ، ويحتمل أن المعنى فمن تصدق به أي القصاص بأن عفا الولي عن القاتل فهو كفارة لما عليه من الذنوب ، والحاصل أن القاتل تعلق به ثلاث حقوق : حق لله وحق للولي وحق للمقتول ، فإن سلم القاتل نفسه طوعا تائبا سقط حق الله وحق الولي ويرضي الله المقتول من عنده ، وأما إن أخذ القاتل كرها وقتل من غير توبة فقد سقط حق الولي وبقي حق الله وحق المقتول ، هكذا ذكره ابن القيم وهو مبني على أن الحدود زواجر ، أما على ما مشى عليه مالك من أن الحدود جوابر ، فمتى قتل ولو من غير توبة فقد سقطت الحقوق كلها ، لأن السيف يجب ما قبله.

قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي لمخالفة شرع الله مع عدم استحلاله لذلك ، وعبر فيما تقدم بالكافرون لتبديلهم وتغييرهم ما أنزل الله واستحلالهم لذلك. قوله : (وَقَفَّيْنا) شروع في ذكر ما يتعلق بفضل عيسى وكتابه ، بعد ذكر فضل موسى وكتابه ، وقفينا من التقفيه وهي الإتيان في القفا ، ومعناه العقب ، وقد ضمن قفينا معنى جئنا فلا يقال يلزم عليه أن التضعيف كالهمزة ، فمقتضاه أن يتعدّى لمفعولين ، بأن يقال مثلا وقفيناهم عيسى. قوله : (أتبعنا) أي جئنا بعيسى تابعا لآثارهم. قوله : (أي النبيين) أي المتقدم ذكرهم في قوله يحكم بها النبيون ، فالأنبياء الذين بين موسى وعيسى يعملون بالتوراة ويحكمون بها بين الناس ، فلما جاء عيسى نسخ العمل بالتوراة ، وصار الحكم للإنجيل قوله : (مُصَدِّقاً) حال من عيسى ، وقوله : (مِنَ التَّوْراةِ) بيان لما. قوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) معطوف على قفينا. قوله : (فِيهِ) خبر مقدم ، و (هُدىً) مبتدأ مؤخر (وَنُورٌ) معطوف عليه ، والجملة حال من الإنجيل ، والمراد

٣٨٤

(وَمُصَدِّقاً) حال (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) لما فيها من الأحكام (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٦) قلنا (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الأحكام وفي قراءة بنصب يحكم وكسر لامه عطفا على معمول آتيناه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) متعلق بأنزلنا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله (مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً) شاهدا (عَلَيْهِ) والكتاب بمعنى الكتب (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) عادلا (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا

____________________________________

بالهدى التوحيد ، وبالنور الأحكام ، فالعطف مغاير.

قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي معترفا بأنها من عند الله وإن نسخت أحكامها ، لأن الله سبحانه وتعالى كلف أمة كل عصر بأحكام تناسبها ، فالنسخ في الأحكام الفرعية لا الأصول ، كالتوحيد فلا نسخ فيه ، بل ما كان عليه آدم من التوحيد ، هو ما عليه باقي الأنبياء. قوله : (وَهُدىً) أي ذو هدى ، أو يولغ فيه حتى جعل نفس الهدى مبالغة ، على حد زيد عدل ، وعبر أولا بقوله فيه هدى وثانيا بقوله وهدى مبالغة. قوله : (وَمَوْعِظَةً) أي أحكام يتعظون بها ، والحكمة في زيادة الموعظة في الإنجيل دون التوراة ، لأن التوراة كان فيها الأحكام الشرعية فقط ، وإنما المواعظ كانت في الألواح وقد تكسرت ، وأما الإنجيل فهو مشتمل على الأحكام والمواعظ.

قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) خصهم لأنهم المنتفعون بذلك. قوله : (وَ) (قلنا) قدره المفسر إشارة إلى أن الواو حرف عطف ، والمعطوف محذوف ، وقوله : (لْيَحْكُمْ) اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها ، والجملة مقول القول ، والمحذوف معطوف على آتينا ، والمعنى آتينا عيسى ابن مريم الإنجيل وأمرناه ومن تبعه بالحكم به. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بنصب يحكم) أي بأن مضمرة بعد لام كي. قوله : (عطفا على معمول آتيناه) فيه شيء لأنه إن أراد معموله الذي هو الإنجيل فهو غير ظاهر ، وإن أراد معموله الذي هو قوله هدى وموعظة ، والمعنى آتيناه الإنجيل لأجل الهدى والموعظة ، ولحكم أهل الإنجيل فهو صعب التركيب ، والأحسن أن قوله ليحكم متعلق بمحذوف ، والواو للاستئناف ، والمعنى وآتيناه ذلك ليحكم. قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) عبر بالفسق هنا لأنه خروج عن أمره تعالى وطاعته ، لأنه تقدمه أمر وهو قوله ليحكم ، وفي الحقيقة الفسق يرجع للظلم لأنه مخالفة الأمر ، فتعبيره بالظلم أولا ، وبالفسق ثانيا تفنن.

قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) معطوف على أنزلنا التوراة. قوله : (متعلق بأنزلنا) المناسب أن يقول متعلق بمحذوف حال من الكتاب ، وقوله : (مُصَدِّقاً) حال (مِنَ الْكِتابِ) أيضا. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) بيان لما وأل في الكتاب للجنس ، فيشمل جميع الكتب السماوية. قوله : (وَمُهَيْمِناً) المهيمن معناه الحاضر الرقيب ، فالقرآن شاهد على سائر الكتب ، وعلى من آمن من أصحابها ومن كفر. قوله : (والكتاب بمعنى الكتب) أي فأل للجنس.

قوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الخطاب للنبي والمراد غيره ، والمعنى لا يميل الحاكم بين الناس

٣٨٥

مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً) شريعة (وَمِنْهاجاً) طريقا واضحا في الدين يمشون عليه (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على شريعة واحدة (وَلكِنْ) فرقكم فرقا (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة لينظر المطيع منكم والعاصي (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) سارعوا إليها (إِلَى اللهِ) مرجعكم جميعا بالبعث (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) من أمر الدين ويجزي كلا منكم بعمله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنِ) لا (يَفْتِنُوكَ)

____________________________________

لأهوائهم بأن يحكم بها ويترك ما أنزل الله. قوله : (مِنَ الْحَقِ) بيان لما. قوله : (أيها الأمم) أي من لدن آدم إلى محمد ، فكل أمة لها شرع مختص بها ، والاختلاف إنما هو في الفروع لا الأصول ، فكل ما ورد دالا على اختلاف الشرائع كهذه الآية ، فباعتبار الفروع وما ورد دالا على الاتحاد ، كقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فمحمول على الأصول. قوله : (شِرْعَةً) أي أحكاما شرعها وبيّنها للتعبد بها ، والشريعة في كلام العرب مورد الماء الذي يقصد للشرب منه ، استعير للطريقة الإلهية ، قال بعضهم : للشريعة والمنهاج عبارة عن معنى واحد ، التكرار للتأكيد. قوله : (أُمَّةً واحِدَةً) أي جماعة متفقة على دين واحد من غير نسخ.

قوله : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) هذا هو حكمة تفرق الشرائع في الفروع. قوله : (لينظر المطيع) أي ليظهر أمر المطيع من العاصي. قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي بادروا إلى وجوه البر والطاعات قوله : (جميعا) حال من الكاف في مرجعكم ، ولا يقال هو حال من المضاف إليه وهو لا يجوز ، لأنه يقال المضاف مقتض للعمل في المضاف إليه ، قال ابن مالك :

ولا تجز حالا من المضاف له

إلّا إذا اقتضى المضاف عمله

قوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بالذي كنتم تختلفون فيه ، فيترتب على ذلك الثواب للمطيع والعقاب للعاصي.

قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) الواو حرف عطف ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على الكتاب ، التقدير وأنزلنا إليك الكتاب والحكم والفعل وإن كان أمرا لفظا ، إلا أنه في معنى المضارع ليفيد استمرار الحكم ، وليس هذا مكررا مع قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ، لأن ما تقدم في شأن رجم المحصنين ، وما هنا في شأن الدماء والديات ، لأن سبب نزولها ، أن بني النضير كانوا إذا قتلوا من قريظة قتيلا أعطوهم سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلت قريظة قتيلا من بني النضير أعطوهم مائة وأربعين وسقا ، فقال لهم رسول الله : «أنا احكم أن دم القرظي كدم النضري ، ليس لأحدهم فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة» ، فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك تريد صغارنا.

قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) سبب نزولها ، أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك ، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك ، فأبى رسول الله ، فنزلت الآية ، وقوله : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) مفعول لأجله على تقدير لام العلة ولا النافية ، وهو ما مشى عليه المفسر ، ويحتمل أنه بدل اشتمال من الهاء في احذرهم ، والمعنى احذرهم فتنتهم ، والخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره لعصمته من الفتنة.

٣٨٦

يضلوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم المنزل وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) بالعقوبة في الدنيا (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الأخرى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) (٤٩) (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) بالياء والتاء يطلبون من المداهنة والميل إذا تولوا استفهام إنكاري (وَمَنْ) أي لا أحد (أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ) عند قوم (يُوقِنُونَ) (٥٠) به خصوا بالذكر لأنهم الذين يتدبرونه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) توالونهم وتوادونهم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لاتحادهم في الكفر (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) من جملتهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) بموالاتهم الكفار

____________________________________

قوله : (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي لا بجميعها ، فعقابهم في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء ، إنما هو ببعض ذنوبهم ، وأما في الآخرة فيجازيهم على الجميع كما قال المفسر ، لأن العذاب المنقضي وإن طال لا يكفي جزاء لذنوب الكافر جميعها ، كما أن نعيم الدنيا وإن كثر ليس جزاء لأعمال المؤمن الصالحة ، وإن عذب في الدنيا بمرض أو غيره ، فهو جزاء لأعمال المؤمن السيئة ، والنعيم في الدنيا للكافر قد يكون جزاء لما عمل من الصالحات كالصدقات مثلا. قوله : (ومنها التولي) أي الإعراض عن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي خارجون عن دائرة الحق ، وتقدم أن بعث النار من كل ألف واحد ناج ، والباقي خارج عن حدود الله ، والمعنى تسل يا محمد فإن الغالب في الناس الفسق ، فلا خصوصية لليهود بذلك. قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أيتولون عنك فيبتغون حكم الجاهلية ، فحكم مفعول ليبغون. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (استفهام إنكاري) أي فهو بمعنى النفي ، والمعنى لا يبغون حكم الجاهلية منك على سبيل الظفر به لعصمتك. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، والآية كالدليل لما قبلها. قوله : (عند قوم) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى عند. قوله : «به» قدره إشارة إلى أن مفعول يوقنون محذوف ، والضمير عائد على حكم الله.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) الخ ، النهي لكل من أظهر الإيمان وإن كان في الباطن خاليا من الإيمان ، وسبب نزولها أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثيرا عددهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي إني لا أبرأ من ولاية اليهود ، فإني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت هو لك دونه» ، فقال إذا أقبل فنزلت ، واتخذ ينصب مفعولين : اليهود والنصارى مفعول أول ، وأولياء مفعول ثان. قوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) جملة مستأنفة ، والمعنى بعض كل فريق أولياء البعض الآخر من ذلك الفريق ، لأن بين اليهود والنصارى العداوة الكبرى. قوله : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي لأنه لا يوالي أحد أحدا إلا وهو عنه راض ، فإذا رضي عنه وعن دينه صار من أهل ملته ، وأما معاملتهم مع كراهتهم فلا ضرر في ذلك.

٣٨٧

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد كعبد الله بن أبي المنافق (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) في موالاتهم (يَقُولُونَ) معتذرين عنها (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) يدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد فلا يميرونا قال تعالى (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) بالنصر لنبيه بإظهار دينه (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من الشك وموالاة الكفار (نادِمِينَ) (٥٢) (وَيَقُولُ) بالرفع استئنافا بواو ودونها وبالنصب عطفا على يأتي (الَّذِينَ آمَنُوا) لبعضهم إذا هتك سترهم تعجبا (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) غاية اجتهادهم فيها (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) في الدين قال تعالى (حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) الصالحة

____________________________________

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) علة لكون من يواليهم منهم. قوله : (كعبد الله بن أبي) أي وأصحابه. قوله : (معتذرين عنها) أي الموالاة. قوله : (دائِرَةٌ) أي أمر مكروه ، فالدوائر هي حوادث الدهر وشروره ، والدولة هي العز والنصر ، فالمؤمن لا ينتظر إلا الدولة لا الدائرة. قوله : (أو غلبة) أي للكفار على المسلمين. قوله : (فلا يميرونا) أي يعطونا الميرة وهي الطعام. قوله : (قال تعالى) أي ردا لقول المنافقين : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) وبشارة للمؤمنين لاعتقادهم أن الله ناصرهم ، ففي الحديث : «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء».

قوله : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) أو مانعة خلو تجوز الجمع ، وقد حصل الأمران معا ، فقد روي أن رسول الله أمر وهو على المنبر بإخراجهم من المسجد واحدا واحدا ، ونزلت سورة براءة بفضيحتهم وذمهم ظاهرا وباطنا ، ولذا تسمى الفاضحة وعسى وإن كانت للترجي إلا أنها في كلام الله للتحقيق ، لأن كلامه موافق لعلمه وهو لا يتخلف.

قوله : (فَيُصْبِحُوا) عطف على يأتي ، وفاء السببية مغنية عن الربط. قوله : (نادِمِينَ) أي على تخلف مرادهم وحسرتهم ، من أجل نصر محمد وأصحابه ، وخذلان الكفار ، وليس المراد نادمين على ما تقدم منهم من الذنوب ، تائبين من ذلك ، وإلا فيكون حينئذ ندما محمودا لغلبة رحمة الله على غضبه. قوله : (بالرفع استئنافا) أي نحويا أو بيانيا واقعا في جواب سؤال مقدر تقديره ماذا يقول المؤمنون حينئذ بناء على جواز اقتران البياني بالواو ، وأما على قراءة عدم الواو فيكون بيانيا لا غير قوله : (عطفا على يأتي) أي مسلط عليه عسى ، والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح ويقول : (الَّذِينَ آمَنُوا) تعجبا من كذب المنافقين ، هكذا ذكر المفسر ، والمناسب أن يقول عطفا على فيصبحوا ، لأنه نتيجة ما قبله ، لأن تعجب المؤمنين ناشىء عن الفتح لهم والفضيحة للمنافقين.

قوله : (أَهؤُلاءِ) الهمزة للاستفهام التعجبي ، والهاء للتنبيه ، وأولاء اسم إشارة مبتدأ ، و (الَّذِينَ) خبره ، و (أَقْسَمُوا) صلته ، وقوله : (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) جملة تفسيرية لمعنى أقسموا ، لأن يمينهم إنا معكم. قوله : (غاية اجتهادهم) أشار بذلك إلى أن جهد صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق لأقسموا ، والتقدير إقساما. (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أغلظها. قوله : (تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) من كلامه تعالى إخبار عن المنافقين ، لا من كلام المؤمنين ، لأنهم لا علم لهم بذلك. قوله : (الصالحة) أي بحسب الظاهر.

٣٨٨

(فَأَصْبَحُوا) صاروا (خاسِرِينَ) (٥٣) الدنيا بالفضيحة والآخرة بالعقاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ) بالفك والإدغام يرجع (مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) إلى الكفر إخبار بما علم الله تعالى وقوعه وقد ارتد جماعة بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) بدلهم (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم قوم هذا

____________________________________

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا تحذير عام لكل مؤمن من موالاة الكفار ، وبيان عاقبة من والاهم ومال إلى دينهم. قوله : (مَنْ يَرْتَدَّ) من اسم شرط جازم ، ويرتد فعل الشرط ، وجوابه قوله : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) الخ ، والجملة خبر المبتدأ. قوله : (بالفك والإدغام) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (قد ارتدّ جماعة بعد موت النبي) أي وهم ثمان فرق : سبعة في خلافة أبي بكر ، وفرقة في زمن عمر ، وارتد ثلاث فرق أيضا في زمن رسول الله ، بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار لقب به لأنه كان له حمارا يأتمر بأمره وينتهي بنهيه ، وهو الأسود العنسي بفتح العين وسكون النون ، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله ، فكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن ، فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي فبيته وقتله ، فأخبر رسول الله بقتله ليلة قتله ، فسرّ المسلمون بذلك ، وقبض رسول الله من الغد ، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول ، وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب ، تنبأ وكتب إلى رسول الله : من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ، ونصفها لك ، فكتب إليه رسول الله : من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ، وهلك في خلافة أبي بكر على يد وحشي غلام مطعم بن عدي قاتل حمزة فكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام ، وبنو أسد وهم قوم طلحة بن خويلد تنبأ ، فبعث إليه رسول الله خالد بن الوليد فقاتله ، فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، والسبع اللاتي في خلافة أبي بكر الصديق هم : فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم وبنو يربوع قوم مالك بن بريدة اليربوعي ، وبعض تميم وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي ، وبنو بكر بن وائل ، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق حين خرج لقتالهم حيث منعوا الزكاة ، فكره ذلك الصحابة وقالوا هم أهل القبلة فكيف نقاتلهم؟ فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره ، فقال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء وحمدناه في الانتهاء ، وقال بعض الصحابة : ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة. والفرقة التي ارتدت في زمن عمر بن الخطاب هم غسان ، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه. قوله : (بدلهم) أي بدل المرتدين ، فالضمير عائد على من باعتبار معناها ، وأشار به إلى الرابط بين المبتدأ وخبره ، وهذا لا يحتاج له إلا على قول بأن الجزاء وحده هو الخبر ، وأما على القول بأن الخبر هو مجموع فعل الشرط والجزاء أو الفعل وحده ، فلا حاجة لتقديره ، لأنه موجود في يرتد. قوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) عنى محبة الله لهم إقامتهم له في خدمته مع الرضا والإثابة ، ومعنى محبتهم لله موالاة طاعته وتقديم خدمته على كل شيء ، ولما كانت محبتهم لله ناشئة عن محبة الله لهم ، قدم محبة الله لهم. قال العارف رضي الله عنه على لسان الحضرة العلية :

أيّها المعرض عنّا

إنّ أعراضك منّا

لو أردناك جعلنا

كلّ ما فيك يردنا

٣٨٩

وأشار إلى أبي موسى الأشعري رواه الحاكم في صحيحه (أَذِلَّةٍ) عاطفين (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ) أشداء (عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فيه كما يخاف المنافقون لوم الكفار (ذلِكَ) المذكور من الأوصاف (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل (عَلِيمٌ) (٥٤) بمن هو أهله ونزل لما قال ابن سلام يا رسول الله إن قومنا هجرونا (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥٥) خاشعون أو يصلون صلاة التطوع (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فيعينهم وينصرهم (فَإِنَّ حِزْبَ

____________________________________

قوله : (وأشار إلى أبي موسى الأشعري) أي فالقوم الأشعريون ، وقيل هم أبو بكر وأصحابه الذين باشروا قتال المرتدين ، والأقرب أن الآية عامة لأصحاب رسول الله ومن كان على قدمهم إلى يوم القيامة بقرينة التسويف. قوله : (أَذِلَّةٍ) جمع ذليل وقوله : (عاطفين) أشار به إلى أن أذلة مضمن معنى عاطفين لتعديته بعلى ، والمعنى متواضعين لأنهم مغلظين على الكفار ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). قوله : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دينه. قوله : (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) تعريف بالمنافقين ، فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أوليائهم اليهود لئلا يحصل منهم اللوم لهم. قوله : (ذلِكَ) (المذكور) أي من الأوصاف الستة. قوله : (ونزل لما قال ابن سلام الخ) أي لما أسلم هجره قومه قريظة وبنو النضير.

قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) الخطاب لعبد الله بن سلام وأتباعه الذين هداهم الله إلى الإسلام ، فلما نزلت هذه الآية ، قال عبد الله بن سلام : رضيت بالله ربا ، وبرسوله نبيا ، وبالمؤمنين أولياء ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من انتسب لله فهو وليه ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). قوله : (وَرَسُولُهُ) أي لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة ، وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) أي لكونهم الإخوان ، فمن تخلى عنه رسول الله أو المؤمنون فهو هالك ، لأن موالاة الثلاثة شرط في صحة الإيمان. قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بدل من الذين قبله ، ومعنى إقامة الصلاة أداؤها بشروطها وأركانها وآدابها. قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي الحقوق التي عليهم في أموالهم.

قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) الجملة حالية من يقيمون ويؤتون ، وقوله : (خاشعون) أي فأطلق الركوع وأراد لازمه وهو الخشوع. قوله : (أو يصلون صلاة التطوع) أي فالمراد بالركوع صلاة النوافل وخصها بالذكر ، لأن نفل الصلاة أفضل من نفل غيرها ، وعليه فجملة وهم راكعون معطوفة على ما قبلها ، فتحصل أنه وصفهم بأوصاف ثلاثة : إقامة صلاة الفرائض ، وإيتاء الزكاة ، وصلاة النوافل ، وقيل قوله وهم راكعون حال من فاعل يؤتون الزكاة ، والمراد بها ما يشمل صدقة التطوع والركوع على حقيقته ، والمراد كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ، روي أنها نزلت في علي كرّم الله وجهه حين سأله سائل وهو في الصلاة فنزع خاتمه وأعطاه له.

قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) من اسم شرط ، يتول فعله ، والله مفعول يتول والمعنى يختار الله وليا يعبده ويلتجىء إليه ، ويختار رسوله وليا بأن يؤمن به ويتوسل به ويعظمه ويوقره ، ويختار الذين آمنوا أولياء بأن يعينهم وينصرهم ويوقرهم إذا حضروا ويحفظهم إذا غابوا ، وقوله : (فَإِنَ

٣٩٠

اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) لنصره إياهم أوقعه موقع فإنهم بيانا لأنهم من حزبه أي أتباعه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً) مهزوءا به (وَلَعِباً مِنَ) للبيان (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) المشركين بالجر والنصب (أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ) بترك موالاتهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥٧) صادقين في إيمانكم (وَ) الذين (إِذا نادَيْتُمْ) دعوتم (إِلَى الصَّلاةِ) بالأذان (اتَّخَذُوها) أي الصلاة (هُزُواً وَلَعِباً) بأن يستهزؤوا بها ويتضاحكوا (ذلِكَ) الاتخاذ (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨) ونزل لما قال اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن تؤمن من الرسل فقال بالله

____________________________________

حِزْبَ اللهِ) الخ ، يحتمل أنها جواب الشرط ، وإنما أوقع الظاهر موقع المضمر لنكتة التشريف ، ويؤخذ ذلك من عبارة المفسر ، ويحتمل أنها دليل الجواب ، والجواب محذوف تقديره يكن من حزب الله. قوله : (هُمُ الْغالِبُونَ) أي القاهرون لأعدائهم.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) لا ناهية ، وتتخذوا مجزوم بلا الناهية ، والذين مفعول أول للاتتخذوا الأولى ، واتخذوا الثانية صلة الذين ، ومفعولها الأول قوله دينكم ، ومفعولها الثاني هزوا ولعبا ، وقوله : (أَوْلِياءَ) مفعول ثان للاتتخذوا الأولى. قله : (مِنَ) (للبيان) أي فهو بيان للذين اتخذوا دينكم ، فالمعنى لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا وهم الذين أوتوا الكتاب. قوله : (المشركين) إنما اقتصر عليهم وإن كان الجميع كفارا ، لتحصل المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله : (بالجر) أي عطف على مجرور من ، وقوله : (والنصب) أي عطف على الذين الواقع مفعولا به ، فعلى الأول الاستهزاء واقع من الفريقين ، وعلى الثاني واقع من أهل الكتاب فقط ، وثبوت الاستهزاء لغيرهم مأخوذ من آية أخرى له. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فاتركوا موالاتهم ، فيؤخذ من الآية أن من والاهم فليس بمؤمن ، فهو وعيد عظيم لمن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين. قوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ) يحتمل أنه معطوف على الذين المجرور بمن ، وعليه فالمستهزؤون ثلاث فرق ، ويحتمل أنه معطوف على الذين الواقع مفعولا به ، فيكون من جملة أوصاف الفريق الأول. قوله : (بالأذان) ورد أن المنافقين والكفار كانوا إذا سمعوا الأذان ضحكوا وقالوا : يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى قبلك من الأمم ، فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ، ولو كان فيك خير لكان أولى الناس به الأنبياء ، فمن أين لك صياح العير ، فما أقبح هذه الصوت وهذا الأمر ، فنزلت آية (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) وهذه الآية.

قوله : (لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعون ولا يتأملون جلال الله وهيبته ، ولو عقلوه ما ساعهم الاستهزاء ، ولذا ورد أن رسول الله كان إذا نودي بالصلاة تغيرت حالته ، قال بعض الصحابة ، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه ، وكان علي إذا سمع للنداء ينتفع لونه ، وهذا الوعيد يجر بذيله على من يتعاطى الضحك وأسبابه في الصلاة ، ولذلك جعله أبو حنيفة من مبطلات الوضوء والصلاة ، وجعله غيره من مبطلات الصلاة فقط ، وإنما لم يكفروا فاعله ، لأنه لم يكن مستهزئا بأمر الله حقيقة ، وإلا كان كافرا إجماعا وداخلا في عموم الكفار. قوله : (ونزل لما قال اليهود) أي سبب نزولها ، قول طائفة من اليهود ، كأبي يسار ورافع بن أبي رافع وآزر بن آزر ، وقصدهم بهذا السؤال اختباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قل هو مؤمن بعيسى فيخالفوه ، أولا فيتبعوه لكراهتهم له. قوله : (بمن تؤمن من الرسل) أي بأي رسول تؤمن؟ قوله : (فقال بالله) متعلق بمحذوف

٣٩١

وما أنزل إلينا الآية فلما ذكر عيسى قالوا لا نعلم دينا شرا من دينكم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ) تنكرون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) إلى الأنبياء (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٥٩) عطف على أن آمنا المعنى ما تنكرون إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبوله المعبر عنه بالفسق اللازم عنه وليس هذا مما ينكر (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ) أهل (ذلِكَ) الذي تنقمونه (مَثُوبَةً) ثوابا بمعنى جزاء (عِنْدَ اللهِ) هو (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أبعده عن رحمته

____________________________________

تقديره أؤمن بالله ، وقوله : (الآية) أي إلى قوله : (مسلمون) وتلك الآية هي آية البقرة التي أولها (قولوا آمنا) الآية.

قوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ) جمهور القراء على كسر القاف من نقم بفتحها وهو الفصيح ، وقرىء شذوذا بفتح القاف ، وماضيه نقم بكسرها ، وهو في الأصل النقض ، ثم أطلق على الكراهية والإنكار ، ولذا عدى بمن دون على. قوله : (مِنَّا) أي من أوصافنا وأخلاقنا. قوله : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) استثناء مفرغ ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لتنقموا ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى لا تنكرون ولا تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بالله الخ. قوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي من سائر الكتب السماوية.

قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) قرأ الجمهور بفتح الهمزة ، وقرىء شذوذا بكسرها على الاستئناف. قوله : (عطف على أن آمنا) أي فهو في محل نصب على حذف مضاف تقديره واعتقادنا أن أكثركم فاسقون ، وإنما قدرنا المضاف لصحة العطف ، فإن المعطوف على الصفة صفة ، وكون أكثرهم فاسقين وصف لهم لا لنا ، فقدر المضاف لذلك ، ويصح أنه منصوب على المعية ، والمعنى إلا إيماننا مع كون أكثركم فاسقين ، مع تقدير المضاف ، أي مع اعتقادنا أن أكثركم فاسقون ، ويحتمل أنّ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره وفسق أكثركم ثابت عندنا ، ويحتمل أنه في محل جر معطوف على لفظ الجلالة مسلّط عليه آمنا ، التقدير وما تكرهون منا إلا إيماننا بالله ، وإيماننا بأن أكثركم فاسقون. قوله : (المعنى ما تنكرون الخ) إنما أتى بذلك جوابا عن سؤال مقدر ، تقديره إن. قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) وصف لهم ، وأما الإيمان فهو وصف لنا ، فيشكل عطف ما ليس وصفا لنا على ما هو وصف لنا ، فلذلك حول المفسر العبارة. قوله : (ومخالفتكم) من إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل محذوف تقديره مخالفتنا إياكم. قوله : (المعبر عنه بالفسق) أي فأطلق اللازم وهو الفسق ، وأراد الملزوم وهو عدم قبول الإيمان ، ثم أطلق وأريد لازمه ، وهو مخالفتنا لهم في اتصافنا بقبول الإيمان وهم بعدمه ، وقوله : (في عدم قبوله) أي الإيمان. قوله : (وليس هذا مما ينكر) تتميم للكلام ، إشارة إلى أن الاستفهام إنكاري.

قوله : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ) هذا الكلام من باب المقابلة ، لأنه في مقابلة اليهود لا نعلم دينا شرا من دينكم. قوله : (الذي تنقمونه) أي وهو ديننا. قوله : (مَثُوبَةً) تمييز لشر. قوله : (بمعنى جزاء) أي بالعقاب ، وكان على المفسر أن يزيده ، فتسمية الجزاء بالعقاب ثوابا تهكم بهم على حد (فبشرهم بعذاب أليم). قوله : (هو) (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أشار بذلك إلى أن قوله من لعنه خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هو ، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره ومن الأشر.

٣٩٢

(وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) بالمسخ (وَ) من (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) بطاعته الشيطان وراعى في منهم معنى من وفيما قبله لفظها وهم اليهود وفي قراءة بضم باء عبد وإضافته إلى ما بعده اسم جمع لعبد ونصبه بالعطف على القردة (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) تمييز لأن مأواهم النار (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٦٠) طريق الحق وأصل السواء الوسط وذكر شر وأضل في مقابلة قولهم لا نعلم دينا شرا من دينكم (وَإِذا جاؤُكُمْ) أي منافقو اليهود (قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا) إليكم متلبسين (بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) من عندكم متلبسين (بِهِ) ولم يؤمنوا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) (٦١) ه من النفاق (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي اليهود (يُسارِعُونَ) يقعون سريعا (فِي الْإِثْمِ) الكذب (وَالْعُدْوانِ) الظلم (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) الحرام كالرشا (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٢) عملهم هذا (لَوْ لا) هلا (يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) منهم (عَنْ قَوْلِهِمُ

____________________________________

قوله : (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي انتقم منه على سبيل الأبد. قوله : (بالمسخ) أي فجعل شبابهم قردة ومشايخهم خنازير. قوله : (الشيطان) تقدم أنه أحد تفاسير في الطاغوت ، وقيل هو كل ما أوقع في الضلال ، وعابده هو التابع له في الضلال. قوله : (وفيما قبله) أي وهو لعنه وغضب عليه ، وكذلك راعى لفظها في (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ). قوله : (وفي قراءة) أي سبعية لحمزة ، وقوله : (اسم جمع لعبد) أي لا جمع له بل جمعه أعبد ، قال ابن مالك : لفعل اسما صح عينا أفعل. قوله : (ونصبه بالعطف على القردة) أي فتكون الصلات ثلاثا وهي : لعنه ، وغضب عليه ، وجعل الرابعة على القراءة الأولى عبد. قوله : (تمييز) أي تمييز نسبة ، ونسب الشر للمكان ، وحقه لأهله كناية عن نهايتهم في ذلك. قوله : (وذكر شر) أي المجرور في قوله بشر ، والمرفوع في قوله أولئك شر ، وقوله : (في مقابلة قولهم الخ) جواب عن سؤال مقدر ، تقديره كيف ذلك مع أن المؤمنين لا شر عندهم ، فأجاب بما ذكر ، وأجيب أيضا بأن شر المؤمنين باعتبار تعبهم في الدنيا ، فعذاب الآخرة للكفار ، أشر من ضيق الدنيا على المؤمنين ، وأجيب أيضا : بأن المفضل عليه جماعة من الكفار ، فيكون المعنى : هؤلاء المتصفون بتلك الأوصاف ، شر من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال.

قوله : (وَإِذا جاؤُكُمْ) الخطاب للنبي ، فجمعه للتعظيم أوله ، ومن عنده من المؤمنين ، فالجمع ظاهر. قوله : (وَقَدْ دَخَلُوا) الجملة حالية من فاعل (قالُوا) ، وكذا. قوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ). قوله : (متلبسين) قدره إشارة إلى أن قوله : (بِالْكُفْرِ) متعلق بمحذوف حال من فاعل دخلوا ، وكذا قوله به حال من فاعل خرجوا.

قوله : (وَتَرى كَثِيراً) رأى بصرية تنصب مفعولا واحدا وهو قوله كثيرا ، وقوله : (يُسارِعُونَ) حال من قوله كثيرا. قوله : (كالرشا) بضم الراء وكسرها من الرشوة بضم وكسر ، فالمضموم للمضموم ، والمكسور للمكسور ، وأدخلت الكاف الربا. قوله : (عملهم هذا) قدره إشارة للمخصوص بالذم. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن لو لا للتحضيض والتوبيخ لعلمائهم ، حيث لم ينهوهم عما ارتكبوه من المخالفات. قوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) عبر في جانب العوام بيعملون ، وفي جانب العلماء بيصنعون ، لأن

٣٩٣

الْإِثْمَ) الكذب (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣) ه ترك نهيهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ) لما ضيق عليهم بتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كانوا أكثر الناس مالا (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) مقبوضة عن إدرار الرزق علينا كنوا به عن البخل تعالى الله عن ذلك قال تعالى (غُلَّتْ) أمسكت (أَيْدِيهِمْ) عن فعل الخيرات دعاء عليهم (وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) مبالغة في الوصف بالجود وثني اليد لإفادة الكثرة إذا غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) من

____________________________________

الصنع أبلغ من العمل ، إذ هو عمل مع إتقان ، فذمهم بأبلغ وجه ، وكل آية وردت في الكفار فإنها تجر بذيلها على عصاة المؤمنين ، قال ابن عباس : هذه أشد آية في القرآن ، يعني في حق العلماء. وقال الضحاك : ما في القرآن أخوف آية عندي منها.

قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) أي بعضهم وهو فنحاص بن عازوراء ، وإنما نسب القول لهم عموما لرضاهم به ولم ينهوا عنه. قوله : (بتكذيبهم) الباء سببية. قوله : (بعد أن كانوا أكثر الناس مالا) أي وأخصب أرضا. قوله : (مقبوضة) أي ممسوكة عن بسط العطاء لنا. قوله : (كنوا به عن البخل) أي لأنه يلزم من قبض اليد عن الإعطاء للمستحقين البخل. قوله : (تعالى الله عن ذلك) أي تنزه سبحانه عن ما وصفوه به من البخل ، لأن البخل هو منع المستحق من حقه ، وليس لأحد حق على الله تعالى ، بل هو الكريم الحقيقي الذي عم عطاؤه والطائع والعاصي لا لغرض ولا لعوض. قوله : (دعاء) إما بالرفع خبر لمحذوف والتقدير هو دعاء ، أي طلب من نفسه بنفسه غلول أيديهم ، ويصح النصب على أنه مفعول لأجله ، أي قال تعالى لأجل الدعاء عليهم.

قوله : (وَلُعِنُوا) معطوف على (غُلَّتْ) فهو في حين الدعاء ، فبسبب هذه المقالة صاروا أشقياء آيسين من رحمة الله ، فلم يوفقوا لفعل خير بعد ذلك أبدا ، وطردوا عن رحمة الله في الدنيا والآخرة. قوله : (بَلْ يَداهُ) إضراب إبطالي ، ويداه مبتدأ ، و (مَبْسُوطَتانِ) خبره ، وجملة ينفق : إما خبر ثان أو استئناف بياني ، وكيف اسم شرط ، ويشاء فعل الشرط ، ومفعوله محذوف تقديره الإنفاق له ، وجوب الشرط محذوف دل عليه قوله ينفق. قوله : (مبالغة في الوصف بالجود) أي الإعطاء الكثير الذي عم الطائع والعاصي ، واعلم أن معاملة الله للمؤمنين بالفضل إعطاء أو منعا ، لأنه ما منعهم عطاء الدنيا إلا لكونه ادخر لهم ما هو أعظم منه في الآخرة ، وأما معاملته للكفار ، فبالفضل عند الإعطاء ، وبالعدل عند المنع ، فلا يوصف بالبخل على كل حال تنزه الله عنه ، لأن البخل هو منع المستحق من حقه ، وتعالى الله عن أن يكون لأحد حق عليه. قوله : (وثني اليد الخ) أي فذكر اليدين مشاكلة ، والتثنية كناية عن كثرة العطاء ، لكن على مراده هو ، لا على مراد عبيده ، لأنه ليس لأحد حق عليه يطلبه منه ، ثم في إطلاق اليد على الله طريقتان : طريقة السلف أن اليد صفة من صفاته أزلية ، كالسمع والبصر ، ينشأ عنها الخير لا الشر ، فهي أخص من القدرة ، لأن القدرة ينشأ عنها جميع الممكنات ، إيجادا وإعداما ، خيرا أو شرا ، ولا يعلمها إلا هو ، ويشهد لما قلنا. قوله تعالى : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي اصطفيته ، ولم يقل بقدرتي ، وطريقة الخلف أن اليد تطلق بمعنى الجارحة ، وهي مستحيلة على الله ، وتطلق على القدرة والنعمة والملك ، ويصح إرادة كل منهما في حق الله. إن قلت : على تفسيرها بالقدرة أو النعمة ، فلم ثنيت

٣٩٤

توسيع وتضييق لا اعتراض عليه (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن (طُغْياناً وَكُفْراً) لكفرهم به (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فكل فرقة منهم تخالف الأخرى (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) أي لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما أرادوه ردهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي مفسدين بالمعاصي (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤) بمعنى أنه يعاقبهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّقَوْا) الكفر (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٦٥) (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالعمل بما فيهما ومنه الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتب (مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) بأن يوسع عليهم الرزق ويفيض من كل جهة (مِنْهُمْ أُمَّةٌ) جماعة (مُقْتَصِدَةٌ) تعمل به ومنهم من

____________________________________

ثانيا بعد إفرادها أولا؟ أجيب : بأن التثنية لإفادة كثرة الكرم والعطاء كما قال المفسر إن قلت : على تفسيرها بالنعمة فمقتضاه جمعها لأن النعم كثيرة ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أجيب : بأن التثنية بحسب الجنس ، لأن النعم جسان مثل : نعمة الدنيا ونعمة الدنيا ، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ، ونعمة الإعطاء ونعمة المنع ، وتحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة ، وما قلنا عقائد المؤمنين ، وعقيدة اليهود أنها الجارحة لأنهم مجسمة. قوله : (من توسيع وتضييق) أي على مقتضى المصلحة والحكمة الإلهية ، ففي الحديث «إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ، فلو أغنيته لفسد حاله ، وإن عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ، فلو أفقرته لفسد حاله». قوله : (فكل فرقة منهم) أي اليهود كالجبرية والقدرية والمشبهة والمرجئة ، والنصارى كذلك فرق كالملكانية والنسطورية واليعقوبية والماردانية. إن قلت : إن المسلمين فرق أيضا؟ أجيب : بأن افتراق المسلمين في الفروع لا الأصول ، وكلهم على خير مسلمين لبعضهم ، وأما من خرج عن ذلك فهو ضال مضل.

قوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) أي بتعاطي أسبابه ومبادئه. قوله : (ردهم) أي قهرهم وجعلهم أذلة خاشعين. قوله : (أي مفسدين) أشار بذلك إلى أنه حال من فاعل يسعون ، ويصح أن يكون مصدرا مؤكدا ليسعون من معناه.

قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) بيان لحالهم في الآخرة ، فهو تردد لهم لعلهم يهتدون ، ومن هنا لا يجوز لعن كافر معين حي ، لأنه يحتمل أنه يهتدي. قوله : (من الكتب) أي ككتاب شعياء ، وكتاب دانيال ، وكتاب أرمياء ، ففي هذه الكتب أيضا ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمراد بإقامة الكتب الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن ، لأنهم مأمورون بالإيمان به ، لأنهم من جملة أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعل هذا هو الأقرب. قوله : (بأن يوسع عليهم الرزق) أي بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض ، ويؤخذ من هذه الآية أن طاعة الله سبب في الرزق ، ومعاصيه سبب في قبضه ، قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً). وقال عليه الصلاة والسّلام : «إذا رأيت قساوة في قلبك وحرمانا في رزقك ووهنا في بدنك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك». قوله : (مُقْتَصِدَةٌ) أي معتدلة ليست مفرطة ولا مفرطة ، وقوله : (تعمل به)

٣٩٥

آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ) بئس (ما) شيئا (يَعْمَلُونَ) (٦٦) (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) جميع (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ولا تكتم شيئا خوفا أن تنال بمكروه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي لم تبلغ جميع ما أنزل إليك (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) بالإفراد والجمع لأن كتمان بعضها ككتمان كلها (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أن يقتلوك وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس

____________________________________

أي بالقرآن أو بما ذكر من التوراة وما بعدها. قوله : (ومنهم من آمن) الأوضح أن يحذف قوله ومنهم من آمن ، ويقتصر على قوله كعبد الله الخ ، كما قال غيره من المفسرين ، وفي نسخة وهم من آمن وهي الصواب. قوله : (وَكَثِيرٌ) مبتدأ وجملة (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) خبره ، وساء كلمة ذم. وما مميز وقيل فاعل. وجملة يعملون : إما صلة إن جعلت ما موصولة أو صفة إن جعلت نكرة ، والعائد محذوف قدره المفسر.

قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) سبب نزولها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث ضاق ذرعا لعلمه أن قوما يكذبونه ولا بد ، فنزلت الآية تسلية له ، وفي ندائه بيا أيها الرسول شهادة له بالرسالة ، وأل في الرسول للعهد الحضوري ، أي الرسول الحاضر وقت نزولها ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (جميع) قدره إشارة إلى أن ما اسم موصول بمعنى الذي ، ولا يصح تقديرها نكرة ، لأنه يصدق بتبليغ البعض مع أنه غير مكلف ، واعلم أن ما أوحي إلى رسول الله ، ينقسم إلى ثلاثة أقسام : ما أمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموما فقد بلغه ولم يزد عليه حرفا ولم يكتم منه حرفا ولو جاز عليه الكتم لكتم آيات العتاب الصادرة له من الله ، كآية عبس وتولى ، وآية ما كان لنبي أن يكون له أسرى ، وسورة تبت يدا أبي لهب ، ولفظ قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، وقد شهد الله له بتمام التبليغ ، حيث أنزل قبيل وفاته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وورد أنه قال لعزرائيل حين قبض روحه : اقبض فقد بلغت ، وما أمر بكتمه فقد كتمه ولم يبلغ منه حرفا ، وهو جميع الأسرار التي لا تليق بالأمة ، وما خير في تبليغه وكتمه ، فقد كتم البعض وبلغ البعض ، وهو الأسرار التي تليق بالأمة ، ولذا ورد عن أبي هريرة أنه قال : أعطاني حبيبي جرابين من العلم ، لو بثثت لكم أحدهما لقطع مني هذا الحلقوم. قوله : (خوفا أن تنال بمكروه) أي يمنعك عن مطلوبك ، كالقتل والأسر ومنع الخلق عنك فإنك معصوم من ذلك ، وأما مثل السب فتحمله ، ولا يكن مانعا لك من التبليغ ، وهذا إخبار من الله بأن رسوله لم يكتم شيئا ، فهو معصوم من الكتمان لاستحالته عليه. قوله : (بالإفراد والجمع) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وعلى كل فهو مفعول لبلغت ، فعلى الإفراد منصوب بالفتحة الظاهرة ، وعلى الجمع منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم ، والمعنى واحد على كل ، لأن المفرد المضاف يفيد العموم. قوله : (لأن كتمان بعضها الخ) أشار بذلك إلى دفع سؤال ورد على الآية. وحاصله أن ظاهر قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) اتحاد الشرط ، والجواب لأنه ينحل المعنى إن لم تبلغ فما بلغت. وحاصل الجواب أن المعنى وإن تركت شيئا مما أمرت بتبليغه ولو حرفا ، فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به ، لأن كتمان بعضه ككتمان كله.

قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) أي يحفظك وهو من تمام الأمر بالتبليغ. قوله : (أن يقتلوك) دفع ما قيل إنه أوذي أشد الإيذاء قولا فأجاب بأن المراد العصمة من القتل ، وما في معناه من كل ما يعطل عليه التبليغ وهكذا كل نبي أمر بالقتال ، وما ورد من قتل بعض الأنبياء ، فلم يكونوا مأمورين بالقتال. قوله :

٣٩٦

حتى نزلت فقال انصرفوا فقد عصمني الله رواه الحاكم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧) (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدين معتد به (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) بأن تعملوا بما فيه ومنه الإيمان بي (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن (طُغْياناً وَكُفْراً) لكفرهم به (فَلا تَأْسَ) تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٦٨) إن لم يؤمنوا بك أي لا تهتم بهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود مبتدأ (وَالصَّابِئُونَ) فرقة منهم (وَالنَّصارى) ويبدل من المبتدأ (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٩) في الآخرة خبر المبتدأ ودال على خبر إن (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي

____________________________________

(وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس الخ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقدمه المدينة ليلة فقال : «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة» ، قال فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح ، قال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت أحرسه ، فدعا له رسول الله ثم نام ، وفي رواية إن الذي جاء سعد وحذيفة بن اليمان قالا : جئنا نحرسك ، فنام عليه‌السلام حتى سمعت غطيطه ، ونزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله ، ورد أنه كان يحفظه سبعون ألف ملك ، لا يفارقونه في نوم ولا يقظة. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لبلوغ مطلوبهم فيك لعصمتك منهم ، ولذلك في بعض الغزوات حين احتاطت به الأعداء صار يقول : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، ويرميهم بالتراب في وجوههم ، وكان يمر بين صفي القتال على بغلة لا تصلح لكر ولا فر.

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى. قوله : (معتد به) أي عند الله وهو الهدى والخير ، وهذا جواب عن سؤال : كيف يقول لستم على شيء ، مع أنهم على شيء وهو الدين الباطل. قوله : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي تأتمرون بأمرهما وتنتهون بنهيهما ، لأن فيهما بيان أن دينه هو الدين القيم ، وأن وجوده ناسخ لجميع الشرائع. قوله : (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي كعلمائهم ورؤسائهم ، وأما القليل منهم كعبد الله بن سلام والنجاشي وأضرابهما ، فقد زادهم القرآن اهتداء ونورا. قوله : (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) نسب الإنزال أولا إليهم ، لأنهم مأمورون بإتباعه ، ونسب الإنزال ثانيا إليه ، لأنه منزّل إليه حقيقة ، فيصح نسبة الإنزال إليهم باعتبار أنهم مأمورون بالعمل به وإليه باعتبار أنه يبلغه. قوله : (طُغْياناً وَكُفْراً) قيل الطغيان والكفر مترادفان ، وقيل الطغيان أعم لأنه مجاوزة الحد.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إن حرف توكيد ونصب ، والذين اسمها ، وآمنوا صلته ، وخبرها محذوف دل عليه قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) الخ ، وقوله : (وَالَّذِينَ هادُوا) الواو للإستئناف أو عطف جمل ، والذين مبتدأ (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) معطوفان عليه ، وقوله : (مَنْ آمَنَ) بدل من الذين هادوا ، وما عطف عليه بدل بعض من كل ، وقوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبر المبتدأ ، وهذا أحد أوجه تسعة وهو أحسنها ، ولذا درج عليه المفسر. قوله : (آمَنُوا) أي حقيقة بقلوبهم وألسنتهم خرج المنافقون. قوله : (فرقة منهم) أي اليهود ، وقيل من النصارى ، وقيل طائفة يعبدون الكواكب السبعة ، وقيل يعبدون الملائكة. قوله : (وعمل صالحا) أي فإن مات ولم يكن عمل صالحا غير الإيمان فهو تحت المشيئة. قوله :

٣٩٧

إِسْرائِيلَ) على الإيمان بالله ورسله (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) منهم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) من الحق كذبوه (فَرِيقاً) منهم (كَذَّبُوا وَفَرِيقاً) منهم (يَقْتُلُونَ) (٧٠) كزكريا ويحيى والتعبير به دون قتلوا حكاية للحال الماضية للفاصلة (وَحَسِبُوا) ظنوا (أَلَّا تَكُونَ) بالرفع فأن مخففة والنصب فهي ناصبة أي تقع (فِتْنَةٌ) عذاب بهم على تكذيب الرسل وقتلهم (فَعَمُوا) عن الحق فلم يبصروه (وَصَمُّوا) عن استماعه (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) لما تابوا (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا)

____________________________________

(منهم) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف. قوله : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي في التوراة ، والمقصود من ذلك إقامة الحجة على من كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى ، وتقدم أن الميثاق هو العهد المؤكد باليمين.

قوله : (وَأَرْسَلْنا) معطوف على أخذنا. قوله : (رُسُلاً) أي كشعياء وأرمياء ويوشع. قوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) كلما شرطية وجاءهم فعل الشرط ، وقوله : (بِما لا تَهْوى) متعلق بجاء وما اسم موصول ، وقوله : (لا تَهْوى) صلته ، والعائد محذوف تقديره لا تهواه ، وجواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله : (كذبوه) والأوضح له أن يقول عادوه وعصوه ، وقوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) الخ مستأنف بيان لوجه العصيان والمعاداة. قوله : (منهم) قدره إشارة إلى أن الجملة الشرطية صفة لرسلا ، والعائد محذوف ولو جعلت استئنافية لما احتيج لتقديره. قوله : (من الحق) بيان لما. قوله : (كَذَّبُوا) أي غير قتل ، كداود وسليمان ويوشع وعيسى ومحمد. قوله : (كزكريا ويحيى) أي وشعياء. قوله : (دون قتلوا) أي لمراعاة كذبوا. قوله : (حكاية للحال الماضية) أي كأنها حاصلة الآن. قوله : (للفاصلة) أي المحافظة على رؤوس الآي وتناسبها مع بعضها ، ولعل فيه حذف الواو ويكون علة ثانية.

قوله : (وَحَسِبُوا) سبب هذا الحسبان ، أنهم كانوا يعتقدون أنهم يقربون لكونهم من ذرية الأنبياء ، فلا يضرهم تكذيب الأنبياء وقتلهم إياهم ، بل سلفهم يدفعون عنهم عذاب الآخرة. قوله : (بالرفع فأن مخففة) أي واسمها محذوف تقديره أنه ، وقوله : (أَلَّا تَكُونَ) خبرها ، قال ابن مالك :

وإن تخفّف أن فاسمها استكن

والخبر اجعل جملة من بعد أن

قوله : (والنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان. واعلم أن أن إن وقعت بعد ما يفيد اليقين ، كانت مخففة من الثقيلة لا غير ، نحو علم أنه سيكون ، وإن وقعت بعد ما يفيد الظن ، كانت ناصبة لا غير ، نحو (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ، وإن وقعت بعد ما يحتملهما كان فيه الأمران كهذه الآية ، فالرفع على تأويل حسب بمعنى علم ، والنصب على تأويلها بالظن. إن قلت : مقتضى هذه القاعدة أن كل ما يفيد الأمرين يجوز فيه الرفع والنصب ، مع أنه لم يسمع في أحسب الناس أن يتركوا الرفع ولا النصب في أفلا يرون أن لا يرجع. أجيب بأن القراءة سنّة متّبعة ، لأنه ليس كلما جاز نحوا جاز قراءة ، وجملة (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في محل نصب سدت مسد مفعولي حسب على كلا القراءتين عند جمهور البصريين ، وقيل مسد مفعولها الثاني محذوف تقديره حاصلة. قوله : (فِتْنَةٌ) بالرفع فاعل تكون لأنها بمعنى توجد فهي تامة.

قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) معطوف على حبسوا ، وهذا إشارة إلى ما وقع منهم في المرة الأولى من الفساد والقتل في زمن شعياء وأرمياء ، حتى قتلوا شعياء وحبسوا أرمياء ، فسلط الله عليهم بختنصر ، ففرق

٣٩٨

ثانيا (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١) فيجازيهم به (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) سبق مثله (وَقالَ) لهم (الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإني عبد ولست بإله (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) في العبادة غيره (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) منعه أن يدخلها (وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ) زائدة (أَنْصارٍ) (٧٢) يمنعونهم من عذاب الله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ) آلهة (ثَلاثَةٍ) أي أحدها والآخران عيسى وأمه وهم فرقة من النصارى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من التثليث ويوحدوا (لَيَمَسَّنَ

____________________________________

جمعهم وأسرهم ، وخرب بيت المقدس ، وصاروا في غاية الذل والهوان ، فلما تابوا توجه ملك من ملوك فارس ، فعمر بيت المقدس ، وقتل بختنصر ، وردهم إلى وطنهم ، فكثروا وكانوا أحسن ما كانوا عليه ، فمكثوا ثلاثين سنة ثم عموا وصموا ثانيا وقتلوا زكريا ويحيى ، وإلى هذه القصة الإشارة بقوله تعالى في سورة الإسراء (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) الآيات ، وهذا هو الصحيح ، فالمراد ببني إسرائيل من كان في زمن شعياء وأرمياء ، لا من كان في زمن موسى وهارون قوله : (بدل من الضمير) أي قوله : (عَمُوا وَصَمُّوا) والضمير هو الفاعل ، وهذا هو هروب من تخريج الآية على لغة أكلوني البراغيث فإنها ضعيفة ، ودفع بقوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ما يتوهم أنهم عموا وصموا جميعهم وعطف قوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) بثم المفيدة للتراخي ، لأن بين التوبة والعمى ثلاثين سنة.

قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وهم اليعقوبية من النصارى ، وهو شروع في ذكر قبائح النصارى بعد ذكر قبائح اليهود. قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) معنى ذلك عندهم أن الله حل في ذات عيسى واتحد بها. قوله : (وَقالَ الْمَسِيحُ) الجملة حالية من الواو في قالوا ، وهو رد لما ادعوه من ألوهيته ، أي فلا عذر لهم في تلك الدعوة ، فإن تبرأ منها وبين لهم طريق الهدى.

قوله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) كالعلة لقوله : (اعْبُدُوا اللهَ). قوله : (منعه أن يدخلها) أي فالمراد بالتحريم مطلق المنع. قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي المشركين. قوله : (أَنْصارٍ) أي أعوان يحفظونهم من غضب الله. قوله : (والآخران عيسى الخ) هذا وجه في التثليث عندهم ، وهناك وجه آخر عندهم وهو أن الإله مركب من ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، فمرادهم بالأب ذات الله ، وبالابن صفة الكلام ، وبروح القدس الحياة ، فاختلطت صفة الكلام بجسد عيسى كاختلاط الماء باللبن ، وزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد. واعلم أن النصارى في اعتقاد التثليث على أربع فرق ، واحدة تقول : كل من ذات الله تعالى وذات عيسى وذات مريم إله ، وأخرى تقول : الإله مجموع صفات ثلاث : الوجود والعلم والحياة وعيسى ابنه ، وأخرى تقول : الإله مجموع ذات وصفتين ، ذات الله ويسمونها الأب وصفة كلامه ويسمونها الابن وصفة الحياة ويسمونها روح القدس ، والكل إله واحد ، وأخرى تقول : الإله مجموع ذاتين وصفة الله وذات عيسى والحياة الحالة في جسد عيسى. قوله : (وهم فرقة من النصارى) أي وهم النسطورية والمرقوسية.

قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) الواو إما حالية أو استئنافية ، وما نافية ، ومن زائدة لاستغراق النفي ، وإله مبتدأ والخبر محذوف تقديره كائن في الوجود ، وإلا ملغاة ، وإله بدل من الضمير في الخبر نظير لا إله إلا الله ، والمقصود من ذلك التشنيع والرد عليهم في دعواهم التثليث ، لأن حقيقة الإله هو المستغني

٣٩٩

الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ثبتوا على الكفر (مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣) مؤلم وهو النار (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) مما قالوه استفهام توبيخ (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) (٧٤) به (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فهو يمضي مثلهم وليس بإله كما زعموا وإلا لما مضى (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) مبالغة في الصدق (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) كغيرهما من الحيوانات ومن كان كذلك لا يكون إلها لتركبه وضعفه وما ينشأ منه من البول والغائط (انْظُرْ) متعجبا (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) على وحدانيتنا (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى) كيف (يُؤْفَكُونَ) (٧٥) يصرفون عن الحق مع قيام البرهان (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) (٧٦) بأحوالكم والاستفهام للإنكار (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (لا تَغْلُوا) تجاوزوا الحد (فِي دِينِكُمْ) غلوا (غَيْرَ الْحَقِ) بأن تضعوا عيسى أو ترفعوه

____________________________________

مما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، وليس شيء من ذلك وصفا لعيسى ولا لأمه ، ولا لأحد أبدا سواه سبحانه وتعالى. قوله : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب لقسم محذوف ، وجواب الشرط محذوف لدلالة هذا عليه ، والتقدير والله إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا الخ ، نظير قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). قوله : (أي ثبتوا على الكفر) أشار بذلك إلى أن من في (مِنْهُمْ) للتبعيض لأن كثيرا منهم تابوا. قوله : (توبيخ) أي وإنكار وهذا استدعاء لهم إلى التوبة. قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الجملة حالية كالتعليل لما قبلها.

قوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الخ ، هذا استئناف مسوق لبيان إقامة الحجة عليهم وبطلان دعاويهم الباطلة ، وما نافية والمسيح مبتدأ ، وإلا أداة حصر ورسول خبره ، وهو من حصر المبتدأ في الخبر ، أي أن عيسى محصور في وصف الرسالة وليس بإله ، فالمقصود من ذلك نفي الألوهية عنه. قوله : (قَدْ خَلَتْ) أي ذهبت وفنيت. قوله : (صِدِّيقَةٌ) أي ملازمة للصدق ، وهذان الوصفان لعيسى وأمه ، مختصان بهما شرفهما الله بهما ، ثم وصفهما بعد ذلك بوصف البشر الذين لا يميزهم عن الحيوانات الغير العاقلة فضلا عن العاقلة. قوله : (كَيْفَ نُبَيِّنُ) كيف معمول لنبين لا لأنظر ، لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن له الصدارة. قوله : (ثُمَّ انْظُرْ) هذا ترق في التعجب ، ولذا أتى بثم المفيدة للتراخي. قوله : (مع قيام البرهان) أي الدليل الواضح على باهر قدرتنا وكمال صفاتنا.

قوله : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ) هذا تبكيت لهم وإلزامهم الحجة. قوله : (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي وهو عيسى ، والمعنى لا يملك بذاته شيئا أصلا لا ضرا ولا نفعا ، وأما إجراء النفع أو الضر على يديه فبخلق الله لذلك ولو شاء لم يخلقه. قوله : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي فهو أحق بالعبادة. قوله : (للإنكار) أي مع التوبيخ.

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) شروع في ذكر قبائحهم جميعا ، بعد أن ذكر كل فريق منهم على حدة. قوله : (غلوا) قدره المفسر إشارة إلى أن غير الحق صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق لقوله (تَغْلُوا) ، ويصح أن يكون غير الحق حالا من فاعل تغلوا. قوله : (غَيْرَ الْحَقِ) أي وأما الغلوا في الحق كالتشديد

٤٠٠