حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

إرساله (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) المستلذات (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ذبائح اليهود والنصارى (حِلٌ) حلال (لَكُمْ وَطَعامُكُمْ) إياهم (حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ) الحرائر (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حل لكم أن تنكحوهن (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن (مُحْصِنِينَ) متزوجين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) معلنين بالزنا بهن (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) منهن تسرون بالزنا بهن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي يرتد (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الصالح قبل ذلك فلا يعتد به ولا يثاب عليه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥) إذا مات عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ) أي أردتم القيام (إِلَى الصَّلاةِ)

____________________________________

مالك بالسهم ما صيد ببندق الرصاص ، لأن قوته تقوم مقام حد السهم. قوله : (عَلَيْهِ) اختلف في مرجع الضمير ، فقيل عائد على ما علمتم من الجوارح ، وإليه يشير المفسر بقوله عند إرساله ، وقيل عائد على ما أمسكن عليكم ، أي سموا الله إذا أدركتم ذكاته.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه ، حيث بينّ لكم الحلال والحرام قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) ورد أنه يحاسب الخلق في قدر نصف يوم من أيام الدنيا. قوله : (الْيَوْمَ) يحتمل أن المراد باليوم المتقدم في قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو يوم عرفة ، ويحتمل أن المراد يوم نزولها ، ويحتمل أن المراد به الزمن مطلقا. قوله : (أي ذبائح اليهود والنصارى) أي إن ذبح ما هو حل لهم في شرعنا ، ولم يذكر اسم غير الله عليه وتؤكل ذبائحهم ، ولو غيروا اليهودية بالنصرانية وعكسه عند مالك ، واشترط الشافعي عدم التغيير والتبديل. قوله : (وَطَعامُكُمْ) (إياهم) أي بمعنى إطعامكم إياهم ، ومعنى (حل لهم) أي لا يحرم عليهم بشرعهم ، ولا يحرم علينا أن نطعمهم من ذبائحنا.

قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر منهن ، وأما الإماء فتقدم أنهن حل بالشروط. قوله : (الحرائر) أي وأما الإماء فلا يحل نكاحهن إلا بالملك ، وأما حرائرنا فلا يحل لهم نكاحهن ، بل ولا إماؤنا ، فتحصل أن طعامنا حل لهم ، وطعامهم حل لنا ، ونساؤهم حل لنا ، ونساؤنا لسن حلالهم. قوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) بيان للأكمل ، واحترز عن الدخول على إسقاطه فلا يحل ، والظرف متعلق بالخبر المحذوف الذي قدره المفسر بقوله حل لكم.

قوله : (مُحْصِنِينَ) حال من (آتَيْتُمُوهُنَ) أي حال كونكم محصنين ، وقوله : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) نعت لمحصنين. قوله : (أَخْدانٍ) جمع خدن وهو الخليل والصاحب الذي يزني بالمرأة سرا. قوله : (بِالْإِيمانِ) الباء بمعنى عن ، والكفر بمعنى الردة ، أي يرتد عن الإيمان. قوله : (حَبِطَ عَمَلُهُ) (الصالح) أي والسيىء إن عاد للإسلام بمعنى بطل كل منهما ، فلو عاد للإسلام فلا عقاب عليه في السيىء ، ولا ثواب له في الصالح ، والمرتد لا يقضي الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة ، إذا فاته جميع ذلك في زمن الردة أو قبل زمنها ما لم يرتد بقصد إسقاط ذلك ، ولا يقضي إلا ما أسلم في وقته لعموم آية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) عند مالك ، وعند الشافعي يقضي جميع ذلك ، وأما الحج فوقته وهو العمر باق فيقضيه. قوله : (إذا مات عليه) أي الكفر وهو راجع لقوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لا لما قبله ، فإنه يحبط عمله زمن الردة مطلقا ، مات على الكفر أو الإسلام.

٣٦١

وأنتم محدثون (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي معها كما بينته السنة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الباء للإلصاق أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء وهو اسم جنس فيكفي أقل ما يصدق عليه وهو مسح بعض شعره وعليه الشافعي (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطفا على أيديكم

____________________________________

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إنما وجه الخطاب للمؤمنين ، وإن كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة أيضا على الصحيح لعدم صحتها منهم إلا بالإسلام. قوله : (إِذا قُمْتُمْ) أي اشتغلتم بها قولا وفعلا من قيام أو غيره. قوله : (أي أردتم القيام) دفع بذلك ما يقال إن مقتضى الآية أن الطهارة لا تجب إلا بعد الشروع في الصلاة ، فأجاب بأن المراد أردتم القيام ، أي قصدتموه وعزمتم عليه ، وشرعت الطهارة قبل الصلاة ، لأن المصلي يناجي ربه وهو في حضرته ، فيحتاج قبل ذلك للنظافة من الحدثين الأصغر والأكبر ، ومن الخبثين الحسي والمعنوي كالذنوب ، ليترتب على ذلك قبول طاعته. قوله : (وأنتم محدثون) أي حدثا أصغر ، وأخذ المفسر هذا من قوله فيما يأتي (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) وفيه إشارة للجواب عن إشكال البيضاوي حيث قال ظاهر الآية أن كل قائم إلى الصلاة يجب عليه الوضوء وإن لم يكن محدثا ، وقوله : (وأنتم محدثون) أي ممنوعون من الصلاة لعدم وجود الطهارة فيشمل من ولد ، ولم يحصل منه ما يوجب الوضوء إلى أن بلغ فيجب عليه الوضوء ، لأنه كان ممنوعا من الصلاة قبل ذلك لعدم وجود الطهارة ، ولذا علق الوضوء بالقيام للصلاة. قوله : (وُجُوهَكُمْ) أي ليغسل كل منكم وجهه ولو تعدد وحده ، طولا من منابت شعر الرأس المعتاد لآخر الذقن ، وعرضا ما بين وتدي الأذنين ، ويخلل لحيته إن كانت خفيفة وإلا غسل ظاهرها فقط ، ويتتبع أسارير جبهته والوترة ولا يلزمه غسل داخل العينين ، وأما المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فسنة. قوله : (أي معها) أشار بذلك إلى أن إلى بمعنى مع ، وهذا أسهل ما قيل ، وقيل إن إلى على بابها من الانتهاء ، والغاية داخلة ، وقيل خارجة ، وقيل إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخلت وإلا فلا ، والأصح أن إلى لا يدخل ما بعدها فيما قبلها عكس حتى ، قال سيدي علي الأجهوري :

وفي دخول الغاية الأصحّ لا

تدخل مع إلى وحتّى دخلا

وأما في الآية فإما أن يقال إنها بمعنى مع ، أو الغاية داخلة على خلاف القاعدة لوجود القرينة ، فغسل المرافق واجب لذاته ، وليس من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قوله : (كما بينته السنة) أي فبينت السنة أن المرافق تغسل مع الأيدي ، ويجب تخليل أصابع الأيدي عند مالك لوجوب الدلك عنده. قوله : (الباء للإلصاق) وقيل للتبعيض لدخولها على متعدد ، وأما في وليطوفوا بالبيت فللإلصاق ، لدخولها على غير متعدد ، وأورد على ذلك آية التيمم ، فإن قيل إنها للإلصاق يقال أي فرق بينهما ، ولما كان هذا المعنى معترضا ، عدل عنه المفسر وجعلها للإلصاق في كل ، وأحال بيان ذلك للسنّة. قوله : (أي ألصقوا المسح بها) لعل في كلام المفسر تسامحا ، لأن المسح معنى من المعاني لا يلصق ، لأن الإلصاق لا يكون إلا بين جسمين ، إلا أن يقال المراد بالمسح آلته وهو اليد. قوله : (من غير إسالة ماء) بيان لحقيقة المسح من حيث هو ، لا لما لا يكفي في الوضوء ، فإن الغسل يكفي أيضا. قوله : (وهو) أي المسح. قوله : (وهو مسح بعض شعره) وقال أبو حنيفة يجب مسح ربع الرأس ، وقال مالك وأحمد يجب مسح الجميع ، كما يجب مسح الوجه في التيمم. قوله : (بالنصب) أي لفظا وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص

٣٦٢

وبالجر على الجوار (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) أي معهما كما بينته السنة وهما العظمان الناتئان في كل رجل عند مفصل الساق والقدم والفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح يفيد وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعي ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فاغتسلوا (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا يضره الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي أحدث (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) سبق مثله في آية النساء (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بعد طلبه (فَتَيَمَّمُوا) اقصدوا (صَعِيداً طَيِّباً) ترابا طاهرا (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) مع المرفقين (مِنْهُ) بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أن المراد استيعاب العضوين بالمسح (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ضيق بما فرض عليكم

____________________________________

عن عاصم ، وقوله : (والجر) أي وهي لباقي السبعة. قوله : (على الجوار) أي فهو في المعنى منصوب بفتحة مقدرة على آخره ، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة ، واعترض هذا الحمل بأنه لم يرد الجر بالمجاورة إلا في النعت ، ومع ذلك هو ضعيف ، والأولى أن يقال إنه مجرور لفظا ، ومعنى معطوف على الرؤوس والمسح مسلط عليه ، ويحمل على حالة لبس الخف ، أو يقال إن المراد بالمسح الغسل الخفيف ، وسماه مسحا ردا على من يتبع الشك ويسرف في الماء وهو بعيد. قوله : (وهما) أي الكعبان. قوله : (عند مفصل) بفتح الميم وكسر الصاد ، وأما بكسر الميم وفتح الصاد فهو اللسان ، ويجب على الإنسان في غسل رجليه أن يتتبع العقب بالغسل لما في الحديث : «ويل للأعقاب من النار» وتسن الزيادة على محل الفرض عند الشافعي ، وفسر بها الغرة والتحجيل الواردين في الحديث ، وكره مالك ذلك ، وفسر الغرة والتحجيل بإدامة الطهارة. قوله : (والفصل) هو مبتدأ وخبره (يفيد) وقصده بذلك تتميم الفرائض السنة عند الشافعي ، ومحصل ذلك أن الواو وإن كانت لا تقتضي ترتيبا لكن وجدت قرينة تفيد الترتيب وهو الفصل بين المغسولات بالرأس الممسوح ، لكن يقال إن ذلك ظاهر في غير الوجه مع الأيدي ، وعند مالك ليس الترتيب فرضا. وإنما هو سنة إبقاء للواو على ظاهرها ولم يعتبر تلك القرينة. قوله : (وجوب النية فيه) أي لأنه عبادة ، وكل عبادة تحتاج لنية ، فتحصل أن فرائض الوضوء عند الإمام الشافعي ستة : الأربعة القرآنية ، والنية ، والترتيب. وعند مالك سبعة : الأربعة ، والنية ، والموالاة بأن لا يفرق بين أجزائه تفريقا متفاحشا ، والتدليك وهو إمرار باطن الكف على الأعضاء. وعند الحنفية الأربعة القرآنية لا غير.

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) أي بمغيب الحشفة ، أو خروج المني بلذة معتادة في اليقظة ، أو مطلقا في النوم ، أو الحيض ، أو النفاس ، لأن الخطاب عام للذكور والإناث. قوله : (أي أحدث) أي فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث ، وعبر عنه بالغائط ، لأن العادة قضاء الحاجة في الغائط ، بمعنى المكان المنخفض. قوله : (سبق مثله) أي فيقال هنا جامعتم أو جسستم باليد. قوله : (مع المرفقين) أي فهو فرض عند الشافعي حملا على آية الوضوء ، وعند مالك مسح المرفقين سنّة ، وإنما الفرض للكوعين. قوله : (بضربتين) أي فهما فرض عند الشافعي ، وعند مالك الأولى فرض والثانية سنّة. قوله : (وبينت السنة

٣٦٣

من الوضوء والغسل والتيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأحداث والذنوب (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بالإسلام ببيان شرائع الدين (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) نعمه (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام (وَمِيثاقَهُ) عهده (الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) عاهدكم عليه (إِذْ قُلْتُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بايعتموه (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) في كل ما تأمر به وتنهي عما نحب ونكره (وَاتَّقُوا اللهَ) في ميثاقه أن تنقضوه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) بما في القلوب فبغيره أولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) قائمين (لِلَّهِ) بحقوقه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنكم

____________________________________

الخ) جواب من الشافعية والحنفية عن التعارض الواقع بين آية الوضوء وآية التيمم. قوله : (من الوضوء والغسل والتيمم) أي فأوجب ما ذكر عند القدرة عليه ، ووجود الماء أو الصعيد ، فإن فقدا معا سقطت عنه الصلاة ، وقضاؤها على المعتمد عند مالك ، ويصلي ويقضي عند الشافعي. قوله : (من الأحداث والذنوب) أي فإذا تطهر الإنسان فقد خلص من الحدث والذنوب ، لأنه ورد أن الذنوب تتساقط مع غسل الأعضاء. قوله : (بالإسلام) الباء للتعدية ، والجار والمجرور متعلق بنعمة ، فهو أعظم النعم ، لأنه به ينال كل خير.

قوله : (إِذْ قُلْتُمْ) ظرف لقوله : (واثَقَكُمْ بِهِ). قوله : (حين بايعتموه) أي عند العقبة سنة الهجرة ، لما جاءه سبعون من الأنصار ، ورئيسهم إذ ذاك البراء بن معرور ، وكان له اليد البيضاء في الميثاق ، حتى أنه قال : والذي بعثك بالحق ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحرب كابرا عن كابر ، وبايعوه على أن يقاتلوا معه الأسود والأبيض ، وكذلك بيعة الرضوان تحت الشجرة ، حين صده المشركون عن البيت ، أشاع إبليس أن عثمان قتل ، فبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحابة على عدم الرجوع حتى يقتلوا أو يدخلوا مكة ، وهكذا حمل المفسر على عهد النبي أصحابه ، ويحتمل أن المراد العهد الواقع يوم ألست بربكم ، فيكون المعنى : اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث خلقكم على التوحيد في عالم الأرواح ، وجعل عالم الأجساد موافقا له ، فالإيمان نعمة عظيمة لموافقته للإجابة الواقعة يوم ألست بربكم ، وكل صحيح ، لكن إن كان المراد عهد الله الأزلي فالنسبة له ظاهرة ، وإن كان المراد عهد النبي لأصحابه ، فإسناد العهد لله ، لأنه هو المعاهد حقيقة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) الآية.

قوله : (سَمِعْنا) أي سماع قبول. قوله : (مما نحب) أي بأن كان موافقا لما تهواه نفوسهم ، وقوله : (ونكره) أي بأن لم يكن موافقا ، كالجهاد وأداء الزكاة مثلا. قوله : (بما في القلوب) أي من الإخلاص وغيره ، فذات الصدور صفة لموصوف محذوف تقديره الأمور الخفية صاحبات الصدور التي لا يطلع عليها إلا الله.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخ شروع في بيان الحقوق الواجبة على العباد ، وهي قسمان : متعلق بالخالق وهو قوله : (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) وبالمخلوق وهو قوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) ، وقد تقدمت هذه الآية في النساء ، وكررها اعتناء بشأنها ، فإن مقام القيام بحق الله وحق عباده عظيم ، وهو حقيقة التوفيق ، فليس كل من آمن قام بالحقين ، وقوله قوامين خبر لكونوا ، وشهداء خبر ثان. قوله : (بحقوقه) أي الخاصة به ،

٣٦٤

(شَنَآنُ) بغض (قَوْمٍ) أي الكفار (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) فتنالوا منهم لعداوتهم (اعْدِلُوا) في العدو والولي (هُوَ) أي العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨) فيجازيكم به (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وعدا حسنا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩) هو الجنة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٠) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا

____________________________________

كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك. قوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي فلا تشهدوا بخلاف الواقع ، بل بما في نفس الأمر ، وهو المراد بقوله : (بالعدل). قوله : (يحملنكم) هو معنى (يَجْرِمَنَّكُمْ) ومن ثم عداه بعلى ، ويجوز أن يفسر بيكسبنكم وهما متقاربان. قوله : (شَنَآنُ) بفتح النون وسكونها سبعيتان. قوله : (أي الكفار) أشار به إلى أنها نزلت في قريش لما صدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام ، ولكن العبرة بعموم اللفظ.

قوله : (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بعلى ، أي على عدم العدل ، كنقض العهد ، وإيذاء من أسلم منهم. قوله : (فتنالوا منهم) أي مقصودكم من القتل وأخذ المال. قوله : (في العدو والولي) أي فسووا بين المحب والمبغض في العدل ، ولا تؤثروا المحب. قوله : (اعْدِلُوا) تصريح بما علم من النهي عن ترك العدل ، اعتناء بشأن العدل. قوله : (أي العدل) أي المأخوذ من قوله : (اعْدِلُوا) فإن الضمير لا بد أن يرجع لمذكور ، ولو ضمنا كما هنا.

قوله : (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي أقرب ما يدل على التقوى لأنها في القلب ، والعدل أكبر دليل عليها ، فعند القدرة يظهر الحال ، فمن ظهر العدل على يديه ، كان دليلا على تقواه ، ومن لا فلا ، ومنه ما ورد : الظلم كمين في النفس ، القوة تظهره ، والعجز يخفيه. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي امتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه. قوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيه وعد ووعيد ، وبين الوعد بقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وبين الوعيد بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الخ.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) تفصيل لما أجمل في قوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) والذين مفعول أول لوعد ، وقدر المفسر المفعول الثاني بقوله : (وعدا حسنا) أي موعودا ، فأطلق المصدر ، وأراد اسم المفعول. وقوله : (لهم مغفرة وأجر عظيم) جملة مستأنفة بيان للموعود به الحسن. قوله : (الجنة) تفسير للأجر العظيم ، فيكون عطف الأجر العظيم على المغفرة من عطف المسبب على السبب. قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، و (أَصْحابُ) خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والجملة مستأنفة لبيان وعيد الكفار ، ولم يقل في جانب الكفار لهم عذاب الجحيم مثلا قطعا لرجائهم ، لأن صاحب الشيء لا ينفك عنه.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) سبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج هو وأصحابه لعسفان في غزوة ذي أنمار ، وهي غزوة ذات الرقاع ، قاموا إلى الظهر جميعا ، فلما صلوا ندم المشركون على عدم المكر بهم في الصلاة ، فقالوا إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون بها صلاة العصر ، وهموا أن يقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فرد الله كيدهم بنزول آية صلاة الخوف ، وقيل ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بني قريظة ، ومعه أبو بكر وعمر وعلي ، يستقرض منهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ

٣٦٥

نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) هم قريش (أَنْ يَبْسُطُوا) يمدوا (إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) ليفتكوا بكم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) وعصمكم مما أرادوا بكم (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) بما يذكر بعد (وَبَعَثْنا) فيه التفات عن الغيبة أقمنا (مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم (وَقالَ) لهم (اللهُ

____________________________________

بحسبهما مشركين ، فقالوا : يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت ، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريل عليه وأخبره ، فخرج هو وأصحابه ونقض عهدهم حينئذ ، وأقام الحرب عليهم ، وقيل هو ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا ، وتفرق أصحابه في الشجر يستظلون به ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة وعلق سيفه بها ونام ، فجاء أعرابي وأخذ السيف من الشجرة وسله ، فاستيقظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده في يده ، فقال له الأعرابي : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : الله ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : «من يمنعك مني»؟ فقال : لا أحد ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، والأحسن أن يراد بقوله : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) ما هو أعم فيشمل هذه الوقائع وغيرها كواقعة السم. قوله : (أَنْ يَبْسُطُوا) الخ ، يقال بسط إليه يده إذا بطش به ، وبسط إليه لسانه إذا شتمه ، والمراد مدوا إليكم أيديهم بالقتل.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي دوموا على امتثال أوامره واجتناب نواهيه. قوله : (وَعَلَى اللهِ) أي لا على غيره ، فلا يعتمد الإنسان على سبب ولا غيره ، بل يثق بالله ويفوض أمره إليه. قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان تحريض المؤمنين على الوفاء بالعقود ، فإن المقصود من ذكر الأمم السابقة ، ونقضهم عهود أنبيائهم ، تذكير هذه الأمة بأن الوفاء بالعهود أمره عظيم وأجره جسيم ، ونقضه فيه الوبال الكبير ، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي : فالويل لمن لم يعرفك ، بل الويل ثم الويل لمن أقر بوحدانيتك ولم يرض بأحكامك. قوله : (بما يذكر بعد) أي من قوله : (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) الخ ، فعهد الله هو امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، والدال على ذلك تجب مطاوعته ، فالشيخ المتمسك بشرع رسول الله ، القائم بحقوق الله وحقوق عباده ، إذا أخذ العهد بذلك على إنسان ، وجب عليه اتباعه ونقض عهده ، إما كفر إذا قصد نقض ما هو عليه من التوحيد وغيره ، أو ضلال مبين إذا قصد عدم الإلتزام بأوراده ، وأما من خالف الشرع ، واتبع هوى نفسه ، فالواجب نقض عهده ، لأن من لا عهد له مع الله ، لا عهد له مع خلقه ، قال تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هكذا ينبغي. قوله : (فيه التفات عن الغيبة) أي وكان مقتضى الظاهر وبعث ، وإنما التفت اعتناء بشأن البعث قوله : (أقمنا) أشار بذلك إلى أن المراد بالبعث الجعل والإقامة ، لا الإرسال ، إلا لكانوا معصومين من النقض.

قوله : (مِنْهُمُ) إما متعلق ببعثنا ، أو بمحذوف حال من اثني عشر ، وقوله : (نَقِيباً) تمييزه ، والنقيب فعيل ، إما بمعنى فاعل لأنه يفتش على أحوال القوم ، أو بمعنى مفعول لأنهم فتشوا عليه ، واختاروه نقيبا عليهم مشتق من التنقيب وهو التفتيش ، ومنه فنقبوا في البلاد ، سمي بذلك لأنه يفتش عن أحوال القوم ويسعى في مصالحهم. قوله : (من كل سبط نقيب) أي فالنقباء على عدد الأسباط ، وهم أولاد يعقوب ، وكانوا اثني عشر كل واحد منهم سبط. قوله : (توثقة عليهم) أي تأكيدا عليهم.

٣٦٦

إِنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنصرة (لَئِنْ) لام قسم (أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بالانفاق في سبيله (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق منكم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢) أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط فنقضوا الميثاق قال الله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ) ما زائدة (مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أبعدناهم عن رحمتنا (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) لا تلين

____________________________________

قوله : (وَقالَ) (لهم) أي للنقباء ، وعهد النقباء هو عهد بني إسرائيل ، أو الضمير عائد على بني إسرائيل عموما ، وسبب ذلك أن بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء بأرض الشام ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال لهم : إني كتبتها لكم دارا وقرارا ، فأخرجوا من فيها وإني ناصركم ، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبا أمينا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان ، بعث النقباء إليهم يتجسسون أحوالهم ، فرأوا خلقا أجسامهم عظيمة ، ولهم قوة وشوكة فهابوهم فرجعوا ، وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون من أحوال الكنعانيين ، فنكثوا الميثاق وتحدثوا ، إلا اثنين منهم ، قيل لما توجه النقباء لتجسس أحوال الجبارين ، لقيهم عوج بن عنق ، وعنق أمه إحدى بنات آدم لصلبه ، وكان عمره ثلاثة آلاف سنة ، وطوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثين ذراعا ، وكان على رأسه حزمة حطب ، فأخذ النقباء وجعلهم في الحزمة ، وانطلق بهم إلى امرأته ، فطرحهم بين يديها ، وقال اطحنيهم بالرحى ، فقالت لا بل نتركهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ، فجعلوا يتعرفون أحوالهم ، وكان من أحوالهم أن عنقود العنب عندهم لا يحمله إلا خمسة رجال منهم ، وأن قشرة الرمانة تسع خمسة منهم ، فلما خرج النقباء من أرضهم ، قال بعضهم لبعض : إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ، ارتدوا عن نبي الله ، ولكن اكتموه إلا عن موسى وهارون ، ثم انصرفوا إلى موسى ، وكان معهم حبة من عنبهم ، فنكثوا عهدهم ، وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن القتال ويخبره بما رأى ، إلا كالب ويوشع ، وكان عسكر موسى فرسخا في فرسخ ، فجاء عوج بن عنق حتى نظر إليهم ، فجاء إلى جبل وأخذ منه صخرة على قدر عسكر موسى ، ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم ، فبعث الله الهدهد فنقر وسط الصخرة المحاذي لرأسه ، فوقعت في عنقه وطوقته فصرعته ، وأقبل موسى فقتله ، فأقبلت جماعته حتى حزوا رأسه ، وهذه القصة ذكرها كثير من المفسرين ، قال المحققون : إنه لا عوج ولا عنق ، وإنما الصحيح من القصة وجود الجبارين وقريتهم ، وأنهم عظام الأجسام ، وبالجملة فالصحيح هو ما قصه الله علينا فيما يأتي في هذا الربع. قوله : (لام قسم) أي والله ، وجوابه هو قوله لأكفرن ، وحذف جواب الشرط لتأخره عن القسم اكتفاء بجواب القسم ، قال ابن مالك : واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ، جواب ما أخرت.

قوله : (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أخره عن الصلاة والزكاة ، مع أنهما من الفروع ، لأن بعضهم كان يفعلهما مع كونه يكذب ببعض الرسل ، فأفاد الله تعالى أن عدم الإيمان لا ينفع مع فعل الطاعات قوله : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) من التعزيز ، يطلق على التعذيب ، وعلى التعظيم والتوفير والنصرة ، وهو المراد هنا. قوله : (بالإنفاق في سبيله) ، أي واجبا أو مندوبا ، وهو أعم من الزكاة. قوله : (فنقضوا الميثاق) أي بتكذيبهم الرسل ، وقتلهم الأنبياء ، وتضييعهم الفرائض.

٣٦٧

لقبول الإيمان (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) الذي في التوراة من نعت محمد وغيره (عَنْ مَواضِعِهِ) التي وضعه الله عليها أي يبدلونه (وَنَسُوا) تركوا (حَظًّا) نصيبا (مِمَّا ذُكِّرُوا) أمروا (بِهِ) في التوراة من اتباع محمد (وَلا تَزالُ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَطَّلِعُ) تظهر (عَلى خائِنَةٍ) أي خيانة (مِنْهُمْ) بنقض العهد وغيره (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ممن أسلم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣) وهذا منسوخ بآية السيف (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) متعلق بقوله (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) كما أخذنا على بني إسرائيل اليهود (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) في الإنجيل من الإيمان وغيره ونقضوا الميثاق (فَأَغْرَيْنا) أوقعنا (بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بتفرقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) في الآخرة (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤) فيجازيهم عليه (يا أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ

____________________________________

قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) بيان لقسوة قلوبهم. قوله : (تركوا) أشار بذلك إلى أن المراد بالنسيان ، الترك من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله : (خيانة) أشار بذلك إلى أن خائنة بمعنى خيانة ، فالتاء للتأنيث بدليل القراءة الأخرى خيانة. قوله : (وهذا) أي الأمر بالعفو والصفح ، منسوخ إن أريد مع بقائهم على الكفر ، وأما إن أريد إن تابوا فلا نسخ.

قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) شروع في بيان قبائح النصارى إثر بيان قبائح اليهود ، والحكمة في قوله قالوا ، ولم يقل ومن النصارى ، أن هذه التسمية واقعة منهم لأنفسهم ، ولم يسمهم الله تعالى بذلك ، والجار والمجرور متعلق بأخذنا ، والأصل وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم وهو الأحسن ، ولذا مشى عليه المفسر ، وقدم الجار والمجرور على قوله : (مِيثاقَهُمْ) هروبا من عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، وهو غير جائز إلا في مواضع ليس هذا منها ، ونصارى نسبة للنصر ، لأنهم يزعمون أنهم أنصار الله ، ومفرده نصران ونصرانة ، ولكن ياء النسب لا تفارقه ، وقيل نسبة لقرية اسمها نصرة ، فيكون مفرده نصرى ، ثم أطلق على كل من تعبد بهذا الدين. قوله : (مِيثاقَهُمْ) أي عهدهم المؤكد.

قوله : (فَنَسُوا حَظًّا) أي تركوه. قوله : (من الإيمان) أي بمحمد وبجميع الأنبياء ، وقوله : (وغيره) أي غير الإيمان كبشارة عيسى بمجيء محمد بعده رسولا. قوله : (ونقضوا الميثاق) أي تكذيب الأنبياء ، وتحريف ما في الإنجيل ، وهذا مرتب على قوله : (فَنَسُوا حَظًّا) وكذا قوله : (فَأَغْرَيْنا) وهو من غرا بالشيء إذا لصق به ، يقال غروت الجلد ألصقته بالغراء ، وهو كناية عن إيقاع العداوة بينهم ، والتعبير بالإغراء أبلغ كأن العداوة لا صقة بهم كالغراء اللاصق بالجلد. قوله : (بَيْنَهُمُ) متعلق بأغرينا والضمير عائد على اليهود والنصارى ، أي ألقينا العداوة بين اليهود والنصارى ، فكل من الفرقتين تلعن الأخرى ، وقيل الضمير عائد على النصارى فقط باعتبار فرقهم ، لأنهم ثلاث فرق : الملكانية واليعقوبية والنسطورية فكل فرقة تلعن الأخرى ، وإنما لم يظهروا ذلك بين المسلمين ، خوفا من الشماتة بهم فكل فرقة تكفر الأخرى ، أي في الدنيا وفي الآخرة (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها). قوله : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) (في الآخرة) أي بقوله يوم القيامة : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية.

٣٦٨

رَسُولُنا) محمد (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) تكتمون (مِنَ الْكِتابِ) التوراة والإنجيل كآية الرجم وصفته (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من ذلك فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة إلا افتضاحكم (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) هو نور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكِتابٌ) قرآن (مُبِينٌ) (١٥) بينّ ظاهر (يَهْدِي بِهِ) أي بالكتاب (اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) بأن آمن (سُبُلَ السَّلامِ) طرق السلامة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) الكفر (إِلَى النُّورِ) الايمان (بِإِذْنِهِ) بإرادته (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) دين الاسلام (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) حيث جعلوه إلها وهم اليعقوبية فرقة من النصارى (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ) أن يدفع (مِنَ) عذاب (اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي لا أحد يملك ذلك ولو كان المسيح إلها لقدر عليه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) شاءه (قَدِيرٌ) (١٧) (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) أي كل منهما (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) أي كأبنائه في القرب والمنزلة وهو كأبينا في الرحمة والشفقة (وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ) لهم يا محمد (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) إن صدقتم في ذلك ولا يعذب

____________________________________

قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب للفريقين جميعا ، بعد أن ذكر كل فرقة على حدة. قوله : (كآية الرجم وصفته) أي فقد أخفوهما ، وأطلع الله نبيه على أنهما في التوراة ، فبين ذلك وأظهره ، وهو معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لم يقرأ كتابهم ، ولم يجلس بين يدي معلم ، وهذا مثال لما في التوراة ، ولم يمثل لما في الإنجيل ، ولو مثل له لقال : وكبشارة عيسى بمحمد.

قوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي من قبائحهم كسبه فيما بينهم ، والكلام في شأنه هو والقرآن ، فلم يتعرض لهم في ذلك. قوله : (هو نور النبي) أي وسمي نورا لأنه ينوّر البصائر ويهديها للرشاد ، ولأنه أصل كل نور حسي ومعنوي. قوله : (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من سبق في علم الله أنه يتبع رضوانه. قوله : (طرق السلامة) أي من العذاب والنجاة من العقاب ، و (سُبُلَ السَّلامِ) منصوب بنزع الخافض وإنما حقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى أو باللام ، قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). قوله : (وهم اليعقوبية) أي القائلون بالاتحاد. قوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) هذا ترق في الرد عليهم. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ترق في الرد عليهم أيضا. قوله : (شاءه) أي تعلقت به إرادته وهي الممكنات ، خرج بذلك ذاته وصفاته والمستحيلات فلا تتعلق القدرة والإرادة بشيء من ذلك. قوله : (أي كأبنائه في القرب) أي فالمعنى على التشبيه ، وهذا هو الصحيح ، وقيل المعنى أبناء أنبياء الله ، فالكلام على حذف مضاف. وسبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، وخوفّهم بعقاب الله تعالى ، فقالوا : كيف تخوفنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ وهذه مقالة اليهود ، وأما النصارى فقالوا مثلهم ، زاعمين أن الله قال في الإنجيل : إن المسيح قال لهم إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. قوله : (قُلْ) (لهم يا محمد) أي إلزاما لهم وتبكيتا ، إن صح ما زعمتم ، فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل

٣٦٩

الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذبكم فأنتم كاذبون (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ) من جملة من (خَلَقَ) من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه لا اعتراض عليه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨) المرجع (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد (يُبَيِّنُ لَكُمْ) شرائع الدين (عَلى فَتْرَةٍ) انقطاع (مِنَ الرُّسُلِ) إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول ومدة ذلك خمسمائة وستون سنة (أَنْ) لا (تَقُولُوا) إذا عذبتم (ما جاءَنا مِنْ) زائدة (بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) فلا عذر لكم إذا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩) ومنه تعذيبكم إن لم تتبعوه (وَ) اذكر (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ) أي منكم (أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أصحاب خدم وحشم (وَآتاكُمْ ما

____________________________________

والمسخ ، وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياما بعدد أيام عبادة العجل ، ولو كان الأمر كما زعمتم ، لما صدر منكم ما صدر ، ولما وقع عليكم ما وقع. قوله : (لا اعتراض عليه) أي لأنه القادر الفعال بالاختيار.

قوله : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي في وقت لا تعرفون فيه توحيدا ، فعليكم باتباعه. قوله : (إذا لم يكن بينه وبين عيسى رسول الخ) هذا هو الصحيح ، وقيل كان بين محمد وعيسى أربعة رسل ، ثلاثة من بني إسرائيل ، وواحد من حمير ، وهو خالد بن سنان. قوله : (ومدة ذلك خمسمائة وستون سنة) وقيل خمسمائة وخمسة وستون ، وقيل خمسمائة وأربعون ، وقيل أربعمائة وبضع وثلاثون ، والصحيح أنها ستمائة ومدة ما بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة ، لكنها ليست فترة لبعثة كثيرين من الأنبياء بينهما ويتعبدون بشريعة موسى ، كداود وسليمان وزكريا ويحيى. قوله : (أَنْ) (لا) (تَقُولُوا) أشار بذلك إلى أنّ (أَنْ) المصدرية دخلت عليها اللام ولا النافية مقدرة بعدها ، والتقدير لعدم قولكم ما جاءنا الخ. قوله : (زائدة) أي في فاعل جاء.

قوله : (وَ) (اذكر) (إِذْ قالَ مُوسى) أشار بذلك إلى أن إذ ظرف لمحذوف ، قدره المفسر بقوله اذكر ، والمقصود من ذلك توبيخ اليهود الذين في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته على عدم إيمانهم به وبيان نقضهم العهد تفصيلا ، والمعنى تسل ولا تحزن من عدم إيمانهم بك ومن تكذيبك ، فإنهم كذبوا من يدعون أنه نبيهم إلى الآن. قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) أي تذكّروها واشكروا عليها. قوله : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) أي بكثرة ولم تكن في غيركم.

قوله : (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أي يبسط الدنيا لكم ، وذلك بعد إغراق فرعون. قوله : (خدم) جمع خادم ، وهو صادق بالذكر والأنثى ، وقوله : (وحشم) هم الخدم لكن من الرجال ، ورد أن أول من ملك الخدم بنو إسرائيل ، وكان يقال عندهم من كانت عنده دابة وجارية وزوجة فهو ملك ، وقيل الملك من اتسعت داره وكان فيها النهر يجري ، وقيل جعلكم ملوكا أي أحرارا بعد استرقاق فرعون لكم. قوله :

٣٧٠

لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠) من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) المطهرة (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أمركم بدخولها وهي الشام (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) تنهزموا خوف العدو (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (٢١) في سعيكم (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) من بقايا عاد طوالا ذوي قوة (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢) لها (قالَ) لهم (رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) مخالفة أمر الله وهما يوشع وكالب من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالعصمة فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى بخلاف بقية النقباء فأفشوه فجبنوا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) باب

____________________________________

(مِنَ الْعالَمِينَ) أي مطلقا ، لأن فلق البحر والمن والسلوى لم يكن لأحد غيرهم ، ولا لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حاجة هنا للتأويل بعالمي زمانهم. قوله : (من المن والسلوى) بيان لما. إن قلت : إن هذه المقالة وقعت حين أخذ الميثاق عليهم في قتال الجبارين ، فلا يظهر قول المفسر من المن والسلوى ، لأنه لم ينزل عليهم إلا في التيه ، وذلك بعد توجههم من مصر لقتال الجبارين ، فحينئذ كان المناسب للمفسر أن يقول من النبوة والملك وفلق البحر ، وقد يجاب : بأنه لا مانع من ذكر هذه الكلمة في التيه أيضا.

قوله : (يا قَوْمِ) الجمهور على كسر الميم من غير ياء ، وقرىء بضم الميم إجراء له مجرى المفرد ، وبالباء مفتوحة لأنه منادى مضاف لياء المتكلم ، قال ابن مالك :

واجعل منادى صحّ أن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

قوله : (المطهرة) إنما سميت مطهرة لسكنى الأنبياء المطهرين فيها ، فشرفت وطهرت بهم ، فالظرف طاب بالمظروف ، إن قلت : إن الجبارين كانوا فيها وهم غير مطهرين أجيب : بأن الخير يغلب الشر ، والنور يغلب الظلمة. قوله : (أمركم بدخولها) دفع بذلك ما يقال : كيف الجمع بين الكتابة التي تفيد تحتم الدخول ، وبين قوله قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ، فأجاب : بأن المراد بالكتب الأمر بالدخول ، وأجيب أيضا بأن قوله التي كتب الله لكم أي قدرها في اللوح المحفوظ ، إن لم تقع منكم مخالفة ، وقد وقعت فحرمت عليهم أربعين سنة ، فهو قضاء معلق.

قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي ترجعوا إلى مصر ، فإنهم لما سمعوا بأخبار الجبارين ، قالوا تجعل لنا رئيسا ينصرف بنا إلى مصر ، وصاروا يبكون ويقولون ليتنا متنا بمصر. قوله : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لأن الفرار من الزحف من الكبائر. قوله : (قالَ رَجُلانِ) وصفهما بصفتين : الأولى قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) والثانية قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) وهو حسن ، لأن فيه الوصف بالجملة بعد الوصف بالجار والمجرور ، وهو من قبيل المفرد. قوله : (وهما يوشع) أي ابن نون وهو الذي نبىء بعد موسى ، وقوله : (وكالب) بكسر اللام وفتحها ابن يوقنا. قوله : (بقية النقباء) أي الاثني عشر ، وقوله : (فأفشوه) أي خبر الجبارين ، وقوله : (فجبنوا) أي بنو إسرائيل.

قوله : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي امنعوهم من الخروج ، لئلا يجدوا في أنفسهم قوة للحرب ،

٣٧١

القرية ولا تخشوهم فإنهم أجساد بلا قلوب (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) قالا ذلك تيقنا بنصر الله وإنجاز وعده (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٣) (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) هم (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤) عن القتال (قالَ) موسى حينئذ (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ) إلا (أَخِي) ولا أملك غيرهما فأجبرهم على الطاعة (فَافْرُقْ) فافصل (بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٥) (قالَ) تعالى له (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أن يدخلوها (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ) يتحيرون (فِي الْأَرْضِ) وهي تسعة فراسخ قاله ابن عباس (فَلا تَأْسَ) تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦) روي أنهم كانوا يسيرون الليل جادين فإذا أصبحوا إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه ويسيرون النهار كذلك حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين قيل وكانوا ستمائة ألف ومات هارون وموسى في التيه وكان

____________________________________

بخلاف ما إذا دخلتم عليهم القرية بغتة ، فإنهم لا يقدرون على الكر والفر. قوله : (بلا قلوب) أي قوية نافعة. قوله : (تيقنا بنصر الله) أي فإنهما مصدقان بذلك ، لإخبار موسى لهما بذلك. قوله : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) أي بعد ترتيب الأسباب ، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة. قوله : (ما دامُوا فِيها) أي مدة إقامتهم فيها. قوله : (أَنْتَ وَرَبُّكَ) قيل إن الواو للعطف ، وربك معطوف على الضمير المستتر في اذهب ، وقد وجد الفاصل بالضمير المنفصل ، قال ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

أي ليذهب ربك ، واختلف في الرب ، فقيل هو المولى جل وعلا ، فإسنادهم الذهاب إليه على حقيقته ، لأنهم كانوا يعتقدون التجسيم ، وقيل المراد به هارون وسموه ربا لأنه كان أكبر من موسى بسنة ، وهو الأحسن ، ويدل عليه السياق ، وقيل الواو للحال ، وربك مبتدأ خبره محذوف تقديره يعينك. قوله : (لا أملك غيرهما) إن قلت : إن يوشع وكالب كانا في طاعته أيضا. أجيب بأنه لم يثق بهما. قوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا) أي احكم لنا بما نستحقه ، واحكم لهم بما يستحقونه ، وكان الأمر كذلك ، فصار التيه رحمة لموسى وهارون ، وعذابا على بني إسرائيل. قوله : (أَرْبَعِينَ سَنَةً) يصح أن يكون ظرفا لقوله : (يَتِيهُونَ) وعلى هذا فهي محرمة عليهم أبدا لأنهم انقرضوا ، وما دخلها إلا من لم يبلغ العشرين حين الميثاق ، وقيل ظرف لقوله : (مُحَرَّمَةٌ) وعلى هذا فالتحريم مقيد بتلك المدة ، وقيل ظرف لهما معا. قوله : (وهي تسعة فراسخ) أي عرضا ، وطولها ثلاثون فرسخا.

قوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي وذلك أنه ندم على دعائه عليهم ، فقيل له لا تأس فإنهم أحق بذلك. قوله : (ومات هارون وموسى في التيه) ومات موسى بعد هارون بسنة ، وقيل إن موسى هو الذي ملك الشام ، وكان يوشع على مقدمته ، وعاش فيها زمنا طويلا ، ومات ولم يعلم له قبر ، وهما طريقتان : قيل إن موسى وهارون توجها إلى البرية ، فمات هارون فدفنه أخوه موسى ، ثم رجع إلى قومه فقالوا قتله لحبنا إياه ، فتضرع موسى إلى ربه ، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره ، فناداه يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه ، قال : أنا قتلتك؟ قال : لا ، ولكنني

٣٧٢

رحمة لهما وعذابا لأولئك وسأل موسى ربه عند موته أن يدنيه من الأرض المقدس رمية بحجر فأدناه كما في الحديث ونبىء يوشع بعد الأربعين وأمر بقتال الجبارين فسار بمن بقي معه وقاتلهم وكان يوم الجمعة ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم وروى أحمد في مسنده حديث إن

____________________________________

مت ، قال : فعد إلى مضجعك. وروي أن موسى خرج ليقضي حاجته ، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا أحسن منه ، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ فقالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعا ، فقالت الملائكة : يا صفي الله أتحب أن يكون لك؟ قال : وددت ، قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ، قال : فنزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ، ثم تنفس أسهل نفس ، فقبض الله تعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة التراب ، وقيل إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمّها فقبض الله روحه ، وقيل إنه روي أن ملك الموت جاءه وقال له : أجب أمر ربك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، فقال ملك الموت : يا رب إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني ، قال فرد الله تعالى عينه وقال له ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة ، فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بكل شعرة سنة ، قال : ثم ما ذا؟ قال : ثم تموت ، قال : فالآن من قريب ، قال : رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور عند الكثيب الأحمر. ورواية فقء عين ملك الملك متكلم فيها ، وعلى فرض ورودها ، ففقء عين الملك من خصوصيات موسى ، لأن الملك لا تحكم عليه الصورة ، ولا يقال إن هذا جناية حرام ، لأننا نقول إنه فقأ عين الصورة المتشكل فيها ، لا الصورة الأصلية ، وقصده بتلك الفعلة نهيه عن أن يأتي للمؤمن في صورة فظيعة ، كما قرره أشياخنا قوله : (وكان رحمة لهما) أي وكذا يوشع وكالب ، وذلك كنار إبراهيم ، فإنها جعلت عليه بردا وسلاما. قوله : (وعذابا لأولئك) أي من حيث السير ، وقد أنعم الله عليهم في التيه بنعم عظيمة ، منها أنهم شكوا لموسى حالهم من الجوع والعري ، فدعا الله تعالى فأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم من الكسوة ما يكفيهم كل واحد على مقدار هيئته ، وشكوا له العطش ، فأتى موسى بحجر من جبل الطور ، فكان يضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا ، وشكوا الحر ، فأرسل الله عليهم الغمام يظلهم ، وكان يطلع عمود من نور يضيء لهم بالليل ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر ، يطول بطوله ويتسع بقدره. قوله : (أن يدنيه) أي يقربه من الأرض المباركة ، أي يدفن بقربها لكونها مطهرة مباركة ، ويؤخذ من ذلك ، أن الإنسان ينبغي له أن يتحرى الدفن في الأرض المباركة بقرب نبي أو ولي ، وإنما لم يسأل الدفن فيها خوفا من أن يعرف قبره فيفتتن به الناس. قوله : (بعد الأربعين) أي مدة التيه. قوله : (بمن بقي) أي وهم أولادهم الذين لم يبلغوا العشرين سنة حين أخذ الميثاق. قوله : (وقاتلهم) روي أن الله نبأ يوشع بعد موت موسى ، وأخبرهم أن الله قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدقوه وبايعوه ، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق ، وأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر ، وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها ، فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها ، وكان القتال يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : الههم أردد الشمس علي ، وقال للشمس : إنك

٣٧٣

الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس (وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ) على قومك (نَبَأَ) خبر (ابْنَيْ آدَمَ) هابيل وقابيل (بِالْحَقِ) متعلق باتل (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) إلى الله وهو كبش لهابيل وزرع لقابيل (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه

____________________________________

في طاعة الله ، وأنا في طاعة الله ، فسأل الشمس أن تقف ، والقمر أن يقيم ، حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، ثم تتبع ملوك الشام فقتل منهم إحدى وثلاثين ملكا ، حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل ، وفرق عماله في نواحيها ، ثم مات يوشع ودفن بجبل إبراهيم ، وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعا وعشرين سنة. قوله : (لم تحبس على بشر) أي قبل يوشع ، وإلا فقد حبست لنبينا مرتين يوم الخندق ، حين شغل هو وأصحابه عن صلاة العصر حتى غربت الشمس ، فردها الله عليه حتى صلى العصر ، وصبيحة ليلة الإسراء حين انتظر قدوم العير ، وزيد في رواية مرة لعلي بن أبي طالب حين كان النبي نائما على فخذه ، ولم يكن صلى العصر ، فما استيقظ حتى غربت الشمس ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم عليا في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس حتى يصلي العصر». قوله : (ليالي سار) أي أيام سيره ، أي توجهه لقتالهم.

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) معطوف على العامل المحذوف في قوله : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عطف قصة على قصة ، أي اذكر ما وقع من بني إسرائيل ، واتل عليهم نبأ ابني آدم الخ. قوله : (على قومك) أي سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين. قوله : (خبر) (ابْنَيْ آدَمَ) أي قصتهما وما وقع لهما. قوله : (هابيل) هو السعيد المقتول ، وقابيل هو الشقي القاتل ، وظاهر الآية أنهما من أولاد آدم لصلبه وهو التحقيق ، ويؤيده قوله فيما يأتي ، فبعث الله غرابا ، وقيل لم يكونا لصلبه بل هما رجلان من بني إسرائيل ، بدليل قوله في آخر القصة ، : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، والأول هو الصحيح ، وقابيل هو أول أولاده ، وهابيل بعده بسنة ، وكلاهما بعد هبوطه إلى الأرض بمائة سنة ، وقيل إن قابيل هو وأخته ولدا في الجنة ، ولم تر حواء لهما وحما ولا وصبا ولا دم نفاس ، وأما بقية أولاده فبالأرض ، ولذا كان يفتخر قابيل على هابيل ويقول له : إني ابن الجنة وأنت ابن الأرض ، فأنا خير منك ، وحاصل ذلك أن حواء ولدت لآدم عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، فصار الذكور عشرين والإناث كذلك ، فلما قتل قابيل هابيل ، نقصت الذكور عن الإناث فرزقه الله بشيث ومعناه هبة الله ، فتماثل الذكور مع الإناث.

قوله : (بِالْحَقِ) الجار والمجرور ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره اتل تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من فاعل أتل عليهم حال كونك ملتبسا بالحق أي الصدق أو حال من المفعول وهو نبأ أي اتل نبأهما حال كونه ملتبسا بالحق ، وكل صحيح ، والمقصود من ذكر هذه القصص الأخبار بما في الكتب القديمة ، لتقوم الحجة على أربابها وغيرهم ، فالأخبار بها من جملة المعجزات.

قوله : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أي قرب كل واحد قربانا ، والقربان ما يقرب به إلى الله. وذلك أنه كان في شرع آدم ، إذا كبر أولاده زوج ذكر هذه البطن لأنثى بطن أخرى ، فأمره الله أن يزوج قابيل أخت هابيل وكانت دميمة ، وهابيل أخت قابيل وكانت جميلة ، فرضي هابيل وأبى قابيل ، وقال : إنك تأمرنا برأيك لا

٣٧٤

(وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم (قالَ) له (لَأَقْتُلَنَّكَ) قال لم قال لتقبل قربانك دوني (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) (لَئِنْ) لام قسم (بَسَطْتَ) مددت (إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (٢٨) في قتلك (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) ترجع (بِإِثْمِي) بإثم قتلي (وَإِثْمِكَ) الذي ارتكبته من قبل (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ولا أريد أن أبوء بإثمك إذا قتلتك فأكون منهم قال تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (٢٩) (فَطَوَّعَتْ) زينت (لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ) فصار (مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣٠) بقتله ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم فحمله على ظهره (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ينبش في التراب بمنقاره وبرجليه ويثيره على غراب

____________________________________

من عند الله. فقال لهما : قربا قربانا ، فأيكما تقبل منه فهو أحق بالجميلة ، فذهب هابيل وأخذ كبشا من أحسن غنمه وقربه ، وذهب قابيل لصبرة قمح من أردأ ما عنده ، وقيل قت رديء ، حتى أنه وجد سنبلة جيدة ففركها وأكلها ، وكان علامة قبول القربان نزول نار من السماء تحرقه ، فنزلت على كبش هابيل فأحرقته ، وقيل رفع إلى السماء حتى نزل فداء للذبيح ولم يتقبل من قابيل. قوله : (فغضب) أي لأمرين : فوزه بالجميلة وبقبول قربانه. قوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي ولم يكن عندك تقوى لعقوقك لأبيك ، وعدم إخلاصك في القربان. قوله : (لِتَقْتُلَنِي) اللام للتعليل أي لأجل قتلي. قوله : (ما أَنَا بِباسِطٍ) جواب للقسم لتقدمه ، وحذف جواب الشرط لتأخره ، قال ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

والباء في بباسط زائدة في خبر ما ، على أنها حجازية ، وفي خبر المبتدأ على أنها تميمية. قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي فالمانع لي من قتلك خوف الله ، وكان في شرعهم لا يجب دفع الصائل بل يجب الاستسلام له ، وما في شرعنا فعند الشافعي يسنّ الاستسلام للمسلم الصائل ، ويجب قتل الكافر ، وعند مالك دفع الصائل واجب ولو بالقتل مسلما أو كافرا. قوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) هذا تخويف من هابيل لقابيل لعله ينزجر. إن قلت : إنه لا تحل إرادة المعصية من الغير. أجيب بأجوبة منها : أن الهمزة محذوفة والاستفهام للإنكار ، والأصل إني أريد ، والمعنى لا أريد ، ويؤيده هذا قراءة أني بفتح النون بمعنى كيف. ومنها : أن لا محذوفة أي أن لا تبوء على حد : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا). قوله : (والذي ارتكبته) أي كالحسد ومخالفة أمر أبيه.

قوله : (وَذلِكَ) أي المذكور وهو النار. قوله : (زينت) أي سهلت عليه القتل. قوله : (فَقَتَلَهُ) قيل لما قصد قتله لم يدر كيف يقتله ، فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر ، وقابيل ينظر فتعلم القتل ، فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو صابر ، واختلف في موضع قتله ، فقيل على عقبة حراء ، وقيل بالبصرة عند مسجدها الأعظم. قوله : (فحمله على ظهره) أي في جراب ، قيل أربعين يوما وقيل سنة ، روي لما قتل ابن آدم أخاه ، رجفت بمن عليها سبعة أيام ، وشربت الأرض دم المقتول كما تشرب الماء ، فناداه الله : يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال : ما أدري ما كنت عليه

٣٧٥

ميت معه حتى وأراه (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ) جيفة (أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) عن (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) على حمله وحفر له وواراه (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) الذي فعله قابيل (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) قتلها (أَوْ) بغير (فَسادٍ) أتاه (فِي الْأَرْضِ) من كفر أو زنا أو قطع طريق أو نحوه (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها) بأن امتنع من قتلها (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قال ابن عباس من حيث انتهاك حرمتها وصونها (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) أي بني إسرائيل (رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) المعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك ونزل في العرنيين لما قدموا المدينة وهم مرضى فأذن لهم

____________________________________

رقيبا ، فقال الله له : إن دم أخيك ليناديني من الأرض ، فلم قتلت أخاك؟ فقال : فأين دمه إن كنت قتلته ، فحرم الله على الأرض من يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا. ويروى أنه لما قتل قابيل هابيل كان آدم بمكة ، فاشتاك الشجر أي ظهر له شوك ، وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه ، واغبرت الأرض ، فقال آدم : قد حدث في الأرض حادث ، فلما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا ، فقال : بل قتلته ولذلك أسود جلدك ، فغضب عليه فذهب قابيل مطرودا ، فأخذ أخته وهرب بها إلى عدن ، فأتاه إبليس وقال له : إنما أكلت من النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت النار فهو أول من عبد النار ، وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة ، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنه ، فقال ابن الأعمى لأبيه : هذا أبوك قابيل ، فرماه بحجارة فقتله ، فقال ابن الأعمى لأبيه : قتلت أباك قابيل ، فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات ، فقال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي ، وابني بلطمتي ، واستمرت ذرية قابيل يفسدون في الأرض ، إلى أن جاء طوفان نوح فأغرقهم جميعا ، فلم يبق منهم أحد ولله الحمد ، وأبقى الله ذرية شيت إلى يوم القيامة ، وما مات آدم حتى رأى من ذريته أربعين ألفا. قوله : (ويثيره على غراب ميت معه) أي بعد أن وضعه في الحفرة التي نبشها.

قوله : (يا وَيْلَتى) كلمة تحسر ، والألف بدل من ياء المتكلم ، أي هذا أوانك فاحضري. قوله : (أَعَجَزْتُ) تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب. قوله : (فَأَصْبَحَ) أي صار من النادمين على حمله ، أي أو على عدم اهتدائه للدفن أو لا ، فلا يقال إن الندم توبة ، فيقتضي أنه تاب فلا يخلد في النار. قوله : (الذي فعله قابيل) أي من الفساد. قوله : (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) إنما خصهم بالذكر ، وإن كان القصاص في كل ملة ، لأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة ، أقدموا على قتل الأنبياء والأولياء ، وذلك يدل على قسوة قلوبهم.

قوله : (وَمَنْ أَحْياها) أي تسبب في بقائها ، إما بنهي قاتلها عن قتلها ، أو بإطعامها وحفظها من الأسباب المهلكة. قوله : (أي من حيث انتهاك حرمتها) أي النفوس المقتولة ، ولذا ورد في الحديث : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فقابل عليه وزر كل من وقع منه القتل من بني آدم لتسببه في ذلك ، فإنه أول من وقع منه القتل. قوله : (ونزل) وجه المناسبة بينها وبين قصة ابني آدم ظاهرة ، لأن قابيل قتل وأفسد في الأرض هو وذريته. قوله : (في العرنيين) جمع عرني نسبة لعرينة قبيلة من العرب ، كجهني نسبة لجهينة ، وكانوا ثمانية رجال قدموا المدينة وأظهروا الإسلام وكانوا مرضى ، فاشتكوا

٣٧٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجوا إلى الإبل ويشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستاقوا الإبل (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمحاربة المسلمين (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) بقطع الطريق (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أو لترتيب الأحوال فالقتل لمن قتل فقط والصلب لمن قتل وأخذ المال والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل والنفي لمن أخاف فقط قاله ابن عباس وعليه الشافعي وأصح قوليه أن الصلب ثلاثا بعد القتل وقيل قبله قليلا ويلحق بالنفي ما أشبهه

____________________________________

له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرضهم ، فأمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ، وكانت خمسة عشر ترعى في الجبل مع عتيق للمصطفى يقال له يسار النوبي ، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام ، فقد وقع منهم المحاربة والقتل والسرقة والارتداد ، فبلغ رسول الله خبرهم ، فأرسل خلفهم نحو عشرين فارسا ، فأتوا بهم فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم أي كحلهم بالنار ، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة ويستسقون فلم يسقهم أحد. إن قلت : تسمير الأعين وموتهم بالجوع والعطش مثلة ورسول الله نهى عنها. أجيب بأجوبة منها : أنهم فعلوا بالراعي كذلك ، ومنها أن ذلك خصوصية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، ومنها أن ذلك كان جائزا ثم نسخ. قوله : (ويشربوا من أبوالها) أخذ مالك من ذلك طهارة فضلة مأكول اللحم. قوله : (بمحاربة المسلمين) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون ، وأفاد به أن هذا الأمر مستمر إلى يوم القيامة.

قوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ) هذا تصوير للمحاربة ، وقوله : (فَساداً) مفعول لأجله ، أي يسعون لأجل الفساد. قوله : (بقطع الطريق) أي لأخذ المال أو هتك الحريم أو قتل النفوس. قوله : (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي من غير صلب ، وقوله : (أَوْ يُصَلَّبُوا) أي مع القتل في محل مشهور لزجر غيره ، والتفعيل للتكثير لكثرة المحاربين.

قوله : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي إلى مسافة القصر فما فوقها. قوله : (أو لترتيب الأحوال) أي التقسيم فيها ، والمعنى أن هذه العقوبات على حسب أحوال المحاربين ، وبينّ المفسر ذلك ، قال بعض العلماء أوفى جميع القرآن للتخيير إلا هذه الآية. قوله : (وعليه الشافعي) أي موافقا في الاجتهاد لابن عباس لا مقلدا له ، وعند مالك أو على بابها للتخيير لكن بحسب ما يراه الحاكم ، فحدود المحارب أربعة لا يجوز الخروج عنها ، وإنما الإمام مخير في فعل أيها شاء بالمحارب ما لم يقتل المحارب مسلما مكافئا ولم يعف وليه فإنه يتعين قتله ، فإن عفا الولي رجع التخيير للإمام ، فما أوجبه الشافعي استحسنه مالك للإمام وجاز غيره ، مثلا يجب على الإمام قتل القاتل ، ولا يجوز غيره من الصلب والقطع من خلاف عند الشافعي ، واستحسنه مالك للإمام ويجوز غيره من الحدود. قوله : (إن الصلب ثلاثا) أي لا أقل إلا أن يخاف التغيير ، وقيل يطال به حتى ينقطع جسده. قوله : (وقيل قبله قليلا) أي بحيث يحصل الزجر به ، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وعليه فيقتل وهو مصلوب. قوله : (ويلحق بالنفي ما أشبهه) أي لأن المقصود من النفي البعد عن الخلق ، وذلك كما يحصل بإبعاده من الأرض التي هو بها يحصل بحبسه ، ولو في الأرض التي هو بها ، وهذا مذهب الشافعي ووافقه أبو حنيفة ، وقال مالك النفي إبعاده من الأرض على مسافة القصر ، ولا يكفي حبسه بأرضه.

٣٧٧

في التنكيل من الحبس وغيره (ذلِكَ) الجزاء المذكور (لَهُمْ خِزْيٌ) ذل (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣٣) هو عذاب النار (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من المحاربين والقطاع (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم ما أتوا (رَحِيمٌ) (٣٤) بهم عبر بذلك دون فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم فإذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع ولا يصلب وهو أصح قولي الشافعي ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا وهو أصح قوليه أيضا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوه (وَابْتَغُوا) اطلبوا (إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ما يقربكم اليه من طاعته (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)

____________________________________

قوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) اسم الإشارة مبتدأ ، ولهم خبر مقدم ، وخزي مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر المبتدأ ، و (فِي الدُّنْيا) صفة الخزي ، وهذا أحسن الأعاريب. قوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذا محمول على من مات كافرا ، وأما حدود المسلمين فالمعتمد أنها جوابر. قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء منقطع أي لكن التائب يغفر له. قوله : (ليفيد إنه لا يسقط الخ) حاصل ذلك أنه إن كان كافرا أو تاب ، سقطت عنه جميع التبعات حدودا أو غيرها ، وأما إن كان مسلما سقط عنه حقوق الله لا حقوق الآدميين ، مثلا إن قتل وجاء تائبا ، فالنظر للولي إن شاء عفا وإن شاء اقتص. قوله : (كذا ظهر لي) أي فهمه من الآية ، وقوله : (ولم أر من تعرض له) أي من المفسرين وإن كان مذكورا في كتب الفقه. قوله : (يقتل ويقطع) هذا سبق قلم والمناسب حذف قوله ويقطع ، والحاصل عند الشافعي أنه إذا قتل وتاب ، فإن عفا الولي سقط القتل وإلا فيقتل فقط ، وأما إن كان أخذ المال وتاب ، فإنه يؤخذ منه المال ولا يقطع ، خلافا لما ذكره المفسر من أنه إذا قتل وأخذ المال ثم تاب فإنه يجمع له بين القتل والقطع ، وإنما المنفي عنه الصلب ، وما ذكرناه من المعتمد عند الشافعي يوافقه مالك. قوله : (وهو أصح قولي الشافعي) أي ومقابله أنه يصلب.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) لما ذكر سبحانه وتعالى أن التوبة من الذنوب نافعة ، وكانت التوبة من جملة التقوى حث على طلبها هنا. قوله : (إِلَيْهِ) متعلق بابتغوا. قوله : (ما يقربكم إليه) أي يوصلكم إليه ، وقوله : (من طاعته) بيان لما ، سواء كانت تلك الطاعة فرضا أو نقلا لما في الحديث : «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث. فالتقوى هنا ترك المخالفات ، وابتغاء الوسيلة فعل المأمورات ، ويصحّ أن المراد بالتقوى امتثال المأمورات الواجبة وترك المنهيات المحرمة ، وابتغاء الوسيلة ما يقربه إليه مطلقا ، ومن جملة ذلك : محبة أنبياء الله وأوليائه ، والصدقات ، وزيارة أحباب الله ، وكثرة الدعاء ، وصلة الرحم ، وكثرة الذكر وغير ذلك ، فالمعنى كل ما يقربكم إلى الله فالزموه ، واتركوا ما يبعدكم عنه ، إذا علمت ذلك ، فمن الضلال البين والخسران الظاهر ، تكفير المسلمين بزيارة أولياء الله ، زاعمين أن زيارتهم من عبادة غير الله ، كلا بل هي من جملة المحبة في الله التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا إيمان لمن لا محبة له والوسيلة له التي قال الله فيها وابتغوا إليه الوسيلة».

قوله : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) عطف خاص على عام ، إشارة إلى أن الجهاد من أعظم الطاعات ،

٣٧٨

لإعلاء دينه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥) تفوزون (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ) ثبت (أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣٦) (يُرِيدُونَ) يتمنون (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧) دائم (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أل فيهما موصولة مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي يمين كل منهما من الكوع وبينت السنة أن الذي يقطع فيه ربع دينار فصاعدا وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى وبعد ذلك يعزر

____________________________________

وهو قسمان : أصغر وهو قتال المشركين ، وأكبر وهو الخروج عن الهوى والنفس والشيطان ، وكان قتال المشركين جهادا أصغر لأنه يحضر تارة ويغيب أخرى ، وإذا قتلك الكافر كنت شهيدا ، وإن قتلته صرت سعيدا ، بخلاف النفس فلا تغيب عنك وإذا قتلتك صرت من الأشقياء ، نسأل الله السلامة. قوله : (تفوزون) أي تظفرون بسعادة الدارين.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا كالدليل لما قبله ، كأن الله يقول الزموا التقوى ليحصل لكم الفوز ، لأن من لم تكن عنده التقوى كالكفار ، لا ينفعه الفداء من العذاب الخ. قوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) لو شرطية ، وفعل الشرط محذوف قدره المفسر بقوله : (ثبت) (إِنَ) وما دخلت عليه فاعل ثبت ، و (لَهُمْ) خبر أن مقدم ، و (ما فِي الْأَرْضِ) اسمها مؤخر ، و (جَمِيعاً) توكيد له أو حال منه ، و (مِثْلَهُ) معطوف على اسم (إِنَ) وقوله : (لِيَفْتَدُوا) علة له ، وقوله : (بِهِ) أي بما ذكر وهو (ما فِي الْأَرْضِ) ومثله أو حذفه من الأول لدلالة الثاني عليه على حد : فإني وقيار بها لغريب ، والتقدير لو أن لهم ما في الأرض جميعا ليفتدوا به ، ومثله معه ليفتدوا به ، وقوله : (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) جواب الشرط ، و (لَوْ) مع مدخولها في محل رفع خبر أن الأولى. والمعنى لو ثبت أن للكفار ما في الأرض جميعا ، ومثله معه ، ويريدون الافتداء بذلك من العذاب ما نفعهم ذلك ، وهو كناية عن عدم قبولهم ، وعدم نفع عز الدنيا لهم. قوله : (يتمنون) أي حيث يقولون يا مالك ليقض علينا ربك. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دفع بذلك ما يتوهم من قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أنه ربما ينقطع.

قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) جمهور القراء على الرفع على الابتداء ، ولا يصح النصب على الاشتغال ، لأن ما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبلها ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، وهذه الفاء تشبه فاء الجزاء ، وصرح بالسارقة لكون السرقة معهودة منهن أيضا ، وقدم سبحانه وتعالى السارق على السارقة هنا ، وقدم الزانية على الزاني في سورة النور ، لأن الرجال في السرقة أقوى من النساء ، والزنا من النساء أقوى من الرجال. قوله : (أل فيهما موصولة) أي وصلتها الصفة الصريحة ، أي الذي سرق والتي سرقت. قوله : (مبتدأ) أي وهو مرفوع بضمة ظاهرة ، لأن إعرابهما ظهر فيما بعدهما. قوله : (دخلت الفاء في خبره وهو) (فَاقْطَعُوا) أي فجملة (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) خبر المبتدأ ، ولا يضر كونه جملة طلبية على المعتمد ، وقيل الخبر محذوف وتقديره مما يتلى عليكم حكمهما ، وما بعد الفاء تفصيل له. قوله : (ربع دينار) أي أو ثلاثة دراهم شرعية ، أو مقوم بهما ، ويشترط في القطع إخراجه من حرز مثله ، غير مأذون له في دخوله ، ويثبت القطع ببينة أو بإقراره طائعا ، فإن أقر ثم رجع لزمه المال دون القطع ، فإن سرق ولم تثبت عليه

٣٧٩

(جَزاءً) نصب على المصدر (بِما كَسَبا نَكالاً) عقوبة لهما (مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) (٣٨) في خلقه (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) رجع عن السرقة (وَأَصْلَحَ) عمله (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩) في التعبير بهذا ما تقدم فلا يسقط بتوبته حق الآدمي من القطع ورد المال نعم بينت السنة أنه إن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع وعليه الشافعي (أَلَمْ تَعْلَمْ) الاستفهام فيه للتقرير (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠) ومنه التعذيب والمغفرة (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) صنع (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه بسرعة أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة (مِنَ) للبيان (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) بألسنتهم متعلق بقالوا (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)

____________________________________

السرقة ، وجب عليه الستر على نفسه ورد المال والتوبة منه ، وكذا كل معصية ، فمن الجهل قول بعض من يدعي التصوف : لو اطلعتم علي لرجمتموني ، وبالجملة من ستر على نفسه ستره الله. قوله : (نصب على المصدر) أي والعامل محذوف تقديره جازاه الله جزاء ، ويصح أن يكون مفعولا لأجله ، أي اقطعوا أيديهما لأجل الجزاء ، وقوله : (بِما كَسَبا) الباء سببية أي بسبب كسبهما ، وقوله : (نَكالاً) علة للعلة فالعامل فيه جزاء. قوله : (غالب على أمره) أي فلا معقب لحكمه ، لأنه القاهر على كل شيء. قوله : (حكيم) أي يضع الشيء في محله ، فلا يحكم بقطع يده ظلما لأن السارق لما خان هان ، ولذا أورد بعض اليهود على القاضي عبد الوهاب البغدادي سؤالا حيث :

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه رضي الله عنه بقوله :

عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها

ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

قوله : (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي من بعد تعديه وأخذه المال وظلمه للناس. قوله : (في التعبير بهذا) أي قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) دون أن يقول فلا تحدوه. قوله : (وعليه الشافعي) أي وعند مالك فلا ينفع عفوه عنه مطلقا قبل الرفع أو بعده ، حيث ثبتت السرقة ببينة أو إقرار ، ولم يرجع بل يقطع لأنه حق الله ، وقوله : (قبل الرفع) أي وأما بعده فلا بد من قطعه اتفاقا.

قوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي إن لم يتب فالميت المصر على الذنب تحت المشيئة خلافا للمعتزلة. قوله : (ومن التعذيب والمغفرة) أي من الشيء المقدور عليه. قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) أل للعهد الحضوري ، أي الرسول الحاضر وقت نزول القرآن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يخاطب بيا أيها الرسول إلا في موضعين هذا وما يأتي في هذه السورة. قوله : (لا يَحْزُنْكَ) قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي ، والمقصود نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن الناشىء عن مسارعتهم إلى الكفر ، رفقا به وتسلية له. قوله : (إذا وجدوا فرصة) أي زمنا يتمكنون فيه من الظفر بمطلوبهم ، فالكفر حاصل منهم على كل حال ، غير أنهم إذا وجدوا زمنا أو مكانا يتمكنون فيه من إظهاره فعلوا قال تعالى : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) قوله : (مِنَ) (للبيان) أي لقوله : (الَّذِينَ يُسارِعُونَ) على حد : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ). قوله : (متعلق بقالوا)

٣٨٠