حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) من الرسل (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) منهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) الكفر والإيمان (سَبِيلاً) (١٥٠) طريقا يذهبون إليه (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١) ذا إهانة هو عذاب النار (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) كلهم (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) بالنون والياء (أُجُورَهُمْ) ثواب أعمالهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لأوليائه (رَحِيماً) (١٥٢) بأهل طاعته (يَسْئَلُكَ) يا محمد (أَهْلُ الْكِتابِ) اليهود (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) جملة كما أنزل على موسى تعنتا فإن استكبرت ذلك (فَقَدْ سَأَلُوا) أي آباؤهم (مُوسى أَكْبَرَ) أعظم (مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) عيانا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) الموت عقابا لهم (بِظُلْمِهِمْ) حيث تعتنوا في السؤال (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ)

____________________________________

مثلا. قوله : (من الرسل) أي كموسى وعيسى. قوله : (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي كمحمد. قوله : (طريقا يذهبون إليه) أي واسطة بين الإيمان والكفر ، وهو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض. قوله : (مصدر مؤكد) أي وعامله محذوف ويقدر مؤخرا عن الجملة المؤكدة لها تقديره أحقه حقا ، نظير زيد أبوك عطوفا. قال ابن مالك :

وإن تؤكّد جملة فمضمر

عاملها ولفظها يؤخّر

ويصح أن يكون حالا من قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ) أي حال كون كفرهم حقا أي لا شك فيه. قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مقابل قوله : (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) وقوله : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا) مقابل قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا). قوله : (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي في الإيمان بأن يؤمنوا بجميعهم. قوله : (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وعلى النون فيكون فيه التفات من الغيبة للتكلم ، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة.

قوله : (يَسْئَلُكَ) أي سؤال تعنت ذو عناد ، فلذا لم يبلغهم الله مرادهم ، ولو كان سؤالهم لطلب الاسترشاد لأجيبوا. قوله : (اليهود) أي أحبارهم. قوله : (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) أي فقالوا إن كنت نبيا فائتنا بكتاب محرر بخط سماوي في ألواح كما نزلت التوراة. قوله : (تعنتا) مفعول لأجله أي فالحامل لهم على السؤال التعنت والعناد لا الاسترشاد ، وإلا لأجيبوا. قوله : (فإن استكبرت ذلك) قدره إشارة إلى أن قوله : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) جواب شرط محذوف ، والمعنى إن استعظمت سؤالهم ، فقد وقع من أصولهم ما هو أعظم من ذلك. قوله : (أي آباؤهم) أي وإنما نسب السؤال لهم لأنهم راضون بها فكأنها وقعت منهم. قوله : (فَقالُوا) تفسير لسألوا على حد توضأ فغسل وجهه. قوله : (عيانا) أي معاينين له ، وذلك أن موسى عليه‌السلام اختار من قومه سبعين من بني إسرائيل ، فخرج معهم إلى الجبل ليستغفروا لقومهم حيث عبدوا العجل (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي ثم أحيوا بعد ذلك حين قال موسى : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي.

قوله : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) ثم للترتيب الذكري الإخباري ، لأن عبادة العجل كانت قبل ذلك

٣٤١

إلها (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) المعجزات على وحدانية الله (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) ولم نستأصلهم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣) تسلطا بينا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة فأطاعوه (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) الجبل (بِمِيثاقِهِمْ) بسبب أخذ الميثاق عليهم ليخافوا فيقبلوه (وَقُلْنا لَهُمُ) وهو مظل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ) باب القرية (سُجَّداً) سجود انحناء (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) وفي قراءة بفتح العين وتشديد الدال وفيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي لا تعتدوا (فِي السَّبْتِ) باصطياد الحيتان فيه (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) على ذلك فنقضوه (فَبِما نَقْضِهِمْ) ما زائدة والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعناهم بسبب نقضهم (مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لا تعي كلامك (بَلْ طَبَعَ) ختم (اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) فلا تعي وعظا (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥) منهم كعبد الله

____________________________________

قوله : (المعجزات) أي كالعصا واليد البيضاء والسنين وفلق البحر. قوله : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي قبلنا توبتهم ، فتوبوا أنتم أيضا حتى يعفو عنكم. قوله : (سُلْطاناً) أي قهرا عظيما وسلطنة جليلة. قوله : (فأطاعوه) أي فقتل منهم سبعون ألفا في يوم واحد.

قوله : (بِمِيثاقِهِمْ) أي حين جاءهم موسى بالتوراة ، وفيها الأحكام فامتنعوا من قبولها ، فرفع الله فوقهم الطور ، فخافوا من وقوعه عليهم فقبلوه وسجدوا على جبينهم وأعينهم تنظر له ، فصار ذلك فيهم إلى الآن. قوله : (فيقبلوه) أي الميثاق ولا ينقضوه. قوله : (وهو مظل عليهم) أي مرفوع عليهم ، والتقييد بذلك سبق قلم ، لأن القول لهم حين دخول القرية كان بعد مدة التيه ، وتلك القرية قيل هي بيت المقدس وقيل أريحا ، والقول قيل على لسان يوشع بن نون وهي قرية الجبارين ، وأما رفع الجبل فكان قبل دخولهم التيه حين جاءتهم التوراة فلم يؤمنوا بها. قوله : (سجود انحناء) أي خضوع وتذلل ، فخافوا ودخلوا يزحفون على أستاههم ، وتقدم بسط ذلك في البقرة. قوله : (لا تَعْدُوا) بسكون العين وضم الدال من عدا يعدو بمعنى جار ، وأصله تعدووا بضم الواو الأولى وهي لام الكلمة ، استثقلت الضمة عليها فحذفت فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ووزنه تفعوا. قوله : (وفي قراءة بفتح العين) أي فأصله تعتدوا قلبت التاء دالا ثم أدغمت في الدال ، والمعنى أنهم نهوا عن الاعتداء في السبت بصيد السمك ، فخالف بعضهم واصطاد وامتنع بعضهم من غير نهي للآخرين وامتنع بعضهم مع نهي من اصطاد ، فحل بمن اصطاد العذاب ونجا من نهي ، وسيأتي بسط ذلك في سورة الأعراف. قوله : (مِيثاقاً غَلِيظاً) أي أنهم إن خالفوا عذبهم الله بأي نوع من العذاب أراده. قوله : (بِآياتِ اللهِ) أي القرآن أو كتابهم. قوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) أي حتى في زعمهم ، أي فهم مقرّون بأن القتل بغير وجه.

قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) أي غشيت وغطيت بغطاء معنوي لا حسي كما قالوا تهكما ، بمعنى أنهم صم بكم عمي لا يهتدون للحق ولا يعونه. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) قيل إنه مستثنى من فاعل (يُؤْمِنُونَ) ورد بأن من آمن لم يطبع على قلبه ، والأحسن أنه مستثنى من الهاء في قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) أي إلا قليلا

٣٤٢

ابن سلام وأصحابه (وَبِكُفْرِهِمْ) ثانيا بعيسى وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦) حيث رموها بالزنا (وَقَوْلِهِمْ) مفتخرين (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) في زعمهم أي بمجموع ذلك عذبناهم قال تعالى تكذيبا لهم في قتله (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) المقتول والمصلوب وهو صاحبهم بعيسى أي ألقى الله عليه شبهه فظنوه إياه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في عيسى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من قتله حيث قال بعضهم لما رأوا المقتول : الوجه وجه عيسى والجسد ليس بجسده فليس به. وقال آخرون بل هو هو (ما لَهُمْ بِهِ) بقتله (مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) استثناء منقطع أي لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) حال مؤكدة لنفي القتل (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في ملكه (حَكِيماً) (١٥٨) في صنعه (وَإِنْ) ما (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أحد (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) بعيسى (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي الكتابي حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه أو قبل موت عيسى لما ينزل قرب

____________________________________

فلم يطبع على قلوبهم. قوله : (ثانيا بعيسى) أي وأولا بموسى. قوله : (وكرر الباء) أي في قوله : (وَبِكُفْرِهِمْ). قوله : (للفصل) أي بأجنبي وهو قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ). قوله : (حيث رموها بالزنا) أي منكرين تعلق قدرة الله تعالى بخلق ولد من غير والد ، ومعتقد ذلك كافرا لأنه يلزم عليه القول بقدم العالم ، لأن كل ولد لا بد له من والد وهكذا.

قوله : (رَسُولَ اللهِ) إن قلت : أنهم لم يعترفوا برسالته! بل كفروا به وقالوا هو ساحر ابن ساحرة. وأجيب : بأنهم قالوا ذلك تهكّما به ، نظير قول فرعون لموسى إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، وقول مشركي العرب في حق محمد : يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وأجيب أيضا : بأنه من كلامه تعالى مدحا له وتنزيها له عن مقالتهم ، فيكون منصوبا بفعل محذوف ، أي أمدح رسول الله. قوله : (في زعمهم) متعلق بقوله : (قَتَلْنَا) والمناسب حذفه لأن تكذيبهم في القتل معلوم من قوله بعد : (وَما قَتَلُوهُ) وفي نسخة في زعمه بالإفراد ، ويكون متعلقا بقوله : (رَسُولَ اللهِ) وهي أولى.

قوله : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) روي أن رهطا من اليهود سبوه وأمه! فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بذلك ، وكان له صاحب منافق ، فقالوا له : اذهب إلى عيسى وأخرجه لنا ، فلما دخل دار عيسى ألقى شبهه عليه ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم قتلوه. قوله : (بعيسى) متعلق بشبه ، وقوله : (عليه) أي الصاحب ، وقوله : (شبهه) أي شبه عيسى. قوله : (استثناء منقطع) أي لأن إتباع الظن ليس من جنس العلم. قوله : (مؤكدة لنفي القتل) أي انتفى قتلهم له انتفاء يقينا لا شك فيه ، فيلاحظ القيد بعد وجود النفي ، فهو من باب تيقن العدم لا من عدم التيقن ، ومحصله أنه نفي للقيد الذي هو اليقين ، والمقيد الذي هو القتل ، ويصح أن يكون حالا من فاعل قتلوه أي ما فعلوا القتل في حال تيقنهم له ، بل فعلوه شاكين فيه ، وقيل منصوب بما بعد بل من قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ورد بأن ما بعد بل لا يعمل فيما قبلها. قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي إلى محل رضاه وانفراد حكمه وهو السماء الثالثة ، كما في الجامع الصغير ، أو الثانية كما في بعض المعاريج. قوله : (حين يعاين

٣٤٣

الساعة كما ورد في الحديث (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) عيسى (عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩) بما فعلوه لما بعث إليهم (فَبِظُلْمٍ) أي فبسبب ظلم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) هي التي في قوله تعالى حرمنا كل ذي ظفر الآية (وَبِصَدِّهِمْ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه صدا (كَثِيراً) (١٦٠) في التوراة (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) في التوراة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشا في الحكم (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦١) مؤلما (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) الثابتون (فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام (وَالْمُؤْمِنُونَ) المهاجرون والأنصار (يُؤْمِنُونَ بِما

____________________________________

ملائكة الموت) روي أن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا له : يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به ، فيقول آمنت بأنه عبد الله ورسوله ، ويقال للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله وابن الله ، فيقول آمنت بأنه عبد الله ، فأهل الكتاب يؤمنون به ، ولكن لا ينفعهم إيمانهم لحصوله وقت معاينة العذاب. قوله : (أو قبل موت عيسى) هذا تفسير آخر وهو صحيح أيضا ، والمعنى أن عيسى حين ينزل إلى الأرض ما من أحد يكون من اليهود أو النصارى ، أو ممن يعبد غير الله إلا آمن بعيسى ، حتى تصير الملة كلها إسلامية. قوله : (شَهِيداً) أي فيشهد على اليهود بالتكذيب ، وعلى النصارى بأنهم اعتقدوا فيه أنه ابن الله.

قوله : (فَبِظُلْمٍ) الجار والمجرور متعلق بحرمنا والباء سببية. قوله : (هم اليهود) سموا بذلك لأنهم هادوا بمعنى تابوا ، ورجعوا عن عبادة العجل. قوله : (أُحِلَّتْ لَهُمْ) صفة لطيبات ، أي طيبات كانت حلال لهم ، فلما حرمت عليهم ، صاروا يقولون : لسنا بأول من حرمت عليه ، بل كانت حراما على من قبلنا! فرد الله عليهم بقوله : (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) الآية. قوله : (وَبِصَدِّهِمْ) هذا تفصيل لبعض أنواع الظلم ، وكرر الجار للفصل بين العاطف والمعطوف بقوله : (حَرَّمْنا) ولم يكرره في قوله : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ) لعدم الفاصل. قوله : (صدا) (كَثِيراً) أشار بذلك إلى أن كثيرا صفة لموصوف محذوف مفعول مطلق لقوله صدهم ، ويصح أن يكون المحذوف مفعولا به والتقدير خلقا كثيرا.

قوله : (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) الجملة حالية. قوله : (بالرشا في الحكم) جمع رشوة ، وهي ما يعطيه الشخص للحاكم ليحكم له؟ والمقصود من ذكر هذه الأمور الاتعاظ بها؟ وبيان أنها حرام في شرعنا أيضا ، ففي الحديث : «كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به ، قالوا : وما السحت؟ قال : الرشوة في الحكم» فالحاكم لا يجوز له أن يأخذ شيئا على حكمه ، ومثله الضامن ، وذو الجاه ، والمقرض ، ففي الحديث : «ثلاثة لا تكون إلا لله : القرض ، والضمان ، والجاه». قوله : (مِنْهُمْ) أي وممن حذا حذوهم. قوله : (عَذاباً أَلِيماً) أي وهو الخلود في النار.

قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) استدراك على قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) والمعنى من كان من اليهود ، وفعل تلك الأفعال المتقدمة ، وأصر على الكفر ، ومات عليه ، أعتدنا لهم عذابا أليما ، وأما من كان من اليهود ، غير أنه رسخ في العلم ، وآمن وعمل صالحا ، فأولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ، و (الرَّاسِخُونَ) مبتدأ ، و (فِي الْعِلْمِ) متعلق به ، وقوله : (مِنْهُمْ) متعلق بمحذوف حال من

٣٤٤

أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) نصب على المدح وقرىء بالرفع (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) بالنون والياء (أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢) هو الجنة (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ) كما (أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ابنيه (وَيَعْقُوبَ) ابن اسحاق (وَالْأَسْباطِ) أولاده (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ

____________________________________

الراسخون. وقوله : (أُولئِكَ) مبتدأ ، و (سَنُؤْتِيهِمْ) خبره ، والجملة خبر الراسخون.

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الراسخون عطف مفصل على مجمل ، لأن الإيمان وما بعده متنوع ولازم للرسوخ في العلم ، فنزل التغاير الاعتباري منزلة التغاير الذاتي ، وهذا على أن المراد المؤمنون منهم وأما على أن المراد المؤمنون من غيرهم ، أو ما هو أعم ، فالمغايرة ظاهرة ، وقوله : (يُؤْمِنُونَ) الخ حال من المؤمنون والراسخون. قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي وهو القرآن ، وهذه الصفات للإيمان الكامل ، فلا يكون الإنسان كامل الإيمان حتى يتصف بجميعها. قوله : (نصب على المدح) أي فتكون جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وإنما نصبهم تعظيما لشأنهم ، وما قاله المفسر هو أحسن الأجوبة عن الآية ، ويصح أنه معطوف على الكاف في إليك ، ويكون المراد بالمقيمين الأنبياء ، ويصح أنه معطوف على ما أنزل ، ويكون المراد بالمقيمين الأنبياء والملائكة ، ويصح أن يكون معطوفا على الهاء في منهم ، أي لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين. قوله : (وقرىء بالرفع) أي وعليها ، فلا إشكال وهي شاذة وإن وردت عن كثير.

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي المصدقون بأن الله يجب له كل كمال ، ويستحيل عليه كل نقص ، وقوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدقون بأنه حق وما يقع فيه صدق. قوله : (هو الجنة) أي الخلود فيها ، وهو مقابل قوله : (واعتدنا لهم عذابا أليما).

قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قيل سبب نزولها أن مسكينا وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى ، وقيل هو جواب لقولهم : (لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء جملة واحدة) فالمعنى أنكم تقرون بنبوة نوح وجميع الأنبياء المذكورين في الآية ولم ينزل على أحد من هؤلاء كتابا جملة مثل ما أنزل على موسى ، فقدم إنزال الكتاب جملة ليس قادحا في نبوتهم ، فكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (كَما أَوْحَيْنا) يحتمل أن تكون ما مصدرية ، والمعنى كوحينا ، وأن تكون اسم موصول والعائد محذوف ، والتقدير كالذي أوحيناه أي الأحكام التي أوحيناها إلى نوح الخ. قوله : (إِلى نُوحٍ) قدمه لأنه أول نبي أرسله الله لينذر الناس من الشرك ، وعاش ألف سنة وخمسين عاما وهو صابر على أذى قومه ، لم يشب فيها ولم تنقص قواه ، وهو أول الأنبياء أولي العزم ، وكان أبا البشر بعد آدم لانحصار الناس في ذريته. قوله : (إِلى إِبْراهِيمَ) خصه بعد نوح ، لأن أكثر الأنبياء من ذريته وهو ابن تارخ ، وقيل هو آزر ، وقيل هو أخوه فآزر عم ابراهيم. قوله : (وَإِسْماعِيلَ) كان نبيا ورسولا بمكة ، ثم لما مات نقل إلى الشام. قوله : (وَإِسْحاقَ) كان رسولا بالشام بعد اسماعيل ومات بها.

قوله : (وَيَعْقُوبَ) هو إسرائيل ، ثم يوسف ابنه ، ثم شعيب بن نويب ، ثم هود بن عبد الله ، ثم

٣٤٥

وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا) أباه (داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣) بالفتح اسم للكتاب المؤتى وبالضم مصدر بمعنى مزبورا أي مكتوبا (وَ) أرسلنا (رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس قاله الشيخ في سورة غافر (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) بلا واسطة (تَكْلِيماً) (١٦٤) (رُسُلاً) بدل من رسلا قبله

____________________________________

صالح بن آسف ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم أيوب ، ثم الخضر ، ثم داود بن أيشا ، ثم سليمان بن داود ، ثم يونس بن متى ، ثم الياس ، ثم ذو الكفل ، وكل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح ، ولم يكن نبي من العرب إلا خمسة : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (ابنيه) أي ابراهيم ، اسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة. قوله : (أولاده) أي أولاد يعقوب منهم يوسف نبي ورسول باتفاق وباقيهم فيه اختلاف ، والصحيح نبوتهم وليسوا رسلا مشرعين ، ولذلك وقع منهم ما يخالف الشرع الظاهر للمصالح التي ترتبت على تلك المخالفة ، وسيأتي ذلك في سورة يوسف.

قوله : (وَيُونُسَ) أي ابن متى ، وفيه لغات ست بالواو والهمزة مع تثليث النون ، والذي قرىء به في السبع ضم النون أو كسرها مع الواو ، وقوله : (وَهارُونَ) أي أخي موسى. قوله : (اسم للكتاب المؤتى) أي وهو مائة وخمسون سورة ، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، بل هو تسبيح وتقديس وتحميد وثناء ومواعظ ، وكان داود عليه‌السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ، وتقوم علماء بني إسرائيل حلفه ، ويقوم الناس خلف العلماء ، وتقوم الجن خلف الناس ، والشياطين خلف الجن ، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه ، وترفرف الطيور على رؤوس الناس هم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها ، لأن الله أعطاه صوتا حسنا ، وقد ورد أن أبا موسى الأشعري كان يقرأ القرآن ليلا بصوت حسن ، فلما أصبح قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعجبتني قراءتك الليلة ، كأنك أعطيت مزمارا من مزامير داود ، فقال أبو موسى : لو علمت بك لحبرته لك تحبيرا. قوله : (وبالضم) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ) الخ ، هذا رد لقول اليهود للمصطفى عليه الصلاة والسّلام : إنك لم تذكر موسى مع ما عددته من الأنبياء ، فهذا دليل على عدم رسالتك ، فرد ذلك الله بهذه الآية وبما بعدها. قوله : (روي أنه تعالى الخ) هذه الرواية ضعيفة ، فلذا تبرأ منها المفسر ، والرواية المشهورة أن الأنبياء مائة ألف ، وفي رواية مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر ، وبعد ذلك فالحق أنه لم يبلغنا عددهم على الصحيح ، وإنما هي أحاديث مختلفة تقبل الطعن كما أفاده الأشياخ. قوله : (قاله الشيخ) أي الجلال المحلّي ، وقوله : (في سورة غافر) أي في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).

قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) أي أزال عنه الحجاب فسمع كلام الله ، وليس المراد أن الله كان ساكنا ثم تكلم ، لأن ذلك مستحيل على الله تعالى. قوله : (تَكْلِيماً) مصدر مؤكد لقوله كلم ، وإنما أكد رفعا لاحتمال المجاز ، لأن الله كلم موسى بكلامه الأزلي القديم ، من غير حرف ولا صوت ولا كيف ولا انحصار ، ولا يعلم الله إلا الله. قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ) هذه اللام لام كي متعلقة بمنذرين وأضمر في الأول

٣٤٦

(مُبَشِّرِينَ) بالثواب من آمن (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب من كفر أرسلناهم (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) تقال (بَعْدَ) إرسال (الرُّسُلِ) إليهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فبعثناهم لقطع عذرهم (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في ملكه (حَكِيماً) (١٦٥) في صنعه. ونزل لما سئل اليهود عن نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنكروه (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) يبين نبوتك (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) من القرآن المعجز (أَنْزَلَهُ) ملتبسا (بِعِلْمِهِ) أي عالما به أو وفيه علمه (وَالْمَلائِكَةُ

____________________________________

وحذف ، وهذا هو الأولى ، ويحتمل أنه متعلق بمحذوف تقديره (أرسلناهم) وعلى ذلك درج المفسر ، إلا أن يقال إنه حل معنى لا حل إعراب. قوله : (حُجَّةٌ) أي معذرة يعتذرون بها ، وسماها الله حجة تفضلا منه وكرما ، فأهل الفترة ناجون ولو بدلوا وغيروا ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) الآية ، وما ورد من تعذيب بعض أفراد من أهل الفترة ، فأحاديث آحاد لا تقاوم القطعيات ، كما أفاده أشياخنا المحققون.

قوله : (بَعْدَ الرُّسُلِ) أي وإنزال الكتب ، والمعنى لو لم يرسل الله رسولا لكان للناس عذر في ترك التوحيد فقطع الله عذرهم بإرسال الرسل ، والظرف متعلق بالنفي ، أي انتفت حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل ، وأما قبل الإرسال فكانوا يعتذرون ، فإن قلت : كيف يكون للناس حجة قبل الرسل ، مع قيام الأدلة التي تدل على معرفة الله ووحدانيته كما قيل :

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه الواحد

أجيب : بأن الله لا يكلفنا بذلك بمجرد العقل ، بل لا بد من ضميمة الرسل التي تنبه على الأدلة ، وشاهده هذه الآية ، وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فلذلك قال أهل السنة : إن معرفة الله لا تثبت إلا بالشرع ، خلافا للمعتزلة. قوله : (لو لا أرسلت) لو لا للتحضيض وهو الطلب بحث وإزعاج ، ولكن المراد بها هنا العرض وهو الطلب بلين ورفق. قوله : (عَزِيزاً) أي غالبا قاهرا لغيره منفردا بالإيجاد والإعدام ، وقوله : (حَكِيماً) أي يضع الشيء في محله. قوله : (ونزل لما سئل اليهود) أي حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود : «أنتم تشهدون بأني مذكور في كتبكم» ، فقالوا : لا نشهد بذلك ، وما نعلم من بشر أوحي إليه بعد موسى ، وقيل إن السائل مشركو العرب حيث قالوا للنبي : إنّا نسأل اليهود عنك وعن صفتك في كتابهم ، فزعموا أنهم لا يعرفونك فنزلت ، والمعنى أن أنكروك وكفروا ما أنزل إليك ، فقد كذبوا فيما قالوا ، لأن الله يشهد لك بالنبوة والرسالة ، ويشهد بما أنزل إليك.

قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) استدراك على ما ذكر في سبب النزول. قوله : (من القرآن المعجز) أي لكل مخلوق ، ولم ينزل كتاب معجز يتحدى به على نبي من الأنبياء غير نبينا. قوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أشار المفسر إلى أن الباء للملابسة أو بمعنى في ، والمعنى على الأول أنزله ملتبسا بعلمه ، أي وهو عالم به ، لأن التأليف يحسن على قدر علم مؤلفه ، فحيث كان هذا القرآن ناشئا عن علم الله التام المتعلق بكل شيء ، كان في أعلى طبقات البلاغة ، فلا يمكن أحدا غيره الإتيان بشيء منه ، والمعنى على الثاني أنزله ، والحال أن فيه علمه أي معلوماته الغيبية ، بمعنى أنه مشتمل على المغيبات ، وعلى مصالح الخلق وما يحتاجون إليه ، فحيث اشتمل على ذلك فهو شاهد صدق على

٣٤٧

يَشْهَدُونَ) لك أيضا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) على ذلك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دين الإسلام بكتمهم نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم اليهود (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) (١٦٧) عن الحق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَظَلَمُوا) نبيه بكتمان نعته (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨) من الطرق (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي الطريق المودي إليها (خالِدِينَ) مقدرين الخلود (فِيها) إذا دخلوها (أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩) هينا (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا) به واقصدوا (خَيْراً لَكُمْ) مما أنتم فيه (وَإِنْ تَكْفُرُوا) به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا فلا يضره كفركم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (١٧٠) في صنعه بهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ) الإنجيل (لا تَغْلُوا) تتجاوزوا الحد (فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا) القول (الْحَقَ) من تنزيهه عن الشريك والولد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها)

____________________________________

أنه من عند الله ، وإنما خص القرآن بالذكر لأن إنكارهم وتعرضهم كان له ، ولأنه أكبر معجزاته.

قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لفظ الجلالة فاعل كفى ، والباء زائدة ، وشهيدا حال ، وقوله : (على ذلك) أي على صحة نبوتك ، والمعنى أن شهادة الله تغنيك وتكفيك. قوله : (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي منعوا الناس من طريق الهدى. قوله : (ضَلالاً بَعِيداً) أي لأنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم ، ومن كان هذا وصفه يبعد عنه الهدى. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) أي وهم اليهود. قوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي مريدا ليغفر لهم حيث ماتوا على الكفر. قوله : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء متصل لأنه مستثنى من عموم الطرق ، والمراد بجهنم الدار المسماة الحطمة ، والمعنى أنهم لا يهتدون إلى طريق الرشاد أبدا ، بل دائما أعمالهم تجرهم إلى طريق جهنم. قوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) رد بذلك عليهم حيث زعموا وقالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ولا يهون عليه أن يعذب أحباؤه. قوله : (أي أهل مكة) جري على القاعدة ، وهو أن المخاطب بيا أيها الناس أهل مكة ، ولكن المراد العموم.

قوله : (بِالْحَقِ) متعلق بجاء ، وقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بمحذوف حال من الحق ، أي جاءكم بالحق حال كونه من ربكم. قوله : (واقصدوا) (خَيْراً) أشار بذلك إلى أن قوله خيرا مفعول لمحذوف ، ويصح أن يكون خبرا لكان المحذوفة ، والتقدير آمنوا يكن الإيمان خيرا وهو الأقرب. وقوله : (مما أنتم فيه) أي وهو الكفر على حسب زعمكم أن فيه خيرا ، وإلا فالكفر لا خير فيه. قوله : (لا يضره كفركم) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف ، وقوله : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دليل الجواب. قوله : (حَكِيماً) (في صنعه) أي لا يصنع شيئا إلا محكما متقنا. قوله : (الإنجيل) أي فالخطاب للنصارى فقط ، ويحتمل أنه خطاب لليهود والنصارى ، لأن غلو اليهود بتنقيص عيسى حيث قالوا إنه ابن زانية ، وغلو النصارى بالمبالغة في تعظيمه حيث جعلوه ابن الله. قوله : (إِلَّا) (القول) (الْحَقَ) أشار بذلك إلى أنه صفة لمصدر محذوف.

٣٤٨

أوصلها الله (إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ) أي ذو روح (مِنْهُ) أضيف إليه تعالى تشريفا له وليس كما زعمتم أنه ابن الله أو إلها معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا) الآلهة (ثَلاثَةٌ) الله وعيسى وأمه (انْتَهُوا) عن ذلك وائتوا (خَيْراً لَكُمْ) منه وهو التوحيد (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ) تنزيها له عن (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا والملكية تنافي النبوة (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) شهيدا على ذلك (لَنْ يَسْتَنْكِفَ) يتكبر ويأنف (الْمَسِيحُ) الذي زعمتم أنه إله عن (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عند الله لا يستنكفون أن يكونوا عبيدا وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم أنها آلهة أو بنات الله كما رد بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك

____________________________________

قوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) المسيح مبتدأ ، وعيسى بدل أو عطف بيان عليه ، وابن مريم صفته ، ورسول الله خبره. قوله : (وَكَلِمَتُهُ) أي أنه نشأ بكلمة كن ، من غير واسطة أب ولا نطفة ، وقوله : (أَلْقاها) أي بنفخ جبريل في جيب درعها ، فحصل النفخ إلى فرجها فحملت به. قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) سمي بذلك لأنه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل ، روي أن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه‌السلام ، وأمسك عنده روح عيسى ، فلما أراد الله أن يخلقه ، أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم ، فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى. قوله : (مِنْهُ) أي نشأت وخلقت ، فمن ابتدائية لا تبغيضية كما زعمت النصارى. حكي أن طبيبا حاذقا نصرانيا جاء للرشيد ، فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم ، فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي له : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فقال : إذن يلزم أن تكون جميع الأشياء جزءا منه سبحنه ، فبهت النصراني وأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا ، وأعطى الواقدي صلة فاخرة. قوله : (أنه ابن الله الخ) أشار بذلك إلى أنهم فرق ثلاثة : فرقة تقول إنه ابن الله ، وفرقة تقول إنهما إلهان الله وعيسى ، وفرقة تقول الآلهة ثلاثة : الله وعيسى وأمه. قوله : (لأن ذا الروح مركب) أشار بذلك إلى قياس من الشكل الأول ، وتقريره أن تقول عيسى ذو روح ، وكل ذي روح مركب ، وكل مركب لا يكون إلها ينتج عيسى لا يكون إلها. قوله : (الآلهة) (ثَلاثَةٌ) أشار بذلك إلى أن ثلاثة خبر لمحذوف ، والجملة مقول القول. قوله : (وائتوا) (خَيْراً) أي اقصدوه ، ويصح أن يكون خبرا لكان المحذوفة ، أي يكن الانتهاء خيرا قوله : (منه) أي مما ادعيتموه ، وقوله : (وهو التوحيد) بيان للخير.

قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي فإذا كان يملك جميع ما فيهما ومن جملة ذلك ، عيسى ، فكيف يتوهم كون عيسى ابن الله ، فهذه الجملة تعليل لقوله سبحانه. قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) سبب نزولها أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله ، فقال رسول الله : إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله ، فنزلت. قوله : (عن) (أَنْ يَكُونَ) أشار بذلك إلى أنه حذف الجار من أن ، والمعنى لن يستنكف المسيح عن كونه عبد الله. قوله : (وهذا من أحسن الاستطراد) أي قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لأن الاستطراد ذكر الشيء في غير محله لمناسبة ، والمناسبة هنا الرد على النصارى في عيسى ، فناسب أن يرد على المشركين في قولهم الملائكة بنات الله.

٣٤٩

المقصود خطابهم (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) في الآخرة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما هو عذاب النار (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلِيًّا) يدفعه عنهم (وَلا نَصِيراً) (١٧٣) يمنعهم منه (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) حجة (مِنْ رَبِّكُمْ) عليكم وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) بينا وهو القرآن (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً) طريقا (مُسْتَقِيماً) (١٧٥) هو دين الإسلام (يَسْتَفْتُونَكَ) في الكلالة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ

____________________________________

قوله : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) من اسم شرط ، ويستنكف فعل الشرط ، ويستكبر معطوف عليه ، وقوله : (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) جوابه ، ولكن لما كان فيه إجمال فصله بما بعده ، وجميعا حال من الهاء في يحشرهم ، والمعنى أنه يحشر المستنكفين وغيرهم. قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فوق مضاعفة أعمالهم. قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) العبرة بعموم اللفظ ، وإن كان السياق لأهل مكة. قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لبرهان ، أو ظرف لغو متعلق بجاء. قوله : (عليكم) أي إن خالفتم ولكم إن أطعتم. قوله : (وهو القرآن) أي فالعطف مغاير ، ويصح أن يراد بالبرهان النبي وما جاء به ، ويراد بالنور المبين القرآن ، ويكون عطف خاص على عام ، والنكتة الاعتناء بشأن القرآن ، وما مشى عليه المفسر أسهل لعدم الكلفة.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، أي فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فأما الذين آمنوا الخ ، وترك الشق الثاني لأنهم مهملون ولا يعتني بهم ، وأيضا قد تقدم ذكرهم فتركهم اتكالا على ما تقدم ، وأعاد ذكر المؤمنين ثانيا تعجيلا للمسرة والفرح ، وتعظيما لشأنهم. قوله : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا به. قوله : (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي وهي الجنة ، من باب تسمية المحل باسم الحال فيه ، وقوله : (وَفَضْلٍ) أي إحسان وإكرام وزيادة إنعام ، وهو رؤية وجه الله الكريم ودوام رضاه. قوله : (وَيَهْدِيهِمْ) عطف سبب على مسبب ، لأن سبب الجنة هو الهدى في الدنيا.

قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ) ختم هذه السورة بهذه الآية لاشتمالها على الميراث ، كما ابتدأها بذلك للمشاكلة بين المبدأ والختام ، وجملة ما ذكر في هذه السورة من المواريث ثلاثة مواضع ، الأول : في ميراث الأصول والفروع وهو قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخر الربع. الثاني : ميراث الزوجين والإخوة والأخوات للأم وهو قوله : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ) إلى قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ). الثالث : ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب وهو هذه الآية ، وأما أولو الأرحام فسيأتي ذكرهم في آخر الأنفال. وسبب نزول هذه الآية أن جابر بن عبد الله تمرض ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ليعوداه ماشيين ، فلما دخلا عليه وجداه مغمى عليه ، فتوضأ رسول الله ثم صب عليه من وضوئه فأفاق ، فقال : يا رسول الله كيف أصنع في مالي : فلم يرد عليه حتى نزلت الآية ، وكان له تسع أخوات وقيل سبع. قوله : (فِي الْكَلالَةِ) تنازعه

٣٥٠

امْرُؤٌ) مرفوع بفعل يفسره (هَلَكَ) مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أي ولا والد وهو الكلالة (وَلَهُ أُخْتٌ) من أبوين أو أب (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ) أي الأخ كذلك (يَرِثُها) جميع ما تركت (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من أم ففرضه السدس كما تقدم أول السورة (فَإِنْ كانَتَا) أي الأختان (اثْنَتَيْنِ) أي فصاعدا لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ (وَإِنْ كانُوا) أي الورثة (إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) شرائع دينكم (إِنِ) لا (تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦) ومنه الميراث روى الشيخان عن البراء أنها آخر آية

____________________________________

كل من يستفتونك ويفتيكم فأعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف ، وهكذا كل ما جاء في القرآن من التنازع كقوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) وبهذا أخذ البصريون ، وتقدم أن الكلالة هي أن يموت الميت وليس له فرع ولا أصل ، وهو أصح الأقوال فيها.

قوله : (إِنِ امْرُؤٌ) هذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره وما تفسير الكلالة وما الحكم فيها ، فالوقف على الكلالة. قوله : (مرفوع بفعل يفسره) (هَلَكَ) أي فهو من باب الاشتغال ، وإنما لم يجعل امرؤ مبتدأ أو جملة هلك خبره ، لأن إن الشرطية لا يليها إلا الفعل ولو تقديرا. قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الجملة في محل رفع صفة لا مرؤ ، ولا يصح أن تكون حالا منه لأنه نكرة ، ولم يوجد له مسوغ لأن هلك ليس صفة له ، وإنما هو مفسر للفعل المحذوف فتأمل. قوله : (أي ولا والد) أخذ هذا من توريث الأخت لأنها لا ترث مع وجوده. قوله : (من أبوين) أي وهي الشقيقة. قوله : (وَهُوَ) الضمير عائد على لفظ امرؤ لا على معناه ، على حد : عندي درهم ونصفه ، والمعنى أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير ، أي أن فرض موته دونها فلها النصف ، وإن فرض موتها دونه فله المال كله ، إن لم يكن لها فرع وارث. قوله : (أو أنثى) أي واحدة أو متعددة ، وقوله : (فله ما فضل عن نصيبها) أي وهو النصف في الأولى والثلث في الثانية. قوله : (كما تقدم أول السورة) أي في قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) الآية. قوله : (وقد مات عن أخوات) جملة مستأنفة مقيدة لما قبلها لا أنها حالية ، لأن جابرا عاش بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل قيل إنه آخر الصحابة موتا بالمدينة ، وقوله : (عن أخوات) قيل تسع وقيل سبع.

قوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً) أي وأخوات ففيه تغليب الذكور على الإناث. قوله : (شرائع دينكم) قدره إشارة إلى أن مفعول (يُبَيِّنُ) محذوف. قوله : (إِنِ) (لا) (تَضِلُّوا) إشارة بذلك إلى أنه مفعول لأجله ولا مقدرة ، والمعنى يبين لكم الشرائع لأجل عدم ضلالكم ، نظير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي لئلا تزولا ، ويصح أن يكون المحذوف مضافا ، والتقدير كراهة أن تضلوا. قوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كالعلة لما قبله ، وقد ختم هذه السورة ببيان كمال العلم وسعته ، كما ابتدأها بسعة قدرته وكمال تنزهه ، وذلك يدل على اختصاصه بالربوبية والألوهية. قوله : (أي من الفرائض) دفع بذلك ما يقال إن آخر آية نزلت على الإطلاق (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) فإنها نزلت

٣٥١

نزلت أي من الفرائض.

____________________________________

قبل موت رسول الله بأحد وعشرين يوما ، ونزل قبلها آية الربا ، وقبلها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقبلها آية الكلالة فهي من الأواخر ، إذا علمت ذلك فقول المفسر : (أي من الفرائض) غير متعين ، بل يصح أن يكون آخرا نسبيا.

***

٣٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المائدة

مدنيّة وآياتها عشرون ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) العهود المؤكدة التي بينكم

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المائدة

مدنية مائة وعشرون أو وثنتان أو وثلاث آية

وجه المناسبة بينها وبين ما قبلها أنه حيث وعدنا الله بالبيان كراهة وقوع الضلال منا ، تمّم ذلك الوعد بذكر هذه السورة ، فإن فيها أحكاما لم تكن في غيرها ، قال البغوي عن ميسرة قال : إن الله تعالى أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما ، لم تنزل في غيرها من سورة القرآن ، وهي : (المنخنقة والموقوذة والمتردية وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام) ، (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، وتمام بيان الطهر في قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ، (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ، وقوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

قوله : (مدنية) أي نزلت بعد الهجرة ، وإن كان بعضها نزل بمكة ، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) فإنها نزلت عام الفتح ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة فقرأها النبي في خطبته وقال : «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها ، وحرموا حرامها» ، وإنما خصها بذلك ، وإن كان كل سورة يجب تحليل حلالها ، وتحريم حرامها اعتناء بشأنها.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) العبرة بعموم اللفظ ، وإن كان الخطاب لأهل المدينة. قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي ما عقده الله وعهده عليكم من التكاليف والأحكام الدينية ، ومن هنا قالوا أمور الدين أربعة : الصحة في العقد ، والصدق في القصد ، والوفاء بالعهد ، واجتناب الحد. قوله : (العهود) أشار بذلك إلى أن المراد بالعقد ، العقد المعنوي ، وهو العهد المشبه بعقد الحبل ، وقوله : (المؤكدة) أخذ ذلك

٣٥٣

وبين الله والناس (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم أكلا بعد الذبح (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) تحريمه في حرمت عليكم الميتة الآية فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلا والتحريم لما عرض من الموت ونحوه (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون ونصب غير على الحال من ضمير لكم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

____________________________________

من قوله العقود ، لأن معنى العقد هو العهد المؤكد. قوله : (التي بينكم وبين الله) أي كالمأمورات والمنهيات ، فالوفاء بالمأمورات فعلها ، والوفاء بالمنهيات تركها ، ودخل في قوله : (وبين الله) العهد الواقع بين العبد وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجب على الإنسان الوفاء به ، بأن يؤمن به ، ويصدق بما جاء به ، ويعظمه ويحترمه ، ولا يخالف ما أمره به أصلا. قوله : (وبين الناس) أي كالمعاملات : من بيع وشراء ونكاح وطلاق وتمليك وتخيير وعتق ودين ووديعة وصلح ، ومن ذلك أيضا : احترام المؤمنين وتعظيمهم وعدم غيبتهم وإيذائهم والنميمة والكذب عليهم ، ومن ذلك أيضا : وفاء المريدين بعهود المشايخ على مصطلح الصوفية.

قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) كلام مستأنف مسوق لبيان امتنان الله علينا ، حيث أحل لنا أشياء لم تكن لليهود ، وبنى الفعل للمجهول للعلم بفاعله وهو الله ، وإضافة بهيمة للأنعام على معنى من كثوب خز ، لأن البهيمة كما في القاموس كل ذات أربع قوائم ، ولو من حيوان الماء أو كل حي لا يميز. قوله : (بعد الذبح) مراده ما يشمل النحر ، ولو قال بعد التزكية لكان أشمل.

قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي وهو عشرة أشياء ، أولها الميتة ، وآخرها وما ذبح على النصب فقوله : (الآية) أي إلى قوله وما ذبح على النصب. قوله : (فالاستثناء منقطع) أي لأن ما قبل إلا فيما أحل ، وما بعدها فيما حرم ، وقوله : (والتحريم لما عرض) أي فهو كان حلالا بحسب الأصل ، فهو استثناء حلال من حلال ، هكذا يؤخذ من عبارة المفسر ، وفيه أنه يلزم عليه أن كل استثناء منقطع لأن ما بعد إلا دائما مخالف لما قبلها ، منقطعا أو متصلا ، مع أنهم قالوا إن الاستثناء المتصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، والمنقطع أن يكون من غير جنسه ، والمخالفة في الحكم لا بد منها على كل ، فالأحسن أن يقال إن الانقطاع من حيث إن المستثنى لفظ وهو قوله : (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المستثنى منه ذات وهو بهيمة الأنعام ، ولا شك أنه من غير جنسه ، ويمكن أن يكون متصلا بتقدير مضاف ، والتقدير إلا محرم ما يتلى.

قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي غير محلين للصيد بمعنى معتقدين حله ، وقوله : (أي محرمون) أي أو في الحرم ، فيحرم صيد الأنعام الوحشية ، بل الصيد مطلقا أنعاما أو غيرها ، وهو تقييد لقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) كأن الله قال أحل الله لكم بهيمة الأنعام كلها ، والوحشية أيضا ، من الظباء والبقر والحمر ، إلا صيد الوحشي منها أو من غيرها وأنتم محرمون ، فلا يجوز فعله ولا اعتقاد حله. قوله : (ونصب غير على الحال من ضمير لكم) أي وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من الضمير في (مُحِلِّي).

قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) كالعلة لما قبله ، أي فالأحكام صادرة من الله على حسب إرادته ، فلا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، وهذا مما يرد على المعتزلة القائلين بوجوب الصلاح والأصلح.

٣٥٤

لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) جمع شعيرة أي معالم دينه بالصيد في الإحرام (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) بالقتال فيه (وَلَا الْهَدْيَ) ما أهدى إلى الحرم من النعم بالتعرض له (وَلَا الْقَلائِدَ) جمع قلادة وهي ما كان يقلد به شجر الحرم ليأمن أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها (وَلَا) تحلوا (آمِّينَ) قاصدين (الْبَيْتَ الْحَرامَ) بأن تقاتلوهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً) رزقا (مِنْ رَبِّهِمْ) بالتجارة (وَرِضْواناً) منه بقصده بزعمهم الفاسد وهذا منسوخ بآية براءة (وَإِذا حَلَلْتُمْ) من الإحرام (فَاصْطادُوا) أمر

____________________________________

قوله : (أي معالم دينه) أي العلامات الدالة على دينه من مأمورات ومنهيات ، والمعنى لا تتهاونوا بمعالم دينه ، وقوله : (بالصيد في الإحرام) خصه لقرينة ما قبله وما بعده ، وإلا فاللفظ عام كقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فأولا أمرنا بالوفاء بها ، وثانيا نهانا عن التفريط والتهاون بالشعائر ، وهي كناية عن معالم الدين والإحلال ، تارة يكون بالفعل أو الاعتقاد.

قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) هو وما بعده من عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأن تلك الأمور. قوله : (بالقتال فيه) سيأتي للمفسر أنه منسوخ بآية براءة ، وإن حمل على غير القتال كالظلم مثلا فليس بمنسوخ ، قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). قوله : (ما أهدى إلى الحرام) إن حمل على هدايا الكفار فهو منسوخ بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وبقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وسبب ذلك أن رجلا من ربيعة يقال له الحطم سريح بن هند أتى المدينة وترك خيله وجيوشه ، وجاء رسول الله بنفسه ، وقد كان أخبرهم النبي به فقال : الوجه وجه كافر والقفا قفا غادر ، فلما وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا محمد ما تأمرنا به؟ فقال : «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة». فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، فلما خرج استاق جملة من غنم أهل المدينة وإبلهم ، فلما كان في العام القابل ، جاء ومعه تلك الإبل والغنم قد ساقها وهو مع بني بكر ، وهم أصحاب حلف للنبي عليه الصلاة والسّلام ، فأحب أصحاب رسول الله أن يأخذوها منه ، فنزلت الآية. قوله : (أي فلا تتعرضوا لها) أي للقلائد ، وهي ما قلد به من شجر الحرم ، وقوله : (ولا لأصحابها) أي الهدايا المقلدات ، والنهي عن التعرض للقلائد مبالغة عن التعرض للهدايا على حد ، ولا يبدين زينتهن ، لأنه إذا نهى عن إبداء الزينة ، فما بالك بالجسم الموضع فيه الزينة ، ويحتمل أن معنى قوله أو لأصحابها أي الرجال المقلدين ، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم ، قلدوا أنفسهم بخشبة من شجر الحرم فلا يتعرض لهم ، فتحصل أن المعنى لا تتعرضوا للهدي وإن لم يكن مقلدا ، ولا للقلادة من المقلد ، بل ولا للمقلد من الهدايا أو الرجال. قوله : (آمِّينَ) أي قوما آمين.

قوله : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً) حال من الضمير في آمين. قوله : (وهذا منسوخ) أي قوله : ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام. وقوله : (بآية براءة) أي جنسها ، إذ الناسخ أكثر من آية ، فالمنسوخ ما عدا قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) فليست منسوخة إن حملت على معالم دينه كما تقدم ، وأما إن حملت على شعائر الكفار وإحرامهم ، بمعنى لا تبطلوه ولا تهدموه كان أيضا منسوخا ، وليس

٣٥٥

إباحة (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) يكسبنكم (شَنَآنُ) بفتح النون وسكونها بغض (قَوْمٍ) لأجل (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) عليهم بالقتل وغيره (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ) فعل ما أمرتم به (وَالتَّقْوى) بترك ما نهيتم عنه (وَلا تَعاوَنُوا) فيه حذف إحدى التاءين في الأصل (عَلَى الْإِثْمِ) المعاصي (وَالْعُدْوانِ) التعدي في حدود الله (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) لمن خالفه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي أكلها (وَالدَّمُ) أي المسفوح كما في الأنعام (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) بأن ذبح على اسم غيره (وَالْمُنْخَنِقَةُ) الميتة خنقا (وَالْمَوْقُوذَةُ)

____________________________________

في المائدة منسوخ غير هذه الآية. قوله : (أمر إباحة) دفع بذلك ما يقال إن الأمر يقتضي الوجوب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد.

قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) هذه الآية نزلت عام الفتح حين تمكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من مكة وأهلها ، فنهاهم الله تعالى عن التعرض للكفار بالقتال والإيذاء ، والمعنى لا تعاملوهم مثل ما كانوا يعاملونكم به ، ولذا ورد أن رسول الله لما دخل مكة قال : «اذهبوا أنتم الطلقاء. أنا قائل لكم كما قال أخي يوسف لإخوته : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)». وبسبب ذلك صاروا مؤمنين ، ولذا قال البوصيري :

ولو أنّ انتقامه لهوى النّف

س لدامت قطيعة وجفاء

وقرأ الجمهور بفتح الياء من جرم الثلاثي واختلفوا في معناه ، فقيل معناه لا يكسبنكم ، وقيل معناه لا يحملنكم. قوله : (بفتح النون وسكونها) أي فهو مصدر شنىء كعلم فهو سماعي ، ومن المادة قول العرب : مشنوء من يشنؤك ، أي مبغوض من يبغضك ، وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي باغضك. قوله : (لأجل) (أَنْ صَدُّوكُمْ) أشار بذلك إلى أنه مفعول لأجله ، فهو علة للشنآن ، أي لا يحملنكم بغضكم لقوم لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام. قوله : (أَنْ تَعْتَدُوا) أي بأن تعتدوا وعلى أن تعتدوا ، فمتى أسلموا فهم إخوانكم فلا تتعرضوا لهم. قوله : (فعل ما أمرتم به) قال ابن عباس : البر متابعة السنة. قوله : (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الآية وعيد وتهديد عظيم.

قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) هذا شروع في بيان ما أجمل أولا في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وذكر في هذه الجملة العظيمة أحد عشر كلها محرمة ، منها عشرة مطعومة وواحد غير مطعوم ، وهو قوله وأن تستقسموا بالأزلام. قوله : (الْمَيْتَةُ) فيه رد على جاهلية العرب حيث قالوا كما حكى الله عنهم ، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ، وعلى المشركين حيث أحلّوا أكلها مطلقا. قوله : (أي المسفوح) أي السائل. قوله : (كما في الأنعام) أي في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) الآية ، وأما غير المسفوح كالكبد والطحال والدم الباقي في العروق فهو طاهر ، ويجوز أكله.

قوله : (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) أي ولو ذكي وهو نجس كله ، ما عدا الشعر إن جز ، عند مالك ، فهو طاهر ويجوز استعماله. قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) الإهلال رفع الصوت ، والأظهر أن اللام بمعنى الباء ، والباء بمعنى عند ، والمعنى وما رفع الصوت عند ذكاته بغير الله ، أي باسم غير الله ، كما إذا قال باسم

٣٥٦

المقتولة ضربا (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة من علو إلى سفل فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بنطح أخرى لها (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) منه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه (وَما ذُبِحَ عَلَى) اسم (النُّصُبِ) جمع نصاب وهي الأصنام (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) تطلبوا القسم والحكم (بِالْأَزْلامِ) جمع زلم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قدح بكسر القاف صغير لا ريش له ولا

____________________________________

اللات أو العزى ، قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فإن جمع بين اسم الله واسم غيره غلب اسم الله وتؤكل ، لأنه يعلو ولا يعلى عليه ، والموضوع أن ذلك وقع من كتابي ، وأما من مسلم فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته ، وهذا مذهب مالك بن أنس ، ومراد مالك بأهل الكتاب الذين تؤكل ذبيحتهم ، إن لم يذكروا اسم غير الله عليه اليهود والنصارى ، ولو غيروا وبدلوا. قوله : (بأن ذبح على اسم غيره) المناسب أن يقول بأن صرح عند ذبحها باسم غيره ، ليندفع التكرار بين ما هنا وبين ما يأتي في قوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

قوله : (وَالْمُنْخَنِقَةُ) كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها ، فحرم الله ذلك. قوله : (وَالْمَوْقُوذَةُ) كانوا في الجاهلية يضربون الشاة بنحو العصا حتى تموت ويأكلونها. قوله : (وَالنَّطِيحَةُ) فعيلة بمعنى مفعولة. قوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) كانوا في الجاهلية إذا جرح السبع شيئا وأكل منه أكلوا ما بقي ، والسبع اسم لكل ما يفترس من ذي الناب ، كالأسد والذئب ونحوهما وقوله : (أي أدركتم فيه الروح) أي مع بقاء الحياة المستقرة ، بحيث يتحرك بالاختيار أو يبصر بالاختيار ، ولو نفذت مقاتله ، وهذا مذهب الشافعي ، ومذهب مالك لا بد من استقرار الحياة مع عدم إنفاذ المقاتل ، فما أدرك بذكاة وهو مستقر الحياة ، وكان قبل إنفاذ مقتله أكل ، وإلا فلا يؤكل ، ولو ثبتت له حياة مستقرة ، والمقاتل هي : قطع النخاع ، ونثر الدماغ ، وفري الودج ، وثقب المصران ، ونثر الحشوة. وفي شق الودج قولان ، والاستثناء راجع للمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما أكل السبع وهو متصل على كلا المذهبين مع مراعاة الشرط المتقدم عند كل.

قوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي ذكر اسم الصنم على ذلك المذبوح ، فإن فعل ذلك مسلم لولي ، وقصد التقريب له كما يتقرب لله فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته ، وأما إن قصد أن الذبح لله وثوابه للولي فلا بأس بذلك ، فإن نذر ذبيحته لولي ميت كالسيد البدوي مثلا ، فإن قصد انتفاعه بها كالحي فهو نذر باطل ، وأما إن قصد أنها تذبح في محله من غير قصد فقراء ذلك المحل ، فلا يسوقها لذلك المحل ، بل يذبحها بأي محل شاء ، قال مالك : سوق الهدايا لغير مكة ضلال ، وأما إن قصد بسوقها فقراء ذلك المحل لزمه سوقها. قوله : (وهي الأصنام) سميت الأصنام نصبا ، لأنها تنصب وترفع لتعظم وتعبد. قوله : (تطلبوا القسم) بالكسر ما قسم لكم من خير أو شر ، وبالفتح أي تمييزه ، لأن القسم بالفتح تمييز الأنصباء ، وبالكسر الحظ والنصيب. قوله : (مع فتح اللام) راجع لكل منهما. قوله : (وكانت سبعة) أي وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية ، مكتوب على واحد منها أمرني ربي ، وعلى واحد منها نهاني ربي ، وعلى واحد منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد ملصق ، وعلى واحد العقل ، وواحد غفل ، أي ليس عليه شيء ، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا أمرا من سفر أو غيره ، جاؤوا إلى هبل ، وهو أعظم صنم بمكة ،

٣٥٧

نصل وكانت سبعة عند سادن الكعبة عليها أعلام وكانوا يحكمونها فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا (ذلِكُمْ فِسْقٌ) خروج عن الطاعة. ونزل يوم عرفة عام حجة الوداع (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

____________________________________

وكان في الكعبة ، وأعطوا صاحب القداح مائة درهم ، فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر ، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا ، وإذا كان ذلك لنسب ، فإن خرج منكم ، ألحقوا بهم ، وإن خرج من غيركم لم يلحقوه ، وإن خرج ملصق ، كان على حاله ، وإن اختلفوا في العقل وهو الدية ، فمن خرج عليه العقل تحمله ، وإن خرج الغفل فعلوا ثانيا حتى يخرج المكتوب ، فنهاهم الله عن ذلك. قوله : (عند سادن الكعبة) أي خادمها. قوله : (عليها أعلام) أي كتابة. قوله : (وكانوا يحكمونها) في نسخة يجيبونها أي يجيبون حكمها.

قوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي الاستقسام المذكور خروج عن طاعة الله. إن قلت : إن هذه بعينها هي القرعة الجائزة في الإسلام. أجيب بأن تحريم هذه إنما جاء من إحالتها للصنم وتفويض الأمر له ، ولذا وقعت القرعة بحضرة ولي ميت مثلا ، وفوض الأمر له ، لكان الحكم الحرمة ، كالاستقسام بالأزلام ، واسم الإشارة مبتدأ ، وفسق خبر ، وهو راجع إلى الاستقسام بالأزلام ، كما هو مروي عن ابن عباس ، وقيل راجع إلى جميع ما تقدم ، وكل صحيح. قوله : (ونزل يوم عرفة) أي والنبي قائم يخطب بها فأل في اليوم للعهد الحضوري ، والمعنى اليوم الحاضر ، وهو يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، وعاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها أحدا وثمانين يوما. قوله : (يَئِسَ) اليأس ضد الرجاء ، والمعنى انقطع طمع الكفار في إبطال دينكم لما شاهدوا من دخول الناس فيه أفواجا ، وذلك أن قبل الوداع حجة أبو بكر بالناس ، وأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا خلفه ينادي : لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ففي حجة الوداع تفرد النبي وأصحابه بالحج ، فحينئذ نزلت الآية المشرفة. قوله : (لما رأوا) علة لقوله يئس ، وقوله : (بعد طمعهم) متعلق بيئس أيضا. قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي لا تخافوهم لا ظاهرا ولا باطنا. قوله : (وَاخْشَوْنِ) بحذف الياء وصلا ووقفا ، بخلاف واخشوني في البقرة فإنها بثبوت الياء وصلا ووقفا اتفاقا ، وبخلاف الآتية في (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) ففيها الحذف والإثبات ، والمعنى لا تخافوا من الكفار وخافون ، لأني مالك الدنيا والآخرة عزا وذلا ، ولا يملك ذلك غيري ، فمن شهد ذلك وكمل دينه ، فلا يخاف إلا مولاه ، ولا يرجو سواه ، فإنه المعطي المانع ، الضار النافع.

قوله : (الْيَوْمَ) بدل من اليوم قبله. قوله : (أحكامه وفرائضه) دفع بذلك ما يقال إنه قد نزل بعدها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فيكون حينئذ الكمال نسبيا. فأجاب بأن المراد إكمال الأحكام والفرائض التي أرسل بها رسول الله ، وأما آية (وَاتَّقُوا يَوْماً) فهي موعظة ولا حكم فيها. إن قلت إن قوله : (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يقتضي نقصانه قبل ذلك. وأجيب : بأن القرآن نزل جملة في بيت العزة في سماء الدنيا ، وصار ينزل بعد ذلك مفرقا ، فحين نزول هذه كأن الله تعالى يقول لا تنتظروا بعد ذلك حكما ، فإني قد أتممت لكم ما قدرته لكم وادخرته عندي ، ولذلك حين نزلت بكى عمر ، فقال له رسول الله : «ما

٣٥٨

نِعْمَتِي) بإكماله وقيل بدخول مكة آمنين (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) مجاعة إلى أكل شيء مما حرم عليه فأكله (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) مائل (لِإِثْمٍ) معصية (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له ما أكل (رَحِيمٌ) (٣) به في إباحته له بخلاف المائل لإثم أي الملتبس به كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الطعام (قُلْ

____________________________________

يبكيك»؟ فقال : إذا تم شيء بدا نقصه. فقال له : صدقت ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روي عن عمر بن الخطاب أن رجلا يهوديا قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال له : أي آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ، فقال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة بعد العصر ا ه. وقد تضمن جواب عمر أنهم جعلوا صبيحتها عيدا. قوله : (بإكماله) أي الدين ، والأحسن أن يراد بإتمام النعمة ما هو أعم.

قوله : (وَرَضِيتُ) هذه الجملة مستأنفة لبيان الحال ، وليست معطوفة على أكملت ، لأنه يقتضي أنه لم يرض الإسلام دينا إلا اليوم ، ولم يرضه قبل ذلك ، وليس كذلك ، لأن الإسلام لم يرض مرضيا لله وللنبي وأصحابه منذ أرسله ، ورضي متعد لواحد ، الإسلام مفعوله ودينا تمييز. قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) مفرع على حرمت عليكم الميتة ، فقوله اليوم : (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) إلى قوله : (دِيناً) معترض بينهما لبيان أن الإسلام حنيفية سمحاء لا صعوبة فيه كالأديان المتقدمة ، ومن اسم شرط ، واضطر فعل الشرط ، وجوابه محذوف تقديره فلا إثم عليه ، وقد صرح به في آية البقرة. قوله : (إلى أكل شيء) أي بقدر الضرورة وسد الرمق ، وبذلك قال الشافعي ، وقال مالك : يأكل المضطر من الميتة ويشبع ويتزود ، فإن استغنى عنها طرحها وقدم مال الغير على الميتة ، عند مالك إن لم يخف الضرر وقدم المختلف فيه على المتفق على حرمته.

قوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي بأن كان اضطراره ناشئا عن إثمه ، فلا يجوز له الأكل ، هكذا حمل الآية مالك ، وقال الشافعي غير متجانف لإثم ، بأن كان عاصيا بسفره كالآبق وقاطع الطريق ، فقول المفسر كقاطع الطريق والباغي أي المسافرين وأما الحاضرون فيباح لهم أكل الميتة ، وأما عند مالك فلا فرق بين العاصي بالسفر والطائع به فإنهما كالحاضر ، فيأكلان منها إذا اضطرا ، حيث لم يكن إصراره على المعصية موقعا له في الاضطرار.

قوله : (يَسْئَلُونَكَ) هذه الآية مرتبة على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الخ فلما بين المحرمات سألوا عن الحلال ، وصورة السؤال ماذا أحل الله لنا ، وروي في سبب نزولها أن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذن عليه ، فأذن له ، فلم يدخل ، فقال له النبي : قد أذنا لك يا رسول الله ، قال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا رافع بقتل كل كلب في المدينة ففعل ، حتى انتهى إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركه رحمة لها ، ثم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بقتله فرجع إلى الكلب فقتله ، فجاؤوا إلى رسول الله فقالوا له : ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ، قال : فسكت رسول الله ، فنزل (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية ، فعند ذلك أذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع

٣٥٩

أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) المستلذات (وَ) صيد (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) الكواسب من الكلاب والسباع والطير (مُكَلِّبِينَ) حال من كلبت الكلب بالتشديد أي أرسلته على الصيد (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال من ضمير مكلبين أي تؤدبوهن (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من آداب الصيد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه بخلاف غير المعلمة فلا يحل صيدها وعلامتها أن تسترسل إذا أرسلت وتنزجر إذا زجرت وتمسك الصيد ولا تأكل منه وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين وفيه أن صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) عند

____________________________________

فيه منها ، وروى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أمسك كلبا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط» ، وفي رواية قيراطان ، إلا كلب حرث أو ماشية ، ويؤخذ من هذا الحديث أن قتل غير النافع من الكلاب مندوب ، إن لم يكن عقورا يخشى منه الضرر ولا يندفع إلا بالقتل ، وإلا وجب قتله عند مالك. قوله : (المستلذات) أي الشرعية وهي ما لم يثبت تحريمها بكتاب أو سنة ، فلا يرد لحم الخنزير مثلا إذا أتقن طبخه. قوله : (وَ) (صيد) (ما عَلَّمْتُمْ) قدره إشارة إلى أن ما معطوف على الطيبات لكن على حذف مضاف ، وصيد بمعنى مصيد ، ومن الجوارح بيان لما.

قوله : (مُكَلِّبِينَ) حال أي من التاء في علمتم. قوله : (من كلبت) أي مأخوذ من كلبت. قوله : (أرسلته على الصيد) أي فمعنى مكلبين مرسلين بمعنى قاصدين إرساله احترازا عما لو ذهبت من غير إرسال وأتى بصيد فلا يؤكل ، وفسره غيره بالتعليم ، فيكون حالا مؤكدة لعاملها ، وما قاله المفسر أوجه ، وإن رد بأنه لا مستند له في ذلك ، لأن المفسر حجة ، وعبر عن الإرسال بالتكليب ، إما إشارة إلى أن ذلك غالب في الكلاب ، أو أن الكلب يطلق على كل ما يصاد به سبع وطير. قوله : (حال من ضمير مكلبين) أي مؤكدة إن فسر مكلبين بمعلمين ، ومؤسسة إن فسر بمرسلين ، ويصح أن يكون جملة مستأنفة موضحة لما قبلها. قوله : (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من للتبعيض ، وقوله : (من آداب الصيد) بيان لما.

قوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) نتيجة قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) وقوله : (عَلَيْكُمْ) أي لكم قوله : (بأن لم يأكلن منه) أي فإن أكلن منه فلا يؤكل وهو داخل في قوله ما أكل السبع ، وهذا الشرط اعتبره الشافعي ، وعند مالك يؤكل ، ولو أكل منه الجارح ، فإن أدرك حيا فلا بد من ذكاته الشرعية ، فقوله : (بأن لم يأكلن) تفسير لقوله : (أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لأنه إن أكل منه فليس ممسكا لصاحبه بل لنفسه ، وقد علمت أن هذا التقييد مذهب الشافعي ، وسيأتي إيضاحه في آخر عبارة المفسر ، قوله : (وعلامتها الخ) ذكر أربع علامات وهي معتبرة في الكلب والسبع ، وأما في الطير كالصقر فلا يعتبر فيه إلا قيدان ، أن لا يأكل منه ، وأنه إذا أرسل استرسل. والحاصل أن المدار عند مالك في الصقر أنه إذا أرسل استرسل ، وزاد الشافعي فيه أن لا يأكل مما أمسك ، وأما في الكلب والسبع ففيه القيود الأربعة التي ذكرها المفسر ، ما عدا الأكل عند مالك قوله : (كما في حديث الصحيحين) أي ولكن هذا الحديث لم يأخذ به مالك قوله : (وفيه) أي في الحديث قوله : (وذكر اسم الله عليه) أي وهو سنّة عند الشافعي ، وعند مالك واجب مع الذكر والقدرة ، وأما النية فلا بد منها لأنها شرط صحة قوله : (كصيد المعلم من الجوارح) ألحق

٣٦٠