حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لأوليائه (رَحِيماً) (٩٦) بأهل طاعته. ونزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فقتلوا يوم بدر مع الكفار (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالمقام مع الكفار وترك الهجرة (قالُوا) لهم موبخين (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم (قالُوا) معتذرين (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) عاجزين عن إقامة الدين (فِي الْأَرْضِ) أرض مكة (قالُوا) لهم توبيخا (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) من أرض الكفر إلى بلد آخر كما فعل غيركم ، قال تعالى (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧) هي (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) ولا قوة لهم على الهجرة ، ولا نفقة (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (٩٨) طريقا إلى أرض الهجرة (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٩٩)

____________________________________

قوله : (بفعلهما المقدر) أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. قوله : (فقتلوا يوم بدر) أي وهل ماتوا عصاة أو كفارا خلاف ، لأن الهجرة كانت ركنا أو شرطا في صحة الإسلام. قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) وهذا كان قبل الفتح ، ثم نسخ بعده ، والقاتل لهؤلاء الملائكة لعلمهم بأن الله لم يقبل منهم الإسلام لفقد شرطه ، وهو الهجرة مع قدرتهم عليها ، وليس التخلف ومن أجل صيانة المال والعيال عذرا ، والمتبادر من ذلك أنهم ماتوا كفارا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) يصح أن يكون ماضيا ولم يؤت فيه بعلامة التأنيث ، لأن التأنيث مجازي ، ويصح أن يكون مضارعا حذفت منه إحدى التاءين ، والأصل تتوفاهم. قال ابن مالك :

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر

فيه على تا كتبين العبر

قوله : (الْمَلائِكَةُ) يعني ملك الموت وهو عزرائيل ، وإنما جمع تعظيما ، وقيل المراد أعوانه وهم ستة : ثلاثة منهم يقبضون أرواح المؤمنين ، وثلاثة منهم يقبضون أرواح الكفار. قوله : (قالُوا) (لهم موبخين) أي عند قبض أرواحهم. قوله : (فِيمَ كُنْتُمْ) ما اسم استفهام حذفت ألفها لجرها بالحرف. قال ابن مالك :

وما في الاستفهام إن جرّت حذف

ألفها وأوّلها الها إن تقف

قوله : (في أي شيء كنتم) أي أكنتم مؤمنين أم كفارا. قوله : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) هذا اعتذار غير صحيح ، فلذا ردت الملائكة عليهم هذا الاعتذار. قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) هذا هو خبر إن ، وقرن بالفاء لأن في الأصل خبر عن الموصول وهو يشبه الشرط. قوله : (هي) هذا هو المخصوص بالذم. قوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) هذا الاستثناء منقطع على التحقيق. قوله : (مِنَ الرِّجالِ) هو وما بعده بيان للمستضعفين ، وذلك كعباس بن ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهما ، وقوله : (وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ). قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) هذه الجملة إما مستأنفة مبينة للاستضعاف جواب سؤال مقدر تقديره ما وجه استضعافهم ، أو صفة للمستضعفين.

قوله : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) عسى في كلام الله بمنزلة التحقيق ، لعلمه بعواقب

٣٢١

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً) مهاجرا (كَثِيراً وَسَعَةً) في الرزق (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) في الطريق كما وقع لجندع بن ضمرة الليثي (فَقَدْ وَقَعَ) ثبت (أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠) (وَإِذا ضَرَبْتُمْ) سافرتم (فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) في (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) بأن تردوها من أربع إلى اثنتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ) أي ينالكم بمكروه (الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان للواقع إذا ذاك فلا مفهوم له وبينت

____________________________________

الأمور ، وقدرته على كل شيء ، وأما في كلام غيره فللرجاء ، لجهله بعواقب الأمور وعجزه. قوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ) هذا ترغيب في الهجرة. قوله : (مهاجرا) بالفتح أي أماكن يهاجر إليها ، وعبر عنها بالمراغم إشارة إلى أن من فعل ذلك أرغم الله به أنف عدوه : أي يقهره ويذله ، والرغام في الأصل التراب ، فأطلق وأريد لازمه ، وهو الذل والهوان ، لأن من التصق أنفه بالتراب فقد ذل وصغر. قوله : (كما وقع لجندع بن ضمرة الليثي) وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الآيات ، بعث بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ، فتليت على المسلمين الذين كانوا فيها إذ ذاك ، فسمعها رجل من بني ليث ، شيخ مريض كبير يقال له جندع بن ضمرة فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله ، فإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها ، والله لا أبيتن بمكة ، أخرجوني ، فخرجوا به على سرير حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك رسولك ، ثم مات ، فبلغ خبره أصحاب رسول الله فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا ، وضحك منه المشركون وقالوا : ما أدرك ما طلب ، فنزلت الآية.

قوله : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي تفضلا منه وكرما ويدخل في ذلك من قصد أي طاعة ثم عجز عن إتمامها ، فيكتب له ثوابها كاملا. وقوله : (عَلَى اللهِ) أي عنده وفي علمه. قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ذكر هذه عقب الهجرة للترغيب ، فكأنه قال لا بأس في الهجرة ولا مشقة فيها لكون الصلاة تقصر فيها فهذا من جملة السعة التي يرونها في السفر. قوله : (سافرتم) أي سفرا طويلا وسيأتي أن أقله أربعة برد عند الشافعي ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ستة آلاف ذراع ، والذراع ستة وثلاثون أصبعا ، والأصبع ست شعيرات ، والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون ، وكذا عند مالك ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام من أقصر الأيام مع الاستراحات ، فلا يصح القصر في أقل من أربعة برد عند مالك والشافعي ، ولا في أقل من ثلاثة أيام عند أبي حنيفة إلا في مناسك الحج ، فإنهم يقصرون في أقل من ذلك للسنة. قوله : (في) (أَنْ تَقْصُرُوا) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالحرف ، والجار والمجرور متعلق بجناح ، أي ليس عليكم جناح في القصر.

قوله : (مِنَ الصَّلاةِ) يصح أن تكون تبعيضية ، وأل في الصلاة للجنس أي وهو الرباعيات ، ويصح أن تكون زائدة على مذهب الأخفش وأل للجنس ، والمراد جنس مخصوص وهو الرباعية ، وقد بين بالسنة. قوله : (بأن تردوها من أربع إلى اثنتين) هذا أحد أقوال ثلاثة ، لأنه اختلف هل فرضت الصلاة كاملة ثم نقصت في السفر وبقيت في الحضر على حالها أو فرضت ناقصة فبقيت في السفر وزيدت في الحضر ، وقيل فرض كل مستقلا. قوله : (بيان للواقع) أي قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) الخ ، أي لأن غالب

٣٢٢

السنة أن المراد بالسفر الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان ويؤخذ من قوله فليس عليكم جناح أنه رخصة لا واجب وعليه الشافعي (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١) بين العداوة (وَإِذا كُنْتَ) يا محمد حاضرا (فِيهِمْ) وأنتم تخافون العدو (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب فلا مفهوم له (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وتتأخر طائفة (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة التي قامت معك (أَسْلِحَتَهُمْ) معهم (فَإِذا سَجَدُوا) أي صلوا (فَلْيَكُونُوا) أي الطائفة الأخرى (مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة تحرس (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) معهم إلى أن تقضوا الصلاة وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك ببطن نخل رواه الشيخان (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ) إذا قمتم إلى

____________________________________

أسفار نبينا وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة المشركين حينئذ ، وقوله : (فلا مفهوم له) أي لأنه يكون في سفر التجارة وغيرها من كل سفر مأذون فيه واجبا كان أو مندوبا أو مباحا. قوله : (وهي مرحلتان) أي سير يومين معتدلين ، كل يوم اثنا عشر ساعة بسير الجمال المثقلة بالأحمال. قوله : (إنه رخصة) أي جائز ما لم يبلغ سفره ثلاث مراحل ، وإلا كان أفضل للخروج من خلاف أبي حنيفة فإنه قال بوجوبه ، وعند مالك سنة مؤكدة. قوله : (عَدُوًّا مُبِيناً) العدو يقع بلفظ واحد على المذكر والمؤنث والمجموع والمثنى.

قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) شروع في ذكر صلاة القسمة في الخوف. واعلم أن صلاة الخوف على أقسام ، فتارة يكون العدو في غير تجاه القبلة ، وفي هذا القسم تكون صلاة القسمة ، وهي على كيفيتين : الأولى : أن يقسم الجيش طائفتين ، فطائفة تقف تجاه العدو ، وطائفة تصلي مع الإمام بتمامها ، فبعد السّلام تنصرف للعدو ، ويأتي الطائفة الثانية فيعبد الإمام بهم الصلاة ثانيا فصلاة الطائفة الأولى فرض خلف فرض ، والثانية فرض خلف نفل ، وهذه الكيفية انفرد بها الإمام الشافعي. الثانية : أن يصلي بكل طائفة ركعة في الثنائية وركعتين في الرباعية ، وبالطائفة الأولى ركعتين في الثلاثية والثانية ركعة ، وبها قال مالك والشافعي أيضا ، لكن مالك يقول بها وإن كان العدو تجاه القبلة ، وتارة يكون العدو تجاه القبلة ، وهي على قسمين أيضا : إما أن يتقدم الإمام ويقف الجيش خلفه صفوفا ، فعند ركوع الإمام تركع طائفة مع الإمام وتسجد معه ، فبعد وقوفهم تركع الطائفة الأخرى وتسجد ، وبهذه الكيفية أخذ الإمام الشافعي ، وإما أن يتقدم الإمام ويصلون جميعا معه ويركعون ويسجدون ، وبها أخذ مالك ، وتارة يلتحم القتال فيصلون كيف شاؤوا ، وحل للضرورة مشي وركض وإمساك ملطخ ، وهذه الكيفية عند مالك والشافعي ، وعند أبي حنيفة إن ضاق الوقت قدموا القتال وأخّروا الصلاة ثم يقضونها ، وتفاصيل هذه الأقسام مبينة عند أرباب المذاهب. قوله : (وتتأخر طائفة) أي بإزاء العدو. قوله : (أي صلوا) أي شرعوا في الصلاة.

قوله : (طائِفَةٌ أُخْرى) أي وهي الواقعة تجاه العدو. قوله : (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أي صلاة ثانية ، أو يتمموا معك الصلاة فالأولى. قوله : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) إنما زاد هنا الأمر بالحذر لكونها مظنة تنبه الكفرة على تلك الطائفة ، وأما في الطائفة الأولى فلم يتنبهوا لهم. قوله : (ببطن نخل) سببه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى مع أصحابه جميعا الظهر ، فتنبه المشركون وقال بعضهم لبعض إنا نظفر بهم في أوقات الصلاة ، وتحزب المشركون على ذلك ، فنزل جبريل على رسول الله بالآية ، وعلمه صلاة القسمة ففعلها في

٣٢٣

الصلاة (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذا علة الأمر بأخذ السلاح (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) فلا تحملوها وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولين للشافعي والثاني أنه سنة ورجح (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) من العدو أي احترزوا منه ما استطعتم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢) ذا إهانة (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) فرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتهليل والتسبيح (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) مضطجعين أي في كل حال (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) أمنتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أدوها بحقوقها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) مكتوبا أي مفروضا (مَوْقُوتاً) (١٠٣) أي مقدرا وقتها فلا تؤخر عنه. ونزل لما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم طائفة في طلب أبي

____________________________________

صلاة العصر ، وقد مشى المفسر على أن هذه الآية في صلاة بطن نخل ، وهو موضع من نجد إلى أرض غطفان ، بينه وبين المدينة يومان ، وقال غيره إنها في صلاة أرض عسفان ، وقال آخرون إنها في ذات الرقاع.

قوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، سبب نزولها كما قال ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا بني محارب وبني أنمار ، فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا ، فوضع الناس السلاح ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجته حتى قطع الوادي ، والسماء ترش بالمطر ، فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله وبين أصحابه فجلس تحت شجرة ، فبصر به غورث بن الحرب المحاربي فقال : قتلني الله إن لم أقتله ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ، ولم يشعر به رسول الله إلا وهو قائم على رأسه ، وقد سل سيفه من غمده وقال : يا محمد من يمنعك مني الآن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله ، ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحرب بما شئت ، فأهوى غورث بالسيف ليضرب رسول الله ، فأكب بوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول الله وأخذ السيف ثم قال : يا غورث من يمنعك مني الآن ، فقال : لا أحد ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله سيفه ، فقال غورث : أنت خير مني ، فقال رسول الله : أنا أحق بذلك منك ، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا له : ويلك يا غورث ما منعك منه ، فقال : والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به ، فو الله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت ، وذكر لهم حاله مع رسول الله. قال وسكن الوادي ، فقطع رسول الله الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية ، والزلخة الدفعة. قوله : (لَوْ تَغْفُلُونَ) أي غفلتكم.

قوله : (فَيَمِيلُونَ) أي يشتدون. قوله : (مِنْ مَطَرٍ) أي لأنه يفسد بالماء. قوله : (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي لا طاقة لكم على حمله.

قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أي صلاة الخوف أي تممتموها على الوجه المبين. قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) الأمر للندب لأنه في الفضائل ، وقوله : (بالتهليل والتسبيح) أي والتحميد والتكبير. قوله : (في كل حال) أي فالمراد من قوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) الأحوال. قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي التي دخل وقتها حينئذ ، ومعنى إقامتها أداؤها بالشروط والأركان. قوله : (مقدرا وقتها) أي مفروضا وقتا بعد وقت. قوله : (لما بعث) المناسب أن يقول لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر من حضر بالخروج لطلب أبي

٣٢٤

سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات (وَلا تَهِنُوا) تضعفوا (فِي ابْتِغاءِ) طلب (الْقَوْمِ) الكفار لتقاتلوهم (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) تجدون ألم الجراج (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي مثلكم ولا يجنبوا عن قتالكم (وَتَرْجُونَ) أنتم (مِنَ اللهِ) من النصر والثواب عليه (ما لا يَرْجُونَ) هم فأنتم تزيدون عليهم بذلك فينبغي أن تكونوا أرغب منهم فيه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شىء (حَكِيماً) (١٠٤) في صنعه وسرق طعمة بن أبيرق درعا وخبأها عند يهودي فوجدت عنده فرماه طعمة بها وحلف أنه ما سرقها فسأل قومه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يجادل عنه ويبرئه فنزل (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) متعلق بأنزل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ) أعلمك (اللهُ) فيه (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) كطعمة (خَصِيماً) (١٠٥) مخاصما عنهم (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما هممت به (إِنَّ اللهَ كانَ

____________________________________

سفيان وأصحابه ، وقوله : (طائفة) أي وهي جميع من حضر أحدا من المؤمنين الخالصين وكانوا ستمائة وثلاثين. قوله : (لما رجعوا من أحد) أي فرغوا من وقعتها ، والضمير عائد على الصحابة ، فحينئذ همّ أبو سفيان وتشاور مع أصحابه في العود إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين ، فبلغ ذلك رسول الله ، فنادى في اليوم الثاني من وقعة أحد ، ليخرج من كان معنا بالأمس ولا يخرج معنا غيرهم ، فخرجوا حتى بلغوا إلى حمراء الأسد ، وتقدم ذلك في آل عمران.

قوله : (وَلا تَهِنُوا) الجمهور على كسر الهاء ، وقرىء شذوذا بفتحها من وهن بالكسر أو الفتح قوله : (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي قتالهم. قوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) تعليل للنهي وتشجيع لهم ، والمعنى ليس الألم مختصا بكم بل هم كذلك. قوله : (ولا يجبنوا) المناسب يجبنون بالنون إلا أن يقال حذفت تخفيفا. قوله : (والثواب عليه) أي على الجهاد ، فإنكم تقاتلون في سبيل الله ، وهم يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فأنتم أحق بالشجاعة والقدوم عليهم. قوله : (وسرق طعمة) بتثليث الطاء والكسر أفصح (أبيرق) بضم الهمزة وفتح الباء بعدها راء مكسورة تصغيرا برق ، وطعمة من الأنصار من بني ظفر سرق الدرع من دار جاره قتادة ، وكان في جراب فيه دقيق فصار الدقيق يتناثر منه ، فاتهم طعمة بها ، فحلف كاذبا أنه ما أخذها وما له بها علم ، وكان ودعها عند يهودي يقال له زيد بن السمين ، فقال أصحاب الدرع نتبع أثر الدقيق فتتبعوه حتى وصل إلى دار اليهودي ، فأخبر أنه ودعه عنده طعمة وشهد به قومه ، فقال قوم طعمة نذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشهد أن اليهودي هو السارق ، فذهبوا وشهدوا زورا ولم يظهروا زورا ، ولم يظهر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قادح فيهم ، فهم بقطع اليهودي فنزلت الآية ، فأراد أن يقطع طعمة فهرب إلى مكة وارتد ، فنقب حائطا ليسرق متاع أهله فوقع عليه فمات مرتدا. قوله : (وخبأها) أي الدرع. قوله : (عند يهودي) أي واسمه زيد بن السمين. قوله : (متعلق بأنزل) أي على أنه حال منه.

قوله : (لِتَحْكُمَ) متعلق بأنزلنا. قوله : (بِما أَراكَ) أي عرفانية تتعدى بالهمزة لمفعولين الكاف مفعول ، والمفعول الثاني محذوف تقديره إياه إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقول عرفك. قوله : (لِلْخائِنِينَ) اللام للتعليل ، ومفعول (خَصِيماً) محذوف تقديره شخصا بريئا ، فاللام على بابها لا بمعنى عن ، فقول المفسر : (مخاصما عنهم) إيضاح للمعنى. قوله : (مما هممت به) أي من القضاء على اليهودي فإنه ذنب صورة على حد : (وعصى آدم ربه فغوى) فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله :

٣٢٥

غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٦) (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) كثير الخيانة (أَثِيماً) (١٠٧) أي يعاقبه (يَسْتَخْفُونَ) أي طعمة وقومه حياء (مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) بعلمه (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يضمرون (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨) علما (ها أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ) خطاب لقوم طعمة (جادَلْتُمْ) خاصمتم (عَنْهُمْ) أي عن طعمة وذويه وقرىء عنه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إذا عذبهم (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) يتولى أمرهم ويذب عنهم أي لا أحد يفعل ذلك (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) ذنبا يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بعمل ذنب قاصر عليه (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) منه أي يتب (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) له (رَحِيماً) (١١٠) به (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) ذنبا (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) لأن وباله عليها ولا يضر غيره (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١١١) في صنعه (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) ذنبا صغيرا (أَوْ إِثْماً) ذنبا كبيرا (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) منه (فَقَدِ احْتَمَلَ) تحمل (بُهْتاناً) برميه (وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢) بينا بكسبه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) يا محمد (وَرَحْمَتُهُ) بالعصمة (لَهَمَّتْ) أضمرت (طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من قوم طعمة (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن

____________________________________

(عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ) أي كطعمة وقومه المعينين فإنهم شركاء في الإثم. قوله : (مَنْ كانَ خَوَّاناً) صيغة مبالغة بمعنى كثير الخيانة ، لأنه وقعت منهم خيانات كثيرة ، أولا السرقة ، ثم اتهام اليهودي ، ثم الحلف كاذبا ، ثم الشهادة زورا. إن قلت : إن مقتضى الآية إن الله يحب من كان عنده أصل الخيانة مع أنه ليس كذلك. أجيب : بأن ذلك بالنظر لمن نزلت فيهم وهو طعمة وقومه ، فالواقع أن عندهم خيانات كثيرة. قوله : (أي يعاقبه) تفسير لعدم محبة الله له. قوله : (يَسْتَخْفُونَ) أي يطلبون الخفاء والستر ، وهذه الجملة مستأنفة بيان لطلبهم الستر من الناس. قوله : (وَهُوَ مَعَهُمْ) الجملة حالية. قوله : (يضمرون) هذا هو المراد من التبييت هنا ، وإلا فهو في الأصل تدبير الأمر ليلا. قوله : (علما) تمييز محول عن الفاعل.

قوله : (ها أَنْتُمْ) ها للتنبيه أي تنبهوا يا مخاطبون في المجادلة عن السارق. قوله : (وقرىء) أي شذوذا. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) حث وتحريض لطعمة على التوبة ، ومع ذلك لم يتب. قوله : (اليهودي) مفعول لرمي وطعمة فاعلة. قوله : (قاصر عليه) كاليمين الكاذبة. قوله : (أي يتب) المراد التوبة الصادقة بشروطها ، فليس المراد مجرد الاستغفار باللسان مع الإصرار ، فإنه توبة الكذابين. قوله : (ذنبا) أي متعلقا به أو بغيره. قوله : (ولا يضر غيره). إن قلت : إن معصية طعمة أصابت قومه فضرتهم. أجيب : بأن ضررهم إنما جاء من كسبهم ، لمعاونتهم له ، وشهادتهم الزور معه ، وعزمهم على الحلف كذبا. قوله : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي بالخطيئة والإثم ، وإنما أفرد الضمير لأن العطف بأو. قوله : (بَرِيئاً) صفة لموصوف محذوف ، أي شخصا بريئا.

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) الخ جوابها قوله : (لَهَمَّتْ). واستشكل بأن الوهم قد وقع منهم ،

٣٢٦

القضاء بالحق بتلبيسهم عليك (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) لأن وبال إضلالهم عليهم (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) ما فيه من الأحكام (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الأحكام والغيب (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) بذلك وغيره (عَظِيماً) (١١٣) (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي الناس أي ما يتناجون فيه ويتحدثون (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) عمل بر (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) المذكور (ابْتِغاءَ) طلب (مَرْضاتِ اللهِ) لا غيره من أمور الدنيا (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بالنون والياء أي الله

____________________________________

والمأخوذ من لو لا أنه لم يقع لوجود فضل الله ورحمته ، وأجيب بأن المراد هم يحصل معه الإضلال ، فالمعنى انتفى إضلالك الذي هموا به لوجود فضل الله ورحمته. قوله : (بالعصمة) أي الحفظ من المعاصي والمخالفات صغيرها وكبيرها. قوله : (زائدة) أي في مفعول (يَضُرُّونَكَ) المطلق. قوله : (والغيب) أي علم الغيب وهو ما غاب عنا. قوله : (بذلك) أي بإنزال الكتاب والحكمة ، وتعليمه ما لم يكن يعلم ، وقوله : (وغيره) أي كالفضائل التي اختص بها مما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.

قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) لا نافية للجنس وخير اسمها ، وفي كثير متعلق بمحذوف خبرها ، وقوله : (مِنْ نَجْواهُمْ) بمحذوف حال من متعلق الخبر. قوله : (أي الناس) أشار بذلك إلى أن الآية عامة وليست مخصوصة بقوم طعمة المتقدم. قوله : (أي ما يتناجون فيه ويتحدثون) أشار بذلك إلى أن معنى النجوى المحادثة من بعض القوم لبعض اثنان ففوق ، قال تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية ، والنجوى ضد السر ، وهو محادثة الإنسان نفسه ، وعطف قوله : (يتحدثون) على (يتناجون) للتفسير.

قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) يحتمل أنه استثناء منقطع إن أبقينا الكلام على ظاهره ، لأن المستثنى الشخص ، والمستثنى منه الكلام ، ولا شك أنه غيره ، ويحتمل أنه متصل وهو على حذف مضاف ، وإليه يشير المفسر بقوله : (إِلَّا) (نجوى) الخ. قوله : (بِصَدَقَةٍ) أي واجبة أو مندوبة. قوله : (أَوْ مَعْرُوفٍ) المراد به كل طاعة لله ، فيدخل فيه جميع أعمال البر ، فهو من عطف العام على الخاص ، وقوله : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) معطوف على قوله : (أَوْ مَعْرُوفٍ) من عطف الخاص على العام اعتناءا بشأنه واهتماما به ، وإنما خصت الثلاثة لأن الأمر المرضي لله ، إما إيصال نفع وهو إما جسماني أو روحاني ، فالأول كالصدقات ، والثاني كالأمر بالمعروف ، أو دفع ضرر كالإصلاح بين الناس ، لأن المفاسد مترتبة على التشاحن ، وبالإصلاح يحصل الخير والبركة ودفع الشرور ، ولذا حثّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «امش ميلا عد مريضا ، امش ميلين أصلح بين اثنين» وبالجملة فكثرة الكلام لا خير فيها ، قال بعضهم : من كثر لغطه كثر سقطه ، وفي الحديث : «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم». قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اسم الإشارة عائد على الثلاثة ، وإنما أفرد لأن العطف بأو إن قلت مقتضى السياق ومن يأمر بذلك ، أجيب بأن هذا راجع للمأمور به ، فاسم الإشارة عائد على المأمور به تقديره ومن يفعل المأمور به من صدقة أو معروف أو إصلاح ، فاستفيد من الآية أولا وآخرا ثواب الأمر والفاعل ، وفي الحديث : «الدال على الخير كفاعله». وأجيب أيضا بأنه عبر عن الأمر بالفعل لأنه فعل لساني والأقرب الأول. قوله : (لا غيره من أمور الدنيا) أي لأن ثواب الأعمال الصالحة منوط بالإخلاص كان من الآمر والفاعل ، فلو

٣٢٧

(أَجْراً عَظِيماً) (١١٤) (وَمَنْ يُشاقِقِ) يخالف (الرَّسُولَ) فيما جاء به (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ظهر له الحق بالمعجزات (وَيَتَّبِعْ) طريقا (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يكفر (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نجعله واليا لما تولاه من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا (وَنُصْلِهِ) ندخله في الآخرة (جَهَنَّمَ) فيحترق فيها (وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥) مرجعا هي (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦) عن الحق (إِنْ) ما (يَدْعُونَ) يعبد المشركون (مِنْ دُونِهِ) أي الله أي غيره (إِلَّا إِناثاً) أصناما مؤنثة كاللات والعزى ومناة (وَإِنْ) ما (يَدْعُونَ) يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧)

____________________________________

كان الفعل أو الأمر رياء وسمعة أو لغرض دنيوي لم يستحق به عند الله أجرا. قوله : (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وفي قراءة النون التفات من الغيبة للتكلم ، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله : (أَجْراً عَظِيماً) أي وهو الجنة وما فيها ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وفي التعبير بسوف إشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا الدنيا ، لأنها ليست دار جزاء ، بل عطاء الدنيا لكل من وجد فيها أطاع أو عصى كلف أو لا.

قوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) الخ ، لما ذكر سبحانه وتعالى المطيعين وما أعد لهم في الآخرة ، ذكر وعيد الكفار وعاقبه أمرهم على عادته سبحانه في كتابه. قوله : (فيما جاء من الحق) أي من الأمور التكليفية والأحكام الشرعية. قوله : (وَيَتَّبِعْ) عطف لازم على ملزوم. قوله : (أي طريقهم) أي اعتقادا وعملا. قوله : (نُوَلِّهِ) هو (وَنُصْلِهِ) إما بسكون الهاء أو كسرها بدون إشباع ، وهو المسمى بالاختلاس أو بالإشباع ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية. قوله : (بأن نخلي بينه) أي المشاقق ، وقوله : (وبينه) أي الضلال ، والمعنى أن من خالف ما أمر الله به ، فإن الله يستدرجه بالنعم ويمهله ولا يعجل عقوبته ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) الآية.

قوله : (وَساءَتْ مَصِيراً) ساء كبش للذم فاعلها مستتر وجوبا يعود على جهنم ومصيرا تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله هي. قوله : (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أي إذا مات على ذلك لقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) أي إن مات من غير توبة. قوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي فالشرك أعظم أنواع الضلال ، إن قلت قد قال فيما سبق فقد افترى إثما عظيما ، وهنا فقد ضل ضلالا بعيدا ، فما الحكمة في ذلك؟ قلت : إن ما تقدم في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحق ، وإنما كفرهم عناد ، فسماه الله افتراء أي كذبا ، وما هنا في شأن مشركي العرب وهم ليس لهم علم بذلك إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ، فلذا سماه الله ضلالا بعيدا.

وقوله : (إِنْ يَدْعُونَ) هذا كالدليل ، والتعليل لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قوله : (ما) (يَدْعُونَ) أشار بذلك إلى أن إن نافية بمعنى ما. قوله : (يعبد المشركون) أطلق الدعاء على العبادة لأنه منها ، وكثيرا ما يطلق الدعاء عليها. قوله : (أصناما مؤنثة) أي لتأنيث أسمائها ، ورد أنه ما من مشرك إلا وكان له صنم قد سماه باسم أنثى من العرب ، وحلاه بأنواع الحلى ، وكانوا يقولون هم بنات الله. قوله :

٣٢٨

خارجا عن الطاعة لطاعتهم له فيها وهو إبليس (لَعَنَهُ اللهُ) أبعده عن رحمته (وَقالَ) أي الشيطان (لَأَتَّخِذَنَ) لأجعلن لي (مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً) حظا (مَفْرُوضاً) (١١٨) مقطوعا أدعوهم إلى طاعتي (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق بالوسوسة (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) ألقى في قلوبهم طول الحياة وأن لا بعث ولا حساب (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَ) يقطعن (آذانَ الْأَنْعامِ) وقد فعل ذلك بالبحائر (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) دينه بالكفر وإحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) يتولاه ويطيعه (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (١١٩) بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه (يَعِدُهُمْ) طول العمر (وَيُمَنِّيهِمْ) نيل الآمال في الدنيا وأن لا بعث ولا جزاء (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) بذلك (إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠) باطلا (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١٢١) معدلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم الله ذلك وعدا وحقه حقا (وَمَنْ) أي لا أحد

____________________________________

(كاللات والعزى ومناة) اللات مأخوذ من إله والعزى من العزيز ، ومناة من المنان ، فاقتطعوها وسموا بها أصنامهم. قوله : (بعبادتها) الباء سببية أي فالمسؤول لهم على عبادتها الشيطان ، فعبادتها لازمة لعبادة الشيطان لأنه يحضر عندهم ، فهم في الصورة يعبدون الأصنام ، وفي الحقيقة العبادة للشيطان. قوله : (مَرِيداً) أي متمردا بمعنى بلغ الغاية في العتو والفجور لخروجه عن طاعة ربه ، حتى أمر الناس بعبادة غير الله. قوله : (لَعَنَهُ اللهُ) صفة ثانية لشيطانا. قوله : (عن رحمته) أي جنته وما فيها.

قوله : (وَقالَ) الخ ، الجملة إما صفة لشيطانا أو حال منه ، أي ما يدعون إلا شيطانا بكونه مريدا ، وبكونه مطرودا عن رحمته ، بكونه قائلا أو حال كونه قائلا ، وهذا القول قد وقع منه عند قول الله تعالى : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ). قوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) ورد أنهم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف ، لما في الحديث : «ما أنتم فيمن سواكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» وورد أن يوم القيامة يقول الله لآدم : أخرج من ذريتك بعث النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار ، فيقول الله تعالى : أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول.

قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) (عن الحق) أي أميلن قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد. قوله : (وقد فعل ذلك بالبحائر) جمع بحيرة وهي أن تلد الناقة أربعة بطون وتأتي في الخامس بذكر ، فكانوا لا يحملون عليها ، ولا يأخذون نتاجها ، ويجعلون لبنها للطواغيت ، ويشقون آذانها علامة على ذلك. قوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) أي ما خلقه ، ومن ذلك تغيير صفات نبينا الواقع من اليهود والنصارى ، وتغيير كتبهم ، ومن ذلك تغيير الجسم بالوشم ، وتغيير للشعر بالوصل ، لما في الحديث : «لعن الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة». قوله : (خُسْراناً مُبِيناً) أي لأنه ضيع رأس ماله وهي طاعة الله وعبادته. قوله : (إِلَّا غُرُوراً) أي مزين الظاهر فاسد الباطن. قوله : (أُولئِكَ) أي أولياء الشيطان. قوله : (معدلا) أي منفذا ومهربا.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بيان لوعد المؤمنين إثر بيان وعيد الكفار. قوله : (أي وعدهم الله ذلك وعدا) أشار بذلك إلى أن وعدا وحقا منصوبان بفعلين محذوفين من لفظهما ، ويصح أن يكون حقا صفة

٣٢٩

(أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) أي قولا. ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب (لَيْسَ) الأمر منوطا (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) بل بالعمل الصالح (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلِيًّا) يحفظه (وَلا نَصِيراً) (١٢٣) يمنعه منه (وَمَنْ يَعْمَلْ) شيئا (مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ) بالبناء للمفعول والفاعل (الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤) قدر نقرة النواة

____________________________________

لوعدا. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، وهو كالدليل لما قبله : قوله : (لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب) أي حيث قال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء ، وكتابنا يقضي على سائر الكتب ، ونحن آمنّا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال أهل الكتاب : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم فنحن أولى منكم ، وقيل سبب نزول الآية افتخار أهل الكتاب ومشركي العرب ، وعليه فلا يحتاج لتأويل في قوله : (يُجْزَ بِهِ) بل يحمل الجزاء لكل من الفريقين على الخلود في النار.

قوله : (لَيْسَ) (الأمر منوطا) أشار بذلك إلى أن اسم ليس ضمير عائد على الأمر ، وقوله : (بِأَمانِيِّكُمْ) متعلق بمحذوف خبرها أي منوطا بمعنى متعلقا ومرتبطا. قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي من مؤمن أو كافر. قوله : (إما في الآخرة) أي وهو محتم في حق من مات كافرا ، وأما من مات عاصيا ولم يتب فتحت المشيئة. قوله : (كما ورد في الحديث) أي وهو أن أبا بكر لما نزلت قال : يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنت وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس عليكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة» ، وفي رواية قال أبو بكر : فمن ينجو من هذا؟ فقال عليه الصلاة والسّلام : أما تمرض أو يصيبك البلاء؟ قال : بلى ، قال : هو ذلك.

قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ) هذا مقابل قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قوله : (شيئا) أشار بذلك إلى أن من للتبعيض ، لأنه لا يمكن استيفاء جميع الأعمال الصالحة. قوله : (مِنَ الصَّالِحاتِ) الجار والمجرور متعلق بشيئا الذي قدره المفسر. قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) حال من الضمير في (يَعْمَلْ) وكذا قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وأما الكافر فأعماله الصالحة ضائعة ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) قوله : (فَأُولئِكَ) هذه الجملة جواب الشرط. قوله : (بالبناء للمفعول) أي والجنة مفعول ثان ، والواو نائب الفاعل مفعول أول ، لأنه من أدخل الرباعي فهو ينصب مفعولين ، وقوله : (والفاعل) أي من دخل فهو ينصب مفعولا واحدا فمفعوله الجنة والواو فاعله ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي لا ينقصون شيئا أبدا لا قليلا ولا كثيرا ، ويؤخذ من الآية أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة ، وأما النعم التي يعطاها المؤمن في الدنيا من عافية ورزق وغير ذلك ، فليست جزاء لأعماله الصالحة ، بل تكفل الله بها لكل حي في الدنيا مسلما أو كافرا ، بل بعض العبيد من أهل المحبة في الله لا ينتظر بعمله الجنة ، بل يقول إنما عبدناك لذاتك لا لشيء آخر ، قال العارف بن الفارض حين كشف له عن الجنة وما أعد له فيها في مرض موته :

٣٣٠

(وَمَنْ) أي لا أحد (أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي انقاد وأخلص عمله (لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) موحد (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لملة الإسلام (حَنِيفاً) حال أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيم (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥) صفيا خالص المحبة له (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦) علما وقدرة أي لم يزل متصفا بذلك (وَيَسْتَفْتُونَكَ) يطلبون منك الفتوى (فِي) شأن (النِّساءِ) وميراثهن (قُلِ) لهم (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) القرآن من آية الميراث ويفتيكم أيضا (فِي يَتامَى

____________________________________

إن كان منزلتي في الحبّ عندكم

ما قد رأيت فقد ضيّعت أيّامي

قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي نفسه وذاته ، وعبر عنها بالوجه لأنه أشرف أعضاء الإنسان. قوله : (وهو محسن) الجملة حال من ضمير أسلم. قوله : (وَاتَّبَعَ) إما عطف لازم على ملزوم ، وعلة على معلول ، أو حال ثانية ، والقصد بذلك إقامة الحجة على المشركين جميعا في عدم اتباعهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن إبراهيم متفق على مدحه حتى من اليهود والنصارى ، فالمعنى ما تقولون فيمن اتبع ملة إبراهيم ، فيقولون لا أحد أحسن منه ، فيقال لهم إن محمدا على ملة إبراهيم فلم لم تتبعوه وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة غير الله. قوله : (حال) أي إما من ضمير اتبع أو من إبراهيم ، ولصحة هذين المعنيين أجمل المفسر في الحال. قوله : (خالص المحبة له) أي لم يجعل في قلبه غير محبة ربه ، لتخللها في حشاشته وانطباعها في مهجته ، وقوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) كالدليل لما قبله ، أي من اتخذه الله خليلا فهو جدير بأن تتبع ملته.

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذا دليل ما تقدم ، أي حيث كانت السموات وما فيها ، والأرض وما فيها لله وحده ولا مشارك له في شيء من ذلك ، فما معنى إشراك من لا يملك لنفسه شيئا ، مع من له جميع المخلوقات ، وهو آخذ بناصيتها ، وقيل أتى بهذه الآية دفعا لما يتوهم أن اتخاذ ابراهيم خليلا عن احتياج كما هو شأن الآدميين ، بل ذلك من فضله وكرمه. قوله : (علما وقدرة) أشار بذلك لقولين في تفسير قوله : (مُحِيطاً) قيل علما وقيل قدرة وكل صحيح. قوله : (أي لم يزل) أشار بذلك إلى أن كان للاستمرار لا للانقطاع. قوله : (يطلبون منك الفتوى) أي بيان ما حكم الله به في شأنهن ، والفتوى بالواو فتفتح الفاء والياء فتضم وجمعها فتاوي بكسر الواو ، ويجوز الفتح للخفة. قوله : (فِي) (شأن) (النِّساءِ) أي ما يتعلق بهن من دفع المهر لهن وعدم إيذائهن. قوله : (وميراثهن) عطف خاص ردا على من كان يمنعه من الجاهلية. قوله : (يُفْتِيكُمْ) أي يبين لكم تلك الأحكام. قوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يحتمل أن ما معطوف على لفظ الجلالة ، أو على الضمير المستتر في يفتيكم ، والفاصل موجود وهو الكاف ، لقول ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

أو فاصل ما ، وعلى كل فيكون المفتي اثنين : الله سبحانه وتعالى وكتابه والتغاير بالاعتبار ، فالمعنى يفتيكم بنفسه على لسان نبيه ، وبكتابه على لسان نبيه ، فتأمل ، وفيه مزيد اعتناء بتلك الفتوى. قوله : (من آية الميراث) أي وهي قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآيات ، وكذلك الوصية التي تقدمت في

٣٣١

النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ) فرض (لَهُنَ) من الميراث (وَتَرْغَبُونَ) أيها الأولياء عن (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) لدمامتهن وتعضلوهن أن يتزوجن طمعا في ميراثهن أي يفتيكم أن لا تفعلوا ذلك (وَ) في (الْمُسْتَضْعَفِينَ) الصغار (مِنَ الْوِلْدانِ) أن تعطوهم حقوقهم (وَ) يأمركم (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) بالعدل في الميراث والمهر (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧) فيجازيكم به (وَإِنِ امْرَأَةٌ) مرفوع بفعل يفسره (خافَتْ) توقعت (مِنْ بَعْلِها) زوجها

____________________________________

أوائل السورة كقوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) فالمناسب للمفسر أن لا يقتصر على آية الميراث. قوله : (ويفتيكم أيضا) أشار بذلك إلى أن قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلق بمحذوف معطوف على الضمير في قوله : (فِيهِنَ) العاطف محذوف ، التقدير الله وكتابه يفتيكم في شأن النساء عموما ، والله وكتابه يفتيكم في يتامى النساء ، فهو من عطف الخاص على العام والنكتة الاعتناء بشأنهن.

قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) الإضافة على معنى من أي اليتامى من النساء ، أو من إضافة الصفة للموصوف أي النساء اليتامى. قوله : (من الميراث) أي وباقي الحقوق كالمهور. قوله : (عن) (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) معلوم أن حذف الجار مع أن وإن مطرد ، وإنما قدر عن إشارة إلى أن الرغبة بمعنى الزهد فتعدى بعن ، وبعضهم قدر في إشارة إلى أن الرغبة بمعنى الحب ، والمعنى تحبون وترغبون في نكاحهن لمالهن ، ولو لا ذلك ما تزوجتموهن ، وهو مذموم أيضا ، بل الواجب تقوى الله فيهن ، فإن أكل مال اليتيم فيه الوعيد الشديد ، فضلا عن كون اليتيم امرأة لا ناصر لها ، روى مسلم عن عائشة قالت : هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن ينقص صداقها. فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن ، قالت عائشة رضي الله عنها : فاستفتى الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عزوجل : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ، ولم يلحقوا بسنتها في إكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال والتمسوا غيرها قال : فكما يتركونها حين يرغبون عنها ، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها ، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق ، وقد تقدم بسط ذلك أول السورة. قوله : (لدمامتهن) أي فقرهن. قوله : (وتعضلوهن) أي تمنعوهن ، وهذا التخويف للأولياء كما هو مقتضى المفسر ، وفي الحقيقة هو عام للأولياء ، ومن يتزوج بها فتخويف الولي من حيث عضلهن عن الزواج لأخذ مالهن ، وتخويف الزوج من حيث تزوجها لأخذ مالها ، أو بغير مهر مثلها وعدم إعطائها إياه ، وبالجملة فلا يجوز لولي ولا زوج أكل مال اليتيم ميراثا أو مهرا.

قوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) معطوف على يتامى عطف عام على خاص. قوله : (مِنَ الْوِلْدانِ) أي ذكورا أو إناثا ، وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصبيان مطلقا ولا النساء ، وإنما كانوا يقولون : لا نورث إلا من يحمي الحوزة ويذب عن الحرم ، فيحرمون المرأة والصبي. قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى) معطوف على قوله : (فِي يَتامَى) من عطف العام أيضا ، ويصح نصبه بإضمار فعل ، وهو الذي مشى عليه المفسر بقوله : (وَ) (يأمركم) وهو خطاب للأولياء والحكام ، والمراد باليتامى مطلقا ذكورا أو إناثا. قوله : (مِنْ خَيْرٍ) بيان لما. قوله : (مرفوع بفعل يفسره) (خافَتْ) أي فهو من باب الاشتغال ، ولا يصح جعله

٣٣٢

(نُشُوزاً) ترفعا عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها (أَوْ إِعْراضاً) عنها بوجهه (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا) فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد وفي قراءة يصلحا من أصلح (بَيْنَهُما صُلْحاً) في القسم والنفقة بأن نترك له شيئا طلبا لبقاء الصحبة فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة والنشوز والإعراض قال تعالى في بيان ما جبل عليه الإنسان (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) شدة البخل أي جبلت عليه فكأنها حاضرته لا تغيب عنه والمعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها

____________________________________

مبتدأ ، لأن أداة الشرط لا يليها إلا الفعل ولو تقديرا ، ونظيره وإن أحد من المشركين استجارك.

قوله : (خافَتْ) الخوف توقع الأمر المكروه ، فقوله : (توقعت) أي انتظرته. قوله : (زوجها) أي ويقال له سيد أيضا ، قال تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) والسيد والبعل مختصان بالرجل ، والزوج كما يطلق على الرجل يطلق على المرأة. قوله : (يترك مضاجعتها) الباء سببية ، والمراد بالترك التقليل من ذلك. قوله : (والتقصير في نفقتها) أي التقليل منها ، مع كونه لم يكن ترك الحقوق الواجبة ، وإلا فصلحه بالمال على ترك الحقوق الواجبة يحرم عليه ولا يحل له أخذه ، مع أن الموضوع أنه لا جناح عليه ولا عليها فيه فتأمل. قوله : (وطموح عينه) أي تلفته ونظره إلى غيرها قوله : (إلى أجمل منها) أي ولو بحسب ما عنده. قوله : (أَوْ إِعْراضاً) معطوف على (نُشُوزاً) والمراد بالإعراض عنها بوجهه عدم البشاشة معها ولقاؤها بوجه عبوس ، قال الشاعر :

وللغدر عين لن تزال عبوسة

وعين الرّضا مصحوبة بالتبسّم

قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا إثم في ذلك على المرأة إذا صالحته على ترك القسم أو النفقة أو الكسوة ، ولا على الرجل في قبول ذلك منها ، ونفي الجناح على الرجل ظاهر لأنه يأخذ منها شيئا ، فهو مظنة الجناح ، وأما نفي الجناح عن المرأة فمن حيث دفع ذلك ، لأنه ربما يقال إنه كان كالربا ، فإنه حرام على الدافع والآخذ. قوله : (فيه إدغام التاء) أي بعد قلبها صادا وتسكينها. قوله : (وفي قراءة يصلحا) أي وهي سبعية ، وقوله : (صُلْحاً) مفعول مطلق على كلا القراءتين ، ويصح على القراءة الثانية جعله مفعولا به إن ضمن يصلحا معنى يوفقا ، وقوله : (بَيْنَهُما) حال من قوله : (صُلْحاً) لأنه نعت نكرة قدم عليها ، وأقحمه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون ذلك الصلح سرا لا يطلع عليه إلا أهلهما. قوله : (بأن نترك له شيئا) أي بما لها عليه من الحقوق ، كالنفقة والكسوة والمبيت ، قوله : (فإن رضيت بذلك) جواب الشرط محذوف تقديره لزمها ذلك ، قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) هذه الجملة كالتي بعدها معترضة بين جملة الشرط الأولى والثانية ، وقوله : (خَيْرٌ) اسم تفضيل والمفضل عليه محذوف ، قدره المفسر بقوله : (من الفرقة) لا يقال الفرقة لا خير فيها إلا أن يقال قد يكون في الفرقة خير أيضا لكنه متوهم ، وأما خيرية الصلح فمحققة ، وقيل إنه ليس على بابه ، بل على الصلح خير من الخيور ، كما أن النشوز شر من الشرور. قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) الأنفس نائب فاعل ، أحضرت مفعول أول ، والشح مفعول ثان ، والمعنى أحضر الله الأنفس الشح أي كل ما عليه ، فمتى تعلقت الأنفس بشيء فلا ترجع عنه إلا بمشقة. قوله :

٣٣٣

والرجل لا يكاد يسمح عليها بنفسه إذا أحب غيرها (وَإِنْ تُحْسِنُوا) عشرة النساء (وَتَتَّقُوا) الجور عليهن (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨) فيجازيكم به (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) تسووا (بَيْنَ النِّساءِ) في المحبة (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على ذلك (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة (فَتَذَرُوها) أي تتركوا الممال عليها (كَالْمُعَلَّقَةِ) التي لا هي أيم ولا ذات بعل (وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالعدل في القسم (وَتَتَّقُوا) الجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لما في قلبكم من الميل (رَحِيماً) (١٢٩) بكم في ذلك (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي الزوجان بالطلاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) عن صاحبه (مِنْ سَعَتِهِ) أي فضله بأن يرزقها زوجا غيره ويرزقه غيرها (وَكانَ اللهُ واسِعاً) لخلقه في الفضل (حَكِيماً) (١٣٠) فيما دبره لهم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بمعنى الكتب (مِنْ قَبْلِكُمْ) أي اليهود والنصارى (وَإِيَّاكُمْ) يا أهل القرآن (أَنِ) أي بأن (اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوه (وَ) قلنا لهم ولكم (إِنْ تَكْفُرُوا) بما وصيتم به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبدا فلا يضره كفركم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن خلقه وعبادتهم (حَمِيداً) (١٣١) محمودا في صنعه بهم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كرره تأكيدا لتقرير موجب التقوى (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٣٢) شهيدا بأن ما فيهما له (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يا (أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) بدلكم (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١٣٣) (مَنْ كانَ يُرِيدُ)

____________________________________

(والمعنى) أي المراد من المعنى في ذلك ترغيب في الصلح ، وترك هوى النفس. قوله : (عشرة النساء) قدره إشارة إلى أن مفعول (تُحْسِنُوا) محذوف. قوله : (بِما تَعْمَلُونَ) أي بعلمكم مع النساء خيرا أو شرا. قوله : (في المحبة) أي والمحادثة والمضاجعة. قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي فلا تعرضوا كل الإعراض ، بل يلزمكم العدل في المبيت وتركه حرام لما في الحديث : «من لم يعدل بين نسائه جاء يوم القيامة وشقه ساقط» وأما الميل القلبي إلى إحداهما فلا حرج فيه ، ولذا قال عليه الصلاة والسّلام : «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك». قوله : (الممال عنها) على بمعنى عن ، أي الممال عنها بمعنى المبغوضة. قوله : (كَالْمُعَلَّقَةِ) الكاف بمعنى مثل مفعول ثان لتذروا ، والهاء مفعول أول ، لأنها إذا كانت بمعنى ترك تنصب مفعولين. قوله : (التي لا هي أيم) الأيم هي التي لا زوج لها ، كأن سبق لها زواج أو لم تتزوج أصلا. قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) مقابل قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا). بقوله : (بأن يرزقها زوجا غيره) أي وإن كان لأحدهما عشق في الآخر ، يغنيه الله بأن يبرد قلبه من ذلك. قوله : (في الفضل) متعلق بواسعا. قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) الخ ، هذا كالعلة والدليل لقوله : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً). قوله : (فلا يضره كفركم) أي فليس أمرهم بالطاعة عن احتياج تنزه الله عن أن يصل له نفع من طاعتهم أو ضر من كفرهم ، وهذا هو جواب الشرط ، وقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) دليل الجواب قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يستأصلكم بالمرة ، وقوله : (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي يقوم آخرين دفعة مكانكم.

٣٣٤

بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لمن أراده لا عند غيره فلم يطلب أحدهما الأخس وهلا طلب الأعلى بإخلاصه له حيث كان مطلبه لا يوجد إلا عنده (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) قائمين (بِالْقِسْطِ) بالعدل (شُهَداءَ) بالحق (لِلَّهِ وَلَوْ) كانت الشهادة (عَلى أَنْفُسِكُمْ) فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق ولا تكتموه (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) منكم وأعلم بمصالحهما (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه أو الفقير رحمة له (إِنْ) لا

____________________________________

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) جواب الشرط محذوف تقديره فقد ساء عمله وخاب نظره ، وقوله : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) مرتب على محذوف التقدير ، فلا يقصر نظره وطلبه على إحداهما فعند الله الخ ، قوله : (لمن أراده) متعلق بقوله : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وهذا معنى قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) الآية. قوله : (وهلا طلب الأعلى بإخلاصه) أي فالواجب على المكلف أن لا يطلب بعمله الصالح إلا الآخرة ، لأن الدنيا مضمونة لكل حيوان.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قيل سبب نزولها أن غنيا وفقيرا اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فنزلت الآية ، فالخطاب للنبي وأمته. قوله : (قائمين) هذا بيان لأصل المادة ، وإلا فالمراد مد يمين القيام ، لأن صيغة المبالغة لا تتحقق إلا بالدوام على القيام بالقسط ، يقال قسط يقسط ، جار وعدل ، والمراد هنا العدل بقرينة المقام ، وأما أقسط فمعناه عدل لا غير ، واسم الفاعل من الأول قاسط ، ومن الثاني مقسط. وقوله : (شُهَداءَ) خبر ثان لكونوا ، والواو اسمها ، وقوامين خبر أول. قوله : (بالحق) أي لا بالباطل فلا تجوز الشهادة به ، وقوله الله أي لمحض وجهه لا لغرض آخر. قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لكان المحذوفة ، لأن حذف كان مع اسمها بعد لو كثير ، قال ابن مالك :

ويحذفونها ويبقون الخبر

وبعد أن ولو كثيرا ذا اشتهر

أي هذا إذا كانت الشهادة على الغير ، بل ولو على النفس. قوله : (بأن تقروا بالحق) أي فالمراد بالشهادة الإقرار ، ويحتمل أن تكون الشهادة على حقيقتها ، وهي الإخبار عن الغير بأمر ، كأن يكون شاهدا على ابنه مثلا بحق ، فالواجب اداؤها ولو حصل منها ضرر للنفس. قوله : (أَوِ الْوالِدَيْنِ) في حيز المبالغة ، ولا عبرة بغضبهما حينئذ إذا كان الولد شاهدا عليهما بحق. قوله : (إِنْ يَكُنْ) (المشهود عليه) أي من الوالدين والأقربين والأجانب. قوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) استشكل تثنية الضمير مع كون العطف بأو ، أجيب بأن الضمير ليس عائدا على الغني والفقير المتقدمين ، بل هو عائد على جنسهما المدلول عليه بالمذكورين ، ويدل على ذلك قراءة أبي فالله أولى بهم ، وأجيب أيضا بأن أو للتقسيم للمشهود له والمشهود عليه ، لأنهما إما أن يكونا غنيين أو فقيرين ، والمشهود له غنيا ، والمشهود عليه فقيرا ، أو بالعكس ، فالضمير في الحقيقة عائد على المشهود له والمشهود عليه ، وقد يجاب أيضا بأن أو بمعنى الواو. قوله : (لرضاه) أي الغني فربما واساكم. وقوله : (بأن تحابوا) تصوير للمنفي.

٣٣٥

(تَعْدِلُوا) تميلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا) تحرفوا الشهادة وفي قراءة بحذف الواو الأولى تخفيفا (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥) فيجازيكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) داوموا على الإيمان (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) على الرسل بمعنى الكتب وفي قراءة بالبناء للفاعل في الفعلين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦) عن الحق (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى وهم اليهود (ثُمَّ كَفَرُوا) بعبادة العجل (ثُمَّ آمَنُوا) بعده (ثُمَّ كَفَرُوا) بعيسى (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ما أقاموا عليه (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ

____________________________________

قوله : (إِنْ) (لا) (تَعْدِلُوا) تعليل للنهي ، لأن من اتّبع الهوى فقد اتصف بالجور ، ومن ترك أتباعه فلا يتصف به فيصير المعنى انتهوا عن اتباع الهوى لأجل أن لا يحصل منكم جور ، وهذا ما مشى عليه المفسر ، من أن العدل بمعنى الجور ، فاحتاج إلى تقدير لا ، وقال في الكشاف أن العدل ضد الجور ، وعليه فليس فيه تقدير لا ، ولا يصير المعنى انتهوا عن اتباع الهوى لأجل اتصافكم بالعدل وكل صحيح ، والثاني أقرب لعدم لكلفة. قوله : (تحرفوا الشهادة) أي بأن يشهد على خلاف ما يعلم من الدعوى. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا ، وأصل تلووا تلويون استثقلت الضمة على الياء ، فنقلت للواو قبلها بعد سلب حركتها ، حذفت الياء التي هي لام الكلمة ، وحذفت النون للجازم ، فصار وزنه تفعوا ، وعلى القراءة الثانية حذفت عين الكلمة التي هي الواو الأولى بعد نقل ضمتها إلى اللام ، فصار وزنه تفوا ، وفيه إجحاف ، لأنه لم يبق إلا فاؤها.

قوله : (أَوْ تُعْرِضُوا) أي بأن تنكروها من أصلها ، فالعطف مغاير خلافا لمن قال بالترادف. قوله : (فَإِنَّ اللهَ) دليل الجواب ، والجواب محذوف تقديره يعاقبكم على ذلك لأن الله كان بما تعملون خبيرا. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، ذكر هذه الآية بعد الأمر بالعدل من ذكر السبب بعد المسبب ، لأن الإيمان سبب للعدل. قوله : (داوموا) الخ دفع بذلك ما يقال إن فيه تحصيل الحاصل والمعنى داوموا على الإيمان بفعل الطاعات ، لأن فعلها يزيد في الإيمان ، ولا تكونوا ممن بدل وغير ممن سيأتي ذكرهم والتشنيع عليهم. قوله : (بمعنى الكتب) أي فأل للجنس. قوله : (في الفعلين) أي نزل وأنزل ، وفاعل الإنزال هو الله تعالى.

قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) أي بشيء من ذلك بأن أنكر صفة من صفات الله أو سب ملائكته ، أو أنكر الكتب السماوية ، أو سبّ رسله أو أنكر رسالتهم أو لم يصدق باليوم الآخر ، فالكفر بواحد من هذه المذكورات كاف في استحقاق الوعيد ، لأن الإيمان بكل واحد أصل من أصول الدين. قوله : (بعده) أي بعد رجوعه إليهم من المناجاة. قوله : (أقاموا عليه) أي مدة إقامتهم عليه ، ودفع بذلك ما يقال إن ظاهر الآية يقتضي عدم المغفرة لهم ولو تابوا فأفاد أن عدم المغفرة لهم مقيد بمدة إقامتهم على الكفر ، أما إن تابوا ورجعوا عنه فإن الله يقبل توبتهم ، قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وخبر كان في الآية محذوف وهو متعلق اللام تقديره لم يكن الله مريدا ليغفر لهم ، والفعل

٣٣٦

سَبِيلاً) (١٣٧) طريقا إلى الحق (بَشِّرِ) أخبر يا محمد (الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) مؤلما هو عذاب النار (الَّذِينَ) بدل أو نعت للمنافقين (يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لما يتوهمون فيهم من القوة (أَيَبْتَغُونَ) يطلبون (عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) استفهام إنكاري أي لا يجدونها عندهم (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) في الدنيا والآخرة ولا ينالها إلا أولياؤه (وَقَدْ نَزَّلَ) بالبناء للفاعل والمفعول (عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) القرآن في سورة الأنعام (أَنْ) مخففة واسمها محذوف أي أنه (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) القرآن (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) أي الكافرين والمستهزئين (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً) إن قعدتم معهم (مِثْلُهُمْ) في الإثم (أَنْ

____________________________________

منصوب بأن مضمرة بعد هذه اللام لأنها لام الجحود ، والفعل تأويل مصدر مفعول لمريد التقدير لم يكن الله مريدا غفران كفرهم.

قوله : (بَشِّرِ) البشارة في الأصل هي الخبر السار ، سمي بذلك لأنه يغير البشرة أي الجلدة. قوله : (أخبر) أشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة هنا مطلق الإخبار ، وسماه بشارة تهكما بها وإشارة إلى أن وعيدهم بالعذاب لا يخلف ، كما أن وعيد المؤمن بالخير لا يخلف ، وفي الكلام استعمل تبعية ، حيث شبهت النذارة بالبشارة ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من البشارة بشر بمعنى أنذر ، والجامع التأثر في كل ، لأن من سمع الخبر الضار تأثّر به ، ومن سمع الخبر السار تأثر به. قوله : (الْمُنافِقِينَ) أي وهم الذين يسرون الكفر ، ويظهرون الإسلام ، والنفاق قسمان : عملي واعتقادي. فالعملي أشار له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». والاعتقادي هو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر. قوله : (أَوْلِياءَ) أي أصحابا يوالونهم ويستعزون بهم ، لزعمه أن الكفار لهم اليد العليا ، وأن الإسلام سيهدم لقلة أهله. قوله : (استفهام إنكاري) أي بمعنى النفي. قوله : (إلا أولياءه) أي المؤمنون ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).

قوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يا أيها المؤمنون ، والذي نزل هو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهذا نزل بمكة ، لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن يستهزؤون به ، فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، صار اليهود يفعلون مثل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم ، ويسمعون منهم الخوض ، ويستهزؤون معهم ، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مجالستهم والقعود معهم. قوله : (بالبناء للفاعل) أي والفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعوله وهذا على كونه مشددا ، وقرىء بالبناء للفاعل مخففا ، فأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل ، وقوله : (والمفعول) أي مشددا ، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل.

قوله : (يُكْفَرُ بِها) أي إما من غير استهزاء وهو الواقع من المشركين واليهود ، أو مع الاستهزاء وهو الواقع من المنافقين. قوله : (أي الكافرين) أي كالمشركين واليهود ، وقوله : (والمستهزئين) أي وهم المنافقون ، وسموا مستهزئين لقولهم : (إذا خلوا بشياطينهم إنا معكم إنما نحن مستهزؤون). قوله : (فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي غير الحديث المتقدم من الكفر والاستهزاء قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي مشاركون لهم في الإثم ، قال بعضهم :

٣٣٧

اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء (الَّذِينَ) بدل من الذين قبله (يَتَرَبَّصُونَ) ينتظرون (بِكُمْ) الدوائر (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) ظفر وغنيمة (مِنَ اللهِ قالُوا) لكم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدين والجهاد فاعطونا من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) من الظفر عليكم (قالُوا) لهم (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) نستول (عَلَيْكُمْ) ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم (وَ) ألم (نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أن يظفروا بكم بتخذيلهم ومراسلتكم بأخبارهم فلنا عليكم المنة قال تعالى (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) وبينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١) طريقا بالاستئصال (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) بإظهارهم خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية (وَهُوَ خادِعُهُمْ) مجازيهم على خداعهم فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ) مع المؤمنين (قامُوا كُسالى) متثاقلين

____________________________________

وسمعك صنّ عن سماع القبيح

كصون اللّسان عن النّطق به

فإنّك عند سماع القبيح

شريك لقائله فانتبه

قوله : (في الإثم) أي كفر أو غيره ، فالراضي بالكفر كافر ، والراضي بالمحرم عاص ، وبالجملة فجليس الطائع مثله ، وجليس العاصي مثله. قوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) الخ ، هذا كالعلة والدليل لقوله : (إِذاً مِثْلُهُمْ). قوله : (من الذين قبله) أي وهو قوله : (الذين يتخذون الكافرين أولياء) والأحسن أنه نعت ثان للمنافقين. قوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) أي بأن كانت الغلبة للمؤمنين ، والخذلان للكفار. قوله : (من الظفر عليكم) أي كما وقع في أحد. قوله : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) الاستحواذ الاقتدار والاستيلاء. قوله : (فأبقينا عليكم) أي رفقنا بكم ورحمناكم. قوله : (فلنا عليكم المنة) أي فأعطونا نصيبا من الدنيا ، فهم لا حظ لهم غير أخذ المال. قوله : (بالاستئصال) دفع بذلك ما يقال إن الكفار بالمشاهدة لهم سبيل على المؤمنين في الدنيا ، فأجاب المفسر : بأن معنى ذلك أن الكفار لا يستأصلون المؤمنين ويجاب أيضا : بأن المراد في القيامة فلا يطالبونا بشيء يوم القيامة ، أو المراد سبيلا بالشرع ، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ، فمن ذلك أن الكافر لا يرث المسلم ، وليس له أن يملك عبدا مسلما ، ولا يقتل المسلم بالذمي.

قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) أي رسوله ، وهذا بيان لبعض قبائحهم. قوله : (بإظهارهم خلاف ما أبطنوه) أي من إظهار الإيمان وإخفاء الكفر. قوله : (فيفتضحون في الدنيا) أي يفتضحون في الآخرة أيضا لما روي أنه يوم القيامة حين يمتاز الكفار من المؤمنين ، تبقى هذه الأمة وفيها منافقوها فيتجلى الله لهم ، فيخرّ المؤمنون سجدا ، والمنافقون يصير ظهورهم طبقا ، فلا يستطيعون السجود ، وروي أنهم يعطون على الصراط نورا كما يعطى المؤمنون ، فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ، ويبقى نور المؤمنين فينادون المؤمنين : انظرونا نقتبس من نوركم ، وهو معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الآية. قوله : (كُسالى) أي لعدم الداعية في قلوبهم وهو نصب على الحال ، والكسل

٣٣٨

(يُراؤُنَ النَّاسَ) بصلاتهم (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ) يصلون (إِلَّا قَلِيلاً) (١٤٢) رياء (مُذَبْذَبِينَ) مترددين (بَيْنَ ذلِكَ) الكفر والإيمان (لا) منسوبين (إِلى هؤُلاءِ) أي الكفار (وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي المؤمنين (وَمَنْ يُضْلِلِ) ه (اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣) طريقا إلى الهدى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ) بموالاتهم (سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) برهانا بينا على نفاقكم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ) المكان (الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وهو قعرها (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) مانعا من العذاب (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من النفاق (وَأَصْلَحُوا) عملهم (وَاعْتَصَمُوا) وثقوا (بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) من الرياء (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) فيما يؤتونه (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦) في الآخرة هو الجنة (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) نعمه (وَآمَنْتُمْ) به والاستفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم (وَكانَ اللهُ شاكِراً) لأعمال المؤمنين بالإثابة (عَلِيماً) (١٤٧) بخلقه (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) من

____________________________________

الفتور والتواني ، قوله : (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي النبي وأصحابه ، والمعنى أنهم يقصدون بصلاتهم النجاة من النبي وأصحابه ، والجملة خال من كسالى. قوله : (يصلون) إنما سميت الصلاة ذكرا ، لأنها اشتملت عليه. قوله : (مُذَبْذَبِينَ) حال من فاعل يراؤون ، وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى ، وقد أفاده المفسر بقوله : (مترددين) قوله : (لا إِلى هؤُلاءِ) الخ ، متعلق في الموضعين بمحذوف حال من مذبذبين ، قدره المفسر بقوله : (منسوبين). قوله : (أي الكفار) أي فيقتلون ويترتب عليهم أحكامه. وقوله : (أي المؤمنين) أي فينجون في الدنيا والآخرة.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين الخلص. قوله : (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ) أي كما فعل المنافقون ، فيترتب عليه الوعيد العظيم فاحذروا ذلك. قوله : (أَتُرِيدُونَ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي لا تريدون ذلك. قوله : (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) الدركات بالكاف منازل أهل النار ، والدرجات بالجيم منازل أهل الجنة. قوله : (وهو قعرها) أي لأنها سبع طبقات ، العليا لعصاة المؤمنين وتسمى جهنم ، والثانية لظى للنصارى ، والثالثة الحطمة لليهود ، والرابعة السعير للصابئين ، والخامسة سقر للمجوس ، والسادسة الجحيم للمشركين ، والسابعة الهاوية للمنافقين وفرعون وجنوده ، لقوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء من قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ). قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) ما استفهامية ، الباء سببية ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي. أي لا يفعل بعذابكم شيئا حيث حسنت توبتكم ، ويصح أن تكون ما نافية والباء زائدة ومدخولها مفعول لقوله يفعل ، والمعنى ما يفعل عذابكم ، أي لا يعذبكم حين صدقت التوبة ، فالمآل في المعنيين واحد. قوله : (وَآمَنْتُمْ) عطف خاص على عام ، أو مسبب على سبب ، لأن الشكر سبب في الإيمان ، فإن الإنسان إذا تذكر نعم الله حملته على الإيمان.

قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) هذا مرتب على ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين ، أي فلا تتوهم أيها العاقل من تقبيح الله لبعض عبيده ، إنه يجوز لكل أحد التقبيح لمن علم منه سوءا ، أو ظنه فيه ،

٣٣٩

أحد أي يعاقب عليه (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فلا يؤاخذه بالجهر به بأن يخبر عن ظلم ظالمه ويدعو عليه (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لما يقال (عَلِيماً) (١٤٨) بما يفعل (إِنْ تُبْدُوا) تظهروا (خَيْراً) من أعمال البر (أَوْ تُخْفُوهُ) تعملوه سرا (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) ظلم (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بأن يؤمنوا به دونهم (وَيَقُولُونَ

____________________________________

وسبب نزولها : أن رجلا استضاف قوما فلم يحسنوا ضيافته ، فلما خرج تكلم فيها جهرا بسوء ، وقيل إن سبب نزولها أن رجلا نال من أبي بكر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضر ، فسكت عنه مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئا ، حتى إذا رددت عليه قمت ، فقال له إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت فنزلت ، وقوله : (بِالسُّوءِ) هو اسم جامع لكل فحش ، كالبر فإنه اسم جامع لكل خير ، وقوله : (مِنَ الْقَوْلِ) بيان للجهر بالسوء ومثل القول الفعل ، فلا مفهوم للجهر ولا للقول ، وإنما خصا لأنهما سبب النزول ولكونهما الغالب. قوله : (من أحد) قدره إشارة إلى أن فاعل المصدر محذوف ، وهو من المواضع التي ينقاس فيها حذف الفاعل ، وقد جمعها بعضهم بقوله :

عند النّيابة مصدر وتعجّب

ومفرغ ينقاس حذف الفاعل

قوله : (أي يعاقب) دفع بذلك ما يقال إن الحب والبغض معنى قائم بالقلب وهو مستحيل على الله تعالى ، فأجاب بأن المراد لازمه وهو العقاب ، لأن من غضب من أحد عاقبه ، ودخل في الجهر بالسوء التعريض والسخرية به والغيبة والنميمة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) الآية. وقال تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) إلى غير ذلك ، وفي الحديث : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة يهوي بها في النار سبعين خريفا». قوله : (بأن يخبر عن ظلم ظالمه) أي لمن ينصفه بأن يقول : شتمني ، أو غصبني ، أو أخذ مالي ، أو ضربني مثلا. قوله : (ويدعو عليه) أي بدعاء جائز مثل : اللهم خلّص حقي منه ، أو جازه ، أو انتقم ممن ظلمني ، أو خذ لي بثأري منه ، ولا يجوز الدعاء على الظالم بسوء الخاتمة على المعتمد ، ولو بلغ في الظلم مهما بلغ ، ولا بخراب دياره أو هلاكه مثلا ، والصبر وعدم الدعاء أجمل ، وهو مقام عظيم ، ولذا أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي مثلا ، ومثله المستفتي والمستغيث والمحذر والمعرف والمتجاهر ، وقد جمعها بعضهم بقوله :

تظلم واستغث واستفت حذر

وعرف بدعة فسق المجاهر

وجمعت أيضا في قول بعضهم :

لقب ومستفت وفسق ظاهر

متظلّم ومعرف ومحذر

قوله : (لما يقال) أي من الظالم والمظلوم. وقوله : (بما يفعل) أي من الظالم والمظلوم. قوله : (من أعمال البر) أي كالصلاة والصدقة وفعل المعروف وحسن الظن.

قوله : (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) هذا هو محط الفائدة بدليل قوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) وهذا بيان للخلق الكامل ، فالعفو والمسامحة أجل وأعلى من الانتصار. قوله : (فَإِنَّ اللهَ) الخ ، دليل الجواب ، والجواب محذوف تقديره يعفو عنكم. قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا) الخ ، عطف سبب على مسبب ، أي فكفرهم بالتفرقة لا باعتقاد للشريك لله

٣٤٠