حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وكل قذر (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٥٧) دائما لا تنسخه شمس هو ظل الجنة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) أي ما اؤتمن عليه من الحقوق (إِلى أَهْلِها) نزلت لما أخذ علي رضي الله عنه مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة الحجبي سادنها قسرا لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عام الفتح ومنعه وقال لو علمت أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أمنعه فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برده إليه وقال هاك خالدة تالدة فعجب من ذلك فقرأ له علي الآية فأسلم وأعطاه عند موته لأخيه شيبة فبقي في ولده والآية وإن وردت على سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة

____________________________________

قوله : (وكل قذر) أي كالنفاس وغيره. قوله : (لا تنسخه شمس) أي لعدم وجودها. قال تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً).

قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) الخطاب للمكلفين لما سيأتي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان ليأمر ، والأصل يأمركم تأدية الأمانات ، أو منصوب بنزع الخافض ، لأن حذفه مع أن وإن مطرد ، ويقال في (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ما قيل فيه لأنه معطوف عليه ، وقوله : (إِذا حَكَمْتُمْ) ظرف له ، ولا يقال يلزم عليه تقديم معمول الصلة عليها ، لأنه يقال إنه ظريف ويغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. قوله : (من الحقوق) اعلم أن الأمانات ثلاثة أقسام ، الأول : عبادات الله بأن يفعل المأمورات ويجتنب المنهيات ، الثاني : نعمه التي أنعم بها كالسمع والبصر والعافية وغير ذلك فلا يصرفها فيما يغضب الله ، الثالث : حقوق العباد كالودائع وغيرها فيجب على الإنسان تأدية الأمانات مطلقا ، كانت قولية أو فعلية أو اعتقادية ، فالقولية كحفظ القرآن ، والفعلية كحفظ الودائع والعواري ، والاعتقادية كالتوحيد وحسن الظن بالخلق ، وبالجملة فهذه الآية من جوامع الكلم ، وهي بمعنى قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية على التحقيق. قوله : (نزلت لما أخذ علي مفتاح الكعبة الخ) قال البغوي قلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة والفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح ، فطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفتاح قيل له إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح ، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ المفتاح وفتح الباب ، ودخل رسول الله البيت وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح لتجتمع له السقاية والسدانة ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر له ، ففعل ذلك ، فقال عثمان أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق ، فقال علي لقد أنزل الله في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم ، فكان المفتاح معه إلى أن مات ، فدفعه إلى أخيه شيبة فهي في أولادهم إلى يوم القيامة. قوله : (الحجبي) أي الذي يحجب الناس بمعنى يمنعهم من الدخول. قوله : (سادنها) أي خادمها ، وقوله : (قسرا) أي قهرا. قوله : (لما قدم النبي) ظرف لأخذ وكان ذلك في رمضان ، وقوله : (عام الفتح) أي وهو سنة ثمان. قوله : (وقال لو علمت الخ) أي فهو غير مصدق برسالته ، وإلا فذاته إذ ذاك غير خافية على أحد. قوله : (خالدة تالدة) أي مخلدة في المستقبل كما كانت متأصلة فيكم. قوله : (فعمومها معتبرا الخ) أشار بذلك لما قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومحل ذلك إن لم توجد قرينة الخصوص فيكون معتبرا ، كالنهي عن قتل النساء ، فإن

٣٠١

الجمع (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) يأمركم (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا) فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصوفة أي نعم شيئا (يَعِظُكُمْ بِهِ) تأدية الأمانة والحكم بالعدل (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) لما يقال (بَصِيراً) (٥٨) بما يفعل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي) أصحاب (الْأَمْرِ) أي الولاة (مِنْكُمْ) أي إذا أمروكم بطاعة الله ورسوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) اختلفتم (فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) أي إلى كتابه (وَالرَّسُولِ) مدة حياته وبعده إلى سنته أي اكشفوا عليه منهما (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ) أي الرد إليهما (خَيْرٌ) لكم من التنازع والقول بالرأي (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩) مآلا ونزل لما اختصم يهودي ومنافق فدعا إلى كعب ابن الأشرف ليحكم بينهما ودعا اليهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتياه فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وأتيا

____________________________________

سببه أن رسول الله رأى امرأة حربية مقتولة ، فذلك يدل على اختصاصه بالحربيات ، فلا يدخل فيه المرتدة ولا الزانية. قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ) فيه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه وهو جائز إذا كان ظرفا. قوله : (نِعِمَّا) بكسر النون اتباعا لكسرة العين ، وأصله نعم على وزن علم. قوله : (أي نعم شيئا) أشار بذلك إلى أن ما مميز ، ويكون الفاعل مستترا وجوبا تقديره نعم هذا الشيء شيئا ، والمخصوص بالمدح محذوف قدره بقوله : (تأدية الأمانة) وقيل أن ما فاعل ، وقد ذكر القولين ابن مالك بقوله :

وما مميّز وقيل فاعل

في نحو نعم ما يقول الفاضل

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا خطاب لسائر الناس ، بعد أن خاطب ولاة الأمور بالحكم بالعدل ، وفي هذه الآية إشارة لأدلة الفقه الأربعة ، فقوله : (أَطِيعُوا اللهَ) إشارة للكتاب ، وقوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إشارة للسنة ، وقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) إشارة للإجماع ، وقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) الخ ، إشارة للقياس. قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) يدخل فيه الخلفاء الراشدون ، والأئمة المجتهدون ، والقضاة والحكام. قوله : (أي إذا أمروكم بطاعة الله ورسوله) أي لا بمعصية فلا يطاعوا في ذلك ، لما في الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». قوله : (فِي شَيْءٍ) أي غير منصوص عليه. قوله : (مدة حياته) أي بسؤاله ، وقوله : (إلى سنته) أي فيعرض عليها.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) أي فردوه. قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) اسم التفضيل ليس على بابه بقرينة (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) فمخالفة ما ذكر ليس فيها خير ، بل هي شر وضلال. قوله : (مآلا) أي عاقبة. قوله : (ونزل لما اختصم يهودي الخ) حاصلها تفصيلا ، قال ابن عباس : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر ، كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : تنطلق إلى محمد ، وقال المنافق : ننطلق إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الطاغوت ، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهودي ، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر ، فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد ، فقضى عليه ، فلم يرض بقضائه ، وزعم أنه يخاصمني إليك ، فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ فقال نعم ، فقال لهما عمر : رويدا حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج ، فضرب به المنافق حتى برد أي مات ، وقال هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء

٣٠٢

عمر فذكر له اليهودي ذلك فقال للمنافق أكذلك فقال نعم فقتله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ولا يوالوه (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٦٠) عن الحق (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الحكم (وَإِلَى الرَّسُولِ) ليحكم بينكم (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ) يعرضون (عَنْكَ) إلى غيرك (صُدُوداً) (٦١) (فَكَيْفَ) يصنعون (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي أي يقدرون على الإعراض والفرار منها لا (ثُمَّ جاؤُكَ) معطوف على يصدون (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ) ما (أَرَدْنا) بالمحاكمة إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) صلحا (وَتَوْفِيقاً) (٦٢) تأليفا بين الخصمين بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق وكذبهم في عذرهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) بالصفح (وَعِظْهُمْ) خوفهم الله (وَقُلْ لَهُمْ فِي) شأن (أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) مؤثرا فيهم أي ازجرهم ليرجعوا عن كفرهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) فيما

____________________________________

الله وقضاء رسوله ، فنزلت هذه الآية ، وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فسمي الفاروق ، وإنما دعا المنافق لكعب بن الأشرف لأنه يقبل الرشوة ، والنبي لا يقبلها بل يحكم بالحق ، وكان الحق إذ ذاك مع اليهودي.

قوله : (يَزْعُمُونَ) أي يقولون قولا كذبا ، لأن الزعم مطية الكذب. قوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي وهو جميع الكتب السماوية. قوله : (الكثير الطغيان) وقيل إنه صنم يعبد من دون الله ، وقيل اسم من يعبد من دون الله صنما أو غيره. قوله : (بَعِيداً) يحتمل أنه صفة كاشفة لأن الضلال هو البعد ويحتمل أنه صفة مخصصة ، ويكون معنى بعده أنه لا يهتدي بعد ذلك أصلا ، وهذا هو مراد الشيطان ، ويؤيده قول المفسر عن الحق. قوله : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ) رأى بصرية والمنافقين مفعول لها ، وجملة يصدون حال. قوله : (يعرضون) أشار بذلك إلى أن الصد هنا بمعنى الإعراض فهو لازم ، لا بمعنى المنع فيكون متعديا ، فقوله : (صُدُوداً) مفعول مطلق لقوله : (يَصُدُّونَ) قوله : (فَكَيْفَ) يصح أن تكون مفعولا لمحذوف تقديره (يصنعون) كما قدره المفسر ، ويصح أن تكون خبرا لمحذوف تقديره صنعهم.

قوله : (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أي عاجلة أو آجلة. قوله : (لا) هذا جواب الاستفهام. قوله : (ثُمَّ جاؤُكَ) أي أهل المنافق ، يعتذرون إليك ويسترون على أنفسهم النفاق ، ويحتمل أنهم جاؤوا مطالبين بدمه مثبتين إسلامه ، فلولا هذه الآية لربما اقتص من عمر ، لعدم البينة على كفر المنافق. قوله : (بالتقريب) أي التساهل في الحكم ، كأن يعمل صلحا ، ويقسم المدعى به بين الخصمين. قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي ولا تقتلهم ، وهذا قبل الأمر بإخراجهم وقتلهم ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا كان حالهم كذلك فأعرض عن قبول عذرهم. قوله : (فِي) (شأن) (أَنْفُسِهِمْ) أي في حقها وما انطوت عليه ، ويحتمل أن المعنى حاليا بهم ليس معهم غيرهم. قوله : (ليرجعوا) أي لعله أن يترتب

٣٠٣

يأمر به ويحكم (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره لا ليعصى ويخالف (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتحاكمهم إلى الطاغوت (جاؤُكَ) تائبين (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فيه التفات عن الخطاب تفخيما لشأنه (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً) عليهم (رَحِيماً) (٦٤) بهم (فَلا وَرَبِّكَ) لا زائدة (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ) اختلط (بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) ضيقا أو شكا (مِمَّا قَضَيْتَ) به (وَيُسَلِّمُوا) ينقادوا لحكمك (تَسْلِيماً) (٦٥) من غير معارضة (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ) مفسرة (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) كما كتبنا على بني إسرائيل (ما فَعَلُوهُ) أي المكتوب عليهم (إِلَّا قَلِيلٌ) بالرفع على البدل والنصب على الاستثناء (مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من طاعة الرسول (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦) تحقيقا لإيمانهم (وَإِذاً) أي لو

____________________________________

عن ذلك رجوعهم عما هم عليه. قوله : (بأمره) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالإذن الإرادة ، وإلا فيلزم عليه أن لا يتخلف عن طاعة أحد ، لأن ما أراده الله وقوعه واقع ، ولا بد مع أن الواقع خلافه ، فدفع ذلك المفسر بقوله : (بأمره) لأنه لا يلزم من الإرادة الأمر ولا عكس. قوله : (بتحاكمهم) الباء سببية.

قوله : (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) أي بالتوبة والإخلاص. قوله : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي سامحهم وعفا عنهم وطلب لهم المغفرة ، لأنه تعلق بهم حقان : حق الله وحق لرسوله. قوله : (فيه التفات) أي وحقه واستغفرت لهم. قوله : (لا زائدة) أي لتأكيد القسم ، وهو اختيار الزمخشري في الكشاف وهو الأحسن ، ولذا اقتصر عليه المفسر. قوله : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) الخ ، هذه شروط ثلاثة لكمال الإيمان ، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) الآيات. قوله : (اختلط) أي أشكل والتبس. قوله : (من غير معارضة) أي بأن ينقادوا للأحكام من غير توقف.

قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) بيان لسوء حالهم ، وأنهم لو شدد عليهم كما شدد على من قبلهم لم يفعل ذلك إلا ما قل منهم. قوله : (مفسرة) أي بمعنى أي ، وضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه نظير : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وانطلق الملأ منهم أن امشوا ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، وعليه فيكون (كَتَبْنا) بمعنى ألزمنا ، التقدير ولو أنا الزمناهم قتل أنفسهم. قوله : (أَنِ اقْتُلُوا) جمهور القراء على ضم النون والواو من أو اخرجوا ، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما ، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو ، وأما ضم النون وكسر الواو فلم يقرأ به أحد. قوله : (على البدل) أي وهو المختار عند النحاة ، قال ابن مالك : وبعد نفي أو كنفي انتخب. اتباع ما اتصل. وقوله : (والنصب على الاستثناء) أي فهما قراءتان سبعيتان على حد سواء وإن كان الرفع أرجح عند النحاة من النصب ، فالمنزه عنه القرآن كونه ليس على قواعد النحاة ، وأما كون بعض القراءات له وجه قوي في العربية دون بعض فلا مانع منه.

قوله : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) اسم التفضيل ليس على بابه إذ ما هم عليه ليس بخير. قوله : (أي لو

٣٠٤

ثبتوا (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) من عندنا (أَجْراً عَظِيماً) (٦٧) هو الجنة (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨) قال بعض الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نراك في الجنة وأنت في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فنزل (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) فيما أمرا به (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق (وَالشُّهَداءِ) القتلى في سبيل الله (وَالصَّالِحِينَ) غير من ذكر (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩) رفقاء في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم (ذلِكَ) أي كونهم مع من ذكر مبتدأ خبره (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠) بثواب الآخرة أي فثقوا بما أخبركم به ولا ينبئك مثل خبير (يا

____________________________________

ثبتوا) ليس تفسير إلا ذابل ، إشارة إلى أن (إِذاً) واقعة في جواب سؤال مقدر ، وقوله : (لَآتَيْناهُمْ) جواب الشرط ، وأصل الكلام فما جزاؤهم لو ثبتوا إذ لآتيناهم الخ ، فالحامل للمفسر على تقدير (لو ثبتوا) قوله بعد : (لَآتَيْناهُمْ) والحامل لنا على تقدير السؤال قوله : (إِذاً) وهي هنا ملناة عن عمل النصب لفقد شرطها. قوله : (صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي دينا قيما لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام ، فتحصل أنهم لو امتثلوا لأعطاهم الله خير الدنيا والآخرة. قوله : (وأنت في الدرجات العلى) أي التي ليس فوقها درجة ، وهذا السؤال كما توجه من الصحابة ، يتوجه أيضا من الأنبياء ، فإنه أعلى من جميع المخلوقات على الإطلاق حتى الأنبياء ، قال البوصيري :

كيف ترقى رقيّك الأنبياء

يا سماء ما طاولتها سماء

قوله : (فيما أمرا به) أي ونهيا عنه ، فالطاعة امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. قوله : (مِنَ النَّبِيِّينَ) الخ ، بيان للذين والمعنى أن من أطاع الله كان رفيقا لمن ذكر ، وليس ذلك بسفر ولا مشقة ، بل يكشف له عمن ذكر ويحادثه مع كون كل درجته لا يصعد هذا لهذا ، ولا ينزل هذا لهذا ، قال تعالى (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) فإذا تمنى الشخص مشاهدة النبي ومحادثته ، حصل ذلك من غير مشقة ولا انتقال. قوله : (أفاضل أصحاب الأنبياء) أي فالصديقية تحت مرتبة النبوة. قوله : (وَالصَّالِحِينَ) أي القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. قوله : (غير من ذكر) أتى به دفعا للتكرار ، لأن جميع من تقدم صالحون.

قوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) حسن كنعم تستعمل للمدح وفيها معنى التعجب ، وأولئك فاعل ، ورفيقا تمييز ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هؤلاء. قوله : (رفقاء) أشار بذلك إلى أن رفيقا فعيل يستوي فيه الواحد وغيره ، ويحتمل أنه أفرد نظرا لكل واحد مما ذكر. قوله : (والحضور معهم) أي مجالستهم حيثما أحب. قوله : (مبتدأ خبره) (الْفَضْلُ) ويحتمل أن (الْفَضْلُ) نعت لاسم الإشارة أو بدل ، قوله : (مِنَ اللهِ) خبره. قوله : (لا أنهم نالوه بطاعتهم) أي نالوا الرفق بسبب طاعتهم ، ففي الحقيقة دخول الجنة وارتقاء منازلها ومرافقة من ذكر بمحض فضل الله ، وإلا فأي طاعة يستحق بها الإنسان شيئا من ذلك. قوله : (أي فثقوا) أي اعتمدوا على ذلك الخبر ولا تشكوا. قوله : (ولا ينبئك مثل

٣٠٥

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من عدوكم أي احترزوا منه وتيقظوا له (فَانْفِرُوا) انهضوا إلى قتاله (ثُباتٍ) متفرقين سرية بعد أخرى (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) مجتمعين (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) ليتأخرن عن القتال كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وجعله منهم من حيث الظاهر واللام في الفعل للقسم (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) كقتل وهزيمة (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) (٧٢) حاضرا فأصاب (وَلَئِنْ) لام قسم (أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) كفتح وغنيمة (لَيَقُولَنَ) نادما (كَأَنْ) مخففة واسمها محذوف أي كأنه (لَمْ تَكُنْ) بالياء والتاء (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) معرفة وصداقة وهذا راجع إلى قوله قد أنعم الله على اعترض به بين القول ومقوله وهو (يا) للتنبيه (لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣) آخذ حظا وافرا من الغنيمة قال تعالى (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء دينه (الَّذِينَ يَشْرُونَ) يبيعون (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) يظفر بعدوه (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٧٤) ثوابا

____________________________________

خبير) أي لا يخبرك بأحوال الجنة وغيرها ، مثل خبير عالم ببواطن الأشياء كظواهرها الذي هو الله تعالى. قوله : (حِذْرَكُمْ) هو والحذر بفتحتين مصدران بمعنى التحفظ والتيقظ وهو مبالغة ، كأنه جعل حفظ النفس آلة تؤخذ ، وبعضهم فسّر الحذر بآلة الحرب ، وعليه فلا مبالغة في قوله : (خُذُوا).

قوله : (فَانْفِرُوا) فعله نفر ينفر من باب ضرب وقعد ، مصدره النفر والنفور والنفير. قوله : (ثُباتٍ) جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة إلى المائة ، والسرية الجماعة أقلها مائة وغايتها أربعمائة ، والمنسر من أربعمائة إلى ثمانمائة ، والجيش من ثمانمائة إلى أربعة آلاف ، والجحفل ما زاد على ذلك. قوله : (سرية بعد أخرى) أي جماعات بعد جماعات ، سرية أو غيرها. قوله : (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) هذا التخيير لولاة الأمور بحسب اجتهادهم. قوله : (لَمَنْ) اللام لام ابتداء دخلت على اسم إن لوقوع الخبر فاصلا. وقوله : (ليتأخرن) أشار بذلك إلى أن بطأ لازم بمعنى قام به البطء وهو التأخر ، ويصح أن يكون متعديا ، والمفعول محذوف أي غيره ، فالمعنى يكسلن غيره عن القتال. قوله : (من حيث الظاهر) أي وإلا ففي نفس الأمر ليس منهم بل هو عدو لهم. قوله : (وهزيمة) أي لبعض الجيش ، وإلا فمن قال إن رسول الله هزم ، فقد كفر ، وما وقع في أحد وهوازن كان لأطراف الجيش من حيث الغنيمة. قوله : (فأصاب) هو بالنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية بعد الأمر.

قوله : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) هذه الآية معنى قوله تعالى (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى التاء الأمر ظاهر ، وعلى الياء فالمودة بمعنى الود. قوله : (وهذا راجع) أي قوله كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ، والمعنى حاله في الفرح بمصيبة المسلمين ، كحال من لم يكن بينكم وبينه مودة. قوله : (للتنبيه) أي لدخولها على الحرف ، ويحتمل أنها للنداء ، والمنادى محذوف أي يا هؤلاء. قوله : (فَأَفُوزَ) منصوب بأن مضمرة في جواب النهي بعد فاء السببية. قوله : (فَلْيُقاتِلْ) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا ترك المنافقون القتال وتأخروا عنه فليقاتل الخ. قول : (يبيعون) دفع بذلك ما يقال إن القاعدة دخول الباء في الشراء على المتروك ، ولا يصح ذلك هنا لأنه يصير ذما ، فأجاب بأن الشراء بمعنى

٣٠٦

جزيلا (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) استفهام توبيخ أي لا مانع لكم من القتال (فِي سَبِيلِ اللهِ وَ) في تخليص (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أنا وأمي منهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ) داعين يا (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) مكة (الظَّالِمِ أَهْلُها) بالكفر (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (وَلِيًّا) يتولى أمورنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥) يمنعنا منهم وقد استجاب الله دعاءهم فيسر لبعضهم الخروج وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة وولى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاب بن أسيد فأنصف مظلومهم من ظالمهم (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الشيطان (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أنصار دينه تغلبوهم لقوتكم بالله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) بالمؤمنين (كانَ ضَعِيفاً) (٧٦) واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) عن قتال

____________________________________

البيع نظير (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ). قوله : (وَمَنْ يُقاتِلْ) الخ ، من اسم شرط مبتدأ ، ويقاتل فعل الشرط ، وقوله : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) معطوف على (يُقاتِلْ) عطف مسبب على سبب ، وقوله : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) جواب الشرط وجملة الشرط وجوابه خبر المبتدأ.

قوله : (وَما لَكُمْ) الخ ، ما اسم استفهام مبتدأ ، ولكم جار ومجرور خبره ، وجملة (لا تُقاتِلُونَ) في محل نصب على الحال ، والمعنى أي شيء ثبت لكم حال كونكم غير مقاتلين ، وهذا أحسن الأعاريب. قوله : (وَ) (في تخليص) (الْمُسْتَضْعَفِينَ) أشار بذلك إلى أن قوله (الْمُسْتَضْعَفِينَ) معطوف على سبيل الله ، لكن على حذف مضاف. وسبب نزولها أنه كان قبل الهجرة لم يشرع الجهاد ، فلما هاجر عليه الصلاة والسّلام أمر بالجهاد ، فتكاسل بعض ضعفاء المؤمنين وجميع المنافقين ، فنزلت الآية توبيخا لهم على ترك القتال ، لإعلاء كلمة الله وتخليص المستضعفين. قوله : (وَالْوِلْدانِ) قيل جمع وليد بمعنى ولد ، وقيل جمع ولد أي الصغار. قوله : (الذين حبسهم الكفار) أي بمكة. قوله : (كنت أنا وأمي) أي وأخي الفضل. قوله : (الَّذِينَ) صفة للمستضعفين و (يَقُولُونَ) صلة الذين. قوله : (الظَّالِمِ) نعت القرية و (أَهْلُها) فاعل الظالم وذكر النعت وإن كان المنعوت مؤنثا لأنه نعت سببي رفع اسما ظاهرا ، فذكر نظرا لذلك الاسم الظاهر. قوله : (إلى أن فتحت مكة) أي في السنة الثامنة من الهجرة. قوله : (عتاب بن أسيد) أي وكان عمره ثمانية عشر سنة ، فكان ينصر المظلومين من الظالمين ، ويأخذ للضعيف من القوي ، الدعاء بهذه الآية مستجاب لمن وقع في بلدة كثر ظلم أهلها.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، المقصود من ذلك تحريض المؤمنين على القتال وترغيبهم فيه. قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في مرضاته لإعلاء دينه. وقوله : (فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي في مرضاته. قوله : (تغلبوهم) مجزوم في جواب الأمر. وقوله : (لقوتكم) علة له. قوله : (كانَ ضَعِيفاً) أي بالنسبة إلى كيد الله تعالى ، وأما عظم كيد النساء في آية يوسف ، فبالنسبة إلى الرجال فضعف كيد الشيطان لمقابلته بكيد الله ، وعظم كيد النساء لمقابلته بكيد الرجال ، وإلا فأصل كيد النساء التقدير من الشيطان ، وفي الحديث : «النساء حبائل الشيطان». قوله : (واهيا) أي لا ضرر فيه أصلا ، ولذا خذل الشيطان أولياءه لما رأى الملائكة نزلت يوم بدر ، وكان النصر لأولياء الله وحزبه.

٣٠٧

الكفار لما طلبوه بمكة لأذى الكفار لهم وهم جماعة من الصحابة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ) فرض (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ) يخافون (النَّاسَ) الكفار أي عذابهم بالقتل (كَخَشْيَةِ) هم عذاب (اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) من خشيتهم له ونصب أشد على الحال وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي فاجأتهم الخشية (وَقالُوا) جزعا من الموت (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا) هلا (أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ) لهم (مَتاعُ الدُّنْيا) ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها (قَلِيلٌ) آيل إلى الفناء (وَالْآخِرَةُ) أي الجنة (خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) عقاب الله بترك معصيته (وَلا تُظْلَمُونَ) بالتاء والياء تنقصون من أعمالكم (فَتِيلاً) (٧٧) قدر قشرة النواة فجاهدوا

____________________________________

قوله : (أَلَمْ تَرَ) الاستفهام تعجبي ، أي تعجب يا محمد من قومك كيف يكرهون القتال مع كونهم قبل ذلك كانوا طالبين له وراغبين فيه. قوله : (وهم جماعة من الصحابة) منهم عبد الرحمن بن عوف ، والمقداد بن الأسود ، وسعد بن أبي وقاص ، وقدامة بن مظعون ، وجماعة كانوا بمكة يتحملون أذى الكفار كثيرا ، والله يأمرهم بالتحمل والكف عن القتال في نيف وسبعين آية ، فكانوا يقولون لو لا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ، فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بالقتال كرهوا ذلك فنزلت الآية ، وقوله : (بمكة) متعلق ب (طلبوه) وليس ذلك نفاقا منهم ، وإنما كراهتهم ذلك ، إما لغلبة الرأفة عليهم أو لمحبتهم المعيشة في طاعة الله ، وإلا لذمهم الله على ذلك ، ولما نزلت الآية ، أقلعوا عما خطر ببالهم ، وشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد ، وجاهدوا في الله حق جهاده.

قوله : (إِذا فَرِيقٌ) قيل إذ ظرف مكان وقيل ظرف زمان وقيل حرف والأولى الأول ، وعليه فإذا خبر مقدم ، وفريق مبتدأ مؤخر ، ومنهم صفة لفريق ، وكذلك جملة (يَخْشَوْنَ) ويصح أن تكون حالا لوجود المسوغ ، والتقدير ففي الحضرة فريق كائن منهم خاشون أو خاشين. وقوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ) مفعول مطلق أي خشية كخشية الله. قوله : (أي عذابهم بالقتل) ويحتمل أن المراد بخشيتهم احترامهم القرابة. قوله : (ونصب أشد على الحال) أي من خشية الثاني ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها. قوله : (دل عليه إذا الخ) المناسب أن يقول وجواب لما إذا وما بعدها. قوله : (أي فاجأتهم الخشية) الأوضح أن يقول فاجأ كتب القتال عليهم الخشية ، لأن الخشية فاجأت كتب القتال لا ذواتهم. قوله : (جزعا من الموت) يحتمل أنهم قالوا ذلك لاعتقادهم أن القاتل يقطع المقتول أجله ، فأعلمهم الله تعالى أن الأجل محتم ، لا يزيد بالبعد عن القتال ولا ينقص به ، وليس ذلك نقصا فيهم. قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) وقال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) ويحتمل أنهم قالوا ذلك بحسب الطبيعة البشرية ، وليس عندهم اعتقاد ذلك. قوله : (قُلْ) (لهم) أي ليزدادوا رغبة في دار البقاء ، وزهدا في دار الفناء.

قوله : (خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي لأنه لا كدر فيها ولا نصب ، ولذلك حين دخولها يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن. قوله : (بترك معصيته) أي كالشرك وغيره ، ومعلوم أن كل من زادت تقواه ، كان نعيمه في الآخرة أكبر. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى التاء يكون خطابا لهم ، وعلى الياء يكون تحديثا عنهم ، والمعنى بلغهم يا محمد أنهم لا يظلمون فتيلا. قوله : (قدر قشرة النواة) تقدم أنه

٣٠٨

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) حصون (مُشَيَّدَةٍ) مرتفعة فلا تخشوا القتال خوف الموت (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي اليهود (حَسَنَةٌ) خصب وسعة (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) جدب وبلاء كما حصل لهم عند قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يا محمد أي بشؤمك (قُلْ) لهم (كُلٌ) من الحسنة والسيئة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) من قبله (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) أي لا يقاربون أن يفهموا (حَدِيثاً) (٧٨) يلقى إليهم وما استفهام تعجيب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشد من نفيه (ما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ حَسَنَةٍ) خير (فَمِنَ اللهِ) أتتك فضلا منه (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) بلية (فَمِنْ نَفْسِكَ) أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب (وَأَرْسَلْناكَ) يا محمد (لِلنَّاسِ رَسُولاً) حال مؤكدة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩) على رسالتك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى) أعرض عن

____________________________________

غير مناسب ، والمناسب تفسيره بالخيط الذي يكون في باطن نواة.

قوله : (أَيْنَما تَكُونُوا) هذا تسلية لهم أيضا وأين اسم شرط جازم ، وما صلة ، وتكونوا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو اسمها و (يُدْرِكْكُمُ) جواب الشرط ، و (الْمَوْتُ) فاعله ، والمعنى أن الموت يدرككم أينما تكونوا في أي زمان أو مكان متى حضر الأجل. قوله : (فِي بُرُوجٍ) جمع برج وهو القلعة والحصن. قوله : (مرتفعة) أي عالية البناء ، أو المعنى مطلية بالشيد أي الجص قوله : (أي اليهود) أي والمنافقين. قوله : (عند قدوم النبي المدينة) أي حيث دعاهم إلى الإيمان فكفروا فحصل لهم الجدب ، فقالوا هذا شؤمه ، والشؤم ضد اليمن والبركة. قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي خلقا وإيجادا.

قوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) الخ ، أي أي شيء ثبت لهؤلاء لا يقربون من فهم الحديث والموعظة. قوله : (وما استفهام تعجيب) أي وتوبيخ. قوله : (أيها الإنسان) أي فهو خطاب عام لكل أحد وقيل الخطاب للنبي والمراد به غيره. قوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي من شؤمك وسوء كسبك فنسبة ذلك إلى النفس مجاز ، باعتبار سوء الكسب والشؤم من إسناد الشيء لسببه ، وبهذا اندفع التنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فنسبة الأشياء جميعها إلى الله من حيث الإيجاد ، ونسبة الشر إلى العبد ، فباعتبار أن سوء كسبه سبب ذلك ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، ولا الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر» وأما حديث «أشدكم بلاء الأنبياء الخ» فمعناه أن الله امتحنهم بالبلايا ، وألقى عليهم الصبر والمحبة ، فشاهدوا إعطاء الله في تلك البلايا ، فصارت البلايا عطايا ، فتحصل أن البلاء إما أن يكون من شؤم الذنب ، وذلك للعصاة الذين لم يتلقوه بالرضا والتسليم ، وإما أن يكون اختبارا أو امتحانا ، وذلك للأنبياء والصالحين ليرقيهم به أعلى الدرجات ، ولذلك قال العارف الجيلي :

تلذّ لي الآلام مذ أنت مسقمي

وإن تمتحنّي فهي عندي صنائع

قوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) والمعنى حيث ثبتت رسالته بشهادة الله ، اتضح من ذلك أن من

٣٠٩

طاعته فلا يهمنك (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠) حافظا لأعمالهم بل نذيرا وإلينا أمرهم فنجازيهم وهذا قبل الأمر بالقتال (وَيَقُولُونَ) أي المنافقين إذا جاؤوك أمرنا (طاعَةٌ) لك (فَإِذا بَرَزُوا) خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) بإدغام التاء في الطائفة وتركه أي أضمرت (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) لك في حضورك من الطاعة إلى عصيانك (وَاللهُ يَكْتُبُ) يأمر بكتب (ما يُبَيِّتُونَ) في صحائفهم ليجازوا عليه (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) بالصفح (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به فإنه كافيك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١) مفوضا إليه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) يتأملون (الْقُرْآنَ) وما فيه من المعاني البديعة (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) تناقضا في معانيه وتباينا في نظمه (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ) عن سرايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حصل لهم (مِنَ الْأَمْنِ) بالنصر (أَوِ الْخَوْفِ)

____________________________________

أطاعه أطاع الله. قوله : (فلا يهمنك) بضم الياء من أهم ، أو بفتحها من هم ، ومعناه لا يحزنك إعراضهم وقدره المفسر إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف ، وقوله : (فَما أَرْسَلْناكَ) الخ علة للجواب المحذوف. قوله : (بل نذيرا) اقتصر عليه لأنه في سياق من أعرض ، ولا يناسبه إلا الإنذار ، وإلا فرسول الله بعث بشيرا ونذيرا. قوله : (أمرنا) (طاعَةٌ) أشار بذلك إلى أن طاعة خبر مبتدأ محذوف واجب الحذف ، لأن الخبر مصدر بدل من لفظ الفعل ، فهو نائب عن أطعنا ، ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي منا طاعة. قوله : (بإدغام التاء في الطائفة) أي بعد قلبها طاء. وقوله : (وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي أضمرت) المعنى أظهرت ما أضمرته! وإلا فالإضمار كان واقعا منهم قبل الخروج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (من الطاعة) بيان الذي تقول. قوله (إلى عصيانك) تفسير لقوله : (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ). قوله : (ليجازوا عليه) أي في العاجل والآجل.

قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تقتلهم ولا تفضحهم ، وهذا قبل الأمر بقتلهم وإخراجهم. قوله : (ثق به) أي اعتمد عليه. قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) الهمزة داخلة على محذوف تقديره أيعرضون عنك فلا يتدبرون ، وهو استقباح لحالهم وتشنيع عليهم ، والتدبر في الأصل النظر في عواقب الأمور ، لتقع على الوجه الأكمل ، والمراد هنا مطلق التأمل والتفكر. قوله : (تناقضا في معانيه) أي بأن يكون بعض إخباره غير مطابق لبعض. وقوله : (وتباينا في نظمه) أي بأن يكون بعضه فصيحا بليغا ، وبعضه ليس كذلك ، فلما كان جميعه على منوال واحد ، ليس بعضه مناقضا لبعض ، بل إخباره كلها متوافقة ، وهو فصيح بليغ ليس فيه ما ينافي ذلك ثبت أنه عند الله لأن هذا الأمر لا يقدر عليه غيره ، ولو ثبت فرضا أنه من عند غير الله ، لوجدوا فيه اختلافا في المعنى أو اللفظ. إن قلت إن قوله كثيرا ربما يوهم أن فيه اختلافا قليلا ، أجيب : أن بالتقييد بالكثرة للمبالغة ، والمعنى أن القرآن ليس فيه اختلاف أصلا ، فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل فهو من عند الله ، فلم يكن فيه اختلاف أصلا لا كثير ولا قليل.

قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ) الخ ، سبب نزولها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث البعوث والسرايا ، فإذا غلبوا الكفار أو غلبوهم بادر المنافقون للاستخبار عن حالهم ، ثم يتحدثون بذلك ويشيعونه قبل أن يسمعوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كبار أصحابه ، وقصدهم بذلك افتتان ضعفاء المؤمنين.

٣١٠

بالهزيمة (أَذاعُوا بِهِ) أفشوه نزل في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك فتضعف قلوب المؤمنين ويتأذى النبي (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي الخبر (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أي ذوي الرأي من أكابر الصحابة أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به (لَعَلِمَهُ) هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) يتتبعونه ويطلبون علمه وهم المذيعون (مِنْهُمْ) من الرسول وأولي الأمر (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام (وَرَحْمَتُهُ) لكم بالقرآن (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) فيما يأمركم به من الفواحش (إِلَّا قَلِيلاً) (٨٣) (فَقُتِلَ) يا محمد (فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فلا

____________________________________

قوله : (مِنَ الْأَمْنِ) الخ ، بيان الأمر. قوله : (من المنافقين) أي وقصدهم بذلك فتنة الضعفاء وقوله : (أو ضعفاء المؤمنين) أي جهلا منهم بذلك وهما قولان والراجح الأول. قوله : (فتضعف قلوب المؤمنين) هذا ظاهر بالنسبة للهزيمة ، وأما إشاعة النصر فالضعف فيه من حيث إن هذا الخبر بما وصل الكفار فيتجهزون ويعيدون الحرب ثانيا ، ففيه فتنة للضعفاء على كل حال. قوله : (من أكابر الصحابة) أي كأبي بكر وعمر ونظائرهما. قوله : (حتى يخبروا به) بالبناء للمفعول ، أي حتى يخبرهم النبي به. قوله : (هل هو مما ينبغي الخ) أي لعلموا صفته وكيفيته ، وإلا فهم عالمون به قبل ذلك. قوله : (وهم المذيعون) أي المنافقون أو ضعفاء المؤمنين ، وهو تفسير للذين يستنبطونه ، وهو إظهار في محل الإضمار أي لعلموه. وقوله : (مِنْهُمْ) من ابتدائية ، والجار والمجرور متعلق بيستنبطون ، والمعنى يتلقونه من جهة الرسول أو كبار الصحابة. قوله : (بالإسلام) أي بسبب إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) اعلم أن في هذا استثناء ستة أوجه : أحدها أنه مستثنى من فاعل اتبعتم ، والمعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم فإنه لم يتبعه ، كقس بن ساعدة وعمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ممن كان على دين عيسى قبل بعثة محمد ، والمراد بالفضل والرحمة المنتفيين على هذا بعثة محمد والقرآن ثانيهما أنه مستثنى من فاعل أتبعتم أيضا ، لكنه واقع على من لم يبلغ التكليف ، ويكون الاستثناء منقطعا. ثالثها أنه مستثنى من فاعل أذاعوا ، والمعنى أظهر وأخبر الأمن أو الخوف إلا قليلا فلم يظهروا. رابعها أنه مستثنى من فاعل علمه ، أي علمه الذين يستنبطونه إلا قليلا فلم يعلموا. خامسها أنه مستثنى من فاعل وجدوا أي إلا قليلا ، فلم يجدوا فيه اختلافا كثيرا لبلادتهم وعدم معرفتهم. سادسها أن قوله لاتبعتم خطاب لجميع الناس عموما ، والمراد بالقليل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحسن هذه الأوجه أولها ، وهو المأخوذ من سياق المفسر ، وأبعدها الأخير تأمل.

قوله : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا تكاسلوا عن القتال فقاتل الخ ، فإنك منصور على كل حال ، ولو اجتمعت عليك أهل الأرض جميعا. قوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) هذه الجملة حال من فاعل قاتل ، والمعنى قاتل في سبيل الله ولا تنظر لكسلهم حال كونك غير مكلف إلا نفسك ، فلا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم عن القتال ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شدة الحرب لا يتغير وجهه أبدا ، بل كان يتبسم إذ ذاك ولا يكترث بملاقاة الأعداء ، قال البوصيري :

مسفر يلتقي الكتيبة بسا

ما إذا أسهم الوجوه اللّقاء

٣١١

تهتم بتخلفهم عنك المعنى قاتل ولو وحدك فإنك موعود بالنصر (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) حثهم على القتال ورغبهم فيه (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ) حرب (الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) منهم (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٨٤) تعذيبا منهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج بسبعين راكبا إلى بدر الصغرى فكف الله بأس الكفار بإلقاء الرعب في قلوبهم ومنع أبي سفيان عن الخروج كما تقدم في آل عمران (مَنْ يَشْفَعْ) بين الناس (شَفاعَةً حَسَنَةً) موافقة للشرع (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ) من الأجر (مِنْها) بسببها (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) مخالفة له (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ) نصيب من الوزر

____________________________________

قوله : (المعنى قاتل ولو وحدك) أي فكان من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا هم بالحرب لا يرجع حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. قوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بالآيات الواردة في فضل الجهاد ، فإن تخلفوا بعد ذلك فلا يضرونك ، وإنما وبالهم على أنفسهم. قول : (عَسَى اللهُ) الخ ، هذا وعد من الله بكفهم ، وهو وإن ورد بصيغة الترجي ، فهو في المعنى محقق لتعلق قدرته وإرادته بذلك ، ويستحيل تخلف ما تعلقا به ، لأنه يصير عاجزا ، فلا فرق في تحقق وعد الله بين أن يرد بصيغة الترجي أو غيره. قوله : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي قوة وسطوة. قوله : (تَنْكِيلاً) من النكل ، وهو في الأصل القيد ثم أطلق على العذاب. قوله : (والذي نفسي بيده) إنما أقسم بذلك لأنه دائما في حضرة ربه. وقوله : (بيده) أي قدرته ، وكان عليه الصلاة والسّلام كثيرا ما يحلف بذلك. قوله : (فخرج بسبعين راكبا) أي في السنة الرابعة لأن أحدا كانت في الثالثة ، فلما انصرف منها أبو سفيان نادى بأعلى صوته يا محمد موعدك العام القابل في بدر ، فقال عليه الصلاة والسّلام : إن شاء الله تعالى ، فلما جاء العام القابل طلب المؤمنين للخروج ، فتقاعد المنافقون وتبعهم بعض ضعفاء المؤمنين بسبب تثبيط نعيم بن مسعود الأشجعي لهم ، قال تعالى حكاية عنه : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآيات وقوله : (بسبعين راكبا) تبع في ذلك بعض السير وهو ضعيف ، والراجح أنه خرج معه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس ، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة ، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان ، فألقى الله في قلوب الأعداء الرعب ، ولم ينتقلوا من محل يسمى الآن بوادي فاطمة فاجتمعت قبائل العرب من كل جهة لإقامة السوق في بدر ، فصارت الصحابة يتجرون إلى أن ربحوا ربحا عظيما ، فمكثوا في بدر ثمانية أيام ، فلم تأت الكفار ولم يحصل بينهم حرب أصلا ، قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) وتقدم بسط القصة في آل عمران. قوله : (ومنع أبي سفيان) معطوف على الفاء فهو مصدر.

قوله : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) هذه الجملة أفادت أن تحريض النبي للمؤمنين على القتال شفاعة حسنة ، فله حظ وافر في نظير ذلك ، والشفاعة هي سؤال الخير للغير ، ويندرج في ذلك الدعاء للمسلم بظهر الغيب ، فقد ورد «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» وفي الحديث أيضا «أدعوني بألسنة ما عصيتموني بها» قال العلماء هو الدعاء للغير. قوله : (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) إنما أطلق عليها شفاعة مشاكلة ، لأن حقيقة الشفاعة لا تكون إلا في الخير ، قال بعضهم هي النميمة ، وهي نقل الكلام لإيقاع العداوة بين الناس ، وقيل هي السعي بالفساد مطلقا. قوله : (نصيب)

٣١٢

(مِنْها) بسببها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٨٥) مقتدرا فيجازي كل أحد بما عمله (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) كأن قيل لكم سلام عليكم (فَحَيُّوا) المحيي (بِأَحْسَنَ مِنْها) بأن تقولوا له عليك

____________________________________

أشار بذلك إلى أن الكفل مرادف للنصيب وإنما غاير تفننا. قوله : (مُقِيتاً) هو في الأصل معناه الموصل لكل أحد قوته ، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا من المقتدر أطلق وأريد منه المقتدر بمعنى القادر الذي لا يعجزه شيء. قوله : (بما عمله) أي من خير أو شر.

قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) هذا من جملة أفراد الشفاعة الحسنة ، وفيه تعليم محاسن الأخلاق ، وهو أنه ينبغي للإنسان أن يجازي على المعروف بأحسن منه أو بمثله ، والتحية في الأصل الدعاء بطول الحياة ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا يقول له حياك الله ، ثم استعملت في الإسلام وإنما اختير لفظ السّلام على لفظها الأصلي لأنه أتم وأنفع ، لأن السّلام معناه السلامة من الآفات الدنيوية والأخروية ، ورحمة الله إنعامه وإحسانه وبركاته حفظه من الزوال ، وأما طول الحياة فلا يلزم منه السلامة ، من الآفات ، بل قد يكون طول الحياة مذموما كما إذا كان في المعاصي ، فكان السّلام بهذا المعنى أتم وأكمل ، وأصل تحية تحيية كتزكية ، نقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ثم أدغمت فيما بعدها. قوله : (كأن قيل لكم سلام عليكم) أي بهذا اللفظ وما شابهه ، كالسلام عليكم ، أو سلامي عليكم ، أو سلام الله عليكم والأولى أن يأتي بميم الجمع ، ولو كان المسلم عليه واحدا أو مثنى أو جمع نسوة نظرا للملائكة المصاحبين للمسلم عليه ، فإذا سلم بغير هذا اللفظ كأمان الله عليكم أو غير ذلك ، فلا يجب عليه الرد ، ومن المطلوب المصافحة ، لما ورد أنها تذهب الغل من القلوب ، وأما تقبيل اليد فهو مكروه إلا لمن ترجى بركته كشيخ أو والد ، وأما المعانقة فمكروهة إلا لشوق ، كقدوم من سفر ونحوه. واعلم أن ابتداء السّلام سنة ، ورده فرض كفاية ، ولكن الابتداء أفضل من الرد ، لما ورد «أن للبادىء تسعين حسنة ، وللراد عشرة» ومثله الوضوء قبل الوقت فإنه مندوب ، لكنه أفضل من الوضوء بعده الواجب ، وإبراء المعسر مندوب ، وهو أفضل من أنظاره الواجب. وجمع ذلك بعضهم في قوله :

الفرض أفضل من تطوّع عابد

حتّى ولو قد جاء منه بأكثر

إلّا التّطهّر قبل وقت وابتداء

للسّلام كذاك إبرا المعسر

وقد تقدم في آخر البقرة. قوله : (فَحَيُّوا) أصله حييوا ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة فالتقى ساكنان الياء والواو ، فحذفت الياء وضم ما قبل الواو. قوله : (بأن تقولوا عليك السّلام ورحمة الله وبركاته) أي فإذا اقتصر البادىء على السّلام وزاد الراد الرحمة والبركة ، روي أن رجلا ، قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السّلام عليك ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وقال آخر : السّلام عليك ورحمة الله ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. وقال آخر : السّلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ، فقال الرجل : نقصتني الفضل على سلامي ، فأين ما قال الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله ، ولا يزاد على البركة شيء لا من البادي ولا من الراد ، لما ورد أن رجلا سلم على ابن عباس فقال له السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا ، فقال ابن عباس إن السّلام انتهى إلى البركة.

٣١٣

السّلام ورحمة الله وبركاته (أَوْ رُدُّوها) بأن تقولوا له كما قال أي الواجب أحدهما والأول أفضل (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦) محاسبا فيجازي عليه ومنه رد السّلام وخصت السنة الكافر والمبتدع والفاسق والمسلم على قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل فلا يجب الرد عليهم بل يكره في غير الأخير ويقال للكافر وعليك (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) من قبوركم (إِلى) في (يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ) شك (فِيهِ وَمَنْ) أي لا أحد (أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧) قولا ولما رجع ناس من أحد اختلف الناس فيهم فقال فريق اقتلهم وقال فريق لا فنزل (فَما لَكُمْ) أي ما شأنكم صرتم (فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) فرقتين (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ردهم (بِما كَسَبُوا)

____________________________________

قوله : (أَوْ رُدُّوها) أي ردوا مثلها على حد واسأل القرية لأن رد عينها محال. قوله : (والمبتدع) أي صاحب البدعة التي تخالف الشرع. قوله : (والفاسق) أي بالجارحة المتجاهر. قوله : (على قاضي الحاجة) أي ومن في حكمه كمن في محل مستقذر ، أو في حال الاستنجاء. قوله : (ومن في الحمام) أي في محل الحرارة لا خارجه في محل نزع الثياب. قوله : (والآكل) أي بالفعل بأن كان فمه مشغولا بالمضغ لا وقت خلوه منه فيجب الرد. قوله : (بل يكره في غير الأخير) أي الآكل بالفعل. قوله : (ويقال للكافر وعليك) أي لأنه يقول في سلامه السام عليك ، والسام الموت ، فيرد عليه بقوله وعليك ، ومحل ذلك ما لم يتحقق منه النطق بالسلام بلفظه وإلا فيرد.

قوله : (اللهُ) مبتدأ ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر أول ، و (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) خبر ثان ، ورد بالخبر الأول على منكري التوحيد ، وبالثاني على منكري البعث. قوله : (والله) أشار بذلك إلى أن اللام في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) موطئة لقسم محذوف. قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي يحشركم بعد تفرقكم ، قال تعالى : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ). قوله : (إِلى) (في) أشار بذلك إلى أن (إِلى) مضمنة معنى (في) ويصح بقاؤها على أصلها ، ويضمن الفعل معنى يحشر ، وهو الأقرب ، لأن التجوز في الفعل أكثر من التجوز في الحرف. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا تردد ولا تحير في ذلك اليوم. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (حَدِيثاً) تمييز. قوله : (ولما رجع ناس) هذا إشارة لسبب نزول الآية ، والمراد بالناس عبد الله بن أبي وأصحابه الثلثمائة وكانوا منافقين. قوله : (اختلف الناس) أي الصحابة ، وقوله : (اقتلهم) أي للأمارة الدالة على كفرهم ، وقوله : (وقال فريق لا) أي لنطقهم بالشهادتين ، واللوم في الحقيقة راجع على الفريق الثاني القائل لا تقتلهم.

قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) ما مبتدأ ولكم جار ومجرور خبر ، وفي المنافقين متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف حال من فئتين ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، أو متعلق بفئتين لتأوله بمشتق أي مفترقين ، وقوله : (فِئَتَيْنِ) خبر لصار المحذوفة كما قدره المفسر. قوله : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) الركس في الأصل النكس ، وهو قلب الشيء على رأسه ، فمعناه على هذا ردهم من حالة العلو وهو عز الإسلام ، إلى السفل وهو ذل الكفر بالسبي والقتل. قوله : (ردهم) أي عن القتال ومنعهم منه ، ولم يجر على أيديهم خير بسبب كسبهم ، لما في الحديث «إن العبد ليحرم الخير بالذنب يصيبه» وفي نسخة بددهم أي فرق شملهم

٣١٤

من الكفر والمعاصي (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَ) ه (اللهُ) أي تعدوهم من جملة المهتدين والاستفهام في الموضعين للإنكار (وَمَنْ يُضْلِلِ) ه (اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨) طريقا إلى الهدى (وَدُّوا) تمنوا (لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ) أنتم وهم (سَواءً) في الكفر (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) توالونهم وإن أظهروا الإيمان (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأقاموا على ما هم عليه (فَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) توالونه (وَلا نَصِيراً) (٨٩) تنصرون به على عدوكم (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) يلجؤون (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد بالأمان لهم ولمن وصل اليهم كما عاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلال بن عويمر الأسلمي (أَوْ) الذين (جاؤُكُمْ) وقد (حَصِرَتْ) ضاقت (صُدُورُهُمْ) عن (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مع قومهم (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) معكم أي ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا

____________________________________

وجمعهم. قوله : (من الكفر الخ) بيان لما كسبوا ، وقوله : (والمعاصي) عطف عام على خاص. قوله : (للإنكار) أي مع التوبيخ ، والمعنى لا تفترقوا في قتلهم ، أو لا تجعلوهم من المهتدين ، ولا تعدوهم منهم ، وهذا إشارة لليأس من هداهم ، فلم يهتدوا بعد ذلك أبدا. قوله : (كَما كَفَرُوا) نعت لمحذوف ، والتقدير ودوا لو تكفرون كفرا مثل كفرهم. قوله : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) مفرع على قوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) والجمع باعتبار الأفراد.

قوله : (حَتَّى يُهاجِرُوا) غاية في عدم اتخاذ الأولياء منهم ، والمعنى امتنعوا من اتخاذ الأولياء منهم إلى أن تقع منهم الهجرة ، بمعنى الجهاد في سبيل الله مخلصين له الدين. واعلم أن الهجرة ثلاثة أقسام : هجرة للمؤمنين في أول الإسلام وهي قوله تعالى للفقراء المهاجرين ، وهجرة المنافقين وهي خروجهم للقتال مع رسول الله صابرين محتسبين لا لأغراض الدنيا وهي المرادة هنا ، وهجرة عن جميع المعاصي وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسّلام : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ، قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن عما أمرتهم به ، وقوله : (وأقاموا على ما هم عليه) دفع به ما يتوهم من قوله : (تَوَلَّوْا) أنه كان حصل منهم إقبال ثم أعرضوا ، فأجاب بأن المراد أقاموا وداموا على ما هم. قوله : (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي في حل أو في حرم لأنهم من جملة الكفار ، فيفعل بهم ما فعل بسائر الكفار.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) هذا استثناء من الأخذ والقتل فقط ، ولا يرجع للموالاة فإنها لا تجوز مطلقا. قوله : (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي وهم الأسلميون ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت خروجه إلى مكة ، قد وقع بينه وبين هلال بن عويمر الأسلمي عهد ، أن لا يعين على النبي ولا يعينه ، وعلى أن من لجأ إليه لا يتعرض له ، وكذلك بنو بكر بن زيد وخزاعة.

قوله : (أَوْ جاؤُكُمْ) معطوف على (يَصِلُونَ) كما قدر الموصول المفسر ، فالمستثنى فريقان : فريق التجؤوا للمعاهدين ، وفريق ترك قتالنا مع قومه ، وقتال قومه معنا. قوله : وقد حصرت (صُدُورُهُمْ) أي وهم بنو مدلج جاؤوا لرسول الله غير مقاتلين. قوله : (وهذا) أي قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) وقوله :

٣١٥

تتعرضوا إليهم بأخذ ولا قتل وهذا وما بعده منسوخ بآية السيف (وَلَوْ شاءَ اللهُ) تسليطهم عليكم (لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) بأن يقوي قلوبهم (فَلَقاتَلُوكُمْ) ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الصلح أي انقادوا (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠) طريقا بالأخذ والقتل (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) بإظهار الإيمان عندكم (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) بالكفر إذا رجعوا إليهم وهم أسد وغطفان (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) عدا إلى الشرك (أُرْكِسُوا فِيها) وقعوا أشد وقوع (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) بترك قتالكم (وَ) لم (يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ) لم (يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عنكم (فَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١) برهانا بينا ظاهرا على قتلهم وسبيهم لغدرهم (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) أي ما ينبغي أن يصدر منه قتل له (إِلَّا خَطَأً) مخطئا في قتله من غير قصد (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا

____________________________________

(أَوْ جاؤُكُمْ) وقوله : (وما بعده) أي وهو قوله : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) الخ. قوله : (منسوخ بآية السيف) أي التي نزلت في براءة وهي قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآيات فصار بعد نزول آية السيف لا يقبل منهم عهد أبدا ، إلى أن انتشر الإسلام ، فخصصت آية السيف بالجزية والعهود. قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) الخ ، هذا تسلية للمؤمنين وتذكير لنعم الله عليهم. قوله : (لَسَلَّطَهُمْ) هذا تمهيد لجواب (لَوْ) وجوابها. قوله : (فَلَقاتَلُوكُمْ) قوله : (ولكنه لم يشأه الخ) أشار بهذا الاستدراك إلى تتميم القياس ، لأنه ذكر المقدم بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) والتالي بقوله : (لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) فذكر المفسر نقيض المقدم بقوله لكن ، والنتيجة بقوله : (فألقى في قلوبهم الرعب).

قوله : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي بوجه من الوجوه المتقدمة ، وهي التجاؤهم إلى من بيننا وبينه عهد ، وهي التجاؤهم ، أو تركهم القتال معنا ومع قومهم. قوله : (أي انقادوا) للصلح والأمان ورضوا به. قوله : (آخَرِينَ) أي قوما آخرين من المنافقين ، وسيأتي أنهم أسد وغطفان ، كانوا حول المدينة فأسلموا ظاهرا ليأمنوا من القتل والأسر ، وكانوا إذا خلوا بالكفار يقولون آمنا بالقرد والعقرب والخنفساء ، وإذا لقوا النبي وأصحابه يقولون إنا على دينكم ليأمنوا من الفريقين. قوله : (وقعوا أشد وقوع) أي رجعوا إلى الشرك أعظم رجوع. قوله : (لغدرهم) أي خيانتهم.

قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) أي لا يسوغ ولا يصلح لمتصف بالإيمان أن يقتل أخاه في الإيمان ، والمعنى يبعد كل البعد ، لأن شأن الإيمان الرأفة والرحمة بالإخوان ، قال تعالى مدحا في أصحاب رسول الله (أشداء على الكفار رحماء بينهم). قوله : (إِلَّا خَطَأً) الاستثناء منقطع لأن ما قبله محمول على العمد ، والمعنى لكن قد يقع خطأ ، ويصح أن يقع متصلا ، والمعنى لا ينبغي أن يقع القتل من المؤمن للمؤمن في حال من الأحوال إلا في حالة الخطأ. قوله : (مخطئا) أشار بذلك إلى أن خطأ حال ، إلا أنه مؤول باسم الفاعل. قوله : (من غير قصد) أي للضرب من أصله ، أو ضرب من يجوز له ضربه فصادف غيره.

قوله : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) الخ ، حاصل ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام : لأن المقتول إما مؤمن

٣١٦

(فَتَحْرِيرُ) عتق (رَقَبَةٍ) نسمة (مُؤْمِنَةٍ) عليه (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) مؤداة إلى أهله أي ورثة المقتول (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يتصدقوا عليه بها بأن يعفوا عنها وبينت السنة أنها مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وكذا بنات لبون وبنو لبون وحقاق وجذاع وأنها على عاقلة القاتل وهم عصبته إلا الأصل والفرع موزعة عليهم على ثلاث سنين على الغني منهم نصف دينار والمتوسط ربع كل سنة فإن لم يفوا فمن بيت المال فإن تعذر فعلى الجاني (فَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ) حرب (لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) على قاتله كفارة ولا دية تسلم إلى أهله لحرابتهم (وَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد كأهل الذمة (فَدِيَةٌ) له (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) وهي ثلث دية المؤمن إن كان يهوديا أو نصرانيا وثلثا عشرها إن كان مجوسيا (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)

____________________________________

ورثته وورثته مسلمون ، أو مؤمن وورثته حربيون ، أو معاهد ، فالأول فيه الدية والكفارة وكذا الثالث ، وأما الثاني ففيه الكفارة فقط ، ومن إما اسم موصول مبتدأ وقتل صلتها ، وقوله : (فَتَحْرِيرُ) خبره وقرن بالفاء لشبهه بالشرط ، وإما اسم الشرط وقتل فعله ، وقوله فتحرير جوابه والجملة خبره من حيث كونه مبتدأ. قوله : (عليه) أشار بذلك إلى أن قوله فتحرير مبتدأ خبره محذوف ، ويصح أن يكون خبر المحذوف ، والتقدير فالواجب عليه تحرير الخ ، أو فاعل بفعل محذوف أي فيجب عليه تحرير.

قوله : (وَدِيَةٌ) معطوف على تحرير ، والدية مصدر في الأصل أطلقت على المال المأخوذ في نظير القتل ، وهو والمراد هنا ، ولذا وصفها بمسلمة ، وأصلها ودي حذفت الواو وعوض عنها تاء التأنيث. قوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أصله يتصدقوا قلبت التاء صادا وأدغمت في الصاد هو حال من أهله ، والمعنى إلا متصدقين. قوله : (بأن يعفو) أي أهله وسمي العفو عنها صدقة تنبيها على فضله ، لأن كل معروف صدقة. قوله : (أنها مائة من الإبل) هذا مخصوص بأهل الإبل ، وأما على أهل الذهب فألف دينار ، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. قوله : (بنت مخاض) أي وهي ما أوفت سنة ودخلت في الثانية. قوله : (وكذا بنات لبون) أي وابن اللبون ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة. قوله : (وحقاق) الحقة ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة ، وقوله : (وجذاع) الجذعة ما أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة. قوله : (وأنها على عاقلة القاتل) أي وهو إن كان غنيا كواحد منهم عند مالك ، وعند الشافعي ليس عليه شيء منها ، وهذه دية الخطأ ، وأما دية العمد فمغلظة من أربعة أنواع : بإسقاط ابن اللبون من كل نوع خمس وعشرون عند مالك ، إلا إذا قتل الأب ابنه عمدا غير قاصد إزهاق روحه بأن لم يذبحه ، فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ، والخلفة : الناقة الحامل ، والتغليظ عند الشافعي يكون بتلك الأنواع الثلاثة لا غير. قوله : (إلا الأصل والفرع) هذا مذهب الشافعي ، وأما عند مالك فلا فرق بين الأصل والفرع وغيرهما ، في أن كلا منهما يدفع كغيره. قوله : (على الغني منهم نصف دينار) يؤخذ منه أن العاقلة غير محدودة بعدد ، وهو مذهب الشافعي ، وعند مالك تفرض الدية على ما زاد على ألف من أقاربه ، وقيل على سبعمائة. قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي بأن جاء من بلاد الكفر وأسلم عندنا ثم قتل خطأ. قوله : (حرب) بكسر الحاء أي محارب. قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ) الخ ، أي بأن كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا. قوله : (وهي ثلث دية المؤمن) هذا مذهب الإمام الشافعي ، وأما عند مالك فهو على

٣١٧

على قاتله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة بأن فقدها وما يحصلها به (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) عليه كفارة ولم بذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار وبه أخذ الشافعي في أصح قوليه (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) مصدر منصوب بفعله المقدر (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (٩٢) فيما دبره لهم (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بأن يقصد قتله بما يقتل غالبا عالما بإيمانه (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) أبعده من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣) في النار وهذا مؤول

____________________________________

النصف من الحر المسلم ، كأنثى الحر المسلم. قوله : (وثلثا عشرها إن كان مجوسيا) هذا باتفاق بين مالك والشافعي ، وأنثاه على النصف منه. قوله : (الرقبة) قدره إشارة إلى أن مفعول يجد محذوف. قوله : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) يقال فيه من الإعراب ما قيل في (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). قوله : (وبه أخذ الشافعي) أي ومالك. قوله : (المقدر) أي وتقديره تاب الله عليكم توبة ، ويصح أن يكون مفعولا لأجله ، أي شرع لكم ذلك لأجل التوبة عليكم وهو الأحسن ، إن قلت : إن الخطأ ليس بذنب فما معنى التوبة منه؟ أجيب : بأن ذلك لجبر الخلل الذي حصل منه في عدم إمعان النظر والتحفظ.

قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) مقابل قوله من قتل مؤمنا خطأ ، وقوله متعمدا أي عدوانا ليخرج المقتول قصاصا أو حدا ، كالزاني المحصن والمحارب. وسبب نزولها : أن رجلا يقال له مقيس بن صبابة أسلم هو وأخوه هشام على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ثم إن مقيسا وجد أخاه مقتولا في بني النجار ، فقال لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فأرسل معه رجلا يقال له فهر من بني مهران إلى بني النجار ، فقال لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمركم أنكم إذا عرفتم عين القاتل فسلموه لمقيس ، وإن لم تعرفوه فأعطوا له الدية ، فقالوا سمعا وطاعة إنا لا نعرف عين القاتل وأعطوه مائة بعير! فلما ذهب من عندهم سول الشيطان لمقيس أن يقتل فهرا بدل أخيه ، فتأخر عنه وضربه فقتله وركب بعيرا وساق باقيها راجعا إلى مكة ، وقال شعرا في ذلك :

قتلت به فهرا وأحملت عقله

سراة بني النجّار أرباب قارع

وأدركت ثأري واضطجعت توسّدا

وكنت إلى الأصنام أوّل راجع

فنزلت فيه الآية ، ولما كان عام الفتح استثناه النبي ممن أمنه! فقتله الصحابة وهو متعلق بأستار الكعبة ، فعلى هذا الخلود في الآية على ظاهره. قوله : (خالِداً) حال من الضمير في جزاؤه. قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) معطوف على محذوف ، والتقدير حكم الله عليه بذلك وغضب الله عليه. قوله : (وَلَعَنَهُ) عطف على (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) مرادف لأن اللعنة هي الغضب. قوله : (وهذا مؤول إلخ) يشرع في ذكر الأجوبة عن السؤال الوارد على الآية. وحاصله أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وظاهر الآية يقتضي أن جزاء القاتل عمدا الخلود في النار ، ولو مات مؤمنا ، وليس كذلك فأجاب المفسر عن ذلك بثلاثة أجوبة : الأول أنه محمول على المستحل لذلك ، الثاني أن هذا جزاؤه إن جوزي ، أي إن عامله الله بعد له ، جازاه بذلك ، وإن عامله بفضله فجائز أن لا يدخله النار ، ولكن في هذا الجواب شيء ، لأن فيه تسليم أنه إذا جوزي يخلد في النار ، وهو غير سديد للقواطع الدالة على أنه لا يخلد في النار إلا من مات على الكفر ، وقد أجاب البيضاوي بجواب آخر : أن يحمل الخلود على طول المكث ،

٣١٨

بمن يستحله أو بأن هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وعن ابن عباس أنها على ظاهرها وأنها ناسخة لغيرها من آيات المغفرة وبينت آية البقرة أن قاتل العمد يقتل به وأن عليه الدية إن عفى عنه وسبق قدرها وبينت السنة أن بين العمد والخطأ قتلا يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالبا فلا قصاص فيه بل دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو والعمد أولى بالكفارة من الخطأ. ونزل لما مر نفر من الصحابة برجل من بني سليم وهو يسوق غنما فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا تقية فقتلوه واستاقوا غنمه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) سافرتم للجهاد (فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة بالمثلثة في الموضعين (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ

____________________________________

الثالث أشار له المفسر بقوله : (وعن ابن عباس الخ). قوله : (وأنها ناسخة) الأولى مخصصة ، وكلام ابن عباس خارج مخرج الزجر والتشديد ، وليس على حقيقته على مقتضى مذهب أهل السنة. قوله : (وسبق قدرها) أي في تفسير الآية التي قبلها. قوله : (أن بين العمد والخطأ الخ) سبق للمفسر أنه أدخله في الخطأ بقوله أو ضربه بما لا يقتل غالبا. قوله : (يسمى شبه العمد) أي فأشبه العمد من حيث تغليظ الدية بكونها من ثلاثة أنواع : ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ، وأشبه الخطأ من حيث كونه لا قصاص فيه وهذا مذهب الشافعي ، وعند أبي حنيفة لا يقتص من القاتل إلا إذا قتله بآلة محددة كسيف وبندق وإلا فيلزمه الدية ، وعند مالك يقتص من القاتل إذا قتل بأي آلة ولو بضرب كف أو سوط لا بكمروحة. قوله : (في الصفة) أي من حيث كونها من ثلاثة أنواع. قوله : (في التأجيل) أي كونها على ثلاث سنين وقوله : (والحمل) أي كون العاقلة تحملها. قوله : (وهو) أي شبه العمد ، وقوله : (أولى بالكفارة) أي فتجب وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك ليس كالخطأ ، بل تستحب الكفارة فقط. قوله : (ونزل لما مر نفر الخ) هذه رواية ابن عباس في سبب نزول الآية ، روي عنه أيضا أنها نزلت في رجل من بني مرة بن عون يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك ، لم يسلم من قومه غيره! فلما سمعوا بسرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هربوا وبقي ذلك الرجل ، فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين ، فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فعرف أنهم من أصحاب رسول الله ، فكبّر ونزل وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله السّلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ، ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه الخبر ، فوجد رسول الله من ذلك وجدا شديدا ، وكان قد سبقهم الخبز ، فقال عليه الصلاة والسّلام أقتلتموه إرادة ما معه ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أسامة هذه الآية ، فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله ، فقال : كيف أنت بلا إله إلا الله يقولها ثلاث مرات ، قال أسامة : فما زال رسول الله يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم استغفر له رسول الله وقال اعتق رقبة. وروي عن أسامة أنه قال : قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح ، فقال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا.

قوله : (فَتَبَيَّنُوا) أي تمهلوا حتى يكشف لكم حقيقة الأمر ، وما وقع من الصحابة اجتهاد ، غير أنهم مخطئون فيه ، حيث اعتمدوا على مجرد الظن ، فلذا عاتبهم الله على ذلك ، وهذا مرتب على وعيد القاتل عمدا ، أي حيث ثبت الوعيد العظيم للقاتل عمدا ، فالواجب التثبت والتحفظ ، فرتب على ذلك

٣١٩

أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) بالألف ودونها أي التحية أو الانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً) وإنما قلت هذا تقية لنفسك ومالك فتقتلوه (تَبْتَغُونَ) تطلبون بذلك (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) متاعها من الغنيمة (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) تغنيكم عن قتل مثله لما له (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد قولكم الشهادة (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان والاستقامة (فَتَبَيَّنُوا) أن تقتلوا مؤمنا وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤) فيجازيكم به (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الجهاد (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع صفة والنصب استثناء من زمانه أو عمى أو نحوه (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) لضرر (دَرَجَةً) فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهدين بالمباشرة (وَكُلًّا) من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) الجنة (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) لغير ضرر (أَجْراً عَظِيماً) (٩٥) ويبدل منه (دَرَجاتٍ مِنْهُ) منازل بعضها فوق بعض من الكرامة (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) منصوبان بفعلهما المقدر

____________________________________

ما وقع من الصحابة. قوله : (في الموضعين) أي هنا ، وقوله فيما يأتي : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) ، وبقي موضع ثالث في الحجرات وهو قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وفيه القراءتان ، ويحتمل أن قوله في الموضعين أي ما هنا بشقيه والحجرات والأول أقرب. قوله : (بالألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وروي عن عاصم كسر السين وسكون اللام وهي بمعنى المفتوحة. قوله : (أي التحية أو الانقياد) لف ونشر مرتب. قوله : (التي هي أمارة على إسلامه) تقدم أنه وقع منه الأمران.

قوله : (تَبْتَغُونَ) النهي منصب على القيد والمقيد ، وليس كقولهم لا تطلب العلم تبتغي به الدنيا قوله : (فَعِنْدَ اللهِ) تعليل للنهي المذكور. قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي كنتم مثله في مبدإ الإسلام. قوله : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي قبل منكم النطق بالشهادتين ، ولم يأمر بالبحث عن سرائركم. قوله : (فَتَبَيَّنُوا) أي في المستقبل في مثل هذه الوقعة فهو تأكيد لفظي ، وقيل ليس تأكيد الاختلاف متعلقيهما ، لأن الأول فيمن تقتلونه ، والثاني في شأن نعمة الله عليكم بالإسلام لتشكروه.

قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق بمحذوف حال من (الْقاعِدُونَ). قوله : (بالرفع صفة) أي لقوله : (الْقاعِدُونَ) إما لأن غير إذا وقعت بين ضدين قد تتعرف ، أو لأن أل في القاعدون للجنس فأشبه النكرة ، والأظهر أنه مرفوع على البدلية من القاعدون! لأنه لا يشترط استواء البدل والمبدل منه تعريفا أو تنكيرا. قوله : (والنصب استثناء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (من زمانه) بيان للضرر وهي المرض ، وقوله : (أو نحوه) أي كالعرج. قوله : (فضيلة) أي في الآخرة ، والمعنى أن من تقاعد عن القتال لمرض ونحوه ، فهو ناقص عن المباشرين للجهاد درجة لأنهم استووا معهم في الجهاد بالنية ، وإنما زاد المجاهدون بالمباشرة ، وكل من القسمين وعده الله بالجنة. قوله : (الجنة) أي لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم.

قوله : (دَرَجاتٍ) قيل سبعة وقيل سبعون وقيل سبعمائة ، كل درجة كما بين السماء والأرض.

٣٢٠