حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

بخلقه (حَكِيماً) (١٧) في صنعه بهم (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الذنوب (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وأخذ في النزع (قالَ) عند مشاهدة ما هو فيه (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا تقبل منهم (أُولئِكَ أَعْتَدْنا) أعددنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨) مؤلما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ) أي ذاتهن (كَرْهاً) بالفتح والضم لغتان أي مكرهيهن على ذلك كانوا في الجاهلية يرثون نساء أقربائهم فإن شاؤوا تزوجوها بلا صداق أو زوجوها وأخذوا صداقها أو عضلوها حتى تفتدي بما ورثته أو تموت فيرثوها فنهوا عن ذلك (وَلا) أن (تَعْضُلُوهُنَ) أي تمنعوا أزواجكم

____________________________________

في كل لمحة ، ولذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ما خرج مني نفس وانتظرت عوده ، وورد أنه ما من نفس يخرج من ابن آدم إلا بإذن من الله في العودة ثانيا وعمر جديد.

قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) أي قبولها. قوله : (وأخذ في النزع) أي بلغت الروح الحلقوم وغرغر الميت ، لأن الإنسان عند الغرغرة يرى مقعده في الجنة أو في النار ، فيظهر عليه علامة البشرى أو الحزن ، فلا ينفعه الندم إذ ذاك. قوله : (وَلَا الَّذِينَ) معطوف على قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) المعنى ليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ ، وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار فهو محل جر. قوله : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا) أصله أعددنا قلبت الدال الأولى تاء ، وقد أشار لذلك المفسر بقوله (أعددنا) والمعنى أحضرنا وهيأنا.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ) الآية الخ ، سبب نزولها أنه كان في الجاهلية وصدر الإسلام ، إذا مات الرجل وترك امرأة ، جاء ابنه من غيرها أو قريبه فرمى عليها ثوبه فيخير فيها بعد ذلك ، فإما أن يتزوجها بلا مهر ، أو يزوجها لغيره ويأخذ مهرها ، أو بعضها حتى تفتدي منه ، أو تموت ويأخذ ميراثها ، ثم لما توفي أبو قيس ، وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، قام ابن له قيل اسمه قيس ، فطرح عليها ثوبه ثم تركها ، فلم يقربها ولم ينفق عليها ، فأتت كبيشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا قيس توفي وأخذني ابنه ، فلم ينفق علي ولم يخل سبيلي ، فقال امكثي في بيتك حتى يأتي أمر الله فيك ، فنزلت هذه الآية. قوله : (أي ذاتهن) دفع بذلك ما يقال إن ميراث الرجل من المرأة قد تقدم ، وهو إما النصف أو الربع ، وليس بمنهي عنه. قوله : (لغتان) المناسب قراءتان وهما سبعيتان. قوله : (أي مكرهين) بكسر الراء اسم فاعل ، ومفعول محذوف تقديره مكرهين لهن على ذلك. قوله : (كانوا في الجاهلية) أي وصدر الإسلام ، وهو إشارة لسبب نزول الآية ، وقد أجمل فيه. قوله : (بلا صداق) أي اتكالا على الصداق الذي دفعه أبوه.

قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) معطوف على قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) الخ ، والمعنى لا يحل لكم ميراث النساء ولا عضلهن ، وهو خطاب للأزواج كان الرجل يكره المرأة ، ولها عليه المهر ، فيسيء عشرتها ويضارها لتفتدي منه. قوله : (أي تمنعوا أزواجكم) أشار بذلك إلى أن الضمير عائد على النساء ، لا بالمعنى الأول ، فإن المراد بالنساء فيما تقدم نساء غيركم ، وفيما هنا نساؤكم ، ففي الكلام استخدام قوله :

٢٨١

عن نكاح غيركم بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضرارا (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) من المهر (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) بفتح الباء وكسرها أي بينت أو هي بينة أي زنا أو نشوز فلكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالاجمال في القول والنفقة والمبيت (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) فاصبروا (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) أي أخذها بدلها بأن طلقتموها (وَ) قد (آتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) أي الزوجات (قِنْطاراً) مالا كثيرا صداقا (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) ظلما (وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠) بينا ونصبهما على الحال والاستفهام للتوبيخ وللإنكار في (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) أي بأي وجه (وَقَدْ أَفْضى) وصل (بَعْضُكُمْ) إلى بعض بالجماع المقرر للمهر (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً) عهدا (غَلِيظاً) (٢١) شديدا وهو ما

____________________________________

(لِتَذْهَبُوا) علة لقوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ). قوله : (بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) أي ومن باب أولى أخذ الجميع.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) هذا استثناء من عموم الأحوال ، والمعنى لا يحل عضل النساء لأجل أخذ بعض ما آتيتموهن في حال من الأحوال ، إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة. قوله : (بفتح الياء وكسرها) أي فهم قراءتان سبعيتان. قوله : (أو نشوز) أي خروج عن طاعة الزوج. قوله : (فلكم أن تضاروهن) إن قلت : إن المضاررة لا تجوز فكيف ذلك؟ أجيب بأن هذا منسوخ ، أو بأن المراد بها الوعظ والهجر والضرب على طبق ما يأتي في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) الآيات ، وتسميته حينئذ مضاررة مشاكلة نظير (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه). قوله : (وعاشروهن) قيل معطوف على قوله فيما تقدم (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) وقيل معطوف على قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) وعليه فالعطف للتوكيد ، والمعنى لا تضاروهن وعاشروهن بالمعروف ، بأن تطيبوا لهن القول والفعل ، ومن ذلك تعليمهن مصالح دينهن ودنياهن. قوله : (الإجمال في القول) أي بالقول الجميل الخ.

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي طبعا من غير ظهور ما يوجب الكراهة منهن. قوله : (فاصبروا) هذا هو جواب الشرط ، وقوله : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) علة له. قوله : (ولدا صالحا) أي ذكرا أو أنثى ، ففي الحديث : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» وبالجملة فالإحسان إلى النساء من مكارم الأخلاق ، وإن وقعت منهن الإساءة ، لما في الحديث «يغلبن كريما ويغلبهن لئيم ، فأحب أن أكون كريما مغلوبا ، ولا أحب أن أكون لئيما غالبا». قوله : (بأن طلقتموها) أي بعد الدخول ، وأما قبله فليس لها عنده إلا نصف المهر. قوله : (مالا كثيرا) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالقنطار التحديد. قوله : (ظلما) أشار بذلك إلى أنه أطلق البهتان وهو في الأصل الكذب ، وأراد به الظلم مجازا. قوله : (والاستفهام للتوبيخ والإنكار في) (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) أي وفيما قبله. قوله : (بالجماع) هكذا فسره به الشافعي ، وقال مالك بالخلوة التي يتأتى فيها الوطء. قوله : (بالجماع) هكذا فسره به الشافعي ، وقال مالك بالخلوة التي يتأتى فيها الوطء. قوله : (المقرر للمهر) أي وهو الواقع من بالغ في مطيقة ، وقال الشافعي بل ولو لم تكن مطيقة. قوله : (وَأَخَذْنَ) أي النساء ، والآخذ في الحقيقة هو الله ،

٢٨٢

أمر الله به من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن باحسان (وَلا تَنْكِحُوا ما) بمعنى من (نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا) لكن (ما قَدْ سَلَفَ) من فعلكم ذلك فإنه معفو عنه (إِنَّهُ) أي نكاحهن (كانَ فاحِشَةً) قبيحا (وَمَقْتاً) سببا للمقت من الله وهو أشد البغض (وَساءَ) بئس (سَبِيلاً) (٢٢) طريقا ذلك (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أن تنكحوهن وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم (وَبَناتُكُمْ) وشملت بنات الأولاد وإن سفلن (وَأَخَواتُكُمْ) من جهة الأب أو الأم (وَعَمَّاتُكُمْ) أي أخوات آبائكم وأجدادكم (وَخالاتُكُمْ) أي أخوات أمهاتكم وجداتكم (وَبَناتُ الْأَخِ

____________________________________

وإنما أسند للنساء مجازا عقليا من الإسناد للسبب.

قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) شروع منه سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء على الرجال ، وابتدأ بتحريم زوجة الأب اعتناء بها ، فإن الجاهلية كانوا يفعلون ذلك كثيرا ، ولما كان ذلك الأمر قبيحا شرعا وطبعا ، أفرده بالنهي ولم يدرجه في جملة المحرمات الآتية. قوله : (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) المراد بالنكاح العقد ، وبالآباء الأصول وإن علوا ، فمتى عقد أحد من أصولك على امرأة ، فلا يحل لك ولا لأحد من ذريتك تزوجها بحال ، وهذه إحدى المحرمات بالصهر ، وهن أربع ، والباقي زوجة الابن ، وأم الزوجة ، وبنت الزوجة ، وكل ذلك يحصل التحريم فيه بمجرد العقد ، إلا بنت الزوجة فلا يحرمها إلا الدخول بأمها ، والمراد بالدخول عند مالك التلذذ مطلقا وإن لم تكن خلوة ، وعند الشافعي لا بد من الوطء ، وأما جارية الأب فلا تحرم على الابن ، إلا إن تلذذ بها الأب ، وسيأتي في الآية تحريم باقي الأصهار. قوله : (مِنَ النِّساءِ) بيان لما التي بمعنى من ، وعبر بما التي لغير العاقل غالبا ، إشارة إلى أن النساء ناقصات عقل. قوله : (إِلَّا) (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، لأن النهي مستقبل ، والاستثناء ماض ، ولا يستثنى الماضي من المستقبل ، وفي الحقيقة الاستثناء من قوله بعد (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) الخ ، وحكمة هذا الاستثناء دفع توهم أن من فعله ، ولو قيل بالتحريم يحصل له هذا الوعيد الشديد.

قوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) علة لقوله : (وَلا تَنْكِحُوا) وكان إمّا صلة ، أو مجردة عن معنى الزمان الماضي ، فهي بمعنى صار. قوله : (وَساءَ سَبِيلاً) مقول لقول محذوف معطوف على فاحشة ، أي ومقولا فيه ساء سبيلا ، ويحتمل أنه كلام مستأنف لإنشاء الذم. قوله : (ذلك) قدره إشارة إلى المخصوص بالذم ، والمعنى أن من تزوج بزوجة الأب بعد التحريم ، ارتكب أمرا قبيحا ، واستحق أشد البغض من الله ، وسلك طريقا قبيحا خبيثا.

قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) شروع في ذكر المحرمات بالنسب ، وأمهات جمع أم ، فالهاء زائدة في الجمع ، للفرق بين جمع من يعقل ومن لا يعقل ، وهذا على أن المفرد أم ، وإما على أن المفرد أمهة فليست زائدة ، وقد يتعاكس على الأول ، فيقال في العقلاء أمات ، وفي غيرهم أمهات. قوله : (تنكحوهن) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، لأن الذوات لا تحرم ، وإنما التحريم متعلق بالفعل. قوله : (وشملت بنات الأولاد) أي ذكورا وإناثا. قوله : (وَأَخَواتُكُمْ) جمع أخت ، يقال في الأنثى أخت ، وفي الذكر أخ ، وجمع الأول أخوات ، والثاني إخوة. قوله : (من جهة الأب أو الأم) أي ومن باب أولى الشقيقات. قوله : (أي أخوات آبائكم) أي مطلقا شقيقات أو لأب أو لأم. قوله : (وأجدادكم) أي وإن علوا. قوله : (أي أخوات أمهاتكم) أي مطلقا شقيقات أو لأب أو لأم. قوله : (وجداتكم) أي وإن

٢٨٣

وَبَناتُ الْأُخْتِ) ويدخل فيهن أولادهم (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) قبل استكمال الحولين خمس رضعات كما بينه الحديث (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهن موطوأته والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت منها لحديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب رواه البخاري ومسلم (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ) جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي جامعتموهن (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن (وَحَلائِلُ) أزواج (أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) من نسب أو رضاع بالنكاح ويلحق بها بالسنة الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها ويجوز نكاح كل واحدة على الانفراد وملكهما معا ويطأ

____________________________________

علون. قوله : (ويدخل فيهن بنات أولادهن) أي الأخوات ذكورا وإناثا وإن سفلن ، وفيه تغليب الأخت على الأخ لقربها ، وفي نسخة أولادهم بميم الجمع ، ويكون عائدا على الأخ ، وغلبه على الأخت تشريفا.

قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) شروع في ذكر المحرمات بالرضاع. قوله : (قبل استكمال الحولين) ظاهره ولو كان مستغنيا عن اللبن ، ولكن يقيد عند مالك بما إذا لم يستغن عن اللبن داخل الحولين ، وإلا فلا يحرم كبعد الحولين. قوله : (خمس رضعات) أي متفرقات ، وهذا مذهب الإمام الشافعي وابن حنبل ، وأما مذهب مالك وأبي حنيفة فالمصة الواحدة كافية في التحريم. قوله : (كما بينه الحديث) أي الصحيح ، لأن من قواعد الشافعي كلما صح الحديث كان مذهبا له ، وأما مالك فكذلك ما لم يعارضه عمل أهل المدينة وإجماعهم ، وإلا حمل الحديث عنده على أنه منسوخ ، فعمل أهل المدينة حجة عند مالك دون غيره.

قوله : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) أي وسواء كانت تلك الأخت بنتا لمن أرضعتك أولا ، كما إذا رضعت امرأة ابن عمر وبنت زيد فإنها تصير أختا له من الرضاعة. قوله : (ويلحق بذلك) أي بما ذكر من الأمهات والأخوات من الرضاعة. قوله : (من أرضعتهن موطوأته) ظاهره ولو بزنا ، وهو كذلك عند مالك ، وأما عند الشافعي فيقيد الوطء بكونه من نكاح أو شبهته ، أو ملك أو شبهته ، وأما بالزنا فلا يحرم عنده. قوله : (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) جمع حجر وهو في الأصل مقدم الثوب ، أطلق وأريد به كونهم في تربيته. قوله : (موافقه للغالب) أي فإن الغالب عدم استغناء الربيبة عن أمها فهي في حجر زوجها. قوله : (أي جامعتموهن) هذا مذهب الشافعي ، وعند مالك يكفي مطلق التلذذ في التحريم. قوله : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) نزلت ردا لقول بعض المنافقين حين تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حليلة زيد وكان متسنيا له ، إن محمدا تزوج حليلة ابنه. قوله : (بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي مطلقا شقيقتين أو لأب أو لأم. قوله : (الجمع بينها وبين عمتها الخ) أي وضابط ذلك أن يقال كل اثنتين لو قدرت آية ذكر ما حرم فإنه يحرم جمعهما ، وأما لو كان التقدير في أحد الجانبين يحرم وفي الآخر لا يحرم ، فإنه لا يحرم ، كجمع المرأة وأم زوجها أو بنته من غيرها ، أو المرأة وجاريتها ، كما قال الأجهوري :

وجمع مرأة وأمّ البعل

أو بنته أو رقّها ذو حلّ

٢٨٤

واحدة (إِلَّا) لكن (ما قَدْ سَلَفَ) في الجاهلية من نكاحكم بعض ما ذكر فلا جناح عليكم فيه (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لما سلف منكم قبل النهي (رَحِيماً) (٢٣) بكم في ذلك (وَ) حرمت عليكم (الْمُحْصَناتُ) أي ذوات الأزواج (مِنَ النِّساءِ) أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن حرائر مسلمات كن أو لا (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من الإماء بالسبي فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء (كِتابَ اللهِ) نصب على المصدر أي كتب ذلك (عَلَيْكُمْ وَأُحِلَ) بالبناء للفاعل والمفعول (لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي سوى ما حرم عليكم من النساء (أَنْ تَبْتَغُوا) تطلبوا النساء (بِأَمْوالِكُمْ) بصداق أو ثمن (مُحْصِنِينَ) متزوجين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) زانين (فَمَا) أي من (اسْتَمْتَعْتُمْ) تمتعتم (بِهِ مِنْهُنَ) ممن تزوجتم بالوطء (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن التي

____________________________________

قوله : (ويطأ واحدة) أي ويحرم الأخرى. قوله : (إِلَّا) (لكن) (ما قَدْ سَلَفَ) هذا استثناء منقطع كالأول ، ولم يقل هنا (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) لعله بالقياس على ما تقدم. قوله : (بعض ما ذكر) أي وهو نكاح الأختين. قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) معطوف على قوله : (أُمَّهاتُكُمْ) فهو مندرج في سلك المحرمات ، ولذا قدر المفسر قوله حرمت عليكم ، (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد هنا باتفاق السبعة ، وأما في غير هذا الموضوع فقرأ الكسائي بالكسر ، فعلى الفتح هو اسم مفعول ، وفاعل الإحصان إما الأزواج أو الأولياء أو الله ، وعلى الكسر اسم فاعل بمعنى إنهن أحصن أنفسهن ، واعلم أن الإحصان يطلق على التزوج كما في هذه الآية ، وعلى الحرية كما في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) وعلى الإسلام كما في قوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) وعلى العفة كما في قوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ). قوله : (أن تنكحوهن) أي تعقدوا عليهن في العصمة وما ألحق بها كالعدة ، وقد أشار لذلك بقوله : (قبل مفارقة أزواجهن). قوله : (أو لا) أي بل كن إماء أو كتابيات.

قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الاستثناء متصل ، ويشير له قول المفسر وإن كان لهن أزواج ، ولكن فيه شائبة انقطاع من وجهين : الأول أن المستثنى الوطء ، والمستثنى منه العقد ، الثاني أن المستثنى منه المتزوجات بالفعل ، والمستثنى من كن متزوجات ، فإنه بمجرد السبي تنقطع عصمة الكافر. قوله : (نصب على المصدر) أي المؤكد لعامله المعنوي المستفاد من قوله حرمت ، فإن التحريم والفرض والكتب بمعنى واحد. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان ، والفاعل هو الله ، وحذف للعلم به. قوله : (ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي غير ما ذكر لكم ، وهذا عام مخصوص بغير ما حرم بالسنة كباقي المحرمات من الرضاع ، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، والملاعنة على ملاعنها ، والمعتدة ، فقوله : (أي سوء ما حرم عليكم من النساء) أي كتابا وسنة.

قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا) علة لقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ) أي أحل لكم لأجل أن تبتغوا. قوله : (بصداق) أي بالتزوج ، وقوله : (أو ثمن) أي بالملك. قوله : (متزوجين) أي أو متملكين بدليل قوله : (أو ثمن). وقوله : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال أخرى ، وسمى الزنا سفاحا ، لأن الزانيين لا يقصدان إلا صبّ الماء ، ولا يقصدان نسلا ، فإن الأصل في السفح الصب. قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) أشار المفسر بقوله : (أي من)

٢٨٥

فرضتم لهن (فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ) أنتم وهن (بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) من حطها أو بعضها أو زيادة عليها (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (٢٤) فيما دبره لهم (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) أي غنى (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) الحرائر (الْمُؤْمِناتِ) هو جري على الغالب فلا مفهوم له (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ينكح (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فاكتفوا بظاهره وكلوا السرائر إليه فإنه العالم بتفصيلها ورب أمة تفضل الحرة فيه وهذا تأنيس بنكاح الإماء (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنتم وهن سواء في الدين فلا تستنكفوا من نكاحهن (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) مواليهن (وَآتُوهُنَ) أعطوهن (أُجُورَهُنَ) مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) من غير مطل

____________________________________

إلى أن ما واقعة على من يعقل وهن الزوجات ، والمراد الزوجات اللاتي تمتعتم به منهن ، فالآية واردة في النكاح الصحيح ، فهو بمعنى قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الآية ، وكرره لتتميم حكم الحل ، وقيل إن الآية وردت في نكاح المتعة ، وكان في صدر الإسلام حلالا ، فكان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ثم يسرحها ، وقد نسخ هذا ، فعلى هذا الآية منسوخة. قوله : (بالوطء) أي ومقدماته. قوله : (مهورهن) سمى المهر أجرا لأنه في مقابلة الاستمتاع لا الذات. قوله : (فرضتم لهن) أشار بذلك إلى أن فريضة مفعول لمحذوف وهو متصل بما قبله ، فإن لم يكن فرض لها شيئا وقد دخل بها ، فإنه يلزمه مهر مثلها. قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي ولا عليهن. قوله : (أنتم وهن) أي إن كن رشيدات ، أو أولياؤهن إن كن سفيهات. قوله : (من حطها إلخ) بيان لما ، والكلام موزع ، والمعنى فلا جناح عليكم فيما تراضيتم به من الحط ، ولا جناح عليهن فيما تراضين من أخذ الزيادة.

قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) من شرطية أو موصولة ، ويستطع إما فعل الشرط أو صلة الموصول ، وقوله : (مِنْكُمْ) أي الأحرار وهو شروع في بيان حكم نكاح الإماء للأحرار ، فأفاد أنه لا يجوز للحر أن ينكح الأمة إلا بشروط ثلاثة : أن لا يجد للحرائر طولا ، وأن تكون تلك الأمة مؤمنة ، وأن يخشى على نفسه العنت ، وذلك الحكم يخصص ما تقدم في قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وعلة حرمة نكاح الأمة لئلا يصير الولد رقيقا لسيد الأمة ، فإن كان لا يولد له أو لها أو كان ولده يعتق على سيدها مثل أمة الجد ، فإنه يجوز له تزوج الأمة بشرط كونها مؤمنة.

قوله : (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لقوله طولا على حد ، (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً). قوله : (فلا مفهوم له) أي فإذا وجد طولا لحرة كتابية ، فلا يجوز له أن يتزوج بالأمة. قوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إما جواب الشرط أو خبر المبتدأ ، وقدر المفسر العامل مؤخرا لإفادة الحصر. قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) جمع فتاة وهي الشابة من النساء. قوله : (تفضل الحرة فيه) أي الإيمان بأن تكون من كبار الأولياء وأرباب الأسرار مثلا. قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي من جنس بعض في الدين والنسب ، كقول علي كرّم الله وجهه بيت شعر من البسيط :

النّاس من جهة التّمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأمّ حوّاء

قوله : (من غير مطل) أي عدم أداء مع القدرة عليه. قوله : (حال) أي من قوله : (فَانْكِحُوهُنَ)

٢٨٦

ونقص (مُحْصَناتٍ) عفائف حال (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) زانيات جهرا (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أخلاء يزنون بهن سرا (فَإِذا أُحْصِنَ) زوجن وفي قراءة بالبناء للفاعل تزوجن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) الحرائر الأبكار إذا زنين (مِنَ الْعَذابِ) الحد فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة ويقاس عليهن العبيد ولم يجعل الإحصان شرطا لوجوب الحد بل لإفادة أنه لا رجم عليهن أصلا (ذلِكَ) أي نكاح المملوكات عند عدم الطول (لِمَنْ خَشِيَ) خاف (الْعَنَتَ) الزنا وأصله المشقة سمي به الزنا لأنه سببها بالحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة (مِنْكُمْ) بخلاف من لا يخافه من الأحرار فلا يحل له نكاحها وكذا من استطاع طول حرة وعليه الشافعي وخرج بقوله من فتياتكم المؤمنات الكافرات فلا يحل له نكاحها ولو عدم وخاف (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح المملوكات (خَيْرٌ لَكُمْ) لئلا يصير الولد رقيقا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥) بالتوسعة في ذلك (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) شرائع دينكم ومصالح أمركم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ) طرائق (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يرجع بكم

____________________________________

أي حال كونهن عفائف عن الزنا ، وهذا شرط كمال على المعتمد. قوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) حال مؤكدة. قوله : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) جمع خدن بالكسر وهو الصاحب والخليل ، وإنما ذكره بعده لأنه كان في الجاهلية الزنا قسمان : جهرا وسرا ، فكان الأكابر منهم يحرمون القسم الأول ويحلون القسم الثاني. قوله : (وفي قراءة بالبناء للفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان ، والمعنى على هذه القراءة أحصن أنفسهن.

قوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ) شرط في الشرط ، وقوله : (فَعَلَيْهِنَ) الخ ، جواب الثاني ، والثاني وجوابه جواب الأول على حد : إن جئتني فإن لم أكرمك فعبدي حر. قوله : (الأكابر) إنما قيد بذلك لأن حد غير البكر من الأحرار الرجم وهو لا ينتصف. قوله : (ويغرّبن نصف سنة) هذا مذهب الإمام الشافعي ، وأما عند مالك فلا تغريب على الرقيق ، ذكرا أو أنثى. قوله : (ولم يجعل الإحصان الخ) إنما احتاج للسؤال والجواب ، لأنه فسر الإحصان بالتزوج ، وإلا فلو فسره بالإسلام كما فعل غيره لما احتاج لذلك كله. قوله : (وأصله المشقة) أي أصله الثاني ، وإلا فأصله الأول الكسر بعد الجبر ، ثم نقل لكل مشقة تحصل للإنسان. قوله : (والعقوبة في الآخرة) أي إن لم يقم عليه الحد في الدنيا على المعتمد من أن الحدود جوابر. قوله : (فلا يحل له نكاحها) محل ذلك إن لم يخف العنت في أمة معينة ولم يجد ما يكفه عنها من الحرائر ، فعند مالك يجوز له نكاحها لأنه عادم للحرائر حكما. قوله : (وعليه الشافعي) أي ومالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة بجواز نكاح الأمة لمن ليس تحته حرة بالفعل ، ولو كان واجدا لمهرها ، وخالف في اشتراط إسلام الأمة. قوله : (ولو عدم) أي الطول وخاف العنت.

قوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي فالصبر أجمل حيث أمكن التحيل على ذلك لقوله في الحديث : «من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ، ولقوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). قوله : (بالتوسعة في ذلك) أي في نكاح الأمة. قوله : (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أي يفصل ويظهر. قوله : (فتتبعوهم) أي على منوال شرعكم. قوله :

٢٨٧

عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكم (حَكِيمٌ) (٢٦) فيما دبره لكم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) كرره ليبني عليه (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) اليهود والنصارى أو المجوس أو الزناة (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٢٧) تعدلوا عن الحق بارتكاب ما حرم عليكم فتكونوا مثلهم (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) يسهل عليكم الشرع (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨) لا يصبر عن النساء والشهوات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بالحرام في الشرع كالربا والغصب (إِلَّا) لكن (أَنْ تَكُونَ) تقع (تِجارَةً) وفي قراءة بالنصب أي تكون الأموال أموال تجارة صادرة (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وطيب نفس فلكم أن تأكلوها (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها أيا كان في الدنيا أو الآخرة بقرينة (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩) في

____________________________________

(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يقبل توبتكم إذا تبتم. قوله : (عن معصيته) أي اللغوية ، وإلا فقبل التشريع لم تكن معصية.

قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يحب ذلك ويرضاه ، وليست الإرادة على حقيقتها ، لأنه يقتضي أن إرادة الله متعلقة بتوبة كل ، مع أنه ليس كذلك ، فالمعنى الله يحب توبة العبد فيتوب عليه ، ومن هنا قيل إن قبول التوبة قطعي. قوله : (أو المجوس) أي فكانوا يجوزون نكاح الأخوات من الأب وبنت الأخ ، فلما حرمهن الله صاروا يقولون للمؤمنين إنكم تحلون نكاح بنت العمة وبنت الخالة ، فلا فرق بينهما وبين بنت الأخ والأخت. قوله : (فتكونوا مثلهم) أي لأن المصيبة إذا عمت هانت. قوله : (يسهل عليكم أحكام الشرع) أي فلم يجعلها ثقيلة عسرة كما كان في الأمم السابقة ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، وقال تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ) هذا كالتعليل لقوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ). قوله : (لا يصبر عن النساء) أي لما في الحديث «لا خير في النساء ولا صبر عنهن ، يغلبن كريما ويغلبن لئيما ، فأحب أن أكون كريما مغلوبا ، ولا أحب أن أكون لئيما غالبا». وقوله : (أو الشهوات) أي مطلقا ومن جملتها النساء ، وفي الحديث : «إن لنفسك عليك حقا». قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، لما بين النهي عن بعض الفروج وإباحة بعضها ، شرع بين النهي عن بعض الأموال والأنفس. قوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) أي بإنفاقها في المعاصي ، والمراد بالأكل مطلق الأخذ ، وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المقصود من الأموال. قوله : (كالربا والغصب) أي والسرقة والرشوة وغير ذلك من المحرمات. قوله : (إِلَّا) (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله : (وفي قراءة بالنصب) أي على أن تكون ناقصة وتجارة خبرها واسمها محذوف ، وأما على الرفع فتكون تامة ، والقراءتان سبعيتان.

قوله : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي وأما إذا لم تكن عن تراض ، بل كانت غصبا أو غشا أو خديعة ، فليست حلالا ، ويشترط أن تكون على الوجه المرضي في الشرع ، وخص التجارة بالذكر ، لأن غالب التصرف في الأموال بها لذوي المروءات. قوله : (أيا كان في الدنيا الخ) أي بأن يزني وهو محصن ، فيترتب عليه الرجم ، أو يقتل أحدا فيقتل ، أو يقتل نفسه غما وأسفا ، لما روي عن أبي هريرة قال : قال

٢٨٨

منعه لكم من ذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي ما نهى عنه (عُدْواناً) تجاوزا للحلال حال (وَظُلْماً) تأكيد (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) ندخله (ناراً) يحترق فيها (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) هينا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وهي ما ورد عليها وعيد كالقتل والزنا والسرقة وعن ابن عباس هي إلى السبعمائة أقرب (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الصغائر بالطاعات (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) بضم الميم وفتحها أي إدخالا أو موضعا (كَرِيماً) (٣١) هو الجنة (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ثواب

____________________________________

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بحديدة فهو يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا». قوله : (أي ما نهى عنه) أي وهو قتل النفس أو أكل الأموال بالباطل. قوله : (تأكيد) أي لأن الظلم والعدوان بمعنى واحد ، وهو تجاوز الحد.

قوله : (وَكانَ ذلِكَ) أي الإصلاء المذكور. قوله : (وهي ما ورد عليها وعيد) أي واحد ، ولا تحد بالعد. قوله : (أقرب) أي منها للسبعين التي قيل بها. قوله : (بالطاعات) أي يفعلها زيادة على الاجتناب كذا قيل ، وقيل لا يشترط ذلك ، بل تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فقط ، فإن اجتناب الكبائر من أعظم الطاعات ، وهو المعتد. قوله : (بضم الميم) أي فيكون مصدرا على صورة المفعول ، لأن مصدر الرباعي يأتي على صورة اسم المفعول ومفعوله محذوف ، أي ندخلكم الجنة إدخالا ، وقوله : (وفتحها) أي فيكون اسم مكان ، فقوله : (أي إدخالا أو موضعا) لف ونشر مرتب ، ويحتمل أن كلا لكل لكن الأول أقرب ، وهما سبعيتان إلا في الإسراء فبالضم لا غير. قوله : (هو الجنة) هذا يناسب كونه اسم مكان ، وأما على كونه مصدرا ، فالمراد أن قرار الإدخال الكريم الجنة ، ومعنى كونه كريما أنه لا نكد فيه ولا تعب ، بل فيه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) سيأتي في المفسر سبب نزولها ، وهو تمني أم سلمة كونها من الرجال ، وذلك لأن الله فضل الرجال على الناس بأمور منها : الجهاد والجمعة والزيادة في الميراث وغير ذلك ، والتمني هو التعلق بحصول أمر في المستقبل ، عكس التلهف لأنه التعلّق بحصول أمر في الماضي ، فإن تعلق بانتقال ما لغيره له أو لغيره مع زواله عنه ، فهو حسد مذموم ، وهو معنى قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وفي ذلك قال ابن حنبل :

ألا قل لمن بات لي حاسدا

أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في فعله

كأنّك لم ترض لي ما وهب

فكان جزاؤك أن خصّني

وسدّ عليك طريق الطّلب

وإن تعلق بمثل ما لغيره مع بقاء نعمته ، فإن كان تقوى أو صلاحا وإنفاق مال في الخير فهو مندوب ، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسّلام «لا حد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس» وأما إن كان تمنى المال لمجرد الغنى فهو جائز.

٢٨٩

(مِمَّا اكْتَسَبُوا) بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن نزلت لما قالت أم سلمة ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال (وَسْئَلُوا) بهمزة ودونها (اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ما احتجتم إليه يعطكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢) ومنه محل الفضل وسؤالكم (وَلِكُلٍ) من الرجال والنساء (جَعَلْنا مَوالِيَ) عصبة يعطون (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) لهم من المال (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) بألف ودونها (أَيْمانُكُمْ) جمع يمين بمعنى القسم أو اليد أي الخلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث (فَآتُوهُمْ) الآن (نَصِيبَهُمْ) حظوظهم من الميراث وهو السدس (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣) مطلعا ومنه حالكم وهذا منسوخ بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض (الرِّجالُ

____________________________________

قوله : (وغيره) أي من أنواع البر ، كالصلاة والصوم وغيرهما. قوله : (من طاعة أزواجهن) أي لما في الحديث : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». وفي الحديث : «إذا بات الرجل غضبانا على زوجته باتت الملائكة تلعنها إلى الصباح». قوله : (أم سلمة) أي وهي زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ترتب على تمنيها نزول تلك الآية ، ونزول قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) إلى قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). قوله : (ليتنا كنّا رجالا) أي ينتقل لنا وصفهم ، ولا خصوصية لأم سلمة بهذا التمني ، فقد تمنى مثلها جماعة من النسوة ، وقيل سبب نزولها تمني الرجال أن الله كما فضلهم على النساء في الدنيا ، يفضلهم عليهن في الآخرة. قوله : (بهمزة ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. والحاصل أن هذه المادة إن وردت في القرآن بواو وفاء لغير غائب ففيها القراءتان نحو : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) وإن وردت بغيرهما فالقراءة بدون الهمزة لا غير ، نحو : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، وإن وردت لغائب مع الواو أو الفاء نحو : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) ، فالقراءة بالهمزة لا غير.

قوله : (وَلِكُلٍ) أي لكل من مات من الرجال أو النساء موالي ، أي ورثة يرثونهم ، وقوله : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي من المال الذي تركه الوالدان والأقربون إن ماتوا ، وهذا حل المفسر ، وقال غيره إن قوله : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) بيان للموالي فيكونون وارثين لا موروثين ، وكل صحيح ، والأقرب الأول وعليه ابن عباس ، والقصد بذلك نسخ ما كانت عليه الجاهلية من توريث الخلفاء ، فكان الواحد منهم يأخذ بيمين صاحبه ويقول له دمي دمك وهدمي هدمك ، أعقل عنك وتعقل عني ، وأرثك وترثني ، وقد كان في صدر الإسلام لكل واحد من صاحبه السدس ، ثم نسخ بهذه الآية ، أو بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) كما يأتي ، وقوله : دمي دمك أي أنت ولي دمي وأنا ولي دمك ، وقوله : هدمي هدمك بفتح الهاء وسكون الدال أي إذا وقع بيننا قتل كان المقتول منا هدرا ، وقوله أعقل عنك وتعقل عني ، أي إذا ألزمتك دية شاركتك فيها وأنت كذلك.

قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) مبتدأ خبره قوله : (فَآتُوهُمْ) وقد فرضه المفسر في تحالف الجاهلية ، وبعضهم فرضه في مؤاخاة النبي بين المهاجرين والأنصار ، وكل صحيح ، وعلى كل فالميراث لهم منسوخ. قوله : (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. وروي عن حمزة التشديد مع حذف الألف. قوله : (فَآتُوهُمْ) (الآن) أي في صدر الإسلام ، وقد علمت أن المفسر فرضه في تحالف الجاهلية ، ويجوز فرضه في محالفة المهاجرين مع الأنصار. قوله : (وهذا منسوخ) أي قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية.

٢٩٠

قَوَّامُونَ) مسلطون (عَلَى النِّساءِ) يؤدبونهن ويأخذون على أيديهن (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك (وَبِما أَنْفَقُوا) عليهن (مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ) منهن (قانِتاتٌ) مطيعات لأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي لفروجهن وغيرها في غيبة أزواجهن (بِما حَفِظَ) بهن (اللهُ) حيث أوصى عليهن الأزواج (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) عصيانهن لكم بأن ظهرت أماراته (فَعِظُوهُنَ) فخوفوهن الله (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز (وَاضْرِبُوهُنَ) ضربا غير مبرح إن لم

____________________________________

قوله : (بقوله وأولوا الأرحام) وقيل منسوخ بالآية قبلها ، والواقع أن كلا ناسخ لها.

قوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ) سبب نزولها أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار ، نشزت زوجته واسمها حبيبة بنت زيد فلطمها ، فانطلق بها أبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له قد لطم كريمتي ، فقال النبي لتقتص من زوجها ، فذهبت مع أبيها ، فقال له عليه الصلاة والسّلام : ارجعوا إن جبريل أتاني وقرأ الآية ، ثم قال أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، وما أراده الله خير. وهذا كلام مستأنف قصد به بيان تفضيل الرجال على النساء ، وأفاد أن التفضيل لحكمتين : الأولى وهبية ، والثانية كسبية ، واعلم أن بعض الرجال أفضل من جنس النساء ، فلا ينافي أن بعض أفراد النساء أفضل من بعض أفراد الرجال ، كمريم بنت عمران ، وفاطمة الزهراء ، وخديجة ، وعائشة. قوله : (مسلطون) أي قيام سلطنة ، كقيام الولاة على الرعايا فالمرأة رعية زوجها ، وفي الحديث : «كل راع مسؤول عن رعيته». قوله : (ويأخذون على أيديهن) أي يمنعونهن من كل مكروه كالخروج من المنزل.

قوله : (بِما فَضَّلَ) الباء سببية وما مصدرية ، أي بتفضيل الله ، والبعض الأول الرجال ، والثاني النساء ، وأبهم البعض إشارة إلى أن التفضيل بالجملة لا بالتفصيل. قوله : (بالعلم الخ) أشار المفسر لبعض الأمور التي فضلت الرجال بها على النساء ، ومنها زيادة العقل والدين ، والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات ، وكون الأنبياء والسلاطين من الرجال ، ومنها كون الرجل يتزوج بأربع في الدنيا ، وبأكثر في الجنة ، دون المرأة ، وكون الطلاق والرجعة بيد الرجل.

قوله : (وَبِما أَنْفَقُوا) يقال فيه ما قيل في قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ) أي وبإنفاقهم ، ومن جملة الإنفاق دفع المهر. قوله : (مطيعات لأزواجهن) أي في غير معصية الله. قوله : (في غيبة أزواجهن) أي عنهم. قوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) أشار المفسر إلى أن ما اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف قدره بقوله هن ، والباء سببية أي بسبب الذي ، أو شيء حفظهن الله به ، ولفظ الجلالة فاعل حفظ ، والمعنى أن الله كما أوصى الأزواج بحفظ النساء ، كذلك لا تسمى النساء صالحات إلا إذا حفظهن الأزواج ، لأنه كما يدين الفتى يدان ، ويحتمل أن ما مصدرية ، والمعنى بحفظ الله ، أي توفيق الله لهن. قوله : (عصيانهن لكم) أي فيما تأمرونهن به. قوله : (بأن ظهرت أماراته) أي النشوز بأن ظننتم ذلك.

قوله : (فَعِظُوهُنَ) أي بنحو : اتقي الله واحذري عقابه ، فإن الرجل له حق على المرأة ، وهذا الترتيب واجب ، وأخذ وجوبه من السنة. قوله : (غير مبرح) أي وهو الذي لا يكسر عظما ، ولا يشين جارحة ، واعلم أن الهجر والضرب لا يسوغ فعلهما إلا إذا تحقق النشوز ، ويزاد في الضرب ظن الإفادة ،

٢٩١

يرجعن بالهجران (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) فيما يراد منهن (فَلا تَبْغُوا) تطلبوا (عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) طريقا إلى ضربهن ظلما (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤) فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن (وَإِنْ خِفْتُمْ) علمتم (شِقاقَ) خلاف (بَيْنِهِما) بين الزوجين والإضافة للاتساع أي شقاقا بينهما (فَابْعَثُوا) اليهما برضاهما (حَكَماً) رجلا عدلا (مِنْ أَهْلِهِ) أقاربه (وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه وتوكل هي حكمها في الاختلاع فيجتهدان ويأمران الظالم بالرجوع أو يفرقان إن رأياه قال تعالى (إِنْ يُرِيدا) أي الحكمان (إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) بين الزوجين أي يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بكل شيء (خَبِيراً) (٣٥) بالبواطن كالظواهر (وَاعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ) أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ

____________________________________

وأما الوعظ فلا يشترط فيه تحقق النشوز ، ولا ظن الإفادة. قوله : (طريقا إلى ضربهن ظلما) أي كأن توبخوهن على ما كان منهن ، فيلجأ الأمر إلى الخصام والضرب ، فإن عدن للنشوز رجع الترتيب الأول ، ولا يضربن من أول وهلة. قوله : (فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتوهن) أي فالمطلوب أن تستوصوا بهن خيرا ، لما في الحديث : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا».

قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) الخطاب لولاة الأمور أو لأشراف البلدة التي هما بها. قوله : (والإضافة للإتّساع) أي والأصل شقاقا بينهما ، فأضيف المصدر إلى ظرفه مثل مكر الليل. قوله : (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أي إن وجد كل من الأهلين معا ، فإن لم يوجدا ، أو وجد أحدهما دون الآخر ، اختار ولي الأمر رجلين ، وبعثهما واحدا عنها وواحدا عنه ، واعلم أن كون الحكمين من الأهلين عند وجودهما ، مندوب عند الشافعي ، واجب عند مالك. قوله : (إن رأياه) أي صوابا ومصلحة. قوله : (أي الحكمان) ويحتمل أن يعود الضمير على الزوجين ، والمعنى أن يرد الزوجان إصلاحا معاشرة بالمعروف وترك ما يسيء تحصل الموافقة بينهما ، وقوله : (بين الزوجين) ويحتمل أن يعود على الحكمين ، والمعنى لا يحصل اختلاف بين الحكمين ، بل تحصل الموافقة بينهما ، فيحكمان بما أنزل الله ، فتحصل أن الضميرين يصح عودهما معا على الزوجين أو الحكمين ، أو الأول للزوجين ، والثاني للحكمين وبالعكس ، وقوله : (إِصْلاحاً) أي مصلحة ، وإليه يشير قول المفسر بعد ذلك من إصلاح أو فراق.

قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ) الخطاب للمكلفين ، لأن العبادة تتوقف على معرفة المعبود والنية ، ولكن المراد ما يشمل القربة التي هي ما تتوقف على معرفة المتقرب إليه ، والطاعة التي لا تتوقف على شيء. قوله : (وحدوه) حيث فسر العبادة بالتوحيد ، كان قوله بعد ذلك : (وَلا تُشْرِكُوا) تأكيدا ، ولكن الأولى التعميم كما قدمناه ، فيكون قوله : (وَلا تُشْرِكُوا) تأسيسا ، وهذا نظير قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

قوله : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) يحتمل أن شيئا مفعول به ، والمعنى لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما أو غيره ، ويحتمل أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف ، والمعنى إشراكا شيئا جليا أو خفيا كالرياء والسمعة. قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ) قرن بر الوالدين بعبادة الله ، إشارة لتأكد حقهما وتخويفا من عقوقهما ،

٢٩٢

إِحْساناً) برا ولين جانب (وَبِذِي الْقُرْبى) القرابة (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) القريب منك في الجوار أو النسب (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد عنك في الجوار أو النسب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الرفيق في سفر أو صناعة وقيل الزوجة (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من الأرقاء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) متكبرا (فَخُوراً) (٣٦) على الناس بما أوتي (الَّذِينَ) مبتدأ (يَبْخَلُونَ) بما يجب عليهم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) به (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من العلم والمال وهم اليهود وخبر المبتدأ لهم وعيد شديد (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) بذلك وبغيره (عَذاباً مُهِيناً) (٣٧) ذا إهانة (وَالَّذِينَ) عطف على الذين قبله (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) مرائين لهم (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) كالمنافقين وأهل مكة (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ

____________________________________

وقدر المفسر أحسنوا إشارة إلى أن (إِحْساناً) مفعول مطلق لفعل محذوف ، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلق بأحسنوا المقدر ، وإليه يشير المفسر ، ويحتمل أنه متعلق بإحسانا ؛ ولا يقال إن المصدر لا يعمل في متقدم ، لأنه يقال محله في غير الجار والمجرور والظرف. قوله : (برا ولين جانب) أي بأن يعظمهما ويخدمهما ويفعل معهما أنواع البر ، وقد بين أنواعه في قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) الآية ، وإنما خص حالة الكبر لأن عندها يثقلان ، وإنما تكررت الآيات المتعلقة بالوصية على الوالدين دون العكس ، لأن الله جعل الرأفة القائمة بقلوب الوالدين على الأولاد ، مغنية عن التكليف بالقيام بحقوق الأولاد بخلاف الأولاد ، فلذا شدد على الأولاد دون الوالدين.

قوله : (وَبِذِي الْقُرْبى) كرر الباء إشارة إلى تأكيد حق القرابة لما في الحديث : «الرحم معلقة بالعرش تقول يا رب من وصلني فأوصله ومن قطعني فاقطعه». قوله : (وَالْيَتامى) جمع يتيم وهو من مات أبوه ، ويستمر يتمه إلى البلوغ ، فإذا بلغ زال يتمه. قوله : (وَالْمَساكِينِ) جمع مسكين وهو من التصقت يده بالتراب ، والمراد ما يشمل الفقير. قوله : (أو النسب) أو مانعة خلو تجوز الجمع ، لما في الحديث : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب». قوله : (الرفيق في سفر) ومثله الملاصق لك في نحو درس علم أو صلاة. قوله : (المنقطع في سفر) المناسب تفسيره بالغريب كان منقطعا أو لا. قوله : (من الأرقاء) لا مفهوم له بل مثله الدواب المملوكة ، إنما خص الأرقاء لقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) فالإحسان إليهم متأكد لقوله في الحديث : «إن الله ملككم إياهم ولو شاء ملكهم إياكم». قوله : (إِنَّ اللهَ) علة لمحذوف تقديره أمركم الله بذلك فلا تفخروا إن الله الخ. قوله : (متكبرا) أي معجبا بنفسه مستحقرا لغيره. قوله : (بما أوتي) أي من النعم. قوله : (بما يجب عليهم) أي من الزكاة وغيرها. قوله : (بِالْبُخْلِ) (به) أي بما يجب. قوله : (من العلم) أي كصفاة النبي الموجودة في التوراة والإنجيل.

قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) علة لخبر المبتدأ المحذوف. قوله : (مرائين لهم) أشار به إلى أن رئاء

٢٩٣

لَهُ قَرِيناً) صاحبا يعمل بأمره كهؤلاء (فَساءَ) بئس (قَرِيناً) (٣٨) هو (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) أي ضرر عليهم في ذلك والاستفهام للإنكار ولو مصدرية أي لا ضرر فيه وإنما الضرر فيما هم عليه (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩) فيجازيهم بما عملوا (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) أحدا (مِثْقالَ) وزن (ذَرَّةٍ) أصغر نملة بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته (وَإِنْ تَكُ) الذرة (حَسَنَةً) من مؤمن وفي قراءة بالرفع فكان تامة (يُضاعِفْها) من عشر إلى أكثر من سبعمائة وفي قراءة يضعفها بالتشديد (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) أي من عنده مع المضاعفة (أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) لا يقدره أحد (فَكَيْفَ) حال الكفار (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يشهد عليها بعملها وهو نبيها (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١) (يَوْمَئِذٍ) يوم المجيء

____________________________________

حال من الواو في ينفقون. قوله : (كهؤلاء) أي الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ، ومن ينفق ماله مرائيا ، ومن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. قوله : (فَساءَ قَرِيناً) ساء بمعنى بئس تساق للذم فهي نظيرتها في المعنى والعمل ، وقرينا تمييز ، والأصل فساء القرين قرينهم ، وقدر المخصوص بالذم بقوله : (هو) واعلم أن كل إنسان له قرين من الشياطين يوسوس له في الدنيا ويكون معه في النار في سلسلة ، واختلف فقيل الذم في الدنيا على مطاوعته فيما يأمره به ، وقيل في الآخرة على مقارنته له في السلسلة في النار. قوله : (أي أي ضرر) أشار بذلك إلى أن ماذا استفهام وهو للإنكار والتوبيخ. قوله : (ولو مصدرية) أي والكلام على تقدير في ، وإليه يشير المفسر بقوله أي لا ضرر عليهم فيه ، فالتقدير وماذا عليهم في إيمانهم.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المقصود من ذلك إظهار العدل في المجازاة على السيئات وكمال الفضل في المجازاة على الحسنات. قوله : (أصغر نملة) وقيل هو الهباء الذي يكون في الشمس ، فقوله : (من مؤمن) أي لا من كافر ، بل تكون هباء منثورا. قوله : (وفي قراءة بالرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (يُضاعِفْها) أي يضاعف ثوابها. قوله : (لا يقدره) أي لا يحصره ولا يعده ، بل من محض فضله وكرمه.

قوله : (فَكَيْفَ) خبر لمبتدأ محذوف ، قدره المفسر بقوله : (حال الكفار) وهو استفهام تعجبي استعظامي ، أي تعجب من حالهم ، فإنه بلغ الغاية في الفظاعة والشناعة ، لعظيم ما رأوه من الأهوال العظيمة. قوله : (إذا جئنا) ظرف متعلق بالمبتدأ المحذوف. قوله : (عَلى هؤُلاءِ) أي أمم الأنبياء الكفار حين ينكرون تبليغ أنبيائهم لهم الرسالة. وحاصل ذلك ، أنه بعد انفضاض الموقف تحضر الأنبياء مع أممهم ، فيقول الله للأمم : ألم تبلغكم الرسل الشرائع ، فيقولون : يا ربنا ما بلغونا ، فيسأل الله الرسل : ألم تبلغوهم ما أرسلتكم به؟ فيقولون : بلى ، فيقول الله للرسل : هل لكم شهود؟ فيقولون : محمد وأمته ، فيؤتى بهم فيشهدون على الأمم بالتكذيب وللأنبياء بالبراءة ، ثم بعد ذلك إن وقع منهم إنكار تنطق عليهم ألسنتهم ، بل وجميع أعضائهم والأزمنة والأمكنة بتكذيبهم ، وهذا الاحتمال هو الأظهر ، ويحتمل أن اسم الإشارة عائد على المشركين مطلقا من أول الزمان إلى آخره ، أو عائد على الكفار والمنافقين من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٩٤

(يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ) أي أن (تُسَوَّى) بالبناء للمفعول وللفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل ومع إدغامها في السين أي تتسوى (بِهِمُ الْأَرْضُ) بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم هوله كما في آية أخرى (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢) عما عملوه وفي وقت آخر يكتمونه ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) أي لا تصلوا (وَأَنْتُمْ سُكارى) من الشراب لأن سبب نزولها صلاة جماعة في حال السكر (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) بأن تصحوا (وَلا جُنُباً) بإيلاج أو إنزال ونصبه على الحال وهو يطلق على المفرد وغيره (إِلَّا عابِرِي) مجتازي (سَبِيلٍ) طريق أي مسافرين (حَتَّى تَغْتَسِلُوا)

____________________________________

وإنما رجع للنبي وأمته على الاحتمال الأول ، وإن كانت الدعوى من معصوم ، تبكيتا لكفار الأمم السابقة ، وإظهارا لشرف هذه الأمة وعظم قدرها. قوله : (يوم المجيء) أشار بذلك إلى أن التنوين في يومئذ عوض عن جملة جئنا من كل أمة إلى آخرها.

قوله : (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يتمنى الكفار مطلقا. قوله : (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) أي رسول كل أمة فأل فيه للجنس. قوله : (أي أن) أشار بذلك إلى أن (لَوْ) مصدرية. قوله : (بالبناء للمفعول) أي مع تخفيف السين ، وقوله : (للفاعل الخ) هذه قراءة ثانية ، وقوله : (ومع إدغامها) قراءة ثالثة. فالحاصل أن القراءات ثلاث : البناء للمفعول مع تخفيف السين ، والبناء للفاعل مع التخفيف بحذف إحدى التاءين ، والتشديد بقلب التاء سينا وإدغامها في السين. قوله : (بأن يكون ترابا مثلها) أو بأن تنشق الأرض وتبتلعها أو يدفنون فيها ، والأقرب ما ذكره المفسر ، لأن خير ما فسرته بالوارد.

قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ) معطوف على (يَوَدُّ) فأخبر عنهم بأنهم يوم القيامة يقع منهم شيئان : تمني أن الأرض تستوي بهم ، وعدم كتمانهم عن الله حديثا. قوله : (وفي وقت آخر الخ) جواب عن سؤال ، وهو أن هذه الآية أفادت عدم الكتمان ، وآية الأنعام أفادت إثباته. وحاصل الجواب أن الكتمان يقع منهم ابتداء وعدمه انتهاء.

قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) إنما نهى عن القربان للمبالغة في النهي ، وقوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) إن قلت : إن السكران لا عقل عنده فكيف ينهى؟ أجيب : بأن المراد لا تسكروا في أوقات الصلوات. قوله : (لأن سبب نزولها) اختصر المفسر السبب. وحاصله أنه روي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال : صنع لنا ابن عوف طعاما فدعانا ، فأكلنا وأسقانا خمرا قبل أن تحرم الخمر ، فأخذت منا ، وحضرت الصلاة ، أي صلاة المغرب ، فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت الآية ، فحرمت في أوقات الصلاة حتى نزلت آية المائدة فحرمت مطلقا.

قوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) حتى جاره بمعنى إلى ، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة ، وما يجوز فيها أن تكون بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على كل محذوف أو مصدرية ولا حذف. قوله : (ونصبه على الحال) أي فهو معطوف على قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى). قوله : (وهو يطلق) أي لفظ جنب. قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) الأحسن أن إلا بمعنى غير صفة لجنبا ، ومفهومه أن الجنب المسافر يكفيه التيمم

٢٩٥

فلكم أن تصلوا واستثناء المسافر لأن له حكما آخر سيأتي وقيل المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة أي المساجد إلا عبورها من غير مكث (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا يضره الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان المعد لقضاء الحاجة أي أحدث (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وفي قراءة بلا ألف وكلاهما بمعنى اللمس وهو الجس باليد قاله ابن عمر وعليه الشافعي وألحق به الجس بباقي البشرة وعن ابن عباس هو الجماع (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش وهو راجع إلى ما عدا المرضى (فَتَيَمَّمُوا) اقصدوا بعد دخول الوقت (صَعِيداً طَيِّباً) ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) مع المرفقين منه ومسح يتعدى بنفسه وبالحرف (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) حظا (مِنَ الْكِتابِ) وهم اليهود (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) بالهدى (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٤٤) تخطئوا طريق الحق لتكونوا مثلهم (وَاللهُ

____________________________________

وهو كذلك. قوله : (سيأتي) أي في قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) الخ. قوله : (وقيل المراد النهي الخ) هذا تفسير آخر للآية ، وبه أخذ الإمام الشافعي ، وقال مالك بحرمة مرور الجنب في المسجد إذا كان غير مضطر. قوله : (يضره الماء) أي فيتيمم ويصلي ، ولا إعادة عليه عند مالك وأبي حنيفة ، وقال الشافعي بالإعادة. قوله : (أي مسافرين) أي ولو كان غير قصر. قوله : (أو محدثون) أي بالريح مثلا. قوله : (وهو المكان المعد لقضاء الحاجة) أي في الأصل ، ثم أطلق على نفس الحاجة من إطلاق المحل ، وإرادة الحال يدل عليه. قوله : (أي أحدث). قوله : (وهو الجس باليد) أي ولو كان من غير قصد أو وجدان لغير محرم وعليه الشافعي ، وقال مالك يقيد بالقصد أو الوجدان ، وأخذ أبو حنيفة بكلام ابن عباس ، فالجس باليد عنده لا يوجب الوضوء مطلقا. قوله : (وهو راجع إلى ما عدا المرضى) أي وأما المرضى فيتيممون مع وجوده ، لأنهم لا يقدرون على استعماله ، أو يراد بعدم الوجود حقيقة أو حكما فيشمل المرضى ، لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا. قوله : (بعد دخول الوقت) إنما قيد بذلك لأن التيمم لا يصح قبله. قوله : (ترابا طاهرا) هكذا فسر به الشافعي ، وقال مالك الصعيد هو ما صعد على وجه الأرض من أجزائها ، ولم يحرق بالنار ، ولم يكن من الجواهر النفسية كالتراب أو الرمل أو الحجارة أو غير ذلك. قوله : (مع المرفقين) أي فمسحهما واجب وبه أخذ الشافعي ، وقال مالك إن التكميل للمرفقين سنة ، وإنما الفرض عنده مس اليدين للكوعين كما هو ظاهر الآية. قوله : (منه) قدره لبيان الممسوح به ، كما صرح به في آية المائدة. قوله : (ومسح يتعدى بنفسه) أي فعليه تكون الباء زائدة ، وقوله : (وبالحرف) أي وعليه تكون الباء للتعدية ، لأن سيبويه حكى : مسحت رأسه وبرأسه.

قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) تعليل للترخيص المستفاد مما قبله. قوله : (أَلَمْ تَرَ) كلام مستأنف سيق لتعجب النبي والمؤمنين من سوء حالهم. قوله : (إِلَى الَّذِينَ) أبهمهم لفظاعة حالهم وشناعته. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة. قوله : (وهم اليهود) أي بعض علمائهم. قوله : (بالهدى) قدره إشارة إلى أن المقابل محذوف. والمعنى أنهم يأخذون الضلالة بدل الهدى ، والمراد بالضلالة الكفر وتكذيب سيدنا محمد ، والمراد بالهدى الإيمان وتصديقه.

٢٩٦

أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) منكم فيخبركم بهم لتجتنبوهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) حافظا لكم منهم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥) مانعا لكم من كيدهم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قوم (يُحَرِّفُونَ) يغيرون (الْكَلِمَ) الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَنْ مَواضِعِهِ) التي وضع عليها (وَيَقُولُونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمرهم بشيء (سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت (وَ) يقولون له (راعِنا) وقد نهى عن خطابه بها وهي كلمة سب بلغتهم (لَيًّا) تحريفا (بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً) قدحا

____________________________________

قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) هذا ترق في التعجيب. والمعنى أنهم اختاروا الضلالة لأنفسهم ، ومع ذلك يحبونها لغيرهم ، قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود ، كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي رهطة يثبطانهم عن الإسلام ، وعنه أيضا أنه نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم ، كانا إذا تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لويا لسانهما وعاباه. قوله : (لتجتنبوهم) أي لتتحرزوا منهم. قوله : (وَكَفى بِاللهِ) الباء حرف جر زائد ، ولفظ الجلالة فاعل كفى. قوله : (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) تأكيدا لما قبله وهو معنى قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) خبر مقدم لمبتدأ محذوف ، قدره المفسر بقوله قوم ، وقوله : (يُحَرِّفُونَ) نعت لذلك المحذوف ، وحذف المنعوت كثير إن تقدمه من التبعيضية على حد : منا ظعن ومنا أقام ، أي فريق ظعن ، وفريق أقام ، وهذا الكلام تفصيل لبعض قبائحهم. قوله : (الْكَلِمَ) أي الكلام. قوله : (من نعت محمد) أي من كونه أبيض مشربا بحمرة ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير مثلا ، فقد حرفوه وقالوا أسود اللون ، طويل جدا ، حرصا على الرياسة ، وعلى ما يأخذونه من سفلتهم ، ومن جملة ما غيروه آية الرجم بالجلد. ومن ذلك أنه في كتبهم من خالف محمدا خلد في النار ، فغيروه وقالوا لن تمسنا النار إلا أربعين يوما ، مدة عبادة العجل.

قوله : (وَعَصَيْنا) (أمرك) هذا بحسب باطنهم ، وأما بحسب ظاهرهم فمعناه عصينا قول غيرك ، وكذا قوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي اسمع الخير منا غير سامع ما يؤذيك ، وكذا قوله : (وَراعِنا) أي اشملنا بنظرك ، فهذا من الكلام الموجه الذي يحتمل معنيين مختلفين في المدح والذم. قوله : (أي لا سمعت) يحتمل أن المعنى لا سمعت خيرا ولا سمعت شيئا أصلا بأن تبتلى بالصمم أو الموت. قوله : (وقد نهى عن خطابه بها) أي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) قوله : (وهي كلمة سب بلغتهم) يحتمل أنها موضوعة للسب في لغتهم ، ويحتمل أنهم قصدوا بها السب ، وإن كانت تحتمل الدعاء بخير من الرعاية وهي الحفظ وبشر ومعناها الرعونة وهي الطيش في العقل ، كأنهم يقولون اشملنا برعونتك. قوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي صرفا للكلام عن ظاهره ، وأصله لويا ، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، قلبت الواو ياء أدغمت في الياء ، وهو في الأصل فتل الحبل ، فشبه به الكلام الذي قصد منه غير ظاهره وطوي ، ذكر المشبه به وهو الحبل المقتول ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللي ، فإثباته تخييل.

٢٩٧

(فِي الدِّينِ) الإسلام (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) بدل وعصينا (وَاسْمَعْ) فقط (وَانْظُرْنا) انظر إلينا بدل راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما قالوه (وَأَقْوَمَ) أعدل منه (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) من القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) نمحو ما فيها من العين والأنف والحاجب (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فنجعلها كالأقفاء لوحا واحدا (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) نمسخهم قردة (كَما لَعَنَّا) مسخنا (أَصْحابَ السَّبْتِ) منهم (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) قضاؤه (مَفْعُولاً) (٤٧) ولما نزلت أسلم عبد الله بن سلام فقيل كان وعيدا بشرط فلما أسلم بعضهم رفع وقيل يكون طمس ومسخ قبل قيام الساعة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ) أي الإشراك (بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ) سوى (ذلِكَ) من الذنوب (لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له بأن يدخله الجنة بلا عذاب ومن شاء عذبه من المؤمنين بذنوبه ثم يدخله الجنة (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً) ذنبا (عَظِيماً) (٤٨) كبيرا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) وهم

____________________________________

قوله : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) هذا جواب لو ، واسم التفضيل ليس على بابه ، ويحتمل أنه على بابه على حسب ما زعموا من أن حرصهم على الكفر يبقي لهم حظ الرياسة والدنيا التي يأخذونها من عوامهم وهو خير دنيوي. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) صفة الموصوف محذوف ، أي إلا فريا قليلا. قوله : (نمحو) أي نزيل ما فيها. قوله : (فقيل كان وعيدا بشرط) أي لأن رحمة الله تسبق غضبه ، والحاصل أنه اختلف في ذلك الوعيد ، هل كان معلقا ثم ارتفع ، وقيل إنه واقع لكن في آخر الزمان ، وقيل إنه واقع في الآخرة ، فيقومون من قبورهم ممسوخة صورهم ، ولا مانع من إرادتها كلها ، وليس في القرآن وعيد لأمة محمد بتعجيل العقوبة مثل هذا ، لأنهم بالغوا في الكفر وإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (بشرط) أي وهو عدم إيمان أحد منهم ، ويؤيده ما روي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام ، وقد سمع بهذه الآية أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتي أهله وقال يا رسول الله وما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي ، وكذا ما روي أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية على كعب الأحبار ، فقال كعب الأحبار : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها. قوله : (وقيل يكون) أي يحصل ، وقوله : (قبل قيام الساعة) أي زمن عيسى. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أشار له المفسر بقوله : (أي الإشراك) والمعنى أن الله لا يغفر للكافر إشراكا أو غيره ، فالمراد بالشرك الكفر ، لا الشرك الأصغر الذي هو الرياء ، فإنه من جملة الذنوب التي تغفر ، وهذا رد على اليهود ، حيث زعموا أن الشرك لا يضرهم لكون أجدادهم أنبياء ، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه. قوله : (من الذنوب) بيان لما. قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) (المغفرة له) أي إن مات من غير توبة ، وإلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، هذا معنى قول صاحب الجوهرة :

ومن يمت ولم يتب من ذنبه

فأمره مفوّض لربّه

والغالب المغفرة ، لأن فضل الله واسع ، ورحمته تغلب غضبه ، وكل ذلك ما لم يمت هديما أو غريقا أو مقتولا ظلما مثلا ، وإلا فيقوم ما ذكر مقام التوبة. قوله : (أَلَمْ تَرَ) كالدليل لما قبله. قوله : (وهم

٢٩٨

اليهود حيث قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم (بَلِ اللهُ يُزَكِّي) يطهر (مَنْ يَشاءُ) بالإيمان (وَلا يُظْلَمُونَ) ينقصون من أعمالهم (فَتِيلاً) (٤٩) قدر قشرة النواة (انْظُرْ) متعجبا (كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بذلك (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) (٥٠) بينا. ونزل في كعب ابن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر وحرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) صنمان لقريش (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أبي سفيان وأصحابه حين قالوا لهم أنحن أهدى سبيلا

____________________________________

اليهود) وقيل هم والنصارى ، لأن هذه المقالة وقعت منهما ، لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). قوله : (حيث قالوا نحن أبناء الله) أي كالأبناء من حيث إن منزلتنا عنده عظيمة ، وقائل هذه اللفظة كافر ، ولو على سبيل المجاز. قوله : (أي ليس الأمر بتزكيتهم الخ) أي ليس الأمر منوطا ومعتبرا بتزكيتهم أنفسهم ، وهذا تمهيد لقوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ). قوله : (بالإيمان) أي وجميع الأعمال الصالحة ، وإنما اقتصر عليه لأن مدار النجاة عليه. قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ) يحتمل أن الضمير عائد على المؤمنين ، أي فيجازيهم على أعمالهم الصالحة ، ولا ينقص منه شيء ولو كان أقل قليل ، وهذا هو المتبادر من المفسر ، وقيل إنه عائد على الكفار ، أي فيعذبهم بذنوبهم ، ولا ينقصون شيئا من أعمالهم ، ويحتمل العموم وهو الأولى. قوله : (قدر قشرة النواة) هذا سبق قلم ، والمناسب قدر الخيط الذي يكون في بطن النواة ، وأما القطمير فهو قشر النواة ، والنقير النقرة التي تكون في وسطها ، والثفروق هو ما بين النواة والقمع ، وذكر في القرآن الثلاثة الأول ، وعادة العرب تمثل بأحد الأربعة لأقل قليل. قوله : (متعجبا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام تعجبي.

قوله : (وَكَفى بِهِ) أي الافتراق. قوله : (ونزل في كعب بن الأشرف الخ) حاصل ما ذكره الخازن ، أنه بعد وقعة بدر ، ضاق صدر كعب بن الأشرف ، فركب مع سبعين راكبا من اليهود حتى قدموا مكة ، فنزلوا على أبي سفيان وأصحابه ، فأحسنوا مثواهم ، ثم قال لهم أبو سفيان وأصحابه : ما ذا تريدون؟ فقالوا : نريد حرب محمد ونقض عهده ، فقال أبو سفيان وأصحابه : لا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن كان ما تقولون حقا ، فاسجدوا لهذين الصنمين ، ففعلوا ، ثم قال كعب : ليأت منكم ثلاثون رجلا ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب البيت لنجهدن في قتال محمد ، ففعلوا ، ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب ونحن أميون ، فأينا أهدى سبيلا أنحن أم محمد؟ فقال كعب : اعرض علي دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ونطوف به ، ونحن من أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه والحرم وقطع الرحم ، وديننا القديم ، ودين محمد حادث ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد ، فنزلت الآية. قوله : (ونحوه من علماء اليهود) أي وكانوا سبعين راكبا. قوله : (وحرضوا المشركين) أي أبا سفيان وأصحابه. قوله : (بثأرهم) بالهمز وتركه.

قوله : (أَلَمْ تَرَ) أي تعلم وتنظر لفعلهم. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة. قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أي بسجودهم لهما. قوله : (صنمان لقريش) وقيل الجبت اسم لكل صنم يعبد ،

٢٩٩

ونحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني ونفعل أم محمد وقد خالف دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم (هؤُلاءِ) أي أنتم (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١) أقوم طريقا (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ) ه (اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٥٢) مانعا من عذابه (أَمْ) بل أ(لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أي ليس لهم شيء منه ولو كان (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٥٣) أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة لفرط بخلهم (أَمْ) بل أ(يَحْسُدُونَ النَّاسَ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من النبوة وكثرة النساء أي يتمنون زواله عنه ويقولون لو كان نبيا لاشتغل عن النساء (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) جده كموسى وداود وسليمان (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) النبوة (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٥٤) فكان لداود تسع وتسعون امرأة ولسليمان ألف ما بين حرة وسرية (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ) أعرض (عَنْهُ) فلم يؤمن (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥) عذابا لمن لا يؤمن (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) ندخلهم (ناراً) يحترقون فيها (كُلَّما نَضِجَتْ) احترقت (جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بأن تعاد إلى حالها الأول غير محترقة (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليقاسوا شدته (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا يعجزه شيء (حَكِيماً) (٥٦) في خلقه (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

والطاغوت الشيطان التي يلبس الصنم ويكلم الناس ، فلكل صنم شيطان يغر الناس. قوله : (ونفك العاني) أي الأسير. قوله : (نفعل) يحتمل أنه بالفاء والعين ، أي نفعل غير ما ذكر من الأمور الجميلة المستحسنة ، أو بالعين ثم القاف أي نؤدي العقل بمعنى الدية عن حلفائنا. قوله : (أي أنتم) أشار بذلك إلى أنه خطاب لهم ، وإنما المولى حكاه عنهم بالمعنى. قوله : (أي ليس لهم) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (فَإِذاً) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر ، أشار له المفسر بقوله : (ولو كان) وإنما قدر لو دون أن ، لأن الجواب مرفوع لا مجزوم ، وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بالجهل ، وسيأتي ذمهم بالحسد. قوله : (بل) الإضراب انتقالي من صفة لصفة أخرى أقبح منها. قوله : (أي النبي) أي فهو من باب تسمية الخاص باسم العام ، إشارة إلى أنه جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين ، قال الشاعر :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

قوله : (جده) بيان لإبراهيم فهو بالجر. قوله : (تسع وتسعون امرأة) أي غير امرأة وزيره ، فقد أخذها بعد موته ، فتكامل له مائة. قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله : (فلم يؤمن) أي ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما. قوله : (بأن تعاد إلى حالها) ورد أنها تعاد في الساعة الواحدة مائة مرة ، بل ورد أنها تعاد في اليوم الواحد سبعين ألف مرة ، وورد أن بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسروع ، وورد أن ضرس الكافر يكون كأحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام. قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ذكر للمقابل وهو راجع لقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) كما أن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) راجع لقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) على عادته سبحانه إذا ذكر الوعيد أعقبه بالوعد.

٣٠٠